وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
الدائمة. وَرَيْحانٌ ورزق طيب. وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ذات تنعم.
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ يا صاحب اليمين. مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي من إخوانك يسلمون عليك.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 92 الى 94]
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ يعني أصحاب الشمال، وإنما وصفهم بأفعالهم زجراً عنها وإشعاراً بما أوجب لهم ما أوعدهم به.
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ وذلك ما يجد في القبر من سموم النار ودخانها.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 95 الى 96]
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
إِنَّ هَذَا أي الذي ذكر في السورة أو في شأن الفرق. لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي حق الخبر اليقين.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فنزهه بذكر اسمه تعالى عما لا يليق بعظمه شأنه.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» .(5/184)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
(57) سورة الحديد
مدينة وقيل مكية وآيها تسع وعشرون آية
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ذكر ها هنا وفي «الحشر» و «الصف» بلفظ الماضي، وفي «الجمعة» و «التغابن» بلفظ المضارع إشعاراً بأن من شأن ما أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته، لأنه دلالة جِبِلِّية لا تختلف باختلاف الحالات، ومجيء المصدر مطلقاً في «بني إسرائيل» أبلغ من حيث إنه يشعر بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء وفي كل حال، وإنما عدي باللام وهو متعد بنفسه مثل نصحت له في نصحته إشعاراً بأن إيقاع الفعل لأجل الله وخالصاً لوجهه. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حال يشعر بما هو المبدأ للتسبيح.
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإنه الموجد لهما والمتصرف فيهما. يُحْيِي وَيُمِيتُ استئناف أو خبر لمحذوف أو حال من المجرور في له وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإِحياء والإِماتة وغيرهما. قَدِيرٌ تام القدرة.
[سورة الحديد (57) : الآيات 3 الى 4]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
هُوَ الْأَوَّلُ السابق على سائر الموجودات من حيث إنه موجدها ومحدثها. وَالْآخِرُ الباقي بعد فنائها ولو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها، أو هُوَ الْأَوَّلُ الذي تبتدأ منه الأسباب وتنتهي إليه المسببات، أو الْأَوَّلُ خارجاً والْآخِرُ ذهناً. وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ الظاهر وجوده لكثرة دلائله والباطن حقيقة ذاته فلا تكتنهها العقول، أو الغالب على كل شيء والعالم بباطنه والواو الأولى والأخيرة للجمع بين الوصفين، والمتوسطة للجمع بين المجموعين. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يستوي عنده الظاهر والخفي.
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ كالبذور.
وَما يَخْرُجُ مِنْها كالزروع. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالأمطار. وَما يَعْرُجُ فِيها كالأبخرة. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ لا ينفك علمه وقدرته عنكم بحال. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم عليه، ولعل تقديم الخلق على العلم لأنه دليل عليه.
[سورة الحديد (57) : الآيات 5 الى 6]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)(5/185)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ذكره مع الإِعادة كما ذكره مع كالإبداء لأنه كالمقدمة لهما. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بمكنوناتها.
[سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 8]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف فيها فهي في الحقيقة له لا لكم، أو التي استخلفكم عمن قبلكم في تملكها والتصرف فيها، وفيه حث على الإِنفاق وتهوين له على النفس. فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وعد فيه مبالغات جعل الجملة اسمية وإعادة ذكر الإِيمان والإِنفاق وبناء الحكم على الضمير وتنكير الأجر ووصفه بالكبر.
وَما لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي وما تصنعون غير مؤمنين به كقولك: مالك قائماً. وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ حال من ضمير تؤمنون، والمعنى أي عذر لكم في ترك الإِيمان والرسول يدعوكم إليه بالحجج والآيات. وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان قبل، وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر، والواو للحال من مفعول يَدْعُوكُمْ، وقرأ أبو عمرو على البناء للمفعول ورفع مِيثاقَكُمْ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لموجب ما فإن هذا موجب لا مزيد عليه.
[سورة الحديد (57) : الآيات 9 الى 10]
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ أي الله أو العبد. مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان. وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث نبهكم بالرسول والآيات ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية.
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا وأي شيء لكم في أَلَّا تُنْفِقُوا. فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيما يكون قربة إليه. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال، وإذا كان كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضاً يبقى وهو الثواب كان أولى. لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم من السبق وقوة اليقين، وتحري الحاجات حثاً على تحري الأفضل منها بعد الحث على الإِنفاق، وذكر القتال للاستطراد وقسيم من أنفق محذوف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه، والْفَتْحِ فتح مكة إذ عز الإِسلام به وكثر أهله وقلت الحاجة إلى المقاتلة والإِنفاق. مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ أي من بعد الفتح. وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي وعد الله كلا من المنفقين المثوبة الحسنى وهي الجنة. وقرأ ابن عامر «وكُلٌ» بالرفع على الإِبتداء أي وكل وعده الله ليطابق ما عطف عليه. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بظاهره وباطنه فيجازيكم على حسبه، والآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإنه أول من آمن وأنفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضرباً أشرف به على الهلاك.
[سورة الحديد (57) : الآيات 11 الى 12]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)(5/186)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي من الذي ينفق ماله في سبيله رجاء أن يعوضه، فإنه كمن يقرضه وحسن الإِنفاق بالإِخلاص فيه وتحري أكرم المال وأفضل الجهات له. فَيُضاعِفَهُ لَهُ أي يعطي أجره أضعافاً. وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه ينبغي أن يتوخى وإن لم يضاعف، فكيف وقد يضاعف أضعافاً. وقرأ عاصم فَيُضاعِفَهُ بالنصب على جواب الاستفهام باعتبار المعنى فكأنه قال: أيقرض الله أحد فيضاعفه له. وقرأ ابن كثير «فيضعفه» مرفوعاً وقرأ ابن عامر ويعقوب «فيضعفه» منصوباً.
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ظرف لقوله وَلَهُ أو فَيُضاعِفَهُ أو مقدر باذكر يَسْعى نُورُهُمْ ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة. بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة بُشْراكُمُ أي المبشر به جنات، أو بُشْراكُمُ دخول جنات. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الإِشارة إلى ما تقدم من النور والبشرى بالجنات المخلدة.
[سورة الحديد (57) : آية 13]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بدل من يَوْمَ تَرَى. لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا انتظرونا فإنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، أو انظروا إلينا فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنور بين أيديهم. وقرأ حمزة «أنظرونا» على أن اتئادهم ليلحقوا بهم إمهال لهم. نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نصب منه. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الدنيا. فَالْتَمِسُوا نُوراً بتحصيل المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة، فإنه يتولد منها أو إلى الموقف فإنه من ثمة يقتبس، أو إلى حيث شئتم فاطلبوا نوراً آخر فإنه لا سبيل لكم إلى هذا، وهو تهكم بهم وتخييب من المؤمنين أو الملائكة فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بين المؤمنين والمنافقين. بِسُورٍ بحائط. لَهُ بابٌ يدخل منه المؤمنون. باطِنُهُ باطن السور أو الباب. فِيهِ الرَّحْمَةُ لأنه يلي الجنة. وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ من جهته لأنه يلي النار.
[سورة الحديد (57) : الآيات 14 الى 15]
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يريدون موافقتهم في الظاهر. قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بالنفاق.
وَتَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدوائر. وَارْتَبْتُمْ وشككتم في الدين. وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ كامتداد العمر. حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وهو الموت. وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان أو الدنيا.
فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ فداء وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتاء. وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ظاهراً وباطناً.
مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ هي أولى بكم كقول لبيد:
فَغَدَتْ كِلاَ الفرجَيْنِ تَحْسِبُ أَنَّه ... مَوْلَى المَخَافَةِ خَلْفَهَا وَأمامها
وحقيقته محراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كقولك: هو مئنة الكرم أي مكان قول القائل(5/187)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
إنه لكريم، أو مكانكم عما قريب من الولي وهو القرب، أو ناصركم على طريقة قوله: تحِيَّةُ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ. أو متوليكم يتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النار.
[سورة الحديد (57) : آية 16]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ألم يأت وقته يقال أنى الأمر يأني أنيا وأنا وأناً إذا جاء إناه، وقرئ «ألم يئن» بكسر الهمزة وسكون النون من آن يئين بمعنى أتى و «ألما يأن» .
روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت.
وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ أي القرآن وهو عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر، ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله، وقرأ نافع وحفص ويعقوب نَزَلَ بالتخفيف. وقرئ «أنزل» . وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ عطف على تَخْشَعَ، وقرأ رويس بالتاء والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي فطال عليهم الأجل لطول أعمارهم وآمالهم، أو ما بينهم وبين أنبيائهم فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ. وقرئ «الأمد» وهو الوقت الأطول. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم رافضون لما في كتابهم من فرط القسوة.
[سورة الحديد (57) : الآيات 17 الى 18]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها تمثيل لإِحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بالإِحياء والإموات ترغيباً في الخشوع وزجراً عن القساوة. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ كي تكمل عقولكم.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ إن المتصدقين والمتصدقات، وقد قرئ بهما، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد أي الذين صدقوا الله ورسوله. وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً عطف على معنى الفعل في المحلى باللام لأن معناه: الذين أصدقوا، أو صدقوا وهو على الأول للدلالة على أن المعتبر هو التصدق المقرون بالإِخلاص. يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ معناه والقراءة في يُضاعَفُ كما مر غير أنه لم يجزم لأنه خبر إن وهو مسند إلى لَهُمْ أو إلى ضمير المصدر.
[سورة الحديد (57) : آية 19]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء، أو هم المبالغون في الصدق فإنهم آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله ورسله والقائمون بالشهادة لله ولهم، أو على الأمم يوم القيامة. وقيل وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ مبتدأ وخبر، والمراد به الأنبياء من قوله:
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ أو الذين استشهدوا في سبيل الله. لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ولكنه من غير تضعيف ليحل التفاوت، أو الأجر والنور الموعودان لهم.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص والصحبة تدل على الملازمة عرفا.(5/188)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
[سورة الحديد (57) : آية 20]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ لما ذكر حال الفريقين في الآخرة حقر أمور الدنيا أعني ما لا يتوصل به إلى الفوز الآجل، بأن بين أنها أمور خيالية قليلة النفع سريعة الزوال لأنها لعب يتعب الناس فيه أنفسهم جداً إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة، ولهو يلهون به أنفسهم عما يهمهم وزينة كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة، وتفاخر بالأنساب أو تكاثر بالعدد والعدد، ثم قرر ذلك بقوله: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وهو تمثيل لها في سرعة تقضيها وقلة جدواها بحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب به الحراث، أو الكافرون بالله لأنهم أشداء إعجاباً بزينة الدنيا ولأن المؤمن إذا رأى معجباً انتقل فكره إلى قدرة صانعه فأعجب بها، والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق فيه إعجاباً، ثم هاج أي يبس بعاهة فاصفر ثم صار حطاماً، ثم عظم أمور الآخرة الأبدية بقوله: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ تنفيراً عن الانهماك في الدنيا وحثاً على ما يوجب كرامة العقبى، ثم أكد ذلك بقوله: وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ أي لمن أقبل عليها ولم يطلب إلا الآخرة. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي لمن أقبل عليها ولم يطلب بها الآخرة.
[سورة الحديد (57) : آية 21]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
سابِقُوا سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار. إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ إلى موجباتها. وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي عرضها كعرضهما وإذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول، وقيل المراد به البسطة كقوله: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فيه دليل على أن الجنة مخلوقة وأن الإِيمان وحده كاف في استحقاقها. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ذلك الموعود يتفضل به على مَن يَشَاء مِنْ غير إيجاب. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ منه التفضل بذلك وإن عظم قدره.
[سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 23]
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23)
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ كجدب وعاهة. وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ كمرض وآفة. إِلَّا فِي كِتابٍ إلا مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها نخلقها والضمير لل مُصِيبَةٍ أو الْأَرْضِ أو للأنفس. إِنَّ ذلِكَ أي إثباته في كتاب. عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لاستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة. لِكَيْلا تَأْسَوْا أي أثبت وكتب كي لا تحزنوا عَلى مَا فاتَكُمْ من نعم الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ بما أعطاكم الله منها فإن من علم أن الكل مقدر هان عليه الأمر، وقرأ أبو عمرو بِما آتاكُمْ من الإِتيان ليعادل ما فاتكم، وعلى الأول فيه إشعار بأن فواتها يلحقها إذا خليت وطباعها، وأما حصولها وإبقاؤها فلا بد لهما من سبب يوجدها ويبقيها، والمراد به نفي الآسي المانع عن التسليم لأمر الله والفرح الموجب للبطر والاختيال، ولذلك عقبه بقوله: وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ إذ قل من يثبت نفسه في حالي الضراء والسراء.(5/189)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
[سورة الحديد (57) : آية 24]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بدل من كل مختال فإن المختال بالمال يضن به غالباً أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ لأن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الإِعراض عن شكره ولا ينفعه التقرب إليه بشكر من نعمه، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإِنفاق لمصلحة المنفق وقرأ نافع وابن عامر فإن الله الغني.
[سورة الحديد (57) : الآيات 25 الى 26]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي الملائكة إلى الأنبياء أو الأنبياء إلى الأمم. بِالْبَيِّناتِ بالحجج والمعجزات.
وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ ليبين الحق ويميز صواب العمل. وَالْمِيزانَ لتسوى به الحقوق ويقام به العدل كما قال تعالى: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وإنزاله إنزال أسبابه والأمر باعداده، وقيل أنزل الميزان إلى نوح عليه السلام، ويجوز أن يراد به العدل. لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ لتقام به السياسة وتدفع به الأعداء كما قال:
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ فإن آلات الحروب متخذة منه. وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ إذ ما من صنعة إلا والحديد آلاتها. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ باستعمال الأسلحة في مجاهدة الكفار والعطف على محذوف دل عليه ما قبله فإنه حال يتضمن تعليلاً، أو اللام صلة لمحذوف أي أنزله ليعلم الله. بِالْغَيْبِ حال من المستكن في ينصره. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ، على إهلاك من أراد إهلاكه. عَزِيزٌ لا يفتقر إلى نصرة وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا ثواب الامتثال فيه.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب.
وقيل المراد الكتاب الخط. فَمِنْهُمْ فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم أَرْسَلْنا. مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الطريق المستقيم والعدول عن السنن المقابلة للمبالغة في الذم والدلالة على أن الغلبة للضلال.
[سورة الحديد (57) : آية 27]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى عليه السلام، والضمير لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم، أو من عاصرهما من الرسل لا للذرية، فإن الرسل الملقى بهم من الذرية. وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وقرئ بفتح الهمزة وأمره أهون من أمر البرطيل لأنه أعجمي. وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وقرئ «رآفة» على فعالة. وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، أو رهبانية مبتدعة على أنها من المجعولات وهي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس، منسوبة إلى الرهبان وهو المبالغ في الخوف من رهب كالخشيان من خشي، وقرئت بالضم كأنها منسوبة إلى الرهبان وهو جمع راهب كراكب وركبان. مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ما فرضناها عليهم.
إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ. وقيل متصل فإن مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ بمعنى ما تعبدناهم بها وهو كما ينفي الإِيجاب المقصود منه دفع العقاب ينفي الندب المقصود منه(5/190)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
مجرد حصول مرضاة الله، وهو يخالف قوله ابْتَدَعُوها إلا أن يقال ابْتَدَعُوها ثم ندبوا إليها، أو ابْتَدَعُوها بمعنى استحدثوها وأتوا بها، أولا أنهم اخترعوها من تلقاء أنفسهم. فَما رَعَوْها أي فما رعوها جميعاً. حَقَّ رِعايَتِها بضم التثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة والكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام ونحوها إليها. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أتوا بالإِيمان الصحيح ومن ذلك الإِيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم وحافظوا حقوقها.
مِنْهُمْ من المتسمين باتباعه. أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن حال الاتباع.
[سورة الحديد (57) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالرسل المتقدمة. اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه. وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد عليه الصلاة والسلام. يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ نصيبين. مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن قبله، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق وإن كان منسوخاً ببركة الإِسلام، وقيل الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره.
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يريد المذكور في قوله: يَسْعى نُورُهُمْ أو الهدى الذي يسلك به إلى جناب القدس. وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[سورة الحديد (57) : آية 29]
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أي ليعلموا و «لا» مزيدة ويؤيده أنه قرئ «ليعلم» و «لكي يعلم» و «لأن يعلم» بادغام النون في الياء. أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أن هي المخففة والمعنى: أنه لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضله ولا يتمكنون من نيله لأنهم لم يؤمنوا برسوله وهو مشروط بالإِيمان به، أو لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْء من فضله فضلاً عن أن يتصرفوا في أعظمه وهو النبوة فيخصوها بمن أرادوا ويؤيده قوله: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وقيل «لا» غير مزيدة، والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شىء من فضل الله ولا ينالونه، فيكون وَأَنَّ الْفَضْلَ عطفاً على لِئَلَّا يَعْلَمَ، وقرئ «ليلا يعلم» ووجهه أن الهمزة حذفت وأدغمت النون في اللام ثم أبدلت ياء. وقرئ «ليلا» على أن الأصل في الحروف المفردة الفتح.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله أجمعين» .(5/191)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
(58) سورة المجادلة
مدنية وقيل العشر الأول مكي والباقي مدني، وآيها اثنتان وعشرون آية
[سورة المجادلة (58) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ
روي أن خولة بنت ثعلبة ظاهر عنها زوجها أوس بن الصامت، فاستفتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «حرمت عليه» ، فقالت: ما طلقني فقال: «حرمت عليه» ، فاغتمت لصغر أولادها وشكت إلى الله تعالى فنزلت هذه الآيات الأربع
، وقد تشعر بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أو المجادلة يتوقع أن الله يسمع مجادلتها وشكواها ويفرج عنها كربها، وأدغم حمزة والكسائي وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر دالها في السين. وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ للأقوال والأحوال.
[سورة المجادلة (58) : آية 2]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ الظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمي مشتق من الظهر، وألحق به الفقهاء تشبيهها بجزء أنثى محرم، وفي مِنْكُمْ تهجين لعادتهم فيه فإنه كان من إيمان أهل الجاهلية، وأصل يظهرون يتظهرون وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي يظهرون من أظاهر، وعاصم يظهرون من ظاهر. مَّا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ أي على الحقيقة. إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن كالمرضعات وأزواج الرسول، وعن عاصم أُمَّهاتِهِمْ بالرفع على لغة بني تميم، وقرئ ب «أمهاتهم» وهو أيضاً على لغة من ينصب. وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ إذ الشرع أنكره.
وَزُوراً منحرفاً عن الحق فإن الزوجة لا تشبه الأم. وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لما سلف منه مطلقاً، أو إذا تيب عنه.
[سورة المجادلة (58) : آية 3]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أي إلى قولهم بالتدارك ومنه المثل: عاد الغيث على ما أفسد، وهو بنقض ما يقتضيه وذلك عند الشافعي بإمساك المظاهر عنها في النكاح زماناً يمكنه مفارقتها فيه، إذ التشبيه يتناول حرمته لصحة استثنائها عنه وهو أقل ما ينتقض به. وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظرة شهوة. وعند مالك بالعزم على الجماع، وعند الحسن بالجماع. أو بالظهار في الإِسلام على أن قوله يَظْهَرُونَ بمعنى يعتادون الظهار إذ كانوا يظاهرون في الجاهلية، وهو قول الثوري أو بتكراره لفظاً وهو قول(5/192)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
الظاهرية، أو معنى بأن يحلف على ما قال وهو قول أبي مسلم أو إلى المقول فيها بامساكها، أو استباحة استمتاعها أو وطئها. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعليهم أو فالواجب إعتاق رقبة والفاء للسببية، ومن فوائدها الدلالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار، والرقبة مقيدة بالإيمان عندنا قياساً على كفارة القتل. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أن يستمتع كل من المظاهر عنها بالآخر لعموم اللفظ ومقتضى التشبيه، أو أن يجامعها وفيه دليل على حرمة ذلك قبل التكفير. ذلِكُمْ أي ذلكم الحكم بالكفارة. تُوعَظُونَ بِهِ لأنه يدل على ارتكاب الجناية الموجبة للغرامة ويردع عنه. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لا تخفى عليه خافية.
[سورة المجادلة (58) : آية 4]
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي الرقبة والذي غاب ماله واجد. فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فإن أفطر بغير عذر لزمه الاستئناف وإن أفطر لعذر ففيه خلاف، وإن جامع المظاهر عنها ليلاً لم ينقطع التتابع عندنا خلافاً لأبي حنيفة ومالك رضي الله تعالى عنهما. فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي الصوم لهرم أو مرض مزمن أو شبق مفرط فإنه صلّى الله عليه وسلم رخص للأعرابي المفطر أن يعدل لأجله. فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ستين مداً بمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو رطل وثلث لأنه أقل ما قيل في الكفارات وجنسه المخرج في الفطرة، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره، وإنما لم يذكر التماس مع الطعام اكتفاء بذكره مع الآخرين، أو لجوازه في خلال الإطعام كما قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه. ذلِكَ أي ذلك البيان أو التعليم للأحكام ومحله النصب بفعل معلل بقوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، أي فَرضَ ذَلِكَ لتصدقوا بالله وَرَسُولِهِ في قبول شرائعهِ وَرَفْض مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ في جاهليتكم وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ لا يجوز تعديها.
وَلِلْكافِرِينَ أي الذين لا يقبلونها. عَذابٌ أَلِيمٌ هو نظير قوله: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 6]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعادونهما فإن كلاً من المتعاديين في حد غير حد الآخر، أو يضعون أو يختارون حدوداً غير حدودهما. كُبِتُوا أخزوا أو أهلكوا وأصل الكبت الكب. كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني كفار الأمم الماضية. وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ تدل على صدق الرسول وما جاء به. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ يذهب عزهم وتكبرهم.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ منصوب ب مُهِينٌ أو بإضمار اذكر. جَمِيعاً كلهم لا يدع أحداً غير مبعوث أو مجتمعين. فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي على رؤوس الأشهاد تشهيراً لحالهم وتقريراً لعذابهم. أَحْصاهُ اللَّهُ أحاط به عدداً لم يغب منه شيء. وَنَسُوهُ لكثرته أو تهاونهم به. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ لا يغيب عنه شيء.
[سورة المجادلة (58) : آية 7]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
.(5/193)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كلياً وجزئياً. مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ أي ما يقع من تناجي ثلاثة، ويجوز أن يقدر مضاف أو يؤول نَجْوى بمتناجين ويجعل ثَلاثَةٍ صفة لها، واشتقاقها من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض فإن السر أمر مرفوع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه. إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ إلا الله يجعلهم أربعة من حيث أنه يشاركهم في الاطلاع عليها، والاستثناء من أعم الأحوال. وَلا خَمْسَةٍ ولا نجوى خمسة. إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة فإن الآية نزلت في تناجي المنافقين، أو لأن الله تعالى وتر يحب الوتر، والثلاثة أول الأوتار أو لأن التشاور لا بد له من اثنين يكونان كالمتنازعين وثالث يتوسط بينها، وقرئ ثَلاثَةٍ و «خَمْسَةٍ» بالنصب على الحال بإضمار يَتَناجَوْنَ أو تأويل نَجْوى بمتناجين. وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ ولا أقل مما ذكر كالواحد والاثنين. وَلا أَكْثَرَ كالستة وما فوقها. إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يعلم ما يجري بينهم. وقرأ يعقوب ولا أكثر بالرفع عطفاً على محل من نَجْوى أو محل لا أدنى بأن جعلت لا لنفي الجنس. أَيْنَ ما كانُوا فإن علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ تفضيحاً لهم وتقريراً لما يستحقونه من الجزاء. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لأن نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل على السواء.
[سورة المجادلة (58) : آية 8]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ، نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين فنهاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم عادوا لمثل فعلهم. وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول، وقرأ حمزة «وينتجون» وهو يفتعلون من النجوى وروي عن يعقوب مثله. وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ فيقولون السام عليك، أو أنعم صباحاً والله تعالى يقول: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى. وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ فيما بينهم. لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ هلا يعذبنا الله بذلك لو كان محمد نبياً. حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذاباً. يَصْلَوْنَها يَدخلونها. فَبِئْسَ الْمَصِيرُ جهنم.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 9 الى 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ كما يفعله المنافقون وعن يعقوب «فلا تنتجوا» . وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى بما يتضمن خير المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيما تأتون وتذرون فإنه مجازيكم عليه.
إِنَّمَا النَّجْوى أَي النجوى بالإِثم والعدوان. مِنَ الشَّيْطانِ فإنه المزين لها والحامل عليها. لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا بتوهمهم أنها في نكبة أصابتهم. وَلَيْسَ أي الشيطان أو التناجي. بِضارِّهِمْ بضار المؤمنين.
شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إلا بمشيئته. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ولا يبالوا بنجواهم.
[سورة المجادلة (58) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)(5/194)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض من قولهم: افسح عني أي تنح، وقرئ «تفاسحوا» والمراد بالمجلس الجنس ويدل عليه قراءة عاصم بالجمع، أو مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يتضامون به تنافساً على القرب منه وحرصاً على استماع كلامه. فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فيما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق والصدر وغيرها. وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا انهضوا للتوسعة أو لما أمرتم به كصلاة أو جهاد، أو ارتفعوا عن المجلس. فَانْشُزُوا وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ بالنصر وحسن الذكر في الدنيا، وإيوائهم غرف الجنان في الآخرة. وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ويرفع العلماء منهم خاصة درجات بما جمعوا من العلم والعمل، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة، ولذلك يقتدى بالعالم في أفعاله ولا يقتدى بغيره.
وفي الحديث «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» .
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تهديد لمن لم يتمثل الأمر أو استكرهه.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 12 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً فتصدقوا قدامها مستعار ممن له يدان، وفي هذا الأمر تعظيم الرسول وإنفاع الفقراء والنهي عن الإِفراط في السؤال، والميز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا، واختلف في أنه للندب أو للوجوب لكنه منسوخ بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ وهو وإن اتصل به تلاوة لم يتصل به نزولاً.
وعن على كرم الله وجهه إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد غيري، كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم.
وهو على القول بالوجوب لا يقدح في غيره فلعله لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقائه، إذ
روي أنه لم يبق إلا عشراً
وقيل إلا ساعة. ذلِكَ أي ذلك التصدق. خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي لانْفُسِكُم من الريبة وحب المال وهو يشعر بالندبية لكن قوله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن لم يجده حيث رخص له في المناجاة بلا تصدق أدل على الوجوب.
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أخفتم الفقر من تقديم الصدقة أو أخفتم التقديم لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر وجمع صَدَقاتٍ لجمع المخاطبين، أو لكثرة التناجي. فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخص لكم أن لا تفعلوه، وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه لما رأى منهم مما قام مقام توبتهم وإذ على بابُّها وقيل بمعنى إذا أو إن. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. فلا تفرطوا في أدائهما.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر الأوامر، فإن القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ظاهرا وباطنا.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 15]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَّا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (15)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا والوا. قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني اليهود: مَّا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك. وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وهو ادعاء الإسلام. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن المحلوف عليه كذب كمن يحلف بالغموس، وفي هذا التقييد دليل على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر عدم مطابقته وما لا(5/195)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
يعلم.
وروي أنه عليه السلام كان في حجرة من حجراته فقال «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل المنافق وكان أزرق فقال عليه الصلاة والسلام له: علام تشتمني أنت وأصحابك، فحلف بالله ما فعل ثم جاء بأصحابه فحلفوا فنزلت» .
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً نوعاً من العذاب متفاقماً. إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فتمرنوا على سوء العمل وأصروا عليه.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 16 الى 17]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17)
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أي التي حلفوا بها، وقرئ بالكسر أي «أيمانهم» الذي أظهروه. جُنَّةً وقاية دون دمائهم وأموالهم. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فصدوا الناس في خلال أمنهم عن دين الله بالتحريش والتثبيط.
فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم. وقيل الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة.
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قد سبق مثله.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 18 الى 19]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي لله تعالى على أنهم مسلمون. كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا ويقولون إنهم لمنكم. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ في حلفهم الكاذب لأن تمكن النفاق في نفوسهم بحيث يخيل إليهم في الآخرة أن الأيمان الكاذبة تروج الكذب على الله كما تروجه عليكم في الدنيا. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ البالغون الغاية في الكذب حيث يكذبون مع عالم الغيب والشهادة ويحلفون عليه.
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ استولى عليهم من حذت الإِبل وأحذتها إذا استوليت عليها، وهو مما جاء على الأصل. فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ لا يذكرونه بقلوبهم ولا بألسنتهم. أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ
جنوده وأتباعه.
أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ لأنهم فوتوا على أنفسهم النعيم المؤبد وعرضوها للعذاب المخلد.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 20 الى 21]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ في جملة من هو أذل خلق الله.
كَتَبَ اللَّهُ في اللوح. لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أي بالحجة، وقرأ نافع وابن عامر رُسُلِي بفتح الياء.
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على نصر أنبيائه. عَزِيزٌ لا يغلب عليه شيء في مراده.
[سورة المجادلة (58) : آية 22]
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي لا ينبغي أن تجدهم وادين(5/196)
أعداء الله، والمراد أنه لا ينبغي أن يوادوهم. وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ولو كان المحادون أقرب الناس إليهم. أُولئِكَ أي الذين لم يوادوهم. كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أثبته فيها، وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإِيمان، فإن جزء الثابت في القلب يكون ثابتاً فيه، وأعمال الجوارح لا تثبت فيه. وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي من عند الله وهو نور القلب أو القرآن، أو بالنصر على العدو. قيل الضمير ل الْإِيمانَ فإنه سبب لحياة القلب. وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بطاعتهم. وَرَضُوا عَنْهُ بقضائه أو بما وعدهم من الثواب. أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ جنده وأنصار دينه. أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدارين.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة» .(5/197)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
(59) سورة الحشر
مدينة وآيها أربع وعشرون آية
[سورة الحشر (59) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
روي «أنه عليه السلام لما قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا له ولا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا: إنه النبي المنعوت في التوراة بالنصرة، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة وحالفوا أبا سفيان، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخا كعب من الرضاعة فقتله غيلة، ثم صبحهم بالكتائب وحاصرهم حتى صالحوا على الجلاء فجلا أكثرهم إلى الشام ولحقت طائفة بخيبر والحيرة» فأنزل الله تعالى
سَبَّحَ لِلَّهِ إلى قوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
[سورة الحشر (59) : آية 2]
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك، أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشام، وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إليه، أو في أول حشر الناس إلى الشام وآخر حشرهم أنهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك، أو أن ناراً تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب. والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر. مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لشدة بأسهم ومنعتهم. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، وتغيير النظم وتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة بسببها، ويجوز أن تكون حُصُونُهُمْ فاعلاً ل مانِعَتُهُمْ. فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي عذابه وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء، وقيل الضمير ل الْمُؤْمِنِينَ أي فأتاهم نصر الله، وقرئ «فاتاهم الله» أي العذاب أو النصر. مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا لقوة وثوقهم. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وأثبت فيها الخوف الذي يرعبها أي يملؤها. يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ضناً بها على المسلمين وإخراجاً لما استحسنوا من آلاتها. وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فإنهم أيضاً كانوا يخربون ظواهرها نكاية وتوسيعاً لمجال القتال. وعطفها على «أيديهم» من حيث أن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه، والجملة حال أو تفسير ل الرُّعْبَ. وقرأ أبو عمرو يُخْرِبُونَ بالتشديد وهو أبلغ لما فيه من التكثير. وقيل الإِخراب التعطيل أو ترك الشيء خراباً والتخريب الهدم.
فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا ولا تعتمدوا على غير الله، واستدل به على أن القياس حجة من حيث أنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية(5/198)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
له على ما قررناه في الكتب الأصولية.
[سورة الحشر (59) : الآيات 3 الى 4]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ الخروج من أوطانهم. لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ استئناف معناه أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ الإِشارة إلى ما ذكر مما حاق بهم وما كانوا بصدده وما هو معد لهم أو إلى الأخير.
[سورة الحشر (59) : آية 5]
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أي شيء قطعتم من نخلة فعلة من اللون ويجمع على ألوان، وقيل من اللين ومعناها النخلة الكريمة وجمعها أليان. أَوْ تَرَكْتُمُوها الضمير لما وتأنيثه لأنه مفسر باللينة. قائِمَةً عَلى أُصُولِها وقرئ «أصلها» اكتفاء بالضمة عن الواو أو على أنه كرهن. فَبِإِذْنِ اللَّهِ فبأمره. وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ علة لمحذوف أي وفعلتم أو وأذن لكم في القطع ليجزيهم على فسقهم بما غاظهم منه.
روي أنه عليه السلام لما أمر بقطع نخيلهم قالوا: قد كنت يا محمد تنهى عَنِ الفساد فِى الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها فنزلت.
واستدل به على جواز هدم ديار الكفار وقطع أشجارهم زيادة لغيظهم.
[سورة الحشر (59) : آية 6]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وما أعاده عليه بمعنى صيره له أو رده عليه، فإنه كان حقيقاً بأن يكون له لأنه تعالى خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق لهم ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين.
مِنْهُمْ من بني النضير أو من الكفرة. فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ فما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير. مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ما يركب من الإِبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه، وذلك إن كان المراد فيءُ بني النضير، فلأن قراهم كانت على ميلين من المدينة فمشوا إليها رجالاً غير رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإنه ركب جملاً أو حماراً، ولم يجر مزيد قتال ولذلك لم يعط الأنصار منه شيئاً إلا ثلاثة كانت بهم حاجة.
وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ بقذف الرعب في قلوبهم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يريد تارة بالوسائط الظاهرة وتارة بغيرها.
[سورة الحشر (59) : آية 7]
مَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
مَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى بيان للأول ولذلك لم يعطف عليه. فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ اختلف في قسم الفيء، فقيل يسدس لظاهر الآية ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة وسائر المساجد، وقيل يخمس لأن ذكر الله للتعظيم ويصرف الآن سهم الرسول عليه الصلاة(5/199)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
والسلام إلى الإِمام على قول وإلى العساكر والثغور على قول وإلى مصالح المسلمين على قول. وقيل يخمس خمسه كالغنيمة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يقسم الخمس كذلك ويصرف الأخماس الأربعة كما يشاء والآن على الخلاف المذكور. كَيْ لا يَكُونَ أي الفيء الذي حقه أن يكون للفقراء. وقرأ هشام في رواية بالتاء.
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ الدولة ما يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية، وقرئ «دُولَةً» بمعنى كيلا يكون الفيء ذا تداول بينهم أو أخذه غلبة تكون بينهم، وقرأ هشام دُولَةً بالرفع على كان التامة أي كيلا يقع دولة جاهلية. وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ وما أعطاكم من الفيء أو من الأمر. فَخُذُوهُ لأنه حلال لكم، أو فتمسكوا به لأنه واجب الطاعة. وَما نَهاكُمْ عَنْهُ عن أخذه منه، أو عن إتيانه. فَانْتَهُوا عنه. وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة رسوله. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالفه.
[سورة الحشر (59) : آية 8]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ بدل من لِذِي الْقُرْبى وما عطف عليه فإن الرَّسُولُ لا يسمى فقيراً، ومن أعطى أغنياء ذوي القربى خصص الإبدال بما بعده، أو الفيء بفيء بني النضير. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ فإن كفار مكة أخرجوهم وأخذوا أموالهم. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً حال مقيدة لإخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم. وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بأنفسهم وأموالهم. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إيمانهم.
[سورة الحشر (59) : الآيات 9 الى 10]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ عطف على المهاجرين، والمراد بهم الأنصار الذين ظهر صدقهم فإنهم لزموا المدينة والإِيمان وتمكنوا فيهما، وقيل المعنى تبؤوا دار الهجرة ودار الإِيمان فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول وعوض عنه اللام، أو تبؤوا الدار وأخلصوا الإِيمان كقوله: علفتها تبنا وماء باردا.
وقيل سمى المدينة بالإِيمان لأنها مظهره ومصيره. مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل هجرة المهاجرين. وقيل تقدير الكلام والذين تبؤوا الدار من قبلهم والإِيمان. يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ولا يثقل عليهم. وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ في أنفسهم. حاجَةً ما تحمل عليه الحاجة كالطلب والحزازة والحسد والغيظ. مِمَّا أُوتُوا مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره. وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ويقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى إن من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم. وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ حاجة من خصاص البناء وهي فرجه. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإِنفاق. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل.
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ هم الذين هاجروا حين قوي الإِسلام، أو التابعون بإحسان وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ولذلك قيل: إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين. يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ أي لإِخواننا في الدين. وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا حقداً لهم.
رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فحقيق بأن تجيب دعاءنا.(5/200)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
[سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 12]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يريد الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر أو الصداقة والموالاة. لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم. لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ في قتالكم أو خذلانكم. أَحَداً أَبَداً أي من رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين. وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ لنعَاوننكم. وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك كما قال:
لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وكان كذلك فإن ابن أبي وأصحابه راسلوا بني النضير بذلك ثم أخلفوهم، وفيه دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن. وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ على الفرض والتقدير. لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ انهزاماً. ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ بعد بل يخذلهم الله ولا ينفعهم نصرة المنافقين، أو نفاقهم إذ ضمير الفعلين يحتمل أن يكون لليهود وأن يكون للمنافقين.
[سورة الحشر (59) : الآيات 13 الى 14]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (14)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً أي أشد مرهوبية مصدر للفعل المبني للمفعول. فِي صُدُورِهِمْ فإنهم كانوا يضمرون مخافتهم من المؤمنين. مِنَ اللَّهِ على ما يظهرونه نفاقاً فإن استبطان رهبتكم سبب لإظهار رهبة الله. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ لا يعلمون عظمة الله حتى يخشوه حق خشيته ويعلموا أنه الحقيق بأن يخشى.
لاَ يُقاتِلُونَكُمْ اليهود والمنافقون. جَمِيعاً مجتمعين متفقين. إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ بالدروب والخنادق. أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ لفرط رهبتهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «جدار» وأمال أبو عمرو فتحة الدال.
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي وليس ذلك لضعفهم وجبنهم فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضاً، بل لقذف الله الرعب في قلوبهم ولأن الشجاع يجبن والعزيز يذل إذا حارب الله ورسوله. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مجتمعين متفقين. وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة لافتراق عقائدهم واختلاف مقاصدهم. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ما فيه صلاحهم وإن تشتت القلوب يوهن قواهم.
[سورة الحشر (59) : الآيات 15 الى 17]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مثل اليهود كمثل أهل بدر، أو بني قينقاع إن صح أنهم أخرجوا قبل النضير، أو المهلكين من الأمم الماضية. قَرِيباً في زمان قريب وانتصابه بمثل إذ التقدير كوجود مثل.
ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ سوء عاقبة كفرهم في الدنيا. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل الشيطان. إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور. فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ تبرأ عنه(5/201)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال.
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ والمراد من الإِنسان الجنس. وقيل أبو جهل قال له إبليس يوم بدر لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ الآية. وقيل راهب حمله على الفجور والارتداد وقرئ «عاقبتهما» و «خالدان» على أنه خبر إن وفِي النَّارِ لغو.
[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 20]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لاَ يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ليوم القيامة سماه به لدنوه أو لأن الدنيا كيوم والآخرة كغده، وتنكيره للتعظيم وأما تنكير النفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة كأنه قال:
فلتنظر نفس واحدة في ذلك. وَاتَّقُوا اللَّهَ تكرير للتأكيد، أو الأول في أداء الواجبات لأنه مقرون بالعمل والثاني في ترك المحارم لاقترانه بقوله: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ وهو كالوعيد على المعاصي.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ نسوا حقه. فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ فجعلهم ناسين لها حتى لم يسمعوا ما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلصها، أو أراهم يوم القيامة من الهول ما أنساهم أنفسهم. أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في الفسوق.
لاَ يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ الذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا للجنة والذين استمهنوها فاستحقوا النار، واحتج به أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالكافر. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم.
[سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 22]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تمثيل وتخييل كما مر في قوله:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ولذلك عقبه بقوله: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فإن الإِشارة إليه وإلى أمثاله. والمراد توبيخ الإِنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن لقساوة قلبه وقلة تدبره، والتصدع التشقق.
وقرئ «مصدعاً» على الإِدغام.
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ما غاب عن الحس من الجواهر القدسية وأحوالها، وما حضر له من الأجرام وأعراضها، وتقديم الْغَيْبِ لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به، أو المعدوم والموجود، أو السر والعلانية. وقيل الدنيا والآخرة. هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ.
[سورة الحشر (59) : الآيات 23 الى 24]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ البالغ في النزاهة عما يوجب نقصانا. وقرئ بالفتح وهو لغة فيه. السَّلامُ ذو السلامة من كل نقص وآفة، مصدر وصف به للمبالغة. الْمُؤْمِنُ واهب الأمن،(5/202)
وقرئ بالفتح بمعنى المؤمن به على حذف الجار. الْمُهَيْمِنُ الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن قلبت همزته هاء. الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الذي جبر خلقه على ما أراده، أو جبر حالهم بمعنى أصلحه. الْمُتَكَبِّرُ الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصاناً. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ إذ لا يشركه في شيء من ذلك.
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المقدر للأشياء على مقتضى حكمته. الْبارِئُ الموجد لها بريئاً من التفاوت.
الْمُصَوِّرُ الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد. (ومن أراد الإِطناب في شرح هذه الأسماء وأخواتها فعليه بكتابي المسمى ب «منتهى المنى» . لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لأنها دالة على محاسن المعاني. يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لتنزهه عن النقائص كلها. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجامع للكمالات بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» .(5/203)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
(60) سورة الممتحنة
مدينة وآيها ثلاث عشرة آية
[سورة الممتحنة (60) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ
نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، فإنه لما علم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يغزو أهل مكة كتب إليهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، وأرسل كتابه مع سارة مولاة بني المطلب، فنزل جبريل عليه السلام فأعلم رسول الله، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم علياً وعماراً وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها ثمة فجحدت فهموا بالرجوع، فسل علي رضي الله تعالى عنه السيف فأخرجته من عقاصها، فاستحضر رسول الله صلّى الله عليه وسلم حاطباً وقال: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولكني كنت امرأ ملصقاً في قريش وليس لي فيهم من يحمي أهلي، فأردت أن آخذ عندهم يداً وقد علمت أن كتابي لا يغني عنهم شيئاً، فصدقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعذره.
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تفضون إليهم المودة بالمكاتبة، والباء مزيدة أو إخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسبب المودة، والجملة حال من فاعل لاَ تَتَّخِذُوا أو صفة لأولياء جرت على غير من هي له، ولا حاجة فيها إلى إبراز الضمير لأنه مشروط في الاسم دون الفعل. وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ حال من فاعل أحد الفعلين. يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أي من مكة وهو حال من كَفَرُوا أو استئناف لبيانه. أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ بأن تؤمنوا به وفيه تغليب المخاطب والالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإِيمان.
إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ عن أوطانكم. جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي علة للخروج وعمدة للتعليق وجواب الشرط محذوف دل عليه لاَ تَتَّخِذُوا. تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ بدل من تُلْقُونَ أو استئناف معناه: أي طائل لكم في أسرار المودة أو الإخبار بسبب المودة. وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أي منكم. وقيل أَعْلَمُ مضارع والباء مزيدة و «ما» موصولة أو مصدرية. وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ أي من يفعل الاتخاذ. فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أخطأه.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 2 الى 3]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يظفروا بكم. يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم. وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ما يسوؤكم كالقتل والشتم. وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ وتمنوا ارتدادكم، ومجيء وَدُّوا وحده بلفظ الماضي للإِشعار بأنهم وَدُّوا قبل كل شيء، وأن ودادتهم حاصلة وإن لم يثقفوكم.(5/204)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ قراباتكم. وَلا أَوْلادُكُمْ الذين توالون المشركين لأجلهم. يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يفرق بينكم بما عراكم من الهول فيفر بعضكم من بعض فما لكم ترفضون اليوم حق الله لمن يفر منكم غداً، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الصاد والتشديد وفتح الفاء، وقرأ ابن عامر يُفَصّلُ على البناء للمفعول وهو بَيْنَكُمْ، وقرأ عاصم يَفْصِلُ. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم عليه.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 5]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قدوة. اسم لما يؤتسى به. فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ صفة ثانية أو خبر كان ولَكُمْ لغو أو حال من المستكن في حَسَنَةٌ أو صلة لها لا ل أُسْوَةٌ لأنها وصفت. إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ ظرف لخبر كان. إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ جميع بريء كظريف وظرفاء. وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ أي بدينكم أو بمعبودكم، أو بكم وبه فلا نعتد بشأنكم وآلهتكم. وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ فتنقلب العداوة والبغضاء ألفة ومحبة. إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ استثناء من قوله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فإن استغفاره لأبيه الكافر ليس مما ينبغي أن يأتسوا به، فإنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه. وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من تمام قوله المستثنى ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أجزائه. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ متصل بما قبل الاستثناء أو أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه تتميماً لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار.
رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نتحمله. وَاغْفِرْ لَنا ما فرط منا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ومن كان كذلك كان حقيقاً بأن يجير المتوكل ويجيب الداعي.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 6 الى 7]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تكرير لمزيد الحث على التأسي بإبراهيم ولذلك صدر بالقسم وأبدل قوله: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ من لَكُمْ فإنه يدل على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم، وإن تركه مؤذن بسوء العقيدة ولذلك عقبه بقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فإنه جدير بأن يوعد به الكفرة.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً لما نزل لاَ تَتَّخِذُوا عادى المؤمنون أقاربهم المشركين وتبرؤوا عنهم، فوعدهم الله بذلك وأنجز إذ أسلم أكثرهم وصاروا لهم أولياء. وَاللَّهُ قَدِيرٌ على ذلك. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لما فرط منكم في موالاتهم من قبل ولما بقي في قلوبكم من ميل الرحم.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 الى 9]
لاَّ يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
لاَّ يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي لا ينهاكم عن مبرَّة(5/205)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
هؤلاء لأن قوله: أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من الَّذِينَ. وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ وتفضوا إليهم بالقسط أي العدل. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين،
روي أن قتيلة بنت عبد العزى قدمت مشركة على بنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول فنزلت.
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ كمشركي مكة فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين وبعضهم أعانوا المخرجين. أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل من الَّذِينَ بدل الاشتمال. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لوضعهم الولاية في غير موضعها.
[سورة الممتحنة (60) : آية 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهم لسانهن في الإِيمان. اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فإنه المطلع على ما في قلوبهن. فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ العلم الذي يمكنكم تحصيله وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات، وإنما سماه علماً إيذاناً بأنه كالعلم في وجوب العمل به. فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله: لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ والتكرير للمطابقة والمبالغة، أو الأولى لحصول الفرقة والثانية للمنع عن الاستئناف. وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ما دفعوا إليهن من المهور، وذلك لأن صلح الحديبية جرى: على أن من جاءنا منكم رددناه. فلما تعذر عليه ردهن لورود النهي عنه لزمه رد مهورهن. إذ
روي أنه عليه السلام كان بعد الحديبية إذ جاءته سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة فأقبل زوجها مسافر المخزومي طالباً لها فنزلت.
فاستخلفها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحلفت فأعطى زوجها ما أنفق وتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فإن الإِسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ شرط إيتاء المهر في نكاحهن إيذاناً بأن ما أعطى أزواجهن لا يقوم مقام المهر. وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ بما يعتصم به الكافرات من عقد وسبب جمع عصمة، والمراد نهي المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات، وقرأ البصريان وَلا تُمْسِكُوا بالتشديد. وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ من مهور نسائكم اللاحقات بالكفار. وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا من مهور أزواجهم المهاجرات. ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يعني جميع ما ذكر في الآية. يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ استئناف أو حال من الحكم على حذف الضمير، أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يشرع ما تقتضيه حكمته.
[سورة الممتحنة (60) : آية 11]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
وَإِنْ فاتَكُمْ وإن سبقكم وانفلت منكم. شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أحد من أزواجكم، وقد قرئ به وإيقاع شَيْءٌ موقعه للتحقير والمبالغة في التعميم، أو شَيْءٌ من مهورهن. إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر، شبه الحكم بأداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره. فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر.
روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة أبى المُشركون أن يؤدوا مهر الكوافر فنزلت.
وقيل معناه إن فاتكم فأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة فَآتُوا بدل الفائت من الغنيمة. وَاتَّقُوا(5/206)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ
فإن الإِيمان به يقتضي التقوى منه.
[سورة الممتحنة (60) : آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً نزلت يوم الفتح فإنه عليه السلام لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء. وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ يريد وأد البنات.
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ في حسنة تأمرهن بها، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به تنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق.
فَبايِعْهُنَّ إذا بايعنك بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء. وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[سورة الممتحنة (60) : آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني عامة الكفار أو اليهود. إذ
روي أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم.
قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ لكفرهم بها أو لعلمهم بأنهم لاحظ لهم فيها لعنادهم الرسول المنعوت في التوراة المؤيد بالآيات. كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أن يبعثوا أو يثابوا أو ينالهم خير منهم، وعلى الأول وضع الظاهر فيه موضع المضمر للدلالة على أن الكفر آيسهم.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة» .(5/207)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
(61) سورة الصف
مدينة، وقيل مكية وآيها أربع عشرة آية
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ (3)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ سبق تفسيره.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
روي أن المسلمين قالوا: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فأنزل الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا فولوا يوم أحد فنزلت.
ولِمَ مركبة من لام الجر وما الاستفهامية والأكثر على حذف ألفها مع حرف الجر لكثرة استعمالهم معاً واعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه.
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ المقت أشد البغض ونصبه على التمييز للدلالة على أن قولهم هذا مقت خالص كَبُرَ عند من يحقر دونه كل عظيم، مبالغة في المنع عنه.
[سورة الصف (61) : الآيات 4 الى 5]
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا مصطفين مصدر وصف به. كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ في تراصهم من غير فرجة، حال من المستكن في الحال الأولى. والرص اتصال بعض البناء بالبعض واستحكامه.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ مقدر باذكر أو كان كذا. يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي بالعصيان والرمي بالادرة. وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ بما جئتكم من المعجزات، والجملة حال مقررة للإنكار فإن العلم بنبوته يوجب تعظيمه ويمنع إيذاءه، وَقَدْ لتحقيق العلم. فَلَمَّا زاغُوا عن الحق. أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب. وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ هداية موصلة إلى معرفة الحق أو إلى الجنة.
[سورة الصف (61) : آية 6]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ ولعله لم يقل يَا قَوْمِ كما قال موسى لأنه لا نَسب له فيهم. إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً في حال تصديقي لما تقدمني من التوراة وتبشيري بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي. والعامل في الحالين ما في الرسول من معنى الإِرسال لا الجار لأنه لغو إذ هو صلة للرسول فلا يعمل. بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ يعني محمدا عليه الصلاة والسلام،(5/208)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
والمعنى أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه، فذكر أول الكتب المشهورة الذي حكم به النبيون والنبي الذي هو خاتم المرسلين. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ الإِشارة إلى ما جاء به أو إليه، وتسميته سحر للمبالغة ويؤيده قراءة حمزة والكسائي «هذا ساحر» على أن الإِشارة إلى عيسى عليه السلام.
[سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 9]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ أي لا أحد أظلم ممن يدعى إلى الإِسلام الظاهر حقيته المقتضى له خير الدارين فيضع موضع إجابته الافتراء على الله بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحراً فإنه يعم إثبات المنفي ونفي الثابت وقرئ «يدعى» يقال دعاه وادعاه كلمسه والتمسه. وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم.
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا أي يريدون أن يطفئوا، واللام مزيدة لما فيها من معنى الإِرادة تأكيداً لها كما زيدت لما فيها من معنى الاضافة تأكيداً لها في لا أبا لك، أو يُرِيدُونَ الافتراء لِيُطْفِؤُا. نُورَ اللَّهِ يعني دينه أو كتابه أو حجته. بِأَفْواهِهِمْ بطعنهم فيه. وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ مبلغ غايته بنشره وإعلائه، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص بالإضافة. وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إرغاماً لهم.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى بالقرآن أو المعجزة. وَدِينِ الْحَقِّ والملة الحنيفية. لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليغلبه على جميع الأديان. وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ لما فيه من محض التوحيد وإبطال الشرك.
[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وقرأ ابن عامر تُنْجِيكُمْ بالتشديد.
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ استئناف مبين للتجارة وهو الجمع بين الإِيمان والجهاد المؤدي إلى كمال عزهم، والمراد به الأمر وإنما جيء بلفظ الخبر إيذاناً بأن ذلك مما لا يترك.. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يعني ما ذكر من الإِيمان والجهاد. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كنتم من أهل العلم إذ الجاهل لا يعتد بفعله.
[سورة الصف (61) : الآيات 12 الى 13]
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخير، أو لشرط أو استفهام دل عليه الكلام تقديره أن تؤمنوا وتجاهدوا، أو هل تقبلون أن أدلكم يغفر لكم، ويبعد جعله جواباً لهل أدلكم لأن مجرد دلالته لا توجب المغفرة وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الإشارة إلى ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة.
وَأُخْرى تُحِبُّونَها ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة، وفي تُحِبُّونَها تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل، وقيل أُخْرى منصوبة بإضمار يعطيكم، أو تحبون أو مبتدأ خبره: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وهو على الأول بدل أو بيان وعلى قول النصب خبر محذوف، وقد قرئ بما عطف(5/209)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
عليه بالنصب على البدل، أو الاختصاص أو المصدر. وَفَتْحٌ قَرِيبٌ عاجل. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على محذوف مثل: قل يا أيها الذين آمنوا وَبَشِّرِ، أو على تُؤْمِنُونَ فإنه في معنى الأمر كأنه قال: آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون وبشرهم يا رسول الله بما وعدتهم عليهما آجلاً وعاجلاً.
[سورة الصف (61) : آية 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ وقرأ الحجازيان وأبو عمرو بالتنوين واللام لأن المعنى كونوا بعض أنصار الله. كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي من جندي متوجها إلى نصرة الله ليطابق قوله تعالى: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ والإِضافة الأولى إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر لما بينهما من الاختصاص، والثانية إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى إذ المراد قل لهم كما قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ، أو كونوا أنصاراً كما قال الحواريون حين قال لهم عيسى مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ.
والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً من الحور وهو البياض. فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ أي بعيسى. فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ بالحجة وبالحرب وذلك بعد رفع عيسى. فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ فصاروا غالبين.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الصف كان عيسى مصلياً عليه مستغفراً له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه» .(5/210)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
(62) سورة الجمعة
مدنية وآيها إحدى عشرة آية
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وقد قرئ الصفات الأربع بالرفع على المدح.
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ أي في العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرءون. رَسُولًا مِنْهُمْ من جملتهم أمياً مثلهم. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ مع كونه أمياً مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم. وَيُزَكِّيهِمْ من خبائث العقائد والأعمال. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ القرآن والشريعة، أو معالم الدين من المنقول والمعقول، ولو لم يكن له سواه معجزة لكفاه. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ من الشرك وخبث الجاهلية، وهو بيان لشدة احتياجهم إلى نبي يرشدهم، وإزاحة لما يتوهم أن الرسول تعلم ذلك من معلم، وإِنْ هي المخففة واللام تدل عليها.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 3 الى 4]
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ عطف على الْأُمِّيِّينَ، أو المنصوب في يُعَلِّمُهُمُ وهم الذين جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين، فإن دعوته وتعليمه يعم الجميع. لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون. وَهُوَ الْعَزِيزُ في تمكينه من هذا الأمر الخارق للعادة. الْحَكِيمُ في اختياره وتعليمه.
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ ذلك الفضل الذي امتاز به عن أقرانه فضله. يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ تفضلاً وعطية. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي يستحقر دونه نعيم الدنيا، أو نعيم الآخرة أو نعيمهما.
[سورة الجمعة (62) : آية 5]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ علموها وكلفوا العمل بها. ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها لم يعملوا بها أو لم ينتفعوا بما فيها. كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً كتباً من العلم يتعب في حملها ولا ينتفع بها، ويحمل حال والعامل فيه معنى المثل أو صفة إذ ليس المراد من الْحِمارِ معيناً. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي مثل الذين كذبوا وهم اليهود المكذبون بآيات الله الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ويجوز أن يكون الذين صفة للقوم والمخصوص بالذم محذوفاً. وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.(5/211)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
[سورة الجمعة (62) : الآيات 6 الى 8]
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا تهودوا. إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ إذ كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم.
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بسبب ما قدموا من الكفر والمعاصي. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فيجازيهم على أعمالهم.
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ وتخافون أن تتمنوه بلسانكم مخافة أن يصيبكم فتؤخذوا بأعمالكم.
فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لاحق بكم لا تفوتونه، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف، وكأن فرارهم يسرع لحوقه بهم. وقد قرئ بغير فاء ويجوز أن يكون الموصول خبراً والفاء عاطفة. ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأن يجازيكم عليه.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أي إذا أذن لها. مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بيان ل إِذا وإنما سمي جمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة، وكانت العرب تسميه العروبة. وقيل سماه كعب بن لؤي لاجتماع الناس فيه إليه، وأول جمعة جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه لما قدم المدينة نزل قباء فأقام بها إلى الجمعة، ثم دخل المدينة وصلى الجمعة في واد لبني سالم بن عوف. فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فامضوا إليه مسرعين قصداً فإن السعي دون العدو، وال ذِكْرِ الخطبة، وقيل الصلاة والأمر بالسعي إليها يدل على وجوبها. وَذَرُوا الْبَيْعَ واتركوا المعاملة. ذلِكُمْ أي السعي إلى ذكر الله. خَيْرٌ لَكُمْ من المعاملة فإن نفع الآخرة خير وأبقى. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير والشر الحقيقيين، أو إن كنتم من أهل العلم.
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أديت وفرغ منها. فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ إطلاق لما حظر عليهم، واحتج به من جعل الأمر بعد الحظر للإباحة.
وفي الحديث «ابتغوا من فضل الله ليس بطلب الدنيا وإنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيادة أخ في الله» .
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً واذكروه في مجامع أحوالكم ولا تخصوا ذكره بالصلاة. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بخير الدارين.
[سورة الجمعة (62) : آية 11]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها
روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب للجمعة فمرت عليه عير تحمل الطعام، فخرج الناس إليهم إلا اثني عشر رجلاً فنزلت.
وإفراد التجارة برد الكناية لأنها المقصودة، فإن المراد من اللهو الطبل الذي كانوا يستقبلون به العير، والترديد للدلالة على أن منهم من انفض لمجرد سماع الطبل ورؤيته، أو للدلالة على أن الإنفضاض إلى التجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموماً(5/212)
كان الانفضاض إلى اللهو أَولى بذلك. وقيل تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها وإذا رأوا لهواً انفضوا إليه.
وَتَرَكُوكَ قائِماً أي على المنبر. قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ من الثواب. خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ فإن ذلك محقق مخلد بخلاف ما تتوهمون من نفعهما وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فتوكلوا عليه واطلبوا الرزق منه.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها في أمصار المسلمين» .(5/213)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
(63) سورة المنافقين
مدنية وآيها إحدى عشرة آية
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (2)
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ الشهادة إخبار عن علم من الشهود وهو الحضور والاطلاع، ولذلك صدق المشهور به وكذبهم في الشهادة بقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ
لأنهم لم يعتقدوا ذلك.
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ حلفهم الكاذب أو شهادتهم هذه، فإنها تجري مجرى الحلف في التوكيد، وقرئ «إيمانهم» جُنَّةً وقاية من القتل والسبي. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صداً أو صدوداً. إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ من نفاقهم وصدهم.
[سورة المنافقون (63) : آية 3]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (3)
ذلِكَ إشارة إلى الكلام المتقدم أي ذلك القول الشاهد على سوء أعمالهم، أو إلى الحال المذكورة من النفاق والكذب والاستجنان بالإِيمان. بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بسبب أنهم آمنوا ظَاهراً. ثُمَّ كَفَرُوا سرا، أو آمَنُوا إذا رأوا آية ثُمَّ كَفَرُوا حيثما سمعوا من شياطينهم شبهة. فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ حتى تمرنوا على الكفر فاستحكموا فيه. فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ حقية الإِيمان ولا يعرفون صحته.
[سورة المنافقون (63) : آية 4]
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لضخامتها وصباحتها. وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لذلاقتهم وحلاوة كلامهم، وكان ابن أبيّ جسيما فصيحاً يحضر مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم في جمع مثله، فيعجب بهيكلهم ويصغي إلى كلامهم. كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ حال من الضمير المجرور في لِقَوْلِهِمْ أي تسمع لما يقولونه مشبهين بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحاً خالية عن العلم والنظر، وقيل ال خُشُبٌ جمع خشباء وهي الخشبة التي نُخِرَ جَوْفُهَا، شبهوا بها في حسن المنظر وقبح المخبر، وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل عن ابن كثير بسكون الشين على التخفيف، أو على أنه كبدن في جمع بدنة يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أي واقعة عليهم لجبنهم واتهامهم، ف عَلَيْهِمْ ثاني مفعولي يَحْسَبُونَ، ويجوز أن يكون صلته والمفعول:
هُمُ الْعَدُوُّ وعلى هذا يكون الضمير للكل وجمعه بالنظر إلى الخبر لكن ترتب قوله: فَاحْذَرْهُمْ عليه يدل على أن الضمير للمنافقين. قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم وهو طلب من ذاته أن يلعنهم، أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك. أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق.(5/214)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
[سورة المنافقون (63) : الآيات 5 الى 6]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ عطفوها إعراضا واستكبارا عن ذلك، وقرأ نافع بتخفيف الواو. وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ يعرضون عن الاستغفار. وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الاعتذار.
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لرسوخهم في الكفر. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مظنة الاستصلاح لانهماكهم في الكفر والنفاق.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 8]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (8)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ أي للأنصار. لاَ تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا يعنون فقراء المهاجرين. وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بيده الأرزاق والقسم. وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ ذلك لجهلهم بالله.
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ
روي أن أعرابياً نازع أنصارياً في بعض الغزوات على ماء، فضرب الأعرابي رأسه بخشبة، فشكى إلى ابن أُبيّ فقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا، وإذا رجعنا إلى المدينة فليخرجن الأعز منها الأذل، عنى بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرئ «لَيُخْرِجَنَّ» بفتح الياء و «لَيُخْرِجَنَّ» على بناء المفعول و «لنخرجن» بالنون، ونصب «الأعز» و «الأذل» على هذه القراءات مصدر أو حال على تقدير مضاف كخروج أو إخراج أو مثل. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولله الغلبة والقوة ولمن أعزه من رسوله والمؤمنين. وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ من فرط جهلهم وغرورهم.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ لا يشغلكم تدبيرها والاهتمام بها عن ذكره كالصلوات وسائر العبادات المذكرة للمعبود، والمراد نهيهم عن اللهو بها. وتوجيه النهي إليها للمبالغة ولذا قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي اللهو بها وهو الشغل. فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لأنهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ بعض أموالكم إدخاراً للآخرة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي يرى دلائله فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي هلا أمهلتني. إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أمد غير بعيد. فَأَصَّدَّقَ فأتصدق.
وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بالتدارك، وجزم أَكُنْ للعطف على موضع الفاء وما بعده، وقرأ أبو عمرو «وأكون» منصوباً عطفاً على «فأصدق» ، وقرئ بالرفع على وأنا أكون فيكون عدة بالصلاح.(5/215)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً ولن يمهلها. إِذا جاءَ أَجَلُها آخر عمرها. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فمجاز عليه، وقرأ أبو بكر بالياء ليوافق ما قبله في الغيبة.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المنافقين برىء من النفاق» .(5/216)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
(64) سورة التغابن
مختلف فيها وآيها ثماني عشرة آية
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بدلالتها على كماله واستغنائه. لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ قدم الظرفين للدلالة على اختصاص الأمرين به من حيث الحقيقة. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكل على سواء ثم شرع فيما ادعاه فقال:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ مقدر كفره موجه إليه ما يحمله عليه. وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ مقدر إيمانه موفق لما يدعوه إليه. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيعاملكم بما يناسب أعمالكم.
[سورة التغابن (64) : الآيات 3 الى 4]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ بالحكمة البالغة. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ فصوركم من جملة ما خلق فيهما بأحسن صورة، حيث زينكم بصفوة أوصاف الكائنات، وخصكم بخلاصة خصائص المبدعات، وجعلكم أنموذج جميع المخلوقات. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فأحسنوا سرائركم حتى لا يمسخ بالعذاب ظواهركم.
يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فلا يخفى عليه ما يصح أن يعلم كلياً كان أو جزئياً، لأن نسبة المقتضى لعلمه إلى الكل واحدة، وتقديم تقرير القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولاً وبالذات وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.
[سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 6]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ يا أيها الكفار. نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كقوم نوح وهود وصالح عليهم السلام.
فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ضرر كفرهم في الدنيا، وأصله الثقل ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل المطر الثقيل القطار. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.
ذلِكَ أي المذكور من الوبال والعذاب. بِأَنَّهُ بسبب أن الشأن. كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات. فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا أنكروا وتعجبوا من أن يكون الرسل بشراً والبشر يطلق للواحد والجمع.
فَكَفَرُوا بالرسل وَتَوَلَّوْا عن التدبر في البينات. وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عن كل شيء فضلاً عن طاعتهم.
وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن عبادتهم وغيرها. حَمِيدٌ يدل على حمده كل مخلوق.(5/217)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
[سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 8]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا الزعم ادعاء العلم ولذلك يتعدى إلى مفعولين وقد قام مقامهما أن بما في حيزه. قُلْ بَلى أي بلى تبعثون. وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ قسم أكد به الجواب. ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ بالمحاسبة والمجازاة. وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لقبول المادة وحصول القدرة التامة.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ محمد عليه الصلاة والسلام. وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا يعني القرآن فإنه بإعجازه ظاهر بنفسه مظهر لغيره مما فيه شرحه وبيانه. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فمجاز عليه.
[سورة التغابن (64) : الآيات 9 الى 10]
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ظرف لَتُنَبَّؤُنَّ أو مقدر باذكر، وقرأ يعقوب «نجمعكم» . لِيَوْمِ الْجَمْعِ لأجل ما فيه من الحساب والجزاء والجمع جمع الملائكة والثقلين. ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ يغبن فيه بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس، مستعار من تغابن التجار واللام فيه للدلالة على أن التغابن الحقيقي وهو التغابن في أمور الآخرة لعظمها ودوامها. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً أي عملاً صالحاً.
يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وقرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما.
ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الإشارة إلى مجموع الأمرين، ولذلك جعله الفوز العظيم لأنه جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ كأنها والآية المتقدمة بيان ل التَّغابُنِ وتفصيل له.
[سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 13]
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إلا بتقديره وإرادته. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ للثبات والاسترجاع عند حلولها، وقرئ «يَهْدِ قَلْبَهُ» بالرفع على إقامته مقام الفاعل وبالنصب على طريقة سَفِهَ نَفْسَهُ، و «يهدأ» بالهمزة أي يسكن. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ حتى القلوب وأحوالها.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فإن توليتم فلا بأس عليه إذ وظيفته التبليغ وقد بلغ.
اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك.
[سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 15]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ يشغلكم عن طاعة الله أو يخاصمكم في أمر(5/218)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
الدين أو الدنيا. فَاحْذَرُوهُمْ ولا تأمنوا غوائلهم. وَإِنْ تَعْفُوا عن ذنوبهم بترك المعاقبة. وَتَصْفَحُوا بالإِعراض وترك التثريب عليها. وَتَغْفِرُوا بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم.
َّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
اختبار لكم. اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
لمن آثر محبة الله وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي لهم.
[سورة التغابن (64) : الآيات 16 الى 18]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم. وَاسْمَعُوا مواعظه. وَأَطِيعُوا أوامره. وَأَنْفِقُوا في وجوه الخير خالصاً لوجهه. خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أي افعلوا ما هو خير لها، وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر، ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف تقديره: انفاقاً خيراً أو خبراً لكان مقدراً جواباً للأوامر. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ سبق تفسيره.
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ تصرفوا المال فيما أمره. قَرْضاً حَسَناً مقروناً بإخلاص وطيب قلب. يُضاعِفْهُ لَكُمْ. يجعل لكم بالواحد عشراً إلى سبعمائة وأكثر، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب «يضعفه لكم» .
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ببركة الإنفاق. وَاللَّهُ شَكُورٌ يعطي الجزيل بالقليل. حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لاَ يخفي عَلَيْهِ شَيْء. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تام القدرة والعلم.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة»
والله أعلم.(5/219)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
(65) سورة الطلاق
مدنية وآيها اثنتا عشرة أو إحدى عشرة آية
[سورة الطلاق (65) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ خص النداء وعم الخطاب بالحكم لأنه أمام أمته فنداؤه كندائهم، أو لأن الكلام معه والحكم يعمهم. والمعنى إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف له منزلة الشارع فيه.
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي في وقتها وهو الطهر، فإن اللام في الأزمان وما يشبهها للتأقيت، ومن عدة العدة بالحيض علق اللام بمحذوف مثل مستقبلات، وظاهره يدل على أن العدة بالأطهار وأن طلاق المعتدة بالأقراء ينبغي أن يكون في الطهر، وأنه يحرم في الحيض من حيث إن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ولا يدل على عدم وقوعه، إذ النهي لا يستلزم الفساد، كيف وقد صح أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما طلق امرأته حائضاً أمره النبي صلّى الله عليه وسلم بالرجعة وهو سبب نزوله. وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ واضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء.
وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ في تطويل العدة والإِضرار بهن. لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ من مساكنهن وقت الفراق حتى تنقضي عدتهن. وَلا يَخْرُجْنَ باستبدادهن أما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما، وفي الجمع بين النهيين دلالة على استحقاقها السكنى ولزومها ملازمة مسكن الفراق وقوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ مستثنى من الأول، والمعنى إلا أن تبذو على الزوج فإنه كالنشوز في إسقاط حقها، أو إلا أن تزني فتخرج لإِقامة الحد عليها، أو من الثاني للمبالغة في النهي والدلالة على أن خروجها فاحشة. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ الإشارة إلى الأحكام المذكورة. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بأن عرضها للعقاب. لا تَدْرِي أي النفس أو أنت أيها النبي أو المطلق. لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً وهو الرغبة في المطلقة برجعة أو استئناف.
[سورة الطلاق (65) : آية 2]
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ شارفن آخر عدتهن. فَأَمْسِكُوهُنَّ فراجعوهن. بِمَعْرُوفٍ بحسن عشرة وإنفاق مناسب، أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ بإيفاء الحق واتقاء الضرار مثل أن يراجعها ثم يطلقها تطويلاً لعدتها.
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ على الرجعة أو الفرقة تبرياً عن الريبة وقطعاً للتنازع، وهو ندب كقوله:
وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وعن الشافعي وجوبه في الرجعة. وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ أيها الشهود عند الحاجة. لِلَّهِ خالِصاً لوجهه. ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ يريد الحث على الإِشهاد والإِقامة، أو على جميع ما في الآية. مَنْ كانَ(5/220)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فإنه المنتفع به والمقصود بذكره. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً.
[سورة الطلاق (65) : آية 3]
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق بالوعد على الإِتقاء عما نهى عنه صريحاً أو ضمناً من الطلاق في الحيض، والإِضرار بالمعتدة وإخراجها من المسكن، وتعدي حدود الله وكتمان الشهادة وتوقع جعل على إقامتها بأن يجعل الله له مخرجاً مما في شأن الأزواج من المضايق والغموم، ويرزقه فرجاً وخلفاً من وجه لم يخطر بباله. أو بالوعد لعامة المتقين بالخلاص عن مضار الدارين والفوز بخيرهما من حيث لا يحتسبون. أو كلام جيء به للاستطراد عند ذكر المؤمنين.
وعنه صلّى الله عليه وسلم «إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم» .
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فما زال يقرؤها ويعيدها» .
وروي «أن سالم بن عوف بن مالك الأشجعي أسره العدو، فشكا أبوه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له «اتق الله وأكثر قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. ففعل فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإِبل غفل عنها العدو فاستاقها» .
وفي رواية «رجع ومعه غنيمات ومتاع» .
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ كَافية. إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ يبلغ ما يريده ولا يفوته مراد، وقرأ حفص بالإضافة، وقرئ «بالغ أَمْرِهِ» أي نافذ و «بالغا» على أنه حال والخبر: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً تقديراً أو مقدراً، أو أجلاً لا يتأتى تغييره، وهو بيان لوجوب التوكل وتقرير لما تقدم من تأقيت الطلاق بزمان العدة والأمر بإحصائها، وتمهيد لما سيأتي من مقاديرها.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ لكبرهن. إِنِ ارْتَبْتُمْ شككتم في عدتهن أي جهلتم.
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ
روي أنه لما نزل وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قيل فما عدة الَّلاتي لم يحضن فنزلت:
وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أي واللائي لم يحضن بعد كذلك. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ منتهى عدتهن. أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وهو حكم يعم المطلقات والمتوفى عنهم أزواجهن، والمحافظة على عمومه أولى من محافظة عموم قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً لأن عموم أولات الأحمال بالذات وعموم أزواجا بالعرض، والحكم معلل ها هنا بخلافه ثمة، ولأنه صح
أن سبيعة بنت الحرث وضعت بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال «قد حللت فتزوجي»
، ولأنه متأخر النزول فتقديمه في العمل تخصيص وتقديم الآخر بناء للعام على الخاص والأول راجح للوفاق عليه. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في أحكامه فيراعي حقوقها. يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً يسهل عليه أمره ويوفقه للخير.
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ إشارة إلى ما ذكر من الأحكام. أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في أحكامه فيراعي حقوقها. يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ فإن الحسنات يذهبن السيئات وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً بالمضاعفة.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)(5/221)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي مكانا من مكان سكناكم. مِنْ وُجْدِكُمْ من وسعكم أي مما تطيقونه، أو عطف بيان لقوله من حَيْثُ سَكَنْتُمْ. وَلا تُضآرُّوهُنَّ في السكنى. لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ فتلجئوهن إلى الخروج. وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فيخرجن من العدة، وهذا يدل على اختصاص استحقاق النفقة بالحامل من المعتدات والأحاديث تؤيده. فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ بعد انقطاع علقة النكاح. فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على الإِرْضَاع. وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وليأمر بعضكم بعضاً بجميل في الإِرضاع والأجر. وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ تضايقتم. فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى امرأة أخرى، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة.
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ أي فلينفق كل من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه. لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتاها فَإِنه تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وفيه تطييب لقلب المعسر ولذلك وعد له باليسر فقال: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي عاجلا أو آجلا.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 9]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أهل قرية. عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ أعرضت عنه إعراض العاتي المعاند.
فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً بالاستقصاء والمناقشة. وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً منكراً والمراد حساب الآخرة، وعذابها والتعبير بلفظ الماضي للتحقيق.
فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها عقوبة كفرها ومعاصيها. وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً لا ربح فيه أصلا.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 10 الى 11]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها في قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ ويجوز أن يكون المراد بالحساب استقصاء ذنوبهم وإثباتها في صحف الحفظة، وبالعذاب ما أصيبوا به عاجلا. الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً.
رَسُولًا يعني بالذكر جبريل عليه السلام لكثرة ذكره، أو لنزوله بالذكر وهو القرآن، أو لأنه مذكور في السموات أو ذا ذكر أي شرف، أو محمدا عليه الصلاة والسلام لمواظبته على تلاوة القرآن، أو تبليغه وعبر عن إرساله بالإِنزال ترشيحاً، أو لأنه مسبب عن إنزال الوحي إليه، وأبدل منه رَسُولًا للبيان أو أراد به القرآن، ورَسُولًا. منصوب بمقدر مثل أرسل أو ذكراً مصدر ورسولاً مفعوله أو بدله على أنه بمعنى الرسالة. يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ حال من اسم اللَّهِ أو صفة رَسُولًا، والمراد ب الَّذِينَ آمَنُوا في قوله: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الذين آمنوا بعد إنزاله أي ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإِيمان والعمل الصالح أو ليخرج من علم أو قدر أنه يؤمن مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من الضلالة إلى الهدى.
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وقرأ نافع وابن عامر ندخله بالنون. قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً فيه تعجيب وتعظيم لما رزقوا من الثواب.(5/222)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
[سورة الطلاق (65) : آية 12]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ مبتدأ وخبر. وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي وخلق مثلهن في العدد من الأرض، وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي يجري أمر الله وقضاؤه بينهن وينفذ حكمه فيهن. لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً علة ل خَلَقَ أو ل يَتَنَزَّلُ، أو مضمر يعمهما فإن كلا منهما يدل على كمال قدرته وعلمه.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم» .(5/223)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
(66) سورة التحريم
مدنية وآيها اثنتا عشرة آية
[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
روي أنه عليه الصلاة والسلام خلا بمارية في نوبة عائشة رضي الله تعالى عنها أو حفصة، فاطلعت على ذلك حفصة فعاتبته فيه فحرم مارية فنزلت.
وقيل شرب عسلاً عند حفصة، فواطأت عائشة سودة وصفية فقلن له إنا نشتمّ منك ريح المغافير فحرم العسل فنزلت.
تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ تفسير ل تُحَرِّمُ أو حال من فاعله أو استئناف لبيان الداعي إليه. وَاللَّهُ غَفُورٌ لك هذه الزلة فإنه لا يجوز تحريم ما أحله الله. رَحِيمٌ رحمك حيث لم يؤاخذك به وعاتبك محاماة على عصمتك.
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ قد شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقَّدتهُ بالكفارة، أو الاستثناء فيها بالمشيئة حتى لا تحنث من قولهم: حلل في يمينه إذا استثنى فيها، واحتج بها من رأى التحريم مطلقاً أو تحريم المرأة يميناً، وهو ضعيف إذ لا يلزم من وجوب كفارة اليمين فيه كونه يميناً مع احتمال أنه عليه الصلاة والسلام أتى بلفظ اليمن كما قيل وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ متولي أمركم وَهُوَ الْعَلِيمُ بما يصلحكم الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله وأحكامه.
[سورة التحريم (66) : الآيات 3 الى 4]
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ يعني حفصة حَدِيثاً تحريم مارية أو العسل أو أن الخلافة بعده لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي فلما أخبرت حفصة عائشة رضي الله تعالى عنهما بالحديث. وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ واطلع النبي عليه الصلاة والسلام على الحديث أي على إفشائه. عَرَّفَ بَعْضَهُ عرف الرسول صلّى الله عليه وسلم حفصة بعض ما فعلت. وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ عن أعلام بعض تكرماً أو جازاها على بعض بتطليقه إياها وتجاوز عن بعض، ويؤيده قراءة الكسائي بالتخفيف فإنه لا يحتمل هاهنا غيره لكن المشدد من باب إطلاق اسم المسبب على السبب والمخفف بالعكس، ويؤيد الأول قوله: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فإنه أوفق للإعلام.
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ خطاب لحفصة وعائشة على الالتفات للمبالغة في المعاتبة. فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب من مخالصة رسول الله عليه الصلاة والسلام بحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه. وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ وإن تتظاهرا عليه بما يسؤوه، وقرأ الكوفيون بالتخفيف.(5/224)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ فلن يعدم من يظاهره من الله والملائكة وصلحاء المؤمنين، فإن الله ناصره وجبريل رئيس الكروبيين قرينه، ومن صلح من المؤمنين أتباعه وأعوانه. وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ متظاهرون، وتخصيص جبريل لتعظيمه، والمراد بالصالح الجنس ولذلك عمم بالإِضافة وبقوله بعد ذلك تعظيم لمظاهرة الملائكة من جملة ما ينصره الله تعالى به.
[سورة التحريم (66) : آية 5]
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ على التغليب، أو تعميم الخطاب، وليس فيه ما يدل على أنه لم يطلق حفصة وأن في النساء خيراً منهن لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه، وقرأ نافع وأبو عمرو يُبْدِلَهُ بالتخفيف. مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ مقرات مخلصات أو منقادات مصدقات. قانِتاتٍ مصليات أو مواظبات على الطاعات. تائِباتٍ عن الذنوب. عابِداتٍ متعبدات أو متذللات لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام. سائِحاتٍ صائمات سمي الصائم سائحاً لأنه يسبح بالنهار بلا زاد، أو مهاجرات. ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً وسط العاطف بينهما لتنافيهما ولأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثيبات والأبكار.
[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ بترك المعاصي وفعل الطاعات. وَأَهْلِيكُمْ بالنصح والتأديب، وقرئ و «أهلوكم» عطف على واو قُوا، فيكون أَنْفُسَكُمْ أنفس القبيلين على تغليب المخاطبين. نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ناراً تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب. عَلَيْها مَلائِكَةٌ تلِي أمرها وهم الزبانية.
غِلاظٌ شِدادٌ غلاظ الأقوال شداد الأفعال، أو غلاظ الخلق شداد الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة. لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ فيما مضى. وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فيما يستقبل، أو لا يمتنعون عن قبول الأوامر والتزامها ويؤدون ما يؤمرون به.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار، والنهي عن الاعتذار لأنه لا عذر لهم أو العذر لا ينفعهم.
[سورة التحريم (66) : آية 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لاَّ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً بالغة في النصح وهو صفة التائب فإنه ينصح نفسه بالتوبة، وصفت به على الإسناد المجازي مبالغة أو في النصاحة، وهي الخياطة كأنها تنصح ما خرق الذنب.
وقرأ أبو بكر بضم النون وهو مصدر بمعنى النصح كالشكر والشكور، أو النصاحة كالثبات والثبوت تقديره ذات نصوح أو تنصح نصوحاً، أو توبوا نصوحاً لأنفسكم.
وسئل علي رضي الله تعالى عنه عن التوبة فقال:(5/225)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
يجمعها ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة، وللفرائض الإعادة، ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود، وأن تربي نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية.
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذكر بصيغة الأطماع جرياً على عادة الملوك، وإشعاراً بأنه تفضل والتوبة غير موجبة وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء. يَوْمَ لاَّ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ ظرف ل يُدْخِلَكُمْ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ عطف على النبي عليه الصلاة والسلام إحماداً لهم وتعريضاً لمن ناوأهم، وقيل مبتدأ خبره: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي على الصراط. يَقُولُونَ إذا طفئ نور المنافقين. رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وقيل تتفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم فيسألون إتمامه تفضلا.
[سورة التحريم (66) : الآيات 9 الى 10]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَالْمُنافِقِينَ بالحجة. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ واستعمل الخشونة فيما تجاهدهم به إذا بلغ الرفق مداه. وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ جهنم أو مأواهم.
وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ مَثَّلَ الله تعالى حالهم في أنهم يعاقبون بكفرهم ولا يحابون بما بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين من النسبة بحالهما. كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ يريد به تعظيم نوح ولوط عليهما السلام. فَخانَتاهُما بالنفاق. فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فلم يغن النبيان عنهما بحق الزواج شيئاً إغناء ما. وَقِيلَ أي لهما عند موتهما أو يوم القيامة.
ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام.
[سورة التحريم (66) : الآيات 11 الى 12]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ شبه حالهم في أن وصلة الكافرين لا تضرهم بحال آسية رضي الله عنها ومنزلتها عند الله مع أنها كانت تحت أعدى أعداء الله. إِذْ قالَتْ ظرف للمثل المحذوف.
رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ قريباً من رحمتك أو في أعلى درجات المقربين. وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ من نفسه الخبيثة وعمله السيئ. وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ من القبط التابعين له في الظلم.
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ عطف على امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ تسلية للأرامل. الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها من الرجال فَنَفَخْنا فِيهِ في فرجها، وقرئ «فيها» أي في مَرْيَمَ أو في الجملة. مِنْ رُوحِنا من روح خلقناه بلا توسط أصل. وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها بصحفه المنزلة أو بما أوحى إلى أنبيائه. وَكُتُبِهِ وَما كتب في اللوح المحفوظ، أو جنس الكتب المنزلة وتدل عليه قراءة البصريين وحفص بالجمع، وقرئ «بكلمة الله وكتابه» أي بعيسى عليه السلام والإِنجيل. وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ من عداد المواظبين على الطاعة، والتذكير للتغليب والإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين حتى عدت من جملتهم، أو من نسلهم فتكون مِنْ ابتدائية.(5/226)
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد. وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» .
وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحاً» .(5/227)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
(67) سورة الملك
مكية، وتسمى الواقية والمنجية لأنها تقي قارئها وتنجيه من عذاب القبر، وآيها ثلاثون آية
[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ بقبضة قدرته التصرف في الأمور كلها. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ على كل ما يشاء قدير.
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قدرهما أو أوجد الحياة وأزالها حسبما قدره، وقدم الموت لقوله: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ولأنه أدعى إلى حسن العمل. لِيَبْلُوَكُمْ ليعاملكم معاملة المختبر بالتكليف أيها المكلفون.
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أصوبه وأخلصه،
وجاء مرفوعاً: «أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعته»
، جملة واقعة موقع المفعول ثانياً لفعل البلوى المتضمن معنى العلم، وليس هذا من باب التعليق لأنه يخل به وقوع الجملة خبرا فلا يعلق الفعل عنها بخلاف ما إذا وقعت موقع المفعولين. وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل. الْغَفُورُ لمن تاب منهم.
[سورة الملك (67) : الآيات 3 الى 4]
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَّا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مطابقة بعضها فوق بعض مصدر طابقت النعل إذا خصفتها طبقاً على طبق وصف به، أو طوبقت طباقاً أو ذات طباق جمع طبق كجبل وجبال، أو طبقة كرحبة ورحاب. مَّا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ وقرأ حمزة والكسائي «من تفوت» ومعناهما واحد كالتعاهد والتعهد، وهو الاختلاف وعدم التناسب من الفوت كأن كلا من المتفاوتين فات عنه بعض ما في الآخر، والجملة صفة ثانية ل سَبْعَ وضع فيها خلق الرحمن موضع الضمير للتعظيم، والإِشعار بأنه تعالى يخلق مثل ذلك بقدرته الباهرة رحمة وتفضلاً، وأن في إبداعها نعماً جليلة لا تحصى، والخطاب فيها للرسول أو لكل مخاطب وقوله:
فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ متعلق به على معنى التسبب أي قد نظرت إليها مراراً فانظر إليها مرة أخرى متأملاً فيها لتعاين ما أخبرت به من تناسبها واستقامتها واستجماعها ما ينبغي لها، وال فُطُورٍ الشقوق والمراد الخلل من فطره إذا شقه.
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما في لبيك وسعديك، ولذلك أجاب الأمر بقوله: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً بعيداً عن إصابة المطلوب كأنه طرد عنه طرداً بالصغار وَهُوَ حَسِيرٌ كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة.(5/228)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
[سورة الملك (67) : آية 5]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أقرب السموات إلى الأرض. بِمَصابِيحَ بالكواكب المضيئة بالليل إضاءة السرج فيها، والتنكير للتعظيم ولا يمنع ذلك كون بعض الكواكب مركوزة في سموات فوقها إذ التزيين بإظهارها فيها. وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وجعلنا لها فائدة أخرى وهي رجم أعدائكم، والرجوم جمع رجم بالفتح وهو مصدر سمي به ما يرجم به بانقضاض الشهب المسببة عنها. وقيل معناه وجعلناها رجوماً وظنوناً لشياطين الإِنس وهم المنجمون. وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ في الآخرة بعد الإِحراق بالشهب في الدنيا.
[سورة الملك (67) : الآيات 6 الى 7]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ من الشياطين وغيرهم. عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وقرئ بالنصب على أن لِلَّذِينَ عطف على لَهُمْ وعَذابُ على عَذابَ السَّعِيرِ.
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً صوتاً كصوت الحمير. وَهِيَ تَفُورُ تغلي بهم غليان المرجل بما فيه.
[سورة الملك (67) : الآيات 8 الى 9]
تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ تتفرق غيظاً عليهم، وهو تمثيل لشدة اشتعالها بهم، ويجوز أن يراد غيظ الزبانية. كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ جماعة من الكفرة. سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ يخوفكم هذا العذاب وهو توبيخ وتبكيت.
قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ أي فكذبنا الرسل وأفرطنا في التكذيب حتى نفينا الإِنزال والإِرسال رأساً، وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال، فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل أو مصدر مقدر بمضاف أي أهل إنذار، أو منعوت به للمبالغة أو الواحد والخطاب له ولأمثاله على التغليب، أو إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل، أو على أن المعنى قالت الأفواج قد جاء إلى كل فوج منا رسول من الله فكذبناهم وضللناهم، ويجوز أن يكون الخطاب من كلام الزبانية للكفار على إرادة القول فيكون الضلال ما كانوا عليه في الدنيا، أو عقابه الذي يكونون فيه.
[سورة الملك (67) : الآيات 10 الى 11]
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتماداً على ما لاح من صدقهم بالمعجزات. أَوْ نَعْقِلُ فنتفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين. مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ في عدادهم ومن جملتهم.
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ حين لا ينفعهم، والاعتراف إقرار عن معرفة، والذنب لم يجمع لأنه في الأصل مصدر، أو المراد به الكفر. فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ فأسحقهم الله سحقاً أبعدهم من رحمته، والتغليب للإِيجاز والمبالغة والتعليل وقرأ الكسائي بالتثقيل.(5/229)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 13]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يخافون عذابه غائباً عنهم لم يعاينوه بعد، أو غائبين عنه أو عن أعين الناس، أو بالمخفي منهم وهو قلوبهم. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم. وَأَجْرٌ كَبِيرٌ تصغر دونه لذائذ الدنيا.
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بالضمائر قبل أن يعبر عنها سراً أو جهرا.
[سورة الملك (67) : الآيات 14 الى 15]
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ألا يعلم السر والجهر من أوجد الأشياء حسبما قدرته حكمته. وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن، أو ألا يعلم الله من خلقه، وهو بهذه المثابة والتقييد بهذه الحال يستدعي أن يكون ل يَعْلَمُ مفعول ليفيد،
روي: أن المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء، فيخبر الله بها رسوله فيقولون: أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فنبه الله على جهلهم.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا لينة يسهل لكم السلوك فيها. فَامْشُوا فِي مَناكِبِها في جوانبها أو جبالها، وهو مثل لفرط التذليل فإن منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب ولا يتذلل له، فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يبق شيء لم يتذلل. وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ والتمسوا من نعم الله. وَإِلَيْهِ النُّشُورُ المرجع فيسألكم عن شكر ما أنعم عليكم.
[سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 17]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ يعني الملائكة الموكلين على تدبير هذا العالم، أو الله تعالى على تأويل مَنْ فِي السَّماءِ أمره أو قضاؤه، أو على زعم العرب فإنهم زعموا أنه تعالى في السماء، وعن ابن كثير «وامنتم» بقلب الهمزة الأولى واواً لانضمام ما قبلها، «وآمنتم» بقلب الثانية ألفاً، وهو قراءة نافع وأبي عمرو ورويس.
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فيغيبكم فيها كما فعل بقارون وهو بدل من بدل الاشتمال. فَإِذا هِيَ تَمُورُ تضطرب، والمور التردد في المجيء والذهاب.
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أن يمطر عليكم حصباء. فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ كيف إنذاري إذا شاهدتم المنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ.
[سورة الملك (67) : الآيات 18 الى 19]
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري عليهم بإنزال العذاب، وهو تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم وتهديد لقومه المشركين.
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها، فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها. وَيَقْبِضْنَ ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن وقتاً بعد وقت للاستظهار به على التحريك، ولذلك عدل به إلى صيغة الفعل للتفرقة بين الأصل في الطيران والطارئ عليه. مَا يُمْسِكُهُنَّ في الجو على خلاف(5/230)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
الطبع. إِلَّا الرَّحْمنُ الشامل رحمته كل شيء بأن خلقهن على أشكال وخصائص هيأتهن للجري في الهواء.
إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ يعلم كيف يخلق الغرائب ويدبر العجائب.
[سورة الملك (67) : الآيات 20 الى 21]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ عديل لقوله أَوَلَمْ يَرَوْا على معنى أو لم تنظروا في أمثال هذه الصنائع، فلم تعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال حاصب، أم لكم جند ينصركم من دون الله إن أرسل عليكم عذابه فهو كقوله أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا إلا أنه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم إشعاراً بأنهم اعتقدوا هذا القسم، ومن مبتدأ وهذَا خبره والَّذِي بصلته صفته ويَنْصُرُكُمْ وصف ل جُنْدٌ محمول على لفظه. إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ لا معتمد لهم.
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ أم من يشار إليه ويقال هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ. إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بإمساك المطر وسائر الأسباب المخلصة والموصلة له إليكم. بَلْ لَجُّوا تمادوا. فِي عُتُوٍّ عناد. وَنُفُورٍ شراد عن الحق لتنفر طباعهم عنه.
[سورة الملك (67) : آية 22]
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى يقال كببته فأكب وهو من الغرائب كقشع الله السحاب فأقشع، والتحقيق أنهما من باب أنفض بمعنى صار ذا كب وذا قشع، وليسا مطاوعي كب وقشع بل المطاوع لهما أنكب وانقشع، ومعنى مُكِبًّا أنه يعثر كل ساعة ويخر على وجهه لوعورة طريقه واختلاف أجزائه، ولذلك قابله بقوله: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا قائماً سالماً من العثار. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مستوي الأجزاء والجهة، والمراد تمثيل المشرك والموحد بالسالكين والدينين بالمسلكين، ولعل الاكتفاء بما في الكب من الدلالة على حال المسلك للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمى طريقاً، كمشي المتعسف في مكان متعاد غير مستو. وقيل المراد بالمكب الأعمى فإنه يتعسف فينكب وبالسوي البصير، وقيل من يَمْشِي مُكِبًّا هو الذي يحشر على وجهه إلى النار ومن يَمْشِي سَوِيًّا الذي يحشر على قدميه إلى الجنة.
[سورة الملك (67) : الآيات 23 الى 24]
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتسمعوا المواعظ. وَالْأَبْصارَ لتنظروا صنائعه. وَالْأَفْئِدَةَ لتتفكروا وتعتبروا. قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ باستعمالها فيما خلقت لأجلها.
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء.
[سورة الملك (67) : الآيات 25 الى 27]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي الحشر أو ما وعدوا به من الخسف والحاصب. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعنون النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين.
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ أي علم وقته. عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع عليه غيره. وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ والإِنذار يكفي(5/231)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
فيه العلم بل الظن بوقوع المحذر منه.
فَلَمَّا رَأَوْهُ أي الوعد فإنه بمعنى الموعود. زُلْفَةً ذا زلفة أي قرب منهم. سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بأن علتها الكآبة وساءتها رؤية العذاب. وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ تطلبون وتستعجلون تفتعلون من الدعاء، أو تَدَّعُونَ أن لا بعث فهو من الدعوى.
[سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ أماتني. وَمَنْ مَعِيَ مِنَ المؤمنين. أَوْ رَحِمَنا بتأخير آجالنا. فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي لا ينجيهم أحد من العذاب متنا أو بقينا، وهو جواب لقولهم نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ.
قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ الذي أدعوكم إليه مولى النعم كلها. آمَنَّا بِهِ للعلم بذلك وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا للوثوق عليه والعلم بأن غيره بالذات لا يضر ولا ينفع، وتقديم الصلة للتخصيص والإِشعار به. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ منا ومنكم، وقرأ الكسائي بالياء.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً غائراً في الأرض بحيث لا تناله الدلاء مصدر وصف به. فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ جار أو ظاهر سهل المأخذ.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الملك فكأنما أحيا ليلة القدر» .(5/232)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
(68) سورة ن
مكية وآيها ثنتان وخمسون آية
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
ن من أسماء الحروف، وقيل اسم الحوت والمراد به الجنس أو البهموت وهو الذي عليه الأرض، أو الدواة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سواداً من النفس يكتب به، ويؤيد الأول سكونه وكتبه بصورة الحرف. وَالْقَلَمِ وهو الذي خط اللوح، أو الذي يخط به أقسم به تعالى لكثرة فوائده وأخفى ابن عامر والكسائي ويعقوب النون إجراء للواو المنفصل مجرى المتصل، فإن النون الساكنة تخفى مع حروف الفم إذا اتصلت بها. وقد روي ذلك عن نافع وعاصم، وقرئت بالفتح والكسر ك ص. وَما يَسْطُرُونَ وما يكتبون والضمير ل الْقَلَمِ بالمعنى الأول على التعظيم، أو بالمعنى الثاني على إرادة الجنس وإسناد الفعل إلى الأدلة وإجراؤه مجرى أولي العلم لإِقامته مقامهم، أو لأصحابه أو للحفظة وما مصدرية أو موصولة.
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ جواب القسم والمعنى ما أنت بمجنون منعماً عليك بالنبوة وحصافة الرأي، والعامل في الحال معنى النفي وقيل بِمَجْنُونٍ الباء لا تمنع عمله فيما قبله لأنها مزيدة، وفيه نظر من حيث المعنى.
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً على الاحتمال والإبلاغ. غَيْرَ مَمْنُونٍ مقطوع أو ممنون به عليك من الناس فإنه تعالى يعطيك بلا توسط.
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ إذ تتحمل من قومك ما لا يتحمل أمثالك،
وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن خلقه صلّى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ.
[سورة القلم (68) : الآيات 5 الى 7]
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أيكم الذي فتن بالجنون والباء مزيدة، أو بأيكم الجنون على أن المفتون مصدر كالمعقول والمجلود، أو بأي الفريقين منكم المجنون أبفريق المؤمنين أو بفريق الكافرين، أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وهم المجانين على الحقيقة. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الفائزين بكمال العقل.
[سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 9]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
.(5/233)
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ تهييج للتصميم على معاصاتهم.
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ تلاينهم بأن تدع نهيهم عن الشرك، أو توافقهم فيه أحياناً. فَيُدْهِنُونَ فيلاينونك بترك الطعن والموافقة، والفاء للعطف أي ودوا التداهن وتمنوه لكنهم أخروا ادهانهم حتى تدهن، أو للسببية أي وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فهم يدهنون حينئذ، أو ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون طمعاً فيه، وفي بعض المصاحف «فيدهنوا» على أنه جواب التمني.
[سورة القلم (68) : الآيات 10 الى 13]
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف في الحق والباطل. مَهِينٍ حقير الرأي من المهانة وهي الحقارة.
هَمَّازٍ عياب. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ نقال للحديث على وجه السعاية. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ يمنع الناس عن الخير من الإِيمان والإِيقان والعمل الصالح. مُعْتَدٍ متجاوز في الظلم. أَثِيمٍ كثير الآثام.
عُتُلٍّ جافٍ غليظ من عتله إذا قاده بعنف وغلظة. بَعْدَ ذلِكَ بعد ما عد من مثالبه. زَنِيمٍ دعي مأخوذ من زنمتي الشاة وهما المتدليتان من أذنها وحلقها، قيل هو الوليد بن المغيرة ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده. وقيل الأخنس بن شريق أصله من ثقيف وعداده في زهرة.
[سورة القلم (68) : الآيات 14 الى 16]
أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قال ذلك حينئذ لأنه كان متمولاً مستظهراً بالبنين من فرط غروره، لكن العامل مدلول قال لانفسه، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ويجوز أن يكون علة ل لاَ تُطِعْ أي لا تطع من هذه مثاله لأن كان ذا مال. وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وأبو بكر «أن كان» على الاستفهام، غير أن ابن عامر جعل الهمزة الثانية بين بين أي «الأن كان ذا مال» كذب، أو أتطيعه لأن كان ذا مال. وقرئ «أن كان» بالكسر على أن شرط الغنى في النهي عن الطاعة كالتعليل بالفقر في النهي عن قتل الأولاد، أو «أن» شرطه للمخاطب أي لا تطعه شارطاً يساره لأنه إذا أطاع للغني فكأنه شرطه في الطاعة.
سَنَسِمُهُ بالكي. عَلَى الْخُرْطُومِ على الأنف وقد أصاب أنف الوليد جراحة يوم بدر فبقي أثره، وقيل هو عبارة عن أن يذله غاية الإِذلال كقولهم: جدع أنفه، رغم أنفه، لأن السمة على الوجه سيما على الأنف شين ظاهر، أو نسود وجهه يوم القيامة.
[سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18)
إِنَّا بَلَوْناهُمْ بلونا أهل مكة- شرفها الله تعالى- بالقحط. كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ يريد البستان الذي كان دون صنعاء بفرسخين، وكان لرجل صالح وكان ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأه المنجل وألقته الريح، أو بعد من البساط الذي يبسط تحت النخلة فيجتمع لهم شيء كثير، فلما مات قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعله أبونا ضاق علينا الأمر، فحلفوا لَيَصْرِمُنَّها وقت الصباح خفية عن المساكين كما قال:
إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ ليقطعنها داخلين في الصباح.
وَلا يَسْتَثْنُونَ ولا يقولون إن شاء الله، وإنما سماه استثناء لما فيه من الإِخراج غير أن المخرج به(5/234)
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)
خلاف المذكور والمخرج بالاستثناء عينه، أو لأن معنى لا أخرج إن شاء الله ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد، أو وَلا يَسْتَثْنُونَ حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم.
[سورة القلم (68) : الآيات 19 الى 22]
فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22)
فَطافَ عَلَيْها على الجنة. طائِفٌ بلاء طائف. مِنْ رَبِّكَ مبتدأ منه. وَهُمْ نائِمُونَ.
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالبستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء. فعيل بمعنى مفعول، أو كالليل باحتراقها واسودادها، أو كالنهار بابيضاضها من فرط اليبس سميا بالصريم لأن كلا منهما ينصرم عن صاحبه أو كالرمل.
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ أن أخرجوا أو بأن أخرجوا إليه غدوة، وتعدية الفعل بعلى إما لتضمنه معنى الاقبال أو لتشبيه الغدو للصرام بغدو العدو المتضمن لمعنى الاستيلاء. إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ قاطعين له.
[سورة القلم (68) : الآيات 23 الى 25]
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25)
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ يتشاورون فيما بينهم وخفى وخفت وخفد بمعنى الكتم، ومنه الخفدود للخفاش.
أَنْ لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أَنْ مفسرة وقرئ بطرحها على إضمار القول، والمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه من الدخول كقولهم: لا أرينك ها هنا.
وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ وغدوا قادرين على نكد لا غير، من حاردت السنة إذا لم يكن فيها مطر، وحاردت الإِبل إذا منعت درها. والمعنى أنهم عزموا أن يتنكدوا على المساكين فتنكد عليهم بحيث لا يقدرون إلا على النكد، أو غدوا حاصلين على النكد والحرمان مكان كونهم قادرين على الانتفاع. وقيل الحرد بمعنى الحرد وقد قرئ به أي لم يقدروا إلا على حنق بعضهم لبعض كقوله: يَتَلاوَمُونَ وقيل الحرد القصد والسرعة قال:
أَقْبَلَ سَيْلُ جَاءَ مِنْ أَمْر ... الله يَحْرُدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغلَّة
أي غدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وقيل علم للجنة.
[سورة القلم (68) : الآيات 26 الى 29]
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29)
فَلَمَّا رَأَوْها أول ما رأوها. قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ طريق جنتنا وما هي بها.
بَلْ نَحْنُ أي بعد ما تأملوه وعرفوا أنها هي قالوا بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا.
قالَ أَوْسَطُهُمْ رأياً، أو سناً. أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ لولا تذكرونه وتتوبون إليه من خبث نيتكم، وقد قاله حينما عزموا على ذلك ويدل على هذا المعنى.
قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي لولا تستثنون فسمي الاستثناء تسبيحاً لتشاركهما في التعظيم، أو لأنه تنزيه على أن يجري في ملكه ما لا يريده.(5/235)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
[سورة القلم (68) : الآيات 30 الى 33]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضاً فإن منهم من أشار بذلك ومنهم من استصوبه، ومنهم من سكت راضياً، ومنهم من أنكره.
قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ متجاوزين حدود الله تعالى.
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة. وقد روي أنهم أبدلوا خيرا منها وقرئ يُبْدِلَنا بالتخفيف. إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ راجون العفو طالبون الخير وإِلى لانتهاء الرغبة، أو لتضمنها معنى الرجوع.
كَذلِكَ الْعَذابُ مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة العذاب في الدنيا.
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أعظم منه. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لاحترزوا عما يؤديهم إلى العذاب.
[سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 36]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في الآخرة، أو في جوار القدس. جَنَّاتِ النَّعِيمِ جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص.
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ إنكار لقول الكفرة، فإنهم كانوا يقولون: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يفضلونا بل نكون أحسن حالاً منهم كما نحن عليه في الدنيا.
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ التفات فيه تعجب من حكمهم واستبعاد له، وإشعار بأنه صادر من اختلال فكر واعوجاج رأي.
[سورة القلم (68) : الآيات 37 الى 39]
أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39)
أَمْ لَكُمْ كِتابٌ من السماء. فِيهِ تَدْرُسُونَ تقرؤون.
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ إن لكم ما تختارونه وتشتهونه، وأصله «أن لكم» بالفتح لأنه المدروس فلما جيء باللام كسرت، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس أو استئنافاً وتخير الشيء واختاره أخذ خيره.
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا عهود مؤكدة بالإِيمان. بالِغَةٌ متناهية في التوكيد، وقرئت بالنصب على الحال والعامل فيها أحد الظرفين. إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق بالمقدر في لَكُمْ أي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها حتى نحكمكم في ذلك اليوم، أو ب بالِغَةٌ أي أيمان تبلغ ذلك اليوم. إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ جواب القسم لأن معنى أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا أم أقسمنا لكم.
[سورة القلم (68) : الآيات 40 الى 41]
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41)
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ بذلك الحكم قائم يدعيه ويصححه.
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يشاركونهم في هذا القول. فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم إذ لا أقل من التقليد، وقد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل يدل عليه الاستحقاق أو وعد أو محض تقليد، على الترتيب تنبيهاً على مراتب النظر وتزييفاً لما لا سند(5/236)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
له. وقيل المعنى أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يعني الأصنام يجعلونهم مثل المؤمنين في الآخرة كأنه لما نفى أن تكون التسوية من الله تعالى نفى بهذا أن تكون مما يشاركون الله به.
[سورة القلم (68) : الآيات 42 الى 43]
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ يوم يشتد الأمر ويصعب الخطب وكشف الساق مثل في ذلك، وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب. قال حاتم.
أَخو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ بِهِ الحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإِنْ شَمَرَتْ عَنْ سَاقِهَا الحَرْبُ شَمَّرَا
أو يوم يكشف عن أصل الأمر وحقيقته بحيث يصير عياناً مستعار من ساق الشجر وساق الإِنسان، وتنكيره للتهويل أو للتعظيم. وقرئ «تكشف» و «تكشف» بالتاء على بناء الفاعل أو المفعول والفعل للساعة أو الحال. وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ توبيخاً على تركهم السجود إن كان اليوم يوم القيامة، أو يدعون إلى الصلوات لأوقاتها إن كان وقت النزع. فَلا يَسْتَطِيعُونَ لذهاب وقته أو زوال القدرة عليه.
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ تلحقهم ذلة. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ في الدنيا أو زمان الصحة. وَهُمْ سالِمُونَ متمكنون منه مزاحو العلل فيه.
[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 47]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ كله إِليَّ فإني أكفيكه. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سندنيهم من العذاب درجة درجة بالإِمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة. مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ أنه استدراج وهو الإِنعام عليهم لأنهم حسبوه تفضيلاً لهم على المؤمنين.
وَأُمْلِي لَهُمْ وأمهلهم. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ لا يدفع بشيء، وإنما سمي إنعامه استدراجاً بالكيد لأنه في صورته.
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً على الإِرشاد. فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ من غرامة. مُثْقَلُونَ بحملها فيعرضون عنك.
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ اللوح أو المغيبات. فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه ما يحكمون به ويستغنون به عن علمك.
[سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 50]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم. وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ يونس عليه السلام. إِذْ نادى في بطن الحوت. وَهُوَ مَكْظُومٌ مملوء غيظا من الضجرة فتبتلي ببلائه.
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعني التوفيق للتوبة وقبولها وحسن تذكير الفعل للفصل، وقرئ «تداركته» و «تداركه» أي تتداركه على حكاية الحال الماضية بمعنى لولا أن كان يقال فيه تتداركه. لَنُبِذَ بِالْعَراءِ بالأرض الخالية عن الأشجار. وَهُوَ مَذْمُومٌ مليم مطرود عن الرحمة والكرامة. وهو حال يعتمد عليها الجواب لأنها المنفية دون النبذ.
فَاجْتَباهُ رَبُّهُ بأن رد الوحي إليه، أو استنبأه إن صح أنه لم يكن نبياً قبل هذه الواقعة. فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ من الكاملين في الصلاح بأن عصمه من أن يفعل ما تركه أولى، وفيه دليل على خلق الأفعال(5/237)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
والآية نزلت حين هم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يدعو على ثقيف، وقيل بأحد حين حل به ما حل فأراد أن يدعو على المنهزمين.
[سورة القلم (68) : الآيات 51 الى 52]
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ إِنْ هي المخففة واللام دليلها والمعنى: إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزراً بحيث يكادون يزلون قدمك، أو يهلكونك من قولهم نظر إليَّ نظراً يكاد يصرعني، أي لو أمكنه بنظره الصرع لفعله، أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين. إذ
روي أنه كان في بني أسد عيانون، فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزلت.
وفي الحديث «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر»
ولعله يكون من خصائص بعض النفوس. وقرأ نافع لَيُزْلِقُونَكَ من زلقته فزلق كحزنته فحزن، وقرئ «ليزهقونك» أي ليهلكونك. لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أي القرآن أي ينبعث عند سماعه بغضهم وحسدهم.
وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ حيرة في أمره وتنفيراً عنه.
وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لما جننوه لأجل القرآن بين أنه ذكر عام لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلاً وأميزهم رأياً.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم» .(5/238)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
(69) سورة الحاقة
مكية، وآيها اثنتان وخمسون آية
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
الْحَاقَّةُ أي الساعة أو الحالة التي يحق وقوعها، أو التي تحق فيها الأمور أي تعرف حقيقتها، أو تقع فيها حواق الأمور من الحساب والجزاء على الإِسناد المجازي، وهي مبتدأ خبرها:
مَا الْحَاقَّةُ وأصله ما هي أي: أي شيء هي على التعظيم لشأنها والتهويل لها، فوضع الظاهر موضع الضمير لأنه أهول لها.
وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ وأي شيء أعلمك ما هي، أي أنك لا تعلم كنهها فإنها أعظم من أن تبلغها دراية أحد، وما مبتدأ وأَدْراكَ خبره.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 4 الى 8]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ بالحالة التي تقرع فيها الناس بالإِفزاع والأجرام بالانفطار والانتشار، وإنما وضعت موضع ضمير الْحَاقَّةُ زيادة في وصف شدتها.
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة وهي الصيحة، أو الرجفة لتكذيبهم بِالْقارِعَةِ، أو بسبب طغيانهم بالتكذيب وغيره على أنها مصدر كالعاقبة وهو لا يطابق قوله:
وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي شديدة الصوت أو البرد من الصر أو الصر. عاتِيَةٍ شديدة العصف كأنها عتت على خزانها فلم يستطيعوا ضبطها، أو على عادٌ فلم يقدروا على ردها.
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سلطها عليهم بقدرته، وهو استئناف أو صفة جيء به لنفي ما يتوهم من أنها كانت من اتصالات فلكية، إذ لو كانت لكان هو المقدر لها والمسبب. سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً متتابعات جمع حاسم من حسمت الدابة إذا تابعت بين كيها، أو نحسات حسمت كل خير واستأصلته، أو قاطعات قطعت دابرهم، ويجوز أن يكون مصدراً منتصباً على العلة بمعنى قطعاً، أو المصدر لفعله المقدر حالاً أي تحسمهم حُسُوماً ويؤيده القراءة بالفتح، وهي كانت أيام العجوز من صبيحة أربعاء إلى غروب الأربعاء الآخر، وإنما سميت عجوزاً لأنها عجز الشتاء، أو لأن عجوزاً من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في الثامن فأهلكتها. فَتَرَى الْقَوْمَ إن كنت حاضرهم فِيها في مهابها أو في الليالي والأيام. صَرْعى موتى جمع صريع. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ أصول نخل. خاوِيَةٍ متأكلة الأجواف.
فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ من بقية أو نفس باقية، أو بقاء.(5/239)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
[سورة الحاقة (69) : الآيات 9 الى 12]
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ومن تقدمه، وقرأ البصريان والكسائي وَمَنْ قَبْلَهُ أي ومن عنده من أتباعهِ، ويدل عليه أنه قرئ «ومن معه» . وَالْمُؤْتَفِكاتُ قرى قوم لوط والمراد أهلها. بِالْخاطِئَةِ بالخطأ أو بالفعلة، أو الأفعال ذات الخطأ.
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أي فعصت كل أمة رسولها. فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً زائدة في الشدة زيادة أعمالهم في القبح.
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ جاوز حده المعتاد، أو طغى على خزانه وذلك في الطوفان وهو يؤيد من قبله.
حَمَلْناكُمْ أي آباءكم وأنتم في أصلابهم. فِي الْجارِيَةِ في سفينة نوح عليه الصلاة والسلام.
لِنَجْعَلَها لَكُمْ
لنجعل الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين. تَذْكِرَةً
عبرة ودلالة على قدرة الصانع وحكمته وكمال قهره ورحمته. وَتَعِيَها
وتحفظها، وعن ابن كثير تَعِيَها
بسكون العين تشبيهاً بكتف، والوعي أن تحفظ الشيء في نفسك والإِيعاء أن تحفظه في غيرك. أُذُنٌ واعِيَةٌ
من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه والعمل بموجبه، والتنكير للدلالة على قلتها وأن من هذا شأنه مع قلته تسبب لانجاء الجم الغفير وإدامة نسلهم. وقرأ نافع أُذُنٌ
بالتخفيف.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 15]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15)
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ لما بالغ في تهويل القيامة وذكر مآل المكذبين بها تفخيماً لشأنها وتنبيهاً على مكانها عاد إلى شرحها، وإنما حسن إسناد الفعل إلى المصدر لتقيده وحسن تذكيره للفصل، وقرئ «نَفْخَةً» بالنصب على إسناد الفعل إلى الجار والمجرور والمراد بها النفخة الأولى التي عندها خراب العالم.
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ رفعت من أماكنها بمجرد القدرة الكاملة، أو بتوسط زلزلة أو ريح عاصفة.
فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فضربت الجملتان بعضها ببعض ضربة واحدة فيصير الكل هباء، أو فبسطتا بسطة واحدة فصارتا أرضاً لا عوج فيها ولا أمتا لأن الدك سبب للتسوية، ولذلك قيل ناقة دكاء للتي لا سنام لها، وأرض دكاء للمتسعة المستوية.
فَيَوْمَئِذٍ فحينئذ. وَقَعَتِ الْواقِعَةُ قامت القيامة.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 16 الى 17]
وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
وَانْشَقَّتِ السَّماءُ لنزول الملائكة. فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ضعيفة مسترخية.
وَالْمَلَكُ والجنس المتعارف بالملك. عَلى أَرْجائِها جوانبها جمع رجا بالقصر، ولعله تمثيل لخراب السماء بخراب البنيان وانضواء أهلها إلى أطرافها وحواليها، وإن كان على ظاهره فلعل هلاك الملائكة أثر ذلك. وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء، أو فوق الثمانية لأنها في نية التقديم. يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ثمانية أملاك، لما
روي مرفوعاً «أنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله(5/240)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
بأربعة آخرين» .
وقيل ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله، ولعله أيضاً تمثيل لعظمته بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العام وعلى هذا قال:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 18 الى 20]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ تشبيهاً للمحاسبة بعرض السلطان العسكر لتعرف أحوالهم، وهذا وإن كان بعد النفخة الثانية لكن لما كان اليوم اسماً لزمان متسع تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والحساب وإدخال أهل الجنة الجنة وأهل النار النار صح جعله ظرفاً للكل. لاَ تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ سريرة على الله تعالى حتى يكون العرض للاطلاع عليها، وإنما المراد منه إفشاء الحال والمبالغة في العدل، أو على الناس كما قال الله تعالى:
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ وقرأ حمزة والكسائي بالياء للفصل.
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ تفصيل للعرض. فَيَقُولُ تبجحاً. هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ هاء اسم لخذ، وفيه لغات أجودها هاء يا رجل وهاء يا امرأة وهاؤما يا رجلان أو امرأتان، وهاؤم يا رجال وهاؤن يا نسوة، ومفعوله محذوف وكِتابِيَهْ مفعول اقْرَؤُا لأنه أقرب العاملين، ولأنه لو كان مفعول هاؤُمُ لقيل اقرءوه إذ الأولى اضماره حيث أمكن، والهاء فيه وفي حِسابِيَهْ ومالِيَهْ وسُلْطانِيَهْ للسكت تثبت في الوقف وتسقط في الوصل واستحب الوقف لثباتها في الإِمام ولذلك قرئ بإثباتها في الوصل.
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي علمت، ولعله عبر عنه بالظن إشعاراً بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالبا.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 21 الى 24]
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ذات رضا على النسبة بالصيغة. أو جعل الفعل لها مجازاً وذلك لكونها صافية عن الشوائب دائمة مقرونة بالتعظيم.
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ مرتفعة المكان لأنها في السماء، أو الدرجات أو الأبنية والأشجار.
قُطُوفُها جمع قطف وهو ما يجتنى بسرعة والقطف بالفتح المصدر. دانِيَةٌ يتناولها القاعد.
كُلُوا وَاشْرَبُوا بإضمار القول وجمع الضمير للمعنى. هَنِيئاً أكلاً وشرباً هَنِيئاً أو هنئتم هَنِيئاً. بِما أَسْلَفْتُمْ بما قدمتم من الأعمال الصالحة. فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ الماضية من أيام الدنيا.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 25 الى 29]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (26) يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ لما يرى من قبح العمل وسوء العاقبة. يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ.
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ يَا لَيْتَها يا ليت الموتة التي متها. كانَتِ الْقاضِيَةَ القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها، أو يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت علي لأنه صادفها أمر من الموت فتمناه عندها، أو يا ليت حياة الدنيا كانت الموتة ولم أخلق فيها حياً.
مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ مالي من المال والتبع وما نفى والمفعول محذوف، أو استفهام إنكار مفعول لأغنى.(5/241)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ملكي وتسلطي على الناس، أو حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا، وقرأ حمزة «عني مالي عني سلطاني» بحذف الهاءين في الوصل والباقون بإثباتها في الحالين.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 30 الى 32]
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32)
خُذُوهُ يقوله الله تعالى لخزنة النار. فَغُلُّوهُ.
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثم لا تصلوه إلا الجحيم، وهي النار العظمى لأنه كان يتعظم على الناس.
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً أي طويلة. فَاسْلُكُوهُ فأدخلوه فيها بأن تلقوها على جسده وهو فيما بينها مرهق لا يقدر على حركة، وتقديم ال سِلْسِلَةٍ كتقديم الْجَحِيمَ للدلالة على التخصيص والاهتمام بذكر أنواع ما يعذب به، وثُمَّ لتفاوت ما بينها في الشدة.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 33 الى 37]
إِنَّهُ كانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)
إِنَّهُ كانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ تعليل على طريقة الاستئناف للمبالغة، وذكر الْعَظِيمِ للإشعار بأنه هو المستحق للعظمة فمن تعظم فيها استوجب ذلك.
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ولا يحث على بذل طعامه أو على إطعامه فضلاً عن أن يبذل من ماله، ويجوز أن يكون ذكر الحض للإِشعار بأن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل. وفيه دليل على تكليف الكفار بالفروع، ولعل تخصيص الأمرين بالذكر لأن أقبح العقائد الكفر بالله تعالى وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب.
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ قريب يحميه.
وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ غسالة أهل النار وصديدهم فعلين من الغسل.
لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أصحاب الخطايا من خطئ الرجل إذا تعمد الذنب لا من الخطأ المضاد للصواب، وقرئ «الخاطيون» بقلب الهمزة ياء و «الخاطون» بطرحها.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 40]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لاَ تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
فَلا أُقْسِمُ لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم، أو ف أُقْسِمُ ولا مزيدة أو فلا رد لإنكارهم البعث وأُقْسِمُ مستأنف. بِما تُبْصِرُونَ وَما لاَ تُبْصِرُونَ بالمشاهدات والمغيبات وذلك يتناول الخالق والمخلوقات بأسرها.
إِنَّهُ إن القرآن. لَقَوْلُ رَسُولٍ يبلغه عن الله تعالى فإن الرسول لا يقول عن نفسه. كَرِيمٍ على الله تعالى وهو محمد أو جبريل عليهما الصلاة والسلام.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 41 الى 43]
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ كما تزعمون تارة. قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ تصدقون لما ظهر لكم صدقه تصديقاً قليلاً لفرط عنادكم.
وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ كما تدعون أخرى. قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ تذكرون تذكراً قليلاً، فلذلك يلتبس الأمر(5/242)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
عليكم وذكر الإِيمان مع نفي الشاعرية والتذكر مع نفي الكاهنية، لأن عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند بخلاف مباينته للكهانة، فإنها تتوقف على تذكر أحوال الرسول ومعاني القرآن المنافية لطريقة الكهنة ومعاني أقوالهم. وقرأ ابن كثير ويعقوب بالياء فيهما.
تَنْزِيلٌ هو تنزيل. مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ نزله على لسان جبريل عليه السلام.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 44 الى 47]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ سمي الافتراء تقولاً لأنه قول متكلف والأقوال المفتراة أقاويل تحقيراً لها كأنه جمع أفعولة من القول كالأضاحيك.
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ بيمينه.
ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ أي نياط قلبه بضرب عنقه، وهو تصوير لإِهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه، وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب به جيده، وقيل اليمين بمعنى القوة.
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ عن القتل أو المقتول. حاجِزِينَ دافعين وصف لأحد فإنه عام والخطاب للناس.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 48 الى 52]
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
وَإِنَّهُ وإن القرآن. لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ لأنهم المنتفعون به.
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ فنجازيهم على تكذيبهم.
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ إذا رأوا ثواب المؤمنين به.
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ لليقين الذي لا ريب فيه.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فسبح الله بذكر اسمه العظيم تنزيهاً له عن الرضا بالتقول عليه وشكراً على ما أوحى إليك.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله تعالى حساباً يسيرا» .(5/243)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)
(70) سورة المعارج
مكية وآيها أربع وأربعون آية
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2)
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ أي دعا داع به بمعنى استدعاه ولذلك عدى الفعل بالباء والسائل هو النضر ابن الحرث فإنه قال إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ الآية أو أبو جهل فإنه قال فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ساله استهزاء أو الرسول عليه الصلاة والسلام استعجل بعذابهم وقرأ نافع وابن عامر سَأَلَ وهو إما من السؤال على لغة قريش قال:
سالت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
أو من السيلان ويؤيده أنه قرئ «سال سيل» على أن السيل مصدر بمعنى السائل كالغور والمعنى سال واد بعذاب ومضى الفعل لتحقق وقوعه إما في الدنيا وهو قتل بدر أو في الآخرة وهو عذاب النار.
لِلْكافِرينَ صفة أخرى لعذاب أو صلة ل واقِعٍ وإن صح أن السؤال كان عمن يقع به العذاب كان جواباً والباء على هذا لتضمن سَأَلَ معنى اهتم. لَيْسَ لَهُ دافِعٌ يرده.
[سورة المعارج (70) : الآيات 3 الى 4]
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
مِنَ اللَّهِ من جهته لتعلق إرادته ذِي الْمَعارِجِ ذي المصاعد وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح أو يترقى فيها المؤمنون في سلوكهم أو في دار ثوابهم أو مراتب الملائكة أو في السموات فإن الملائكة يعرجون فيها.
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ استئناف لبيان ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها على التمثيل والتخيل والمعنى أنها بحيث لو قدر قطعها في زمان لكان في زمان يقدر بخمسين ألف سنة من سني الدنيا وقيل معناه تعرج الملائكة والروح إلى عرشه فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خمسين ألف سنة من حيث إنهم يقطعون فيه ما يقطع الإنسان فيها لو فرض لا أن ما بين أسفل العالم وأعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة لأن ما بين مركز الأرض ومقعر السماء الدنيا على ما قيل مسيرة خمسمائة عام وثخن كل واحدة من السموات السبع والكرسي والعرش كذلك وحيث قال فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ يريد زمان عروجهم من الأرض إلى محدب السماء الدنيا وقيل فِي يَوْمٍ متعلق ب واقِعٍ أو سَأَلَ إذا جعل من السيلان والمراد به يوم القيامة واستطالته إما لشدته على الكفار أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات أو لأنه على الحقيقة كذلك والروح جبريل عليه السلام وإفراده لفضله أو خلق أعظم من الملائكة.
[سورة المعارج (70) : الآيات 5 الى 9]
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)(5/244)
وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا لا يشوبه استعجال واضطراب قلب وهو متعلق ب سَأَلَ لأن السؤال كان عن استهزاء أو تعنت وذلك مما يضجره أو عن تضجر واستبطاء للنصر أو ب سَأَلَ لأن المعنى قرب وقوع العذاب فَاصْبِرْ فقد شارفت الانتقام.
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ الضمير للعذاب أو يوم القيامة بَعِيداً من الإِمكان.
وَنَراهُ قَرِيباً منه أو من الوقوع.
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ظرف ل قَرِيباً أي يمكن يَوْمَ تَكُونُ أو لمضمر دل عليه واقِعٍ أو بدل من فِي يَوْمٍ إن علق به والمهل المذاب في «مهل» كالفلزات أو دردي الزيت.
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف المصبوغ ألواناً لأن الجبال مختلفة الألوان فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح.
[سورة المعارج (70) : الآيات 10 الى 14]
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ولا يسأل قريب قريباً عن حاله وعن ابن كثير وَلا يَسْئَلُ على بناء المفعول أي لا يطلب من حميم حميم أو لا يسأل منه حاله.
يُبَصَّرُونَهُمْ استئناف أو حال تدل على أن المانع من هذا السؤال هو التشاغل دون الخفاء أو ما يغني عنه من مشاهدة الحال كبياض الوجه وسواده وجمع الضميرين لعموم الحميم. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ حال من أحد الضميرين أو استئناف يدل على أن اشتغال كل مجرم بنفسه بحيث يتمنى أن يفتدي بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه فضلاً أن يهتم بحاله ويسأل عنها وقرأ نافع والكسائي بفتح ميم يَوْمِئِذٍ وقرئ بتنوين عَذابِ ونصب يَوْمِئِذٍ به لأنه بمعنى تعذيب.
وَفَصِيلَتِهِ وعشيرته الذين فصل عنهم الَّتِي تُؤْوِيهِ تضمه في النسب أو عند الشدائد.
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين أو الخلائق ثُمَّ يُنْجِيهِ عطف على يَفْتَدِي أي ثم ينجيه الافتداء وثُمَّ للاستبعاد.
[سورة المعارج (70) : الآيات 15 الى 18]
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
كَلَّا ردع للمجرم عن الودادة ودلالة على أن الافتداء لا ينجيه إِنَّها الضمير للنار أو مبهم يفسره لَظى وهو خبر أو بدل أو للقصة ولَظى مبتدأ خبره.
نَزَّاعَةً لِلشَّوى وهو اللهب الخالص وقيل علم للنار منقول من اللظى بمعنى اللهب وقرأ حفص عن عاصم نَزَّاعَةً بالنصب على الاختصاص أو الحال المؤكدة أو المتنقلة على أن لَظى بمعنى متلظية والشوى الأطراف أو جمع شواة وهي جلدة الرأس.
تَدْعُوا تجذب وتحضر كقول ذي الرمة:
تدعو أنفه الريب.
مجاز عن جذبها وإحضارها لمن فرَّ عنها وقيل تدعو زبانيتها وقيل تدعو تهلك من قولهم دعاه الله إذا أهلكه مَنْ أَدْبَرَ عن الحق وَتَوَلَّى عن الطاعة.
وَجَمَعَ فَأَوْعى وجمع المال فجعله في وعاء وكنزه حرصا وتأميلا.(5/245)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 21]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً شديد الحرص قليل الصبر.
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ الضر جَزُوعاً يكثر الجزع.
وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ السعة مَنُوعاً يبالغ بالإِمساك والأوصاف الثلاثة أحوال مقدرة أو محققة لأنها طبائع جبل الإنسان عليها وإِذا الأولى ظرف ل جَزُوعاً والأخرى ل مَنُوعاً.
[سورة المعارج (70) : الآيات 22 الى 26]
إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ استثناء للموصوفين بالصفات المذكورة بعد من المطبوعين على الأحوال المذكورة قبل لمضادة تلك الصفات لها من حيث إنها دالة على الاستغراق في طاعة الحق والإشفاق على الخلق والإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة وكسر الشهوة وإيثار الآجل على العاجل وتلك ناشئة من الانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليها.
الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ لا يشغلهم عنها شاغل.
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ كالزكوات والصدقات الموظفة.
لِلسَّائِلِ الذي يسأل وَالْمَحْرُومِ الذي لا يسأل فيحسب نفسه غنياً فيحرم.
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ تصديقاً بأعمالهم وهو أن يتعب نفسه ويصرف ماله طمعاً في المثوبة الأخروية ولذلك ذكر الدِّينِ.
[سورة المعارج (70) : الآيات 27 الى 31]
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31)
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون على أنفسهم.
إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ اعتراض يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله وإن بالغ في طاعته.
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ سبق تفسيره في سورة «المؤمنين» .
[سورة المعارج (70) : الآيات 32 الى 35]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ حافظون وقرأ ابن كثير لأمانتهم يعني لا يخونون ولا ينكرون ولا يخفون ما علموه من حقوق الله وحقوق العباد.
والّذين هم بشهادتهم قَائِمُونَ وقرأ يعقوب وحفص بِشَهاداتِهِمْ لاختلاف الأنواع.
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فيراعون شرائطها ويكملون فرائضها وسننها وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولاً وآخراً باعتبارين للدلالة على فضلها وإنافتها على غيرها وفي نظم هذه الصلاة مبالغات لا تخفى.(5/246)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ بثواب الله تعالى.
[سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 38]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ حولك مُهْطِعِينَ مسرعين.
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ فرقا شتى جمع عزة وأصلها عزوة من العزو وكأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى. كان المشركون يحتفون حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم حلقا حلقاً ويستهزئون بكلامه.
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ بلا إيمان وهو إنكار لقولهم لو صح ما يقوله لنكون فيها أفضل حظاً منهم كما في الدنيا.
[سورة المعارج (70) : الآيات 39 الى 41]
كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
كَلَّا ردع لهم عن هذا الطمع إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ تعليل له والمعنى أنهم مخلقون من نطفة مذرة لا تناسب عالم القدس فمن لم يستكمل بالإِيمان والطاعة ولم يتخلق بالأخلاق الملكية لم يستعد لدخولها أو إنكم مخلوقون من أجل ما تعلمون وهو تكميل النفس بالعلم والعمل فمن لم يستكملها لم يتبوأ في منازل الكاملين أو الاستدلال بالنشأة الأولى على إمكان النشأة الثانية التي بنوا الطمع على فرضها فرضاً مستحيلاً عندهم بعد ردعهم عنه.
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم أو نعطي محمداً بدلكم من هو خير منكم وهم الأنصار. وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ بمغلوبين إن أردنا ذلك.
[سورة المعارج (70) : الآيات 42 الى 44]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ مر في آخر سورة «الطور» .
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً مسرعين جمع سريع كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ منصوب للعبادة أو علم يُوفِضُونَ يسرعون وقرأ ابن عامر وحفص إِلى نُصُبٍ بضم النون والصاد والباقون من السبعة نُصُبٍ بفتح النون وسكون الصاد وقرئ بالضم على أنه تخفيف نُصُبٍ أو جمع.
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مر تفسيره ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في الدنيا.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة سَأَلَ سائِلٌ أعطاه الله ثواب الذين هم لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» .(5/247)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)
(71) سورة نوح
مكية وآيها تسع أو ثمان وعشرون آية
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ أي بأن أي بالإِنذار، أو بأن قلنا له أَنْذِرْ، ويجوز أن تكون مفسرة لتضمن الإِرسال معنى القول، وقرئ بغير أَنْ على إرادة القول. قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عذاب الآخرة أو الطوفان.
قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ مر في «الشعراء» نظيره وفي أَنِ يحتمل الوجهان.
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ يغفر لكم بعض ذنوبكم وهو ما سبق فإن الإِسلام يجبه فلا يؤاخذكم به في الآخرة وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو أقصى ما قُدِّر لكم بشرط الإِيمان والطاعة. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إن الأجل الذي قدره. إِذا جاءَ على الوجه المقدر به آجلاً وقيل إذا جاء الأجل الأطول. لاَ يُؤَخَّرُ فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير. لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك، وفيه أنهم لانهماكهم في حب الحياة كأنهم شاكون في الموت.
[سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 9]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً أي دائماً.
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً عن الإِيمان والطاعة، وإسناد الزيادة إلى الدعاء على السببية كقوله:
فَزادَتْهُمْ إِيماناً.
وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإِيمان. لِتَغْفِرَ لَهُمْ بسببه. جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة. وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ تغطوا بها لئلا يروني كراهة النظر إلي من فرط كراهة دعوتي أو لئلا أعرفهم فأدعوهم، والتعبير بصيغة الطلب للمبالغة. وَأَصَرُّوا وأكبوا على الكفر والمعاصي مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه وأقبل عليها. وَاسْتَكْبَرُوا عن اتباعي. اسْتِكْباراً عظيماً.
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أي دعوتهم مرة بعد أخرى وكرة بعد أولى على أي وجه أمكنني، وثُمَّ لتفاوت الوجوه فإن الجهار أغلظ من الإِسرار والجمع بينهما أغلظ(5/248)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
من الإِفراد لتراخي بعضها عن بعض، وجِهاراً نصب على المصدر لأنه أحد نوعي الدعاء، أو صفة مصدر محذوف بمعنى دعاء جِهاراً أي مجاهراً به أو الحال فيكون بمعنى مجاهرا.
[سورة نوح (71) : الآيات 10 الى 12]
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ بالتوبة عن الكفر. إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً للتائبين وكأنهم لما أمرهم بالعبادة قالوا:
إن كنا على حق فلا نتركه وإن كنا على باطل فكيف يقبلنا ويلطف بنا من عصيناه، فأمرهم بما يجب معاصيهم ويجلب إليهم المنح ولذلك وعدهم عليه ما هو أوقع في قلوبهم. وقيل لما طالت دعوتهم وتمادى إصرارهم حبس الله عنهم القطر أربعين سنة، وأعقم أرحام نسائهم فوعدهم بذلك على الاستغفار عما كانوا عليه بقوله:
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء. والسَّماءَ تحتمل المظلة والسحاب، والمدرار كثير الدرور ويستوي في هذا البناء المذكر والمؤنث، والمراد بال جَنَّاتٍ البساتين.
[سورة نوح (71) : الآيات 13 الى 14]
مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً لا تأملون له توقيراً أي تعظيماً لمن عبده وأطاعه فتكونوا على حال تأملون فيها تعظيمها إياكم، ولِلَّهِ بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة للوقار، أو لا تَعتقدون له عظمة فتخافوا عصيانه، وإنما عبر عن الاعتقاد بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة.
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً حال مقررة للإنكار من حيث إنها موجبة للرجاء فإنه خلقهم أَطْواراً أي تارات، إذ خلقهم أولاً عناصر، ثم مركبات تغذى بها الإِنسان، ثم أخلاطاً، ثم نطفاً، ثم علقاً، ثم مضغاً، ثم عظاماً ولحوماً، ثم أنشأهم خلقاً آخر، فإنه يدل على أنه يمكن أن يعيدهم تارة أخرى فيعظمهم بالثواب وعلى أنه تعالى عظيم القدرة تام الحكمة، ثم أتبع ذلك ما يؤيده من آيات الآفاق فقال.
[سورة نوح (71) : الآيات 15 الى 16]
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً أي في السموات وهو في السماء الدنيا وإنما نسب إليهن لما بينهن من الملابسة. وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً مثلها به لأنها تزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض كما يزيلها السراج عما حوله.
[سورة نوح (71) : الآيات 17 الى 20]
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أنشأكم منها فاستعير الإِنبات للإنشاء لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض، وأصله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ إنباتاً فنبتم نباتاً، فاختصره اكتفاء بالدلالة الالتزامية.
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها مقبورين. وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً بالحشر، وأكده بالمصدر كما أكد به الأول دلالة على أن الإعادة محققة كالابداء، وأنها تكون لا محالة.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً تتقلبون عليها.
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً واسعة جمع فج ومن لتضمن الفعل معنى الاتخاذ.(5/249)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
[سورة نوح (71) : آية 21]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21)
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي فيما أمرتهم به. وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً واتبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بأولادهم بحيث صار ذلك سبباً لزيادة خسارهم في الآخرة، وفيه أنهم إنما اتبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال والأولاد وأدت بهم إلى الخسار، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي والبصريان وَوَلَدُهُ بالضم والسكون على أنه لغة كالحزن والحزن أو جمع كالأسد.
[سورة نوح (71) : الآيات 22 الى 23]
وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23)
وَمَكَرُوا عطف على لَمْ يَزِدْهُ والضمير لمن وجمعه للمعنى. مَكْراً كُبَّاراً كبيراً في الغاية فإنه أبلغ من كبار وهو من كبير، وذلك احتيالهم في الدين وتحريش الناس على أذى نوح.
وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي عبادتها. وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَلا تَذَرُنَّ هؤلاء خصوصاً، قيل هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا صوروا تبركاً بهم، فلما طال الزمان عبدوا. وقد انتقلت إلى العرب فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير. وقرأ نافع وَدًّا بالضم وقرئ «يغوثاً» و «يعوقاً» للتناسب، ومنع صرفهما للعلمية والعجمة.
[سورة نوح (71) : الآيات 24 الى 25]
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً الضمير للرؤساء أو للأصنام كقوله: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا عطف على رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي، ولعل المطلوب هو الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم لا في أمر دينهم، أو الضياع والهلاك كقوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ.
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ من أجل خطيئاتهم، و «ما» مزيدة للتأكيد والتفخيم، وقرأ أبو عمرو «مما خطاياهم» .
أُغْرِقُوا بالطوفان. فَأُدْخِلُوا نَاراً المراد عذاب القبر أو عذاب الآخرة، والتعقيب لعدم الاعتداد بما بين الإِغراق والإِدخال، أو لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع، وتنكير النار للتعظيم أو لأن المراد نوع من النيران. فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً تعريض لهم باتخاذ آلهة مِن دُونِ الله لاَ تقدر على نصرهم.
[سورة نوح (71) : الآيات 26 الى 28]
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أي أحداً وهو مما يستعمل في النفي العام فيعال من الدار، أو الدور وأصله ديوار ففعل به ما فعل بأصل سيد الأفعال وإلا لكان دواراً.
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً قال ذلك لما جربهم واستقرى أحوالهم أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فعرف شيمهم وطباعهم.
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ لملك بن متوشلح وشمخا بنت أنوش وكانا مؤمنين. وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ منزلي أو مسجدي أو سفينتي. مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إلى يوم القيامة. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً هلاكا.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح» .(5/250)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)
(72) سورة الجن
مكية، وآيها ثمان وعشرون آية
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ وقرئ «أحي» وأصله وحى من وحى إليه فقلبت الواو همزة لضمتها ووحى على الأصل وفاعله: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، والْجِنِّ أجسام عاقلة خفية يغلب عليهم النارية أو الهوائية. وقيل نوع من الأرواح المجردة وقيل نفوس بشرية مفارقة عن أبدانها، وفيه دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله به رسوله. فَقالُوا لما رجعوا إلى قومهم. إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً كتاباً. عَجَباً بديعاً مبايناً لكلام الناس في حسن نظمه ودقة معناه. وهو مصدر وصف به للمبالغة.
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ إلى الحق والصواب. فَآمَنَّا بِهِ بالقرآن. وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً على ما نطق به الدلائل القاطعة على التوحيد.
[سورة الجن (72) : الآيات 3 الى 5]
وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5)
وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا قرأه ابن كثير والبصريان بالكسر على أنه من جملة المحكي بعد القول، وكذا ما بعده إلا قوله: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ، وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ فإنها من جملة الموحى به ووافقهم نافع وأبو بكر إلا في قوله: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ على أنه استئناف أو مقول، وفتح الباقون الكل إلا ما صدر بالفاء على أن ما كان من قولهم فمعطوف على محل الجار والمجرور في بِهِ كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي عظمته من جد فلان في عيني إذا عظم، أو سلطانه أو غناه مستعار من الجد الذي هو البخت، والمعنى وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه وقوله: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً بيان لذلك، وقرئ «جداً» على التمييز «جِدُّ رَبّنَا» بالكسر أي صدق ربوبيته، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد.
وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا إبليس أو مردة الجن. عَلَى اللَّهِ شَطَطاً قولاً ذا شطط وهو البعد ومجاوزة الحد، أو هو شطط لفرط ما أشط فيه، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله.
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك بظنهم أن أحداً لا يكذب على الله، وكَذِباً نصب على المصدر لأنه نوع من القول أو الوصف المحذوف، أي قولاً مكذوباً فيه، ومن قرأ أَنْ لَنْ تَقُولَ كيعقوب جعله مصدراً لأن التقول لا يكون إلا كَذِباً.(5/251)
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
[سورة الجن (72) : الآيات 6 الى 7]
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فإن الرجل كان إذا أمسى بقفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه. فَزادُوهُمْ فزادوا الجن باستعاذتهم بهم. رَهَقاً كبراً وعتواً، أو فزاد الجن الإنس غيا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم، والرهق في الأصل غشيان الشيء.
وَأَنَّهُمْ وأن الإِنس. ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن أو بالعكس، والآيتان من كلام الجن بعضهم لبعض أو استئناف كلام من الله تعالى، ومن فتح أن فيهما جعلهما من الموحى به. أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ساد مسد مفعولي ظَنُّوا.
[سورة الجن (72) : الآيات 8 الى 9]
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ طَلَبنا بلوغ السماء أو خبرها، واللمس مستعار من المس للطلب كالجس يقال لمسه والتمسه وتلمسه كطلبه واطلبه وتطلبه. فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً حراساً اسم جمع كالخدم. شَدِيداً قوياً وهم الملائكة الذين يمنعونهم عنها. وَشُهُباً جمع شهاب وهو المضيء المتولد من النار.
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ مقاعد خالية عن الحرس والشهب، أو صالحة للترصد والاستماع، ولِلسَّمْعِ صلة ل نَقْعُدُ أو صفة ل مَقاعِدَ. فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي شهاباً راصداً له ولأجله يمنعه عن الاستماع بالرجم، أو ذوي شهاب راصدين على أنه اسم جمع للراصد، وقد مر بيان ذلك في «الصافات» .
[سورة الجن (72) : الآيات 10 الى 11]
وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11)
وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بحراسة السماء. أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً خيراً.
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ المؤمنون الأبرار. وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي قوم دون ذلك فحذف الموصوف وهم المقتصدون. كُنَّا طَرائِقَ ذوي طرائق أي مذاهب، أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت طرائقنا طرائق. قِدَداً متفرقة مختلفة جمع قدة من قد إذا قطع.
[سورة الجن (72) : الآيات 12 الى 13]
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13)
وَأَنَّا ظَنَنَّا علمنا. أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ كائنين في الأرض أينما كنا فيها. وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً هاربين منها إلى السماء، أو لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمراً ولن نعجزه هربا إن طلبنا.
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أي القرآن. آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ فهو لا يخاف، وقرئ «فلا يخف» والأول أدل على تحقيق نجاة المؤمنين واختصاصها بهم. بَخْساً وَلا رَهَقاً نقصاً في الجزاء ولا أن يرهقه ذلة، أو جزاء بخس لأنه لم يبخس لأحد حقاً ولم يرهق ظلماً، لأن من حق المؤمن بالقرآن أن يجتنب ذلك.(5/252)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
[سورة الجن (72) : الآيات 14 الى 15]
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون عن طريق الحق وهو الإيمان والطاعة. فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً توخوا رشداً عظيماً يبلغهم إلى دار الثواب.
أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
توقد بهم كما توقد بكفار الإنس.
[سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 17]
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أي أن الشأن لو استقام الجن أو الإِنس أو كلاهما. عَلَى الطَّرِيقَةِ أي على الطريقة المثلى. لَأَسْقَيْناهُمْ مَّاء غَدَقاً لوسعنا عليهم الرزق، وتخصيص الماء الغدق وهو الكثير بالذكر لأنه أصل المعاش والسعة ولعزة وجوده بين العرب.
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم كيف يشكرونه، وقيل معناه أن لو استقام الجن على طريقتهم القديمة ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفرانهم. وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ عن عبادته أو موعظته أو وحيه. يَسْلُكْهُ يدخله وقرأ غير الكوفيين بالنون. عَذاباً صَعَداً شاقاً يعلو المعذب ويغلبه مصدر وصف به.
[سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 19]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ مختصة به. فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً فلا تعبدوا فيها غيره، ومن جعل أَنَّ مقدرة باللام علة للنهي ألغى فائدة الفاء، وقيل المراد ب الْمَساجِدَ الأرض كلها لأنها جعلت للنبي عليه الصلاة والسلام مسجداً. وقيل المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد ومواضع السجود على أن المراد النهي عن السجود لغير الله، وآرابه السبعة أو السجدات على أنه جمع مسجد.
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أي النبي عليه الصلاة والسلام وإنما ذكر بلفظ العبد للتواضع فإنه واقع موقع كلامه عن نفسه، والاشعار بما هو المقتضى لقيامه. يَدْعُوهُ يعبده كادُوا كاد الجن. يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً متراكمين من ازدحامهم عليه تعجباً مما رأوا من عبادته وسمعوا من قراءته، أو كاد الإنس والجن يكونون عليه مجتمعين لإِبطال أمره، وهو جمع لبدة وهي ما تلبد بعضه على بعض كلبدة الأسد، وعن ابن عامر «لُبَداً» بضم اللام جمع لبدة وهي لغة. وقرئ «لبدا» كسجدا جمع لا بد ولِبَداً كصبر جمع لبود.
[سورة الجن (72) : الآيات 20 الى 21]
قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21)
قَالَ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم أو إطباقكم على مقتي، وقرأ عاصم وحمزة قُلْ على الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام ليوافق ما بعده.
قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً ولا نفعاً أو غياً، عبر عن أحدهما باسمه وعن الآخر باسم سببه أو مسببه إشعارا بالمعنيين.
[سورة الجن (72) : الآيات 22 الى 24]
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)(5/253)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ إن أراد بي سوءاً. وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً منحرفاً أو ملتجأ وأصله المدخل من اللحد.
إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ استثناء من قوله لا أملك فإن التبليغ إرشاد وإنفاع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة، أو من ملتحداً أو معناه أن لا أبلغ بلاغاً وما قبله دليل الجواب. وَرِسالاتِهِ عطف على بَلاغاً ومِنَ اللَّهِ صفته فإن صلته
عن كقوله صلّى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» .
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه. فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ وقرئ «فَانٍ» على فجزاؤه أن. خالِدِينَ فِيها أَبَداً جمعه للمعنى.
حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ في الدنيا كوقعة بدر، أو في الآخرة والغاية لقوله: يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً بالمعنى الثاني، أو لمحذوف دل عليه الحال من استضعاف الكفار له وعصيانهم له. فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً هو أم هم.
[سورة الجن (72) : الآيات 25 الى 27]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)
قُلْ إِنْ أَدْرِي ما أدري. أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً غاية تطول مدتها كأنه لما سمع المشركون حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ قالوا متى يكون إنكاراً، فقيل قل إنه كائن لا محالة ولكن لا أدري ما وقته.
عالِمُ الْغَيْبِ هو عالم الغيب. فَلا يُظْهِرُ فلا يطلع. عَلى غَيْبِهِ أَحَداً أي على الغيب المخصوص به علمه.
إِلَّا مَنِ ارْتَضى لعلم بعضه حتى يكون له معجزة. مِنْ رَسُولٍ بيان ل مَنِ، واستدل به على إبطال الكرامات، وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير وسط، وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقياً عن الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء. فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ من بين يدي المرتضى وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً حرساً من الملائكة يحرسونه من اختطاف الشياطين وتخاليطهم.
[سورة الجن (72) : آية 28]
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أي ليعلم النبي الموحى إليه أن قد أبلغ جبريل والملائكة النازلون بالوحي، أو ليعلم الله تعالى أن قد أبلغ الأنبياء بمعنى ليتعلق علمه به موجوداً. رِسالاتِ رَبِّهِمْ كما هي محروسة من التغيير. وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ بما عند الرسل. وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً حتى القطر والرمل.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الجن كان له بعدد كل جني صدق محمداً أو كذب به عتق رقبة» .(5/254)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
(73) سورة المزمل
مكية، وآيها تسع عشرة أو عشرون
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2)
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أصله المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف بها فأدغم التاء في الزاي وقد قرئ به، وب «المزمل» مفتوحة الميم ومكسورتها أي الذي زمله غيره، أو زمل نفسه، سمي به النبي عليه الصلاة والسلام تهجيناً لما كان عليه فإنه كان نائماً، أو مرتعداً مما دهشه من بدء الوحي متزملاً في قطيفة أو تحسيناً له. إذ
روي: أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي متلففاً بمرط مفروش على عائشة رضي الله تعالى عنها فنزلت.
أو تشبيهاً له في تثاقله بالمتزمل لأنه لم يتمرن بعد في قيام الليل، أو من تزمل الزمل إذا تحمل الحمل أي الذي تحمل أعباء النبوة.
قُمِ اللَّيْلَ أي قم إلى الصلاة، أو داوم عليها فيه، وقرئ بضم الميم وفتحها للإتباع أو التخفيف.
إِلَّا قَلِيلًا.
[سورة المزمل (73) : الآيات 3 الى 5]
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5)
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ الاستثناء من اللَّيْلَ ونِصْفَهُ بدل من قَلِيلًا وقلته بالنسبة إلى الكل، والتخيير بين قيام النصف والزائد عليه كالثلثين والناقص عنه كالثلث، أو نِصْفَهُ بدل من اللَّيْلَ والاستثناء منه والضمير في مِنْهُ وعَلَيْهِ للأقل من النصف كالثلث فيكون التخيير بينه وبين الأقل منه كالربع، والأكثر منه كالنصف أو للنصف والتخيير بين أن يقوم أقل منه على البت وأن يختار أحد الأمرين من الأقل والأكثر، أو الاستثناء من إعداد الليل فإنه عام والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا اقرأه على تؤدة وتبيين حروف بحيث يتمكن السامع من عدها من قوله ثغر رتل ورتل إذا كان مفلجاً.
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا يعني القرآن فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة ثقيل على المكلفين سيما على الرسول صلّى الله عليه وسلم إذ كان عليه أن يتحملها ويحملها أمته، والجملة اعتراض يسهل التكليف عليه بالتهجد، ويدل على أنه مشق مضاد للطبع مخالف للنفس، أو رصين لرزانة لفظه ومتانة معناه، أو ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفية للسر وتجريد للنظر، أو ثقيل في الميزان أو على الكفار والفجار، أو ثقيل تلقيه
لقوله عائشة رضي الله تعالى عنها: رأيته عليه الصلاة والسلام ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقاً.
وعلى هذا يجوز أن يكون صفة للمصدر والجملة على هذه الأوجه للتعليل مستأنف، فإن التهجد يعد للنفس ما به تعالج ثقله.(5/255)
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
[سورة المزمل (73) : الآيات 6 الى 7]
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7)
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ إِن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة من نشأ من مكانه إذا نهض وقام قال:
نشأنا إلى خوص برى نهيا السُّرَى ... وَأَلْصِقَ مِنْهَا مُشْرِفَاتِ القَمْاحِدِ
أو قيام الليل على أن ال ناشِئَةَ له أو العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث، أو ساعات الليل لأنها تحدث واحدة بعد أخرى، أو ساعاتها الأول من نشأت إذا ابتدأت. هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي كلفة أو ثبات قدم، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وَطْئاً بكسر الواو وألف ممدودة أي مواطأة القلب اللسان لها، أو فيها أو موافقة لما يراد منها من الخضوع والإِخلاص. وَأَقْوَمُ قِيلًا أي وأسد مقالاً أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدوء الأصوات.
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا تقلباً في مهماتك واشتغالاً بها فعليك بالتهجد، فإن مناجاة الحق تستدعي فراغا. وقرئ «سبخاً» أي تفرق قلب بالشواغل مستعار من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه.
[سورة المزمل (73) : الآيات 8 الى 9]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ودم على ذكره ليلاً ونهاراً، وذكر الله يتناول كل ما يذكر به من تسبيح وتهليل وتمجيد وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم. وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا وانقطع إليه بالعبادة وجرد نفسك عما سواه، ولهذه الرمزة ومراعاة الفواصل وضعه موضع تبتلاً.
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ خبر محذوف أو مبتدأ خبره: لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ وقرأ ابن عامر والكوفيون غير حفص ويعقوب بالجر على البدل من ربك، وقيل بإضمار حرف القسم وجوابه لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ. فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا مسبب عن التهليل، فإن توحده بالألوهية يقتضي أن توكل إليه الأمور.
[سورة المزمل (73) : الآيات 10 الى 11]
وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11)
وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ من الخرافات. وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمرهم إلى الله فالله يكفيكهم كما قال:
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ دعني وإياهم وكل أمرهم فإن بي غنية عنك في مجازاتهم. أُولِي النَّعْمَةِ أرباب التنعم، يريد صناديد قريش. وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا زماناً أو إمهالاً.
[سورة المزمل (73) : الآيات 12 الى 14]
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا تعليل للأمر، والنكل القيد الثقيل. وَجَحِيماً.
وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ طعاماً ينشب في الحلق كالضريع والزقوم. وَعَذاباً أَلِيماً ونوعاً آخر من العذاب مؤلماً لا يعرف كنهه إلا الله تعالى، ولما كانت العقوبات الأربع مما تشترك فيها الأشباح والأرواح فإن النفوس العاصية المنهمكة في الشهوات تبقى مقيدة بحبها والتعلق بها، عن التخلص إلى عالم المجردات متحرقة بحرقة الفرقة متجرعة غصة الهجران معذبة بالحرمان عن تجلي أنوار القدس، فسر العذاب بالحرمان عن لقاء الله تعالى.
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ تضطرب وتتزلزل ظرف لما في إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا من معنى الفعل.(5/256)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً رملاً مجتمعاً كأنه فعيل بمعنى مفعول من كثبت الشيء إذا جمعته. مَهِيلًا منثوراً من هيل هيلاً إذا نثر.
[سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 16]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا يا أهل مكة. شاهِداً عَلَيْكُمْ يشهد عليكم يوم القيامة بالإِجابة والامتناع.
كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني موسى عليه الصلاة والسلام ولم يعينه لأن المقصود لم يتعلق به.
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ عرفه لسبق ذكره. فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا ثقيلاً من قولهم طعام وبيل لا يستمرأ لثقله، ومنه الوابل للمطر العظيم.
[سورة المزمل (73) : الآيات 17 الى 19]
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ أنفسكم. إِنْ كَفَرْتُمْ بقيتم على الكفر. يَوْماً عذاب يوم. يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً من شدة هوله وهذا على الفرض أو التمثيل، وأصله أن الهموم تضعف القوى وتسرع الشيب، ويجوز أن يكون وصفاً لليوم بالطول.
السَّماءُ مُنْفَطِرٌ منشق والتذكير على تأويل السقف أو إضمار شيء. بِهِ بشدة ذلك اليوم على عظمها وأحكامها فضلاً عن غيرها والباء للآلة. كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا الضمير لله عز وجل أو لليوم على إضافة المصدر إلى المفعول.
إِنَّ هذِهِ أي الآيات الموعدة. تَذْكِرَةٌ عظة. فَمَنْ شاءَ أن يتعظ. اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي يتقرب إليه بسلوك التقوى.
[سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ استعار الأدنى للأقل لأن الأقرب إلى الشيء أقل بعداً منه، وقرأ ابن كثير والكوفيون وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب عطفاً على أَدْنى. وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ويقوم ذلك جماعة من أصحابك. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلا الله تعالى، فإن تقديم اسمه مبتدأ مبنياً عليه يُقَدِّرُ يشعر بالاختصاص ويؤيده قوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي لن تحصوا تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات. فَتابَ عَلَيْكُمْ بالترخص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة فيه كما رفع التبعة عن التائب. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل، عبر عن الصلاة بالقرآن كما عبر عنها بسائر أركانها، قيل كان التهجد واجباً على التخيير المذكور فعسر عليهم القيام به فنسخ به، ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس، أو فاقرؤوا القرآن بعينه كيفما تيسر عليكم. عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى استئناف يبين حكمة أخرى مقتضية للترخيص والتخفيف ولذلك كرر الحكم مرتباً(5/257)
عليه وقال: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ والضرب في الأرض ابتغاء للفضل المسافرة للتجارة وتحصيل العلم وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ المفروضة. وَآتُوا الزَّكاةَ الواجبة. وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يريد به الأمر في سائر الانفاقات في سبل الخيرات، أو بأداء الزكاة على أحسن وجه، والترغيب فيه بوعد العوض كما صرح به في قوله: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت أو من متاع الدنيا، وخَيْراً ثاني مفعولي تَجِدُوهُ وهو تأكيد أو فصل، لأن أفعل من كالمعرفة ولذلك يمتنع من حرف التعريف، وقرئ «هو خير» على الابتداء والخبر. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في مجامع أحوالكم فإن الإِنسان لا يخلو من تفريط. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المزمل رفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة» .(5/258)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
(74) سورة المدثر
مكية، وآيها خمس وخمسون آية
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أي المتدثر وهو لابس الدثار.
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «كنت بحراء فنوديت فنظرت عن يميني وشمالي فلم أر شيئاً، فنظرت فوقي فإذا هو على عرش بين السماء والأرض- يعني الملك الذي ناداه- فرعبت فرجعت إلى خديجة فقلت: دثروني، فنزل جبريل وقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ
ولذلك قيل هي أول سورة نزلت. وقيل تأذى من قريش فتغطى بثوبه مفكراً، أو كان نائما متدثرا فنزلت، وقيل المراد بالمدثر المتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية، أو المختفي فإنه كان بحراء كالمختفي فيه على سبيل الاستعارة، وقرئ «المدثر» أي الذي دثر هذا الأمر وعصب به.
قُمْ من مضجعك أو قم قيام عزم وجد. فَأَنْذِرْ مطلق للتعميم أو مقدر بمفعول دل عليه قوله:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أو قوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً.
[سورة المدثر (74) : الآيات 3 الى 4]
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وخصص ربك بالتكبير وهو وصفه بالكبرياء عقداً وقولاً،
روي أنه لما نزل كبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأيقن أنه الوحي
، وذلك لأن الشيطان لا يأمر بذلك والفاء فيه وفيما بعده لإِفادة معنى الشرط وكأنه قال: وما يكن فكبر ربك، أو الدلالة على أن المقصود الأول من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عن الشرك والتشبيه، فإن أول ما يجب معرفة الصانع وأول ما يجب بعد العلم بوجوده تنزيهه، والقوم كانوا مقرين به.
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ من النجاسات فإن التطهير واجب في الصلوات محبوب في غيرها، وذلك بغسلها أو بحفظها عن النجاسة بتقصيرها مخافة جر الذيول فيها، وهو أول ما أمر به مِنْ رفض العادات المذمومة، أو طهر نفسك من الأخلاق الذميمة والأفعال الدنيئة، فيكون أمراً باستكمال القوة العملية بعد أمره باستكمال القّوة النظرية والدعاء إليه، أو فطهر دثار النبوة عما يدنسه من الحقد والضجر وقلة الصبر.
[سورة المدثر (74) : الآيات 5 الى 7]
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ فاهجر العذاب بالثبات على هجر ما يؤدي إليه من الشرك وغيره من القبائح، وقرأ يعقوب وحفص وَالرُّجْزَ بالضم وهو لغة كالذكر.
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي لا تعط مستكثراً، نهى عن الاستفزار وهو أن يهب شيئاً طامعاً في عوض أكثر، نهي تنزيه أو نهياً خاصا به
لقوله عليه الصلاة والسلام «المستفزر يثاب من هبته»
والموجب له ما فيه من الحرص والضنة، أو لا تَمْنُنْ على الله تعالى بعبادتك مستكثراً إياها، أو على الناس بالتبليغ مستكثراً به الأجر منهم أو مستكثرا إياه، وقرئ «تَسْتَكْثِرُ» بالسكون للوقف أو الإبدال من تمنن على أنه من من بكذا، أو(5/259)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
تَسْتَكْثِرُ بمعنى تجده كثيراً وبالنصب على إضمار أن، وقد قرئ بها وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بحذفها وإبطال عملها، كما روي: أحضر الوغى. بالرفع.
وَلِرَبِّكَ لوجهه أو أمره. فَاصْبِرْ فاستعمل الصبر، أو فاصبر على مشاق التكاليف وأذى المشركين.
[سورة المدثر (74) : الآيات 8 الى 10]
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
فَإِذا نُقِرَ نفخ. فِي النَّاقُورِ في الصور فاعول من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سبب الصوت، والفاء للسببية كأنه قال: اصبر على زمان صعب تلقى فيه عاقبة صبرك وأعداؤك عاقبة ضرهم، و «إذا» ظرف لما دل عليه قوله:
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ لأن معناه عسر الأمر على الكافرين، وذلك إشارة إلى وقت النقر، وهو مبتدأ خبره يَوْمٌ عَسِيرٌ ويَوْمَئِذٍ بدل أو ظرف لخبره إذ التقدير: فذلك الوقت وقت وقوع يَوْمٌ عَسِيرٌ. غَيْرُ يَسِيرٍ تأكيد بمنع أن يكون عسيراً عليهم من وجه دون وجه ويشعر بيسره على المؤمنين.
[سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 13]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً نزلت في الوليد بن المغيرة، ووَحِيداً حال من الياء أي ذرني وحدي معه فإني أكفيكه، أو من التاء أي ومن خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد، أو من العائد المحذوف أي من خلقته فريداً لا مال له ولا ولد، أو ذم فإنه كان ملقباً به فسماه الله به تهكماً، أو إرادة أنه وحيد ولكن في الشرارة أو عن أبيه فإنه كان زنيماً.
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً مبسوطاً كثيراً أو ممداً بالنماء، وكان له الزرع والضرع والتجارة.
وَبَنِينَ شُهُوداً حضوراً معه بمكة يتمتع بلقائهم لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش استغناء بنعمته، ولا يحتاج إلى أن يرسلهم في مصالحه لكثرة خدمه، أو في المحافل والأندية لوجاهتهم واعتبارهم. قيل كان له عشرة بنين أو أكثر كلهم رجال، فأسلم منهم ثلاثة خالد وعمارة وهشام.
[سورة المدثر (74) : الآيات 14 الى 15]
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً وبسطت له الرياسة والجاه العريض حتى لقب ريحانة قريش والوحيد أي باستحقاقه الرياسة والتقدم.
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ على ما أوتيه وهو استبعاد لطمعه أما لأنه لا مزيد على ما أوتي، أو لأنه لا يناسب ما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم ولذلك قال:
[سورة المدثر (74) : الآيات 16 الى 17]
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)
كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً فإنه ردع له عن الطمع وتعليل للردع على سبيل الاستئناف بمعاندة آيات المنعم المناسبة لإزالة النعمة المانعة عن الزيادة، قيل: ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان ماله حتى هلك.
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأغشيه عقبة شاقة المصعد، وهو مثل لما يلقى من الشدائد.
وعنه عليه الصلاة والسلام «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبدا» .
[سورة المدثر (74) : الآيات 18 الى 20]
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
.(5/260)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ تعليل للوعيد أو بيان للعناد، والمعنى فكر فيما يخيل طعناً في القرآن وقدر في نفسه ما يقول فيه.
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجب من تقديره استهزاء به، أو لأنه أصاب أقصى ما يمكن أن يقال عليه من قولهم: قتله الله ما أشجعه، أي بلغ في الشجاعة مبلغاً يحق أن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك.
روي أنه مر بالنبي صلّى الله عليه وسلم وهو يقرأ حم «السجدة» ، فأتى قومه وقال لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإِنس والجن، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى.
فقالت قريش صبأ الوليد فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إليه حزيناً وكلمه بما أحماه فناداهم فقال: تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق، وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن، وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً، فقالوا لا فقال: ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، ففرحوا بقوله وتفرقوا عنه متعجبين منه.
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير للمبالغة وثم للدلالة على أن الثانية أبلغ من الأولى وفيما بعد على أصلها.
[سورة المدثر (74) : الآيات 21 الى 25]
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
ثُمَّ نَظَرَ أي في أمر القرآن مرة بعد أخرى.
ثُمَّ عَبَسَ قطب وجهه لما لم يجد فيه مطعناً ولم يدر ما يقول، أو نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقطب في وجهه. وَبَسَرَ اتباع لعبس.
ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحق أو الرسول عليه الصلاة والسلام. وَاسْتَكْبَرَ عن اتباعه.
فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يروى ويتعلم، والفاء للدلالة على أنه لما خطرت هذه الكلمة بباله تفوه بها من غير تلبث وتفكر.
إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ كالتأكيد للجملة الأولى ولذلك لم يعطف عليها.
[سورة المدثر (74) : الآيات 26 الى 30]
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ (27) لاَ تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ بدل من سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً:
وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ تفخيم لشأنها تعالى وقوله: لاَ تُبْقِي وَلا تَذَرُ بيان لذلك أو حال من سقر، والعامل فيها معنى التعظيم والمعنى لا تبقي على شيء يلقى فيها ولا تدعه حتى تهلكه.
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ أي مسودة لأعالي الجلد، أو لائحة للناس وقرئت بالنصب على الاختصاص.
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ملكاً أو صنفاً من الملائكة يلون أمرها، والمخصص لهذا العدد أن اختلال النفوس البشرية في النظر والعمل بسبب القوى الحيوانية الاثنتي عشرة والطبيعة السبع، أو أن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وكل صنف يعذب بترك الاعتقاد والإِقرار، والعمل أنواعاً من العذاب تناسبها على كل نوع ملك أو صنف يتولاه وواحدة لعصاة الأمة يعذبون فيها بترك العمل نوعاً يناسبه ويتولاه ملك، أو صنف أو أن الساعات أربع وعشرون خمسة منها مصروفة في الصلاة فيبقى تسعة عشر قد تصرف فيما يؤاخذ به بأنواع من العذاب يتولاها الزبانية، وقرئ «تِسْعَةَ عَشَرَ» بسكون العين كراهة توالي حركات فيما هو كاسم واحد و «تسعة أعشر» جمع عشير كيمين وأيمن، أي تسعة كل عشير جمع يعني نقيبهم أو جمع عشر فتكون(5/261)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
تسعين.
[سورة المدثر (74) : آية 31]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ليخالفوا جنس المعذبين فلا يرقون لهم ولا يستروحون إليهم، ولأنهم أقوى الخلق بأساً وأشدهم غضباً لله.
روي أن أبا جهل لما سمع عليها تسع عشر قال لقريش: أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فنزلت.
وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم وهو التسعة عشر، فعبر بالأثر عن المؤثر تنبيهاً على أنه لا ينفك منه وافتتانهم به استقلالهم واستهزاؤهم به واستبعادهم أن يتولى هذا العدد القليل تعذيب أكثر الثقلين، ولعل المراد الجعل بالقول ليحسن تعليله بقوله: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي ليكتسبوا اليقين بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصدق القرآن لما رأوا ذلك موافقاً لما في كتابهم. وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً بالإِيمان به وبتصديق أهل الكتاب له. وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ أي في ذلك وهو تأكيد للاستيقان وزيادة الإِيمان ونفي لما يعرض للمتيقن حيثما عراه شبهة. وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك أو نفاق، فيكون إخباراً بمكة عما سيكون في المدينة بعد الهجرة. وَالْكافِرُونَ الجازمون في التكذيب. مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل، وقيل لما استبعدوه حسبوا أنه مثل مضروب. كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ مثل ذلك المذكور من الإِضلال والهدى يضل الكافرين ويهدي المؤمنين. وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ جموع خلقه على ما هم عليه. إِلَّا هُوَ إِذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والاطلاع على حقائقها وصفاتها وما يوجب اختصاص كل منها بما يخصه من كم وكيف واعتبار ونسبة. وَما هِيَ وما سقر أو عدة الخزنة أو السورة. إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ إلا تذكرة لهم.
[سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 35]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
كَلَّا ردع لمن أنكرها، أو إنكار لأن يتذكروا بها. وَالْقَمَرِ.
واللّيل إذا دبر أي أدبر كقبل بمعنى أقبل، وقرأ نافع وحمزة ويعقوب وحفص إذا أدبر على المضي.
وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أضاء.
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ أي لإِحدى البلايا الكبر أي البلايا الكبر كثيرة وسَقَرَ واحدة منها، وإنما جمع كبرى على «كبر» إلحاقاً لها بفعله تنزيلاً للألف منزلة التاء كما ألحقت قاصعاء بقاصعة فجمعت على قواصع، والجملة جواب القسم أو تعليل ل كَلَّا، والقسم معترض للتأكيد.
[سورة المدثر (74) : الآيات 36 الى 37]
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
نَذِيراً لِلْبَشَرِ تمييز أي لَإِحْدَى الْكُبَرِ إنذاراً أو حال عما دلت عليه الجملة أي كبرت منذرة، وقرئ بالرفع خبراً ثانياً أو خبراً لمحذوف.
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بدل من لِلْبَشَرِ أي نذيراً للمتمكنين من السبق إلى الخير والتخلف عنه، أو لِمَنْ شاءَ خبر ل أَنْ يَتَقَدَّمَ فيكون في معنى قوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ(5/262)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
فَلْيَكْفُرْ.
[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 42]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ مرهونة عند الله مصدر كالشكيمة أطلقت للمفعول كالرهن ولو كانت صفة لقيل رهين.
إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فإنهم فكوا رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم، وقيل هم الملائكة أو الأطفال.
فِي جَنَّاتٍ لا يكتنه وصفها وهي حال من أَصْحابَ الْيَمِينِ، أو ضميرهم في قوله: يَتَساءَلُونَ.
عَنِ الْمُجْرِمِينَ أي يسأل بعضهم بعضاً أو يسألون غيرهم عن حالهم كقولك: تداعيناه أي دعوناه وقوله:
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بجوابه حكاية لما جرى بين المسؤولين والمجرمين أجابوا بها.
[سورة المدثر (74) : الآيات 43 الى 48]
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ الصلاة الواجبة.
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي ما يجب إعطاؤه، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع.
وَكُنَّا نَخُوضُ نشرع في الباطل. مَعَ الْخائِضِينَ مع الشارعين فيه.
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أخره لتعظيمه أي وكنا بعد ذلك كله مكذبين بالقيامة.
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ الموت ومقدماته.
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ لو شفعوا لهم جميعا.
[سورة المدثر (74) : الآيات 49 الى 52]
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أي معرضين عن التذكرة يعني القرآن، أو ما يعمه ومُعْرِضِينَ حال.
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ شبههم في إعراضهم ونفارهم عن استماع الذكر بحمر نافرة.
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أي أسد فعولة من القسر وهو القهر.
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً قراطيس تنشر وتقرأ وذلك أنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى تأتي كلامنا بكتاب من السماء فيه من الله إلى فلان اتبع محمدا.
[سورة المدثر (74) : الآيات 53 الى 56]
كَلاَّ بَلْ لاَّ يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
كَلَّا ردع لهم عن اقتراحهم الآيات. بَلْ لاَّ يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف.(5/263)
كَلَّا ردع عن إعراضهم. إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ وأي تذكرة.
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فمن شاء أن يذكره.
وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ذكرهم أو مشيئتهم كقوله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وهو تصريح بأن فعل العبد بمشيئة الله تعالى، وقرأ نافع تَذَكَّرُونَ بالتاء وقرئ بهما مشدداً. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى حقيق بأن يتقى عقابه. وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ حقيق بأن يغفر لعباده سيما المتقين منهم.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المدثر أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد عليه الصلاة والسلام وكذب به بمكة شرفها الله تعالى» .(5/264)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
(75) سورة القيامة
مكية وآيها أربعون آية
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3)
لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ إدخال لا النافية على فعل القسم للتأكيد شائع في كلامهم قال امرؤ القيس:
لاَ وَأَبِيكِ ابْنَةَ العَامِري ... لاَ يَدَّعِي القَوْمُ أَنِّي أَفِرْ
وقد مر الكلام فيه في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وقرأ قنبل لأقسم بغير ألف بعد اللام وكذا روي عن البزي.
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ بالنفس المتقية التي تلوم النفوس المقصرة في التقوى يوم القيامة على تقصيرها، أو التي تلوم نفسها أبداً وإن اجتهدت في الطاعة أو النفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمارة أو بالجنس. لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها يوم القيامة، إن عملت خيراً قالت كيف لم أزدد وإن عملت شراً قالت يا ليتني كنت قصرت» .
أو نفس آدم فإنها لم تزل تتلوم على ما خرجت به من الجنة، وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ يعني الجنس وإسناد الفعل إليه لأن فيهم من يحسب، أو الذي نزل فيه
وهو عدي بن أبي ربيعة سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أمر القيامة، فأخبره به فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك.
أو يجمع الله هذه العظام. ألن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بعد تفرقها، وقرئ «أن لن يجمع» على البناء للمفعول.
[سورة القيامة (75) : الآيات 4 الى 6]
بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6)
بَلى نجمعها. قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ بجمع سلامياته وضم بعضها إلى بعض كما كانت مع صغرها ولطافتها فكيف بكبار العظام، أو عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ الذي هو أطرافه فكيف بغيرها، وهو حال من فاعل الفعل المقدر بعد بَلى، وقرئ بالرفع أي نحن قادرون.
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ عطف على أَيَحْسَبُ فيجوز أن يكون استفهاماً وأن يكون إيجاباً لجواز أن يكون الإِضراب عن المستفهم وعن الاستفهام. لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان.
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ متى يكون يوم القيامة استبعاداً له أو استهزاء.
[سورة القيامة (75) : الآيات 7 الى 10]
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ تحير فزعا من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، وقرأ نافع بالفتح وهو لغة، أو من البريق بمعنى لمع من شدة شخوصه، وقرئ «بلق» من بلق الباب إذا انفتح.
وَخَسَفَ الْقَمَرُ ذهب ضوؤه وقرئ على البناء للمفعول.(5/265)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ في ذهاب الضوء أو الطلوع من المغرب، ولا ينافيه الخسوف فإنه مستعار للمحاق، ولمن حمل ذلك على أمارات الموت أن يفسر الخسوف بذهاب ضوء البصر والجمع باستتباع الروح الحاسة في الذهاب، أو بوصوله إلى من كان يقتبس منه نور العقل من سكان القدس، وتذكير الفعل لتقدمه وتغليب المعطوف.
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أي القرار يقوله قول الآيس من وجدانه المتمني، وقرئ بالكسر وهو المكان.
[سورة القيامة (75) : الآيات 11 الى 13]
كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
كَلَّا ردع عن طلب المفر. لاَ وَزَرَ لا ملجأ مستعار من الجبل واشتقاقه من الوزر وهو الثقل.
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
إليه وحده استقرار العباد، أو إلى حكمه استقرار أمرهم، أو إلى مشيئته موضع قرارهم يدخل من يشاء الجنة ومن يشاء النار.
يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
بما قدم من عمل عمله وبما أخر منه لم يعمله، أو بما قدم من عمل عمله وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة عمل بها بعده، أو بما قدم من مال تصدق به وبما أخر فخلفه، أو بأول عمله وآخره.
[سورة القيامة (75) : الآيات 14 الى 19]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
حجة بينة على أعمالها لأنه شاهد بها، وصفها بالبصارة على المجاز، أو عين بصيرة فلا يحتاج إلى الإِنباء.
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
ولو جاء بكل ما يمكن أن يعتذر به جمع معذار وهو العذر، أو جمع معذرة على غير قياس كالمناكير في المنكر فإن قياسه معاذر وذلك أولى وفيه نظر.
لاَ تُحَرِّكْ
يا محمد، بِهِ
بالقرآن. لِسانَكَ
قبل أن يتم وحيه. لِتَعْجَلَ بِهِ
لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك.
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
في صدرك. وَقُرْآنَهُ
وإثبات قراءته في لسانك وهو تعليل للنهي.
فَإِذا قَرَأْناهُ
بلسان جبريل عليك. فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
قراءته وتكرر فيه حتى يرسخ في ذهنك.
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ بيان ما أشكل عليك من معانيه، وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، وهو اعتراض بما يؤكد التوبيخ على حب العجلة لأن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو أهم الأمور وأصل الدين فكيف بها في غيره، أو بذكر ما اتفق في أثناء نزول هذه الآيات. وقيل الخطاب مع الإِنسان المذكور والمعنى أنه يؤتى كتابه فيتلجلج لسانه من سرعة قراءته خوفاً، فيقال له لا تحرك به لسانك لتعجل به فإن علينا بمقتضى الوعد جمع ما فيه من أعمالك وقراءته، فإذا قرأناه فاتبع قراءته بالإقرار أو التأمل فيه، ثم إن علينا بيان أمره بالجزاء عليه.
[سورة القيامة (75) : الآيات 20 الى 23]
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)
كَلَّا ردع للرسول عن عادة العجلة أو للإِنسان عن الاغترار بالعاجل. بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ.
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ تعميم للخطاب إشعاراً بأن بني آدم مطبوعون على الاستعجال وإن كان الخطاب(5/266)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)
للإِنسان، والمراد به الجنس فجمع الضمير للمعنى ويؤيده قراءة ابن كثير وابن عامر والبصريين بالياء فيهما.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ بهية متهللة.
إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ تراه مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه ولذلك قدم المفعول، وليس هذا في كل الأحوال حتى ينافيه نظرها إلى غيره، وقيل منتظرة إنعامه ورد بأن الانتظار لا يسند إلى الوجه وتفسيره بالجملة خلاف الظاهر، وأن المستعمل بمعناه لا يتعدى بإلى وقول الشاعر:
وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ مِن مَلكٍ ... وَالبَحْرُ دُونَك زِدْتَني نِعَماً
بمعنى السؤال فإن الانتظار لا يستعقب العطاء.
[سورة القيامة (75) : الآيات 24 الى 25]
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ شديدة العبوس والباسل أبلغ من الباسر لكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه.
تَظُنُّ تتوقع أربابها. أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ داهية تكسر الفقار.
[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 27]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27)
كَلَّا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ إذا بلغت النفس أعالي الصدر وإضمارها من غير ذكر لدلالة الكلام عليها.
وَقِيلَ مَنْ راقٍ
وقال حاضر وصاحبها من يرقيه مما به من الرقية، أو قال ملائكة الموت أيكم يرقى بروحه ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب من الرقي.
[سورة القيامة (75) : الآيات 28 الى 30]
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وظن المحتضر أن الذي نزل به فراق الدنيا ومحابها.
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ والتوت ساقه بساقه فلا يقدر على تحريكهما، أو شدة فراق الدنيا بشدة خوف الآخرة.
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ سوقه إلى الله تعالى وحكمه.
[سورة القيامة (75) : الآيات 31 الى 33]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
فَلا صَدَّقَ ما يجب تصديقه، أو فلا صدق ماله أي فلا زكاة. وَلا صَلَّى ما فرض عليه والضمير فيهما للإنسان المذكور في أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ.
وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى عن الطاعة.
ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر افتخارا بذلك من المط، فإن المتبختر يمد خطاه فيكون أصله يتمطط، أو من المطا وهو الظهر فإنه يلويه.
[سورة القيامة (75) : الآيات 34 الى 35]
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ويل لك من الولي، وأصله أولاك الله ما تكرهه واللام مزيدة كما في رَدِفَ لَكُمْ أو أَوْلى لَكَ الهلاك. وقيل أفعل من الويل بعد القلب أدنى من أدون، أو فعلى من آل يؤول بمعنى عقباك النار.(5/267)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أي يتكرر ذلك عليه مرة بعد أخرى.
[سورة القيامة (75) : الآيات 36 الى 40]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً مهملاً لا يكلف ولا يجازى، وهو يتضمن تكرير إنكاره للحشر والدلالة عليه من حيث إن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح، والتكليف لا يتحقق إلا بالمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة.
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فقدره فعدله.
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وهو استدلال آخر بالإِبداء على الإِعادة على ما مر تقريره مراراً ولذلك رتب عليه قوله:
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه كان إذا قرأها قال سبحانك بلى»
وعنه صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أنه كان مؤمنا به» .(5/268)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
(76) سورة الإنسان
مكية وآيها إِحدى وثلاثون آية
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ استفهام تقرير وتقريب ولذلك فسر بقد وأصله أهل كقوله: أهل رَأَوْنَا بِسَفْحِ القَاعِ ذِي الأَكم. حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ طائفة محدودة من الزمان الممتد الغير المحدود. لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً بل كان شيئاً منسياً غير مذكور بالإِنسانية كالعنصر والنطفة، والجملة حال من الْإِنْسانِ أو وصف ل حِينٌ بحذف الراجع والمراد بالإِنسان الجنس لقوله:
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أو آدم بين أولاً خلقه ثم ذكر خلقه بنيه. أَمْشاجٍ أخلاط جمع مشج أو مشج أو مشيج من مشجت الشيء إذا خلطته، وجمع النطفة به لأن المراد بها مجموع مني الرجل والمرأة وكل منهما مختلف الأجزاء في الرقة والقوام والخواص، ولذلك يصير كل جزء منهما مادة عضو. وقيل مفرد كأعشار وأكباش. وقيل ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا اخضرا، أو أطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة. نَبْتَلِيهِ في موضع الحال أي مبتلين له بمعنى مريدين اختباره أو ناقلين له من حال إلى حال فاستعير له الابتلاء. فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات، فهو كالمسبب عن الابتلاء ولذلك عطف بالفاء على الفعل المقيد به ورتب عليه قوله:
[سورة الإنسان (76) : الآيات 3 الى 4]
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي بنصب الدلائل وإنزال الآيات. إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالان من الهاء، وإِمَّا للتفصيل أو التقسيم أي هَدَيْناهُ في حاليه جميعاً أو مقسوماً إليهما بعضهم شاكِراً بالاهتداء والأخذ فيه، وبعضهم كفور بالإِعراض عنه، أو من السَّبِيلَ ووصفه بالشكر والكفر مجاز. وقرئ «أَمَّا» بالفتح على حذف الجواب ولعله لم يقل كافراً ليطابق قسيمه محافظة على الفواصل، وإشعاراً بأن الإِنسان لا يخلو عن كفران غالباً وإنما المؤاخذ به التوغل فيه.
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ بها يقادون. وَأَغْلالًا بها يقيدون. وَسَعِيراً بها يحرقون، وتقديم وعيدهم وقد تأخر ذكرهم لأن الإِنذار أهم وأنفع، وتصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن، وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر «سلاسلا» للمناسبة.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 5 الى 6]
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6)(5/269)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
إِنَّ الْأَبْرارَ جمع بر كأرباب أو بار كأشهاد. يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ من خمر وهي في الأصل القدح تكون فيه. كانَ مِزاجُها ما يمزج بها. كافُوراً لبرده وعذوبته وطيب عرفه وقيل اسم ماء في الجنة يشبه الكافور في رائحته وبياضه. وقيل يخلق فيها كيفيات الكافور فتكون كالممزوجة به.
عَيْناً بدل من كافُوراً إن جعل اسم ماء أو من محل مِنْ كَأْسٍ على تقدير مضاف، أي ماء عين أو خمرها أو نصب على الاختصاص أو بفعل يفسره ما بعدها. يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ أي ملتذاً بها أو ممزوجاً بها، وقيل الباء مزيدة أو بمعنى من لأن الشرب مبتدأ منها كما هو. يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً يجرونها حيث شاؤوا إجراء سهلا.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 7 الى 8]
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ استئناف ببيان ما رزقوه لأجله كأنه سئل عنه فأجيب بذلك، وهو أبلغ في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفى بما أوَجَبه على نفسه لله تعالى كان أوفى بما أوجبه الله تعالى عليه.
وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ شدائده. مُسْتَطِيراً فاشيا منتشرا غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر، وهو أبلغ من طار، وفيه إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي.
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ حب الله تعالى أو الطعام أو الإِطعام. مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً يعني أسراء الكفار فإنه صلّى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول «أحسن إليه» ، أو الأسير المؤمن ويدخل فيه المملوك والمسجون،
وفي الحديث «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك» .
[سورة الإنسان (76) : الآيات 9 الى 10]
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ على إرادة القول بلسان الحال أو المقال إزاحة لتوهم المن وتوقع المكافأة المنقصة للأجر. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل المبعوث ما قالوا، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله. لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً أي شكراً.
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا فلذلك نحسن إليكم أو لا نطلب المكافأة منكم. يَوْماً عذاب يوم. عَبُوساً تعبس فيه الوجوه أو يشبه الأسد العبوس في ضراوته. قَمْطَرِيراً شديد العبوس كالذي يجمع ما بين عينيه من اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قريطها أو مشتق من القطر والميم مزيدة.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 11 الى 12]
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ بسبب خوفهم وتحفظهم عنه. وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً بدل عبوس الفجار وحزنهم.
وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا بصبرهم على أداء الواجبات واجتناب المحرمات وإيثار الأموال. جَنَّةً بستاناً يأكلون منه. وَحَرِيراً يلبسونه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحسن والحسين رضي الله عنهما مرضا فعادهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ناس فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما وفضة جارية لهما صوم ثلاث إن برئا، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم مسكين فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا ووضعوا الطعام وقف عليهم يتيم فآثروه، ثم وقف عليهم في الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك، فنزل جبريل عليه السلام بهذه السورة(5/270)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
وقال خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 13 الى 14]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ حال من هم في جَزاهُمْ أو صفة ل جَنَّةً. لاَ يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً يحتملهما وأن يكون حالاً من المستكن في مُتَّكِئِينَ، والمعنى أنه يمر عليهم فيها هواء معتدل لا حار محم ولا بارد مؤذ، وقيل الزمهرير القمر في لغة طيئ قال راجزهم:
وَلَيْلَةٌ ظَلاَمُهَا قَدِ اعْتَكَر ... قَطَعْتُهَا وَالزَّمْهَرِيرُ مَا زَهَرْ
والمعنى أن هواءها مضيء بذاته لا يحتاج إلى شمس وقمر.
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها حال أو صفة أخرى معطوفة على ما قبلها، أو عطف على جَنَّةً أي وجنة أخرى دانية على أنهم وعدوا جنتين كقوله: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وقرئت بالرفع على أنها خبر ظِلالُها والجملة حال أو صفة. وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا معطوف على ما قبله أو حال من دانية، وتذليل القطوف ان تجعل سهلة التناول لا تمتنع على قطافها كيف شاؤوا.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 15 الى 18]
وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)
وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ وأباريق بلا عروة. كانَتْ قَوارِيرَا.
قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ أي تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضة ولينها، وقد نون وارِيرَ
من نون «سلاسلاً» وابن كثير الأولى لأنها رأس الآية، وقرئ «قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ» على هي «قَوارِيرَ» .
قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي قدروها في أنفسهم فجاءت مقاديرها وأشكالها كما تمنوه، أو قدروها بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها، أو قدر الطائفون بها المدلول عليهم بقوله يطاف شرابها على قدر اشتهائهم، وقرئ «قَدَّرُوهَا» أي جعلوا قادرين لها كما شاؤوا من قدر منقولاً من قدرت الشيء.
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا ما يشبه الزنجبيل في الطعم وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، ولذلك حكم بزيادة الباء والمراد به أن ينفي عنها لذع الزنجبيل ويصفها بنقيضه، وقيل أصله سل سبيلا فسميت به كتأبط شراً لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 19 الى 20]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ دائمون. إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً من صفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم وانعكاس شعاع بعضهم إلى بعض.
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر لأنه عام معناه أن بصرك أينما وقع. رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً واسعاً،
وفي الحديث «أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه»
هذا وللعارف أكبر من ذلك وهو أن تنتقش نفسه بجلايا الملك وخفايا الملكوت، فيستضيء بأنوار قدس الجبروت.(5/271)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
[سورة الإنسان (76) : الآيات 21 الى 22]
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ يعلوهم ثياب الحرير الخضر ما رق منها وما غلظ، ونصبه على الحال من هم في عليهم أو حَسِبْتَهُمْ، أو مُلْكاً على تقدير مضاف أي وأهل ملك كبير عاليهم، وقرأ نافع عالِيَهُمْ وحمزة بالرفع على أنه خبر ثِيابُ. وقرأ ابن كثير وأبو بكر خُضْرٌ بالجر حملاً على سُندُسٍ بالمعنى فإنه اسم جنس، وَإِسْتَبْرَقٌ بالرفع عطفاً على ثِيابُ، وقرأهما حفص وحمزة والكسائي بالرفع، وقرئ وَإِسْتَبْرَقٌ بوصل الهمزة والفتح على أنه استفعل من البريق جعل علماً لهذا النوع من الثياب. وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ عطف على وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولا يخالفه قوله أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ لإمكان الجمع والمعاقبة والتبعيض، فإن حلي أهل الجنة تختلف باختلاف أعمالهم، فلعله تعالى يفيض عليهم جزاء لما عملوه بأيديهم حليا وأنوارا تتفاوت تفاوت الذهب والفضة، أو حال من الضمير في عالِيَهُمْ بإضمار قد، وعلى هذا يجوز أن يكون هذا للخدم وذلك للمخدومين. وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً يريد به نوعاً آخر يفوق على النوعين المتقدمين ولذلك أسند سقيه إلى الله عز وجل، ووصفه بالطهورية فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله ملتذاً بلقائه باقياً ببقائه، وهي منتهى درجات الصديقين ولذلك ختم بها ثواب الأبرار.
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً على إضمار القول والإِشارة إلى ما عد من ثوابهم. وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً مجازى عليه غير مضيع.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 24]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا مفرقاً منجماً لحكمةٍ اقتضته، وتكرير الضمير مع أن مزيد لاختصاص التنزيل به.
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بتأخير نصرك على كفار مكة وغيرهم. وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أي كل واحدُ من مرتكب الإِثم الداعي لك إليه ومن الغالي في الكفر الداعي لك إليه، وأو للدلالة على أنهما سيان في استحقاق العصيان والاستقلال به والتقسيم باعتبار ما يدعونه إليه، فإن ترتب النهي على الوصفين مشعر بأنه لهما وذلك يستدعي أن تكون المطاوعة في الإِثم والكفر. فإن مطاوعتهما فيما ليس بإثم ولا كفر غير محظور.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 25 الى 26]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ودَاوم على ذكره أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر فإن الأصيل يتناول وقتيهما.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وبعض الليل فصل له تعالى، ولعل المراد به صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص. وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا وتهجد له طائفة طويلة من الليل.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 27 الى 28]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)(5/272)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ أمامهم أو خلف ظهورهم. يَوْماً ثَقِيلًا شديداً مستعار من الثقل الباهظ للحامل، وهو كالتعليل لما أمر به ونهى عنه.
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب. وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا وإذا شئنا أهلكناهم وبَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا في الخلقة، وشدة الأسر يعني النشأة الثانية ولذلك جيء ب إِذا أو بدلنا غيرهم ممن يطيع وَإِذا لتحقق القدرة وقوة الداعية.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 29 الى 31]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ الإِشارة إلى السورة أو الآيات القريبة، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا تقرب إليه بالطاعة.
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وما تشاؤون ذلك إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر يشاؤن بالياء. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بما يستأهل كل أحد. حَكِيماً لا يشاء إلا ما تقتضيه حكمته.
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ بالهداية والتوفيق للطاعة. وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً نصب الظَّالِمِينَ بفعل يفسره أَعَدَّ لَهُمْ مثل أوعد وكافأ ليطابق الجملة المعطوف عليها، وقرئ بالرفع على الابتداء.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريرا» .(5/273)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)
(77) سورة المرسلات
مكية وآيها خمسون آية
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5)
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً إقسام بطوائف من الملائكة أرسلهن الله تعالى بأوامره متتابعة. فعصفن عصف الرياح في امتثال أمره، ونشرن الشرائع في الأرض، أو نشرن النفوس الموتى بالجهل بما أوحين من العلم، ففرقن بين الحق والباطل، فألقين إلى الأنبياء ذكراً عذراً للمحقين ونذراً للمبطلين، أو بآيات القرآن المرسلة بكل عرف إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فعصفن سائر الكتب والأديان بالنسخ ونشرن آثار الهدى والحكم في الشرق والغرب، وفرقن بين الحق والباطل فألقين ذكر الحق فيما بين العالمين. أو بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها فعصفن ما سوى الحق ونشرن أثر ذلك في جميع الأعضاء، ففرقن بين الحق بذاته والباطل في نفسه فيرون كل شيء هالكاً إلا وجهه، فألقين ذكراً بحيث لا يكون في القلوب والألسنة إلا ذكر الله تعالى. أو برياح عذاب أرسلن فعصفن، ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو، ففرقن فألقين ذكراً أي تسببن له، فإن العاقل إذا شاهد هبوبها وآثارها ذكر الله تعالى وتذكر كمال قدرته، وعُرْفاً إما نقيض النكر وانتصابه على العلة أي أرسلن للإِحسان والمعروف، أو بمعنى المتتابعة من عرف الفرس وانتصابه على الحال.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 6 الى 10]
عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10)
عُذْراً أَوْ نُذْراً مصدران لعذر إذا محا الإِساءة وأنذر إذا خوف، أو جمعان لعذير بمعنى المعذرة ونذير بمعنى الإِنذار، أو بمعنى العاذر والمنذر، ونصبهما على الأولين بالعلية أي عُذْراً للمحقين أَوْ نُذْراً للمبطلين، أو البدل من ذِكْراً على أن المراد به الوحي أو ما يعم التوحيد والشرك والإِيمان والكفر وعلى الثالث بالحالية، وقرأهما أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص بالتخفيف.
إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ جواب القسم ومعناه أن الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة.
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ محقت أو أذهب نورها.
وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ صدعت.
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ كالحب ينسف بالمنسف.(5/274)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
[سورة المرسلات (77) : الآيات 11 الى 15]
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ عين لها وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على الأمم بحصوله، فإنه لا يتعين لهم قبله، أو بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره، وقرأ أبو عمرو «وقتت» على الأصل.
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي يقال لأي يوم أخرت، وضرب الأجل للجمع وهو تعظيم لليوم وتعجيب من هوله، ويجوز أن يكون ثاني مفعولي أُقِّتَتْ على أنه بمعنى أعلمت.
لِيَوْمِ الْفَصْلِ بيان ليوم التأجيل.
وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بذلك، ووَيْلٌ في الأصل مصدر منصوب بإضمار فعله عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات الهلك للمدعو عليه، ويَوْمَئِذٍ ظرفه أو صفته.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 19]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كقوم نوح وعاد وثمود، وقرئ «نُهْلِكِ» من هلكه بمعنى أهلكه.
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ أي ثُمَّ نحن نُتْبِعُهُمُ نظراءهم ككفار مكة، وقرئ بالجزم عطفاً على نُهْلِكِ فيكون الْآخِرِينَ المتأخرين من المهلكين كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام.
كَذلِكَ مثل ذلك الفعل. نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ بكل من أجرم.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات الله وأنبيائه فليس تكريراً، وكذا إن أطلق التكذيب أو علق في الموضعين بواحد، لأن ال وَيْلٌ الأول لعذاب الآخرة وهذا للإِهلاك في الدنيا، مع أن التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 20 الى 24]
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ نطفة مذرة ذليلة.
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ هو الرحم.
إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ إلى مقدار معلوم من الوقت قدره الله تعالى للولادة.
فَقَدَرْنا على ذلك، أو فقدرناه ويدل عليه قراءة نافع والكسائي بالتشديد. فَنِعْمَ الْقادِرُونَ نحن.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 25 الى 28]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)(5/275)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً كافتة اسم لما يكفت أي يضم ويجمع كالضمام والجماع اسم لما يضم ويجمع، أو مصدر نعت به أو جمع كافت كصائم وصيام، أو كفت وهو الوعاء أجرى على الأرض باعتبار أقطارها.
أَحْياءً وَأَمْواتاً منتصبان على المفعولية وتنكيرهما للتفخيم، أو لأن أحياء الإِنس وأمواتهم بعض الأحياء والأموات، أو الحالية من مفعوله المحذوف للعلم به وهو الإِنس، أو بنجعل على المفعولية وكِفاتاً حال أو الحالية فيكون المعنى بالأحياء ما ينبت وبالأموات ما لا ينبت.
وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ جبالاً ثوابت طوالاً والتنكير للتفخيم، أو الإِشعار بأن فيها ما لم يعرف ولم ير وَأَسْقَيْناكُمْ مَّاء فُراتاً بخلق الأنهار والمنابع فيها.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأمثال هذه النعم.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 31]
انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)
انْطَلِقُوا أي يقال لهم انطلقوا. إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ من العذاب.
انْطَلِقُوا خصوصاً وعن يعقوب انْطَلِقُوا على الإِخبار عن امتثالهم للأمر اضطراراً. إِلى ظِلٍّ يعني ظل دخان جهنم كقوله تعالى: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ يتشعب لعظمه كما ترى الدخان العظيم يتفرق تفرق الذوائب، وخصوصية الثلاث إما لأن حجاب النفس عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم، أو لأن المؤدي إلى هذا العذاب هو القوة الواهمة الحالية في الدماغ والغضبية التي في يمين القلب والشهوية التي في يساره، ولذلك قيل شعبة تقف فوق الكافر وشعبة عن يمينه وشعبة عن يساره.
لاَّ ظَلِيلٍ تهكم بهم ورد لما أوهم لفظ الظل. وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وغير مغن عنهم من حر اللهب شيئا.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 32 الى 33]
إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)
إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ أي كل شرارة كَالْقَصْرِ في عظمها، ويؤيده أنه قرئ «بشرار» ، وقيل هو جمع قصرة وهي الشجرة الغليظة، وقرئ «كالقصر» بمعنى القصور كرهن ورهن و «كالقصر» جمع قصرة كحاجة وحوج، و «كالقصر» جمع قصرة وهي أصل العنق والهاء للشعب.
كَأَنَّهُ جَمَالاتٌ جمع جمال أو جمالة جمع جمل. صُفْرٌ فإن الشرار بما فيه من النارية يكون أصفر، وقيل سود لأن سواد الإِبل يضرب إلى الصفرة، والأول تشبيه في العظم وهذا في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط وسرعة الحركة، وقرأ حمزة والكسائي وحفص جِمالَتٌ وعن يعقوب جُمَالاَتٌ بالضم جمع جمالة، وقد قرئ بها وهي الحبل الغليظ من حبال السفينة شبهه بها في امتداده والتفافه.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 34 الى 37]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ أي بما يستحق فإن النطق بما لا ينفع كلا نطق، أو بشيء من فرط الدهشة والحيرة وهذا في بعض المواقف، وقرئ بنصب ال يَوْمُ أي هذا الذي ذكر واقع يومئذ.(5/276)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ عطف فَيَعْتَذِرُونَ على يُؤْذَنُ ليدل على نفي الإِذن والاعتذار عقيبه مطلقاً، ولو جعله جواباً لدل على أن عدم اعتذارهم لعدم الإذن فأوهم ذلك أن لهم عذراً لكن لا يؤذن لهم فيه.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 38 الى 40]
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين المحق والمبطل. جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ تقرير وبيان للفصل.
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا وإظهار لعجزهم.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إذ لا حيلة لهم في التخلص من العذاب.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 45]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ عن الشرك لأنهم في مقابلة المكذبين. فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ.
وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ مستقرون في أنواع الترفه.
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي مقولاً لهم ذلك.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في العقيدة.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يمحض لهم العذاب المخلد ولخصومهم الثواب المؤبد.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 46 الى 47]
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ حال من المكذبين أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك، تذكيراً لهم بحالهم في الدنيا وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث عرضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 48 الى 50]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا أطيعوا وأخضعوا أو صلوا أو اركعوا في الصلاة. إذ
روي: أنه نزل حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثقيفاً بالصلاة فقالوا: لا نجبي أي لا نركع فإنها مسبة.
وقيل هو يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. لاَ يَرْكَعُونَ لا يمتثلون واستدل به على أن الأمر للوجوب وأن الكفار مخاطبون بالفروع.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ بعد القرآن يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا به وهو معجز في ذاته مشتمل على الحجج الواضحة والمعاني الشريفة.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والمرسلات كتب له أنه ليس من المشركين» .(5/277)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)
(78) سورة النبأ
مكية، وآيها إحدى وأربعون آية
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
عَمَّ يَتَساءَلُونَ أصله عما فحذف الألف لما مر، ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يتساءلون عنه كأنه لفخامته خفي جنسه فيسأل عنه، والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم، أو يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين عنه استهزاء كقولهم: يتداعونهم ويتراءونهم أي يدعونهم ويرونهم، أو للناس.
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ بيان لشأن المفخم أو صلة يَتَساءَلُونَ وعَمَّ متعلق بمضمر مفسر به، ويدل عليه قراءة يعقوب: «عمه» .
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ بجزم النفي والشك فيه، أو بالإقرار والإِنكار.
[سورة النبإ (78) : الآيات 4 الى 5]
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردع عن التساؤل ووعيد عليه.
ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ تكرير للمبالغة وثُمَّ للإشعار بأن الوعيد الثاني أشد، وقيل الأول عند النزع والثاني في القيامة، أو الأول للبعث والثاني للجزاء. وعن ابن عامر «ستعلمون» بالتاء على تقدير قل لهم ستعلمون.
[سورة النبإ (78) : الآيات 6 الى 8]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً تذكير ببعض ما عاينوا من عجائب صنعه الدالة على كمال قدرته ليستدلوا بذلك على صحة البعث كما مر تقريره مرارا، وقرئ «مهداً» أي أنها لهم كالمهد للصبي مصدر سمي به ما يمهد لينوم عليه.
وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ذكراً وأنثى.
[سورة النبإ (78) : الآيات 9 الى 13]
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13)
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً قطعاً عن الإِحساس والحركة استراحة للقوى الحيوانية وإزاحة لكلالها، أو موتاً لأنه أحد التوفيين ومنه المسبوت للميت، وأصله القطع أيضاً.
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً غطاء يستتر بظلمته من أراد الاختفاء.
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً وقت معاش تتقلبون فيه لتحصيل ما تعيشون به، أو حياة تنبعثون فيها عن(5/278)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
نومكم.
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً سبع سموات أقوياء محكمات لا يؤثر فيها مرور الدهور.
وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً متلألئاً وقاداً من وهجت النار إذا أضاءت، أو بالغاً في الحرارة من الوهج وهو الحر والمراد الشمس.
[سورة النبإ (78) : الآيات 14 الى 16]
وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك: احصد الزرع إذا حان له أن يحصد، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض، أو من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، أو الرياح ذوات الأعاصير، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشئ السحاب وتدرأ خلافه، ويؤيده أنه قرئ «بالمعصرات» . مَاءً ثَجَّاجاً منصباً بكثرة يقال ثجه وثج بنفسه.
وفي الحديث «أفضل الحج العج والثج»
أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي، وقرئ «ثجاجا» و «مثاجج» الماء مصابه.
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً ما يقتات به وما يعتلف من التبن والحشيش.
وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً ملتفة بعضها ببعض جمع لف كجذع. قال:
جَنَّة لفَّ وَعَيْشٌ مُغْدق ... وَنَدَامى كُلُّهُمْ بِيضٌ زهر
أو لفيف كشريف أو لف جمع لفاء كخضراء وخضر وأخضار أو متلفة بحذف الزوائد.
[سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ في علم الله تعالى أو في حكمه. مِيقاتاً حداً تؤقت به الدنيا وتنتهي عنده، أو حداً للخلائق ينتهون إليه.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بدل أو بيان ليوم الفصل. فَتَأْتُونَ أَفْواجاً جماعات من القبور إلى المحشر.
روي «أنه صلّى الله عليه وسلم سئل عنه فقال: يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون يسحبون على وجوههم، وبعضهم عمي وبعضهم صم بكم، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم فيسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلوبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم»
ثم فسرهم بالقتات وأهل السحت وأكلة الربا والجائرين في الحكم والمعجبين بأعمالهم، والعلماء الذين خالف قولهم عملهم، والمؤذين جيرانهم والساعين بالناس إلى السلطان، والتابعين للشهوات المانعين حق الله، والمتكبرين الخيلاء.
[سورة النبإ (78) : الآيات 19 الى 20]
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20)
وَفُتِحَتِ السَّماءُ وشققت وقرأ الكوفيون بالتخفيف. فَكانَتْ أَبْواباً فصارت من كثرة الشقوق كأن الكل أبواب أو فصارت ذات أبواب.
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ أي في الهواء كالهباء. فَكانَتْ سَراباً مثل سراب إذ ترى على صورة الجبال ولم تبق على حقيقتها لتفتت أجزائها وانبثاثها.
[سورة النبإ (78) : الآيات 21 الى 23]
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23)
.(5/279)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار، أو خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مجازهم عليها، كالمضمار فإنه الموضع الذي تضمر فيه الخيل، أو مجدة في ترصد الكفرة لئلا يشذ منها واحد كالمطعان، وقرئ إِنَّ بالفتح على التعليل لقيام الساعة.
لِلطَّاغِينَ مَآباً مرجعاً ومأوى.
لابِثِينَ فِيها وقرأ حمزة وروح «لبثين» وهو أبلغ. أَحْقاباً دهوراً متتابعة، وليس فيها ما يدل على خروجهم منها إذ لو صح أن الحقب ثمانون سنة أو سبعون ألف سنة، فليس فيه ما يقتضي تناهي تلك الأحقاب لجواز أن يكون المراد أحقاباً مترادفة كلما مضى حقب تبعه آخر، وإن كان فمن قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار، ولو جعل قوله:
[سورة النبإ (78) : الآيات 24 الى 26]
لاَّ يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26)
لاَّ يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً حالاً من المستكن في لابِثِينَ أو نصب أَحْقاباً ب لاَ يَذُوقُونَ احتمل أن يلبثوا فيها أحقاباً غير ذائقين إلا حميماً وغساقاً، ثم يبدلون جنساً آخر من العذاب، ويجوز أن يكون جمع حقب من حقب الرجل إذا أخطأه الرزق، وحقب العام إذا قل مطره وخيره فيكون حالاً بمعنى لابثين فيها حقبين، وقوله لاَ يَذُوقُونَ تفسير له والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار، أو النوم وبالغساق ما يغسق أي يسيل من صديدهم، وقيل الزمهرير وهو مستثنى من البرد إلا أنه أخر ليتوافق رؤوس الآي، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتشديد.
جَزاءً وِفاقاً أي جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم، أو موافقاً لها أو وافقها وفاقا، وقرئ «وفاقا» فعال من وفقه كذا.
[سورة النبإ (78) : الآيات 27 الى 28]
إِنَّهُمْ كانُوا لاَ يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28)
إِنَّهُمْ كانُوا لاَ يَرْجُونَ حِساباً بيان لما وافقه هذا الجزاء.
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً تكذيباً وفعال بمعنى تفعيل مطرد شائع في كلام الفصحاء. وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى الكذب كقوله:
فَصَدَقْتَهَا وَكَذَبْتَهَا ... وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَّابُهْ
وإنما أقيم مقام التكذيب للدلالة على أنهم كذبوا في تكذيبهم، أو المكاذبة فإنهم كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون كاذبين عندهم فكان بينهم مكاذبة، أو كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه، وعلى المعنيين يجوز أن يكون حالاً بمعنى كاذبين أو مكاذبين، ويؤيده أنه قرئ «كَذَّاباً» وهو جمع كاذب، ويجوز أن يكون للمبالغة فيكون صفة للمصدر أي تكذيبا مفرطا كذبه.
[سورة النبإ (78) : الآيات 29 الى 30]
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ وقرئ بالرفع على الابتداء. كِتاباً مصدر لأحصيناه فإن الأحصاء والكتبة يتشاركان في معنى الضبط أو لفعله المقدر أو حال بمعنى مكتوباً في اللوح، أو صحف الحفظة والجملة اعتراض وقوله:
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات ومجيئه على طريقة الالتفات للمبالغة.
وفي الحديث «هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار» .(5/280)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 35]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لاَّ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً فوزاً أو موضع فوز.
حَدائِقَ وَأَعْناباً بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة بدل من مَفازاً بدل الاشتمال أو البعض.
وَكَواعِبَ نساء فلكت ثديهن أَتْراباً لدات. وَكَأْساً دِهاقاً ملآنا وأدهق الحوض ملآه.
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً وقرأ الكسائي بالتخفيف أي كذباً أو مكاذبةٍ، إذ لا يكذب بعضهم بعضاً.
[سورة النبإ (78) : الآيات 36 الى 37]
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ. بمقتضى وعده. عَطاءً تفضلاً منه إذ لا يجب عليه شيء، وهو بدل من جَزاءً، وقيل منتصب به نصب المفعول به. حِساباً كافياً من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي، أو على حسب أعمالهم وقرئ «حِسَاباً» أي محسباً كالدراك بمعنى المدرك.
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا بدل من ربك وقد رفعه الحجازيان وأبو عمرو على الابتداء.
الرَّحْمنِ بالجر صفة له وكذا في قراءة ابن عامر وعاصم ويعقوب وبالرفع في قراءة أبي عمرو، وفي قراءة حمزة والكسائي بجر الأول ورفع الثاني على أنه خبر محذوف، أو مبتدأ خبره: لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً والواو لأهل السموات والأرض أي لا يملكون خطابه، والاعتراض عليه في ثواب أو عقاب لأنهم مملوكون له على الاطلاق فلا يستحقون عليه اعتراضاً وذلك لا ينافي الشفاعة بإذنه.
[سورة النبإ (78) : الآيات 38 الى 39]
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً تقرير وتوكيد لقوله لاَّ يَمْلِكُونَ، فإن هؤلاء الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم من الله إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما يكون صواباً كالشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه، فكيف يملكه غيرهم ويَوْمَ ظرف ل لاَّ يَمْلِكُونَ، أو ل يَتَكَلَّمُونَ والرُّوحُ ملك موكل على الأرواح أو جنسها، أو جبريل أو خلق أعظم من الملائكة.
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ الكائن لا محالة. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ إلى ثوابه. مَآباً بالإيمان والطاعة.
[سورة النبإ (78) : آية 40]
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
َّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
يعني عذاب الآخرة، وقربه لتحققه فإن كل ما هو آت قريب ولأن مبدأه الموت. وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ
يرى ما قدمه من خير أو شر، وْمَرْءُ
عام. وقيل هو الكافر لقوله: نَّا أَنْذَرْناكُمْ
فيكون الكافر ظاهراً وضع موضع الضمير لزيادة الذم، وا
موصولة منصوبة بينظر أو استفهامية منصوبة بدَّمَتْ
، أي ينظر أي شيء قدمت يداه. يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو في هذا اليوم فلم أبعث، وقيل يحشر سائر الحيوانات للاقتصاص ثم ترد تراباً فيود الكافر حالها.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة عم سقاه الله برد الشراب يوم القيامة» .(5/281)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)
(79) سورة النازعات
مكية وآيها خمس أو ست وأربعون آية
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5)
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً هذه صفات ملائكة الموت فإنهم ينزعون أرواح الكفار من أبدانهم غرقاً أي إغراقاً في النزع، فإنهم ينزعونها من أقاصي الأبدان، أو نفوساً غرقة في الأجساد وينشطون أي يخرجون أرواح المؤمنين برفق من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها، ويسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج الشيء من أعماق البحر، فيسبقون بأرواح الكفار إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، فيدبرون أمر عقابها وثوابها بأن يهيئوها لإدراك ما أعد لها من الآلام واللذات، أو الأوليان لهم والباقيات لطوائف من الملائكة يسبحون في مضيها أي يسرعون فيه فيسبقون إلى ما أمروا به فيدبرون أمره، أو صفات النجوم فإنها تنزع من المشرق إلى المغرب غرقاً في النزع بأن تقطع الفلك حتى تنحط في أقصى الغرب، وتنشط من برج إلى برج أي تخرج من نشط الثور إذا خرج من بلد إلى بلد، ويسبحن في الفلك فيسبق بعضها في السير لكونه أسرع حركة فيدبر أمراً أنيط بها، كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات، ولما كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب قسرية وحركاتها من برج إلى برج ملائمة سمى الأولى نزعاً والثانية نشطاً، أو صفات النفوس الفاضلة حال المفارقة فإنها تنزع عن الأبدان غرقاً أي نزعاً شديداً من إغراق النازع في القوس، وتنشط إلى عالم الملكوت وتسبح فيها فتسبق إلى حظائر القدس فتصير لشرفها وقوتها من المدبرات، أو حال سلوكها فإنها تنزع عن الشهوات فتنشط إلى عالم القدس، فتسبح في مراتب الارتقاء فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المكملات، أو صفات أنفس الغزاة، أو أيديهم تنزع القسي بإغراق السهام وينشطون بالسهم للرمي ويسبحون في البر والبحر فيسبقون إلى حرب العدو فيدبرون أمرها، أو صفات خيلهم فإنها تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها وتخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر، وتسبح في حربها فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر.
أقسم الله تعالى بها على قيام الساعة وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه.
[سورة النازعات (79) : الآيات 6 الى 9]
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ وهو منصوب به والمراد ب الرَّاجِفَةُ الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال لقوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أو الواقعة التي ترجف الأجرام عندها وهي النفخة الأولى.
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ التابعة وهي السماء والكواكب تنشق وتنتشر، أو النفخة الثانية. والجملة في موقع الحال.(5/282)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ شديدة الاضطراب من الوجيف وهي صفة القلوب والخبر:
أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي أبصار أصحابها ذليلة من الخوف ولذلك أضافها إلى القلوب.
[سورة النازعات (79) : الآيات 10 الى 12]
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ في الحالة الأولى يعنون الحياة بعد الموت من قولهم رجع فلان في حافرته أي طريقه التي جاء فيها، فحفرها أي أثر فيها بمشيه على النسبة كقوله: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أو تشبيه القابل بالفاعل وقرئ «في الحفرة» بمعنى المحفورة يقال حفرت أسنانه فحفرت حفرا وهي حفرة.
أَإِذا كُنَّا وقرأ نافع وابن عامر والكسائي إِذا كُنَّا على الخبر. عظاما نَاخِرَةً بالية وقرأ الحجازيان والشامي وحفص وروح نَخِرَةً وهي أبلغ.
قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ذات خسران أو خاسر أصحابها، والمعنى أنها إن صحت فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها وهو استهزاء منهم.
[سورة النازعات (79) : الآيات 13 الى 14]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ متعلق بمحذوف أي لا يستصعبوها فما هي إلا صيحة واحدة يعني النفخة الثانية.
فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتاً في بطنها، والساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لأن السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة للتي يجري ماؤها وفي ضدها نائمة، أو لأن سالكها يسهر خوفاً وقيل اسم لجهنم.
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 19]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أليس قد أتاك حديثه فيسليك على تكذيب قومك وتهددهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم.
إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً قد مر بيانه في سورة «طه» .
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى على إرادة القول، وقرئ «أن أذهب» لما في النداء من معنى القول.
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى هل لك ميل إلى أن تتطهر من الكفر والطغيان، وقرأ الحجازيان ويعقوب تَزَكَّى بالتشديد.
وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ وأرشدك إلى معرفته. فَتَخْشى بأداء الواجبات وترك المحرمات، إذ الخشية إنما تكون بعد المعرفة وهذا كالتفصيل لقوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً.
[سورة النازعات (79) : الآيات 20 الى 22]
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى أي فذهب وبلغ فأراه المعجزة الكبرى وهي قلب العصا حية فإنه كان المقدم والأصل، أو مجموع معجزاته فإنها باعتبار دلالتها كالآية الواحدة.
فَكَذَّبَ وَعَصى فكذب موسى وعصى الله عز وجل بعد ظهور الآية وتحقق الأمر.(5/283)
فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)
ثُمَّ أَدْبَرَ عن الطاعة. يَسْعى ساعياً في إبطال أمره أو أدبر بعد ما رأى الثعبان مرعوباً مسرعاً في مشيه.
[سورة النازعات (79) : الآيات 23 الى 26]
فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
فَحَشَرَ فجمع السحرة أو جنوده. فَنادى في المجمع بنفسه أو بمناد.
فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أعلى كل من يلي أمركم.
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أخذا منكلاً لمن رآه، أو سمعه في الآخرة بالإِحراق وفي الدنيا بالإِغراق، أو على كلمته الْآخِرَةِ وهي هذه وكلمته الأولى وهو قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي أو للتنكيل فيهما، أو لهما، ويجوز أن يكون مصدراً مؤكداً مقدراً بفعله.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى لمن كان من شأنه الخشية.
[سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 29]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أصعب خلقاً. أَمِ السَّماءُ ثم بين كيف خلقها فقال: بَناها ثم بين البناء فقال:
رَفَعَ سَمْكَها أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض أو ثخنها الذاهب في العلو رفيعاً. فَسَوَّاها فعدلها أو فجعلها مستوية، أو فتممها بما يتم به كمالها من الكواكب والتداوير وغيرها من قولهم: سوى فلان أمره إذا أصلحه.
وَأَغْطَشَ لَيْلَها أظلمه منقول من غطش الليل إذا أظلم، وإنما أضافه إليها لأنه يحدث بحركتها.
وَأَخْرَجَ ضُحاها وأبرز ضوء شمسها. كقوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها يريد النهار.
[سورة النازعات (79) : الآيات 30 الى 33]
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها بسطها ومهدها للسكنى.
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بتفجير العيون. مَرْعاها ورعيها وهو في الأصل لموضع الرعي، وتجريد الجملة عن العاطف لأنها حال بإضمار قد أو بيان للدحو.
وَالْجِبالَ أَرْساها أثبتها وقرئ «والأرض» و «الجبال» بالرفع على الابتداء، وهو مرجوح لأن العطف على فعلية.
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ تمتيعا لكم ولمواشيكم.
[سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 39]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39)
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الداهية التي تطم أي تعلو على سائر الدواهي. الْكُبْرى التي هي أكبر الطامات وهي القيامة، أو النفخة الثانية أو الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى بأن يراه مدوناً في صحيفته وكان قد نسيه من فرط الغفلة أو طول المدة،(5/284)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
وهو بدل من «إذا جاءت» وما موصولة أو مصدرية وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ وأظهرت. لِمَنْ يَرى لكل راء بحيث لا تخفى على أحد، وقرئ «وَبُرّزَتِ» و «لمن رأى» و «لمن ترى» على أن فيه ضمير الجحيم كقوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ. أو أنه خطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم أي لمن تراه من الكفار، وجواب فَإِذا جاءَتِ محذوف دل عليه يَوْمَ يَتَذَكَّرُ أو ما بعده من التفصيل.
فَأَمَّا مَنْ طَغى حتى كفر.
وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فانهمك فيها ولم يستعد للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس.
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى هي مأواه واللام فيه سادة مسد الإضافة للعلم بأن صاحب المأوى هو الطاغي، وهي فصل أو مبتدأ.
[سورة النازعات (79) : الآيات 40 الى 41]
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ مقامه بين يدي ربه لعلمه بالمبدأ والمعاد.
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى لعلمه بأنه مرد.
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ليس له سواها مأوى.
[سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 44]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها متى إرسَاؤهَا أي إقامتها وإثباتها، أو منتهاها ومستقرها من مرسى السفينة وهو حيث تنتهي إليه وتستقر فيه.
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها في أي شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم أي ما أنت من ذكرها لهم، وتبيين وقتها في شيء فإن ذكرها لا يزيدهم إلا غياً. ووقتها مما استأثره الله تعالى بعلمه. وقيل فِيمَ إنكار لسؤالهم وأَنْتَ مِنْ ذِكْراها مستأنف، ومعناه أنت ذكر من ذكرها أي علامة من أشراطها، فإن إرساله خاتماً للأنبياء أمارة من أماراتها، وقيل إنه متصل بسؤالهم والجواب.
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي منتهى علمها.
[سورة النازعات (79) : الآيات 45 الى 46]
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها إنما بعثت لإنذار من يخاف هولها، وهو لا يناسب تعيين الوقت وتخصيص من يخشى لأنه المنتفع به، وعن أبي عمرو ومنذر بالتنوين والإِعمال على الأصل لأنه بمعنى الحال.
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا أو في القبور. إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي عشية يوم أو ضحاه كقوله إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ولذلك أضاف الضحى إلى ال عَشِيَّةً لأنهما من يوم واحد.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة النازعات كان ممن حبسه الله في القيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة المكتوبة» .(5/285)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
(80) سورة عبس
مكية وآيها ثنتان وأربعون آية
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى
روي: أن ابن أم مكتوم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش يدعوهم إلى الإِسلام، فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، واستخلفه على المدينة مرتين.
وقرئ «عبّس» بالتشديد للمبالغة وأَنْ جاءَهُ علة ل تَوَلَّى، أو عَبَسَ على اختلاف المذهبين، وقرئ «ءاأن» بهمزتين وبألف بينهما بمعنى ألئن جاءه الأعمى فعل ذلك، وذكر الأعمى للإِشعار بعذره في الإِقدام على قطع كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالقوم والدلالة على أنه أحق بالرأفة والرفق، أو لزيادة الإِنكار كأنه قال: تولى لكونه أعمى كالالتفات في قوله:
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي: وأي شيء يجعلك دارياً بحاله لعله يتطهر من الآثام بما يتلقف منك.
وفيه إيماء بأن إعراضه كان لتزكية غيره.
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أو يتعظ فتنفعه موعظتك، وقيل الضمير في لَعَلَّهُ للكافر أي أنك طمعت في تزكيه بالإِسلام وتذكره بالموعظة ولذلك أعرضت عن غيره، فما يدريك أن ما طمعت فيه كائن، وقرأ عاصم فتنفعه بالنصب جواباً للعل.
[سورة عبس (80) : الآيات 5 الى 7]
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى تتعرض له بالإِقبال عليه وأصله تتصدى، وقرأ ابن كثير ونافع تَصَدَّى بالإدغام وقرئ. تَصَدَّى أي تعرض وتدعى إلى التصدي.
وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ.
[سورة عبس (80) : الآيات 8 الى 10]
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يسرع طالباً للخير.
وَهُوَ يَخْشى الله أو أذية الكفار في إتيانك، أو كبوة الطريق لأنه أعمى لا قائد له.
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى تتشاغل، يقال لها عنه والتهى وتَلَهَّى، ولعل ذكر التصدي والتلهي للإِشعار بأن العتاب على اهتمام قلبه بالغني وتلهيه عن الفقير، ومثله لا ينبغي له ذلك.
[سورة عبس (80) : الآيات 11 الى 16]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)(5/286)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)
كَلَّا ردع عن المعاتب عليه أو عن معاودة مثله. إِنَّها تَذْكِرَةٌ.
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ حفظه أو اتعظ به والضميران للقرآن، أو العتاب المذكور وتأنيث الأول لتأنيث خبره.
فِي صُحُفٍ مثبتة فيها صفة لتذكرة، أو خبر ثان أو خبر لمحذوف. مُكَرَّمَةٍ عند الله.
مَرْفُوعَةٍ القدر. مُطَهَّرَةٍ منزهة عن أيدي الشياطين:
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كتبة من الملائكة أو الأنبياء ينتسخون الكتب من اللوح أو الوحي، أو سفراء يسفرون بالوحي بين الله تعالى ورسله، أو الأمة جمع سافر من السفر، أو السفارة والتركيب للكشف يقال سفرت المرأة إذا كشفت وجهها.
كِرامٍ أعزاء على الله أو متعطفين على المؤمنين يكلمونهم ويستغفرون لهم. بَرَرَةٍ أتقياء.
[سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 19]
قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ دعاه عليه بأشنع الدعوات وتعجب من إفراطه في الكفران، وهو مع قصره يدل على سخط عظيم وذم بليغ.
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بيان لما أنعم عليه خصوصاً من مبدأ حدوثه، والاستفهام للتحقير ولذلك أجاب عنه بقوله:
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ فهيأه لما يصلح له من الأعضاء والأشكال، أو فَقَدَّرَهُ أطواراً إلى أن تم خلقته.
[سورة عبس (80) : الآيات 20 الى 22]
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثم سهل مخرجه من بطن أمه بأن فتح فوهة الرحم وألهمه أن ينتكس، أو ذلل له سبيل الخير والشر ونصب السبيل بفعل يفسره الظاهر للمبالغة في التيسير، وتعريفه باللام دون الإِضافة للإِشعار بأنه سبيل عام، وفيه على المعنى الأخير إيماء بأن الدنيا طريق والمقصد غيرها ولذلك عقبه بقوله:
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ وعد الإِماتة والإِقبار في النعم لأن الإِماتة وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية واللذات الخالصة والأمر بالقبر تكرمة وصيانة عن السباع، وفي إِذا شاءَ إشعار بأن وقت النشور غير متعين في نفسه، وإنما هو موكول إلى مشيئته تعالى.
[سورة عبس (80) : الآيات 23 الى 25]
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25)
كَلَّا ردع للإِنسان بما هو عليه. لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ لم يقض بعد من لدن آدم إلى هذه الغاية ما أمره الله بأسره، إذ لا يخلو أحد من تقصير ما.
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ إتباع للنعم الذاتية بالنعم الخارجية.
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا استئناف مبين لكيفية إحداث الطعام، وقرأ الكوفيون بالفتح على البدل منه بدل الاشتمال.
[سورة عبس (80) : الآيات 26 الى 28]
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28)
.(5/287)
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أي بالنبات أو بالكراب، وأسند الشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب.
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا كالحنطة والشعير.
وَعِنَباً وَقَضْباً يعني الرطبة سميت بمصدر قضبه إذا قطعه لأنها تقضب مرة بعد أخرى.
[سورة عبس (80) : الآيات 29 الى 32]
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً عظاماً وصف به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها، أو لأنها ذات أشجار غلاظ مستعار من وصف الرقاب.
وَفاكِهَةً وَأَبًّا ومرعى من أب إذا أم لأنه يؤم وينتجع، أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه متهيئ للرعي، أو فاكهة يابسة تؤوب للشتاء.
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ فإن الأنواع المذكورة بعضها طعام وبعضها علف.
[سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 37]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ أي النفخة وصفت بها مجازاً لأن الناس يصخون لها.
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لاشتغاله بشأنه وعلمه بأنهم لا ينفعونه، أو للحذر من مطالبتهم بما قصر في حقهم وتأخير الأحب فالأحب للمبالغة كأنه قيل: يفر من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته وبنيه.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ يكفيه في الاهتمام به، وقرئ «يعنيه» أي يهمه.
[سورة عبس (80) : الآيات 38 الى 42]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ مضيئة من إسفار الصبح.
ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ لما ترى من النعيم.
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ غبار وكدورة.
تَرْهَقُها قَتَرَةٌ يَغشاها سواد وظلمة.
أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ الذين جمعوا إلى الكفر الفجور، فلذلك يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة.
قال النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر» .(5/288)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
(81) سورة التكوير
مكية وآيها تسع وعشرون آية
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ لفت من كورت العمامة إذا لففتها بمعنى رفعت لأن الثوب إذا أريد رفعه لف، أو لف ضوؤها فذهب انبساطه في الآفاق وزال أثره، أو ألقيت عن فلكها من طعنه فكوره إذا ألقاه مجتمعاً والتركيب للإدارة والجمع وارتفاع الشمس بفعل يفسره ما بعدها أولى لأن إذا الشرطية تطلب الفعل.
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ انقضت قال: أَبْصِرْ خَرْبَانَ فَضَاءَ فانكدر. أو أظلمت من كدرت الماء فانكدر.
وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ عن وجه الأرض أو في الجو.
[سورة التكوير (81) : الآيات 4 الى 7]
وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
وَإِذَا الْعِشارُ النوق اللواتي أتى على حملهن عشرة أشهر جمع عشراء. عُطِّلَتْ تركت مهملة، أو السحائب عطلت عن المطر، وقرئ بالتخفيف.
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ جمعت من كل جانب أو بعثت للقصاص ثم ردت تراباً، أو أميتت من قولهم إذا أجحفت السنة بالناس حشرتهم، وقرئ بالتشديد.
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أحميت أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى تعود بحراً واحداً، من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ليحميه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وروح بالتخفيف.
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قرنت بالأبدان أو كل منها بشكلها، أو بكتابها وعملها أو نفوس المؤمنين بالحور ونفوس الكافرين بالشياطين.
[سورة التكوير (81) : الآيات 8 الى 10]
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ المدفونة حية وكانت العرب تئد البنات مخافة الإِملاق، أو لحوق العار بهم من أجلهن.
سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ تبكيتاً لوائدها كتبكيت النصارى بقوله تعالى لعيسى عليه الصلاة والسلام أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وقرئ «سألت» أي خاصمت عن نفسها وسألت، وإنما قيل قُتِلَتْ على الإِخبار عنها وقرئ «قُتِلَتْ» على الحكاية.
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ يعني صحف الأعمال فإنها تطوى عند الموت وتنشر وقت الحساب. وقيل نُشِرَتْ فرقت بين أصحابها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالتشديد للمبالغة في النشر، أو(5/289)
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
لكثرة الصحف أو شدة التطاير.
[سورة التكوير (81) : الآيات 11 الى 14]
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14)
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ قلعت وأزيلت كما يكشط الإِهاب عن الذبيحة، وقرئ «قشطت» واعتقاب القاف والكاف كثير.
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أوقدت إيقاداً شديداً وقرأ نافع وابن عامر وحفص ورويس بالتشديد.
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ قربت من المؤمنين. عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ جواب إِذَا وإنما صح والمذكور في سياقها اثنتا عشرة خصلة ست منها في مبادئ قيام الساعة قبل فناء الدنيا وست بعده، لأن المراد زمان متسع شامل لها ولمجازاة النفوس على أعمالها، ونَفْسٌ في معنى العموم كقولهم تمرة خير من جرادة.
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 18]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18)
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ بالكواكب الرواجع من خنس إذا تأخر، وهي ما سوى النيرين من الكواكب السيارات ولذلك وصفها بقوله:
الْجَوارِ الْكُنَّسِ أي السيارات التي تختفي تحت ضوء الشمس من كنس الوحش إذا دخل كناسه، وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر.
وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أقبل ظلامه أو أدبر وهو من الأضداد يقال عسعس الليل وسعسع إذا أدبر.
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي أضاء غبرته عند إقبال روح ونسيم.
[سورة التكوير (81) : الآيات 19 الى 22]
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
إِنَّهُ أي القرآن. لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني جبريل فإنه قاله عن الله تعالى.
ذِي قُوَّةٍ كقوله شديد القوى. عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ عند الله ذي مكانة.
مُطاعٍ في ملائكته. ثَمَّ أَمِينٍ على الوحي، وثم يحتمل اتصاله بما قبله وما بعده، وقرئ «ثُمَّ» تعظيماً للأمانة وتفضيلاً لها على سائر الصفات.
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ كما تبهته الكفرة واستدل بذلك على فضل جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام حيث عد فضائل جبريل واقتصر على نفي الجنون عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو ضعيف إذ المقصود منه نفي قولهم إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ لا تعداد فضلهما والموازنة بينهما.
[سورة التكوير (81) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25)
وَلَقَدْ رَآهُ ولقد رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جبريل عليه الصلاة والسلام. بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ بمطلع الشمس الأعلى.
وَما هُوَ وما محمد عليه الصلاة والسلام. عَلَى الْغَيْبِ على ما يخبره من الموحى إليه وغيره من الغيوب. بظنين بمتهم من الظنة، وهي التهمة، وقرأ نافع وعاصم وحمزة وابن عامر بِضَنِينٍ بالضاد من(5/290)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
الضن وهو البخل أي لا يبخل بالتبليغ والتعليم، والضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، والظاء من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا.
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ بقول بعض المسترقة للسمع، وهو نفي لقولهم إنه لكهانة وسحر.
[سورة التكوير (81) : الآيات 26 الى 29]
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم والقرآن، كقولك لتارك الجادة: أين تذهب.
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ تذكير لمن يعلم.
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بتحري الحق وملازمة الصواب وإبداله من العالمين لأنهم المنتفعون بالتذكير.
وَما تَشاؤُنَ الاستقامة يا من يشاؤها. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم فله الفضل والحق عليكم باستقامتكم. رَبُّ الْعالَمِينَ مالك الخلق كله.
قال عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة التكوير أعاذه الله أن يفضحه حين تنتشر صحيفته» .(5/291)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
(82) سورة الانفطار
مكية وآيها تسع عشرة آية
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ انشقت.
وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ تساقطت متفرقة.
وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ فتح بعضها إلى بعض فصار الكل بحراً واحداً.
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ قلب ترابها وأخرج موتاها. وقيل إنه مركب من بعث وراء الإثارة كبسمل ونظيره بحثر لفظا ومعنى.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 5 الى 6]
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ من عمل أو صدقة. وَأَخَّرَتْ من سيئة أو تركة، ويجوز أن يراد بالتأخير التضييع وهو جواب إِذَا.
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه، وذكر الْكَرِيمِ للمبالغة في المنع عن الاغترار فإن محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم وتسوية الموالي والمعادي والمطيع والعاصي، فكيف إذا انضم إليه صفة القهر والانتقام والإِشعار بما به يغره الشيطان، فإنه يقول له افعل ما شئت فربك كريم لا يعذب أحداً ولا يعاجل بالعقوبة، والدلالة على أن كثرة كرمه تستدعي الجد في طاعته لا الانهماك في عصيانه اغترارا بكرمه.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 7 الى 8]
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شاءَ رَكَّبَكَ (8)
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم منبهة على أن من قدر على ذلك أولاً قدر عليه ثانياً، والتسوية جعل الأعضاء سليمة مسواة معدة لمنافعها، والتعديل جعل البنية معتدلة متناسبة الأعضاء، أو معدلة بما تسعدها من القوى. وقرأ الكوفيون فَعَدَلَكَ بالتخفيف أي عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت، أو فصرفك عن خلقه غيرك وميزك بخلقة فارقت خلقة سائر الحيوان.
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شاءَ رَكَّبَكَ أي ركبك في أي صورة شاءها، وما مزيدة وقيل شرطية، ورَكَّبَكَ جوابها والظرف صلة فَعَدَلَكَ، وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها لأنها بيان لعدلك.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 9 الى 12]
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
كَلَّا ردع عن الاغترار بكرم الله وقوله: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إضراب إلى بيان ما هو السبب الأصلي في اغترارهم، والمراد بِالدِّينِ الجزاء أو الإِسلام.(5/292)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ تحقيق لما يكذبون به ورد لما يتوقعون من التسامح والإهمال، وتعظيم الكتبة بكونهم كراماً عند الله لتعظيم الجزاء.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 16]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16)
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ بيان لما يكتبون لأجله.
يَصْلَوْنَها يقاسون حرها. يَوْمَ الدِّينِ.
وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ. لخلودهم فيها. وقيل معناه وما يغيبون عنها قبل ذلك إذ كانوا يجدون سمومها في القبور.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 17 الى 19]
وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ تعجيب وتفخيم لشأن ال يَوْمُ، أي كنه أمره بحيث لا تدركه دراية دار.
يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ تقرير لشدة هوله وفخامة أمره إجمالاً، ورفع ابن كثير والبصريان يَوْمَ على البدل من يَوْمُ الدِّينِ، أو الخبر المحذوف.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة إذا السماء انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة، وبعدد كل قبر حسنة» .
والله أعلم.(5/293)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
(83) سورة المطففين
مختلف فيها وآيها ست وثلاثون آية
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ التطفيف البخس في الكيل والوزن لأن ما يبخس طفيف أي حقير.
روي أن أهل المدينة كانوا أخبث الناس كيلاً فنزلت فأحسنوه
،
وفي الحديث «خمس بخمس: ما نقض العهد قوم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» .
الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ أي إذا اكتالوا من الناس حقوقهم يأخذونها وافية، وإنما أبدل عَلَى بمن للدلالة على أن اكتيالهم لما لهم على الناس، أو اكتيال يتحامل فيه عليهم.
وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أي إذا كالوا الناس أو وزنوا لهم. يُخْسِرُونَ فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله: وَلَقَد جَنَيْتُكَ أَكمؤاً وَعَسَاقلا. بمعنى جنيت لك، أو كالوا مكيلهم فحذف المضاف وأقيم المضاف مقامه، ولا يحسن جعل المنفصل تأكيداً للمتصل فإنه يخرج الكلام عن مقابلة ما قبله إذ المقصود بيان اختلاف حالهم في الأخذ والدفع، لا في المباشرة وعدمها ويستدعي إثبات الألف بعد الواو كما هو خط المصحف في نظائره.
[سورة المطففين (83) : الآيات 4 الى 6]
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ فإن من ظن ذلك لم يتجاسر على أمثال هذه القبائح، فكيف بمن تيقنه وفيه انكار وتعجيب من حالهم.
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ عظمه لعظم ما يكون فيه يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ نصب بمبعوثون أو بدل من الجار والمجرور ويؤيده القراءة بالجر لِرَبِّ الْعالَمِينَ لحكمه.
وفي هذا الانكار والتعجيب وذكر الظن ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله، والتعبير عنه برب العالمين مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه.
[سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 9]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)
كَلَّا ردع عن التطفيف والغفلة عن البعث والحساب. إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم. لَفِي سِجِّينٍ كتاب جامع لأعمال الفجرة من الثقلين كما قال:
وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ أي مسطور بين الكتابة أو معلم بعلم من رآه أنه لا خير فيه،(5/294)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
فعيل من السجن لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس، أو لأنه مطروح كما قيل: تحت الأرضين في مكان وحش، وقيل هو اسم مكان والتقدير ما كتاب السجين، أو محل كتاب مرقوم فحذف المضاف.
[سورة المطففين (83) : الآيات 10 الى 13]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بالحق أو بذلك.
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ صفة مخصصة أو موضحة أو ذامة.
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ متجاوز عن النظر غال في التقليد حتى استقصر قدرة الله تعالى وعلمه فاستحال منه الإِعادة. أَثِيمٍ منهمك في الشهوات المخدجة بحيث أشغلته عما وراءها وحملته على الإنكار لما عداها.
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ من فرط جهله وإعراضه عن الحق فلا تنفعه شواهد النقل كما لم تنفعه دلائل العقل.
[سورة المطففين (83) : الآيات 14 الى 17]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
كَلَّا ردع عن هذا القول. بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ رد لما قالوه وبيان لما أدى بهم إلى هذا القول، بأن غلب عليهم حب المعاصي بالانهماك فيها حتى صار ذلك صدأ على قلوبهم فعمي عليهم معرفة الحق والباطل،. فإن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات كما
قال عليه الصلاة والسلام «إن العبد كلما أذنب ذنباً حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه»
والرين الصدأ، وقرأ حفص بَلْ رانَ بإظهار اللام.
كَلَّا ردع عن الكسب الرائن. إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فلا يرونه بخلاف المؤمنين ومن أنكر الرؤية جعله تمثيلاً لإِهانتهم بإهانة من يمنع عن الدخول على الملوك، أو قدر مضافاً مثل رحمة ربهم، أو قرب ربهم.
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ليدخلون النار ويصلون بها.
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ تقوله لهم الزبانية.
[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 23]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23)
كَلَّا تكرير ليعقب بوعد الأبرار كما عقب الأول بوعيد الفجار إشعاراً بأن التطفيف فجور والإيفاء بر، أو ردع عن التكذيب. إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ.
وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ الكلام فيه ما مر في نظيره.
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يحضرونه فيحفظونه، أو يشهدون على ما فيه يوم القيامة.
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرائِكِ على الأسرة في الحجال. يَنْظُرُونَ إلى ما يسرهم من النعم والمتفرجات.
[سورة المطففين (83) : الآيات 24 الى 28]
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)(5/295)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ بهجة التنعم وبريقه، وقرأ يعقوب تَعْرِفُ على البناء للمفعول ونَضْرَةَ بالرفع.
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ شراب خالص. مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ أي مختوم أوانيه بالمسك مكان الطين، ولعله تمثيل لنفاسته، أو الذي له ختام أي مقطع هو رائحة المسك، وقرأ الكسائي «خَاتِمَة» بفتح التاء أي ما يختم به ويقطع. وَفِي ذلِكَ يعني الرحيق أو النعيم. فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فليرتغب المرتغبون.
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ علم لعين بعينها سميت تسنيماً لارتفاع مكانها أو رفعة شرابها.
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ فإنهم يشربونها صرفاً لأنهم لم يشتغلوا بغير الله، وتمزج لسائر أهل الجنة وانتصاب عَيْناً على المدح أو الحال مِنْ تَسْنِيمٍ والكلام في الباء كما في يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ.
[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 33]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعني رؤساء قريش. كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ كانوا يستهزئون بفقراء المؤمنين.
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
يغمز بعضهم بعضاً ويشيرون بأعينهم.
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فاكهين متلذذين بالسخرية منهم، وقرأ حفص فَكِهِينَ.
وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ وإذا رأوا المؤمنين نسبوهم إلى الضلال.
وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ على المؤمنين. حافِظِينَ يحفظون عليهم أعمالهم ويشهدون برشدهم وضلالهم.
[سورة المطففين (83) : الآيات 34 الى 36]
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ حين يرونهم أذلاء مغلوبين في النار. وقيل يفتح لهم باب إلى الجنة فيقال لهم اخرجوا إليها، فَإِذَا وصلوا أغلق دونهم فيضحك المؤمنون منهم.
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ حال من يَضْحَكُونَ.
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ أي هل أثيبوا. مَا كانُوا يَفْعَلُونَ وقرأ حمزة والكسائي بادغام اللام في الثاء.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المطففين سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة» .(5/296)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
(84) سورة الانشقاق
مكية وآيها خمس وعشرون آية
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ بالغمام كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ
وعن علي رضي الله تعالى عنه: تنشق من المجرة.
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها واستمعت له أي انقادت لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها انقياد المطواع الذي يأذن للآمر ويذعن له. وَحُقَّتْ وجعلت حقيقة بالاستماع والانقياد يقال: حق بكذا فهو محقوق وحقيق.
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ بسطت بأن تزال جبالها وآكامها.
وَأَلْقَتْ ما فِيها ما في جوفها من الكنوز والأموات وَتَخَلَّتْ وتكلفت في الخلو أقصى جهدها حتى لم يبق شيء في باطنها.
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها في الإِلقاء والتخلي. وَحُقَّتْ للإِذن وتكرير إِذَا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة، وجوابه محذوف للتهويل بالإِبهام أو الاكتفاء بما مر في سورتي «التكوير» و «الانفطار» أو لدلالة قوله.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ عليه وتقديره لاقى الإِنسان كدحه أي جهداً يؤثر فيه من كدحه إذا خدشه، أو فَمُلاقِيهِ ويا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ اعتراض، والكدح إليه السعي إلى لقاء جزائه.
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً سهلاً لا يناقش فيه.
وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً إلى عشيرته المؤمنين، أو فريق المؤمنين، أو أَهْلِهِ في الجنة من الحور.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 10 الى 12]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ أي يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره. قيل تغل يمناه إلى عنقه وتجعل يسراه وراء ظهره.(5/297)
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً يتمنى الثبور ويقول يا ثبوراه وهو الهلاك.
وَيَصْلى سَعِيراً وقرأ الحجازيان والشامي وَيَصْلى لقوله: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ وقرئ «ويصلى» لقوله: ونصليه جهنم.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 13 الى 15]
إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ أي في الدنيا. مَسْرُوراً بطراً بالمال والجاه فارغاً عن الآخرة.
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ لن يرجع إلى الله تعالى.
بَلى إيجاب لما بعد لَنْ. إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً عالماً بأعماله فلا يهمله بل يرجعه ويجازيه.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 19]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ الحمرة التي ترى في أفق المغرب بعد الغروب. وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى:
أنه البياض الذي يليها، سمي به لرقته من الشفقة.
وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وما جمعه وستره من الدواب وغيرها يقال: وسقه فاتسق واستوسق، قال:
مُسْتَوْسِقَاتٍ لَوْ يَجِدْنَ سَائِقاً. أو طرده إلى أماكنه من الوسيقة.
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ اجتمع وتم بدراً.
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حالاً بعد حال مطابقة لأختها في الشدة، وهو لما طابق غيره فقيل للحال المطابقة، أو مراتب من الشدة بعد المراتب هي الموت ومواطن القيامة وأهوالها، أو هي وما قبلها من الدواهي على أنه جمع طبقة. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي لَتَرْكَبُنَّ بالفتح على خطاب الإنسان باعتبار اللفظ، أو الرسول عليه الصلاة والسلام على معنى لَتَرْكَبُنَّ حالاً شريفة ومرتبة عالية بعد حال ومرتبة، أو طَبَقاً من أطباق السماء بعد طبق ليلة المعراج وبالكسر على خطاب النفس، وبالياء على الغيبة وعَنْ طَبَقٍ صفة ل طَبَقاً أو حال من الضمير بمعنى مجاوز ال طَبَقٍ أو مجاوزين له.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 20 الى 21]
فَما لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)
فَما لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بيوم القيامة.
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ لا يخضعون أو لاَ يَسْجُدُونَ لتلاوته. لما
روي: أنه عليه الصلاة والسلام قرأ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ فسجد بمن معه من المؤمنين، وقريش تصفق فوق رؤوسهم فنزلت.
واحتج به أبو حنيفة على وجوب السجود فإنه ذم لمن سمعه ولم يسجد.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سجد فيها وقال: والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسجد فيها.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 22 الى 25]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أي بالقرآن.(5/298)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ بما يضمرون في صدورهم من الكفر والعداوة.
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ استهزاء بهم.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء منقطع أو متصل، والمراد من تاب وآمن منهم. لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ مقطوع أو مَمْنُونٍ به عليهم.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الانشقاق أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره» .(5/299)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
(85) سورة البروج
مكية وآيها ثنتان وعشرون آية
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ يعني البروج الاثني عشر شبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارات وتكون فيها الثوابت، أو منازل القمر أو عظام الكواكب سميت بروجاً لظهورها، أو أبواب السماء فإن النوازل تخرج منها وأصل التركيب للظهور.
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ يوم القيامة.
وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ومن يشهد في ذلك اليوم من الخلائق وما أحضر فيه من العجائب، وتنكيرهما للإبهام في الوصف أي وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ لا يكتنه وصفهما، أو المبالغة في الكثرة كأنه قيل: ما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود، أو النبي عليه الصلاة والسلام وأمته، أو أمته وسائر الأمم، أو كل نبي وأمته، أو الخالق والخلق، أو عكسه فإن الخالق مطلع على خلقه وهو شاهد على وجوده، أو الملك الحفيظ والمكلف أو يوم النحر، أو عرفة والحجيج، أو يوم الجمعة والجمع فإنه يشهد له أو كل يوم وأهله.
[سورة البروج (85) : آية 4]
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ قيل إنه جواب القسم على تقدير لقد قُتِلَ، والأظهر أنه دليل جواب محذوف كأنه قيل إنهم ملعونون يعني كفار مكة كما لعن أصحاب الأخدود، فإن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم، والأخدود الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الحق والأحقوق.
روي مرفوعاً: أن ملكاً كان له ساحر فلما كبر ضم إليه غلاماً ليعلمه، وكان في طريقه راهب فمال قلبه إليه، فرأى في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجراً وقال: اللَّهم إن كان الراهب أحب إليه من الساحر فاقتلها فقتلها، وكان الغلام بعد يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء، وعمي جليس الملك فأبرأه، فسأله الملك عمن أبرأه فقال ربي فغضب فعذبه فدل على الغلام فعذبه، فدل على الراهب فقده بالمنشار، وأرسل الغلام إلى جبل ليطرح من ذروته، فدعا فرجف بالقوم فهلكوا ونجا، وأجلسه في سفينة ليغرق فدعا فانكفأت السفينة بمن معه فغرقوا ونجا، فقال للملك لست بقاتلي حتى تجمع الناس وتصلبني وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول: بسم الله رب هذا الغلام، ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فمات، فآمن الناس برب الغلام، فأمر بأخاديد وأوقدت فيها النيران، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست فقال الصبي: يا أماه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت. وعن علي رضي الله تعالى عنه: كان بعض ملوك المجوس خطب الناس وقال: إن الله أحل نكاح الأخوات فلم يقبلوه، فأمر بأخاديد النار فطرح فيها من أبى، وقيل لما تنصر نجران غزاهم ذو نواس اليهودي من حمير فأحرق في الأخاديد من لم يرتد.(5/300)
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
[سورة البروج (85) : الآيات 5 الى 7]
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)
النَّارِ بدل من الْأُخْدُودِ بدل الاشتمال. ذاتِ الْوَقُودِ صفة لها بالعظمة وكثرة ما يرتفع به لهبها، واللام في الْوَقُودِ للجنس.
إِذْ هُمْ عَلَيْها على حافة النار. قُعُودٌ قاعدون.
وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنهم لم يقصروا فيما أمروا به، أو يشهدون على ما يفعلون يوم القيامة حين تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم.
[سورة البروج (85) : الآيات 8 الى 9]
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ وما أنكروا. إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ استثناء على طريقة قوله:
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قراعِ الكتائبِ
ووصفه بكونه عزيزاً غالباً يخشى عقابه حميداً منعماً يرجى ثوابه وقرر ذلك بقوله:
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ للإِشعار بما يستحق أن يؤمن به ويعبد.
[سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بلوهم بالأذى. ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ بكفرهم.
وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ العذاب الزائد في الاحراق بفتنتهم. بل المراد ب الَّذِينَ فَتَنُوا أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وب عَذابُ الْحَرِيقِ ما
روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إذ الدنيا وما فيها تصغر دونه.
[سورة البروج (85) : الآيات 12 الى 16]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ مضاعف عنفه فإن البطش أخذ بعنف.
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ يُبْدِئُ الخلق ويعيده، أو يُبْدِئُ البطش بالكفرة في الدنيا ويعيده في الآخرة.
وَهُوَ الْغَفُورُ لمن تاب. الْوَدُودُ المحب لمن أطاع.
ذُو الْعَرْشِ خالقه، وقيل المراد ب الْعَرْشِ الملك، وقرئ «ذي العرش» صفة ل رَبِّكَ.
الْمَجِيدُ العظيم في ذاته وصفاته، فإنه واجب الوجود تام القدرة والحكمة، وجره حمزة والكسائي صفة ل رَبِّكَ، أو ل الْعَرْشِ ومجده علوه وعظمته.
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ لا يمتنع عليه مراد من أفعاله وأفعال غيره.(5/301)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
[سورة البروج (85) : الآيات 17 الى 20]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ أبدلهما من الجنود لأن المراد ب فِرْعَوْنَ هو وقومه، والمعنى قد عرفت تكذيبهم للرسل وما حاق بهم فتسل واصبر على تكذيب قومك وحذرهم مثل ما أصابهم.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ لا يرعوون عنه، ومعنى الإِضراب أن حالهم أعجب من حال هؤلاء فإنهم سمعوا قصتهم ورأوا آثار هلاكهم وكذبوا أشد من تكذيبهم.
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط.
[سورة البروج (85) : الآيات 21 الى 22]
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ بل هذا الذي كذبوا به كتاب شريف وحيد في النظم والمعنى، وقرئ «قرآن مجيد» بالإِضافة أي قرآن رب مجيد.
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ من التحريف، وقرأ نافع مَحْفُوظٍ بالرفع صفة لل قُرْآنٌ، وقرئ «في لوح» وهو الهواء يعني ما فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة البروج أعطاه الله بعدد كل جمعة وعرفة تكون في الدنيا عشر حسنات» .(5/302)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
(86) سورة الطارق
مكية وآيها سبع عشرة آية
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ والكوكب البادي بالليل وهو في الأصل لسالك الطريق، واختص عرفاً بالآتي ليلاً ثم استعمل للبادي فيه.
وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، أو الأفلاك والمراد الجنس أو معهود بالثقب وهو زحل، عبر عنه أولاً بوصف عام ثم فسره بما يخصه تفخيماً لشأنه.
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها أي إن الشان كل نفس لعليها. حافِظٌ رقيب فإن هي المخففة واللام الفاصلة وما مزيدة. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة لما على أنها بمعنى إلا وأن نافية، والجملة على الوجهين جواب القسم.
[سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 7]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ لما ذكر أن كل نفس عليها حافظ اتبعه توصية الإنسان بالنظر في مبدئه ليعلم صحة إعادته فلا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته.
خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ جواب الاستفهام وماءٍ بمعنى ذي دفق، وهو صب فيه دفع والمراد الممتزج من الماءين في الرحم لقوله:
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ من بين صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام صدرها، ولو صح أن النطفة تتولد من فضل الهضم الرابع وتنفصل عن جميع الأعضاء حتى تستعد لأن يتولد منها مثل تلك الأعضاء، ومقرها عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين، فلا شك أن الدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليدها، ولذلك تشبهه، ويسرع الإِفراط في الجماع بالضعف فيه وله خليفة وهو النخاع وهو في الصلب وشعب كثيرة نازلة إلى الترائب، وهما أقرب إلى أوعية المني فلذلك خصّا بالذكر. وقرئ «الصلب» بفتحتين و «الصلب» بضمتين وفيه لغة رابعة وهي «صالب» .
[سورة الطارق (86) : الآيات 8 الى 10]
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ والضمير للخالق ويدل عليه خُلِقَ.
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ تتعرف ويميز بين ما طاب من الضمائر وما خفي من الأعمال وما خبث منها، وهو ظرف ل رَجْعِهِ.
فَما لَهُ فما للإنسان. مِنْ قُوَّةٍ من منعة في نفسه يمتنع بها. وَلا ناصِرٍ يمنعه.(5/303)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
[سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 12]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12)
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ترجع في كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك عنه، وقيل الرجع المطر سمي به كما سمي أوباً لأن الله يرجعه وقتاً فوقتاً، أو لما قيل من أن السحاب يحمل الماء من البحار ثم يرجعه إلى الأرض، وعلى هذا يجوز أن يراد ب السَّماءِ السحاب.
وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ما تتصدع عنه الأرض من النبات أو الشق بالنبات والعيون.
[سورة الطارق (86) : الآيات 13 الى 17]
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
إِنَّهُ إن القرآن. لَقَوْلٌ فَصْلٌ فاصل بين الحق والباطل.
وَما هُوَ بِالْهَزْلِ فإنه جد كله.
إِنَّهُمْ يعني أهل مكة. يَكِيدُونَ كَيْداً في إبطاله وإطفاء نوره.
وَأَكِيدُ كَيْداً وأقابلهم بكيد في استدراجي لهم وانتقامي منهم من حيث لا يحتسبون.
فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ فلا تشتغل بالانتقام منهم، أو لا تستعجل بإهلاكهم. أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أمهالاً يسيراً والتكرير وتغيير البنية لزيادة التسكين.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله بعدد بكل نجم في السماء عشر حسنات» .(5/304)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
(87) سورة الأعلى
مكية وآيها تسع عشرة آية
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى نزه اسمه عن الإلحاد فيه بالتأويلات الزائغة وإطلاقه على غيره زاعماً أنهما فيه سواء وذكره لا على على وجه التعظيم، وقرئ «سبحان ربي الأعلى» .
وفي الحديث «لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال عليه الصلاة والسلام اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال عليه الصلاة والسلام اجعلوها في سجودكم» وكانوا يقولون في الركوع اللهم لك ركعت وفي السجود اللهم لك سجدت.
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى خلق كل شيء فسوى خلقه بأن جعل له ما به يتأتى كماله ويتم معاشه.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 3 الى 5]
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)
وَالَّذِي قَدَّرَ أي قدر أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها.
فَهَدى فوجهه إلى أفعاله طبعاً واختياراً بخلق الميول والإِلهامات ونصب الدلائل وانزال الآيات.
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أنبت ما ترعاه الدواب.
فَجَعَلَهُ بعد خضرته. غُثاءً أَحْوى يابساً أسود. وقيل أَحْوى حال من المرعى أي أخرجه أَحْوى أي أسود من شدة خضرته.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 6 الى 7]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7)
سَنُقْرِئُكَ على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام، أو سنجعلك قارئاً بإلهام القراءة. فَلا تَنْسى أصلاً من قوة الحفظ مع أنك أمي ليكون ذلك آية أخرى لك مع أن الإِخبار به عما يستقبل ووقوعه كذلك أيضاً من الآيات، وقيل نهي والألف للفاصلة كقوله السَّبِيلَا. إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ نسيانه بأن نسخ تلاوته، وقيل أراد به القلة والندرة. لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام «أسقط آية في قراءته في الصلاة فحسب أُبيّ أنها نسخت فسأله فقال: نسيتها» .
أو نفى النسيان رأساً فإن القلة تستعمل للنفي. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ما ظهر من أحوالكم وما بطن، أو جهرك بالقراءة مع جبريل عليه الصلاة والسلام وما دعاك إليه من مخافة النسيان فيعلم ما فيه صلاحكم من ابقاء وإنساء.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 8 الى 10]
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى ونعدك للطريقة اليسرى في حفظ الوحي، أو التدين ونوفقك لها ولهذه النكتة قال نُيَسِّرُكَ لا نيسر لك عطف على سَنُقْرِئُكَ، وإِنَّهُ يَعْلَمُ اعتراض.(5/305)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
فَذَكِّرْ بعد ما استتب لك الأمر. إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى لعل هذه الشرطية إنما جاءت بعد تكرير التذكير وحصول اليأس من البعض لئلا يتعب نفسه ويتلهف عليهم كقوله: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ الآية، أو لذم المذكرين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم، أو للإشعار بأن التذكير إنما يجب إذا ظن نفعه ولذلك أمر بالإِعراض عمن تولى.
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى سيتعظ وينتفع بها من يخشى الله تعالى بأن يتأمل فيها فيعلم حقيقتها، وهو يتناول العارف والمتردد.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 11 الى 13]
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
يَتَجَنَّبُهَا
ويتجنب الذِّكْرى. َْشْقَى
الكافر فإنه أشقى من الفاسق، أوَْشْقَى
من الكفرة لتوغله في الكفر.
الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى نار جهنم
فإنه عليه الصلاة والسلام قال «ناركم هذه جزء من سبعين جزأ من نار جهنم»
، أو ما في الدرك الأسفل منها.
ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيها فيستريح. وَلا يَحْيى حياة تنفعه.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 17]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى تطهر من الكفر والمعصية، أو تكثر من التقوى من الزكاء، أو تطهر للصلاة أو أدى الزكاة.
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بقلبه ولسانه فَصَلَّى كقوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ويجوز أن يراد بالذكر تكبيرة التحريم، وقيل تَزَكَّى تصدق للفطر وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ كبره يوم العيد فَصَلَّى صلاته.
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا فلا تفعلون ما يسعدكم في الآخرة، والخطاب للأشقين على الالتفات أو على إضمار قل، أو للكل فإن السعي للدنيا أكثر في الجملة، وقرأ أبو عمرو بالياء.
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى فإن نعيمها ملذ بالذات خالص عن الغوائل لا انقطاع له.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى الإِشارة إلى ما سبق من قَدْ أَفْلَحَ فإنه جامع أمر الديانة وخلاصة الكتب المنزلة.
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى بدل من الصحف الأولى.
قال صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام» .(5/306)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
(88) سورة الغاشية
مكية وهي ست وعشرون آية
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يعني يوم القيامة، أو النار من قوله تعالى وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ذليلة.
عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تعمل ما تتعب فيه كجر السلاسل وخوضها في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود والهبوط في تلالها ووهادها، أو عملت ونصبت في أعمال لا تنفعها يومئذ.
تَصْلى نَاراً تدخلها وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر تَصْلى من أصلاه الله، وقرئ «تُصَّلِّ» بالتشديد للمبالغة. حامِيَةً متناهية في الحر.
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ بلغت أناها في الحر.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 6 الى 7]
لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لاَّ يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ يبيس الشبرق وهو شوك ترعاه الإِبل ما دام رطباً، وقيل شجرة نارية تشبه الضريع، ولعله طعام هؤلاء والزقوم والغسلين طعام غيرهم، أو المراد طعامهم ما تتحاماه الإِبل وتعافه لضره وعدم نفعه كما قال:
لاَّ يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ والمقصود من الطعام أحد الأمرين.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 8 الى 11]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ذات بهجة أو متنعمة.
لِسَعْيِها راضِيَةٌ رضيت بعملها لما رأت ثوابه.
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ علية المحل أو القدر.
لاَ تَسْمَعُ يا مخاطب أو الوجوه، وقرأ على بناء المفعول بالياء ابن كثير وأبو عمرو ورويس وبالتاء نافع. فِيها لاغِيَةً لغواً أو كلمة ذات لغو أو نفساً تلغو، فإن كلام أهل الجنة الذكر والحكم.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 12 الى 16]
فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)(5/307)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ يجري ماؤها ولا ينقطع والتنكير للتعظيم.
فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ رفيعة السمك أو القدر.
وَأَكْوابٌ جمع كوب وهي آنية لا عروة لها. مَوْضُوعَةٌ بين أيديهم.
وَنَمارِقُ وسائد جمع نمرقة بالفتح والضم. مَصْفُوفَةٌ بعضها إلى بعض.
وَزَرابِيُّ بسط فاخرة جمع زربية. مَبْثُوثَةٌ مبسوطة.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 18]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
أَفَلا يَنْظُرُونَ نظر اعتبار. إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ خلقاً دالاً على كمال قدرته وحسن تدبيره حيث خلقها لجر الأثقال إلى البلاد النائية، فجعلها عظيمة باركة للحمل ناهضة بالحمل منقادة لمن اقتادها طوال الأعناق لينوء بالأوقار، ترعى كل نابت وتحتمل العطش إلى عشر فصاعداً ليتأتى لها قطع البوادي والمفاوز، مع مالها من منافع أخرى ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع. وقيل المراد بها السحاب على الاستعارة.
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ بلا عمد.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 19 الى 20]
وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ فهي راسخة لا تميل.
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ بسطت حتى صارت مهاداً، وقرئ الأفعال الأربعة على بناء الفاعل المتكلم وحذف الراجع المنصوب، والمعنى أَفَلا يَنْظُرُونَ إلى أنواع المخلوقات من البسائط والمركبات ليتحققوا كمال قدرة الخالق سبحانه وتعالى، فلا ينكروا اقتداره على البعث ولذلك عقب به أمر المعاد ورتب عليه الأمر بالتذكير فقال:
[سورة الغاشية (88) : الآيات 21 الى 24]
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24)
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ فلا عليك إن لم ينظروا ولم يذكروا إذ ما عليك إلا البلاغ.
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ بمتسلط، وعن الكسائي بالسين على الأصل وحمزة بالإِشمام.
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ لكن من تولى وكفر.
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ يعني عذاب الآخرة. وقيل متصل فإن جهاد الكفار وقتلهم تسلط، وكأنه أوعدهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وقيل هو استثناء من قوله فَذَكِّرْ أي فذكر إلا من تولى وأصر فاستحق العذاب الأكبر، وما بينهما اعتراض ويؤيد الأول أنه قرئ «ألا» على التنبيه.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 25 الى 26]
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ رجوعهم، وقرئ بالتشديد على أنه فيعال مصدر فيعل من الإياب، أو فعال من الأوب قلبت واوه الأولى قلبها في ديوان ثم الثانية للإِدغام.
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ في المحشر، وتقديم الخبر للتخصيص والمبالغة في الوعيد.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله حساباً يسيراً» .(5/308)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
(89) سورة الفجر
مكية وآيها ثلاثون آية
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
وَالْفَجْرِ أقسم بالصبح أو فلقه كقوله: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أو بصلاته.
وَلَيالٍ عَشْرٍ عشر ذي الحجة ولذلك فسر الْفَجْرِ بفجر عرفة، أو النحر أو عشر رمضان الأخير وتنكيرها للتعظيم، وقرئ وَلَيالٍ عَشْرٍ بالإِضافة على أن المراد بالعشر الأيام.
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ والأشياء كلها شفعها ووترها، أو الخلق لقوله: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ والخالق لأنه فرد، ومن فسرهما بالعناصر والأفلاك أو البروج والسيارات أو شفع الصلوات ووترها، أو بيومي النحر وعرفة، وقد روي مرفوعاً، أو بغيرها فلعله أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد، أو مدخلاً في الدين أو مناسبة لما قبلهما أو أكثر منفعة موجبة للشكر، وقرئ «والوتر» بكسر الواو وهما لغتان كالحبر والحبر.
[سورة الفجر (89) : الآيات 4 الى 5]
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ إذا يمضي كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ والتقييد بذلك لما في التعاقب من قوة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة، أو يسرى فيه من قولهم صلى المقام وحذف الياء للاكتفاء بالكسرة تخفيفاً، وقد خصه نافع وأبو عمرو بالوقف لمراعاة الفواصل ولم يحذفها ابن كثير ويعقوب أصلاً، وقرئ «يَسْرِ» بالتنوين المبدل من حرف الاطلاق.
هَلْ فِي ذلِكَ القسم أو المقسم به قَسَمٌ حلف أو محلوف به. لِذِي حِجْرٍ يعتبره ويؤكد به ما يريد تحقيقه، وال حِجْرٍ العقل سمي به لأنه يحجر عما لا ينبغي كما سمي عقلاً ونهية وحصاة من الإِحصاء، وهو الضبط والمقسم عليه محذوف وهو ليعذبن يدل عليه قوله:
[سورة الفجر (89) : الآيات 6 الى 8]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ يعني أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، قوم هود سموا باسم أبيهم كما سمي بنو هاشم باسمه.
إِرَمَ عطف بيان لعاد على تقدير مضاف أي سَبْطُ إِرَمَ، أو أَهْلُ إِرَمَ إن صح أنه إسم بلدتهم. وقيل سمي أوائلهم وهم «عاد الأولى» باسم جدهم ومنع صرفه للعلمية والتأنيث. ذاتِ الْعِمادِ ذات البناء الرفيع أو القدود الطوال، أو الرفعة والثبات. وقيل كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا، ثم مات شديد فخلص الأمر لشداد وملك المعمورة ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة فبنى على مثالها في بعض صحاري عدن جنة وسماها إرم، فلما تمت سار إليها بأهله، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث(5/309)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبله فوقع عليها.
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ صفة أخرى لاسم والضمير لها سواء جعلت اسم القبيلة أو البلدة.
[سورة الفجر (89) : الآيات 9 الى 12]
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ قطعوه واتخذوه منازل لقوله: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً. بِالْوادِ وادي القرى.
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا، أو لتعذيبه بالأوتاد.
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ صفة للمذكورين «عاد» وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ، أو ذم منصوب أو مرفوع.
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ بالكفر والظلم.
[سورة الفجر (89) : الآيات 13 الى 14]
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ما خلط لهم من أنواع العذاب، وأصله الخلط وإنما سمي به الجلد المضفور الذي يضرب به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض، وقيل شبه بال سَوْطَ ما أحل بهم في الدنيا إشعاراً بأنه القياس إلى ما أعد لهم في الآخرة من العذاب كالسوط إذا قيس إلى السيف.
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ المكان الذي يترقب فيه الرصد، مفعال من رصده كالميقات من وقته، وهو تمثيل لإرصاده العصاة بالعقاب.
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 16]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16)
فَأَمَّا الْإِنْسانُ متصل بقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ كأنه قيل إنه لَبِالْمِرْصادِ من الآخرة فلا يريد إلا السعي لها فأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها. إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ اختبره بالغنى واليسر. فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ بالجاه والمال. فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ فضلني بما أعطاني، وهو خبر المبتدأ الذي هو الْإِنْسانُ، والفاء لما في «أما» من معنى الشرط، والظرف المتوسط في تقدير التأخير كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإِنعام، وكذا قوله:
وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ إذ التقدير وأما الإنسان إذا ما ابتلاه أي بالفقر والتقتير ليوازن قسيمه.
فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ لقصور نظره وسوء فكره، فإن التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين، والتوسعة قد تفضي إلى قصد الأعداء والانهماك في حب الدنيا ولذلك ذمه على قوليه وردعه عنه بقوله:
[سورة الفجر (89) : الآيات 17 الى 20]
كَلاَّ بَلْ لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)
كَلَّا مع أن قوله الأول مطابق لأكرمه ولم يقل فأهانه وقدر عليه كما قال: فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ لأن التوسعة تفضل والإخلال به لا يكون إهانة، وقرأ ابن عامر والكوفيون «أكرمن» و «أهانن» بغير ياء في الوصل والوقف. وعن أبي عمرو مثله ووافقهم نافع في الوقف وقرأ ابن عامر فَقَدَرَ بالتشديد.
بَلْ لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ولا يحضّون على طَعَامِ المسكين أي بل فعلهم أسوأ من قولهم وأدل على(5/310)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
تهالكهم بالمال وهو أنهم لا يكرمون اليتيم بالنفقة والمبرة، ولا يحثون أهلهم على طعام المسكين فضلاً عن غيرهم، وقرأ الكوفيون «وَلا تَحَاضُّونَ» .
وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ الميراث وأصله وراث. أَكْلًا لَمًّا ذا لم أي جمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أنصباءهم، أو يأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك.
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا كثيراً مع حرص وشره، وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب «لا يكرمون» إلى «ويحبون» بالياء والباقون بالتاء.
[سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 23]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23)
كَلَّا ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم وما بعده وعيد عليه. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي دكا بعد دك حتى صارت منخفضة الجبال والتلال، أو هَباءً مُنْبَثًّا.
وَجاءَ رَبُّكَ أي ظهرت آيات قدرته وآثار قهره مثل ذلك بما يظهر عند حضور السلطان من آثار هيبته وسياسته. وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا بحسب منازلهم ومراتبهم.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ كقوله تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ
وفي الحديث «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» .
يَوْمَئِذٍ بدل من إذا دكت الأرض والعامل فيهما.
يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أي يتذكر معاصيه أو يتعظ لأنه يعلم قبحها فيندم عليها. وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي منفعة الذكرى لئلا يناقض ما قبله، واستدل به على عدم وجوب قبول التوبة، فإن هذا التذكر توبة غير مقبولة.
[سورة الفجر (89) : الآيات 24 الى 26]
يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)
يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي لحياتي هذه، أو وقت حياتي في الدنيا أعمالاً صالحة، وليس في هذا التمني دلالة على استقلال العبد بفعله فإن المحجور عن شيء قد يتمنى أن كان ممكناً منه.
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ الهاء لله أي لا يتولى عذاب الله ووثاقه يوم القيامة سواه إذ الأمر كله له، أو للإنسان أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه، وقرأهما الكسائي ويعقوب على بناء المفعول.
[سورة الفجر (89) : الآيات 27 الى 30]
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ على إرادة القول وهي التي اطمأنت بذكر الله، فإن النفس تترقى في سلسلة الأسباب والمسببات إلى الواجب لذاته فتستفز دون معرفته وتستغني به عن غيره، أو إلى الحق بحيث لا يريبها شك أو الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، وقد قرئ بهما.
ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ إلى أمره أو موعده بالموت، ويشعر ذلك بقول من قال: كانت النفوس قبل الأبدان موجودة في عالم القدس أو البعث، راضِيَةً بما أوتيت. مَرْضِيَّةً عند الله تعالى.
فَادْخُلِي فِي عِبادِي في جملة عبادي الصالحين.
وَادْخُلِي جَنَّتِي معهم أو في زمرة المقربين فتستضيء بنورهم، فإن الجواهر القدسية كالمرايا المتقابلة، أو ادخلي في أجساد عبادي التي فارقت عنها، وادخلي دار ثوابي التي أعدت لك.(5/311)
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له، ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نورا يوم القيامة» .(5/312)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
(90) سورة البلد
مكية، وآيها عشرون آية
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3)
لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أقسم سبحانه بالبلد الحرام وقيده بحلول الرسول عليه الصلاة والسلام فيه إظهاراً لمزيد فضله، وإشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله. وقيل حِلٌّ مستحل تعرضك فيه كما يستحل تعرض الصيد في غيره، أو حلال لك أن تفعل فيه ما تريد ساعة من النهار فهو وعد بما أحل له عام الفتح.
وَوالِدٍ عطف على بِهذَا الْبَلَدِ والوالد آدم أو إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وَما وَلَدَ ذريته أو محمد عليه الصلاة والسلام، والتنكير للتعظيم وإيثار ما على من لمعنى التعجب كما في قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ.
[سورة البلد (90) : الآيات 4 الى 6]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ تعب ومشقة من كبد الرجل كبداً إذا وجعت كبده ومنه المكابدة، والإِنسان لا يزال في شدائد مبدؤها ظلمة الرحم ومضيقه ومنتهاها الموت وما بعده، وهو تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام مما كان يكابده من قريش والضمير في:
أَيَحْسَبُ لبعضهم الذي كان يكابد منه أكثر، أو يفتر بقوته كأبي الأشد بن كلدة فإنه كان يبسط تحت قدميه أديم عكاظي ويجذبه عشرة فيتقطع ولا تزال قدماه، أو لكل أحد منهم أو للإنسان. أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فينتقم منه.
يَقُولُ أي في ذلك الوقت أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً كثيراً، من تلبد الشيء إذا اجتمع، والمراد ما أنفقه سمعة ومفاخرة، أو معاداة للرسول عليه الصلاة والسلام.
[سورة البلد (90) : الآيات 7 الى 10]
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ حين كان ينفق أو بعد ذلك فيسأله عنه، يعني أن الله سبحانه وتعالى يراه فيجازيه، أو يجده فيحاسبه عليه ثم بين ذلك بقوله.
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما.
وَلِساناً يترجم به عن ضميره. وَشَفَتَيْنِ يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب وغيرها.(5/313)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ طريقي الخير والشر، أو الثديين وأصله المكان المرتفع.
[سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 16]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي فلم يشكر تلك الأيادي باقتحام العقبة وهو الدخول في أمر شديد، والْعَقَبَةَ الطريق في الجبل استعارها بما فسرها به من الفك والإطعام في قوله:
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ لما فيهما من مجاهدة النفس ولتعدد المراد بها حسن وقوع لا موقع لم فإنها لا تكاد تقع إلا مكررة، إذ المعنى: فَلاَ فَكَ رَقَبةً ولا أَطْعَمَ يَتيماً أو مسكيناً. والمسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب وترب إذا افتقر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي فَكُّ رَقَبَةٍ أو أطعم على الإِبدال من اقْتَحَمَ وقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ اعتراض معناه إنك لم تدر كنه صعوبتها وثوابها.
[سورة البلد (90) : الآيات 17 الى 18]
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عطفه على اقْتَحَمَ، أو فَكُّ ب ثُمَّ لتباعد الإيمان عن العتق والإطعام في الرتبة لاستقلاله واشتراط سائر الطاعات به. وَتَواصَوْا وأوصى بعضهم بعضاً. بِالصَّبْرِ على طاعة الله تعالى. وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ بالرحمة على عباده، أو بموجبات رحمة الله تعالى.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ اليمين أو اليمن.
[سورة البلد (90) : الآيات 19 الى 20]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا بما نصبناه دليلاً على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن. هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ الشمال أو الشؤم، ولتكرير ذكر المؤمنين باسم الإِشارة والكفار بالضمير شأن لا يخفى.
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ مطبقة من أوصدت الباب إذا أطبقته وأغلقته. وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص بالهمزة من آصدته.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد أعطاه الله سبحانه وتعالى الأمان من غضبه يوم القيامة» .(5/314)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
(91) سورة الشمس
مكية، وآيها خمس عشرة آية
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3)
وَالشَّمْسِ وَضُحاها وضوئها إذا أشرقت، وقيل الضحوة ارتفاع النهار والضحى فوق ذلك، والضحاء بالفتح والمد إذا امتد النهار وكاد ينتصف.
وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها تلا طلوعه طلوع الشمس أول الشهر أو غروبها ليلة البدر، أو في الاستدارة وكمال النور.
وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها جلى الشمس فإنها تتجلى إذا انبسط النهار أو الظلمة، أو الدنيا أو الأرض وإن لم يجر ذكرها للعلم بها.
[سورة الشمس (91) : الآيات 4 الى 6]
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6)
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها يغشى الشمس فيغطي ضوءها أو الآفاق، أو الأرض. ولما كانت واوات العطف نوائب للواو الأولى القسمية الجارة بنفسها النائبة مناب فعل القسم من حيث استلزمت طرحه معها، ربطن المجرورات والظرف بالمجرور والظرف المتقدمين ربط الواو لما بعدها في قولك: ضرب زيد عمراً وبكر خالداً على الفاعل والمفعول من غير عطف على عاملين مختلفين.
وَالسَّماءِ وَما بَناها ومن بناها وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والشيء القادر الذي بناها ودل على وجوده وكمال قدرته بناؤها، ولذلك أفرد ذكره وكذا الكلام في قوله:
وَالْأَرْضِ وَما طَحاها.
[سورة الشمس (91) : الآيات 7 الى 8]
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8)
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها وجعل الماءات مصدرية يجرد الفعل عن الفاعل ويخل بنظم قوله:
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها بقوله وَما سَوَّاها إلا أن يضمر فيه اسم الله للعلم به وتنكير نَفْسٍ للتكثير كما في قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ أو للتعظيم والمراد نفس آدم وإلهام الفجور والتقوى إفهامهما وتعريف حالهما أو التمكين من الإتيان بهما.
[سورة الشمس (91) : الآيات 9 الى 10]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها أنماها بالعلم والعمل جواب القسم، وحذف اللام للطول كأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته الذي هو أقصى درجات القوة النظرية، ويذكرهم عظائم آلائه ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه الذي(5/315)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
هو منتهى كمالات القوة العملية. وقيل هو استطراد بذكر بعض أحوال النفس، والجواب محذوف تقديره لَيُدَمْدِمَنَّ الله على كفار مكة لتكذيبهم رسوله صلّى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه الصلاة والسلام.
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها نقصها وأخفاها بالجهالة والفسوق، وأصل دسى دسس كتقضي وتقضض.
[سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 13]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها بسبب طغيانها، أو بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى كقوله: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وأصله طغياها وإنما قلبت ياؤه واواً تفرقة بين الإسم والصفة، وقرئ بالضم ك الرُّجْعى.
إِذِ انْبَعَثَ حين قام ظرف ل كَذَّبَتْ أو طغوى. أَشْقاها أشقى ثمود وهو قدار بن سالف، أو هو ومن مالأه على قتل الناقة فإن أفعل التفضيل إذا أضفته صلح للواحد والجمع وفضل شقاوتهم لتوليهم العقر.
فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ أي ذروا ناقة الله واحذروا عقرها. وَسُقْياها وسقيها فلا تذودوها عنها.
[سورة الشمس (91) : الآيات 14 الى 15]
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
فَكَذَّبُوهُ فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا. فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ فأطبق عليهم العذاب وهو من تكرير قولهم ناقة مدمومة إذا ألبسها الشحم. بِذَنْبِهِمْ بسببه. فَسَوَّاها فسوى الدمدمة بينهم أو عليهم فلم يفلت منهم صغير ولا كبير، أو ثمود بالإِهلاك.
وَلا يَخافُ عُقْباها أي عاقبة الدمدمة أو عاقبة هلاك ثمود وتبعتها فيبقي بعض الإِبقاء، والواو للحال وقرأ نافع وابن عامر فَلا على العطف.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والشمس فكأنما تصدق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر» .(5/316)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
(92) سورة والليل
مكية، وآيها إحدى وعشرون آية
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى أي يغشى الشمس أو النهار أو كل ما يواريه بظلامه.
وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ظهر بزوال ظلمة الليل، أو تبين بطلوع الشمس.
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى والقادر الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل نوع له توالد، أو آدم وحواء وقيل مَا مصدرية.
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إن مساعيكم لأشتات مختلفة جمع شتيت.
[سورة الليل (92) : الآيات 5 الى 7]
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى تفصيل مبين لتشتت المساعي. والمعنى من أعطى الطاعة واتقى المعصية وصدق بالكلمة الحسنى وهي ما دلت على حق ككلمة التوحيد.
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى فسنهيئه للخلة التي تؤدي إلى يسر وراحة كدخول الجنة، من يسر الفرس إذا هيأه للركوب بالسرج واللجام.
[سورة الليل (92) : الآيات 8 الى 10]
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بما أمر به. وَاسْتَغْنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى.
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى بإنكار مدلولها.
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى للخلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار.
[سورة الليل (92) : الآيات 11 الى 13]
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13)
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ نفي أو استفهام إنكار. إِذا تَرَدَّى هلك تفعل من الردى، أو تردى في حفرة القبر أو قعر جهنم.
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى للإرشاد إلى الحق بموجب قضائنا أو بمقتضى حكمتنا، أو إِنَّ عَلَيْنا طريقة الهدى كقوله سبحانه وتعالى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ.
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء، أو ثواب الهداية للمهتدين، أو فلا يضرنا ترككم الاهتداء.
[سورة الليل (92) : الآيات 14 الى 18]
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18)(5/317)
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى تتلهب.
لاَ يَصْلاها لا يلزمها مقاسياً شدتها. إِلَّا الْأَشْقَى إلا الكافر فإن الفاسق وإن دخلها لا يلزمها ولذلك سماه أشقى ووصفه بقوله:
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي كذب الحق وأعرض عن الطاعة.
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الذى اتقى الشرك والمعاصي فإنه لا يدخلها فضلاً عن أن يدخلها ويصلاها، ومفهوم ذلك أن من اتقى الشرك دون المعصية لا يجنبها ولا يلزم ذلك صليها فلا يخالف الحصر السابق.
الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يصرفه في مصارف الخير لقوله: يَتَزَكَّى فإنه بدل من يُؤْتِي أو حال من فاعله.
[سورة الليل (92) : الآيات 19 الى 21]
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى فيقصد بإيتائه مجازاتها.
إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى استثناء منقطع أو متصل عن محذوف مثل لا يؤتى إلا ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة.
وَلَسَوْفَ يَرْضى وعد بالثواب الذي يرضيه. والآيات نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين اشترى بلالاً في جماعة تولاهم المشركون فأعتقهم، ولذلك قيل: المراد بالأشقى أبو جهل أو أمية بن خلف.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والليل أعطاه الله سبحانه وتعالى حتى يرضى وعافاه من العسر ويسر له اليسر» .(5/318)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
(93) سورة والضحى
مكية، وآيها إحدى عشرة آية
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3)
وَالضُّحى ووقت ارتفاع الشمس وتخصيصه لأن النهار يقوى فيه، أو لأن فيه كلم موسى ربه وألقى السحرة سجداً، أو النهار ويؤيده قوله: أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى في مقابلة بَياتاً.
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى سكن أهله أو ركد ظلامه من سجا البحر سجواً إذا سكنت أمواجه، وتقديم اللَّيْلِ في السورة المتقدمة باعتبار الأصل، وتقديم النهار ها هنا باعتبار الشرف.
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ما قطعك قطع المودع، وقرئ بالتخفيف بمعنى ما تركك وهو جواب القسم. وَما قَلى وما أبغضك، وحذف المفعول استغناء بذكره من قبل ومراعاة للفواصل. روي أن الوحي تأخر عنه أياماً لتركه الاستثناء كما مر في سورة «الكهف» ، أو لزجره سائلاً ملحاً، أو لأن جرواً ميتاً كان تحت سريره أو لغيره فقال المشركون: إن محمداً ودعه ربه وقلاه فنزلت ردا عليهم.
[سورة الضحى (93) : الآيات 4 الى 5]
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى فإنها باقية خالصة عن الشوائب وهذه فانية مشوبة بالمضار، كأنه لما بين أنه سبحانه وتعالى لا يزال يواصله بالوحي والكرامة في الدنيا وعد له ما هو أعلى وأجل من ذلك في الآخرة، أو لنهاية أمرك خير من بدايته، فإنه صلّى الله عليه وسلم لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال.
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وعد شامل لما أعطاه من كمال النفس وظهور الأمر وإعلاء الدين، ولما ادخر له مما لا يعرف كنهه سواه، واللام للابتلاء دخل الخبر بعد حذف المبتدأ والتقدير: ولأنت سوف يعطيك لا للقسم فإنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة، وجمعها مع سوف للدلالة على أن الإِعطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمة.
[سورة الضحى (93) : الآيات 6 الى 8]
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى تعديد لما أنعم عليه تنبيهاً على أنه كما أحسن إليه فيما مضى يحسن إليه فيما يستقبل وإن تأخر. ويَجِدْكَ من الوجود بمعنى العلم ويَتِيماً مفعوله الثاني أو المصادفة ويَتِيماً حال.
وَوَجَدَكَ ضَالًّا عن علم الحكم والأحكام. فَهَدى فعلمك بالوحي والإِلهام والتوفيق للنظر. وقيل وجدك ضالاً في الطريق حين خرج بك أبو طالب إلى الشام أو حين فطمتك حليمة وجاءت بك لتردك إلى جدك، فأزال ضلالك عن عمك أو جدك.
وَوَجَدَكَ عائِلًا فقيراً ذا عيال. فَأَغْنى بما حصل لك من ربح التجارة.(5/319)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
[سورة الضحى (93) : الآيات 9 الى 11]
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فلا تغلبه على ماله لضعفه، وقرئ «فلا تكهر» أي فلا تعبس في وجهه.
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ فلا تزجره.
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فإن التحدث بها شكرها، وقيل المراد بالنعمة النبوة والتحديث بها تبليغها.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والضحى جعله الله سبحانه وتعالى فيمن يرضى لمحمد صلّى الله عليه وسلم أن يشفع له وعشر حسنات، يكتبها الله سبحانه وتعالى له بعدد كل يتيم وسائل» .(5/320)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
(94) سورة ألم نشرح
مكية، وآيها ثمان آيات
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق فكان غائباً حاضراً، أو ألم نفسحه بما أودعنا فيه من الحكم وأزلنا عنه ضيق الجهل، أو بما يسرنا لك تلقي الوحي بعد ما كان يشق عليك، وقيل إنه إشارة إلى ما
روي «أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صباه أو يوم الميثاق، فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيماناً وعلماً» .
ولعله إشارة إلى نحو ما سبق ومعنى الاستفهام إنكار نفي الانشراح مبالغة في إثباته ولذلك عطف عليه.
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ عبأك الثقيل.
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ الذي حمله على النقيض وهو صوت الرحل عند الانتقاض من ثقل الحمل وهو ما ثقل عليه من فرطاته قبل البعثة، أو جهله بالحكم والأحكام أو حيرته، أو تلقي الوحي أو ما كان يرى من ضلال قومه من العجز عن إرشادهم، أو من إصرارهم وتعديهم في إيذائه حين دعاهم إلى الإيمان.
[سورة الشرح (94) : الآيات 4 الى 6]
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ بالنبوة وغيرها، وأي رفع مثل أن قرن اسمه باسمه تعالى في كلمتي الشهادة وجعل طاعته طاعته، وصلى عليه في ملائكته وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وخاطبه بالألقاب، وإنما زاد لَكَ ليكون إبهاماً قبل إيضاح فيفيد المبالغة.
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ كضيق الصدر والوزر المنقض للظهر وضلال القوم وإيذائهم. يُسْراً كالشرح والوضع والتوفيق للاهتداء والطاعة فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يغمك، وتنكيره للتعظيم والمعنى بما في «إن مع» من المصاحبة المبالغة في معاقبة اليسر للعسر، واتصاله به اتصال المتقاربين.
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً تكرير للتأكيد أو استئناف وعده بأن الْعُسْرِ متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة كقولك: إن للصائم فرحة، إن للصائم فرحة أي فرحة عند الإِفطار وفرحة عند لقاء الرب. وعليه
قوله عليه الصلاة والسلام «لن يغلب عسر يسرين»
فإن العسر معرف فلا يتعدد سواء كان للعهد أو للجنس، واليسر منكر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد يغاير ما أريد بالأول.
[سورة الشرح (94) : الآيات 7 الى 8]
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
فَإِذا فَرَغْتَ من التبيلغ. فَانْصَبْ فاتعب في العبادة شكراً لما عددنا عليك من النعم السالفة(5/321)
ووعدناك من النعم الآتية. وقيل إذا فرغت من الغزو فانصب في العبادة، أو فَإِذا فَرَغْتَ من الصلاة فانصب بالدعاء.
وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ بالسؤال ولا تسأل غيره فإنه القادر وحده على إسعافك، وقرئ «فَرَغِّبْ» أي فرغب الناس إلى طلب ثوابه.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة ألم نشرح فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني» .(5/322)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
(95) سورة والتين
مختلف فيها، وآيها ثمان آيات
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ خصهما من الثمار بالقسم لأن التين فاكهة طيبة لا فضل له وغذاء لطيف سريع الهضم، ودواء كثير النفع فإنه يلين الطبع ويحلل البلغم ويطهر الكليتين، ويزيل رمل المثانة ويفتح سدد الكبد والطحال، ويسمن البدن
وفي الحديث أنه يقطع البواسير وينفع من النقرس.
والزيتون فاكهة وإدام ودواء وله دهن لطيف كثير المنافع، مع أنه قد ينبت حيث لا دهنية فيه كالجبال، وقيل المراد بهما جبلان من الأرض المقدسة أو مسجدا دمشق وبيت المقدس، أو البلدان.
وَطُورِ سِينِينَ يعني الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه الصلاة والسلام ربه وسِينِينَ وسَيْناءَ اسمان للموضع الذي هو فيه.
وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ أي الآمن من أمن الرجل أمانة فهو أمين، أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله والمراد به مكة.
[سورة التين (95) : الآيات 4 الى 6]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يريد به الجنس. فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ تعديل بأن خص بانتصاب القامة وحسن الصورة واستجماع خواص الكائنات ونظائر سائر الممكنات.
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ بأن جعلناه من أهل النار أو إلى أسفل سافلين وهو النار. وقيل هو أرذل العمر فيكون قوله:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء منقطعاً. فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ لا ينقطع أو لا يمن به عليهم، وهو على الأول حكم مرتب على الاستثناء مقرر له.
[سورة التين (95) : الآيات 7 الى 8]
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
فَما يُكَذِّبُكَ أي فأي شيء يكذبك يا محمد دلالة أو نطقاً. بَعْدُ بِالدِّينِ بالجزاء بعد ظهور هذه الدلائل وقيل «ما» بمعنى من، وقيل الخطاب للإنسان على الالتفات، والمعنى فما الذي يحملك على هذا الكذب.(5/323)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ تحقيق لما سبق. والمعنى أليس الذي فعل ذلك من الخلق والرد بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ صنعاً وتدبيراً ومن كان كذلك كان قادراً على الإِعادة والجزاء على ما مر مراراً.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والتين أعطاه الله العافية واليقين ما دام حياً، فإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة» .(5/324)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)
(96) سورة العلق
مكية، وآيها تسع عشرة آية
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي اقرأ القرآن مفتتحاً باسمه سبحانه وتعالى. أو مستعيناً به. الَّذِي خَلَقَ أي الذي له الخلق أو الذي خلق كل شيء، ثم أفرد ما هو أشرف وأظهر صنعاً وتدبيراً وأدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة فقال:
خَلَقَ الْإِنْسانَ أو الذي خَلَقَ الْإِنْسانَ فأبهم أولاً ثم فسر تفخيماً لخلقه ودلالة. على عجيب فطرته. مِنْ عَلَقٍ جمعه على الْإِنْسانَ في معنى الجمع ولما كان أول الواجبات معرفة الله سبحانه وتعالى نزل أولاً ما يدل على وجوده وفرط قدرته وكمال حكمته.
[سورة العلق (96) : الآيات 3 الى 5]
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
اقْرَأْ تكرير للمبالغة، أو الأول مطلق والثاني للتبليغ أو في الصلاة ولعله لما قيل له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فقال: ما أنا بقارئ، فقيل له اقرأ: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الزائد في الكرم على كل كريم فإنه سبحانه وتعالى ينعم بلا عوض ويحلم من غير تخوف، بل هو الكريم وحده على الحقيقة.
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي الخط بالقلم، وقد قرئ به لتقيد به العلوم ويعلم به البعيد.
عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ بخلق القوى ونصب الدلائل وإنزال الآيات فيعلمك القراءة وإن لم تكن قارئاً، وقد عدد سبحانه وتعالى مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهاراً لما أنعم عليه، من أن نقله من أخس المراتب إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته، وأشار أولاً إلى ما يدل على معرفته عقلاً ثم نبه على ما يدل عليها سمعا.
[سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 8]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8)
كَلَّا ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه. إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى.
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أن رأى نفسه، واستغنى مفعوله الثاني لأنه بمعنى علم ولذلك جاز أن يكون فاعله ومفعوله ضميرين لواحد.
إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
الخطاب للإنسان على الالتفات تهديداً وتحذيراً من عاقبة الطغيان، والرُّجْعى
مصدر كالبشرى.
[سورة العلق (96) : الآيات 9 الى 12]
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى نزلت في أبي جهل قال لو رأيت محمداً ساجداً لوطئت عنقه،(5/325)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
فجاءه ثم نكص على عقبيه فقيل له مالك، فقال إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة. فنزلت ولفظ العبد وتنكيره للمبالغة في تقبيح النهي والدلالة على كمال عبودية المنهي.
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أرأيت تكرير للأول وكذا الذي في قوله:
[سورة العلق (96) : الآيات 13 الى 14]
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى والشرطية مفعوله الثاني وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب الشرط الثاني الواقع موقع القسيم له. والمعنى أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه، أو آمراً بِالتَّقْوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده، أو إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الصواب كما تقول، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ويطلع على أحواله من هداه وضلاله. وقيل المعنى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً يصلي والمنهي على الهدى آمراً بالتقوى، والناهي مكذب متولٍ فما أعجب من ذا. وقيل الخطاب في الثانية مع الكافر فإنه سبحانه وتعالى كالحاكم الذي حضره الخصمان يخاطب هذا مرة والآخر أخرى، وكأنه قال يا كافر أخبرني إن كان صلاته هدى ودعاؤه إلى الله سبحانه وتعالى أمراً بالتقوى أتنهاه، ولعله ذكر الأمر بالتقوى في التعجب والتوبيخ ولم يتعرض له في النهي لأن النهي كان عن الصلاة والأمر بالتقوى، فاقتصر على ذكر الصلاة لأنه دعوة بالفعل أو لأن نهي العبد إذا صلى يحتمل أن يكون لها ولغيرها، وعامة أحوالها محصورة في تكميل نفسه بالعبادة وغيره بالدعوة.
[سورة العلق (96) : الآيات 15 الى 16]
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16)
كَلَّا ردع للناهي. لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عما هو فيه. لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار، والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدة، وقرئ لنَسْفَعَنَّ بنون مشددة و «لأسفعن» ، وكتابته في المصحف بالألف على حكم الوقف والاكتفاء باللام عن الإِضافة للعلم بأن المراد ناصية المذكور.
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ بدل من الناصية وإنما جاز لوصفها، وقرئت بالرفع على هي ناصية والنصب على الذم ووصفها بالكذب والخطأ، وهما لصاحبها على الإسناد المجازي للمبالغة.
[سورة العلق (96) : الآيات 17 الى 19]
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي أهل ناديه ليعينوه وهو المجلس الذي ينتدي فيه القوم.
روي أنا أبا جهل لعنه الله مر برسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال: ألم أنهك، فاغلظ له رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً فنزلت.
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ليجروه إلى النار وهو في الأصل الشرط واحدها زبنية كعفرية من الزين وهو الدفع، أو زبني على النسب وأصلها زباني والتاء معوضة عن الياء.
كَلَّا ردع أيضاً للناهي. لاَ تُطِعْهُ أي أثبت أنت على طاعتك. وَاسْجُدْ داوم على سجودك.
وَاقْتَرِبْ وتقرب إلى ربك
وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد» .
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله» .(5/326)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
(97) سورة القدر
مختلف فيها، وآيها خمس آيات
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الضمير للقرآن فخمه بإضماره من غير ذكر شهادة له بالنباهة المغنية عن التصريح كما عظمه بأن أسند نزله إليه، وعظم الوقت الذي أنزل فيه بقوله:
وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وإنزاله فيها بأن ابتدأ بإنزاله فيها، أو أنزله جملة من اللوح إلى السماء الدنيا على السفرة، ثم كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزله على رسول الله صلّى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة. وقيل المعنى أَنْزَلْناهُ في فضلها وهي في أوتار العشر الأخير من رمضان، ولعلها السابعة منها. والداعي إلى إخفائها أن يُحيي من يريدها ليالي كثيرة، وتسميتها بذلك لشرفها أو لتقدير الأمور فيها لقوله سبحانه وتعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وذكر الألف إما للتكثير، أو لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام ذكر إسرائيلياً يلبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلة القدر هي خير من مدة ذلك الغازي.
[سورة القدر (97) : الآيات 4 الى 5]
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بيان لما له فضّلت على ألف شهر وتنزلهم إلى الأرض، أو إلى السماء الدنيا أو تقربهم إلى المؤمنين. مِنْ كُلِّ أَمْرٍ من أجل كل أمر قدر في تلك السنة، وقرئ «من كل امرئ» أي من أجل كل إنسان.
سَلامٌ هِيَ ما هي إلا سلامة أي لا يقدر الله فيها إلا السلامة، ويقضي في غيرها السلامة والبلاء، أو ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون فيها على المؤمنين. حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي وقت مطلعه أي طلوعه. وقرأ الكسائي بالكسر على أنه كالمرجع أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة القدر أعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر» .(5/327)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
(98) سورة لم يكن
مختلف فيها، وآيها ثمان آيات
[سورة البينة (98) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ اليهود والنصارى فإنهم كفروا بالإِلحاد في صفات الله سبحانه وتعالى ومِنْ للتبيين. وَالْمُشْرِكِينَ وعبدة الأصنام. مُنْفَكِّينَ عما كانوا عليه من دينهم، أو الوعد باتباع الحق إذا جاءهم الرسول صلّى الله عليه وسلم. حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الرسول عليه الصلاة والسلام أو القرآن، فإنه مبين للحق أو معجزة الرسول بأخلاقه والقرآن بإفحامه من تحدى به.
[سورة البينة (98) : الآيات 2 الى 3]
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بدل من الْبَيِّنَةُ بنفسه أو بتقدير مضاف أو مبتدأ. يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً صفته أو خبره، والرسول عليه الصلاة والسلام وإن كان أمياً لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها. وقيل المراد جبريل عليه الصلاة والسلام وكون الصحف مُطَهَّرَةً أن الباطل لا يأتي ما فيها، أو أنها لا يمسها إلا المطهرون.
فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحق.
[سورة البينة (98) : الآيات 4 الى 5]
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عما كانوا عليه بأن آمن بعضهم أو تردد في دينه، أو عن وعدهم بالإِصرار على الكفر. إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ فيكون كقوله: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ وإفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم وبين المشركين للدلالة على شناعة حالهم، وأنهم لما تفرقوا مع علمهم كان غيرهم بذلك أولى.
وَما أُمِرُوا أي في كتبهم بما فيها. إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لا يشركون به. حُنَفاءَ مائلين عن العقائد الزائغة. وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ولكنهم حرفوا وعصوا. وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ دين الملة القيمة.
[سورة البينة (98) : آية 6]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي يوم القيامة، أو في الحال لملابستهم ما يوجب ذلك، واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب اشتراكهما في نوعه فلعله يختلف(5/328)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
لتفاوت كفرهما. أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي الخليقة. وقرأ نافع «البريئة» بالهمز على الأصل.
[سورة البينة (98) : الآيات 7 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً فيه مبالغات تقديم المدح، وذكر الجزاء المؤذن بأن ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به والحكم عليه بأنه من عِنْدَ رَبِّهِمْ، وجمع جَنَّاتُ وتقييدها إضافة ووصفاً بما تزداد لها نعيماً، وتأكيد الخلود بالتأبيد. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ استئناف بما يكون لهم زيادة على جزائهم. وَرَضُوا عَنْهُ لأنه بلغهم أقصى أمانيهم. ذلِكَ أي المذكور من الجزاء والرضوان. لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ فإن الخشية ملاك الأمر والباعث على كل خير.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلا» .(5/329)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
(99) سورة الزلزلة
مختلف فيها، وآيها ثمان آيات
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها (3)
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها اضطرابها المقدر لها عند النفخة الأولى، أو الثانية أو الممكن لها أو اللائق بها في الحكمة، وقرئ بالفتح وهو اسم الحركة وليس في الأبنية فعلال إلا في المضاعف.
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ما في جوفها من الدفائن أو الأموات جمع ثقل وهو متاع البيت.
وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها لما يبهرهم من الأمر الفظيع، وقيل المراد ب الْإِنْسانُ الكافر فإن المؤمن يعلم ما لها.
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 4 الى 5]
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ تحدث الخلق بلسان الحال. أَخْبارَها ما لأجله زلزالها وإخراجها. وقيل ينطقها الله سبحانه وتعالى فتخبر بما عمل عليها، ويَوْمَئِذٍ بدل من إِذا وناصبهما تُحَدِّثُ، أو أصل وإِذا منتصب بمضمر.
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها بأن أحدث فيها ما دلت على الأخبار، أو أَنطقها بها ويجوز أن يكون بدلاً من إخبارها إذ يقال: حدثته كذا وبكذا، واللام بمعنى إلى أو على أصلها إذ لها في ذلك تشف من العصاة.
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 6 الى 8]
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ من مخارجهم من القبور إلى الموقف. أَشْتاتاً متفرقين بحسب مراتبهم.
لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ جزاء أعمالهم، وقرئ بفتح الياء.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ تفصيل لِيُرَوْا ولذلك قرئ «يُرَهُ» بالضم، وقرأ هشام بإسكان الهاء ولعل حسنة الكافر وسيئة المجتنب عن الكبائر تؤثران في نقص الثواب والعقاب. وقيل الآية مشروطة بعدم الإحباط والمغفرة، أو من الأولى مخصوصة بالسعداء والثانية بالأشقياء لقوله أَشْتاتاً، وال ذَرَّةٍ النملة الصغيرة أو الهباء.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة إذا زلزلت الأرض أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله» .(5/330)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
(100) سورة والعاديات
مختلف فيها، وآيها إحدى عشرة آية
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5)
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً أقسم سبحانه بخيل الغزاة تعدو فتضبح ضبحاً، وهو صوت أنفاسها عند العدو ونصبه بفعله المحذوف، أو ب الْعادِياتِ فإنها تدل بالالتزام على الضابحات، أو ضبحاً حال بمعنى ضابحة.
فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فالتي توري النار، والإِيراء إخراج النار يقال قدح الزند فأورى.
فَالْمُغِيراتِ يغير أهلها على العدو. صُبْحاً أي في وقته.
فَأَثَرْنَ فهيجن. بِهِ بذلك الوقت. نَقْعاً غباراً أو صياحاً.
فَوَسَطْنَ بِهِ فتوسطن بذلك الوقت أو بالعدو، أو بالنقع أي ملتبسات به. جَمْعاً من جموع الأعداء،
روي: أنه عليه الصلاة والسلام بعث خيلاً فمضت أشهر لم يأته منهم خبر فنزلت.
ويحتمل أن يكون القسم بالنفوس العادية أثر كمالهنّ الموريات بأفكارهن أنوار المعارف، والمغيرات على الهوى والعادات إذا ظهر لهن مثل أنوار القدس، فَأَثَرْنَ بِهِ شوقاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً من جموع العليين.
[سورة العاديات (100) : الآيات 6 الى 8]
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ لكفور من كَنَدِ النعمة كنوداً، أو لعاص بلغة كندة، أو لبخيل بلغة بني مالك وهو جواب القسم.
وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ وإن الإِنسان على كنوده لَشَهِيدٌ يشهد على نفسه لظهور أثره عليه، أو أن الله سبحانه وتعالى على كنوده لشهيد فيكون وعيداً.
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ المال من قوله سبحانه وتعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً أي مالاً. لَشَدِيدٌ لبخيل أو لقوي مبالغ فيه.
[سورة العاديات (100) : الآيات 9 الى 11]
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ بعث. مَا فِي الْقُبُورِ من الموتى وقرئ «بحثر» و «بحث» .
وَحُصِّلَ جمع محصلاً في الصحف أو ميز. مَا فِي الصُّدُورِ من خير أو شر، وتخصيصه لأنه الأصل.
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ وهو يوم القيامة. لَخَبِيرٌ عالم بما أعلنوا وما أسروا فيجازيهم عليه، وإنما قال(5/331)
مَا ثم قال بِهِمْ لاختلاف شأنهم في الحالين، وقرئ «أن» و «خبير» بلا لام.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والعاديات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا» .(5/332)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
(101) سورة القارعة
مكية، وآيها ثمان آيات
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ سبق بيانه في «الحاقة» .
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ في كثرتهم وذلتهم وانتشارهم واضطرابهم، وانتصاب يَوْمَ بمضمر دلت عليه الْقارِعَةُ.
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف ذي الألوان. الْمَنْفُوشِ المندوف لتفرق أجزائها وتطايرها في الجو.
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بأن ترجحت مقادير أنواع حسناته.
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ في عيش. راضِيَةٍ ذات رضا أو مرضية.
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن لم يكن له حسنة يعبأ بها، أو ترجحت سيئاته على حسناته.
فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ فمأواه النار المحرقة والهاوية من أسمائها ولذلك قال:
وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ ذات حمى.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة» .(5/333)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
(102) سورة التكاثر
مختلف فيها، وآيها ثمان آيات
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)
أَلْهاكُمُ شغلكم وأصله الصرف إلى اللهو منقول من لها إذا غفل. التَّكاثُرُ التباهي بالكثرة.
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات، عبر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة المقابر.
روي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بالكثرة فكثرهم بنو عبد مناف، فقال بنو سهم إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة.
وقيل معناه أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا عما هو أهم لكم، وهو السعي لأخراكم فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت.
كَلَّا ردع وتنبيه على أن العاقل ينبغي له أن لا يكون جميع همه ومعظم سعيه للدنيا فإن عاقبة ذلك وبال وحسرة. سَوْفَ تَعْلَمُونَ خطأ رأيكم إذا عاينتم ما وراءكم وهو إنذار ليخافوا وينتبهوا من غفلتهم.
[سورة التكاثر (102) : الآيات 4 الى 6]
ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ تكرير للتأكيد وفي ثُمَّ دلالة على أن الثاني أبلغ من الأول، أو الأول عند الموت أو في القبر والثاني عند النشور.
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين أي كعلمكم ما تستيقنونه لشغلكم ذلك عن غيره، أو لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه فحذف الجواب للتفخيم ولا يجوز أن يكون قوله:
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواباً له لأنه محقق الوقوع بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيماً، وقرأ ابن عامر والكسائي بضم التاء.
[سورة التكاثر (102) : الآيات 7 الى 8]
ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
ثُمَّ لَتَرَوُنَّها تكرير للتأكيد، أو الأولى إذا رأيتهم من مكان بعيد والثانية إذا وردوها، أو المراد بالأولى المعرفة وبالثانية الإبصار. عَيْنَ الْيَقِينِ أي الرؤية التي هي نفس اليقين، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين.
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ الذي ألهاكم، والخطاب مخصوص بكل من ألهاه دنياه عن دينه والنَّعِيمِ بما يشغله للقرينة والنصوص الكثيرة كقوله: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وقيل يعمان(5/334)
إذ كل يسأل عن شكره. وقيل الآية مخصوصة بالكفار.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ أَلْهاكُمُ لم يحاسبه الله سبحانه وتعالى بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية» .(5/335)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
(103) سورة والعصر
مكية، وآيها ثلاث آيات
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
وَالْعَصْرِ أقسم سبحانه بصلاة العصر لفضلها، أو بعصر النبوة أو بالدهر لاشتماله على الأعاجيب والتعريض بنفي ما يضاف إليه من الخسران.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إن الناس لفي خسران في مساعيهم وصرف أعمارهم في مطالبهم، والتعريف للجنس والتنكير للتعظيم.
[سورة العصر (103) : آية 3]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية. وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ الثابت الذي لا يصح إنكاره من اعتقاد أو عمل. وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ عن المعاصي أو على الحق، أو ما يبلو الله به عباده. وهذا من عطف الخاص على العام للمبالغة إلا أن يخص العمل بما يكون مقصوراً على كماله، ولعله سبحانه وتعالى إنما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاء ببيان المقصود، وإشعاراً بأن ما عدا ما عد يؤدي إلى خسر ونقص حظ، أو تكرماً فإن الإبهام في جانب الخسر كرم.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة وَالْعَصْرِ غفر الله له وكان ممن تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» .(5/336)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
(104) سورة الهمزة
مكية، وآيها تسع آيات
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الهمزة الكسر كالهزم، واللمز الطعن كالهزم فشاعا في الكسر من أعراض الناس والطعن فيهم، وبناء فعله يدل على الاعتياد فلا يقال ضحكة ولعنة إلا للمكثر المتعود، وقرئ «همزة لمزة» بالسكون على بناء المفعول وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك فيضحك منه ويشتم. ونزولها في الأخنس بن شريق فإنه كان مغياباً، أو في الوليد بن المغيرة واغتيابه رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
الَّذِي جَمَعَ مَالاً بدل من كل أو ذم منصوب أو مرفوع، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتشديد للتكثير وَعَدَّدَهُ وجعله عدة للنوازل أو عدة مرة بعد أخرى، ويؤيده أنه قرئ «وَعَدَّدَهُ» على فك الإِدغام.
يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ تركه خالداً في الدنيا فأحبه كما يحب الخلود، أو حب المال أغفله عن الموت أو طول أمله حتى حسب أنه مخلد فعمل عمل من لا يظن الموت، وفيه تعريض بأن المخلد هو السعي للآخرة.
[سورة الهمزة (104) : الآيات 4 الى 7]
كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
كَلَّا ردع له عن حسبانه. لَيُنْبَذَنَّ ليطرحن. فِي الْحُطَمَةِ في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يطرح فيها.
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ما النار التي لها هذه الخاصية.
نارُ اللَّهِ تفسير لها. الْمُوقَدَةُ التي أوقدها الله وما أوقده لا يقدر غيره أن يطفئه.
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ تعلو أوساط القلوب وتشتمل عليها، وتخصيصها بالذكر لأن الفؤاد ألطف ما في البدن وأشده تألما، أو لأنه محل العقائد الزائفة ومنشأ الأعمال القبيحة.
[سورة الهمزة (104) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ مطبقة من أوصدت الباب إذا أطبقته، قال:
تحن إلى أجبال مكة ناقتي ... وَمَنْ دُونِهَا أبواب صنعاء مُوصَدَة
وقرأ حفص وأبو عمرو وحمزة بالهمزة.(5/337)
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ أي موثقين في أعمدة ممدودة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص وقرأ الكوفيون غير حفص بضمتين، وقرئ «عُمْدٍ» بسكون الميم مع ضم العين.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه»
رضوان الله عليهم أجمعين.(5/338)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
(105) سورة الفيل
مكية، وهي خمس آيات
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم، وهو وإن لم يشهد تلك الوقعة لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها فكأنه رآها، وإنما قال كَيْفَ ولم يقل ما لأن المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله تعالى وقدرته وعزة بيته وشرف رسوله عليه الصلاة والسلام فإنها من الإِرهاصات. إذ
روي أنها وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قصتها أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي- بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف الحاج إليها، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً فأغضبه ذلك، فحلف ليهدمن الكعبة فخرج بجيشه ومعه فيل قوي اسمه محمود، وفيلة أخرى فلما تهيأ للدخول وعبى جيشه قدم الفيل، وكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى جهة أخرى هرول، فأرسل الله تعالى طيرا، كل واحد في منقاره حجر وفي رجليه حجران، أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة، فترميهم فيقع الحجر في رأس الرجل فيخرج من دبره فهلكوا جميعا. وقرئ «أَلَمْ تَرَ» جداً في إظهار أثر الجازم، وكيف نصب بفعل لا بتر لما فيه من معنى الاستفهام.
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تعطيل الكعبة وتخريبها. فِي تَضْلِيلٍ في تضييع وإبطال بأن دمرهم وعظم شأنها.
[سورة الفيل (105) : الآيات 3 الى 5]
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ جماعات جمع إبالة وهي الحزمة الكبيرة، شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها. وقيل لا واحد لها كعباديد وشماطيط.
تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ وقرئ بالياء على تذكير الطير لأنه اسم جمع، أو إسناده إلى ضمير ربك. مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجر معرب سنك كل وقيل من السجل وهو الدلو الكبير، أو الاسجال وهو الارسال، أو من السجل ومعناه من جملة العذاب المكتوب المدون.
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كورق زرع وقع فيه الآكال وهو أن يأكله الدود أو أكل حبه فبقي صفرا منه، أو كتبن أكلته الدواب وراثته.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ» .(5/339)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
(106) سورة قريش
مكية، وآيها أربع آيات
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2)
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ متعلق بقوله: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
والفاء لما في الكلام من معنى الشرط، إذ المعنى أن نعم الله عليهم لا تحصى فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لأجل:
إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ أي الرحلة في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام فيمتارون ويتجرون، أو بمحذوف مثل أعجبوا أو بما قبله كالتضمين في الشعر أي فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، ويؤيده أنهما في مصحف أُبيَّ سورة واحدة، وقرئ «ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء» ، وقريش ولد النضر بن كنانة منقول من تصغير قرش، وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن فلا تطاق إلا بالنار، فشبهوا بها لأنها تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، وصغر الاسم للتعظيم وإطلاق الإِيلاف، ثم إبدال المقيد عنه للتفخيم. وقرأ ابن عامر «لئلاف» بغير ياء بعد الهمزة.
[سورة قريش (106) : الآيات 3 الى 4]
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
ْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي بالرحلتين والتنكير للتعظيم، وقيل المراد به شدة أكلوا فيها الجيف والعظام. وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أصحاب الفيل أو التخطف في بلدهم ومسايرهم، أو الجذام فلا يصيبهم ببلدهم.
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها» .(5/340)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
(107) سورة الماعون
مختلف فيها، وآيها سبع آيات
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3)
أَرَأَيْتَ استفهام معناه التعجب، وقرئ «أريت» بلا همز إلحاقاً بالمضارع، ولعل تصديرها بحرف الاستفهام سهل أمرها و «أرأيتك» بزيادة الكاف. الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ بالجزاء أو الإِسلام والذي يحتمل الجنس والعهد ويؤيد الثاني قوله:
فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ يدفعه دفعاً عنيفاً وهو أبو جهل كان وصياً ليتيم فجاءه عرياناً يسأله من مال نفسه فدفعه، أو أبو سفيان نحر جزوراً فسأله يتيم لحماً فقرعه بعصاه، أو الوليد بن المغيرة، أو منافق بخيل.
وقرئ «يَدع» أي يترك.
وَلا يَحُضُّ أهله وغيرهم. عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ لعدم اعتقاده بالجزاء ولذلك رتب الجملة على يُكَذِّبُ بالفاء.
[سورة الماعون (107) : الآيات 4 الى 7]
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أي غافلون غير مبالين بها.
الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ يرون الناس أعمالهم ليروهم الثناء عليهم.
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ الزكاة أو ما يتعاور في العادة والفاء جزائية. والمعنى إذا كان عدم المبالاة باليتيم من ضعف الدين والموجب للذم والتوبيخ فالسهو عن الصلاة التي هي عماد الدين والرياء الذي هو شعبة من الكفر، ومنع الزكاة التي هي قنطرة الإِسلام أحق بذلك ولذلك رتب عليها الويل، أو للسببية على معنى فَوَيْلٌ لهم، وإنما وضع المصلين موضع الضمير للدلالة على سوء معاملتهم مع الخالق والخلق.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة أَرَأَيْتَ غفر له أن كان للزكاة مؤديا» .(5/341)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
(108) سورة الكوثر
مكية، وآيها ثلاث آيات
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
إِنَّا أَعْطَيْناكَ وقرئ «أنطيناك» . الْكَوْثَرَ الخير المفرط الكثرة من العلم والعمل وشرف الدارين.
وروي عنه عليه الصلاة والسلام «أنه نهر في الجنة وعدنيه ربي فيه خير كثير أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأبرد من الثلج وألين من الزبد، حافتاه الزبرجد وأوانيه من فضة لا يظمأ من شرب منه»
، وقيل حوض فيها، وقيل أولاده وأتباعه، أو علماء أمته أو القرآن العظيم.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ فَدُمْ على الصلاة خالصاً لوجه الله خلاف الساهي عنها المرائي فيها شكراً لإِنعامه، فإن الصلاة جامعة لأقسام الشكر. وَانْحَرْ البدن التي هي خيار أموال العرب وتصدق على المحاويج خلافاً لمن يدعهم ويمنع عنهم الماعون، فالسورة كالمقابلة للسورة المتقدمة وقد فسرت الصلاة بصلاة العيد والنحر بالتضحية.
إِنَّ شانِئَكَ إن من أبغضك لبغضه الله. هُوَ الْأَبْتَرُ الذي لا عقب له إذ لا يبقى له نسل ولا حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر له في الجنة، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر العظيم» .(5/342)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
(109) سورة الكافرون
مكية، وآيها ست آيات
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ يعني كفرة مخصوصين قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون.
روي أن رهطاً من قريش قالوا يا محمد تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فنزلت.
لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أي فيما يستقبل فأن لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال كما أن مَا لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال.
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أي فيما يستقبل لأنه في قران لا أَعْبُدُ.
[سورة الكافرون (109) : الآيات 4 الى 6]
وَلا أَنا عابِدٌ مَّا عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
وَلا أَنا عابِدٌ مَّا عَبَدْتُّمْ أي في الحال أو فيما سلف.
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أي وما عبدتم في وقت ما أنا عابده، ويجوز أن يكونا تأكيدين على طريقة أبلغ وإنما لم يقل ما عبدت ليطابق مَّا عَبَدْتُّمْ لأنهم كانوا موسومين قبل المبعث بعبادة الأصنام، وهو لم يكن حينئذ موسوماً بعبادة الله، وإنما قال مَا دون من لأن المراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق أو للمطابقة. وقيل إنها مصدرية وقيل الأوليان بمعنى الذي والآخريان مصدريتان.
لَكُمْ دِينُكُمْ الذي أنتم عليه لا تتركونه. وَلِيَ دِينِ ديني الذي أنا عليه لا أرفضه، فليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد ليكون منسوخاً بآية القتال، اللهم إلا إذا فسر بالمتاركة وتقرير كل من الفريقين الآخر على دينه، وقد فسر ال دِينِ بالحساب والجزاء والدعاء والعبادة.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت عنه مردة الشياطين وبرىء من الشرك» .(5/343)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
(110) سورة النصر
مدينة، وآيها ثلاث آيات
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2)
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ إظهاره إياك على أعدائك. وَالْفَتْحُ وفتح مكة، وقيل المراد جنس نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم، وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزاً للإِشعار بأن المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها فتقرب منها شيئاً فشيئاً، وقد قرب النصر من وقته فكن مترقباً لوروده مستعداً لشكره.
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً جماعات كثيفة كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن وسائر قبائل العرب، ويَدْخُلُونَ حال على أن رَأَيْتَ بمعنى أبصرت أو مفعول ثان على أنه بمعنى علمت.
[سورة النصر (110) : آية 3]
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببال أحد حامداً له عليه، أو فصل له حامداً على نعمه. «
روي أنه صلّى الله عليه وسلم لما دخل مكة بدأ بالمسجد فدخل الكعبة وصلى ثمان ركعات
» أو فنزهه تعالى عما كانت الظلمة يقولون فيه حامداً له على أن صدق وعده، أو فأثن على الله بصفات الجلال حامداً له على صفات الإِكرام. وَاسْتَغْفِرْهُ هضماً لنفسك واستقصاراً لعملك واستدراكاً لما فرط منك من الالتفات إلى غيره.
وعنه عليه الصلاة والسلام «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» .
وقيل استغفره لأمتك، وتقديم التسبيح على الحمد ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق. كما قيل ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله. إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً لمن استغفره مذ خلق المكلفين، والأكثر على
أن السورة نزلت قبل فتح مكة، وأنه نعي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه لما قرأها بكى العباس، فقال عليه الصلاة والسلام ما يبكيك، فقال: نعيت إليك نفسك، فقال «إنها لكما تقول»
، ولعل ذلك لدلالتها على تمام الدعوة وكمال أمر الدين فهي كقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أو لأن الأمر باستغفار تنبيه على دنو الأجل، ولهذا سميت سورة التوديع.
وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة إِذا جاءَ أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة شرفها الله تعالى» .(5/344)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
(111) سورة تبت
مكية، وآيها خمس آيات
[سورة المسد (111) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
تَبَّتْ هلكت أو خسرت والتباب خسران يؤدي إلى الهلاك. يَدا أَبِي لَهَبٍ نفسه كقوله: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وقيل إنما خصتا لأنه عليه الصلاة والسلام لما نزل عليه وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ جمع أقاربه فأنذرهم فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا دعوتنا، وأخذ حجراً ليرميه به فنزلت. وقيل المراد بهما دنياه وأخراه، وإنما كناه والتكنية تكرمة لاشتهاره بكنيته ولأن اسمه عبد العزى فاستكره ذكره، ولأنه لما كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله، أو ليجانس قوله: ذاتَ لَهَبٍ وقرئ «أبو لهب» كما قيل علي بن أبو طالب. وَتَبَّ إخبار بعد دعاء والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه كقوله:
جَزَانِي جَزَاهُ الله شَرَّ جَزائِه ... جَزاءَ الكِلاَبِ العَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَل
ويدل عليه أنه قرئ «وقد تب» أو الأول إخبار عما كسبت يداه والثاني عن عمل نفسه.
[سورة المسد (111) : الآيات 2 الى 3]
مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى نَاراً ذاتَ لَهَبٍ (3)
مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ نفي لإِغناء المال عنه حين نزل به التباب أو استفهام إنكار له ومحلها النصب.
وَما كَسَبَ وكسبه أو مكسوبه بماله من النتائج والأرباح والوجاهة والإِتباع، أو عمله الذي ظن أنه ينفعه أو ولده عتبة، وقد افترسه أسد في طريق الشام وقد أحدق به العير ومات أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر بأيام معدودة، وترك ثلاثاً حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه، فهو إخبار عن الغيب طابقه وقوعه.
سَيَصْلى نَاراً ذاتَ لَهَبٍ اشتعال يريد نار جهنم، وليس فيه ما يدل على أنه لا يؤمن لجواز أن يكون صليها للفسق، وقرئ «سيصلى» بالضم مخففاً و «سيصلى» مشددا.
[سورة المسد (111) : الآيات 4 الى 5]
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
وَامْرَأَتُهُ عطف على المستتر في سَيَصْلى أو مبتدأ وهي أم جميل أخت أبي سفيان. حَمَّالَةَ الْحَطَبِ يعني حطب جهنم فإنها كانت تحمل الأوزار بمعاداة الرسول صلّى الله عليه وسلم وتحمل زوجها على إيذائه، أو النميمة فإنها كانت توقد نار الخصومة، أو حزمة الشوك أو الحسك، فإنها كانت تحملها فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقرأ عاصم بالنصب على الشتم.
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي مِمَّا مُسِّدَ أي فَتِلَ، ومنه رجل ممسود الخلق أي مجدوله، وهو ترشيح للمجاز أو تصوير لها بصورة الحطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تحقيراً لشأنها، أو بياناً لحالها في(5/345)
نار جهنم حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنم كالزقوم والضريع، وفي جيدها سلسلة من النار، والظرف في موضع الحال أو الخبر وحبل مرتفع به.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة» .(5/346)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
(112) سورة الإخلاص
مختلف فيها، وآيها أربع آيات
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ الضمير للشأن كقولك: هو زيد منطلق وارتفاعه بالإِبتداء وخبره الجملة ولا حاجة إلى العائد لأنها هي هو، أو لما سُئِلَ عنهُ أي الذي سألتموني عنه هو الله، إذ
روي أن قريشاً قالوا: يا محمد صف لنا ربك الذي تدعونا إليه فنزلت.
واحد بدل أو خبر ثان يدل على مجامع صفات الجلال كما دل الله على جميع صفات الكمال إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد، وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامة المقتضية للألوهية وقرئ «هو الله» بلا قُلْ مع الاتفاق على أنه لا بد منه في قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، ولا يجوز في «تبت» ، ولعل ذاك لأن سورة «الكافرون» مشاقة الرسول أو موادعته لهم و «تبت» معاتبة عمه فلا يناسب أن تكون منه، وأما هذا فتوحيد يقول به تارة ويؤمر بأن يدعو إليه أخرى.
اللَّهُ الصَّمَدُ السيد المصمود إليه في الحوائج من صمد إليه إذا قصد، وهو الموصوف به على الإِطلاق فإنه يستغني عن غيره مطلقاً، وكل ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته، وتعريفه لعلمهم بصمديته بخلاف أحديته وتكرير لفظة الله للإشعار بأن من لم يتصف به لم يستحق الألوهية، وإخلاء الجملة عن العاطف لأنها كالنتيجة للأولى أو الدليل عليها.
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 3 الى 4]
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
لَمْ يَلِدْ لأنه لم يجانس ولم يفتقر إلى ما يعينه أو يخلف عنه لامتناع الحاجة والفناء عليه، ولعل الاقتصار على لفظ الماضي لوروده رداً على من قال الملائكة بنات الله، أو المسيح ابن الله أو ليطابق قوله:
وَلَمْ يُولَدْ وذلك لأنه لا يفتقر إلى شيء ولا يسبقه عدم.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أي ولم يكن أحد يكافئه أو يماثله من صاحبة أو غيرها، وكان أصله أن يؤخر الظرف لأنه صلة كُفُواً لكن لما كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدم تقديماً للأهم، ويجوز أن يكون خالا من المستكن في كُفُواً أو خبراً، ويكون كُفُواً حالاً من أَحَدٌ، ولعل ربط الجمل الثلاث بالعطف لأن المراد منها نفي أقسام الأمثال فهي كجملة واحدة منبهة عليها بالجمل، وقرأ حمزة ويعقوب ونافع في رواية كفؤا بالتخفيف، وحفص كُفُواً بالحركة وقلب الهمزة واواً، ولاشتمال هذه السورة مع قصرها على جميع المعارف الإلهية والرد على من ألحد فيها،
جاء في الحديث أنها تعدل ثلث القرآن.
فإن مقاصده محصورة في بيان العقائد والأحكام والقصص ومن عدلها بكله اعتبر المقصود بالذات من ذلك.
وعنه صلّى الله عليه وسلم، أنه سمع رجلاً يقرؤها فقال: «وجبت» قيل: يا رسول الله وما وجبت قال: «وجبت له الجنة» .(5/347)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
(113) سورة الفلق
مختلف فيها، وآيها خمس آيات
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ما يفلق عنه أي يفرق كالفرق فعل بمعنى مفعول، وهو يعم جميع الممكنات، فإنه تعالى فلق ظلمة العدم بنور الإِيجاد عنها، سيما ما يخرج من أصل كالعيون والأمطار والنبات والأولاد، ويختص عرفاً بالصبح ولذلك فسر به. وتخصيصه لما فيه من تغير الحال وتبدل وحشة الليل بسرور النور ومحاكاة فاتحة يوم القيامة، والإِشعار بأن من قدر أن يزيل به ظلمة الليل عن هذا العالم قدر أن يزيل عن العائذ به ما يخافه، ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه تعالى لأن الإعاذة من المضار تربية.
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ خص عالم الخلق بالإستعاذة عنه لانحصار الشر فيه، فإن عالم الأمر خير كله، وشره اختياري لازم ومتعد كالكفر والظلم، وطبيعي كإحراق النار وإهلاك السموم.
[سورة الفلق (113) : الآيات 3 الى 4]
وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ ليل عظيم ظلامه من قوله: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وأصله الامتلاء يقال غسقت العين إذا امتلأت دمعاً. وقيل السيلان وغَسَقِ اللَّيْلِ انصباب ظلامه وغسق العين سيلان دمعه. إِذا وَقَبَ دخل ظلامه في كل شيء، وتخصيصه لأن المضار فيه تكثر ويعسر الدفع، ولذلك قيل الليل أخفى للويل. وقيل المراد به القمر فإنه يكسف فيغسق ووقوبه دخوله في الكسوف.
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها، والنفث النفخ مع ريق وتخصيصه: لما
روي أن يهودياً سحر النبي صلّى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة في وتر دسه في بئر، فمرض النبي صلّى الله عليه وسلم ونزلت المعوذتان، وأخبره جبريل عليه الصلاة والسلام بموضع السحر فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه فجاء به فقرأهما عليه، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد بعض الخفة، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في أنه مسحور، لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحر.
وقيل المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقد بنفث الريق ليسهل حلها وإفرادها بالتعريف لأن كل نفاثة شريرة بخلاف كل غاسق وحاسد.
[سورة الفلق (113) : آية 5]
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه، فإنه لا يعود ضرر منه قبل ذلك إلى المحسود بل يخص به لاغتمامه بسروره، وتخصيصه لأنه العمدة في إضرار الإِنسان بل الحيوان غيره، ويجوز أن يراد بال غاسِقٍ ما يخلو عن النور وما يضاهيه كالقوى وب النَّفَّاثاتِ النباتات، فإن قواها النباتية من(5/348)
حيث أنها تزيد في طولها وعرضها وعمقها كأنها تنفث في العقد الثلاثة، وبال حاسِدٍ الحيوان فإنه إنما يقصد غيره غالباً طمعاً فيما عنده، ولعل إفرادها من عالم الخلق لأنها الأسباب القريبة للمضرة.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «لقد أنزلت عليَّ سورتان ما أنزل مثلهما وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما يعني المعوذتين» .(5/349)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
(114) سورة الناس
مختلف فيها، وآيها ست آيات
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3)
قُلْ أَعُوذُ وقرئ في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتهما إلى اللام. بِرَبِّ النَّاسِ لما كانت الاستعاذة في السورة المتقدمة من المضار البدنية وهي تعم الإِنسان وغيره والاستعاذة في هذه السورة من الأضرار التي تعرض للنفوس البشرية وتخصها، عمم الإِضافة ثمَّ وخصصها بالناس ها هنا فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك أمورهم ويستحق عبادتهم.
مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ عطفاً بيان له فإن الرب قد لا يكون ملكاً والملك قد لا يكون إلهاً، وفي هذا النظم دلالة على أنه حقيق بالإعادة قادر عليها غير ممنوع عنها وإشعار على مراتب الناظر في المعارف فإنه يعلم أولاً بما عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له ربا، ثم يتغلغل في النظر حتى يتحقق أنه غني عن الكل وذات كل شيء له ومصارف أمره منه، فهو الملك الحق ثم يستدل به على أنه المستحق للعبادة لا غير، وتدرج وجوه الاستعاذة كما يتدرج في الاستعاذة المعتادة، تنزيلاً لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات إشعاراً بعظم الآفة المستعاذ منها، وتكرير النَّاسِ لما في الإِظهار من مزيد البيان، والإِشعار بشرف الإِنسان.
[سورة الناس (114) : الآيات 4 الى 6]
مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ أي الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأما المصدر فبالكسر كالزلزال، والمراد به الموسوس وسمي بفعله مبالغة. الْخَنَّاسِ الذي عادته أن يخنس أي يتأخر إذا ذكر الإِنسان ربه.
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ إذا غفلوا عن ذكر ربهم، وذلك كالقوة الوهمية، فإنها تساعد العقل في المقدمات، فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه، ومحل الَّذِي الجر على الصفة أو النصب أو الرفع على الذم.
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان ل الْوَسْواسِ، أو للذي أو متعلق ب يُوَسْوِسُ أي يوسوس في صدورهم من جهة الجِنَّةَ والناس. وقيل بيان ل النَّاسِ على أن المراد به ما يعم الثقلين، وفيه تعسف إلا أن يراد به الناسي كقوله تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ فإن نسيان حق الله تعالى يعم الثقلين.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ المعوذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تبارك وتعالى» .
قال المصنف رحمه الله تعالى: وقد اتفق إتمام تعليق سواد هذا الكتاب المنطوي على فرائد فوائد ذوي الألباب، المشتمل على خلاصة أقوال أكابر الأئمة وصفوة آراء أعلام الأمة، في تفسير القرآن وتحقيق معانيه، والكشف عن عويصات ألفاظه ومعجزات مبانيه، مع الإِيجاز الخالي عن الإخلال، والتلخيص العاري عن(5/350)
الإضلال، الموسوم بـ "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" وأسأل الله تعالى أن يتمم نفعه للطلاب ولا يخلي سعي من يتعب فيه من الأجر والثواب، ويختم كل خاتمة امرئ يؤمه بتمحيص عن الآثام ويبلغني أعلى منازل دار السلام، في جوار العليين مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا وهو سبحانه حقيق بأن يحقق رجاء الراجين تحقيقا، والحمد للَّهِ رَبّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين وأتباعهم أجمعين.(5/351)
محتوى الجزء الخامس من تفسير البيضاوي
تفسير سورة الصافات 5
بيان معنى الشهاب وأنه رجوم للشياطين 6
بيان الذبيح وأنه إسماعيل ورد ما استدل به من قال إنه إسحاق 15
تفسير سورة ص 23
بيان ما اشتملت عليه محاكمة الخصمين بين يدي سيدنا داود 27
بيان ما فتن به سيدنا سليمان والجسد الذي ألقي على كرسيّه 29
تفسير سورة الزمر 36
بيان ما فعله خالد بن الوليد بالعزّى 43
بيان ما فسر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم المقاليد 47
بيان أن العدل نور والظّلم ظلمات 49
تفسير سورة المؤمن (غافر) 51
بيان استغفار الملائكة للمؤمنين 52
بيان مؤمن آل فرعون 56
بيان عدد الأنبياء 64
تفسير سورة السجدة (فصلت) 66
بيان موضع السجود في السورة عند الأئمة 72
تفسير سورة حم عسق (الشورى) 76
بيان الدين المشترك بين الأنبياء 78
بيان القربى الذين تجب مودّتهم 80
تفسير سورة الزخرف 86
بيان الرجلين اللذين كانت قريش تجلهما وتقول لولا انزل القرآن على أحدهما 90
تفسير سورة الدخان 99
تفسير سورة الجاثية 105
تفسير سورة الأحقاف 111
بيان مساكن عاد 115
بيان وقت سماع الجن القرآن من رسول الله 116
تفسير سورة القتال (محمد) 119
بيان ما يسوغ للإمام فعله مع الأسير 120(5/353)
تفسير سورة الفتح 126
بيان أسباب المبايعة تحت الشجرة 129
بيان دلالة القرآن على صحة بيعة أبي بكر رضي الله عنه 129
تفسير سورة الحجرات 133
بيان بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق وكذبه عليهم 134
بيان الشعوب والقبائل والبطون والأفخاذ 137
تفسير سورة ق 139
تفسير سورة الذاريات 146
تفسير سورة الطور 152
تفسير سورة النجم 157
بيان الأصنام التي كانت للعرب وأسباب اتخاذها 159
تفسير سورة القمر 164
تفسير سورة الرحمن 170
تفسير سورة الواقعة 177
تفسير سورة الحديد 185
بيان أسباب تفاوت الاتفاق قبل الفتح وبعده 186
تفسير سورة المجادلة 192
تفسير سورة الحشر 198
بيان الاختلاف في قسم الفيء 199
تفسير سورة الممتحنة 204
بيان ما كان يفعله صلّى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية من رد مهر من جاءت مسلمة 206
تفسير سورة الصف 208
تفسير سورة الجمعة 211
تفسير سورة المنافقين 214
تفسير سورة التغابن 217
تفسير سورة الطلاق 220
تفسير سورة التحريم 224
تفسير سورة الملك 228
تفسير سورة ن 233
تفسير سورة الحاقة 239
تفسير سورة المعارج 244
تفسير سورة نوح 248(5/354)
تفسير سورة الجن 251
تفسير سورة المزمل 255
تفسير سورة المدثر 259
تفسير سورة القيامة 265
تفسير سورة الإنسان 269
تفسير سورة المرسلات 274
تفسير سورة النبأ 278
تفسير سورة النازعات 282
تفسير سورة عبس 286
تفسير سورة التكوير 289
تفسير سورة الانفطار 292
تفسير سورة المطففين 294
تفسير سورة الانشقاق 297
تفسير سورة البروج 300
تفسير سورة الطارق 303
تفسير سورة سبح (الأعلى) 305
تفسير سورة الغاشية 307
تفسير سورة الفجر 309
تفسير سورة البلد 313
تفسير سورة الشمس 315
تفسير سورة والليل 317
تفسير سورة والضحى 319
تفسير سورة ألم نشرح 321
تفسير سورة والتين 323
تفسير سورة العلق 325
تفسير سورة القدر 327
تفسير سورة لم يكن (البينة) 328
تفسير سورة الزلزلة 330
تفسير سورة والعاديات 331
تفسير سورة القارعة 333
تفسير سورة التكاثر 334
تفسير سورة العصر 336(5/355)
تفسير سورة الهمزة 337
تفسير سورة الفيل 339
تفسير سورة قريش 340
تفسير سورة الماعون 341
تفسير سورة الكوثر 342
تفسير سورة الكافرون 343
تفسير سورة النصر 344
تفسير سورة تبت 345
تفسير سورة الإخلاص 347
تفسير سورة الفلق 348
تفسير سورة الناس 350(5/356)