وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
عقيبه فأخذوا في الآخرين.
[سورة القصص (28) : الآيات 23 الى 24]
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها. وَجَدَ عَلَيْهِ وجد فوق شفيرها. أُمَّةً مِنَ النَّاسِ جماعة كثيرة مختلفين. يَسْقُونَ مواشيهم. وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم.
امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ تمنعان أغنامهما عن الماء لئلا تختلط بأغنامهم. قالَ مَا خَطْبُكُما ما شأنكما تذودان.
قالَتا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء حذراً عن مزاحمة الرجال، وحذف المفعول لأن الغرض هو بيان ما يدل على عفتهما ويدعوه إلى السقي لهما ثم دونه. وقرأ أبو عمرو وابن عامر يُصْدِرَ أي ينصرف. وقرئ «الرعاء» بالضم وهو اسم جمع كالرخال. وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ كبير السن لا يستطيع أن يخرج للسقي فيرسلنا اضطراراً.
فَسَقى لَهُما مواشيهما رحمة عليهما. قيل كانت الرعاة يضعون على رأس البئر حجراً لا يقله إلا سبعة رجال أو أكثر فأقله وحده مع ما كان به من الوصب والجوع وجراحة القدم، وقيل كانت بئراً أخرى عليها صخرة فرفعها واستقى منها. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ لأي شيء أنزلت إلي.
مِنْ خَيْرٍ قليل أو كثير وحمله الأكثرون على الطعام. فَقِيرٌ محتاج سائل ولذلك عدى باللام، وقيل معناه إني لما أنزلت إلى من خير الدين صرت فقيراً في الدنيا، لأنه كان في سعة عند فرعون والغرض منه إظهار التبجح والشكر على ذلك.
[سورة القصص (28) : الآيات 25 الى 26]
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أي مستحيية متخفرة. قيل كانت الصغرى منهما وقيل الكبرى واسمها صفوراء أو صفراء وهي التي تزوجها موسى عليه السلام. قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ ليكافئك.
أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا جزاء سقيك لنا، ولعل موسى عليه الصلاة والسلام إنما أجابها ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر بمعرفته لا طمعاً في الأجر، بل
روي أنه لما جاءه قدم إليه طعاماً فامتنع عنه وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا حتى قال له شعيب عليه الصلاة والسلام: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. هذا وأن كل من فعل معروفاً فأهدي بشيء لم يحرم أخذه.
فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يريد فرعون وقومه.
قالَتْ إِحْداهُما يعني الّتي استدعته. يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ لرعي الغنم. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ تعيل شائع يجري مجرى الدليل على أنه حقيق بالاستئجار وللمبالغة فيه، جعل خَيْرَ اسماً وذكر الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه امرؤ مجرب معروف.
روي أن شعيباً قال لها وما أعلمك بقوته وأمانته فذكرت إقلال الحجر وأنه صوب رأسه حتى بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه.
[سورة القصص (28) : الآيات 27 الى 28]
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)(4/175)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي أي تأجر نفسك مني أو تكون لي أجيراً، أو تثيبني من أجرك الله. ثَمانِيَ حِجَجٍ ظرف على الأولين ومفعول به على الثالث بإضمار مضاف أي رعية ثماني حجج. فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً عملت عشر حجج. فَمِنْ عِنْدِكَ فإتمامه من عندك تفضلاً لا من عندي إلزاما عليك. وهذا استدعاء العقد لا نفسه، فلعله جرى على أجرة معينة وبمهر آخر أو برعية الأجل الأول ووعد له أن يوفي الأخير إن تيسر له قبل العقد، وكانت الأغنام للمزوجة مع أنه يمكن اختلاف الشرائع في ذلك. وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام إتمام العشر أو المناقشة في مراعاة الأوقات واستيفاء الأعمال، واشتقاق المشقة من الشق فإن ما يصعب عليك يشق عليك اعتقادك في إطاقته ورأيك في مزاولته. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالمعاهدة.
قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه. أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ أطولهما أو أقصرهما. قَضَيْتُ وفيتك إياه. فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ لا تعتدي علي بطلب الزيادة فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان، أو فلا أكون متعدياً بترك الزيادة عليه كقولك لا إثم علي، وهو أبلغ في إثبات الخيرة وتساوي الأجلين في القضاء من أن يقال إن قضيت الأقصر فلا عدوان علي. وقرئ «أَيَّمَا» كقوله:
تَنَظَّرْت نَصْراً وَالسماكين أَيُّمَا ... عَليَّ مِنَ الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُه
وأي الأجلين ما قضيت فتكون ما مزيدة لتأكيد الفعل أي: أي الأجلين جردت عزمي لقضائه، وعدوان بالكسر. وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ من المشارطة. وَكِيلٌ شاهد حفيظ.
[سورة القصص (28) : آية 29]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ بامرأته. روي أنه قضى أقصى الأجلين ومكث بعد ذلك عنده عشراً أخرى ثم عزم على الرجوع. آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَاراً أبصر من الجهة التي تلي الطور. قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ بخبر الطريق. أَوْ جَذْوَةٍ عود غليظ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن.
قال:
بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنُ لَهَا ... جَزلَ الجذى غَيْرَ خوارٍ وَلاَ دَعِرٍ
وقال آخر:
وَأَلْقَى عَلى قَبس مِنْ النَّارِ جَذْوَة ... شَدِيداً عَلَيْهِ حَرُّهَا وَالتِهَابُهَا
ولذلك بينه بقوله: مِنَ النَّارِ وقرأ عاصم بالفتح وحمزة بالضم وكلها لغات. لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون بها.
[سورة القصص (28) : الآيات 30 الى 31]
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)(4/176)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ أتاه النداء من الشاطئ الأيمن لموسى. فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ متصل بالشاطئ أو صلة ل نُودِيَ. مِنَ الشَّجَرَةِ بدل من شاطئ بدل الاشتمال لأنها كانت ثابتة على الشاطئ. أَنْ يا مُوسى أي يا موسى. إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ هذا وإن خالف ما في «طه» «والنمل» لفظاً فهو طبقه في المقصود.
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ أي فألقاها فصارت ثعبانا واهتزت فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ. كَأَنَّها جَانٌّ في الهيئة والجثة أو في السرعة. وَلَّى مُدْبِراً منهزماً من الخوف. وَلَمْ يُعَقِّبْ ولم يرجع. يَا مُوسى نودي يا موسى. أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من المخاوف، فإنه لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ.
[سورة القصص (28) : آية 32]
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أدخلها. تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ عيب. وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريراً لغرض آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو إظهار جراءة ومبدأ لظهور معجزة، ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر فإنه إذا خاف نشر جناحيه وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه. مِنَ الرَّهْبِ من أجل الرهب أي إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلداً وضبطاً لنفسك. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر بضم الراء وسكون الهاء، وقرئ بضمهما، وقرأ حفص بالفتح والسكون والكل لغات. فَذانِكَ إشارة إلى العصا واليد، وشدده ابن كثير وأبو عمرو ورويس. بُرْهانانِ حجتان وبرهان فعلان لقولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان من قولهم بره الرجل إذا ابيض، ويقال برهاء وبرهرهة للمرأة البيضاء وقيل فعلال لقولهم برهن. مِنْ رَبِّكَ مرسلاً بهما. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فكانوا أحقاء بأن يرسل إليهم.
[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 35]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بها.
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً معيناً وهو في الأصل اسم ما يعان به كالدفء، وقرأ نافع «رداً» بالتخفيف. يُصَدِّقُنِي بتخليص الحق وتقرير الحجة وتزييف الشبهة. إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ولساني لا يطاوعني عند المحاجة، وقيل المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه لكنه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب، وقرأ عاصم وحمزة يُصَدِّقُنِي بالرفع على أنه صفة والجواب محذوف.
قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ سنقويك به فإن قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور، ولذلك يعبر عنه باليد وشدتها بشدة العضد. وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً غلبة أو حجة. فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما باستيلاء أو حجاج. بِآياتِنا متعلق بمحذوف أي اذهبا بآياتنا، أو ب نَجْعَلُ أي نسلطكما بها، أو بمعنى «لا يصلون» أي تمتنعون منهم، أو قسم جوابه «لا يصلون» ، أو بيان ل الْغالِبُونَ في قوله: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ بمعنى أنه صلة لما بينه أو صلة له على أن اللام فيه للتعريف لا بمعنى الّذي.(4/177)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
[سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 37]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً سحر تختلقه لم يفعل قبل مثله، أو سحر تعمله ثم تفتريه على الله أو سحر موصوف بالإِفتراء كسائر أنواع السحر. وَما سَمِعْنا بِهذا يعنون السحر أو ادعاء النبوة. فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ كائناً في أيامهم.
وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ فيعلم أني محق وأنتم مبطلون. وقرأ ابن كثير «قال» بغير واو لأنه قال ما قاله جواباً لمقالهم، ووجه العطف أن المراد حكاية القولين ليوازن الناظر بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد. وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة المحمودة فإن المراد بالدار الدنيا وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأنها خلقت مجازاً إلى الآخرة، والمقصود منها بالذات هو الثواب والعقاب إنما قصد بالعرض.
وقرأ حمزة والكسائي يَكُونَ بالياء. إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لا يفوزون بالهدى في الدنيا وحسن العاقبة في العقبى.
[سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 40]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لاَ يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي نفى علمه بإله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه، ولذلك أمر ببناء الصرح ليصعد إليه ويتطلع على الحال بقوله: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى كأنه توهم أنه لو كان لكان جسماً في السماء يمكن الترقي إليه ثم قال: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ أو أراد أن يبني له رصداً يترصد منه أوضاع الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول وتبدل دولة، وقيل المراد بنفي العلم نفي المعلوم كقوله تعالى:
أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لاَ يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فإن معناه بما ليس فيهن، وهذا من خواص العلوم الفعلية فإنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها انتفاؤها، ولا كذلك العلوم الانفعالية، قيل أول من اتخذ الآجر فرعون ولذلك أمر باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة مع ما فيه من تعظم ولذلك نادى هامان باسمه بيا في وسط الكلام.
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ بغير استحقاق. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لاَ يُرْجَعُونَ بالنشور.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم.
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ كما مر بيانه، وفيه فخامة وتعظيم لشأن الآخذ واستحقار للمأخوذين كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم، ونظيره: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ. فَانْظُرْ يا محمد. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وحذر قومك عن مثلها.
[سورة القصص (28) : الآيات 41 الى 42]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)(4/178)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً قدوة للضلال بالحمل على الإِضلال، وقيل بالتسمية كقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أو بمنع الألطاف الصارفة عنه. يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ إلى موجباتها من الكفر والمعاصي. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم.
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً طرداً عن الرحمة، أو لعن اللاعنين يلعنهم الملائكة والمؤمنون. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ من المطرودين، أو ممن قبح وجوههم.
[سورة القصص (28) : آية 43]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة. مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى أقوام نوح وهود وصالح ولوط.
بَصائِرَ لِلنَّاسِ أنواراً لقلوبهم تتبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل. وَهُدىً إلى الشرائع التي هي سبل الله تعالى. وَرَحْمَةً لأنهم لو عملوا بها نالوا رحمة الله سبحانه وتعالى. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ليكونوا على حال يرجى منهم التذكر، وقد فسر بالإِرادة وفيه ما عرفت.
[سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 45]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ يريد الوادي، أو الطور فإنه كان في شق الغرب من مقام موسى، أو الجانب الغربي منه والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي ما كنت حاضراً. إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ إذ أوحينا إليه الأمر الذي أردنا تعريفه. وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ للوحي إليه أو على الوحي إليه، وهم السبعون المختارون الميقات، والمراد الدلالة على أن إخباره عن ذلك من قبيل الإِخبار عن المغيبات التي لا تعرف إِلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله:
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي ولكنا أوحينا إليك لأنا أنشأنا قروناً مختلفة بعد موسى فتطاولت عليهم المدد، فحرفت الأخبار وتغيرت الشرائع واندرست العلوم، فحذف المستدرك وأقام سببه مقامه. وَما كُنْتَ ثاوِياً مقيماً. فِي أَهْلِ مَدْيَنَ شعيب والمؤمنين به. تَتْلُوا عَلَيْهِمْ تقرأ عليهم تعلماً منهم. آياتِنا التي فيها قصتهم. وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ إياك ومخبرين لك بها.
[سورة القصص (28) : آية 46]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا لعل المراد به وقت ما أعطاه التوراة وبالأول حين ما استنبأه لأنهما المذكوران في القصد. وَلكِنْ علمناك. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وقرئت بالرفع على هذه رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.
لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلق بالفعل المحذوف. مَّا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة، أو بينك وبين إسماعيل، على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتعظون.(4/179)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
[سورة القصص (28) : آية 47]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا لَوْلا الأولى امتناعية والثانية تحضيضية واقعة في سياقها، لأنها إنما أجيبت بالفاء تشبيهاً لها بالأمر مفعول يقولوا المعطوف على تصيبهم بالفاء المعطية معنى السببيّة المنبهة على أن القول هو المقصود بأن يكون سبباً لانتفاء ما يجاب به، وأنه لا يصدر عنهم حتى تلجئهم العقوبة والجواب محذوف والمعنى: لولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم ربنا هلا أرسلت إلينا رسولاً يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين، ما أرسلناك أي إنما أرسلناك قطعاً لعذرهم وإلزاماً للحجة عليهم. فَنَتَّبِعَ آياتِكَ يعني الرسول المصدق بنوع من المعجزات.
وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
[سورة القصص (28) : الآيات 48 الى 49]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى من الكتاب جملة واليد والعصا وغيرها اقتراحاً وتعنتاً. أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ يعني أبناء جنسهم في الرأي والمذهب وهم كفرة زمان موسى، أو كان فرعون عربياً من أولاد عاد. قالُوا سِحْرانِ يعني موسى وهارون، أو موسى ومحمّدا عليهما السلام. تَظاهَرا تعاوناً بإظهار تلك الخوارق أو بتوافق الكتابين. وقرأ الكوفيون «سحران» بتقدير مضاف أو جعلهما سحرين مبالغة، أو إسناد تظاهرهما إلى فعلهما دلالة على سبب الإعجاز. وقرئ ظاهراً على الإِدغام. وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ أي بكل منهما أو بكل الأنبياء.
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما مما أنزل على موسى وعلى محمد صلّى الله عليه وسلّم وإضمارهما لدلالة المعنى، وهو يؤيد أن المراد بالساحرين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنا ساحران مختلقان، وهذا من الشروط التي يراد بها الإِلزام والتبكيت، ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم.
[سورة القصص (28) : الآيات 50 الى 51]
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ دعاءك إِلى الإِتيان بالكتاب الأهدى فحذف المفعول للعلم به، ولأن فعل الاستجابة يعدى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي، فإذا عدي إليه حذف الدعا غالباً كقوله:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ إذ لو اتبعوا حجة لأتوا بها. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ استفهام بمعنى النفي. بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ في موضع الحال للتأكيد أو التقييد، فإن هوى النفس قد يوافق الحق. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى.
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أتبعنا بعضه بعضاً في الإِنزال ليتصل التذكير، أو في النظم لتتقر الدعوة بالحجة والمواعظ بالمواعيد والنصائح بالعبر. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فيؤمنون ويطيعون.(4/180)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
[سورة القصص (28) : الآيات 52 الى 53]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وقيل في أربعين من أهل الانجيل اثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من الحبشة وثمانية من الشام، والضمير في مِنْ قَبْلِهِ للقرآن كالمستكن في:
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ أي بأنه كلام الله تعالى. إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ استئناف آخر للدلالة على أن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذٍ، وإنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الإِسلام قبل نزول القرآن، أو تلاوته عليهم باعتقادهم صحته في الجملة.
[سورة القصص (28) : الآيات 54 الى 55]
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن. بِما صَبَرُوا بصبرهم وثباتهم على الإِيمانين، أو على الإِيمان بالقرآن قبل النزول وبعده، أو على أذى المشركين ومن هاجرهم من أهل دينهم. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ويدفعون بالطاعة المعصية
لقوله صلّى الله عليه وسلّم «أتبع السيئة الحسنة تمحها» .
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الخير.
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ تكرماً. وَقالُوا للاغين. لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ متاركة لهم وتوديعاً، أو دعاء لهم بالسلامة عما هم فيه. لاَ نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب صحبتهم ولا نريدها.
[سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 57]
إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (57)
إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ لا تقدر على أن تدخلهم في الإِسلام. وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فيدخله في الإِسلام. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بالمستعدين لذلك. والجمهور على
أنها نزلت في أبي طالب فإنه لما احتضر جاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، قال: يا ابن أخي قد علمت إنك لصادق ولكن أكره أن يقال خدع عند الموت.
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا نخرج منها. نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أو لم نجعل مكانهم حرماً ذا أمن بحرمة البيت الذي فيه يتناحر العرب حوله وهم آمنون فيه. يُجْبى إِلَيْهِ يحمل إليه ويجمع فيه، وقرأ نافع ويعقوب في رواية بالتاء. ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ من كل أوب. رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فإذا كان هذا حالهم وهم عبدة الأصنام فكيف نعرضهم للتخوف والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموه، وقيل إنه متعلق بقوله مِنْ لَدُنَّا أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم لا يعلمون إذ لو علموا لما خافوا غيره، وانتصاب رِزْقاً على المصدر من معنى يُجْبى، أو حال من ال ثَمَراتُ لتخصصها بالإِضافة، ثم بين أن الأمر(4/181)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
بالعكس فإنهم أحقاء بأن يخافوا من بأس الله على ما هم عليه بقوله:
[سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 59]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي وكم من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا فدمر الله عليهم وخرب ديارهم. فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ خاوية. لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا من السكنى إذ لا يسكنها إلا المارة يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، أو لا يبقى من يسكنها من شؤم معاصيهم.
وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر متصرفاتهم، وانتصاب مَعِيشَتَها بنزع الخافض أو بجعلها ظرفاً بنفسها كقولك: زيد ظني مقيم، أو بإضمار زمان مضاف إليها أو مفعولاً على تضمين بطرت معنى كفرت.
وَما كانَ رَبُّكَ وما كانت عادته. مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها في أصلها التي هي أعمالها، لأن أهلها تكون أفطن وأنبل. رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا لإِلزام الحجة وقطع المعذرة. وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ بتكذيب الرسل والعتو في الكفر.
[سورة القصص (28) : الآيات 60 الى 61]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من أسباب الدنيا. فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها تمتعون وتتزينون به مدة حياتكم المنقضية. وَما عِنْدَ اللَّهِ وهو ثوابه. خَيْرٌ في نفسه من ذلك لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة. وَأَبْقى لأنه أبدى. أَفَلا تَعْقِلُونَ فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة.
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً وعداً بالجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود. فَهُوَ لاقِيهِ مدركه لا محالة لامتناع الخلف في وعده، ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية. كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب بالتحسر على الانقطاع. ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب أو العذاب، وثُمَّ للتراخي في الزمان أو الرتبة، وقرأ نافع وابن عامر في رواية والكسائي ثُمَّ هُوَ بسكون الهاء تشبيهاً للمنفصل بالمتصل، وهذه الآية كالنتيجة للتي قبلها ولذلك رتبت عليها بالفاء.
[سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 63]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63)
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ عطف على يوم القيامة أو منصوب باذكر. فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي، فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما.
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بثبوت مقتضاه وحصول مؤداه وهو قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وغيره من آيات الوعيد. رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أي هؤُلاءِ الَّذِينَ أغويناهم فحذف الراجع إلى الموصول. أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أي أَغْوَيْناهُمْ فغووا غياً مثل ما غوينا، وهو استئناف للدلالة على أنهم غووا باختيارهم وأنهم لم يفعلوا بهم إلا وسوسة وتسويلاً، ويجوز أن يكون الَّذِينَ صفة(4/182)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
وأَغْوَيْناهُمْ الخبر لأجل ما اتصل به فإفادة زيادة على الصفة وهو وإن كان فضلة لكنه صار من اللوازم.
تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ومما اختاروه من الكفر هوى منهم، وهو تقرير للجملة المتقدمة ولذلك خلت عن العاطف وكذا. مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم. وقيل مَا مصدرية متصلة ب تَبَرَّأْنا أي تبرأنا من عبادتهم إيانا.
[سورة القصص (28) : آية 64]
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ من فرط الحيرة. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ لعجزهم عن الإِجابة والنصرة.
وَرَأَوُا الْعَذابَ لازماً بهم. لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لوجه من الحيل يدفعون به العذاب، أو إلى الحق لما رأوا العذاب وقيل لَوْ للتمني أي تمنوا أنهم كانوا مهتدين.
[سورة القصص (28) : الآيات 65 الى 66]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ عطف على الأول فإنه تعالى يسأل أولاً عن إشراكهم به ثم عن تكذيبهم الأنبياء.
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فصارت الأنباء كالعمي عليهم لا تهتدي إليهم، وأصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يقبض ويرد عليه من خارج فإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره، والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل أو ما يعمها وغيرها، فإذا كانت الرسل يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك من الهول ويفوضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال من أممهم، وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء. فَهُمْ لاَ يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة والعلم بأنه مثله في العجز.
[سورة القصص (28) : الآيات 67 الى 68]
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك. وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً. وجمع بين الإِيمان والعمل الصالح. فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام، أو ترج من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح.
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ لا موجب عليه ولا مانع له. مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي التخير كالطيرة بمعنى التطير، وظاهرة نفي الاختيار عنهم رأساً والأمر كذلك عند التحقيق، فإن اختيار العباد مخلوق باختيار الله منوط بدواع لا اختيار لهم فيها، وقيل المراد أنه ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ولذلك خلا عن العاطف، ويؤيده ما روي أنه نزل في قولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. وقيل مَا موصولة مفعول ل يَخْتارُ والراجع إليه محذوف والمعنى: ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي الخير والصلاح. سُبْحانَ اللَّهِ تنزيه له أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره اختيار. وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم أو مشاركة ما يشركونه به.
[سورة القصص (28) : الآيات 69 الى 70]
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)(4/183)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ كعداوة الرسول وحقده. وَما يُعْلِنُونَ كالطعن فيه.
وَهُوَ اللَّهُ المستحق للعبادة. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا أحد يستحقها إلا هو. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا بقولهم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ابتهاجاً بفضله والتذاذاً بحمده. وَلَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في كل شيء. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالنشور.
[سورة القصص (28) : آية 71]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً دائماً من السرد وهو المتابعة والميم مزيدة كميم دلامص.
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإِسكان الشمس تحت الأرض أو تحريكها حول الأفق الغائر. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ كان حقه هل إله فذكر ب مَنْ على زعمهم أن غيره آلهة. وعن ابن كثير «بضئاء» بهمزتين. أَفَلا تَسْمَعُونَ سماع تدبر واستبصار.
[سورة القصص (28) : الآيات 72 الى 73]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ باسكانها في وسط السماء أو تحريكها على مدار فوق الأفق. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة عن متاعب الأشغال، ولعله لم يصف الضياء بما يقابله لأن الضوء نعمة في ذاته مقصود بنفسه ولا كذلك الليل، ولأن منافع الضوء أكثر مما يقابله ولذلك قرن به أَفَلا تَسْمَعُونَ وبالليل. أَفَلا تُبْصِرُونَ لأن استفادة العقل من السمع اكثر من استفادته من البصر.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ في النهار بأنواع المكاسب. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها.
[سورة القصص (28) : الآيات 74 الى 75]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإِشراك به، أو الأول لتقرير فساد رأيهم والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند وإنما كان محض تشه وهوى.
وَنَزَعْنا وأخرجنا. مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً وهو نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه. فَقُلْنا للأمم.
هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم تدينون به. فَعَلِمُوا حينئذ. أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهية لا يشاركه فيها أحد. وَضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عنهم غيبة الضائع. مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الباطل.
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 78]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)(4/184)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى كان ابن عمه يصهر بن قاهث بن لاوي وكان ممن آمن به. فَبَغى عَلَيْهِمْ فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره، أو تكبر عليهم أو ظلمهم. قيل وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل، أو حسدهم لما
روي أنه قال لموسى عليه السلام: لك الرسالة ولهارون الحبورة وأنا في غير شيء إلى متى أصبر قال موسى هذا صنع الله.
وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ من الأموال المدخرة. مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ مفاتيح صناديقه جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به، وقيل خزائنه وقياس واحدها المفتح. لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ
خبر إن والجملة صلة ما وهو ثاني مفعولي آتى، وناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله، والعصبة والعصابة الجماعة الكثيرة واعصوصبوا اجتمعوا. وقرئ «لينوء» بالياء على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه. إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ منصوب ب «تنوء» . لاَ تَفْرَحْ لا تبطر والفرح بالدنيا مذموم مطلقاً لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح كما قيل:
أَشد الغَمَّ عِنْدِي فِي سُرُور ... تَيَقّن عَنْهُ صَاحِبهُ انتِقَالاَ
ولذلك قال تعالى: وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ، وعلل النهي ها هنا بكونه مانعاً من محبة الله تعالى فقال:
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ أي بزخارف الدنيا.
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من الغنى. الدَّارَ الْآخِرَةَ بصرفه فيما يوجبها لك فإن المقصود منه أن يكون وصلة إليها. وَلا تَنْسَ ولا تترك ترك المنسي. نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وهو أن تحصل بها آخرتك وتأخذ منها ما يكفيك. وَأَحْسِنْ إلى عباد الله. كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ فيما أنعم الله عليك. وقيل أَحْسِنْ بالشكر والطاعة كَما أَحْسَنَ إليك بالإِنعام. وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بأمر يكون علة للظلم والبغي، نهي له عما كان عليه من الظلم والبغي. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ لسوء أفعالهم.
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فضلت به على الناس واستوجبت به التفوق عليهم بالجاه والمال، وعَلى عِلْمٍ في موضع الحال وهو علم التوراة وكان أعلمهم بها، وقيل هو الكيمياء وقيل علم التجارة والدهقنة وسائر المكاسب، وقيل العلم بكنوز يوسف، وعِنْدِي صفة له أو متعلق ب أُوتِيتُهُ كقولك:
جاز هذا عندي أي في ظني واعتقادي. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً تعجب وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة وسمعه من حفاظ التواريخ، أو رد لادعائه للعلم وتعظمه به بنفي هذا العلم عنه أي أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعى ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين. وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليها أو معاتبة فإنهم يعذبون بها بغتة، كأنه لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله ممن كانوا أقوى منه واغنى أكد ذلك بأن بين أنه لم يكن مطلعاً على ما يخصهم بل الله مطلع على ذنوب المجرمين كلهم معاقبهم عليها لا محالة.
[سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 80]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)(4/185)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ كما قيل إنه خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه. قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا على ما هو عادة الناس من الرغبة. يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ تمنوا مثله لا عينه حذراً عن الحسد. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الدنيا.
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الآخرة للمتمنين. وَيْلَكُمْ دعاء بالهلاك استعمل للزجر عما لا يرتضى. ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة. خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً مما أوتي قارون بل من الدنيا وما فيها.
وَلا يُلَقَّاها الضمير فيه للكلمة التي تكلم بها العلماء أو لل ثَوابُ، فإنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو للإيمان والعمل الصالح فإنهما في معنى السيرة والطريقة. إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات وعن المعاصي.
[سورة القصص (28) : آية 81]
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81)
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ
روي أنه كان يؤذي موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه لقرابته حتى نزلت الزكاة، فصالحه عن كل ألف على واحد فحسبه فاستكثره، فعمد إلى أن يفضح موسى بين بني إسرائيل ليرفضوه، فبرطل بغية لترميه بنفسها فلما كان يوم العيد قام موسى خطيباً فقال: من سرق قطعناه، ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصناً رجمناه، فقال قارون ولو كنت قال: ولو كنت، قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فأحضرت، فناشدها موسى عليه السلام بالله أن تصدق فقالت: جعل لي قارون جعلاً على أن أرميك بنفسي، فخر موسى شاكياً منه إلى ربه فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت فقال: يا أرض خذيه فأخذته إلى ركبتيه، ثم قال خذيه فأخذته إلى وسطه، ثم قال خذيه فأخذته إلى عنقه، ثم قال خذيه فخسفت به وكان قارون يتضرع إليه في هذه الأحوال فلم يرحمه، فأوحى الله إليه ما أفظك استرحمك مراراً فلم ترحمه، وعزتي وجلالي لو دعاني مرة لأجبته، ثم قال بنو إسرائيل: إنما فعله ليرثه، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله.
فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ أعوان مشتقة من فأوت رأسه إذا ميلته. يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فيدفعون عنه عذابه. وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع.
[سورة القصص (28) : الآيات 82 الى 83]
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ منزلته. بِالْأَمْسِ منذ زمان قريب. يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بمقتضى مشيئته لا لكرامة تقتضي البسط ولا لهوان يوجب القبض، ووَيْكَأَنَّ عند البصريين مركب من «وي» للتعجب «وكأن» للتشبيه والمعنى: ما أشبه الأمر أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق. وقيل من «ويك» بمعنى ويلك و «أن» تقديره ويك اعلم أن الله. لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا فلم يعطنا ما تمنينا. لَخَسَفَ بِنا لتوليده فينا ما ولده فيه فخسف بنا لأجله. وقرأ حفص بفتح الخاء والسين. وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لنعمة الله أو المكذبون برسله وبما وعدوا لهم ثواب الآخرة.
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ إشارة تعظيم كأنه قال: تلك الّتي سمعت خبرها وبلغك وصفها، والدَّارُ صفة والخبر: نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ غلبة وقهرا. وَلا فَساداً ظلما على الناس كما أراد فرعون وقارون. وَالْعاقِبَةُ المحمودة. لِلْمُتَّقِينَ ما لا يرضاه الله.(4/186)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
[سورة القصص (28) : الآيات 84 الى 85]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85)
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ذاتا وقدرا ووصفا. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ وضع فيه الظاهر موضع الضمير تهجينا لحالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم. إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم ما كانُوا يَعْمَلُونَ مقامة مبالغة في المماثلة.
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه. لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي معاد وهو المقام المحمود الّذي وعدك أن يبعثك فيه، أو مكة الّتي اعتدت بها على أنه من العادة رده إليها يوم الفتح، كأنه لما حكم بأن الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وأكد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين.
روي أنه لما بلغ جحفة في مهاجره اشتاق إلى مولده ومولد آبائه فنزلت.
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وما يستحقه من الثواب والنصر ومن منتصب بفعل يفسره أعلم. وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وما استحقه من العذاب والإذلال يعني به نفسه والمشركين، وهو تقرير للوعد السابق وكذا قوله:
[سورة القصص (28) : الآيات 86 الى 87]
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي سيردك إلى معادك كما ألقى إليك الكتاب وما كنت ترجوه.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ولكن ألقاه رحمة منه، ويجوز أن يكون استثناء محمولا على المعنى كأنه قال: وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة. فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ بمداراتهم والتحمل عنهم والإجابة إلى طلبتهم.
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ عن قراءتها والعمل بها. بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وقرئ يَصُدُّنَّكَ من أصد. وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إلى عبادته وتوحيده. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بمساعدتهم.
[سورة القصص (28) : آية 88]
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ هذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لَهُمْ. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إلا ذاته فإن ما عداه ممكن هالك في حد ذاته معدوم. لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في الخلق. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء بالحق.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ طسم القصص كان له من الأجر بعدد من صدق موسى وكذب ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه صادقا» .(4/187)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
(29) سورة العنكبوت
مكية وآيها تسع وستون آية
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)
الم سبق القول فيه، ووقوع الاستفهام بعده دليل استقلاله بنفسه أو بما يضمر معه.
أَحَسِبَ النَّاسُ الحسبان مما يتعلق بمضامين الجمل للدلالة على جهة ثبوتها ولذلك اقتضى مفعولين متلازمين أو ما يسد مسدهما كقوله: أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ
فإن معناه أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمَنَّا، فالترك أول مفعوليه وغير مفتونين من تمامه ولقولهم آمَنَّا هو الثاني كقولك:
حسبت ضربه للتأديب، أو أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم آمَنَّا بل يمتحنهم الله بمشاق التكاليف، كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات، فإن مجرد الإِيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.
روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين
، وقيل في عمار وقد عذب في الله تعالى، وقيل في مهجع مولى عمر بن الخطاب رماه عامر بن الحضرمي بسهم يوم بدر فقتله فجزع عليه أبواه وامرأته.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 3 الى 4]
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ متصل ب أَحَسِبَ أو ب لاَ يُفْتَنُونَ، والمعنى أن ذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه. فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ فليتعلقن علمه بالامتحان تعلقاً حالياً يتميز به الذين صدقوا في الإِيمان والذين كذبوا فيه، وينوط به ثوابهم وعقابهم لذلك وقيل المعنى وليميزن أو ليجازين، وقرئ «وليعلمن» من الإِعلام أي وليعرفنهم الله الناس أو لَيَسِمَنَّهُمْ بِسِمَةٍ يَعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الكفر والمعاصي فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح. أَنْ يَسْبِقُونا أن يفوتونا فلا نقدر أن نجازيهم على مساويهم وهو ساد مسد مفعولي حَسِبَ لاشتماله على مسند ومسند إليه ويجوز أن يضمن حَسِبَ معنى قدر أو أم منقطعة والإِضراب فيها لأن هذا الحسبان أبطل من الأول ولهذا عقبه بقوله: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ أي بئس الذي يحكمونه، أو حكماً يحكمونه حكمهم هذا فحذف المخصوص بالذم.
[سورة العنكبوت (29) : آية 5]
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ في الجنة، وقيل المراد بلقاء الله الوصول إلى ثوابه، أو إلى العاقبة من الموت(4/188)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
والبعث والحساب والجزاء على تمثيل حاله بحال عبد قدم على سيده بعد زمان مديد وقد اطلع السيد على أحواله، فأما أن يلقاه ببشر لما رضي من أفعاله أو بسخط لما سخط منها. فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ فإن الوقت المضروب للقائه. لَآتٍ لجاء وإذا كان وقت اللقاء آتياً كان اللقاء كائناً لا محالة، فليبادر ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو ما يستوجب به القربة والرضا. وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوال العباد. الْعَلِيمُ بعقائدهم وأفعالهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 6 الى 7]
وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
وَمَنْ جاهَدَ نفسه بالصبر على مضض الطاعة والكف عن الشهوات. فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لأن منفعته لها. إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فلا حاجة به إلى طاعتهم، وإنما كلف عباده رحمة عليهم ومراعاة لصلاحهم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ الكفر بالإِيمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي أحسن جزاء أعمالهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 9]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً بإيتائهما فعلاً ذا حسن، أو كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه ووصى يجري مجرى أمر معنى وتصرفاً، وقيل هو بمعنى قال، أي وقلنا له أحسن بوالديك حُسْناً، وقيل حُسْناً منتصب بفعل مضمر على تقدير قول مفسر للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما حُسْناً وهو أوفق لما بعده وعليه يحسن الوقف على بِوالِدَيْهِ، وقرئ حُسْناً و «إحساناً» . وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ بإلهيته عبر عن نفيها بنفي العلم بها إشعاراً بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فضلاً عما علم بطلانه. فَلا تُطِعْهُما في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل. إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر بوالديه ومن عق.
فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالجزاء عليه، والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة، فإنها لما سمعت بإسلامه حلفت أنها لا تنتقل من الضح ولا تطعم ولا تشرب حتى يرتد ولبثت ثلاثة أيام كذلك وكذا التي في «لقمان» و «الأحقاف» .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ في جملتهم والكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين ومتمنى أنبياء الله المرسلين، أو في مدخلهم وهو الجنة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ بأن عذبهم الكفرة على الإِيمان. جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ ما يصيبه من أذيتهم في الصرف عن الإِيمان. كَعَذابِ اللَّهِ في الصرف عن الكفر. وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ فتح وغنيمة. لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ في الدين فأشركونا فيه، والمراد المنافقون أو قوم ضعف إيمانهم(4/189)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
فارتدوا من أذى المشركين ويؤيد الأول. أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإِخلاص والنفاق.
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بقلوبهم. وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ فيجازي الفريقين.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا الَّذِي نسلكه في ديننا. وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ إن كان ذلك خطيئة أو إن كان بعث ومؤاخذة، وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة في تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم إن كانت تشجيعاً لهم عليه، وبهذا الاعتبار رد عليهم وكذبهم بقوله: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ من الأولى للتبيين والثانية مزيدة والتقدير: وما هم بحاملين شيئاً من خطاياهم.
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أثقال ما اقترفته أنفسهم. وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وأثقالاً أخر معها لما تسببوا له بالإِضلال والحمل على المعاصي من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شيء. وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال تقريع وتبكيت. عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأباطيل التي أضلوا بها.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً بعد المبعث، إِذ
روي أنه بعث على رأس الأربعين ودعا قوماً تسعمائة وخمسين وعاش بعد الطوفان ستين
، ولعل اختيار هذه العبارة للدلالة على كمال العدد فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة إلى السامع، فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتثبيته على ما يكابده من الكفرة واختلاف المميزين لما في التكرير من البشاعة. فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ طوفان الماء وهو لما طاف بكثرة من سيل أو ظلام أو نحوهما.
وَهُمْ ظالِمُونَ بالكفر.
فَأَنْجَيْناهُ أي نوحا عليه السلام. وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ومن أركب معه من أولاده وأتباعه وكانوا ثمانين. وقيل ثمانية وسبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث. وَجَعَلْناها أي السفينة أو الحادثة.
آيَةً لِلْعالَمِينَ يتعظون ويستدلون بها.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 17]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
وَإِبْراهِيمَ عطف على نُوحاً أو نصب بإضمار اذكر، وقرئ بالرفع على تقدير ومن المرسلين إبراهيم. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ ظرف لأرسلنا أي أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره بحيث عرف الحق وأمر الناس به، أو بدل منه بدل اشتمال إن قدر باذكر. وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم عليه. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير والشر وتميزون ما هو خير مما هو شر، أو كنتم تنظرون في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل.(4/190)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً وتكذبون كذباً في تسميتها آلهة وادعاء شفاعتها عند الله تعالى، أو تعملونها وتنحتونها للإِفك وهو استدلال على شرارة ما هم عليه من حيث إنه زور وباطل، وقرئ «تخلقون» من خلق للتكثير و «تخلقون» من تخلق للتكلف، و «إِفْكاً» على أنه مصدر كالكذب أو نعت بمعنى خلقاً ذا إفك. إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً دليل ثان على شرارة ذلك من حيث إنه لا يجدي بطائل، ورِزْقاً يحتمل المصدر بمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم وأن يراد المرزوق وتنكيره للتعميم. فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ كله فإنه المالك له. وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين لما حفكم من النعم بشكره، أو مستعدين للقائه بهما، فإنه: إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وقرئ بفتح التاء.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 18 الى 19]
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا وإن تكذبوني. فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ من قبلي من الرسل فلم يضرهم تكذيبهم وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم. وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الذي يزال معه الشك وما عليه أن يصدق ولا يكذب، فالآية وما بعدها من جملة قصة إِبْراهِيمَ إلى قوله فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ ويحتمل أن تكون اعتراضاً بذكر شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم، توسط بين طرفي قصته من حيث إن مساقها لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتنفيس عنه، بأن أباه خليل الله صلوات الله عليهما كان ممنواً بنحو ما مني به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه.
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ من مادة ومن غيرها، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء على تقدير القول وقرئ «يبدأ» . ثُمَّ يُعِيدُهُ إخبار بالإِعادة بعد الموت معطوف على أَوَلَمْ يَرَوْا لا على يُبْدِئُ، فإن الرؤية غير واقعة عليه ويجوز أن تؤول الإعادة بأن ينشئ في كل سنة مثل ما كان في السنة السابقة من النبات والثمار ونحوهما وتعطف على يُبْدِئُ. إِنَّ ذلِكَ الإِشارة إلى الإِعادة أو إلى ما ذكر من الأمرين. عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 20 الى 21]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ حكاية كلام الله لإِبراهيم أو محمد عليهما الصلاة والسلام. فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ على اختلاف الأجناس والأحوال. ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ بعد النشأة الأولى الّتي هي الإبداء، فإنه والإِعادة نشأتان من حيث أن كلاً اختراع وإخراج من العدم، والإِفصاح باسم الله مع إيقاعه مبتدأ بعد إضماره في بدأ والقياس الاقتصار عليه للدلالة على أن المقصود بيان الإِعادة، وأن من عرف بالقدرة على الإِبداء ينبغي أن يحكم له بالقدرة على الإِعادة لأنها أهون والكلام في العطف ما مر، وقرئ «النشاءة» كالرآفة. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن قدرته لذاته ونسبة ذاته إلى كل الممكنات على سواء فيقدر على النشأة الأخرى كما قدر على النشأة الأولى.
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه. وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته. وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ تردون.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 22 الى 23]
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)(4/191)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ربكم عن إدراككم. فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ إن فررتم من قضائه بالتواري في الأرض أو الهبوط في مهاويها، والتحصن فِي السَّماءِ أو القلاع الذاهبة فيها وقيل ولا من في السماء كقول حسان:
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ الله مِنْكُم ... وَيَمْدَحهُ وَيَنْصُرهُ سَوَاء
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يحرسكم عن بلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء ويدفعه عنكم.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائل وحدانيته أو بكتبه. وَلِقائِهِ بالبعث. أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي ييأسون منها يوم القيامة، فعبر عنه بالماضي للتحقق والمبالغة، أو أيسوا في الدنيا لإنكار البعث والجزاء.
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بكفرهم.
[سورة العنكبوت (29) : آية 24]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ قوم إبراهيم له. وقرئ بالرفع على أنه الاسم والخبر. إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ وكان ذلك قول بعضهم لكن لما قيل فيهم ورضي به الباقون أسند إلى كلهم. فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي فقذفوه في النار فأنجاه الله منها بأن جعلها عليه برداً وسلاماً. إِنَّ فِي ذلِكَ في إنجائه منها. لَآياتٍ هي حفظه من أذى النار وإخمادها مع عظمها في زمان يسر وإنشاء روض مكانها. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون بالتفحص عنها والتأمل فيها.
[سورة العنكبوت (29) : آية 25]
وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها، وثاني مفعولي اتَّخَذْتُمْ محذوف ويجوز أن تكون مودة المفعول الثاني بتقدير مضاف أي اتخذتم أوثانا سبب المودة بينكم أو بتأويلها بالمودودة، وقرأها نافع وابن عامر وأبو بكر منونة ناصبة بينكم والوجه ما سبق، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس مرفوعة مضافة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة بينكم، والجملة صفة أَوْثاناً أو خبر إن على أن مَا مصدرية أو موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول، وقرئت مرفوعة منونة ومضافة بفتح بَيْنِكُمْ كما قرئ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وقرئ «إنما مودة بينكم» . ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي يقوم التناكر والتلاعن بينكم، أو بينكم وبين الأوثان على تغليب المخاطبين كقوله تعالى: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا.
وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم منها.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 27]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ هو ابن أخيه وأول من آمن به، وقيل إنه آمن به حين رأى النار لم تحرقه. وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ من قومي. إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي يمنعني من أعدائي. الْحَكِيمُ(4/192)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
الذي لا يأمرني إلا بما فيه صلاحي.
روي أنه هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوط وامرأته سارة ابنة عمه إلى حران، ثم منها إلى الشام فنزل فلسطين ونزل لوط سدوم.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ولداً ونافلة حين أيس من الولادة من عجوز عاقر ولذلك لم يذكر إسماعيل. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ فكثر منهم الأنبياء. وَالْكِتابَ يريد به الجنس ليتناول الكتب الأربعة.
وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ على هجرته إلينا. فِي الدُّنْيا بإعطاء الولد في غير أوانه، والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملل إليه والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لفي عداد الكاملين في الصلاح.
[سورة العنكبوت (29) : آية 28]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28)
وَلُوطاً عطف على إبراهيم أو على ما عطف عليه. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ الفعلة البالغة في القبح، وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص بهمزة مكسورة على الخبر والباقون على الاستفهام وأجمعوا على الاستفهام في الثاني. مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ استئناف مقرر لفاحشتها من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع وتحاشت عنه النفوس حتى أقدموا عليها لخبث طينتهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 29 الى 30]
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وتتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال أو بالفاحشة حتى انقطعت الطرق، أو تقطعون سبيل النسل بالإِعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث. وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ في مجالسكم الغاصة بأهلها ولا يقال للنادى إلا لما فيه أهله. الْمُنْكَرَ كالجماع والضراط وحل الإِزار وغيرها من القبائح عدم مبالاة بها. وقيل الخذف ورمي البنادق. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في استقباح ذلك أو في دعوى النبوة المفهومة من التوبيخ.
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بإنزال العذاب. عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بابتداع الفاحشة وسنها فيمن بعدهم، وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وإشعاراً بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 32]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32)
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى بالبشارة بالولد والنافلة. قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ قرية سدوم والإِضافة لفظية لأن المعنى على الاستقبال. إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ تعليل لإِهلاكهم لهم بإصرارهم وتماديهم في ظلمهم الذي هو الكفر وأنواع المعاصي.
قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً اعتراض عليهم بأن فيها من لم يظلم، أو معارضة للموجب بالمانع وهو كون النبي بين أظهرهم. قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ تسليم لقوله مع ادعاء مزيد العلم به وأنهم ما كانوا غافلين عنه، وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله أو تأقيت الإِهلاك بإخراجهم منها، وفيه تأخير(4/193)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
للبيان عن الخطاب. إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الباقين في العذاب أو القرية.
[سورة العنكبوت (29) : آية 33]
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لاَ تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33)
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء، وأَنْ صلة لتأكيد الفعلين واتصالهما. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم ضاقت يده وبإزائه رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقاً له، وذلك لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع. وَقالُوا لما رأوا فيه أثر الضجرة. لاَ تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ على تمكنهم منا. إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب لَنُنَجِّيَنَّهُ ومُنَجُّوكَ بالتخفيف ووافقهم أبو بكر وابن كثير في الثاني، وموضع الكاف الجر على المختار ونصب أَهْلَكَ بإضمار فعل أو بالعطف على محلها باعتبار الأصل.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 34 الى 35]
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ عذاباً منها سمي بذلك لأنه يقلق المعذب من قولهم ارتجز إذا ارتجس أي اضطرب، وقرأ ابن عامر مُنْزِلُونَ بالتشديد. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم.
وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً هي حكايتها الشائعة أو آثار الديار الخربة، وقيل الحجارة الممطرة فإنها كانت باقية بعد وقيل بقية أنهارها المسودة. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار، وهو متعلق ب تَرَكْنا أو آيَةً.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 37]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37)
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وافعلوا ما ترجون به ثوابه فأقيم المسبب مقام السبب، وقيل إنه من الرجاء بمعنى الخوف. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة وقيلة صيحة جبريل لأن القلوب ترجف لها. فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ في بلدهم أو دورهم ولم يجمع لأمن اللبس. جاثِمِينَ باركين على الركب ميتين.
[سورة العنكبوت (29) : آية 38]
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
وَعاداً وَثَمُودَ منصوبان بإضمار اذكر أو فعل دل عليه ما قبله مثل أهلكنا، وقرأ حمزة وحفص ويعقوب وَثَمُودَ غير منصرف على تأويل القبيلة. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي تبين لكم بعض مساكنهم، أو إهلاكهم من جهة مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والمعاصي. فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ السوي الذي بينه الرسل لهم. وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ متمكنين من النظر والاستبصار ولكنهم لم يفعلوا، أو متبينين أن العذاب لا حق بهم بإخبار الرسل لهم ولكنهم لجوا حتى هلكوا.(4/194)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 39 الى 40]
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ معطوف على عاداً وتقديم قارُونَ لشرف نسبه. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فائتين بل أدركهم أمر الله من سبق طالبه إذا فاته.
فَكُلًّا من المذكورين. أَخَذْنا بِذَنْبِهِ عاقبناه بذنبه. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ريحاً عاصفاً فيها حصباء، أو ملكاً رماهم بها كقوم لوط. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ كمدين وثمود. وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون. وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كقوم نوح وفرعون وقومه. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من عادته عز وجل. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالتعريض للعذاب.
[سورة العنكبوت (29) : آية 41]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ فيما اتخذوه معتمداً ومتكلاً. كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً فيما نسجته في الوهن والخور بل ذاك أوهن فإن لهذا حقيقة وانتفاعاً ما، أو مثلهم بالإضافة إلى الموحد كمثلها بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً من حجر وجص، والعنكبوت يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، والتاء فيه كتاء طاغوت ويجمع على عناكيب وعناكب وعكاب وعكبة وأعكب. وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لا بيت أوهن وأقل وقاية للحر والبرد منه. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يرجعون إلى علم لعلموا أن هذا مثلهم وأن دينهم أوهن من ذلك، ويجوز أن يكون المراد ببيت العنكبوت دينهم سماه به تحقيقاً للتمثيل فيكون المعنى: وإن أوهن ما يعتمد به في الدين دينهم.
[سورة العنكبوت (29) : آية 42]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ على إضمار القول أي قل للكفرة إن الله يعلم، وقرأ البصريان بالياء حملاً على ما قبله وما استفهامية منصوبة ب تَدْعُونَ ويَعْلَمُ معلقة عنها ومِنْ للتبيين أو نافية ومِنْ مزيدة وشَيْءٍ مفعول يَدْعُونَ أو مصدرية وشَيْءٍ مصدر أو موصولة مفعول ليعلم ومفعول يَدْعُونَ عائدها المحذوف، والكلام على الأولين تجهيل لهم وتوكيد للمثل وعلى الأخيرين وعيد لهم. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تعليل على المعنيين فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعد شيئاً بمن هذا شأنه، وأن الجماد بالإِضافة إلى القادر القاهر على كل شيء البالغ في العلم وإتقان الفعل الغاية كالمعدوم، وأن من هذا وصفه قادر على مجازاتهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 43 الى 44]
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ يعني هذا المثل ونظائره. نَضْرِبُها لِلنَّاسِ تقريباً لما بعد من أفهامهم. وَما يَعْقِلُها ولا يعقل حسنها وفائدتها. إِلَّا الْعالِمُونَ الذين يتدبرون الأشياء على ما ينبغي.
وعنه صلّى الله عليه وسلّم أنه تلا هذه الآية(4/195)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
فقال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» .
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ محقاً غير قاصد به باطلاً، فإن المقصود بالذات من خلقها إفادة الخير والدلالة على ذاته وصفاته كما أشار إليه بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم المنتفعون به.
[سورة العنكبوت (29) : آية 45]
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ تقرباً إلى الله تعالى بقراءته وتحفظاً لألفاظه واستكشافاً لمعانيه، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ بأن تكون سبباً للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها من حيث إنها تذكر الله وتورث النفس خشية منه.
روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصلوات ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ارتكبه، فوصف له عليه السلام فقال: «إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب.
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وللصلاة أكبر من سائر الطاعات، وإنما عبر عنها به للتعليل بأن اشتمالها على ذكره هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات، أو ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ منه ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 47]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47)
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلا بالخصلة التي هي أحسن كمعارضة الخشونة باللين والغضب بالكظم والمشاغبة بالنصح، وقيل هو منسوخ بآية السيف إذ لا مجادلة أشد منه وجوابه أنه آخر الدواء، وقيل المراد به ذو العهد منهم. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالإِفراط في الاعتداء والعناد أو بإثبات الولد وقولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أو بنبذ العهد ومنع الجزية. وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ هو من المجادلة بالتي هي أحسن.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وبكتبه ورسله فإن قالوا باطلاً لم تصدقوهم وإن قالوا حقاً لم تكذبوهم» .
وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مطيعون له خاصة وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً من دون الله.
وَكَذلِكَ ومثل ذلك الإِنزال. أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ وحياً مصدقاً لسائر الكتب الإلهية وهو تحقيق لقوله: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ هم عبد الله بن سلام وأضرابه، أو من تقدم عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب. وَمِنْ هؤُلاءِ ومن العرب أو أهل مكة أو ممن في عهد الرسول من أهل الكتابين. مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بالقرآن. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع ظهورها وقيام الحجة عليها. إِلَّا الْكافِرُونَ إلا المتوغلون في الكفر فإن جزمهم به يمنعهم عن التأمل فيما يفيد لهم صدقها لكونها معجزة بالإضافة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما أشار إليه بقوله:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 48 الى 49]
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم(4/196)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
الشريفة على أمي لم يعرف بالقراءة والتعلم خارق للعادة، وذكر اليمين زيادة تصوير للمنفي ونفي للتجوز في الإِسناد. إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأولين الأقدمين، وإنما سماهم مبطلين لكفرهم أو لارتيابهم بانتفاء وجه واحد من وجوه الإعجاز المتكاثرة، وقيل لارتاب أهل الكتاب لوجدانهم نعتك على خلاف ما في كتبهم فيكون إبطالهم باعتبار الواقع دون المقدر.
بَلْ هُوَ بل القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يحفظونه لا يقدر أحد على تحريفه.
وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ المتوغلون في الظلم بالمكابرة بعد وضوح دلائل إعجازها حتى لم يعتدوا بها.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 51]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رَّبّهِ مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى، وقرأ نافع وابن عامر والبصريان وحفص آياتٌ. قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ينزلها كما يشاء لست أملكها فآتيكم بما تقترحونه.
إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ليس من شأني إلا الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات.
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ آية مغنية عما اقترحوه. أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ تدوم تلاوته عليهم متحدين به فلا يزال معهم آية ثابتة لا تضمحل بخلاف سائر الآيات، أو يتلى عليهم يعني اليهود بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك. إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة مبينة. لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة. وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وتذكرة لمن همه الإِيمان دون التعنت.
وقيل إن أناساً من المسلمين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتف كتب فيها بعض ما يقول اليهود، «فقال كفى بها ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم» فنزلت.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 52 الى 53]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (53)
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً بصدقي وقد صدقني بالمعجزات، أو بتبليغي مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إليكم ونصحي ومقابلتكم إياي بالتكذيب والتعنت. يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فلا يخفى عليه حالي وحالكم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وهو ما يعبد من دون الله. وَكَفَرُوا بِاللَّهِ منكم. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإِيمان.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ بقولهم: أمطر عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ. وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لكل عذاب أو قوم. لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلاً. وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فجأة في الدنيا كوقعة بدر أو الآخرة عند نزول الموت بهم. وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بإتيانه.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 54 الى 55]
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب، أو هي كالمحيطة(4/197)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
بهم الآن لإِحاطة الكفر والمعاصي التي توجبها بهم، واللام للعهد على وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على موجب الإِحاطة، أو للجنس فيكون استدلالاً بحكم الجنس على حكمهم.
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ ظرف لَمُحِيطَةٌ أو مقدر مثل كان كيت وكيت. مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ من جميع جوانبهم. وَيَقُولُ الله أو بعض ملائكته بأمره لقراءة ابن كثير وابن عامر والبصريين بالنون. ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاءه.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 57]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57)
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أي إذا لم يتسهل لكم العبادة في بلدة ولم يتيسر لكم إظهار دينكم فهاجروا إلى حيث يتمشى لكم ذلك،
وعنه عليه الصلاة والسلام: «من فر بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شبراً استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام» .
والفاء جواب شرط محذوف إذ المعنى إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها.
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ تناله لا محالة. ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ للجزاء ومن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له وقرأ أبو بكر بالياء.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 58 الى 59]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم. مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً علالي، وقرأ حمزة والكسائي «لنثوينهم» أي لنقيمنهم من الثواء فيكون انتصاب غرفاً لإجرائه مجرى لننزلنهم، أو بنزع الخافض أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ وقرئ «فنعم» والمخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله.
الَّذِينَ صَبَرُوا على أذية المشركين والهجرة للدين إلى غير ذلك من المحن والمشاق. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ولا يتوكلون إلا على الله.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 60 الى 61]
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا لا تطيق حمله لضعفها أو لا تدخره، وإنما تصبح ولا معيشة عندها.
اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله، لأن رزق الكل بأسباب هو المسبب لها وحده فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة، فإنهم لما أمروا بالهجرة قال بعضهم كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة فنزلت. وَهُوَ السَّمِيعُ لقولكم هذا. الْعَلِيمُ بضميركم.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ المسؤول عنهم أهل مكة. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود. فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك.(4/198)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 62 الى 63]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (63)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ يحتمل أن يكون الموسع له والمضيق عليه واحداً على أن البسط والقبض على التعاقب وألا يكون على وضع الضمير موضع من يشاء وإبهامه لأن من يشاء مبهم.
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم مصالحهم ومفاسدهم.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ معترفين بأنه الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء من ذلك.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما عصمك من مثل هذه الضلالة، أو على تصديقك وإظهار حجتك. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ فيتناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه ثم إنهم يشركون به الصنم، وقيل لا يعقلون ما تريد بتحميدك عند مقالهم.
[سورة العنكبوت (29) : آية 64]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إشارة تحقير وكيف لا وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة. إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ إلا كما يلهى ويلعب به الصبيان يجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون متعبين. وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لهي دار الحياة الحقيقية لامتناع طريان الموت عليها، أو هي في ذاتها حياة للمبالغة، والْحَيَوانُ مصدر حين سمي به ذو الحياة وأصله حييان فقلبت الياء الثانية واواً وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها ها هنا. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لم يؤثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة والحياة فيها عارضة سريعة الزوال.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 65 الى 66]
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ متصل بما دل عليه شرح حالهم أي هم على ما وصفوا به من الشرك فإذا ركبوا البحر. دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كائنين في صورة من أخلص دينه من المؤمنين حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ فاجؤوا المعاودة إلى الشرك.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه لام كي أي يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة. وَلِيَتَمَتَّعُوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها، أو لام الأمر على التهديد ويؤيده قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وقالون عن نافع وَلِيَتَمَتَّعُوا بالسكون. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة ذلك حين يعاقبون.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 67 الى 68]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68)
أَوَلَمْ يَرَوْا يعني أهل مكة. أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً أي جعلنا بلدهم مصوناً عن النهب والتعدي آمناً(4/199)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
أهله عن القتل والسبي. وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ يختلسون قتلاً وسبياً إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب. أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أبعد هذه النعمة المكشوفة وغيرها مما لا يقدر عليه إلا الله يؤمنون بالصنم أو الشيطان. وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيره وتقديم الصلتين للاهتمام أو الاختصاص على طريق المبالغة.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن زعم أن له شريكاً. أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ يعني الرسول أو الكتاب، وفي لَمَّا تسفيه لهم بأن لم يتوافقوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ تقرير لثوائهم كقوله:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا أي ألا يستوجبون الثواء فيها وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب، أو لاجترائهم أي ألم يعلموا أن فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ حتى اجترءوا مثل هذه الجراءة.
[سورة العنكبوت (29) : آية 69]
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا في حقنا وإطلاق المجاهدة ليعم جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعه.
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا، أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقاً لسلوكها كقوله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً
وفي الحديث «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم» .
وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنصر والإِعانة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين» .(4/200)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
(30) سورة الروم
مكية إلا قوله (فسبحان الله) الآية وآيها ستون أو تسع وخمسون آية
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
الم.
غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أرض العرب منهم لأنها الأرض المعهودة عندهم، أو في أدنى أرضهم من العرب واللام بدل من الإِضافة. وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ من إضافة المصدر إلى المفعول، وقرئ «غَلَبِهِمْ» وهو لغة كالجلب والجلب. سَيَغْلِبُونَ.
فِي بِضْعِ سِنِينَ
روي أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى، وقيل بالجزيرة وهي أدنى أرض الروم من الفرس فغلبوا عليهم وبلغ الخبر مكة ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن عليكم فنزلت، فقال لهم أبو بكر: لا يقرن الله أعينكم فو الله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أبي بن خلف: كذبت اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه، فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل، فجعلاه مائة قلوص إلى تسع سنين ومات أبي من جرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد قفوله من أحد وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي، وجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال تصدق به.
واستدلت به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب، وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار، والآية من دلائل النبوة لأنها إخبار عن الغيب. وقرئ «غَلَبَت» بالفتح و «سَيُغْلِبُونَ» بالضم ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام والمسلمون سيغلبونهم، وفي السنة التاسعة من نزوله غزاهم المسلمون وفتحوا بعض بلادهم وعلى هذا تكون إضافة الغلب إلى الفاعل. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين، ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين أي له الأمر حين غلبوا وحين يغلبون ليس شيء منهما إلا بقضائه، وقرئ «مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ» من غير تقدير مضاف إليه كأنه قيل قبلاً وبعداً أي أولاً وآخراً. وَيَوْمَئِذٍ ويوم تغلب الروم. يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ.
بِنَصْرِ اللَّهِ من له كتاب على من لا كتاب له لما فيه من انقلاب التفاؤل وظهور صدقهم فيما أخبرا به المشركين وغلبتهم في رهانهم وازدياد يقينهم وثباتهم في دينهم، وقيل بنصر الله المؤمنين بإظهار صدقهم أو بأن ولي بعض أعدائهم بعضاً حتى تفانوا. يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى. وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ينتقم من عباده بالنصر عليهم تارة ويتفضل عليهم بنصرهم أخرى.(4/201)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
[سورة الروم (30) : الآيات 6 الى 7]
وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه لأن ما قبله في معنى الوعد. لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الكذب عليه تعالى. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وعده ولا صحة وعده لجهلهم وعدم تفكرهم.
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ما يشاهدونه منها والتمتع بزخارفها. وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ التي هي غايتها والمقصود منها. هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم، وهُمْ الثانية تكرير للأولى أو مبتدأ وغافِلُونَ خبره والجملة خبر الأولى، وهو على الوجهين مناد على تمكن غفلتهم عن الآخرة المحققة لمقتضى الجملة المتقدمة المبدلة من قوله: لاَّ يَعْلَمُونَ تقريراً لجهالتهم وتشبيهاً لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها، فإن من العلم بظاهرها معرفة حقائقها وصفاتها وخصائصها وأفعالها وأسبابها وكيفية صدورها منها وكيفية التصرف فيها ولذلك نكر ظاهراً، وأما باطنها فإنها مجاز إلى الآخرة ووصلة إلى نيلها وأنموذج لأحوالها وإشعاراً بأنه لا فرق بين عدم العلم والعلم الذي يختص بظاهر الدنيا.
[سورة الروم (30) : آية 8]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أو لم يحدثوا التفكر فيها، أو أَوَ لَمْ يَتَفَكْرُوا في أمر أنفسهم فإنها أقرب إليهم من غيرها ومرآة يجتلى فيها للمستبصر ما يجتلى له في الممكنات بأسرها ليتحقق لهم قدرة مبدعها على إعادتها مثل قدرته على إبدائها. ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بقول أو علم محذوف يدل عليه الكلام. وَأَجَلٍ مُسَمًّى تنتهي عنده ولا تبقى بعده. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ بلقاء جزائه عند انقضاء الأجل المسمى أو قيام الساعة. لَكافِرُونَ جاحدون يحسبون أن الدنيا أبدية وأن الآخرة لا تكون.
[سورة الروم (30) : آية 9]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تقرير لسيرهم في أقطار الأرض ونظرهم في آثار المدمرين قبلهم. كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً كعاد وثمود. وَأَثارُوا الْأَرْضَ وقلبوا وجهها لاستنباط المياه واستخراج المعادن وزرع البذور وغيرها. وَعَمَرُوها وعمروا الأرض. أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها من عمارة أهل مكة إياها فإنهم أهل واد غير ذي زرع لا تبسط لهم في غيرها، وفيه تهكم بهم من حيث إنهم مغترون بالدنيا مفتخرون بها وهم أضعف حالاً فيها، إذ مدار أمرها على التبسط في البلاد والتسلط على العباد والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة وهم ضعفاء ملجؤون إلى دار لا نفع لها. وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو الآيات الواضحات. فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ليفعل بهم ما تفعل الظلمة فيدمرهم من غير جرم ولا تذكير. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عملوا ما أدى إلى تدميرهم.
[سورة الروم (30) : آية 10]
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أي ثم كان عاقبتهم العاقبة السُّواى أو الخصلة السُّواى،(4/202)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
فوضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم وأنهم جاءوا بمثل أفعالهم، والسُّواى تأنيث الأسوأ كالحسنى أو مصدر كالبشرى نعت به. أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ علة أو بدل أو عطف بيان ل السُّواى، أو خبر كان والسُّواى مصدر أساؤوا أو مفعوله بمعنى، ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الذين اقترفوا الخطيئة أن طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ حتى كذبوا بآيات الله واستهزءوا بها، ويجوز أن تكون السُّواى صلة الفعل وأَنْ كَذَّبُوا تابعها والخبر محذوف للإبهام والتهويل، وأن تكون أَنْ مفسرة لأن الإِساءة إذا كانت مفسرة بالتكذيب والاستهزاء كانت متضمنة معنى القول، وقرأ ابن عامر والكوفيون عاقِبَةَ بالنصب على أن الاسم السُّواى وأَنْ كَذَّبُوا على الوجوه المذكورة.
[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 12]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئهم. ثُمَّ يُعِيدُهُ يبعثهم. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء والعدول إلى الخطاب للمبالغة في المقصود، وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وروح بالياء على الأصل.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ يسكتون متحرين آيسين يقال ناظرته فأبلس إذا سكت وآيس من أن يحتج ومنه الناقة المبلاس التي لا ترغو، وقرئ بفتح اللام من أبلسه إذا أسكته.
[سورة الروم (30) : الآيات 13 الى 14]
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ ممن أشركوهم بالله. شُفَعاءُ يجيرونهم من عذاب الله، ومجيئه بلفظ الماضي لتحققه. وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يكفرون بآلهتهم حين يئسوا منهم، وقيل كانوا في الدنيا كافرين بسببهم، وكتب في المصحف شفعواء وعلمواء بني إسرائيل بالواو وكذا السُّواى بالألف إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي المؤمنون والكافرون لقوله تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 15 الى 16]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ أرض ذات أزهار وأنهار. يُحْبَرُونَ يسرون سرورا تهللت له وجوههم.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ مدخلون لا يغيبون عنه.
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 18]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ إخبار في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى والثناء عليه في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته وتتجدد فيها نعمته، أو دلالة على أن ما يحدث فيها من الشواهد الناطقة بتنزهه واستحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهل السموات والأرض، وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن آثار القدرة والعظمة فيهما أظهر، وتخصيص الحمد بالعشي الذي هو آخر النهار من عشى العين إذا نقص نورها والظهيرة التي هي وسطه لأن تجدد النعم فيهما أكثر،(4/203)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
ويجوز أن يكون عَشِيًّا معطوفا على حِينَ تُمْسُونَ وقوله وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اعتراضاً.
وعن ابن عباس أن الآية جامعة للصلوات الخمس تُمْسُونَ صلاتا المغرب والعشاء، وتُصْبِحُونَ صلاة الفجر، وعَشِيًّا صلاة العصر، وتُظْهِرُونَ صلاة الظهر. ولذلك زعم الحسن أنها مدنية لأنه كان يقول كان الواجب بمكة ركعتين في أي وقت اتفقتا وإنما فرضه الخمس بالمدينة، والأكثر على أنها فرضت بمكة.
وعنه عليه الصلاة والسلام «من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل فسبحان الله حين تمسون الآية» .
وعنه عليه الصلاة والسلام «من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في ليلته، ومن قاله حين يمسي أدرك ما فاته في يومه» .
وقرئ «حيناً تمسون» و «حيناً تصبحون» أي تمسون فيه وتصبحون فيه.
[سورة الروم (30) : آية 19]
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالإِنسان من النطفة والطائر من البيضة. وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كالنطفة والبيضة، أو يعقب الحياة الموت وبالعكس. وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات. بَعْدَ مَوْتِها يبسها. وَكَذلِكَ ومثل ذلك الإخراج. تُخْرَجُونَ من قبوركم فإنه أيضا تعقيب للحياة الموت، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء.
[سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 21]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي في أصل الإِنشاء لأنه خلق أصلهم منه. ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لأن حواء خلقت من ضلع آدم وسائر النساء خلقن من نطف الرجال، أو لأنهن من جنسهم لا من جنس آخر. لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لتميلوا إليها وتألفوا بها فإن الجنسية علة للضم والاختلاف سبب للتنافر. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ أي بين الرجال والنساء، أو بين أفراد الجنس. مَوَدَّةً وَرَحْمَةً بواسطة الزواج حال الشبق وغيرها بخلاف سائر الحيوانات نظماً لأمر المعاش، أو بأن تعيش الإِنسان متوقف على التعارف والتعاون المحوج إلى التواد والتراحم، وقيل المودة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد كقوله تعالى: وَرَحْمَةً مِنَّا. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعلمون ما في ذلك من الحكم.
[سورة الروم (30) : آية 22]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ لغاتكم بأن علم كل صنف لغته أو ألهمه وضعها وأقدره عليها، أو أجناس نطقكم وأشكاله فإنك لا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية. وَأَلْوانِكُمْ بياض الجلد وسواده، أو تخطيطات الأعضاء وهيئاتها وألوانها، وحلاها بحيث وقع التمايز والتعارف حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ لا تكاد تخفى على عاقل من ملك أو إنس أو جن، وقرأ حفص بكسر اللام ويؤيد قوله: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ.(4/204)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
[سورة الروم (30) : آية 23]
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وتقوي القوى الطبيعية وطلب معاشكم فيهما، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين إشعاراً بأن كلاً من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة، ويؤيده سائر الآيات الواردة فيه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهم واستبصار فإن الحكمة فيه ظاهرة.
[سورة الروم (30) : آية 24]
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ مقدر بأن المصدرية كقوله:
أَلا أَيّهذا الزَّاجِرِي أَحضُرَ الوَغَى ... وأَنْ أشَهدَ اللذاتِ هَلْ أنتَ مُخلِدي
أو الفعل فيه منزلة المصدر كقولهم: تَسْمَعُ بِالْمِعيديِّ خَيرٌ مِنْ أن تراه، أو صفة لمحذوف تقديره آية يريكم بها البرق كقوله:
فَمَا الدَّهْرُ إِلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي العَيْشَ أَكْدَحُ
خَوْفاً من الصاعقة للمسافر. وَطَمَعاً في الغيث للمقيم، ونصبهما على العلة لفعل يلزم المذكور فإن إراءتهم تستلزم رؤيتهم أوله على تقدير مضاف نحو إرادة خوف وطمع، أو تأويل الخوف والطمع بالإِخافة والإِطماع كقولك فعلته رغماً للشيطان، أو على الحال مثل كَلَّمْتُهُ شِفَاهاً. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً وقرئ بالتشديد. فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بالنبات. بَعْدَ مَوْتِها يبسها. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته.
[سورة الروم (30) : الآيات 25 الى 26]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ قيامهما بإقامته لهما وإرادته لقيامهما في حيزيهما المعينين من غير مقيم محسوس، والتعبير بالأمر للمبالغة في كمال القدرة والغنى عن الآلة. ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ عطف على أَنْ تَقُومَ على تأويل مفرد كأنه قيل: ومن آياته قيام السموات والأرض بأمره ثم خروجكم من القبور إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً واحدة فيقول أيها الموتى اخرجوا، والمراد تشبيه سرعة ترتب حصول ذلك على تعلق إرادته بلا توقف واحتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابة الداعي المطاع على دعائه، وثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه ومن الأرض متعلق بدعا كقولك: دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي لا بتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها، وإِذا الثانية للمفاجأة ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ منقادون لفعله فيهم لا يمتنعون عليه.
[سورة الروم (30) : آية 27]
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)(4/205)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد هلاكهم. وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ والإِعادة أسهل عليه من الأصل بالإِضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم وإلا فهما عليه سواء ولذلك قيل الهاء ل الْخَلْقَ، وقيل أَهْوَنُ بمعنى هين وتذكير هو لأهون أو لأن الإِعادة بمعنى أن يعيد. وَلَهُ الْمَثَلُ الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة ومن فسره بقول لا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية. الْأَعْلى الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه. فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يصفه به ما فيها دلالة ونطقاً. وَهُوَ الْعَزِيزُ القادر الذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته. الْحَكِيمُ الذي يجري الأفعال على مقتضى حكمته.
[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ منتزعاً من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم. هَلْ لَكُمْ مِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من مماليككم. مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال وغيرها. فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ فتكونون أنتم وهم فيه شرعاً يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم وأنها معارة لكم، ومِنْ الأولى للابتداء والثانية للتبعيض والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. تَخافُونَهُمْ أن يستبدوا بتصرف فيه.
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض. كَذلِكَ مثل ذلك التفصيل. نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها فإن التفصيل مما يكشف المعاني ويوضحها. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال.
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالإِشراك. أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ جاهلين لا يكفهم شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ فمن يقدر على هدايته. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم من الضلالة ويحفظونهم عن آفاتها.
[سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 31]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فقومه له غير ملتفت أو ملتفت عنه، وهو تمثيل للإقبال والاستقامة عليه والاهتمام به. فِطْرَتَ اللَّهِ خلقته نصب على الإِغراء أو المصدر لما دل عليه ما بعدها. الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها خلقهم عليها وهي قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه، أو ملة الإِسلام فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها، وقيل العهد المأخوذ من آدم وذريته. لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لا يقدر أحد أن يغيره أو ما ينبغي أن يغير. ذلِكَ إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة إن فسرت بالملة. الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الذي لا عوج فيه. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ استقامته لعدم تدبرهم.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه من أناب إذا رجع مرة بعد أخرى، وقيل منقطعين إليه من الناب وهو حال من الضمير في الناصب المقدر لفطرة الله أو في أقم لأن الآية خطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم والأمة لقوله: وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ غير أنها صدرت بخطاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم تعظيما له.
[سورة الروم (30) : آية 32]
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بدل من المشركين وتفريقهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم،(4/206)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
وقرأ حمزة والكسائي فارقوا بمعنى تركوا دينهم الذي أمروا به. وَكانُوا شِيَعاً فرقاً تشايع كل إمامها الذي أضل دينها. كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ مسرورون ظناً بأنه الحق، ويجوز أن يجعل فرحون صفة كل على أن الخبر مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا.
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 35]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ شدة. دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه من دعاء غيره. ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً خلاصاً من تلك الشدة. إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فاجأ فريق منهم بالإِشراك بربهم الذي عافاهم.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه للعاقبة وقيل للأمر بمعنى التهديد لقوله: فَتَمَتَّعُوا غير أنه التفت فيه مبالغة وقرئ و «ليتمتعوا» . فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتعكم، وقرئ بالياء التحتية على أن تمتعوا ماض.
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً حجة وقيل ذا سلطان أي ملكاً معه برهان. فَهُوَ يَتَكَلَّمُ تكلم دلالة كقوله كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ أو نطق. بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ بإشراكهم وصحته، أو بالأمر الذي بسببه يشركون به في ألوهيته.
[سورة الروم (30) : الآيات 36 الى 37]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً نعمة من صحة وسعة. فَرِحُوا بِها بطروا بسببها. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شدة. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بشؤم معاصيهم. إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ فاجؤوا القنوط من رحمته وقرأ الكسائي وأبو عمرو بكسر النون.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ فما لهم لم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة.
[سورة الروم (30) : آية 38]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ كصلة الرحم، واحتج به الحنفية على وجوب النفقة للمحارم وهو غير مشعر به.
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ما وظف لهما من الزكاة، والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لمن بسط له ولذلك رتب على ما قبله بالفاء. ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ذاته أو جهته أي يقصدون بمعروفهم إياه خالصاً، أو جهة التقرب إليه لا جهة أخرى. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم.
[سورة الروم (30) : آية 39]
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً زيادة محرمة في المعاملة أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة، وقرأ ابن كثير بالقصر بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ليزيد ويزكو في أموالهم. فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ فلا(4/207)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
يزكو عنده ولا يبارك فيه، وقرأ نافع ويعقوب لتربو أي لتزيدوا أو لتصيروا ذوي ربا. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ تبتغون به وجهه خالصاً فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ذوو الأضعاف من الثواب ونظير المضعف المقوي والموسر لذي القوة واليسار، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة، وقرئ بفتح العين وتغييره عن سنن المقابلة عبارة ونظماً للمبالغة، والالتفات فيه للتعظيم كأنه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريفاً لحالهم، أو للتعميم كأنه قال: فمن فعل ذلك فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ، والراجع منه محذوف إن جعلت مَا موصولة تقديره المضعفون به، أو فَمُؤْتُوه أولئك هم المضعفون.
[سورة الروم (30) : آية 40]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ أثبت له لوازم الألوهية ونفاها رأساً عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها مؤكداً بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق، ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ويجوز أن تكون الكلمة الموصولة صفة والخبر هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ والرابط مِنْ ذلِكُمْ لأنه بمعنى من أفعاله، ومِنْ الأولى والثانية تفيد أن شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال والثالثة مزيدة لتعميم المنفي وكل منها مستقلة بتأكيد لتعجيز الشركاء، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء.
[سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 42]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضار، أو الضلالة والظلم. وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرئ و «البحور» . بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه، وقيل ظهر الفساد فى البر بقتل قابيل أخاه وفي البحر بأن جلندا ملك عمان كان يأخذ كل سفينة غصباً. لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا بعض جزائه فإن تمامه في الآخرة واللام للعلة أو للعاقبة. وعن ابن كثير ويعقوب لِنُذِيقَهُمْ بالنون. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم عليه.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ لتشاهدوا مصداق ذلك وتتحققوا صدقه.
كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لفشو الشرك وغلبته فيهم، أو كان الشرك في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليل منهم.
[سورة الروم (30) : آية 43]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ البليغ الاستقامة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ لا يقدر أن يرده أحد، وقوله: مِنَ اللَّهِ متعلق ب يَأْتِيَ، ويجوز أن يتعلق ب مَرَدَّ لأنه مصدر على معنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه. يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتصدعون أي يتفرقون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ كما قال
[سورة الروم (30) : الآيات 44 الى 45]
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وباله وهو النار المؤبدة. وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ يسوون منزلاً في الجنة، وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص.(4/208)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ علة ل يَمْهَدُونَ أو ل يَصَّدَّعُونَ، والاقتصار على جزاء المؤمنين للإِشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء على فحوى قوله: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكافِرِينَ فإن فيه إثبات البغض لهم والمحبة للمؤمنين، وتأكيد اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل له ومن فضله دال على أن الإِثابة تفضل محض، وتأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر.
[سورة الروم (30) : آية 46]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ الشمال والصبا والجنوب فإنها رياح الرحمة وأما الدبور فريح العذاب، ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً»
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح على إرادة الجنس. مُبَشِّراتٍ بالمطر. وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني المنافع التابعة لها، وقيل الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها والعطف على علة محذوفة دل عليها مُبَشِّراتٍ أو عليها باعتبار المعنى، أو على يُرْسِلَ بإضمار فعل معلل دل عليه. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني تجارة البحر. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولتشكروا نعمة الله تعالى فيها.
[سورة الروم (30) : آية 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
بالتدمير. كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
إشعار بأن الانتقام لهم وإظهار لكرامتهم حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم،
وعنه عليه الصلاة والسلام «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم ثم تلا ذلك» .
وقد يوقف على قًّا
على أنه متعلق بالانتقام.
[سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 49]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ متصلاً تارة. فِي السَّماءِ في سمتها. كَيْفَ يَشاءُ سائراً أو واقفاً مطبقاً وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك. وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً قطعاً تارة أخرى، وقرأ ابن عامر بالسكون على أنه مخفف أو جمع كسفة أو مصدر وصف به. فَتَرَى الْوَدْقَ المطر. يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ في التارتين. فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني بلادهم وأراضيهم. إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لمجيء الخصب.
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر. مِنْ قَبْلِهِ تكرير للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم، وقيل الضمير للمطر أو السحاب أو الإِرسال. لَمُبْلِسِينَ لآيسين.
[سورة الروم (30) : آية 50]
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)(4/209)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أثر الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار ولذلك جمعه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وقرئ بالتاء على إسناده إلى ضمير الرحمة. إِنَّ ذلِكَ يعني إن الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها. لَمُحْيِ الْمَوْتى لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية، كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية، هذا ومن المحتمل أن يكون من الكائنات الراهنة ما يكون من مواد تفتتت وتبددت من جنسها في بعض الأعوام السالفة. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على سواء.
[سورة الروم (30) : آية 51]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا فرأوا الأثر أو الزرع فإنه مدلول عليه بما تقدم، وقيل السحاب لأنه إذا كان مُصْفَرًّا لم يمطر واللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط وقوله: لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ جواب سد مسد الجزاء ولذلك فسر بالاستقبال. وهذه الآية ناعية على الكفار بقلة تثبتهم وعدم تدبرهم وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله ويلتجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس القطر عنهم ولا ييأسوا من رحمته، وأن يبادروا إلى الشكر والاستدامة بالطاعة إذا أصابهم برحمته ولم يفرطوا في الاستبشار وأن يصبروا على بلائه إذا ضرب زروعهم بالاصفرار ولا يكفروا نعمه.
[سورة الروم (30) : الآيات 52 الى 53]
فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتى وهم مثلهم لما سدوا عن الحق مشاعرهم. وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ قيد الحكم به ليكون أشد استحالة، فإن الأصم المقبل وإن لم يسمع الكلام يفطن منه بواسطة الحركات شيئاً، وقرأ ابن كثير بالياء مفتوحة ورفع الصُّمَّ.
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ سماهم عمياً لفقدهم المقصود الحقيقي من الأبصار أو لعمى قلوبهم، وقرأ حمزة وحده «تهدي العمي» . إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فإن إيمانهم يدعوهم إلى تلقي اللفظ وتدبر المعنى، ويجوز أن يراد بالمؤمن المشارف للإِيمان. فَهُمْ مُسْلِمُونَ لما تأمرهم به.
[سورة الروم (30) : آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أو خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة. ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً وذلك إذا بلغتم الحلم أو تعلق بأبدانكم الروح. ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً إذا أخذ منكم السن، وفتح عاصم وحمزة الضاد في جميعها والضم أقوى لقول ابن عمر رضي الله عنهما: قرأتها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من ضعف فأقرأني من ضُعف» . وهما لغتان كالفُقُر والفُقر والتنكير مع التكرير لأن المتأخر ليس عين المتقدم. يَخْلُقُ مَا يَشاءُ من ضعف وقوة وشبية وشيبة. وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ فإن الترديد في الأحوال المختلفة مع إمكان غيره دليل العلم والقدرة.
[سورة الروم (30) : آية 55]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتة(4/210)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
وصارت علما لها بالغلبة كالكوكب للزهرة. يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا والبعث وانقطاع عذابهم،
وفي الحديث «ما بين فناء الدنيا والبعث أربعون»
وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام. غَيْرَ ساعَةٍ استقلوا مدة لبثهم إضافة إلى مدة عذابهم في الآخرة أو نسياناً. كَذلِكَ مثل ذلك الصرف عن الصدق والتحقيق. كانُوا يُؤْفَكُونَ يصرفون في الدنيا.
[سورة الروم (30) : الآيات 56 الى 57]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ من الملائكة والإِنسَ. لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ في علمه أو قضائه، أو ما كتبه لكم أي أوجبه أو اللوح أو القرآن وهو قوله: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ. إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ردوا بذلك ما قالوه وحلفوا عليه. فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي أنكرتموه. وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ أنه حق لتفريطكم في النظر، والفاء لجواب شرط محذوف تقديره: إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه، أي فقد تبين بطلان إنكاركم.
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ تنفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وقرأ الكوفيون بالياء لأن المعذرة بمعنى العذر، أو لأن تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يدعون إلى ما يقتضي إعتابهم أي إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إليه في الدنيا من قولهم استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته.
[سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 59]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ولقد وصفناهم فيه بأنواع الصفات التي هي في الغرابة كالأمثال، مثل صفة المبعوثين يوم القيامة فيما يقولون وما يقال لهم وما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة والاستعتاب، أو بينا لهم من كل مثل ينبههم على التوحيد والبعث وصدق الرسول. وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ من آيات القرآن. لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من فرط عنادهم وقساوة قلوبهم. إِنْ أَنْتُمْ يعنون الرسول والمؤمنين.
إِلَّا مُبْطِلُونَ مزورون.
كَذلِكَ مثل ذلك الطبع. يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لا يطلبون العلم ويصرون على خرافات اعتقدوها فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق.
[سورة الروم (30) : آية 60]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
فَاصْبِرْ على أذاهم. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله. حَقٌّ لا بد من إنجازه. وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ ولا يحملنك على الخفة والقلق. الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ بتكذيبهم وإيذائهم فإنهم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك. وعن يعقوب بتخفيف النون، وقرئ «ولا يستحقنك» أي لا يزيغنك فيكونوا أحق بك مع المؤمنين.
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيع في يومه وليلته» .(4/211)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
(31) سورة لقمان
مكية إلا آية وهي (الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة) فإن وجوبهما بالمدينة وهو ضعيف لأنه لا ينافي شرعيتهما بمكة وقيل إلا ثلاثاً من قوله ولو أن ما فى الأرض من شجرة أقلام) وهي أربع وثلاثون آية، وقيل ثلاث وثلاثون.
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)
الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ سبق بيانه في «يونس» .
هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ حالان من الآيات والعامل فيهما معنى الإِشارة، ورفعهما حمزة على الخبر بعد الخبر أو الخبر لمحذوف.
[سورة لقمان (31) : الآيات 4 الى 5]
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ بيان لإِحسانهم أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه لفضل اعتداد بها وتكرير الضمير للتوكيد ولما حيل بينه وبين خبره.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ لاستجماعهم العقيدة الحقة والعمل الصالح.
[سورة لقمان (31) : آية 6]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ما يلهي عما يعني كالأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتبار بها والمضاحك وفضول الكلام، والإِضافة بمعنى من وهي تبيينية إن أراد بالحديث المنكر وتبعيضية إن أراد به الأعم منه. وقيل نزلت في النضر بن الحرث اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشاً ويقول:
إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار والأكاسرة. وقيل كان يشتري القيان ويحملهن على معاشرة من أراد الإِسلام ومنعه عنه. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه أو قراءة كتابه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بمعنى ليثبت على ضلاله ويزيد فيه. بِغَيْرِ عِلْمٍ بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن. وَيَتَّخِذَها هُزُواً ويتخذ السبيل سخرية، وقد نصبه حمزة والكسائي ويعقوب وحفص عطفاً على لِيُضِلَّ. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ لإِهانتهم الحق باستئثار الباطل عليه.(4/212)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
[سورة لقمان (31) : آية 7]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً متكبراً لا يعبأ بها. كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها مشابهاً حاله حال من لم يسمعها. كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً مشابهاً من في أذنيه ثقل لا يقدر أن يسمع، والأولى حال من المستكن في وَلَّى أو في مُسْتَكْبِراً، والثانية بدل منها أو حال من المستكن في لَمْ يَسْمَعْها ويجوز أن يكونا استئنافين، وقرأ نافع فِي أُذُنَيْهِ. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أعلمه بأن العذاب يحيق به لا محالة وذكر البشارة على التهكم.
[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي لهم نعيم الجنات فعكس للمبالغة.
خالِدِينَ فِيها حال من الضمير في لَهُمْ أو من جَنَّاتُ النَّعِيمِ والعامل ما تعلق به اللام. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران مؤكدان الأول لنفسه والثاني لغيره لأن قوله لَهُمْ جَنَّاتُ وعد وليس كل وعد حقاً. وَهُوَ الْعَزِيزُ. الذي لا يغلبه شيء فيمنعه عن إنجاز وعده ووعيده. الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تستدعيه حكمته.
[سورة لقمان (31) : الآيات 10 الى 11]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قد سبق في «الرعد» . وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا شوامخ.
أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ كراهة أن تميد بكم، فإن تشابه أجزائها يقتضي تبدل أحيازها وأوضاعها لامتناع اختصاص كل منها لذاته أو لشيء من لوازمه بحيز ووضع معينين. وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ من كل صنف كثير المنفعة وكأنه استدل بذلك على عزته التي هي كمال القدرة، وحكمته التي هي كمال العلم، ومهد به قاعدة التوحيد وقررها بقوله:
هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ هذا الذي ذكر مخلوقه فماذا خلق آلهتكم حتى استحقوا مشاركته، وماذا نصب ب خَلْقُ أو ما مرتفع بالابتداء وخبره ذا بصلته فَأَرُونِي معلق عنه. بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إضراب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الذي لا يخفى على ناظر، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظالمون بإشراكهم.
[سورة لقمان (31) : آية 12]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ يعني لقمان بن باعوراء من أولاد آزر ابن أخت أيوب أو خالته، وعاش حتى أدرك داود عليه الصلاة والسلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه، والجمهور على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً.
والحكمة في عرف العلماء: استكمال النفس الإِنسانية باقتباس العلوم النظرية، واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها. ومن حكمته أنه صحب داود شهوراً وكان يسرد الدرع فلم يسأله عنها فلما أتمها لبسها وقال:
نعم لبوس الحرب أنت فقال: الصمت حكم وقليل فاعله، وأن داود عليه السلام قال له يوماً كيف أصبحت فقال أصبحت في يدي غيري، فتفكر داود فيه فصعق صعقة. وأنه أمره بأن يذبح شاة ويأتي بأطيب مضغتين منها فأتى باللسان والقلب، ثم بعد أيام أمره بأن يأتي بأخبث مضغتين منها فأتى بهما أيضاً فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب شيء(4/213)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
إذا طابا وأخبث شيء إذا خبثا. أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ لأن أشكر أو أي أشكر فإن إيتاء الحكمة في معنى القول. وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن نفعه عائد إليها وهو دوام النعمة واستحقاق مزيدها. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ لا يحتاج إلى الشكر. حَمِيدٌ حقيق بالحمد وإن لم يحمد، أو محمود ينطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.
[سورة لقمان (31) : آية 13]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ أنعم أو أشكم أو ماثان. وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ تصغير إشفاق، وقرأ ابن كثير هنا وفي يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ بإسكان الياء، وحفص فيهما وفي يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ بفتح الياء ومثله البزي في الأخير وقرأ الباقون في الثلاثة بكسر الياء. لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ قيل كان كافراً فلم يزل به حتى أسلم، ومن وقف على لاَ تُشْرِكْ جعل بالله قسماً. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا منه ومن لا نعمة منه.
[سورة لقمان (31) : آية 14]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً ذات وهن أو تهن وهنا عَلى وَهْنٍ أي تضعف ضعفاً فوق ضعف فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها والجملة في موضع الحال، وقرئ بالتحريك يقال وهن يهن وهنا ووهن يوهن وهنا. وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ وفطامه في انقضاء عامين وكانت ترضعه في تلك المدة، وقرئ «وفصله في عامين» وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان. أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ تفسير ل وَصَّيْنَا أو علة له أو بدل من والديه بدل الاشتمال، وذكر الحمل والفصال في البين اعتراض مؤكد للتوصية في حقها خصوصاً ومن ثم
قال عليه الصلاة والسلام لمن قال مَنْ أُبِرّ «أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك أباك» .
إِلَيَّ الْمَصِيرُ فأحاسبك على شكرك وكفرك.
[سورة لقمان (31) : آية 15]
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ باستحقاقه الإِشراك تقليداً لهما، وقيل أراد بنفي العلم به نفيه. فَلا تُطِعْهُما في ذلك. وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً صحاباً معروفاً يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم. وَاتَّبِعْ في الدين سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ بالتوحيد والإِخلاص في الطاعة. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مرجعك ومرجعهما. فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
بأن أجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما، والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيداً لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال: وقد وصينا بمثل ما وصى به، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يستحقاه في الإِشراك فما ظنك بغيرهما ونزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثاً لم تطعم فيها شيئاً، ولذلك قيل من أناب إليه أبو بكر رضي الله عنه فإنه أسلم بدعوته.
[سورة لقمان (31) : آية 16]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي أن الخصلة من الإِحسان أو الإِساءة إن تك مثلاً في الصغر كحبة الخردل. ورفع نافع مِثْقالَ على أن الهاء ضمير القصة وكان تامة وتأنيثها لإِضافة المثقال إلى الحبة كقول الشاعر:
كما شرقت صدر القناة من الدم(4/214)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
أو لأن المراد به الحسنة أو السيئة. فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ في أخفى مكان وأحرزه كجوف صخرة أو أعلاه كمحدب السموات أو أسفله كمقعر الأرض. وقرئ بكسر الكاف من وكن الطائر إذا استقر في وكنته. يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يحضرها فيحاسب عليها. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه إلى كل خفي. خَبِيرٌ عالم بكنهه.
[سورة لقمان (31) : آية 17]
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ تكميلاً لنفسك. وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تكِميلاً لغيرك. وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ من الشدائد سيما في ذلك. إِنَّ ذلِكَ إشارة إلى الصبر أو إلى كل ما أمر به. مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ مما عزمه الله من الأمور أي قطعه قطع إيجاب مصدر أطلق للمفعول، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل من قوله فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي جد.
[سورة لقمان (31) : الآيات 18 الى 19]
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تمله عنهم ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون من الصعر وهو داء يعتري البعير فيلوي عنقه. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي ولا تصاعر، وقرئ «وَلاَ تُصَعّرْ» والكل واحد مثل علاه وأعلاه وعالاه. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي فرحاً مصدر وقع موقع الحال أي تمرح مرحاً أو لأجل المرح وهو البطر. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ علة للنهي وتأخير ال فَخُورٍ وهو مقابل للمصعر خده والمختال للماشي مرحاً لتوافق رؤوس الآي.
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ توسط فيه بين الدبيب والإسراع.
وعنه عليه الصلاة والسلام: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن»
، وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما كان إذا مشى أسرع فالمراد ما فوق دبيب المتماوت، وقرئ بقطع الهمزة من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية. وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ وانقص منه واقصر. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أوحشها. لَصَوْتُ الْحَمِيرِ والحمار مثل في الذم سيما نهاقه ولذلك يكنى عنه فيقال طويل الأذنين، وفي تمثيل الصوت المرتفع بصوته ثم إخراجه مخرج الإِستعارة مبالغة شديدة وتوحيد الصوت لأن المراد تفضيل الجنس في النكير دون الآحاد أو لأنه مصدر في الأصل.
[سورة لقمان (31) : آية 20]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ بأن جعله أسباباً محصلة لمنافعكم. وَما فِي الْأَرْضِ بأن مكنكم من الإِنتفاع به بوسط أو غير وسط وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً محسوسة ومعقولة ما تعرفونه وما لا تعرفونه وقد مر شرح النعمة وتفصيلها في الفاتحة، وقرئ «وأصبغ» بالإبدال وهو جار في كل سين اجتمع من الغين أو الخاء أو القاف كصلخ وصقر، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص نِعَمَهُ بالجمع والإِضافة.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ في توحيده وصفاته. بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل. وَلا هُدىً راجع إلى رسول. وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أنزله الله بل بالتقليد كما قال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 21 الى 22]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)(4/215)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وهو منع صريح من التقليد في الأصول. أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ يحتمل أن يكون الضمير لَهُمْ ولآبائهم. إِلى عَذابِ السَّعِيرِ إلى ما يؤول إليه من التقليد أو الإِشراك وجواب لو محذوف مثل لاتبعوه، والإِستفهام للإنكار والتعجب.
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ بأن فوض أمره إليه وأقبل بشراشره عليه من أسلمت المتاع إلى الزبون، ويؤيده القراءة بالتشديد وحيث عدى باللام فلتضمن معنى الإخلاص. وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تعلق بأوثق ما يتعلق به، وهو تمثيل للمتوكل المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه. وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ إذ الكل صائر إليه.
[سورة لقمان (31) : الآيات 23 الى 24]
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ فإنه لا يضرك في الدنيا والآخرة، وقرئ «فَلاَ يَحْزُنكَ» من أحزن وليس بمستفيض. إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ في الدارين. فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا بالإِهلاك والتعذيب. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فمجازٍ عليه فضلاً عما في الظاهر.
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا تمتيعاً أو زماناً قليلاً فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل. ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ أو يضم إلى الإحراق الضغط.
[سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 26]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطروا إلى إذعانه. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إلزامهم والجائهم إلى الإِعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم.
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أن ذلك يلزمهم.
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يستحق العبادة فيهما غيره إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن حمد الحامدين.
الْحَمِيدُ المستحق للحمد وإن لم يحمد.
[سورة لقمان (31) : آية 27]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ولو ثبت كون الأشجار أقلاماً، وتوحيد شَجَرَةٍ لأن المراد تفصيل الآحاد. وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ والبحر المحيط بسعته مداداً ممدوداً بسبعة أبحر، فأغنى عن ذكر المداد يمده لأنه من مد الدواة وأمدها، ورفعه للعطف على محل أن ومعموليها ويمده حال أو للابتداء على أنه مستأنف أو الواو للحال، ونصبه البصريان بالعطف على اسم أَنَّ أو إضمار فعل يفسره يَمُدُّهُ، وقرئ «تمده» «ويمده» بالياء والتاء. مَّا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد وإيثار جمع القلة للإشعار بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء. حَكِيمٌ لا يخرج عن علمه وحكمته أمر، والآية جواب لليهود سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وقد أنزل التوراة وفيها علم كل شيء.(4/216)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
[سورة لقمان (31) : الآيات 28 الى 30]
مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إلا كخلقها وبعثها إذ لا يشغله شأن عن شأن لأنه يكفي لوجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية كما قال إِنَّمَا أَمْرُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل مسموع بَصِيرٌ يبصر كل مبصر لا يشغله إدراك بعضها عن بعض فكذلك الخلق.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي كل من النيرين يجري في فلكه. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى منتهى معلوم الشمس إلى آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر.
وقيل إلى يوم القيامة والفرق بينه وبين قوله لِأَجَلٍ مُسَمًّى أن ال أَجَلٍ ها هنا منتهى الجري وثمة غرضه حقيقة أو مجازاً وكلا المعنيين حاصل في الغايات. وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بكنهه.
ذلِكَ إشارة إلى الذي ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع واختصاص الباري بها.
بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ بسبب أنه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته، أو الثابت إلهيته. وَأَنَّ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل المعدوم في حد ذاته لأنه لا يوجد ولا يتصف إلا بجعله أو الباطل إلهيته، وقرأ البصريان والكوفيون غير أبي بكر بالياء. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ مترفع على كل شيء ومتسلط عليه.
[سورة لقمان (31) : الآيات 31 الى 32]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه في تهيئة أسبابه وهو استشهاد آخر على باهر قدرته وكمال حكمته وشمول إنعامه والباء للصلة أو الحال، وقرئ «الفلك» بالتثقيل و «بنعمات الله» بسكون العين، وقد جوز في مثله الكسر والفتح والسكون. لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ دلائله. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على المشاق فيتعب نفسه بالتفكر في الأفاق والأنفس. شَكُورٍ يعرف النعم ويتعرف مانحها، أو للمؤمنين فإن الإِيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر.
وَإِذا غَشِيَهُمْ علاهم وغطاهم. مَوْجٌ كَالظُّلَلِ كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما، وقرئ كالظلال جمع ظلة كقلة وقلال. دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ مقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد، أو متوسط في الكفر لانزجاره بعض الانزجار. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدار فإنه نقض للعهد الفطري، أو لما كان في البحر والختر أشد الغدر. كَفُورٍ للنعم.
[سورة لقمان (31) : آية 33]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَّ يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَّ يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ لاَ يقضي عنه، وقرئ «لا يجزئ» من(4/217)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
أجزأ إذا أغنى والراجع إلى الموصوف محذوف أي لا يجزى فيه. وَلا مَوْلُودٌ عطف على والِدٌ أو مبتدأ خبره. هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالثواب والعقاب. حَقٌّ لا يمكن خلفه.
فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجسركم على المعاصي.
[سورة لقمان (31) : آية 34]
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ علم وقت قيامها. لما
روي أن الحرث بن عمرو أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
متى قيام الساعة؟ وإني قد ألقيت حباتي في الأرض فمتى السماء تمطر؟ وحمل امرأتي أذكر أم أنثى؟ وما أعمل غداً وأين أموت؟ فنزلت.
وعنه عليه الصلاة والسلام «مفاتح الغيب خمس» وتلا هذه الآية. وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ
في إبانه المقدر له والمحل المعين له في علمه، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد. وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ أذكر أم أنثى أتام أم ناقص. وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه. وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ كما لا تدري في أي وقت تموت.
روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظم إليه، فقال الرجل من هذا؟ قال: ملك الموت فقال كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك: كان دوام نظري إليه تعجباً منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك»
، وإنما جعل العلم لله تعالى والدراية للعبد لأن فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين، ويدل على أنه إن أعمل حيلة وأنفذ فيها وسعه لم يعرف ما هو الحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره مما لم ينصب له دليل عليه، وقرئ «بأية أرض» وشبه سيبويه تأنيثها بتأنيث كل في كُلُّهُنَّ. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ يعلم الأشياء كلها. خَبِيرٌ يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها.
وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقاً يوم القيامة، وأعطي من الحسنات عشراً عشراً بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر» .(4/218)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
(32) سورة السجدة
مكية وآيها ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون آية
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
الم إن جعل اسماً للسورة أو القرآن فمبتدأ خبره:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ على أن التنزيل بمعنى المنزل، وإن جعل تعديداً للحروف كان تَنْزِيلُ خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره: لاَ رَيْبَ فِيهِ فيكون مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حالاً من الضمير في فِيهِ لأن المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً ولا رَيْبَ فِيهِ حال من الْكِتابِ، أو اعتراض والضمير فيه لمضمون الجملة ويؤيده قوله:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ فإنه إنكار لكونه من رب العالمين وقوله: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فإنه تقرير له، ونظم الكلام على هذا أنه أشار أولاً إلى إعجازه، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عنه، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكاراً له وتعجيباً منه، فإن أَمْ منقطعة ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من الله وبين المقصود من تنزيله فقال: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ إذ كانوا أهل الفترة. لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بإنذارك إياهم.
[سورة السجده (32) : آية 4]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مر بيانه في «الأعراف» . مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ مَا لَكُمْ إذا جاوزتم رضا الله أحد ينصركم ويشفع لكم، أو مَا لَكُمْ سواه ولي ولا شفيع بل هو الذي يتولى مصالحكم وينصركم في مواطن نصركم على أن الشفيع متجوز به للناصر، فإذا خذلكم لم يبق لكم ولي ولا ناصر. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ بمواعظ الله تعالى.
[سورة السجده (32) : الآيات 5 الى 6]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية كالملائكة وغيرها نازلة آثارها إلى الأرض. ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ثم يصعد إليه ويثبت في علمه موجوداً. فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في برهة من الزمان متطاولة يعني بذلك استطالة ما بين التدبير والوقوع، وقيل يدبر الأمر بإظهاره في اللوح فينزل به الملك ثم يعرج إليه في زمان هو كألف سنة، لأن مسافة نزوله وعروجه مسيرة ألف سنة فإن ما بين(4/219)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة. وقيل يقضي قضاء ألف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الألف لألف آخر. وقيل يدبر الأمر إلى قيام الساعة ثم يعرج إليه الأمر كله يوم القيامة. وقيل يدبر المأمور به من الطاعات منزلاً من السماء إلى الأرض بالوحي، ثم لا يعرج إليه خالصاً كما يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة المخلصين والأعمال الخلص، وقرئ «يَعْرُجُ» و «يَعْدُونَ» .
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فيدبر أمرهما على وفق الحكمة. الْعَزِيزُ الغالب على أمره. الرَّحِيمُ على العباد في تدبيره، وفيه إيماء بأنه يراعي المصالح تفضلاً وإحساناً.
[سورة السجده (32) : الآيات 7 الى 9]
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ خلقة موفراً عليه ما يستعد له ويليق به على وفق الحكمة والمصلحة، وخلقه بدل من كل بدل الاشتمال وقل علم كيف يخلقه من قولهم قيمة المرء ما يحسنه أي يحسن معرفته، وخَلَقَهُ مفعول ثان. وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على الوصف فالشيء على الأول مخصوص بمنفصل وعلى الثاني بمتصل. وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني آدم. مِنْ طِينٍ.
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ذريته سميت بذلك لأنها تنسل منه أي تنفصل. مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ممتهن.
ثُمَّ سَوَّاهُ قَوَّمَّهُ بتصوير أعضائه على ما ينبغي. وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ إضافة إلى نفسه تشريفاً له وإشعاراً بأنه خلق عجيب، وأن له شأناً له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية ولأجله قيل من عرف نفسه فقد عرف ربه. وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ خصوصاً لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا. قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ تشكرون شكرا قليلا.
[سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 11]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميز منه، أو غبنا فيها.
وقرئ «ضَلَلْنَا» بالكسر من ضل يضل «وصللَنا» من صل اللحم إذا أنتن، وقرأ ابن عامر «إذا» على الخبر والعامل فيه ما دل عليه. أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو: نبعث أو يجدد خلقنا. وقرأ نافع والكسائي ويعقوب «أنا» على الخبر، والقائل أبي بن خلف وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به. بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ بالبعث أو بتلقي ملك الموت وما بعده. كافِرُونَ جاحدون.
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئاً ولا يبقي منكم أحداً، والتفعل والإِستفعال يلتقيان كثيراً كتقصيته واستقصيته وتعجلته واستعجلته. مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ بقبض أرواحكم وإحصاء آجالكم. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ للحساب والجزاء.
[سورة السجده (32) : آية 12]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ من الحياء والخزي. رَبَّنا قائلين ربنا. أَبْصَرْنا ما وعدتنا. وَسَمِعْنا منك تصديق رسلك. فَارْجِعْنا إلى الدنيا. نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ إذ لم يبق لنا(4/220)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
شك بما شاهدنا، وجواب لَوْ محذوف تقديره لرأيت أمراً فظيعاً، ويجوز أن تكون للتمني والمضي فيها وفي إِذِ لأن الثابت في علم الله بمنزلة الواقع، ولا يقدر ل تَرى مفعول لأن المعنى لو يكون منك رؤية في هذا الوقت، أو يقدر ما دل عليه صلة إذ والخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد.
[سورة السجده (32) : الآيات 13 الى 14]
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق له. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ثبت قضائي وسبق وعيدي وهو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وذلك تصريح بعدم إيمانهم لعدم المشيئة المسبب عن سبق الحكم بأنهم من أهل النار، ولا يدفعه جعل ذوق العذاب مسبباً عن نسيانهم العاقبة وعدم تفكرهم فيها بقوله:
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا فإنه من الوسائط والأسباب المقتضية له. إِنَّا نَسِيناكُمْ تركناكم من الرحمة، أو في العذاب ترك المنسي وفي استئنافه وبناء الفعل على أن واسمها تشديد في الانتقام منهم.
وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ كرر الأمر للتأكيد ولما نيط به من التصريح بمفعوله وتعليله بأفعالهم السيئة من التكذيب والمعاصي كما علله بتركهم تدبر أمر العاقبة والتفكر فيها دلالة على أن كلاً منهما يقتضي ذلك.
[سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 16]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها وعظوا بها. خَرُّوا سُجَّداً خوفاً من عذاب الله. وَسَبَّحُوا نزهوه عما لا يليق به كالعجز عن البعث. بِحَمْدِ رَبِّهِمْ حامدين له شكراً على ما وفقهم للإسلام وآتاهم الهدى. وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان والطاعة كم يفعل من يصر مستكبراً.
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ ترتفع وتتنحى. عَنِ الْمَضاجِعِ الفرش ومواضع النوم. يَدْعُونَ رَبَّهُمْ داعين إياه. خَوْفاً من سخطه وَطَمَعاً في رحمته.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم في تفسيرها «قيام العبد من الليل» .
وعنه عليه الصلاة والسلام «إذا جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد جاء منادٍ ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل، فيسرحون جميعاً إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس»
وقيل كان أناس من الصحابة يصلون من المغرب إلى العشاء فنزلت فيهم. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في وجوه الخير.
[سورة السجده (32) : آية 17]
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ مما تقر به عيونهم.
وعنه عليه الصلاة والسلام «يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بَلْهَ ما أطلعتهم عليه، اقرءوا إن شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ» .
وقرأ حمزة ويعقوب أُخْفِيَ لَهُمْ على أنه مضارع أخفيت، وقرئ «نخفي» و «أخفي» والفاعل للكل هو الله، «وقرأت أَعْيُنِ»(4/221)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
لاختلاف أنواعها والعلم بمعنى المعرفة وما موصوله أو استفهامية معلق عنها الفعل. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي جزوا جزاء أو أخفي للجزاء فإن إخفاءه لعلو شأنه. وقيل هذا لقوم أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 19]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19)
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً خارجاً عن الإِيمان لاَّ يَسْتَوُونَ في الشرف والمثوبة تأكيد وتصريح والجمع للحمل على المعنى.
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى فإنها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة، وقيل المأوى جنة من الجنان. نُزُلًا سبق في سورة «آل عمران» . بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بسبب أعمالهم أو على أعمالهم.
[سورة السجده (32) : الآيات 20 الى 21]
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ مكان جنة المأوى للمؤمنين. كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها عبارة عن خلودهم فيها. وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ إهانة لهم وزيادة في غيظهم.
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى عذاب الدنيا يريد ما محنوا به من السنة سبع سنين والقتل والأسر.
دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ عذاب الآخرة. لَعَلَّهُمْ لعل من بقي منهم. يَرْجِعُونَ يتوبون عن الكفر. روي أن الوليد بن عقبة فاخر عليا رضي الله عنه يوم بدر فنزلت هذه الآيات.
[سورة السجده (32) : الآيات 22 الى 24]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها فلم يتفكر فيها، وثُمَّ لاستبعاد الإعراض عنها مع فرط وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة بعد التذكير بها عقلاً كما في بيت الحماسة.
وَلاَ يَكْشِفُ الغُمَاءَ إِلاَّ ابْن حرَّة ... يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورها
إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ فكيف ممن كان أظلم من كل ظالم.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ كما آتيناك. فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ في شك. مِنْ لِقائِهِ من لقائك الكتاب كقوله: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ فإنا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه فليس ذلك ببدع لم يكن قط حتى ترتاب فيه، أو من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى.
وعنه عليه الصلاة والسلام «رأيت ليلة أسري بي موسى صلى الله عليه وسلّم رجلاً آدم طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة» .
وَجَعَلْناهُ أي المنزل على موسى. هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ.(4/222)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام. بِأَمْرِنا إياهم به أو بتوفيقنا له.
لَمَّا صَبَرُوا وقرأ حمزة والكسائي ورويس لَمَّا صَبَرُوا أي لصبرهم على الطاعة أو عن الدنيا. وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ لإمعانهم فيها النظر.
[سورة السجده (32) : الآيات 25 الى 26]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يقضي فيميز الحق من الباطل بتمييز المحق من المبطل. فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الواو للعطف على منوي من جنس المعطوف والفاعل ضمير ما دل عليه. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ أي كثرة من أهلكناهم من القرون الماضية، أو ضمير الله بدليل القراءة بالنون.
يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يعني أهل مكة يمرون في متاجرهم على ديارهم، وقرئ «يَمْشُونَ» بالتشديد. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ سماع تدبر واتعاظ.
[سورة السجده (32) : آية 27]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ التي جرز نباتها أي قطع وأزيل لا التي لا تنبت لقوله:
فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً وقيل اسم موضع باليمن. تَأْكُلُ مِنْهُ من الزرع. أَنْعامُهُمْ كالتين والورق.
وَأَنْفُسُهُمْ كالحب والثمر. أَفَلا يُبْصِرُونَ فيستدلون به على كمال قدرته وفضله.
[سورة السجده (32) : الآيات 28 الى 29]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ النصر أو الفصل بالحكومة من قوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في الوعد به.
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وهو يوم القيامة فإنه يوم نصر المؤمنين على الكفرة والفصل بينهم. وقيل يوم بدر أو يوم فتح مكة، والمراد بالذين كفروا المقتولون منهم فيه فإنهم لا ينفعهم إيمانهم حال القتل ولا يمهلون وانطباقه جواباً على سؤالهم من حيث المعنى باعتبار ما عرف من غرضهم، فإنهم لما أرادوا به الاستعجال تكذيباً واستهزاء أجيبوا بما يمنع الاستعجال.
[سورة السجده (32) : آية 30]
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تبال بتكذيبهم، وقيل هو منسوخ بآية السيف. وَانْتَظِرْ النصرة عليهم. إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ الغلبة عليك، وقرئ بالفتح على معنى أنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم أو أن الملائكة ينتظرونه.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قرأ «ألم تنزيل، وتبارك الذي بيده الملك أعطي من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر» .
وعنه «من قرأ «ألم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» .(4/223)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
(33) سورة الأحزاب
مدينة وآيها ثلاث وسبعون آية
[سورة الأحزاب (33) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ناداه بالنبي وأمره بالتقوى تعظيماً له وتفخيماً لشأن التقوى، والمراد به الأمر بالثبات عليه ليكون مانعاً له عما نهى عنه بقوله: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ فيما يعود بوهن في الدين.
روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم وقام معهم بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس فقالوا له: ارفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة وندعك وربك فنزلت.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالمصالح والمفاسد. حَكِيماً لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 2 الى 3]
وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ كالنهي عن طاعتهم. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فموحٍ إليك ما تصلح به أعمالك ويغني عن الاستماع إلى الكفرة، وقرأ أبو عمرو بالياء على أن الواو ضمير الكفرة والمنافقين أي أن الله خبير بمكايدهم فيدفعها عنك.
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وكل أمرك إلى تدبيره. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولاً إليه الأمور كلها.
[سورة الأحزاب (33) : آية 4]
مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ أي ما جمع قلبين في جوف لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق بالنفس الإنساني أولا ومنع القوى بأسرها وذلك يمنع التعدد. وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ وما جمع الزوجية والأمومة في امرأة ولا الدعوة والبنوة في رجل، والمراد بذلك رد ما كانت العرب تزعم من أن اللبيب الأريب له قلبان ولذلك قيل لأبي معمر أو جميل بن أسد الفهري ذو القلبين، والزوجة المظاهر عنها كالأم ودعي الرجل ابنه ولذلك كانوا يقولون لزيد بن حارثة الكلبي عتيق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن محمد، أو المراد نفي الأمومة والبنوة عن المظاهر عنها والمتبنى ونفي القلبين لتمهيد أصل يحملان عليه. والمعنى كما لم يجعل الله قلبين في جوف لأدائه إلى التناقض وهو أن يكون كل منهما أصلاً لكل القوى وغير أصل لم يجعل الزوجة والدعي اللذين لا ولادة بينهما وبينه أمه وابنه اللذين بينهما وبينه ولادة، وقرأ أبو عمرو «اللاي» بالياء وحده على أن أصله اللاء بهمزة فخففت وعن الحجازيين مثله، وعنهما وعن يعقوب بالهمز وحده، وأصل تظهرون تتظهرون فأدغمت التاء الثانية في الظاء. وقرأ ابن عامر تظاهرون بالإدغام وحمزة والكسائي بالحذف وعاصم تَظاهَرُونَ من ظاهر، وقرئ «تظهرون» من ظهر بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد و «تظهرون» من الظهور. ومعنى الظهار: أن يقول للزوجة: أنت علي(4/224)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
كظهر أمي، مأخوذ من الظهر باعتبار اللفظ كالتلبية من لبيك وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب لأنه كان طلاقاً في الجاهلية وهو في الإِسلام يقتضي الطلاق أو الحرمة إلى أداء الكفارة كما عدي آلى بها، وهو بمعنى حلف وذكر الظهر للكناية عن البطن الذي هو عموده فإن ذكره يقارب ذكر الفرج، أو للتغليظ في التحريم فإنهم كانوا يحرمون إتيان المرأة وظهرها إلى السماء، وأدعياء جمع دعي على الشذوذ وكأنه شبه بفعيل بمعنى فاعل فجمع جمعه. ذلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر أو إلى الأخير. قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ
لا حقيقة له في الأعيان كقول الهاذي. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ما له حقيقة عينية مطابقة له. وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ سبيل الحق.
[سورة الأحزاب (33) : آية 5]
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أنسبوهم إليهم، وهو أفراد للمقصود من أقواله الحقة وقوله: هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ تعليل له، والضمير لمصدر ادْعُوهُمْ وأَقْسَطُ افعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقاً من القسط بمعنى العدل ومعناه البالغ في الصدق. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فتنسبوهم إليهم. فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهم إخوانكم في الدين. وَمَوالِيكُمْ وأولياؤكم فيه فقولوا هذا أخي ومولاي بهذا التأويل. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهي أو بعده على النسيان أو سبق اللسان. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم أو ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً لعفوه عن المخطئ. واعلم أن التبني لا عبرة به عندنا وعند أبي حنيفة يوجب عتق مملوكه ويثبت النسب لمجهوله الذي يمكن إلحاقه به.
[سورة الأحزاب (33) : آية 6]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في الأمور كلها فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس، فلذلك أطلق فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأمره أنفذ عليهم من أمرها وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها.
روي: أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال ناس: نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت.
وقرئ «وهو أب لهم» أي في الدين فإن كل نبي أب لأمته من حيث أنه أصل فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوة. وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ منزلات منزلتهن في التحريم واستحقاق التعظيم وفيما عدا ذلك فكالأجنبيات، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: لسنا أمهات النساء. وَأُولُوا الْأَرْحامِ وذوو القرابات. بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في التوارث وهو نسخ لما كان في صدر الإِسلام من التوارث بالهجرة والموالاة في الدين. فِي كِتابِ اللَّهِ في اللوح أو فيما أنزل، وهو هذه الآية أو آية المواريث أو فيم فرض الله. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ بيان لأولي الأرحام، أو صلة لأولي أي أولوا الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة. إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً استثناء من أعم ما يقدر الأولوية فيه من النفع والمراد بفعل المعروف التوصية أو منقطع كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً كان ما ذكر في الآيتين ثابتاً في اللوح أو القرآن. وقيل في التوراة.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ مقدر باذكر وميثاقهم عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم.
وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خصهم بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع وقدم نبينا(4/225)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
عليه الصلاة والسلام تعظيماً له وتكريماً لشأنه. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً عظيم الشأن أو مؤكداً باليمين، والتكرير لبيان هذا الوصف تعظيما له.
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي فعلنا ذلك ليسأل الله يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهدهم عما قالوه لقومهم، أو تصديقهم إياهم تبكيتاً لهم أو المصدقين لهم عن تصديقهم فإن مصدق الصادق صادق، أو المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم. وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً عطف على أَخَذْنا من جهة أن بعثة الرسل وأخذ الميثاق منهم لإِثابة المؤمنين، أو على ما دل عليه ليسأل كأنه قال فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين.
[سورة الأحزاب (33) : آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير وكانوا زهاء اثني عشر ألفاً. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً ريح الصبا. وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها الملائكة.
روي أنه عليه الصلاة والسلام لما سمع بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة ثم خرج إليهم في ثلاثة آلاف والخندق بينه وبينهم، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى بعث الله عليهم ريحاً باردة في ليلة شاتية، فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأطفأت نيرانهم وقلعت خيامهم وماجت الخيل بعضها في بعض وكبرت الملائكة في جوانب العسكر، فقال طليحة بن خويلد الأسدي أما محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا من غير قتال.
وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من حفر الخندق، وقرأ البصريان بالياء أي بما يعمل المشركون من التحزب والمحاربة. بَصِيراً رائياً.
[سورة الأحزاب (33) : آية 10]
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
إِذْ جاؤُكُمْ بدل من إذ جاءتكم. مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان. وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش. وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصاً. وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ رعباً فإن الرئة تنتفخ من شدة الروع فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، وهي منتهى الحلقوم مدخل الطعام والشراب. وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا الأنواع من الظن فظن المخلصون الثبت القلوب أن الله منجز وعده في إعلاء دينه، أو ممتحنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال والضعاف القلوب والمنافقون ما حكي عنهم، والألف مزيدة في أمثاله تشبيهاً للفواصل بالقوافي وقد أجرى نافع وابن عامر وأبو بكر فيها الوصل مجرى الوقف، ولم يزدها أبو عمرو وحمزة ويعقوب مطلقا وهو القياس.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 11 الى 12]
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12)
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ اختبروا فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل. وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً من شدة الفزع وقرئ «زِلْزَالاً» بالفتح.
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف اعتقاد. مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من الظفر وإعلاء الدين. إِلَّا غُرُوراً وعدا باطلاً. قيل قائله معتب بن قشير قال يعدنا محمد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً ما هذا إلا وعد غرور.(4/226)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)
[سورة الأحزاب (33) : آية 13]
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يعني أوس بن قيظي وأتباعه. يا أَهْلَ يَثْرِبَ أهل المدينة، وقيل هو اسم أرض وقعت المدينة في ناحية منها. لاَ مُقامَ لا موضع قيام. لَكُمْ ها هنا، وقرأ حفص بالضم على أنه مكان أو مصدر من أقام. فَارْجِعُوا إلى منازلكم هاربين، وقيل المعنى لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى الشرك وأسلموه لتسلموا، أو لا مقام لكم بيثرب فارجعوا كفاراً ليمكنكم المقام بها. وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ للرجوع. يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ غير حصينة وأصلها الخلل، ويجوز أن يكون تخفيف العورة من عورت الدار إذا اختلت وقد قرئ بها. وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ بل هي حصينة. إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي وما يريدون بذلك إلا الفرار من القتال.
[سورة الأحزاب (33) : آية 14]
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ دخلت المدينة أو بيوتهم. مِنْ أَقْطارِها من جوانبها وحذف الفاعل للإِيماء بأن دخول هؤلاء المتحزبين عليهم ودخول غيرهم من العساكر سيان في اقتضاء الحكم المرتب عليه. ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ الردة ومقاتلة المسلمين. لَآتَوْها لأعطوها، وقرأ الحجازيان بالقصر بمعنى لجاءوها وفعلوها. وَما تَلَبَّثُوا بِها بالفتنة أو بإعطائها. إِلَّا يَسِيراً ريثما يكون السؤال والجواب، وقيل ما لبثوا بالمدينة بعد تمام الارتداد إلا يسيراً.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 15 الى 16]
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16)
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ يعني بني حارثة عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد حين فشلوا ثم تابوا أن لا يعودوا لمثله. وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به مجازى عليه.
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ فإنه لا بد لكل شخص من حتف أنف، أو قتل في وقت معين سبق به القضاء وجرى عليه القلم. وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي وإن نفعكم الفرار مثلا فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعاً، أو زماناً قليلاً.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 17 الى 18]
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كما في قوله:
متقلداً سيفاً ورمحاً أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينفعهم. وَلا نَصِيراً يدفع الضر عنهم.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ المثبطين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم المنافقون. وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ من(4/227)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
ساكني المدينة. هَلُمَّ إِلَيْنا قربوا أنفسكم إلينا وقد ذكر أصله في «الأنعام» . وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا إلا إتياناً أو زماناً أو بأساً قليلاً، فإنهم يعتذرون ويتثبطون ما أمكن لهم، أو يخرجون مع المؤمنين ولكن لا يقاتلون إلا قليلاً كقوله مَّا قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا وقيل إنه من تتمة كلامهم ومعناه لا يأتي أصحاب محمد حرب الأحزاب ولا يقاومونهم إلا قليلا.
[سورة الأحزاب (33) : آية 19]
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بخلاء عليكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله أو الظفر أو الغنيمة، جمع شحيح ونصبها على الحال من فاعل يَأْتُونَ أو الْمُعَوِّقِينَ أو على الذم. فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ في أحداقهم. كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ كنظر المغشي عليه أو كدوران عينيه، أو مشبهين به أو مشبهة بعينه. مِنَ الْمَوْتِ من معالجة سكرات الموت خوفاً ولواذاً بك. فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ وحيزت الغنائم. سَلَقُوكُمْ ضربوكم. بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ ذربة يطلبون الغنيمة، والسلق البسط بقهر باليد أو باللسان.
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ نصب على الحال أو الذم، ويؤيده قراءة الرفع وليس بتكرير لأن كلا منهما مقيد من وجه. أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا إخلاصاً. فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ فأظهر بطلانها إذ لم تثبت لهم أعمال فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقهم. وَكانَ ذلِكَ الإِحباط. عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هيناً لتعلق الإرادة به وعدم ما يمنعه عنه.
[سورة الأحزاب (33) : آية 20]
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَّا قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي هؤلاء لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا ففروا إلى داخل المدينة. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة ثانية. يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ تمنوا أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب. يَسْئَلُونَ كل قادم من جانب المدينة. عَنْ أَنْبائِكُمْ عما جرى عليكم.
وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال. مَّا قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء وخوفاً من التعيير.
[سورة الأحزاب (33) : آية 21]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد، أو هو في نفسه قدوة يحسن التأسي به كقولك في البيضة عشرون منا حديداً أي هي في نفسها هذا القدر من الحديد، وقرأ عاصم بضم الهمزة وهو لغة فيه. لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي ثواب الله أو لقاءه ونعيم الآخرة، أو أيام الله واليوم الآخر خصوصاً. وقيل هو كقولك أرجو زيداً وفضله، فإن الْيَوْمَ الْآخِرَ داخل فيها بحسب الحكم والرجاء يحتمل الأمل والخوف ولِمَنْ كانَ صلة لحسنة أو صفة لها. وقيل بدل من لَكُمْ والأكثر على أن ضمير المخاطب لا يبدل منه. وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً وقرن بالرجاء كثرة الذكر المؤدية إلى ملازمة الطاعة، فإن المؤتسي بالرسول من كان كذلك.
[سورة الأحزاب (33) : آية 22]
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22)(4/228)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ الآية،
وقوله عليه الصلاة والسلام «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم» .
وقوله عليه الصلاة والسلام: إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر»
وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الراء وفتح الهمزة. وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ظهر صدق خبر الله ورسوله أو صدقاً في النصرة والثواب كما صدقا في البلاء، وإظهار الاسم للتعظيم. وَما زادَهُمْ فيه ضمير لَمَّا رَأَوُاْ، أو الخطب أو البلاء. إِلَّا إِيماناً بالله ومواعيده. وَتَسْلِيماً لأوامره ومقاديره.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 23 الى 24]
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ من الثبات مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمقاتلة لإِعلاء الدين من صدقني إذا قال لك الصدق، فإن المعاهد إذا وفى بعهده فقد صدق فيه. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر، والنحب النذر واستعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة كعثمان وطلحة رضي الله عنهما. وَما بَدَّلُوا العهد ولا غيروه. تَبْدِيلًا شيئاً من التبديل.
روي أن طلحة ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد حتى أصيبت يده فقال عليه الصلاة والسلام: «أوجب طلحة»
وفيه تعريض لأهل النفاق ومرض القلب بالتبديل، وقوله:
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ تعليل للمنطوق والمعرض به، فكأن المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء كما قصد المخلصون بالثبات والوفاء العاقبة الحسنى، والتوبة عليهم مشروطة بتوبتهم أو المراد بها التوفيق للتوبة. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لمن تاب.
[سورة الأحزاب (33) : آية 25]
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني الأحزاب. بِغَيْظِهِمْ متغيظين. لَمْ يَنالُوا خَيْراً غير ظافرين وهما حالان بتداخل أو تعاقب. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح والملائكة. وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا على إحداث ما يريده. عَزِيزاً غالباً على كل شيء.
[سورة الأحزاب (33) : آية 26]
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ ظاهروا الأحزاب. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني قريظة. مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم جمع صيصية وهي ما يتحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبى وشوكة الديك. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الخوف وقرئ بالضم. فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وقرئ بضم السين
روي: أن جبريل أتى رسول الله صلّى الله عليهما وسلّم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب فقال: أتنزع لأمتك والملائكة لم يضعوا السلاح إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فأذن في الناس أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم إحدى وعشرين أو خمساً وعشرين حتى جهدهم الحصار فقال لهم: تنزلون على(4/229)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
حكمي فأبوا فقال: على حكم سعد بن معاذ فرضوا به، فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم، فكبر النبي عليه الصلاة والسلام فقال: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، فقتل منهم ستمائة أو أكثر وأسر منهم سبعمائة.
[سورة الأحزاب (33) : آية 27]
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ مزارعهم. وَدِيارَهُمْ حصونهم. وَأَمْوالَهُمْ نقودهم ومواشيهم وأثاثهم.
روي أنه عليه الصلاة والسلام جعل عقارهم للمهاجرين فتكلم فيه الأنصار فقال: إنكم في منازلكم وقال عمر رضي الله عنه: أما تخمس كما خمست يوم بدر فقال: لا إنما جعلت هذه لي طعمة.
وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها كفارس والروم، وقيل خيبر وقيل كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً فيقدر على ذلك.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا السعة والتنعم فيها. وَزِينَتَها زخارفها.
فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ أعطكن المتعة. وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا طلاقاً من غير ضرار وبدعة.
روي أنهن سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة فنزلت. فبدأ بعائشة رضي الله عنها فخيرها فاختارت الله ورسوله، ثم اختارت الباقيات اختيارها فشكر الله لهن ذلك فأنزل
لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وتعليق التسريح بإرادتهن الدنيا وجعلها قسيماً لإِرادتهن الرسول يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم تطلق خلافاً لزيد والحسن ومالك وإحدى الروايتين عن علي، ويؤيده
قول عائشة رضي الله عنها «خيرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاخترناه» .
ولم يعده طلاقاً وتقديم التمتع على التسريح المسبب عنه من الكرم وحسن الخلق. قيل لأن الفرقة كانت بإرادتهن كاختيار المخيرة نفسها فإنه طلقة رجعية عندنا وبائنة عند الحنفية، واختلف في وجوبه للمدخول بها وليس فيه ما يدل عليه، وقرئ «أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ» بالرفع على الاستئناف.
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً يستحقر دونه الدنيا وزينتها ومن للتبيين لأنهن كلهن كن محسنات.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 30 الى 31]
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ بكبيرة. مُبَيِّنَةٍ ظاهر قبحها على قراءة ابن كثير وأبي بكر والباقون بكسر الياء. يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه، لأن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد، وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم وقرأ البصريان «يضعف» على البناء للمفعول، ورفع الْعَذابُ وابن كثير وابن عامر «نضعف» بالنون وبناء الفاعل ونصب الْعَذابُ. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا يمنعه عن التضعيف كونهن نساء النبي وكيف وهو سببه.
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ومن يدم على الطاعة. لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ولعل ذكر الله للتعظيم أو لقوله: وَتَعْمَلْ(4/230)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ
مرة على الطاعة ومرة على طلبهن رضا النبي عليه الصلاة والسلام بالقناعة وحسن المعاشرة. وقرأ حمزة والكسائي «ويعمل» بالياء حملاً على لفظ «من ويؤتها» على أن فيه ضمير اسم الله، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً في الجنة زيادة على أجرها.
[سورة الأحزاب (33) : آية 32]
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أصل أحد وحد بمعنى الواحد، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد والكثير، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ مخالفة حكم الله ورضا رسوله. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فلا تجئن بقولكن خاضعاً ليناً مثل قول المريبات. فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ فجور، وقرئ بالجزم عطفاً على محل فعل النهي على أنه نهى مريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول. وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسناً بعيداً عن الريبة.
[سورة الأحزاب (33) : آية 33]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ من وقر يقر وقاراً أو من قر يقر حذفت الأولى من راءي اقررن ونقلت كسرتها إلى القاف، فاستغني عن همزة الوصل ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح من قررت أقر وهو لغة فيه، ويحتمل أن يكون من قار يقار إذا اجتمع. وَلا تَبَرَّجْنَ ولا تتبخترن في مشيكن. تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى تبرجاً مثل تبرج النساء في أيام الجاهلية القديمة، وقيل هي ما بين آدم ونوح، وقيل الزمان الذي ولد فيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام كانت المرأة تلبس درعاً من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقيل الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإِسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإِسلام ويعضده
قوله عليه الصلاة والسلام لأبي الدرداء رضي الله عنه «إن فيك جاهلية، قال جاهلية كفر أو إسلام قال بل جاهلية كفر» .
وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر ما أمركن به ونهاكن عنه. إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الذنب المدنس لعرضكم وهو تعليل لأمرهن ونهيهن على الاستئناف ولذلك عمم الحكم. أَهْلَ الْبَيْتِ نصب على النداء أو المدح.
وَيُطَهِّرَكُمْ عن المعاصي. تَطْهِيراً واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير للتنفير عنها، وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضي الله عنهم لما
روي «أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة رضي الله عنها فأدخلها فيه، ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما فيه ثم قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» ،
والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت لا أنه ليس غيرهم.
[سورة الأحزاب (33) : آية 34]
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ من الكتاب الجامع بين الأمرين وهو تذكير بما أنعم الله عليهن من حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإِيمان والحرص على الطاعة حثاً على الانتهاء والائتمار فيما كلفن به. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك خيركن ووعظكن، أو يعلم من يصلح لنبوته ومن يصلح أن يكون أهل بيته.(4/231)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الداخلين في السلم المنقادين لحكم الله. وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المصدقين بما يجب أن يصدق به. وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ المداومين على الطاعة. وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في القول والعمل وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على الطاعات وعن المعاصي. وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم. وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ بما وجب في مالهم. وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ الصوم المفروض. وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عن الحرام. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ بقلوبهم وألسنتهم. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً لما اقترفوا من الصغائر لأنهن مكفرات. وَأَجْراً عَظِيماً على طاعتهم، والآية وعد لهن ولأمثالهم على الطاعة والتدرع بهذه الخصال.
روي: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم قلن: يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن بخير فما فينا خير نذكر به فنزلت.
وقيل: لما نزل فيهن ما نزل قال نساء المسلمين فما نزل فينا شيء فنزلت. وعطف الاناث على الذكور لاختلاف الجنسين وهو ضروري، وعطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين فليس بضروري ولذلك ترك في قوله مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ وفائدته الدلالة على أن إعداد المعد لهم للجمع بين هذه الصفات.
[سورة الأحزاب (33) : آية 36]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ما صح له. إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أي قضى رسول الله، وذكر الله لتعظيم أمره والإِشعار بأن قضاءه قضاء الله، لأنه نزل في زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله. وقيل في أم كلثوم بنت عقبة وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم فزوجها من زيد. أَن تَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ أن يختاروا من أمرهم شيئاً بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعاً لاختيار الله ورسوله، والخيرة ما يتخير وجمع الضمير الأول لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي، وجمع الثاني للتعظيم. وقرأ الكوفيون وهشام «يَكُونَ» بالياء. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً بين الانحراف عن الصواب.
[سورة الأحزاب (33) : آية 37]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لعتقه واختصاصه. وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بما وفقك الله فيه وهو زيد بن حارثة. أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ زينب. وذلك:
أنه عليه الصلاة والسلام أبصرها بعد ما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال سبحان الله مقلب القلوب، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: ما لك أرابك منها شيء، فقال: لا والله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها لشرفها تتعظم علي، فقال له:
أمسك عليك زوجك. وَاتَّقِ اللَّهَ في أمرها فلا تطلقها ضراراً وتعللاً بتكبرها.
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وهو نكاحها إن طلقها أو إرادة طلاقها. وَتَخْشَى النَّاسَ تعييرهم إياك به. وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ إن(4/232)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
كان فيه ما يخشى، والواو للحال، وليست المعاتبة على الإِخفاء وحده فإنه حسن بل على الإخفاء مخافة قالة الناس وإظهار ما ينافي إضماره، فإن الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً حاجة بحيث ملها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها. زَوَّجْناكَها وقيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق مثل لا حاجة لي فيك. وقرئ «زوجتكها» ، والمعنى أنه أمر بتزويجها منه أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد. ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى تولى إنكاحي وأنتن زوجكن أولياؤكن. وقيل كان زيد السفير في خطبتها وذلك ابتلاء عظيم وشاهد بين على قوة إيمانه. لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً علة للتزويج، وهو دليل على أن حكمه وحكم الأمة واحد إلا ما خصه الدليل وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ أمره الذي يريده مَفْعُولًا مكوناً لا محالة كما كان تزويج زينب.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 الى 39]
مَّا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)
مَّا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قسم له وقدر من قولهم فرض له في الديوان، ومنه فروض العسكر لأرزاقهم. سُنَّةَ اللَّهِ سن ذلك سنة. فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ من الأنبياء، وهو نفي الحرج عنهم فيما أباح لهم. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً قضاء مقضياً وحكماً مبتوتاً.
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ صفة للذين خلوا أو مدح لهم منصوب أو مرفوع، وقرئ «رسالة الله» .
وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ تعريض بعد تصريح. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً كافياً للمخاوف أو محاسباً فينبغي أن لا يخشى إلا منه.
[سورة الأحزاب (33) : آية 40]
مَّا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
مَّا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ على الحقيقة فيثبت بينه وبينه ما بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها، ولا ينتقض عمومه بكونه أبا للطاهر والقاسم وإبراهيم لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال ولو بلغوا كانوا رجاله لا رجالهم. وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وكل رسول أبو أمته لا مطلقاً بل من حيث إنه شفيق ناصح لهم، واجب التوقير والطاعة عليهم وزيد منهم ليس بينه وبينه ولادة. وقرئ «رَسُولُ الله» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ولكن بالتشديد على حذف الخبر أي وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ من عرفتم أنه لم يعش له ولد ذكر.
وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وآخرهم الذي ختمهم أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح، ولو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون نبياً كما
قال عليه الصلاة والسلام في إبراهيم حين توفى: لو عاش لكان نبياً
، ولا يقدح فيه نزول عيسى بعده لأنه إذا نزل كان على دينه، مع أن المراد منه أنه آخر من نبىء. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيعلم من يليق بأن يختم به النبوة وكيف ينبغي شأنه.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 42]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً يغلب الأوقات ويعم الأنواع بما هو أهله من التقديس والتحميد والتهليل والتمجيد.
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أول النهار وآخره خصوصاً، وتخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات لكونهما مشهودين كأفراد التسبيح من جملة الأذكار لأنه العمدة فيها. وقيل الفعلان موجهان(4/233)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
إليهما. وقيل المراد بالتسبيح الصلاة.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 43 الى 44]
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ بالرحمة. وَمَلائِكَتُهُ بالاستغفار لكم والاهتمام بما يصلحكم، والمراد بالصلاة المشترك وهو العناية بصلاح أمركم وظهور شرفكم مستعار من الصلو. وقيل الترحم والانعطاف المعنوي مأخوذ من الصلاة المشتملة على الانعطاف الصوري الذي هو الركوع والسجود، واستغفار الملائكة ودعاؤهم للمؤمنين ترحم عليهم سيما وهو السبب للرحمة من حيث إنهم مجابو الدعوة. لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر والمعصية إلى نوري الإِيمان والطاعة. وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً حيث اعتنى بصلاح أمرهم وإنافة قدرهم واستعمل في ذلك ملائكته المقربين.
تَحِيَّتُهُمْ من إضافة المصدر إلى المفعول أي يحيون. يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ يوم لقائه عند الموت أو الخروج من القبور، أو دخول الجنة. سَلامٌ إخبار بالسلامة عن كل مكروه وآفة. وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً هي الجنة، ولعل اختلاف النظم لمحافظة الفواصل والمبالغة فيما هو أهم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 46]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على من بعثت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم ونجاتهم وضلالهم وهو حال مقدرة. وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً.
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ إلى الإِقرار به وبتوحيده وما يجب الإِيمان به من صفاته. بِإِذْنِهِ بتيسيره وأطلق له من حيث أنه من أسبابه وقيد به الدعوة إيذاناً بأنه أمر صعب لا يتأتى إلا بمعونة من جناب قدسه. وَسِراجاً مُنِيراً يستضاء به عن ظلمات الجهالات ويقتبس من نوره أنوار البصائر.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 47 الى 48]
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً على سائر الأمم أو على جزاء أعمالهم، ولعله معطوف على محذوف مثل فراقب أحوال أمتك.
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ تهييج له على ما هو عليه من مخالفتهم. وَدَعْ أَذاهُمْ إيذاءهم إياك ولا تحتفل به، أو إيذاءك إياهم مجازاة أو مؤاخذة على كفرهم، ولذلك قيل إنه منسوخ. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإنه يكفيكهم. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولاً إليه الأمر في الأحوال كلها، ولعله تعالى لما وصفه بخمس صفات قابل كلا منها بخطاب يناسبه، فحذف مقابل الشاهد وهو الأمر بالمراقبة لأن ما بعده كالتفصيل له، وقابل المبشر بالأمر ببشارة المؤمنين والنذير بالنهي عن مراقبة الكفار والمبالاة بأذاهم والداعي إلى الله بتيسيره بالأمر بالتوكل عليه والسراج المنير بالاكتفاء به فإن من أناره الله برهاناً على جميع خلقه كان حقيقاً بأن يكتفى به عن غيره.
[سورة الأحزاب (33) : آية 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)(4/234)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ تجامعوهن، وقرأ حمزة والكسائي بألف وضم التاء. فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ أيام يتربصن فيها بأنفسهن. تَعْتَدُّونَها تستوفون عددها من عددت الدراهم فاعتدها كقولك: كلته فاكتاله، أو تعدونها. والإِسناد إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق الأزواج كما أشعر به فما لكم، وعن ابن كثير تَعْتَدُّونَها مخففاً على إبدال إحدى الدالين بالياء أو على أنه من الاعتداء بمعنى تعتدون فيها، وظاهره يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة وتخصيص المؤمنات والحكم عام للتنبيه على أن من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيرا لنطفته، وفائدة ثم إزاحة ما عسى أن يتوهم تراخي الطلاق ريثما تمكن الإِصابة كما يؤثر في النسب يؤثر في العدة. فَمَتِّعُوهُنَّ أي إن لم يكن مفروضاً لها فإن الواجب للمفروض لها نصف المفروض دون المتعة ويجوز أن يؤول التمتيع بما يعمهما، أو الأمر بالمشترك بين الوجوب والندب فإن المتعة سنة للمفروض لها. وَسَرِّحُوهُنَّ أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة. سَراحاً جَمِيلًا من غير ضرار ولا منع حق، ولا يجوز تفسيره بالطلاق السني لأنه مرتب على الطلاق والضمير لغير المدخول بهن.
[سورة الأحزاب (33) : آية 50]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ مهورهن لأن المهر أجر على البضع، وتقييد الإِحلال له بإعطائها معجلة لا لتوقف الحل عليه بل لإيثار الأفضل له كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية بقوله: وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها، وتقييد القرائب بكونها مهاجرات معه في قوله: وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ويحتمل تقييد الحل بذلك في حقه خاصة ويعضده
قول أم هانئ بنت أبي طالب: خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء.
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ نصب بفعل يفسره ما قبله أو عطف على ما سبق، ولا يدفعه التقييد بأن التي للاستقبال فإن المعنى بالإحلال الإعلام بالحل أي: أعلمناك حل امرأة مؤمنة تهب لك نفسها ولا تطلب مهراً إن اتفق ولذلك نكرها. واختلف في اتفاق ذلك والقائل به ذكر أربعاً: ميمونة بنت الحرث، وزينب بنت خزيمة الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم. وقرئ «أَن» بالفتح أي لأن وهبت أو مدة أن وهبت كقولك: اجلس ما دام زيد جالساً. إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فإن هبتها نفسها منه لا توجب له حلها إلا بإرادته نكاحها، فإنها جارية مجرى القبول والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي مكرراً، ثم الرجوع إليه في قوله: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إيذان بأنه مما خص به لشرف نبوته وتقرير لاستحقاق الكرامة لأجله. واحتج به أصحابنا على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة والسلام بالمعنى فيختص باللفظ، والاستنكاح طلب النكاح والرغبة فيه، وخالِصَةً مصدر مؤكد أي خلص إحلالها أو إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصاً لك، أو حال من الضمير في وَهَبَتْ أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة. قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ من شرائط العقد ووجوب القسم والمهر بالوطء حيث لم يسم. وَما مَلَكَتْ(4/235)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
أَيْمانُهُمْ
من توسيع الأمر فيها أنه كيف ينبغي أن يفرض عليهم، والجملة اعتراض بين قوله: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ومتعلقه وهو خالِصَةً للدلالة على أن الفرق بينه وبين الْمُؤْمِنِينَ في نحو ذلك لا لمجرد قصد التوسيع عليه، بل لمعان تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة وبالعكس أخرى. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما يعسر التحرز عنه. رَحِيماً بالتوسعة في مظان الحرج.
[سورة الأحزاب (33) : آية 51]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ تؤخرها وتترك مضاجعتها. وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وتضم إليك من تشاء وتضاجعها، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص تُرْجِي بالياء والمعنى واحد. وَمَنِ ابْتَغَيْتَ طلبت. مِمَّنْ عَزَلْتَ طلقت بالرجعة. فَلا جُناحَ عَلَيْكَ في شيء من ذلك.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعاً، لأن حكم كلهن فيه سواء، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلاً منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهن، وقرئ «تَقَرَّ» بضم التاء و «أَعْيُنُهُنَّ» بالنصب و «تَقَرَّ» بالبناء للمفعول و «كُلُّهُنَّ» تأكيد نون يَرْضَيْنَ، وقرئ بالنصب تأكيداً لهن. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ فاجتهدوا في إحسانه. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور. حَلِيماً لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق بأن يتقى.
[سورة الأحزاب (33) : آية 52]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي، وقرأ البصريان بالتاء. مِنْ بَعْدُ من بعد التسع وهو في حقه كالأربع في حقنا، أو من بعد اليوم حتى لو ماتت واحدة لم يحل له نكاح أخرى. وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ فتطلق واحدة وتنكح مكانها أخرى ومِنْ مزيدة لتأكيد الاستغراق. وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ حسن الأزواج المستبدلة، وهو حال من فاعل تَبَدَّلَ دون مفعوله وهو مِنْ أَزْواجٍ لتوغله في التنكير، وتقديره مفروضاً إعجابك بهن واختلف في أن الآية محكمة أو منسوخة بقوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ على المعنى الثاني فإنه وإن تقدمها قراءة فهو مسبوق بها نزولاً. وقيل المعنى لا يحل لك النساء من بعد الأجناس الأربعة اللاتي نص على إحلالهن لك ولا أن تبدل بهن أزواجاً من أجناس أخر.
إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج والإِماء، وقيل منقطع. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً فتحفظوا أمركم ولا تتخطوا ما حد لكم.
[سورة الأحزاب (33) : آية 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)
.(4/236)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذوناً لكم.
إِلى طَعامٍ متعلق ب يُؤْذَنَ لأنه متضمن معنى يدعى للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن كما أشعر به قوله: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ غير منتظرين وقته، أو إدراكه حال من فاعل لاَ تَدْخُلُوا أو المجرور في لَكُمْ. وقرئ بالجر صفة لطعام فيكون جارياً على غير من هوله بلا إبراز الضمير، وهو غير جائز عند البصريين وقد أمال حمزة والكسائي إناه لأنه مصدر أنى الطعام إذا أدرك. وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا تفرقوا ولا تمكثوا، ولأنه خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإِدراكه، مخصوصة بهم وبأمثالهم وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإِذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لمهم. وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ لحديث بعضكم بعضاً، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على ناظِرِينَ أو مقدر بفعل أي: ولا تدخلوا أو ولا تمكثوا مستأنسين. إِنَّ ذلِكُمْ اللبث كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه. فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من إخراجكم بقوله: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ يعني أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء كما لم يتركه الله ترك الحيي فأمركم بالخروج، وقرئ «لاَ يَسْتَحْىِ» بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء. وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً شيئا ينتفع به. فَسْئَلُوهُنَّ المتاع. مِنْ وَراءِ حِجابٍ ستر.
روي «أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت» .
وقيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل يد عائشة رضي الله عنها فكره النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك فنزلت.
ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الخواطر النفسانية الشيطانية. وَما كانَ لَكُمْ وما صح لكم. أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أن تفعلوا ما يكرهه. وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً من بعد وفاته أو فراقه، وخص التي لم يدخل بها، لما
روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر رضي الله عنه فهم برجمها، فأخبر بأنه عليه الصلاة والسلام فارقها قبل أن يمسها فتركها من غير نكير.
إِنَّ ذلِكُمْ يعني إيذاءه ونكاح نسائه. كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً ذنباً عظيماً، وفيه تعظيم من الله لرسوله وإيجاب لحرمته حياً وميتاً ولذلك بالغ في الوعيد عليه فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 54 الى 55]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لاَّ جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً كنكاحهن على ألسنتكم. أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيعلم ذلك فيجازيكم به، وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل ومبالغة في الوعيد.
لاَّ جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ استثناء لمن لا يجب الاحتجاب عنهم.
روي: أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله أو نكلمهن أيضاً من وراء حجاب فنزلت.
وإنما لم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين ولذلك سمى العم أبا في قوله وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ أو لأنه كره ترك الاحتجاب عنهما مخافة أن يصفا لأبنائهما. وَلا نِسائِهِنَّ يعني نساء المؤمنات. وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء، وقيل من الإِماء خاصة وقد مر في سورة «النور» . وَاتَّقِينَ اللَّهَ فيما أمرتن به. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لا يخَفى عليه خافية.
[سورة الأحزاب (33) : آية 56]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
.(4/237)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ اعتنوا أنتم أيضاً فإنكم أولى بذلك وقولوا اللهم صلي على محمد. وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً وقولوا السلام عليك أيها النبي وقيل وانقادوا لأوامره، والآية تدل على وجوب الصلاة والسلام عليه في الجملة، وقيل تجب الصلاة كلما جرى ذكره
لقوله عليه الصلاة والسلام «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي»
وقوله «من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله»
، وتجوز الصلاة على غيره تبعاً. وتكره استقلالاً لأنه في العرف صار شعاراً لذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولذلك كره أن يقال محمّد عز وجل وإن كان عزيزاً وجليلاً.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 الى 58]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يرتكبون ما يكرهانه من الكفر والمعاصي، أو يؤذون رسول الله بكسر رباعيته وقولهم شاعر مجنون ونحو ذلك وذكر الله للتعظيم له. ومن جوز إطلاق اللفظ على معنيين فسره بالمعنيين باعتبار المعمولين. لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً يهينهم مع الإِيلام.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بغير جناية استحقوا بها الإِيذاء. فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ظاهراً. قيل إنها نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا رضي الله عنه، وقيل في أهل الإِفك، وقيل في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات.
[سورة الأحزاب (33) : آية 59]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة، ومِنْ للتبعيض فإن المرأة ترخي بعض جلبابها وتتلفع ببعض ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ يميزن من الإِماء والقينات. فَلا يُؤْذَيْنَ فلا يؤذيهن أهل الريبة بالتعرض لهن. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف. رَحِيماً بعباده حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها.
[سورة الأحزاب (33) : آية 60]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن نفاقهم. وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف إيمان وقلة ثبات عليه، أو فجور عن تزلزلهم في الدين أو فجورهم. وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ يرجفون أخبار السوء عن سرايا المسلمين ونحوها من إرجافهم، وأصله التحريك من الرجفة وهي الزلزلة سمي به الإِخبار الكاذب لكونه متزلزلاً غير ثابت. لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم، أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء. ثُمَّ لاَ يُجاوِرُونَكَ عطف على لَنُغْرِيَنَّكَ، وثُمَّ للدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول أعظم ما يصيبهم. فِيها في المدينة. إِلَّا قَلِيلًا زماناً أو جواراً قليلاً.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 61 الى 62]
مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
مَلْعُونِينَ نصب على الشتم أو الحال والاستثناء شامل له أيضاً أي: لاَ يُجاوِرُونَكَ إلا ملعونين، ولا(4/238)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
يجوز أن ينتصب عن قوله: أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها.
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مصدر مؤكد أي سن الله ذلك في الأمم الماضية، وهو أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإِرجاف ونحوه أَيْنَما ثُقِفُوا. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لأنه لا يبدلها ولا يقدر أحد أن يبدلها.
[سورة الأحزاب (33) : آية 63]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63)
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ عن وقت قيامها استهزاء وتعنتاً او امتحاناً. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لم يطلع عليه ملكاً ولا نبياً. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً شيئاً قريباً أو تكون الساعة عن قريب وانتصابه على الظرف، ويجوز أن يكون التذكير لأن السَّاعَةِ في معنى اليوم، وفيه تهديد للمستعجلين وإسكات للمتعنتين.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 64 الى 66]
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66)
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ناراً شديدة الاتقاد.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا يحفظهم. وَلا نَصِيراً يدفع العذاب عنهم.
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ تصرف من جهة إلى جهة كاللحم يشوى بالنار، أو من حال إلى حال، وقرئ «تَقَلُّبُ» بمعنى تتقلب و «تَقَلُّبُ» ومتعلق الظرف. يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا فلن نبتلي بهذا العذاب.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 67 الى 68]
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا يعنون قادتهم الذين لقنوهم الكفر، وقرأ ابن عامر ويعقوب «ساداتنا» على جمع الجمع للدلالة على الكثرة. فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا بما زينوا لنا.
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ مثلي ما آتيتنا منه لأنهم ضلوا وأضلوا. والعنهم لَعْناً كَثِيراً كثير العدد، وقرأ عاصم بالباء أي لعناً هو أشد اللعن وأعظمه.
[سورة الأحزاب (33) : آية 69]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا فأظهر براءته من مقولهم يعني مؤداه ومضمونه، وذلك أن قارون حرض امرأة على قذفه بنفسها فعصمه الله كما مر في «القصص» ، او اتهمه ناس بقتل هارون لما خرج معه إلى الطور فمات هناك، فحملته الملائكة ومروا به حتى رأوه غير مقتول. وقيل أحياه الله فأخبرهم ببراءته، أو قذفوه بعيب في بدنه من برص أو أدرة لفرط تستره حياء فأطلعهم الله على أنه بريء منه. وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ذا قربة ووجاهة، وقرئ «وكان عبد الله وجيهاً» .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 70 الى 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في ارتكاب ما يكرهه فضلاً عما يؤذي رسوله. وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً(4/239)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
قاصداً إلى الحق من سد يسد سداداً، والمراد النهي عن ضده كحديث زينب من غير قصد.
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ يوفقكم للأعمال الصالحة، أو يصلحها بالقبول والإِثابة عليها. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأوامر والنواهي. فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً يعيش في الدنيا حميداً وفي الآخرة سعيدا.
[سورة الأحزاب (33) : آية 72]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء، والمعنى أنها لعظمة شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها، وأشفقن منها وحملها الإنسان مع ضعف بنيته ورخاوة قوته لا جرم فاز الراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين. إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً حيث لم يف بها ولم يراع حقها. جَهُولًا بكنه عاقبتها، وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب. وقيل المراد ب الْأَمانَةَ الطاعة التى تعم الطبيعية والاختيارية، وبعرضها استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره، وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته، فيكون الإِباء عنه اتياناً بما يمكن أن يتأتى منه والظلم والجهالة الخيانة والتقصير. وقيل إنه تعالى لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهماً وقال لها: إني فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني فيها، وناراً لمن عصاني، فقلن نحن مسخرات على ما خلقتنا لا نحتمل فريضة ولا نبتغي ثواباً ولا عقاباً، ولما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله، وكان ظلوماً لنفسه بتحمله ما يشق عليها جهولاً بوخامة عاقبته، ولعل المراد ب الْأَمانَةَ العقل أو التكليف، وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن، وبإبائهن الإِباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد، وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوماً جهولاً لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية، وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمناً على القوتين حافظاً لهما عن التعدي ومجاوزة الحد، ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما.
[سورة الأحزاب (33) : آية 73]
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ تعليل للحمل من حيث إنه نتيجته كالتأديب للضرب في ضربته تأديباً، وذكر التوبة في الوعد إشعار بأنه كونهم ظلوماً جهولاً في جبلتهم لا يخليهم عن فرطات. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً حيث تاب عن فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم.
قال عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله أو ما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر» .(4/240)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
(34) سورة سبأ
مكية وقيل إلا قوله: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الآية، وآيها أربع وخمسون آية
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقاً ونعمة، فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته وعلى تمام نعمته. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ لأن ما في الآخرة أيضاً كذلك، وليس هذا من عطف المقيد على المطلق فإن الوصف بما يدل على أنه المنعم بالنعم الدنيوية قيد الحمد بها، وتقديم الصلة للاختصاص فإن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة. وَهُوَ الْحَكِيمُ الذي أحكم أمور الدارين. الْخَبِيرُ ببواطن الأشياء.
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ كالغيث ينفذ في موضع وينبع في آخر، وكالكنوز والدفائن والأموات. وَما يَخْرُجُ مِنْها كالحيوان والنبات والفلزات وماء العيون. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالملائكة والكتب والمقادير والأرزاق والأنداء والصواعق. وَما يَعْرُجُ فِيها كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والأدخنة. وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها، أو في الآخرة مع ما له من سوابق هذه النعم الفائتة للحصر.
[سورة سبإ (34) : آية 3]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ إنكار لمجيئها أو استبطاء استهزاء بالوعد به. قُلْ بَلى رد لكلامهم وإثبات لما نفوه. وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ تكرير لإِيجابه مؤكداً بالقسم مقرراً لوصف المقسم به بصفات تقرر إمكانه وتنفي استبعاده على ما مر غير مرة، وقرأ حمزة والكسائي «علام الغيب» للمبالغة، ونافع وابن عامر ورويس عالِمِ الْغَيْبِ بالرفع على أنه خبر محذوف أو مبتدأ خبره. لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وقرأ الكسائي لاَ يَعْزُبُ بالكسر. وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ جملة مؤكدة لنفي العزوب، ورفعهما بالابتداء ويؤيده القراءة بالفتح على نفي الجنس، ولا يجوز عطف المرفوع على مِثْقالُ والمفتوح على ذَرَّةٍ بأنه فتح في موضع الجر لامتناع الصرف لأن الاستثناء يمنعه، اللهم إلا إذا جعل الضمير في عَنْهُ للغيب وجعل المثبت في اللوح خارجاً عنه لظهوره على المطالعين له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شيء إلا مسطوراً في اللوح.
[سورة سبإ (34) : الآيات 4 الى 5]
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)(4/241)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ علة لقوله لَتَأْتِيَنَّكُمْ وبيان لما يقتضي إتيانها. أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لا تعب فيه ولا مَنٌ عليه.
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بإبطال وتزهيد الناس فيها. مُعاجِزِينَ مسابقين كي يفوتونا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو معجزين أي مثبطين عن الإِيمان من أراده. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ من سيّئ العذاب.
أَلِيمٌ مؤلم، ورفعه ابن كثير ويعقوب وحفص.
[سورة سبإ (34) : آية 6]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ويعلم أولو العلم من الصحابة ومن شايعهم من الأمة، أو من مسلمي أهل الكتاب. الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ القرآن. هُوَ الْحَقَّ ومن رفع الْحَقَّ جعل هو مبتدأ والْحَقَّ خبره والجملة ثاني مفعولي يَرَى، وهو مرفوع مستأنف للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات. وقيل منصوب معطوف على لِيَجْزِيَ أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق عياناً كما علموه الآن برهاناً وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الذي هو التوحيد والتدرع بلباس التقوى.
[سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 8]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال بعضهم لبعض. هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمداً عليه الصلاة والسلام.
يُنَبِّئُكُمْ يحدثكم بأعجب الاعاجيب. إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ إنكم تنشؤون خلقاً جديداً بعد أن تمزق أجسادكم كل تمزيق وتفريق بحيث تصير تراباً، وتقديم الظرف للدلالة على البعد والمبالغة فيه، وعامله محذوف دل عليه ما بعده فإن ما قبله لم يقارنه وما بعده مضاف إليه، أو محجوب بينه وبينه بأن ومُمَزَّقٍ يحتمل أن يكون مكاناً بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم السيول كل مذهب وطرحتم كل مطرح وجَدِيدٍ بمعنى فاعل من جد كحديد من حد، وقيل بمعنى مفعول من جد النساج الثوب إذا قطعه.
أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه، واستدل بجعلهم إياه قسيم الافتراء غير معتقدين صدقه على أن بين الصدق والكذب واسطة، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه وضعفه بين لأن الافتراء أخص من الكذب. بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ رد من الله تعالى عليهم ترديدهم وإثبات لهم ما هو أفظع من القسمين، وهو الضلال البعيد عن الصواب بحيث لا يرجى الخلاص منه وما هو مؤداه من العذاب، وجعله رسيلاً له في الوقوع ومقدماً عليه في اللفظ للمبالغة في استحقاقهم له، والبعد في الأصل صفة الضال ووصف الضلال به على الإسناد المجازي.
[سورة سبإ (34) : آية 9]
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ تذكير بما يعاينونه مما يدل على كمال قدرة الله وما يحتمل فيه إزاحة لاسَتحالتهم الإِحياء حتى جعلوه افتراء وهزءا، وتهديداً عليها والمعنى أعموا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أهم أشد خلقاً، أم السماء، وإنا إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً، لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات. وقرأ حمزة والكسائي يشأ ويخسف ويسقط بالياء لقوله: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ. والكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء وحفص كِسَفاً بالتحريك. إِنَّ فِي ذلِكَ النظر والتفكر فيهما(4/242)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
وما يدلان عليه. لَآيَةً لدلالة. لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه فإنه يكون كثير التأمل في أمره.
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي على سائر الأنبياء وهو ما ذكر بعد، أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن. يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ رجعي معه التسبيح أو النوحة على الذنب، وذلك إما بخلق صوت مثل صوته فيها أو بحملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها، أو سيري معه حيث سار. وقرئ «أوبي» من الأوب أي ارجعي في التسبيح كلما رجع فيه، وهو بدل من فَضْلًا أو من آتَيْنا بإضمار قولنا أو قلنا. وَالطَّيْرَ عطف على محل الجبال ويؤيده القراءة بالرفع عطفاً على لفظها تشبيهاً للحركة البنائية العارضة بالحركة الإِعرابية أو على فَضْلًا، أو مفعول معه ل أَوِّبِي وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بالعطف على ضميره وكان الأصل: ولقد آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال والطير، فبدل بهذا النظم لما فيه من الفخامة والدلالة على عظم شأنه وكبرياء سلطانه، حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لأمره في نفاذ مشيئته فيها. وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ جعلناه في يده كالشمع يصرفه كيف يشاء من غير إحماء وطرق بآلاته أو بقوته.
أَنِ اعْمَلْ أمرناه أن اعمل ف أَنِ مفسرة أو مصدرية. سابِغاتٍ دروعا واسعات، وقرئ «صابغات» وهو أول من اتخذها. وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وقدر في نسجها بحيث يتناسب حلقها، أو قدر مساميرها فلا تجعلها دقاقاً فتقلق ولا غلاظاً فتنخرق.
ورد بأن دروعه لم تكن مسمرة
ويؤيده قوله: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ.
وَاعْمَلُوا صالِحاً الضمير فيه لداود وأهله. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فأجازيكم عليه.
[سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 13]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا له الريح، وقرئ «الريح» بالرفع أي ولسليمان الريح مسخرة وقرئ «الرياح» . غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ جريها بالغداة مسيرة شهر وبالعشي كذلك، وقرئ «غدوتها» «وروحتها» . وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ النحاس المذاب أساله له من معدنه فنبع منه نبوع الماء من الينبوع، ولذلك سماه عيناً وكان ذلك باليمن. وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ عطف على الرِّيحَ وَمِنَ الْجِنِّ حال مقدمة، أو جملة مِنَ مبتدأ وخبر. بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمره. وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ ومن يعدل منهم. عَنْ أَمْرِنا عما أمرناه من طاعة سليمان، وقرئ «يَزِغْ» من أزاغه. نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ عذاب الآخرة.
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بها لأنها يذب عنها ويحارب عليها. وَتَماثِيلَ وصوراً هي تماثيل للملائكة والأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وحرمة التصاوير شرع مجدد.
روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما.
وَجِفانٍ وصحاف. كَالْجَوابِ كالحياض الكبار جمع جابية من الجباية وهي من الصفات الغالبة كالدابة. وَقُدُورٍ راسِياتٍ ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها. اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً حكاية عما قيل لهم وشُكْراً نصب على العلة أي:
اعملوا له واعبدوه شكراً، أو المصدر لأن العمل له شكراً أو الوصف له أو الحال أو المفعول به. وَقَلِيلٌ مِنْ(4/243)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
عِبادِيَ الشَّكُورُ
المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ومع ذلك لا يوفى حقه، لأن توفيقه الشكر نعمة تستدعي شكراً آخر لا إلى نهايته، ولذلك قيل الشكور من يرى عجزه عن الشكر.
[سورة سبإ (34) : الآيات 14 الى 15]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ أي على سليمان. مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ ما دل الجن وقيل آله. إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أي الأرضة أضيفت إلى فعلها، وقرئ بفتح الراء وهو تأثر الخشبة من فعلها يقال: أرضت الأرضة الخشبة أرضاً فأرضت أرضاً مثل أكلت القوادح الأسنان أكلاً فأكلت أكلاً. تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ عصاه من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها، وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلباً وحذفاً على غير قياس إذ القياس إخراجها بين بين، و «منساءته» على مفعالة كميضاءة في ميضأة و «من سأته» أي طرف عصاه مستعار من سأت القوس، وفيه لغتان كما في قحة وقحة، وقرأ نافع وأبو عمرو مِنْسَأَتَهُ بألف بدلاً من الهمزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة وحمزة إذا وقف جعلها بين بين. فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ علمت الجن بعد التباس الأمر عليهم.
أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته حينما وقع فلم يلبثوا بعده حولاً في تسخيره إلى أن خرَّ، أو ظهرت الجن وأن بما في حيزه بدل منه أي ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب. وذلك أن داود أسس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليهما الصلاة والسلام فمات قبل تمامه، فوصى به إلى سليمان عليه السلام فاستعمل الجن فيه فلم يتم بعد إذ دنا أجله وأعلم به، فأراد أن يعمي عليهم موته ليتموه فدعاهم فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب، فقام يصلي متكئاً على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها، فبقي كذلك حتى أكلتها الأرضة فخرَّ ثم فتحوا عنه وأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت يوماً وليلة مقداراً فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة، وكان عمره ثلاثاً وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاثة عشرة سنة، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ومنع الصرف عنه ابن كثير وأبو عمرو لأنه صار اسم القبيلة، وعن ابن كثير قلب همزته ألفاً ولعله أخرجه بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب. فِى مساكنهم في مواضع سكناهم، وهي باليمن يقال لها مأرب، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، وقرأ حمزة وحفص بالإِفراد والفتح، والكسائي بالكسر حملاً على ما شذ من القياس كالمسجد والمطلع. آيَةٌ علامة دالة على وجود الصانع المختار، وأنه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسيء معاضدة للبرهان السابق كما في قصتي داود وسليمان عليهما السلام. جَنَّتانِ بدل من آيَةٌ أو خبر محذوف تقديره الآية جنتان، وقرئ بالنصب على المدح والمراد جماعتان من البساتين.
عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله كل واحدة منهما في تقاربها وتضامهما كأنها جنة واحدة، أو بستاناً كُلِ رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله. كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ حكاية لما قال لهم نبيهم، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك. بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ استئناف للدلالة على موجب الشكر، أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره. وقرئ الكل بالنصب على المدح. قيل كانت أخصب البلاد وأطيبها لم يكن فيها عاهة ولا هامة.
[سورة سبإ (34) : الآيات 16 الى 17]
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)(4/244)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
فَأَعْرَضُوا عن الشكر. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ سيل الأمر العرم أي الصعب من عرم الرجل فهو عارم، وعرم إذا شرس خلقه وصعب، أو المطر الشديد أو الجرذ، أضاف إليه ال سَيْلَ لأنه نقب عليهم سكراً ضربته لهم بلقيس فحقنت به ماء الشجر وتركت فيه ثقباً على مقدار ما يحتاجون إليه، أو المسناة التي عقدت سكراً على أنه جمع عرمة وهي الحجارة المركومة، وقيل اسم وادٍ جاء السيل من قبله وكان ذلك بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ثمر بشع فإن الخمط كل نبت أخذ طعماً من مرارة، وقيل الأراك أو كل شجر لا شوك له، والتقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في كونه بدلاً، أو عطف بيان. وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ معطوفان على أُكُلٍ لا على خَمْطٍ، فإن الأثل هو الطرفاء ولا ثمر له، وقرئا بالنصب عطفاً على جَنَّتَيْنِ ووصف السدر بالقلة فإن جناه وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين، وتسمية البدل جَنَّتَيْنِ للمشاكلة والتهكم. وقرأ أبو عمرو «ذواتي أكل» بغير تنوين اللام وقرأ الحرميان بتخفيف أُكُلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا بكفرانهم النعمة أو بكفرهم بالرسل، إِذ روي أنه بعث إليهم ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم، وتقديم المفعول للتعظيم لا للتخصيص. وَهَلْ يُجْازِى إِلاَّ الكفور وهل يجازى بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في الكفران أو الكفر. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص نُجازِي بالنون والْكَفُورَ بالنصب.
[سورة سبإ (34) : الآيات 18 الى 19]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالتوسعة على أهلها وهي قرى الشأم. قُرىً ظاهِرَةً متواصلة يظهر بعضها لبعض، أو راكبة متن الطريق ظاهرة لأبناء السبيل. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ بحيث يقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في قرية إلى أن يبلغ الشام. سِيرُوا فِيها على إرادة القول بلسان الحال أو المقال. لَيالِيَ وَأَيَّاماً متى شئتم من ليل أو نهار. آمِنِينَ لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات، أو سيروا آمنين وإن طالت مدة سفركم فيها، أو سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن.
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أشروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل فسألوا الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وتزود الأزواد، فأجابهم الله بتخريب القرى المتوسطة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعد» ، ويعقوب رَبَّنا باعِدْ بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطاً في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه، ومثله قراءة من قرأ «ربنا بعد» أو «بعد» على النداء وإسناد الفعل إلى بَيْنَ. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث بطروا النعمة ولم يعتدوا بها. فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدث الناس بهم تعجباً وضرب مثل فيقولون: تفرقوا أيدي سبأ. وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ففرقناهم غاية التفريق حتى لحق غسان منهم بالشأم، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان. إِنَّ فِي ذلِكَ فيما ذكر. لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي. شَكُورٍ على النعم.
[سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)(4/245)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي صدق في ظنه أو صدق بظن ظنه مثل فعلته جهدك، ويجوز أن يعدى الفعل إليه بنفسه كما في: صَدَقَ وَعْدَهُ. لأنه نوع من القول، وشدده الكوفيون بمعنى حقق ظنه أو وجده صادقا. وقرئ بنصب إِبْلِيسَ ورفع الظن مع التشديد بمعنى وجده ظنه صادقاً، والتخفيف بمعنى قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم، وبرفعهما والتخفيف على الأبدان وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات أو ببني آدم حين رأى أباهم النبي ضعيف العزم، أو ما ركب فيهم من الشهوة والغضب، أو سمع من الملائكة قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فقال: لَأُضِلَّنَّهُمْ ولَأُغْوِيَنَّهُمْ.
فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلا فريقاً هم المؤمنون لم يتبعوه، وتقليلهم بالإِضافة إلى الكفار، أو إلا فريقاً من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون.
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء. إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ إلا ليتعلق علمنا بذلك تعلقاً يترتب عليه الجزاء، أو ليتميز المؤمن من الشاك، أو ليؤمن من قدر إيمانه ويشك من قدر ضلاله، والمراد من حصول العلم حصول متعلقه مبالغة، وفي نظم الصلتين نكتة لا تخفى. وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ محافظ والزنتان متآخيتان.
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قُلِ للمشركين. ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي زعمتموهم آلهة، وهما مفعولا زعم حذف الأول لطول الموصول بصلته والثاني لقيام صفته مقامه، ولا يجوز أن يكون هو مفعوله الثاني لأنه لا يلتئم مع الضمير كلاماً ولا لاَّ يَمْلِكُونَ لأنهم لا يزعمونه. مِنْ دُونِ اللَّهِ والمعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم، ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال: لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير أو شر. فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ في أمر ما وذكرهما للعموم العرفي، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام، أو لأن الأسباب القريبة للشر والخير سماوية وأرضية والجملة استئناف لبيان حالهم. وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ من شركة لا خلقاً ولا ملكا. وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ يعينه على تدبير أمرهما.
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ فلا ينفعهم شفاعة أيضاً كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند الله. إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أذن له أن يشفع، أو أذن أن يشفع له لعلو شأنه ولم يثبت ذلك، واللام على الأول كاللام في قولك:
الكرم لزيد وعلى الثاني كاللام في قولك: جئتك لزيد، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بضم الهمزة. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ غاية لمفهوم الكلام من أن ثم توقفا وانتظاراً للإِذن أي: يتربصون فزعين حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بالإِذن، وقيل الضمير للملائكة وقد تقدم ذكرهم ضمناً. وقرأ ابن عامر ويعقوب فُزِّعَ على البناء للفاعل. وقرئ «فرغ» أي نفي الوجل من فرغ الزاد إذا فني. قالُوا قال بعضهم لبعض. مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ في الشفاعة. قالُوا الْحَقَّ قالوا قال القول الحق وهو الإِذن بالشفاعة لمن ارتضى وهم المؤمنون، وقرئ بالرفع أي مقوله الحق. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ذو العلو والكبرياء ليس لملك ولا نبي من الأنبياء أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه.
[سورة سبإ (34) : آية 24]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)(4/246)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يريد به تقرير قوله لاَّ يَمْلِكُونَ. قُلِ اللَّهُ إذ لا جواب سواه، وفيه إشعار بأنهم إن سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإِلزام فهم مقرون به بقلوبهم. وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي وإن أحد الفريقين من الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية بالعبادة، والمشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإِمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبينين، وهو بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح لأنه في صورة الانصاف المسكت للخصم المشاغب، ونظيره قول حسان:
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بكفء ... فشرّكما لخير كما الفِدَاءُ
وقيل إنه على اللف والنشر وفيه نظر، واختلاف الحرفين لأن الهادي كمن صعد مناراً ينظر الأشياء ويتطلع عليها أو ركب جواداً يركضه حيث يشاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك لا يرى شيئاً أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصى منها.
[سورة سبإ (34) : الآيات 25 الى 26]
قُلْ لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
قُلْ لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ في الإخبات حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين.
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة. ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ يحكم ويفصل بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار. وَهُوَ الْفَتَّاحُ الحاكم الفاصل في القضايا المنغلقة. الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يقضى به.
[سورة سبإ (34) : الآيات 27 الى 28]
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (28)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ لأرى بأي صفة ألحقتموهم بالله في استحقاق العبادة، وهو استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم. كَلَّا ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة.
بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الموصوف بالغلبة وكمال القدرة والحكمة، وهؤلاء الملحقون به متسمون بالذلة متأبية عن قبول العلم والقدرة رأساً، والضمير لله أو للشأن.
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ إلا إرسالة عامة لهم من الكف فإنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، أو إلا جامعاً لهم في الإِبلاغ فهي حال من الكاف والتاء للمبالغة، ولا يجوز جعلها حالاً من الناس على المختار. بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
[سورة سبإ (34) : الآيات 29 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
وَيَقُولُونَ من فرط جهلهم. مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون المبشر به والمنذر عنه أو الموعود بقوله:
يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين.
قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ وعد يوم أو زمان وعد، وإضافته إلى اليوم للتبيين ويؤيده أنه قرئ «يوم» على البدل، وقرئ «يوما» بإضمار أعني. لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ إذا فاجأكم وهو جواب تهديد جاء مطابقاً لما قصدوه بسؤالهم من التعنت والإنكار.(4/247)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
[سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 32]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ولا بما تقدمه من الكتب الدالة على النعت. قيل إن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فأخبروهم أنهم يجدون نعته في كتبهم فغضبوا وقالوا ذلك، وقيل الذي بين يديه يوم القيامة. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في موضع المحاسبة. يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يتحاورون ويتراجعون القول. يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يقول الأتباع. لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا للرؤساء. لَوْلا أَنْتُمْ لولا إضلالكم وصدكم إيانا عن الإِيمان. لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ باتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أنكروا أنهم كانوا صادّين لهم عن الإِيمان وأثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث أعرضوا عن الهدى وآثروا التقليد عليه، ولذلك بنوا الإِنكار على الإِسم.
[سورة سبإ (34) : آية 33]
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إضراب عن إضرابهم أي: لم يكن إجرامنا الصاد بل مكركم لنا دائباً ليلاً ونهاراً حتى أعورتم علينا رأينا. إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً والعاطف يعطفه على كلامهم الأول وإضافة ال مَكْرُ إلى الظرف على الاتساع، وقرئ «مكر الليل» بالنصب على المصدر و «مكر الليل» بالتنوين ونصب الظرف و «مكر الليل» من الكرور. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وأضمر الفريقان الندامة على الضلال والإضلال وأخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير، أو أظهروها فإنه من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات والسلب كما في أشكيته. وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في أعناقهم فجاء بالظاهر تنويهاً بذمهم وإشعاراً بموجب أغلالهم. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يفعل بهم ما يفعل إلا جزاء على أعمالهم، وتعدية يجزي إما لتضمين معنى يقضي أو بنزع الخافض.
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 36]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (36)
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما مني به من قومه، وتخصيص المتنعمين بالتكذيب لأن الداعي المعظم إليه التكبر والمفاخرة بزخارف الدنيا والانهماك في الشهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها، ولذلك ضموا التهكم والمفاخرة إلى التكذيب فقالوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على مقابلة الجمع بالجمع.(4/248)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فنحن أولى بما تدعونه إن أمكن. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إما لأن العذاب لا يكون، أو لأنه أكرمنا بذلك فلا يهيننا بالعذاب.
قُلْ رداً لحسبانهم. إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ولذلك يختلف فيه الأشخاص المتماثلة في الخصائص والصفات، ولو كان ذلك لكرامة وهوان يوجبانه لم يكن بمشيئته. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة وكثيراً ما يكون للاستدراج كما قال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 37 الى 38]
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قربة والتي إما لأن المراد وما جماعة أموالكم وأولادكم، أو لأنها صفة محذوف كالتقوى والخصلة. وقرئ «بالذي» أي بالشيء الذي يقربكم. إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً استثناء من مفعول تُقَرِّبُكُمْ، أي الأموال والأولاد لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله ويعلم ولده الخير ويربيه على الصلاح، أو من أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ على حذف المضاف. فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أن يجازوا الضعف إلى عشر فما فوقه، والإِضافة إضافة المصدر إلى المفعول، وقرئ بالأعمال على الأصل وعن يعقوب رفعهما على إبدال الضعف، ونصب الجزاء على التمييز أو المصدر لفعله الذي دل عليه لهم. بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ من المكاره، وقرئ بفتح الراء وسكونها، وقرأ حمزة «في الغرفة» على إرادة الجنس.
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا بالرد والطعن فيها. مُعاجِزِينَ مسابقين لأنبيائنا أو ظانين أنهم يفوتوننا.
أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ.
[سورة سبإ (34) : آية 39]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ يوسع عليه تارة ويضيق عليه أخرى، فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين وما سبق في شخصين فلا تكرير. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ عوضاً إما عاجلاً أو آجلاً. وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإن غيره وسط في إيصال رزقه لا حقيقة لرازقيته.
[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 41]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً المستكبرين والمستضعفين ثُمَّ نَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ تقريعاً للمشركين وتبكيتاً لهم وإقناطاً لهم عما يتوقعون من شفاعتهم، وتخصيص الملائكة لأنهم أشرف شركائهم والصالحون للخطاب منهم، ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله. وقرأ حفص ويعقوب بالياء فيهما.
قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أنت الذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم، كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله. وقيل كانوا يتمثلون لهم ويخيلون إليهم أنهم(4/249)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
الملائكة فيعبدونهم. أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ الضمير الأول للإِنس أو للمشركين، والأكثر بمعنى الكل والثاني ل الْجِنَّ.
[سورة سبإ (34) : الآيات 42 الى 43]
فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا إذ الأمر فيه كله له لأن الدار دار جزاء وهو المجازي وحده. وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ عطف على لاَ يَمْلِكُ مبين للمقصود من تمهيده.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هذا يعنون محمّدا عليه الصلاة والسلام. إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ فيستتبعكم بما يستبدعه. وَقالُوا مَا هذا يعنون القرآن. إِلَّا إِفْكٌ لعدم مطابقة ما فيه الواقع. مُفْتَرىً بإضافته إلى الله سبحانه وتعالى. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ لأمر النبوة أو للإسلام أو للقرآن، والأول باعتبار معناه وهذا باعتبار لفظه وإعجازه. إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته، وفي تكرير الفعل والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإِشارة إلى القائلين والمقول فيه، وما في لَمَّا من المبادهة إلى البت بهذا القول إنكار عظيم له وتعجيب بليغ منه.
[سورة سبإ (34) : الآيات 44 الى 45]
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها فيها دليل على صحة الإِشراك. وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يدعوهم إليه وينذرهم على تركه، وقد بان من قبل أن لا وجه له فمن أين وقع لهم هذه الشبهة، وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم ثم هددهم فقال:
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما كذبوا. وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال، أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى. فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم فليحذر هؤلاء من مثله، ولا تكرير في كذب لأن الأول للتكثير والثاني للتكذيب، أو الأول مطلق والثاني مقيد ولذلك عطف عليه بالفاء.
[سورة سبإ (34) : آية 46]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أرشدكم وأنصح لكم بخصلة واحدة هي ما دل عليه: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ وهو القيام من مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو الانتصاب في الأمر خالصاً لوجه الله معرضاً عن المراء والتقليد. مَثْنى وَفُرادى متفرقين اثنين اثنين وواحداً واحداً، فإن الازدحام يشوش الخاطر ويخلط القول. ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به لتعلموا حقيقته، ومحله الجر على البدل أو البيان أو الرفع أو النصب بإضمار هو أو أعني. مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ فتعلموا ما به من جنون يحمله على ذلك، أو استئناف منبه لهم على أن ما عرفوا من رجاحة عقله كاف في ترجيح صدقه، فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير وخطب عظيم من(4/250)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
غير تحقق ووثوق ببرهان، فيفتضح على رؤوس الأشهاد ويلقي نفسه إلى الهلاك، فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة. وقيل مَا استفهامية والمعنى: ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ قدامه لأنه مبعوث في نسم الساعة.
[سورة سبإ (34) : آية 47]
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي شيء سألتكم من أجر على الرسالة. فَهُوَ لَكُمْ والمراد نفي السؤال عنه، كأنه جعل التنبي مستلزماً لأحد الأمرين إما الجنون وإما توقع نفع دنيوي عليه، لأنه إما أن يكون لغرض أو لغيره وأياً ما كان يلزم أحدهما ثم نفى كلاً منهما. وقيل مَا موصولة مراد بها ما سألهم بقوله: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وقوله: لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى واتخاذ السبيل ينفعهم وقرباه قرباهم. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مطلع يعلم صدقي وخلوص نيتي، وقرأ ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي بإسكان الياء.
[سورة سبإ (34) : الآيات 48 الى 49]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يلقيه وينزله على من يجتبيه من عباده، أو يرمي به الباطل فيدمغه أو يرمي به إلى أقطار الآفاق، فيكون وعداً بإظهار الإِسلام وإفشائه. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء. عَلَّامُ الْغُيُوبِ صفة محمولة على محل إِنَّ واسمها، أو بدل من المستكن في يَقْذِفُ أو خبر ثان أو خبر محذوف.
وقرئ بالنصب صفة ل رَبِّي أو مقدراً بأعني. وقرأ حمزة وأبو بكر «الغيوب» بالكسر كالبيوت وبالضم كالعشور، وقرئ بالفتح كالصبور على أنه مبالغة غائب.
قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي الإِسلام. وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ وزهق الباطل أي الشرك بحيث لم يبق له أثر مأخوذ من هلاك الحي، فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة قال:
أَقْفَر مِنْ أَهْلِهِ عبيد ... فَالْيَوْمَ لاَ يُبْدِي وَلاَ يُعِيد
وقيل الباطل إبليس أو الصنم، والمعنى لا ينشئ خلقاً ولا يعيده، أو لا يبدئ خيراً لأهله ولا يعيده.
وقيل مَا استفهامية منتصبة بما بعدها.
[سورة سبإ (34) : آية 50]
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق. فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي فإن وبال ضلالي عليها لأنه بسببها إذ هي الجاهلة بالذات والأمارة بالسوء، وبهذا الاعتبار قابل الشرطية بقوله: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فإن الاهتداء بهدايته وتوفيقه. إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله وإن أخفاه.
[سورة سبإ (34) : آية 51]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51)
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا عند الموت أو البعث أو يوم بدر، وجواب لَوْ محذوف تقديره لرأيت أمراً فظيعاً. فَلا فَوْتَ فلا يفوتون الله بهرب أو تحصن. وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من الموقف إلى النار أو من صحراء بدر إلى القليب، والعطف على فَزِعُوا أو لا فوت ويؤيده أنه قرئ «وأخذ» عطفاً على محله أي: فلا فوت هناك وهناك أخذ.
[سورة سبإ (34) : آية 52]
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52)
.(4/251)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ بمحمّد عليه الصلاة والسلام، وقد مر ذكره في قوله: مَا بِصاحِبِكُمْ. وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ ومن أين لهم أن يتناولوا الإِيمان تناولاً سهلاً. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فإنه في حيز التكليف وقد بعد عنهم، وهو تمثيل لحالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم أوانه وبعد عنهم، بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة تناوله من ذراع في الاستحالة، وقرأ أبو عمرو والكوفيون غير حفص بالهمز على قلب الواو لضمتها.
أو أنه من نأشت الشيء إذا طلبته قال رؤبة:
أَقْحَمَنِي جَارُ أَبِي الجَامُوش ... إِلَيْكَ نَأْشَ القدر النؤوش
أو من نأشت إذا تأخرت ومنه قوله:
تَمَنَّى نَشِيْشاً أَن يَكُونَ أَطَاعَنِي ... وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأُمُورِ أُمُورُ
فيكون بمعنى التناول من بعد.
[سورة سبإ (34) : الآيات 53 الى 54]
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ بمحمد عليه الصلاة والسلام أو بالعذاب. مِنْ قَبْلُ من قبل ذلك أوان التكليف.
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ويرجمون بالظن ويتكلمون بما لم يظهر لهم في الرسول عليه الصلاة والسلام من المطاعن، أو في العذاب من البت على نفيه. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من جانب بعيد من أمره، وهو الشبه التي تمحلوها في أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو حال الآخرة كما حكاه من قبل. ولعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئاً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه، وقرئ «وَيَقْذِفُونَ» على أن الشيطان يلقي إليهم ويلقنهم ذلك، والعطف على وَقَدْ كَفَرُوا على حكاية الحال الماضية أو على قالوا فيكون تمثيلاً لحالهم بحال القاذف في تحصيل ما ضيعوه من الإِيمان في الدنيا.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ من نفع الإِيمان والنجاة به من النار، وقرأ ابن عامر والكسائي بإشمام الضم للحاء. كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ موقع في الريبة، أو ذي ريبة منقول من المشكك، أو الشك نعت به الشك للمبالغة.
عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبي إلا كان له يوم القيامة رفيقاً ومصافحاً» .(4/252)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
(35) سورة الملائكة
مكية وآيها خمس وأربعون آية
[سورة فاطر (35) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعهما من الفطر بمعنى الشق كأنه شق العدم بإخراجهما منه، والإِضافة محضة لأنه بمعنى الماضي. جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده، يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإِلهام والرؤيا الصادقة، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه.
أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ذوي أجنحة متعددة متفاوتة بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون، أو يسرعون بها نحو ما وكلهم الله عليه فيتصرفون فيه على أمرهم به، ولعله لم يرد به خصوصية الإِعداد ونفي ما زاد عليها، لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل ليلة المعراج وله ستمائة جناح
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك بمقتضى مشيئته ومؤدى حكمته لا أمر تستدعيه ذواتهم، لأن اختلاف الأصناف والأنواع، بالخواص والفصول إن كان لذواتهم المشتركة لزم تنافي لوازم الأمور المتفقة وهو محال، والآية متناولة زيادات الصور والمعاني كملاحة الوجه وحسن الصوت وحصافة العقل وسماحة النفس. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وتخصيص بعض الأشياء بالتحصيل دون بعض، إنما هو من جهة الإرادة.
[سورة فاطر (35) : آية 2]
مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ ما يطلق لهم ويرسل وهو من تجوز السبب للمسبب. مِنْ رَحْمَةٍ كنعمة وأمن وصحة وعلم ونبوة. فَلا مُمْسِكَ لَها يحبسها. وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ يطلقه، واختلاف الضميرين لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة والثاني مطلق بتناولها والغضب، وفي ذلك إشعار بأن رحمته سبقت غضبه.
مِنْ بَعْدِهِ من بعد إمساكه. وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على ما يشاء ليس لأحد أن ينازعه فيه. الْحَكِيمُ لا يفعل إلا بعلم وإتقان. ثم لما بين أنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإِطلاق أمر الناس بشكر إنعامه فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 3 الى 4]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ احفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها، ثم أنكر أن يكون لغيره في ذلك مدخل فيستحق أن يشرك به بقوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ(4/253)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى إشراك غيره به، ورفع غَيْرُ للحمل على محل مِنْ خالِقٍ بأنه وصف أو بدل، فإن الاستفهام بمعنى النفي، أو لأنه فاعل خالِقٍ وجره حمزة والكسائي حملاً على لفظه، وقد نصب على الاستثناء، ويَرْزُقُكُمْ صفة ل خالِقٍ أو استئناف مفسر له أو كلام مبتدأ، وعلى الأخير يكون إطلاق هَلْ مِنْ خالِقٍ مانعاً من إطلاقه على غير الله.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ أي فتأس بهم في الصبر على تكذيبهم، فوضع فَقَدْ كُذِّبَتْ موضعه استغناء بالسبب عن المسبب، وتنكير رسل للتعظيم المقتضي زيادة التسلية والحث على المصابرة.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فيجازيك وإياهم على الصبر والتكذيب.
[سورة فاطر (35) : الآيات 5 الى 6]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالحشر والجزاء. حَقٌّ لا خلف فيه. فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فيذهلكم التمتع بها عن طلب الآخرة والسعي لها. وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان بأن يمنيكم المغفرة مع الإِصرار على المعصية، فإنها وإن أمكنت لكن الذنب بهذا التوقع كتناول السم اعتماداً على دفع الطبيعة.
وقرئ بالضم وهو مصدر أو جمع كقعود.
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عداوة عامة قديمة. فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا في عقائدكم وأفعالكم وكونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ تقرير لعداوته وبيان لغرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى الدنيا.
[سورة فاطر (35) : الآيات 7 الى 8]
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وعيد لمن أجاب دعاءه ووعد لمن خالفه وقطع للأماني الفارغة، وبناء للأمر كله على الإِيمان والعمل الصالح وقوله.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً تقرير له أي أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عمله بأن غلب وهمه وهواه على عقله حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقاً والقبيح حسناً، كمن لم يزين له بل وفق حتى عرف الحق واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هي عليه، فحذف الجواب لدلالة: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وقيل تقديره أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة، فحذف الجواب لدلالة: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ عليه ومعناه فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب، والفاآت الثلاث للسببية غير أن الأوليين دخلتا على السبب والثالثة دخلت على المسبب، وجمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم أو كثرة مساوي أفعالهم المقتضية للتأسف، وعليهم ليس صلة لها لأن صلة المصدر لا تتقدمه بل صلة تذهب أو بيان للمتحسر عليه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه.
[سورة فاطر (35) : آية 9]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح. فَتُثِيرُ سَحاباً على حكاية الحال(4/254)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة، ولأن المراد بيان أحداثها بهذه الخاصية ولذلك أسنده إليها، ويجوز أن يكون اختلاف الأفعال للدلالة على استمرار الأمر. فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بالتشديد. فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بالمطر النازل منه وذكر السحاب كذكره، أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطراً. بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها والعدول فيهما من الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص لما فيهما من مزيد الصنع. كَذلِكَ النُّشُورُ أي مثل إحياء الموات نشور الأموات في صحة المقدورية، إذ ليس بينهما إلا احتمال اختلاف المادة في المقيس عليه وذلك لا مدخل له فيها. وقيل في كيفية الإِحياء فإنه تعالى يرسل ماء من تحت العرش تنبت منه أجساد الخلق.
[سورة فاطر (35) : آية 10]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ الشرف والمنعة. فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي فليطلبها من عنده فإن له كلها، فاستغنى بالدليل عن المدلول. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ بيان لما يطلب به العزة وهو التوحيد والعمل الصالح، وصعودهما إليه مجاز عن قبوله إياهما، أو صعود الكتبة بصحيفتهما، والمستكن في يَرْفَعُهُ ل الْكَلِمُ فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد ويؤيده أنه نصب الْعَمَلُ، أو ل الْعَمَلُ فإنه يحقق الإِيمان ويقويه، أو لله وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة. وقرئ «يَصْعَدُ» على البناءين والمصعد هو الله تعالى أو المتكلم به أو الملك. وقيل الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يتناول الذكر والدعاء وقراءة القرآن.
وعنه عليه الصلاة والسلام «هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن، فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل» .
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ المكرات السيئات يعني مكرات قريش للنبي عليه الصلاة والسلام في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث حبسه وقتله وإجلائه. لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لا يؤبه دونه بما يمكرون به. وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ يفسد ولا ينفذ لأن الأمور مقدرة لا تتغير به كما دل عليه بقوله:
[سورة فاطر (35) : آية 11]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ بخلق آدم عليه السلام منه. ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ بخلق ذريته منها. ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ذكراناً وإناثاً. وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ إلاَّ معلومة له. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وما يمد في عمر من مصيره إلى الكبر. وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ من عمر المعمر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره، أو لا ينقص من عمر المنقوص عمره بجعله ناقصاً، والضمير له وإن لم يذكر لدلالة مقابله عليه أو للعمر على التسامح فيه ثقة بفهم السامع كقولهم: لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق. وقيل الزيادة والنقصان في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح مثل: أن يكون فيه إن حج عمرو فعمره ستون سنة وإلا فأربعون. وقيل المراد بالنقصان ما يمر من عمره وينقضي فإنه يكتب في صحيفة عمره يوماً فيوماً، وعن يعقوب وَلا يُنْقَصُ على البناء للفاعل. إِلَّا فِي كِتابٍ هو علم الله تعالى أو اللوح المحفوظ أو الصحيفة.
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إشارة إلى الحفظ أو الزيادة أو النقص.
[سورة فاطر (35) : آية 12]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)(4/255)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ضرب مثل للمؤمن والكافر، والفرات الذي يكسر العطش والسائغ الذي يسهل انحداره، والأجاج الّذي يحرق بملوحته. وقرئ «سيغ» بالتشديد و «سيغ» بالتخفيف و «مِلْحٌ» على فعل. وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم، أو تمام التمثيل والمعنى: كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء، فإنه خالط أحدهما ما أفسده وغيره عن كمال فطرته، لا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصية العظمى وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر، أو تفضيل للأجاج على الكافر بما يشارك فيه العذب من المنافع. والمراد ب الْحِلْيَةِ اللئالئ واليواقيت. وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ في كل. مَواخِرَ تشق الماء بجريها. لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ من فضل الله بالنقلة فيها، واللام متعلقة ب مَواخِرَ، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه الأفعال المذكورة. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على ذلك وحرف الترجي باعتبار ما يقتضيه ظاهر الحال.
[سورة فاطر (35) : الآيات 13 الى 14]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى هي مدة دوره أو منتهاه أو يوم القيامة. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ الإِشارة إلى الفاعل لهذه الأشياء. وفيها إشعار بأن فاعليته لها موجبة لثبوت الأخبار المترادفة، ويحتمل أن يكون لَهُ الْمُلْكُ كلاماً مبتدأ في قرآن. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ للدلالة على تفرده بالألوهية والربوبية، والقطمير لفافة النواة.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض. مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لعدم قدرتهم على الإِنفاع، أو لتبرئهم منكم مما تدعون لهم. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ بإشراككم لهم يقرون ببطلانه أو يقولون مَّا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ. وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ولا يخبرك بالأمر مخبر مِثْلُ خَبِيرٍ به أخبرك وهو الله سبحانه وتعالى، فإنه الخبير به على الحقيقة دون سائر المخبرين. والمراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم.
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 17]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ في أنفسكم وما يعن لكم، وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء، وأن افتقار سائر الخلائق بالإِضافة إلى فقرهم غير معتد به ولذلك قال: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً. وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ المستغني على الإِطلاق المنعم على سائر الموجودات حتى استحق عليهم الحمد.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بقوم آخرين أطوع منكم، أو بعالم آخر غير ما تعرفونه.
وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذر أو متعسر.(4/256)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
[سورة فاطر (35) : آية 18]
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، وأما قوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ ففي الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، وكل ذلك أوزارهم ليس فيها شيء من أوزار غيرهم. وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ نفس أثقلها الأوزار. إِلى حِمْلِها تحمل بعض أوزارها. لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ لم تجب لحمل شيء منه نفى أن يحمل عنها ذنبها كما نفى أن يحمل عليها ذنب غيرها. وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى ولو كان المدعو ذا قرابتها، فأضمر المدعو لدلالة إن تدع عليه. وقرئ «ذو قربى» على حذف الخبر وهو أولى من جعل كان التامة فإنها لا تلائم نظم الكلام. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ غائبين عن عذابه، أو عن الناس في خلواتهم، أو غائباً عنهم عذابه. وَأَقامُوا الصَّلاةَ فإنهم المنتفعون بالإِنذار لا غير، واختلاف الفعلين لما مر من الاستمرار. وَمَنْ تَزَكَّى ومن تطهر من دنس المعاصي. فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذ نفعه لها، وقرئ «ومن أزكى فإنما يزكي» وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنهما من جملة التزكي. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فيجازيهم على تزكيهم.
[سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 23]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الكافر والمؤمن، وقيل هما مثلان للصنم ولله عز وجل.
وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ولا الباطل ولا الحق.
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ولا الثواب ولا العقاب، ولا لتأكيد نفي الاستواء وتكريرها على الشقين لمزيد التأكيد. والْحَرُورُ فعول من الحر غلب على السموم. وقيل السموم ما يهب نهاراً والحرور ما تهب ليلاً.
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أبلغ من الأول ولذلك كرر الفعل.
وقيل للعلماء والجهلاء. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ هدايته فيوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات ومبالغة في إقناطه عنهم.
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ فما عليك إلا الإِنذار وأما الإِسماع فلا إليك ولا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم.
[سورة فاطر (35) : آية 24]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ محقين أو محقاً، أو إرسالاً مصحوباً بالحق، ويجوز أن يكون صلة لقوله:
بَشِيراً وَنَذِيراً أي بشيراً بالوعد الحق ونذيراً بالوعيد الحق. وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ أهل عصر. إِلَّا خَلا مضى.
فِيها نَذِيرٌ من نبي أو عالم ينذر عنه، والاكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قرينة البشارة سيما وقد قرن به من قبل، أو لأن الإِنذار هو الأهم المقصود من البعثة.
[سورة فاطر (35) : الآيات 25 الى 26]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)(4/257)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الشاهدة على نبوتهم.
وَبِالزُّبُرِ كصحف إبراهيم عليه السلام. وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ كالتوراة والإِنجيل على إرادة التفصيل دون الجمع، ويجوز أن يراد بهما واحد والعطف لتغاير الوصفين.
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري بالعقوبة.
[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أجناسها وأصنافها على أن كلا منها ذو أصناف مختلفة، أو هيئاتها من الصفرة والخضرة ونحوهما. وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ أي ذو جدد أي خطط وطرائق يقال جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره، وقرئ «جُدَدٌ» بالضم جمع جديدة بمعنى الجدة وجُدَدٌ بفتحتين وهو الطريق الواضح. بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها بالشدة والضعف. وَغَرابِيبُ سُودٌ عطف على بِيضٌ أو على جُدَدٌ كأنه قيل: ومن الجبال ذو جدد مختلفة اللون ومنها غَرابِيبُ متحدة اللون، وهو تأكيد مضمر يفسره ما بعده فإن الغربيب تأكيد للأسود ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد ونظير ذلك في الصفة قول النابغة:
وَالمُؤْمِنُ العَائِذَاتُ الطَيْرُ يَمْسَحُهَا وفي مثله مزيد تأكيد لما فيه من التكرير باعتبار الإِضمار والإِظهار.
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ كاختلاف الثمار والجبال. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله، فمن كان أعلم به كان أخشى منه ولذلك
قال عليه الصلاة والسلام «إني أخشاكم لله وأتقاكم له»
ولذلك أتبعه بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته، وتقديم المفعول لأن المقصود حصر الفاعلية ولو أخر انعكس الأمر. وقرئ برفع اسم الله ونصب العلماء على أن الخشية مستعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيباً. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه.
[سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 30]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يداومون على قراءته أو متابعة ما فيه حتى صارت سمة لهم وعنواناً، والمراد بكتاب الله القرآن أو جنس كتب الله فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين. وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً كيف اتفق من غير قصد إليهما. وقيل السر في المسنونة والعلانية في المفروضة. يَرْجُونَ تِجارَةً تحصيل ثواب بالطاعة وهو خبر إن. لَنْ تَبُورَ لن تكسد ولن تهلك بالخسران صفة للتجارة وقوله:
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ علة لمدلوله أي ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها أجور أعمالهم، أو لمدلول ما عد من امتثالهم نحو فعلوا ذلك لِيُوَفِّيَهُمْ أو عاقبة ل يَرْجُونَ
. وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما(4/258)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
يقابل أعمالهم. إِنَّهُ غَفُورٌ لفرطاتهم. شَكُورٌ لطاعاتهم أي مجازيهم عليها، وهو علة للتوفية والزيادة أو خبر إن ويَرْجُونَ حال من واو وَأَنْفَقُوا.
[سورة فاطر (35) : آية 31]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن ومِنَ للتبيين أو الجنس ومِنَ للتبعيض. هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أحقه مصدقاً لما تقدمه من الكتب السماوية حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته إياه في العقائد وأصول الأحكام. إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ عالم بالبواطن والظواهر فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب، وتقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية.
[سورة فاطر (35) : آية 32]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ حكمنا بتوريثه منك أو نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه، أو أورثناه من الأمم السالفة، والعطف على إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ اعتراض لبيان كيفية التوريث. الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا يعني علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم، أو الأمة بأسرهم فإن الله اصطفاهم على سائر الأمم فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالتقصير في العمل به. وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ يعمل به في غالب الأوقات. وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ بضم التعليم والإِرشاد إلى العمل، وقيل الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم. وقيل الظالم المجرم والمقتصد الذي خلط الصالح بالسيء والسابق الذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيئاته مكفرة، وهو معنى
قوله عليه الصلاة والسلام «أما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم الله برحمته» .
وقيل الظالم الكافر على أن الضمير للعباد، وتقدميه لكثرة الظالمين ولأن الظلم بمعنى الجهل والركون إلى الهوى مقتضى الجبلة والاقتصاد والسبق عارضان. ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ إشارة إلى التوريث أو الاصطفاء أو السبق.
[سورة فاطر (35) : الآيات 33 الى 35]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها مبتدأ وخبر والضمير للثلاثة أو ل الَّذِينَ أو لل مُقْتَصِدٌ وال سابِقٌ، فإن المراد بهما الجنس وقرئ «جنة عدن» و «جنات عَدْنٍ» منصوب بفعل يفسره الظاهر، وقرأ أبو عمرو يَدْخُلُونَها على البناء للمفعول. يُحَلَّوْنَ فِيها خبر ثان أو حال مقدرة، وقرئ يُحَلَّوْنَ من حليت المرأة فهي حالية. مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ الأولى للتبعيض والثانية للتبيين. وَلُؤْلُؤاً عطف على ذَهَبٍ أي مِنْ ذَهَبٍ مرصع باللؤلؤ، أو مِنْ ذَهَبٍ في صفاء اللؤلؤ ونصبه نافع وعاصم رحمهما الله عطفا على محل مِنْ أَساوِرَ. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ.
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ همهم من خوف العاقبة، أو همهم من أجل المعاش وآفاته(4/259)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
أو من وسوسة إبليس وغيرها، وقرئ الْحَزَنَ. وإِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للمذنبين. شَكُورٌ للمطيعين.
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ دار الإِقامة. مِنْ فَضْلِهِ من إنعامه وتفضله إذ لا واجب عليه. لاَ يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ تعب. وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ كلال، إذ لا تكليف فيها ولا كد، أتبع نفي النصب نفي ما يتبعه مبالغة.
[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 37]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضى عَلَيْهِمْ لا يحكم عليهم بموت ثان. فَيَمُوتُوا فيتسريحوا، ونصبه بإضمار أن، وقرئ «فيموتون» عطفاً على يُقْضى كقوله: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ. وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها بل كلما خبت زيد إسعارها. كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء. نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ مبالغ في الكفر أو الكفران، وقرأ أبو عمرو «يجزى» على بناء المفعول وإسناده إلى كُلِّ، وقرى «يجازي» .
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها يستغيثون يفتعلون من الصراخ وهو الصياح استعمل في الاستغاثة لجهر المستغيث صوته. رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ بإضمار القول وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح والاعتراف به، والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه وأنهم كانوا يحسبون أنه صالح والآن تحقق لهم خلافه. أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ جواب من الله وتوبيخ لهم وما يَتَذَكَّرُ فيه متناول كل عمر يمكن المكلف فيه من التفكر والتذكر، وقيل ما بين العشرين إلى الستين.
وعنه عليه الصلاة والسلام «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة» .
والعطف على معنى أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ فإنه للتقرير كأنه قال: عمرناكم وجاءكم النذير وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم أو الكتاب، وقيل العقل أو الشيب أو موت الأقارب. فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ يدفع العذاب عنهم.
[سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 39]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
لا يخفى عليه خافية فلا يخفى عليه أحوالهم. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
تعليل له لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى ما يكون كان أعلم بغيرها.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ملقى إليكم مقاليد التصرف فيها، وقيل خلفاً بعد خلف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف. فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ جزاء كفره. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً بيان له، والتكرير للدلالة على أن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه، والمراد بالمقت وهو أشد البغض مقت الله وبالخسار خسار الآخرة.
[سورة فاطر (35) : آية 40]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني آلهتهم والإِضافة إليهم لأنهم جعلوهم شركاء لله(4/260)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
أو لأنفسهم فيما يملكونه. أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ بدل من أَرَأَيْتُمْ بدل الاشتمال لأنه بمعنى أخبروني كأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء أروني أي جزء من الأرض استبدوا بخلقه. أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أم لهم شركة مع الله في خلق السموات فاستحقوا بذلك شركة في الألوهية ذاتية. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً ينطق على أنا اتخذناهم شركاء. فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية، ويجوز أن يكون هم للمشركين كقوله: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب وأبو بكر والكسائي على بينات فيكون إيماء إلى أن الشرك خطير لا بد فيه من تعاضد الدلائل. بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً لما نفى أنواع الحجج في ذلك أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه وهو تغرير الأسلاف الأخلاف، أو الرؤساء الأتباع بأنهم شفعاء عند الله يشفعون لهم بالتقرب إليه.
[سورة فاطر (35) : آية 41]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا كراهة أن تزولا فإن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ، أو يمنعهما أن تزولا لأن الإِمساك منع. وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ ما أمسكهما. مِنْ بَعْدِهِ من بعد الله أو من بعد الزوال، والجملة سادة مسد الجوابين ومن الأولى زائدة والثانية للابتداء. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً حيث أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدا هداً كما قال: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ.
[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 43]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ. وذلك أن قريشاً لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى لو أتانا رسول لنكونن أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، أي من واحدة من الأمم اليهود والنصارى وغيرهم، أو من الأمة التي يقال فيها هي إِحْدَى الْأُمَمِ تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة. فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني محمداً عليه الصلاة والسلام. مَّا زادَهُمْ أي النذير أو مجيئه على التسبب. إِلَّا نُفُوراً تباعداً عن الحق.
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ بدل من نفوراً أو مفعول له. وَمَكْرَ السَّيِّئِ أصله وإن مكروا المكر السيئ فحذف الموصوف استغناء بوصفه، ثم بدل أن مع الفعل بالمصدر، ثم أضيف. وقرأ حمزة وحده بسكون الهمزة في الوصل. وَلا يَحِيقُ ولا يحيط. الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ وهو الماكر وقد حاق بهم يوم بدر، وقرئ «وَلاَ يَحِيقُ المكر» أي ولا يحيق الله. فَهَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون. إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا إذ لا يبدلها بجعله غير التعذيب تعذيباً ولا يحولها بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم، وقوله:
[سورة فاطر (35) : الآيات 44 الى 45]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)(4/261)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ استشهاد علم بما يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الماضين. وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ ليسبقه ويفوته. فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بالأشياء كلها. قَدِيراً عليها.
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من المعاصي. مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ من نسمة تدب عليها بشؤم معاصيهم، وقيل المراد بالدابة الإِنس وحده لقوله: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً فيجازيهم على أعمالهم.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة: أن أدخل من أي باب شئت» .(4/262)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
(36) سورة يس
مكية وعنه عليه الصلاة والسلام «يس تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين والدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة» وآيها ثلاث وثمانون آية
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
يس ك الم في المعنى والإِعراب، وقيل معناه يا إنسان لغة طيئ، على أن أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به كما قيل (من الله) في أيمن. وقرئ بالكسر كجير وبالفتح على البناء كأين، أو الإِعراب على اتل يس أو بإضمار حرف القسم والفتحة لمنع الصرف وبالضم بناء كحيث، أو إعراباً على هذه يس وأمال الياء حمزة والكسائي وروح وأبو بكر، وأدغم النون في واو: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ابن عامر والكسائي وأبو بكر وورش ويعقوب، وهي واو القسم أو العطف إن جعل يس مقسماً به.
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لمن الذين أرسلوا.
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو التوحيد والإِستقامة في الأمور، ويجوز أن يكون عَلى صِراطٍ خبراً ثانياً أو حالاً من المستكن في الجار والمجرور، وفائدته وصف الشرع صريحاً بالاستقامة وإن دل عليه لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ التزاما.
[سورة يس (36) : الآيات 5 الى 6]
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ خبر محذوف والمصدر بمعنى المفعول. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالنصب بإضمار أعني أو فعله على أنه على أصله، وقرئ بالجر على البدل من القرآن.
لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلق ب تَنْزِيلَ أو بمعنى لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. مَّا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ قوماً غير منذر آباؤهم يعني آباءَهم الأقربين لتطاول مدة الفترة، فيكون صفة مبينة لشدة حاجتهم إلى إرساله، أو الذي أنذر به أو شيئاً أنذر به آباؤهم الأبعدون، فيكون مفعولاً ثانياً لِتُنْذِرَ، أو إنذار آبائَهم على المصدر. فَهُمْ غافِلُونَ متعلق بالنفي على الأول أي لم ينذروا فبقوا غافلين، أو بقوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ على الوجوه الأخرى أي أرسلناك إليهم لتنذرهم فإنهم غافلون.
[سورة يس (36) : الآيات 7 الى 9]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ يعني قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ لأنهم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون.(4/263)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر، بتمثيلهم بالذين غلت أعناقهم. فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فالأغلال، واصلة إلى أذقانهم فلا تخليهم يطأطئون رؤوسهم له. فَهُمْ مُقْمَحُونَ رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفت الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له.
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ وبمن أحاط بهم سدان فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل. وقرأ حمزة والكسائي وحفص سَدّا بالفتح وهو لغة فيه، وقيل ما كان بفعل الناس فبالفتح وما كان بخلق الله فبالضم. وقرئ «فأعشيناهم» من العشاء. وقيل الآيتان في بني مخزوم حلف أبو جهل أن يرضخ رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد، فرجع إلى قومه فأخبرهم، فقال مخزومي آخر: أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله بصره.
[سورة يس (36) : الآيات 10 الى 11]
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ سبق في «البقرة» تفسيره.
إِنَّما تُنْذِرُ إنذاراً يترتب عليه البغية المرومة. مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي القرآن بالتأمل فيه والعمل به.
وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وخاف عقابه قبل حلوله ومعاينة أهواله، أو في سريرته ولا يغتر برحمته فإنه كما هو رحمن، منتقم قهار. فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ.
[سورة يس (36) : آية 12]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى الأموات بالبعث أو الجهال بالهداية. وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُوا ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة. وَآثارَهُمْ الحسنة كعلم علموه وحبيس وقفوه، والسيئة كإشاعة باطل وتأسيس ظلم.
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ يعني اللوح المحفوظ.
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 14]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
وَاضْرِبْ لَهُمْ ومثل لهم من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أي مثال واحد، وهو يتعدى إلى مفعولين لتضمنه معنى الجعل وهما: مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ على حذف مضاف أي اجعل لهم مثل أصحاب القرية مثلاً، ويجوز أن يقتصر على واحد ويجعل المقدر بدلاً من الملفوظ أو بياناً له، والقرية انطاكية. إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ بدل من أصحاب القرية، والْمُرْسَلُونَ رسل عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أهلها وإضافته إلى نفسه في قوله:
إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ لأنه فعل رسوله وخليفته وهما يحيى ويونس، وقيل غيرهما. فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا فقوينا، وقرأ أبو بكر مخففاً من عزه إذا غلبه وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به. بِثالِثٍ وهو شمعون. فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ وذَلِكَ أنهم كانوا عبدة أصنام فأرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنين، فلما قربا من المدينة رأيا حبيباً النجار يرعى غنماً فسألهما فأخبراه فقال: أمعكما آية(4/264)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
فقالا: نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص، وكان له ولد مريض فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر، فشفي على أيديهما خلق كثير وبلغ حديثهما إلى الملك وقال لهما: ألنا إله سوى آلهتنا؟
قالا: نعم من أوجدك وآلهتك قال حتى أنظر في أمركما فحبسهما، ثم بعث عيسى شمعون فدخل متنكراً وعاشر أصحاب الملك حتى استأنسوا به وأوصلوه إلى الملك فأنس به، فقال له يوماً: سمعت أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه، قال لا، فدعاهما فقال شمعون من أرسلكما قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال صفاه وأوجزا، قالا: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، قال وما آيتكما، قالا: ما يتمنى الملك، فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصره، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما، فقال شمعون أرأيت لو سألت آلهتك حتى تصنع مثل هذا حتى يكون لك ولها الشرف، قال ليس لي عنك سر آلهتنا لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، ثم قال إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به، فأتوا بغلام مات منذ سبعة أيام فدعوا الله فقام وقال: إني أدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال فتحت أبواب السماء فرأيت شاباً حسناً يشفع لهؤلاء الثلاثة فقال الملك من هم قال شمعون وهذان فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه فآمن في جمع، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل عليه الصلاة والسلام فهلكوا.
[سورة يس (36) : الآيات 15 الى 17]
قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا مزية لكم علينا تقتضي اختصاصكم بما تدعون، ورفع بشر لانتقاض النفي المقتضي إعمال ما بإلا. وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ وحي ورسالة. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ في دعوى الرسالة.
قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ استشهدوا بعلم الله وهو يجري مجرى القسم، وزادوا اللام المؤكدة لأنه جواب عن إنكارهم.
وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الظاهر البين بالآيات الشاهدة لصحته، وهو المحسن للاستشهاد فإنه لا يحسن إلا ببينة.
[سورة يس (36) : الآيات 18 الى 19]
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ تشاءمنا بكم، وذلك لاستغرابهم ما ادعوه واستقباحهم له وتنفرهم عنه. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن مقالتكم هذه. لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ.
قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ سبب شؤمكم معكم وهو سوء عقيدتكم وأعمالكم، وقرئ «طيركم معكم» .
أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ وعظتم، وجواب الشرط محذوف مثل تطيرتم أو توعدتم بالرجم والتعذيب، وقد قرئ بألف بين الهمزتين وبفتح أن بمعنى أتطيرتم لأن ذكرتم وإن وأن بغير الاستفهام و «أين ذكرتم» بمعنى طائركم معكم حيث جرى ذكركم وهو أبلغ. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ قوم عادتكم الإِسراف في العصيان فمن ثم جاءكم الشؤم، أو في الضلال ولذلك توعدتم وتشاءمتم بمن يجب أن يكرم ويتبرك به.
[سورة يس (36) : الآيات 20 الى 21]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)(4/265)
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى هو حبيب النجار وكان ينحت أصنامهم وهو ممن آمن بمحمّد عليه الصلاة والسلام وبينهما ستمائة سنة، وقيل كان في غار يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه.
قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ.
اتَّبِعُوا مَنْ لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً على النصح وتبليغ الرسالة. وَهُمْ مُهْتَدُونَ إلى خير الدارين.
[سورة يس (36) : الآيات 22 الى 24]
وَما لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
وَما لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي على قراءة غير حمزة فإنه يسكن الياء في الوصل، تلطف في الإِرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح، حيث أراد لهم ما أراد لها والمراد تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ مبالغة في التهديد ثم عاد إلى المساق الأول فقال:
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً لا تنفعني شفاعتهم. وَلا يُنْقِذُونِ بالنصرة والمظاهرة.
إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فإن إيثار ما لا ينفع ولا يدفع ضراً بوجه ما على الخالق المقتدر على النفع والضر وإشراكه به ضلال بين لا يخفى على عاقل، وقرأ نافع ويعقوب وأبو عمرو بفتح الياء.
[سورة يس (36) : الآيات 25 الى 27]
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الذي خلقكم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء. فَاسْمَعُونِ فاسمعوا إيماني، وقيل الخطاب للرسل فإنه لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحوهم قبل أن يقتلوه.
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قيل له ذلك لما قتلوه بشرى له بأنه من أهل الجنة، أو إكراماً وإذناً في دخولها كسائر الشهداء، أو لما هموا بقتله رفعه الله إلى الجنة على ما قاله الحسن وإنما لم يقل له لأن الغرض بيان المقول دون المقول له فإنه معلوم، والكلام استئناف في حيز الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربه بعد تصلبه في نصر دينه وكذلك: قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ.
بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ فإنه جواب عن السؤال عن قوله عند ذلك القول، وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم على اكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر والدخول في الإِيمان والطاعة على دأب الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء، أو ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره وأنه كان على حق، وقرئ «المكرمين» و «ما» خبرية أو مصدرية والباء صلة يَعْلَمُونَ أو استفهامية جاء على الأصل، والباء صلة غفر أي بأي شيء غَفَرَ لي، يريد به المهاجرة عن دينهم والمصابرة على أذيتهم.
[سورة يس (36) : آية 28]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ من بعد إهلاكه أو رفعه. مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ لإِهلاكهم كما أرسلنا يوم بدر والخندق بل كفينا أمرهم بصيحة ملك، وفيه استحقار لإِهلاكهم وإيماء بتعظيم الرسول عليه السلام.
وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ وما صح في حكمتنا أن ننزل جنداً لإِهلاك قومه إذ قدرنا لكل شيء سبباً وجعلنا ذلك سبباً لانتصارك من قومك، وقيل مَا موصولة معطوفة على جُنْدٍ أي ومما كنا منزلين على من قبلهم من(4/266)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)
حجارة وريح وأمطار شديدة.
[سورة يس (36) : الآيات 29 الى 30]
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)
إِنْ كانَتْ ما كانت الأخذة أو العقوبة. إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صاح بها جبريل عليه السلام، وقرئت بالرفع على كان التامة. فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ميتون، شبهوا بالنار رمزاً إلى أن الحي كالنار الساطعة والميت كرمادها كما قال لبيد:
وَمَا المَرْءُ إِلاَّ كَالشّهَابِ وَضَوْئِه ... يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ تعالي فهذه من الأحوال التي من حقها أن تحضري فيها، وهي ما دل عليها:
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء بأن يتحسروا ويتحسر عليهم، وقد تلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين، ويجوز أن يكون تحسراً من الله عليهم على سبيل الاستعارة لتعظيم ما جنوه على أنفسهم ويؤيده قراءة يا حَسْرَتى ونصبها لطولها بالجار المتعلق بها، وقيل بإضمار فعلها والمنادى محذوف، وقرئ «يا حسرة العباد» بالإِضافة إلى الفاعل أو المفعول، و «يا حسرة» بالهاء على العباد بإجراء الوصل مجرى الوقف.
[سورة يس (36) : الآيات 31 الى 32]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
أَلَمْ يَرَوْا ألم يعلموا وهو معلق عن قوله: كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ لأن كَمْ لا يعمل فيها ما قبلها وإن كانت خبرية لأن أصلها الاستفهام. أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ بدل من كَمْ على المعنى أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم، وقرئ بالكسر على الاستئناف.
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ يوم القيامة للجزاء، وإِنْ مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة و «ما» مزيدة للتأكيد، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة لَمَّا بالتشديد بمعنى إلا فتكون إن نافية وجميع فعيل بمعنى مفعول، ولَدَيْنا ظرف له أو ل مُحْضَرُونَ.
[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 34]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ وقرأ نافع بالتشديد. أَحْيَيْناها خبر ل الْأَرْضُ، والجملة خبر آيَةٌ أو صفة لها إذ لم يرد بها معينة وهي الخبر أو المبتدأ والآية خبرها، أو استئناف لبيان كونها آيَةٌ. وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا جنس الحب. فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ قدم الصلة للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به.
وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ من أنواع النخل والعنب، ولذلك جمعهما دون الحب فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف ولا كذلك الدال على الأنواع، وذكر النخيل دون التمور ليطابق الحب والأعناب لاختصاص شجرها بمزيد النفع وآثار الصنع. وَفَجَّرْنا فِيها وقرئ بالتخفيف، والفجر والتفجير كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى. مِنَ الْعُيُونِ أي شيئاً من العيون، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، أو الْعُيُونِ ومِنْ مزيدة عند الأخفش.(4/267)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
[سورة يس (36) : الآيات 35 الى 36]
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ثمر ما ذكر وهو الجنات، وقيل الضمير لله تعالى على طريقة الالتفات والإِضافة إليه لأن الثمر بخلقه، وقرأ حمزة والكسائي بضمتين وهو لغة فيه، أو جمع ثمار وقرئ بضمة وسكون. وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ عطف على الثمر والمراد ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما، وقيل مَا نافية والمراد أن الثمر بخلق الله لا بفعلهم، ويؤيد الأول قراءة الكوفيين غير حفص بلا هاء فإن حذفه من الصلة أحسن من غيرها. أَفَلا يَشْكُرُونَ أمر بالشكر من حيث أنه إنكار لتركه.
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها الأنواع والأصناف. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النبات والشجر. وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ الذكر والأنثى. وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ وأزواجاً مما لم يطلعهم الله تعالى عليه ولم يجعل لهم طريقاً إلى معرفته.
[سورة يس (36) : الآيات 37 الى 38]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ نزيله ونكشفه عن مكانه مستعار من سلخ الجلد والكلام في إعرابه ما سبق. فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام.
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها لحد معين ينتهي إليه دورها، فشبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو لكبد السماء فإن حركتها فيه يوجد فيها بطء بحيث يظن أن لها هناك وقفة قال:
وَالشَّمْسُ حَيْرَى لَهَا بِالجَوِّ تَدْوِيمُ أو لاستقرار لها على نهج مخصوص، أو لمنتهى مقدر لكل يوم من المشارق والمغارب فإن لها في دورها ثلاثمائة وستين مشرقاً ومغرباً، تطلع كل يوم من مطلع وتغرب من مغرب ثم لا تعود إليهما إلى العام القابل، أو لمنقطع جريها عند خراب العالم. وقرئ «لا مستقر لها» أي لا سكون فإنها متحركة دائماً و «لا مستقر» على أن «لا» بمعنى ليس. ذلِكَ الجري على هذا التقدير المتضمن للحكم التي تكل الفطن عن إحصائها. تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الغالب بقدرته على كل مقدور. الْعَلِيمِ
المحيط علمه بكل معلوم.
[سورة يس (36) : الآيات 39 الى 40]
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ قدرنا مسيره. مَنازِلَ أو سيره في منازل وهي ثمانية وعشرون: الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزبانا، الإِكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم، فرغ الدلو المؤخر، الرشا، وهو بطن الحوت ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه، فإذا كان في آخر منازله وهو الذي يكون فيه قبيل الإِجتماع دق واستقوس، وقرأ الكوفيون وابن عامر وَالْقَمَرَ بنصب الراء. حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ كالشمراخ المعوج، فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج، وقرئ «كالعرجون» وهما لغتان كالبزيون والبزيون. الْقَدِيمِ العتيق وقيل ما مر عليه حول فصاعداً.
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها يصح لها ويتسهل. أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ في سرعة سيره فإن ذلك يخل بتكون(4/268)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
النبات وتعيش الحيوان، أو في آثاره ومنافعه أو مكانه بالنزول إلى محله، أو سلطانه فتطمس نوره، وإيلاء حرف النفي الشَّمْسُ للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يسبقه فيفوته ولكن يعاقبه، وقيل المراد بهما آيتاهما وهما النيران، وبالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس فيكون عكساً للأول وتبديل الإِدراك بالسبق لأنه الملائم لسرعة سيره. وَكُلٌّ وكلهم والتنوين عوض عن المضاف إليه، والضمير للشموس والأقمار فإن اختلاف الأحوال يوجب تعدداً ما في الذات، أو للكواكب فإن ذكرهما مشعر بهما. فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يسيرون فيه بانبساط.
[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 42]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم، أو صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم، فإن الذرية تقع عليهن لأنهن مزارعها. وتخصيصهم لأن استقرارهم في السفن أشق وتماسكهم فيها أعجب، وقرأ نافع وابن عامر ذرياتهم. فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملوء، وقيل المراد فلك نوح عليه الصلاة والسلام، وحمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم هم وذرياتهم، وتخصيص الذرية لأنه أبلغ في الامتنان وأدخل في التعجب مع الإِيجاز.
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ من مثل الفلك. مَا يَرْكَبُونَ من الإِبل فإنها سفائن البر أو من السفن والزوارق.
[سورة يس (36) : الآيات 43 الى 44]
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ فلا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق، أو فلا إغاثة كقولهم أتاهم الصريخ. وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ينجون من الموت به.
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إلا لرحمة ولتمتيع بالحياة. إِلى حِينٍ زمان قدر لآجالهم.
[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 46]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ الوقائع التي خلت أو العذاب المعد في الآخرة، أو نوازل السماء ونوائب الأرض كقوله: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة أو عكسه، أو ما تقدم من الذنوب وما تأخر. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا راجين رحمة الله، وجواب إذا محذوف دل عليه قوله: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ كأنه قال وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا العذاب أعرضوا لأنهم اعتادوه وتمرنوا عليه.
[سورة يس (36) : آية 47]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ على محاويجكم. قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالصانع يعني معطلة كانوا بمكة. لِلَّذِينَ آمَنُوا تهكماً بهم من إقرارهم به وتعليقهم الأمور بمشيئته. أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ على زعمكم، وقيل قاله مشركو قريش حين استطعمهم فقراء المؤمنين إيهاماً بأن الله تعالى لما كان قادراً أن يطعمهم ولم يطعمهم فنحن أحق بذلك، وهذا من فرط جهالتهم فإن الله يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم له. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله، ويجوز أن(4/269)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
يكون جواباً من الله لهم أو حكاية لجواب المؤمنين لهم.
[سورة يس (36) : الآيات 48 الى 50]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعنون وعد البعث.
مَا يَنْظُرُونَ ما ينتظرون. إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأولى. تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم لا يخطر ببالهم أمرها كقوله: أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وأصله يختصمون فسكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين، وقرأ أبو بكر بكسر الياء للاتباع، وقرأ ابن كثير وورش وهشام بفتح الخاء على إلقاء حركة التاء إليه، وأبو عمرو وقالون به مع الإِختلاس وعن نافع الفتح فيه والإِسكان والتشديد وكأنه جوز الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني مدغماً، وقرأ حمزة يَخِصِّمُونَ من خصمه إذا جادله.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً في شيء من أمورهم. وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ فيروا حالهم بل يموتون حيث تبغتهم.
[سورة يس (36) : الآيات 51 الى 52]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي مرة ثانية وقد سبق تفسيره في سورة «المؤمنين» . فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ من القبور جمع جدث وقرئ بالفاء. إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يسرعون وقرئ بالضم.
قالُوا يا وَيْلَنا وقرئ «يا ويلتنا» مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا وقرئ «من أهبنا» من هب من نومه إذا انتبه ومن هبنا بمعنى أهبنا، وفيه ترشيخ ورمز وإشعار بأنهم لاختلاط عقولهم يظنون أنهم كانوا نياما، ومَنْ بَعَثَنا و «من هبنا» على من الجارة والمصدر، وسكت حفص وحده عليها سكتة لطيفة والوقف عليها في سائر القراءات حسن. هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ مبتدأ وخبر وما مصدرية، أو موصولة محذوفة الراجع، أو هذا صفة ل مَرْقَدِنا وما وَعَدَ خبر محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، أو مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ حق وهو من كلامهم، وقيل جواب للملائكة أو المؤمنين عن سؤالهم، معدول عن سننه تذكيراً لكفرهم وتقريعاً لهم عليه وتنبيهاً بأن الذي يهمهم هو السؤال عن البعث دون الباعث كأنهم قالوا: بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأرسل إليكم الرسل فصدقوكم وليس الأمر كما تظنون، فإنه ليس يبعث النائم فيهمكم السؤال عن الباعث وإنما هو البعث الأكبر ذو الأهوال.
[سورة يس (36) : الآيات 53 الى 54]
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
إِنْ كانَتْ ما كانت الفعلة. إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأخيرة، وقرئت بالرفع على كان التامة.
فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ بمجرد تلك الصيحة وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر واستغناؤهما عن الأسباب التي ينوطان بها فيما يشاهدونه.
فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حكاية لما يقال لهم حينئذ تصويراً للموعود(4/270)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وتمكيناً له في النفوس وكذا قوله:
[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 56]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56)
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ متلذذون في النعمة من الفكاهة، وفي تنكير شُغُلٍ وإبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة والتلذذ، وتنبيه على أنه أعلى ما يحيط به الأفهام ويعرب عن كنهه الكلام، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو فِي شُغُلٍ بالسكون، ويعقوب في رواية «فكهون» للمبالغة وهما خبران ل إِنَّ، ويجوز أن يكون فِي شُغُلٍ صلة ل فاكِهُونَ، وقرئ «فكهون» بالضم وهو لغة كنطس ونطس «وفاكهين» «وفكهين» على الحال من المستكن في الظرف، وشُغُلٍ بفتحتين وفتحة وسكون والكل لغات.
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ جمع ظل كشعاب أو ظلة كقباب ويؤيده قراءة حمزة والكسائي في «ظلل» .
عَلَى الْأَرائِكِ على السرر المزينة. مُتَّكِؤُنَ وهُمْ مبتدأ خبره فِي ظِلالٍ، وعَلَى الْأَرائِكِ جملة مستأنفة أو خبر ثان أو مُتَّكِؤُنَ والجاران صلتان له، أو تأكيد للضمير في شغل أو في فاكهون، وعلى الأرائك متكئون خبر آخر لإِن وأزواجهم عطف على هُمْ للمشاركة في الأحكام الثلاثة، وفِي ظِلالٍ حال من المعطوف والمعطوف عليه.
[سورة يس (36) : الآيات 57 الى 58]
لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ما يدعون به لأنفسهم يفتعلون من الدعاء كاشتوى واجتمل إذا شوى وجمل لنفسه، أو ما يتداعونه كقولك ارتموه بمعنى تراموه، أو يتمنون من قولهم ادع علي ما شئت بمعنى تمنه علي، أو ما يدعونه في الدنيا من الجنة ودرجاتها وما موصولة أو موصوفة مرتفعة بالابتداء، ولَهُمْ خبرها وقوله:
سَلامٌ بدل منها أو صفة أخرى، ويجوز أن يكون خبرها أو خبرها محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر أي ولهم سلام، وقرئ بالنصب على المصدر أو الحال أي لهم مرادهم خالصاً. قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي يقول الله أو يقال لهم قولاً كائناً من جهته، والمعنى أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيماً لهم وذلك مطلوبهم ومتمناهم، ويحتمل نصبه على الاختصاص.
[سورة يس (36) : الآيات 59 الى 61]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ وانفردوا عن المؤمنين وذلك حين يسار بهم إلى الجنة كقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. وقيل اعتزلوا من كل خير أو تفرقوا في النار فإن لكل كافر بيتاً ينفرد به لا يرى ولا يرى.
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ من جملة ما يقال لهم تقريعاً وإلزاماً للحجة، وعهده إليهم ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادته الزاجرة عن عبادة غيره وجعلها عبادة الشيطان، لأنه الآمر بها والمزين لها، وقرئ «أَعْهَدْ» بكسر حرف المضارعة و «أحهد» و «أحد» على لغة بني تميم.
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للمنع عن عبادته بالطاعة فيما يحملهم عليه.
وَأَنِ اعْبُدُونِي عطف على أَنْ لاَّ تَعْبُدُوا. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إشارة إلى ما عهد إليهم أو إلى عبادته، فالجملة استئناف لبيان المقتضي للعهد بشقيه أو بالشق الآخر، والتنكير للمبالغة والتعظيم، أو للتبعيض(4/271)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
فإن التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم.
[سورة يس (36) : الآيات 62 الى 64]
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ رجوع إلى بيان معاداة الشيطان مع ظهور عداوته ووضوح إضلاله لمن له أدنى عقل ورأي، والجبل الخلق، وقرأ يعقوب بضمتين وابن كثير وحمزة والكسائي بهما مع تخفيف اللام وابن عامر وأبو عمرو بضمة وسكون مع التخفيف والكل لغات، وقرئ «جِبِلاًّ» جمع جبلة كخلقة وخلق و «جيلاً» واحد الأجيال.
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا.
[سورة يس (36) : الآيات 65 الى 66]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ نمنعها عن الكلام. وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بظهور آثار المعاصي عليها ودلالتها على أفعالها، أو إنطاق الله إياها
وفي الحديث «إنهم يجحدون ويخاصمون فيختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم» .
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ لمسحنا أعينهم حتى تصير ممسوحة. فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه، وانتصابه بنزع الخافض أو بتضمين الاستباق معنى الابتدار، أو جعل المسبوق إليه مسبوقاً على الاتساع أو بالظرف. فَأَنَّى يُبْصِرُونَ الطريق وجهة السلوك فضلا عن غيره.
[سورة يس (36) : الآيات 67 الى 68]
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ بتغيير صورهم وإبطال قواهم. عَلى مَكانَتِهِمْ مكانهم بحيث يجمدون فيه، وقرأ أبو بكر «مكاناتهم» . فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ذهاباً. وَلا يَرْجِعُونَ ولا رجوعاً فوضع الفعل موضعه للفواصل، وقيل لاَ يَرْجِعُونَ عن تكذيبهم، وقرئ «مُضِياً» بإتباع الميم الضاد المكسورة لقلب الواو ياء كالعتي والعتي و «مضيا» كصبي، والمعنى أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن يفعل بهم ذلك لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم واقتضاء الحكمة إمهالهم.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ ومن نطل عمره. نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه وانتقاض بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره، وابن كثير على هذه يشبع ضمة الهاء على أصله، وقرأ عاصم وحمزة نُنَكِّسْهُ من التنكيس وهو أبلغ والنكس أشهر. أَفَلا يَعْقِلُونَ أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ فإنه مشتمل عليهما وزيادة غير أنه على تدرج، وقرأ نافع برواية ابن عامر وابن ذكوان ويعقوب بالتاء لجري الخطاب قبله.
[سورة يس (36) : الآيات 69 الى 70]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)(4/272)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ رد لقولهم إن محمداً شاعر أي ما علمناه الشعر بتعليم القرآن، فإنه لا يماثله لفظاً ولا معنى لأنه غير مقفى ولا موزون، وليس معناه ما يتوخاه الشعراء من التخيلات المرغبة والمنفرة ونحوها.
وَما يَنْبَغِي لَهُ وما يصح له الشعر ولا يتأتى له إن أراد قرضه على ما خبرتم طبعه نحواً من أربعين سنة،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب»
وقوله: هَلٌ أَنَتَ إلا إِصبعٌ دَميت وفي سَبِيلِ الله مَا لقيتِ
اتفاقيٌ من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك، وقد يقع مثله كثيراً في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشطور من الرجز شعراً، هذا وقد روي أنه حرك الباءين وكسر التاء الأولى بلا إشباع وسكن الثانية، وقيل الضمير لل قُرْآنٌ أي وما يصح للقرآن أن يكون شعراً. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة وإرشاد من الله تعالى.
وَقُرْآنٌ مُبِينٌ وكتاب سماوي يتلى في المعابد، ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإِعجاز.
لِيُنْذِرَ القرآن أو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويؤيده قراءة نافع وابن عامر ويعقوب بالتاء. مَنْ كانَ حَيًّا عاقلاً فهما فإن الغافل كالميت، أو مؤمناً في علم الله تعالى فإن الحياة الأبدية بالإِيمان، وتخصيص الإِنذار به لأنه المنتفع به. وَيَحِقَّ الْقَوْلُ وتجب كلمة العذاب. عَلَى الْكافِرِينَ المصرين على الكفر، وجعلهم في مقابلة من كان حياً إشعاراً بأنهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أموات في الحقيقة.
[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 73]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا مما تولينا إحداثه ولم يقدر على إحداثه غيرنا، وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص، والتفرد بالإِحداث. أَنْعاماً خصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع. فَهُمْ لَها مالِكُونَ متملكون لها بتمليكنا إياها، أو متمكنون من ضبطها والتصرف فيها بتسخيرنا إياها لهم قال:
أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السِّلاَحَ وَلا ... أَمْلِكُ رَأْسَ البَعِيرِ إِنْ نَفَرَا
وَذَلَّلْناها لَهُمْ وصيرناها منقادة لهم. فَمِنْها رَكُوبُهُمْ مركوبهم، وقرئ «ركوبتهم» ، وهي بمعناه كالحلوب والحلوبة، وقيل جمعه وركوبهم أي ذو ركوبهم أو فمن منافعها رَكُوبُهُمْ. وَمِنْها يَأْكُلُونَ أي ما يأكلون لحمه.
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الجلود والأصواف والأوبار. وَمَشارِبُ من اللبن جمع مشرب بمعنى الموضع، أو المصدر وأمال الشين ابن عامر وحده برواية هشام. أَفَلا يَشْكُرُونَ نعم الله في ذلك إذ لولا خلقه لها وتذليله إياها كيف أمكن التوسل إلى تحصيل هذه المنافع المهمة.
[سورة يس (36) : الآيات 74 الى 76]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أشركوها به في العبادة بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة، وعلموا أنه المتفرد بها. لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ رجاء أن ينصروهم فيما حزبهم من الأمور والأمر بالعكس لأنهم.(4/273)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ لآلهتهم. جُنْدٌ مُحْضَرُونَ معدون لحفظهم والذب عنهم، أو مُحْضَرُونَ أثرهم في النار.
فَلا يَحْزُنْكَ فلا يهمك، وقرئ بضم الياء من أحزن. قَوْلُهُمْ في الله بالإِلحاد والشرك، أو فيك بالتكذيب والتهجين. إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ فنجازيهم عليه وكفى ذلك أن تتسلى به، وهو تعليل للنهي على الاستئناف ولذلك لو قرئ إِنَّا بالفتح على حذف لام التعليل جاز.
[سورة يس (36) : الآيات 77 الى 78]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر، وفيه تقبيح بليغ لإِنكاره حيث عجب منه وجعله إفراطاً في الخصومة بينا ومنافاة لجحود القدرة على ما هو أهون مما عمله في بدء خلقه، ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفاً مكرماً بالعقوق والتكذيب.
روي «أن أُبَي بن خلف أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعظم بال يفتته بيده وقال:
أترى الله يحيي هذا بعد ما رم، فقال عليه الصلاة والسلام: نعم ويبعثك ويدخلك النار فنزلت.
وقيل معنى فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فإذا هو بعد ما كان ماء مهيناً مميز منطيق قادر على الخصام معرب عما في نفسه.
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا أمراً عجيباً وهو نفي القدرة على إحياء الموتى، أو تشبيهه بخلقه بوصفه بالعجز عما عجزوا عنه. وَنَسِيَ خَلْقَهُ خلقنا إياه. قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ منكراً إياه مستبعداً له، والرميم ما بلي من العظام، ولعله فعيل بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسماً بالغلبة ولذلك لم يؤنث، أو بمعنى مفعول من رممته. وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء.
[سورة يس (36) : الآيات 79 الى 80]
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ فإن قدرته كما كانت لامتناع التغير فيه والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها. وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ يعلم تفاصيل المخلوقات بعلمه وكيفية خلقها، فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتتة المتبددة أصولها وفصولها ومواقعها وطريق تمييزها، وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وإعادة الأعراض والقوى التي كانت فيها أو إحداث مثلها.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ كالمرخ والعفار. نَارًا بأن يسحق المرخ على العفار وهما خضراوان يقطر منهما الماء فتنقدح النار. فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ لا تشكون في أنها نار تخرج منه، فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيتها كان أقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضاً فيبس وبلي، وقرئ «من الشجر الخضراء» على المعنى كقوله فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ.
[سورة يس (36) : الآيات 81 الى 82]
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مع كبر جرمهما وعظم شأنهما. بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في الصغر والحقارة بالإِضافة إليهما، أو مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد، وعن يعقوب «يقدر» .
بَلى جواب من الله تعالى لتقرير ما بعد النفي مشعر بأنه لا جواب سواه. وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ كثير(4/274)
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
المخلوقات والمعلومات.
إِنَّما أَمْرُهُ إِنَّمَا شأنه. إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ أي تكون. فَيَكُونُ فهو يكون أي يحدث، وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعاً لمادة الشبهة، وهو قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق، ونصبه ابن عامر والكسائي عطفاً على يَقُولَ.
[سورة يس (36) : آية 83]
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ تنزيه عما ضربوا له، وتعجيب عما قالوا فيه معللاً بكونه مالكاً للأمر كله قادراً على كل شيء. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وعد ووعيد للمقرين والمنكرين، وقرأ يعقوب بفتح التاء.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: كنت لا أعلم ما روي في فضل يس كيف خصت به فإذا أنه بهذه الآية.
وعنه عليه الصلاة والسلام «إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس، وأيما مسلم قرأها يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفاً يصلون عليه ويستغفرون له، ويشهدون غسله ويشيعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه، وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة، فيشربها وهو على فراشه، فيقبض روحه وهو ريان، ويمكث في قبره وهو ريان، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان» .
تم بحمد الله وحسن توفيقه طبع الجزء الرابع من تفسير البيضاوي في مطابع دار إحياء التراث العربي- بيروت الزاهرة، أدامها الله لطبع المزيد من الكتب النافعة، وآخر دعوانا أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين والعاقبة للمتّقين ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم(4/275)
محتوى الجزء الرابع من تفسير البيضاوي
تفسير سورة مريم 5
بيان الحكم الّذي آتاه الله يحيى عليه السلام وهو صبي 7
بيان ما ذهبت إليه النسطورية والملكانية في السيد عيسى عليه السلام 10
بيان ما قام به إبراهيم عليه السلام مع أبيه من النصيحة والأدب 11
بيان ما يلزم قارئ القرآن من البكاء 14
بيان ورود المؤمنين وغيرهم على النار 17
تفسير سورة طه 22
بيان سبب العقدة الّتي كانت في لسان سيدنا موسى عليه السلام 26
بيان المحبة الّتي أعطاها الله لسيدنا موسى في صغره 27
بيان الخطأ والنسيان واستحالتهما على الله تعالى 29
بيان ما صنعته السحرة من السحر لموسى عليه السلام 31
بيان أصل موسى السامريّ وما فعله 34
بيان ما كان عليه آدم عليه السلام من الحلم 40
تفسير سورة الأنبياء 45
بيان الفرق بين إلا الاستثنائية والّتي بمعنى غير 48
بيان معنى رتق الأرض والسموات وفتقهما 50
بيان ما فعل بإبراهيم عليه السلام حين رمي في النار وما قاله 55
بيان الخصومة الّتي عرضت على داود وسليمان وحكم كل فيها وبيان الحكم في شريعتنا 57
تفسير سورة الحج 64
بيان الخلاف في جواز بيع دور الحرم وإجارتها وبسط الدليل لكل 69
بيان ما كان يفعله أهل الجاهلية مع المسلمين في ابتداء الأمر 72
بيان الفرق بين النبي والرسول وبيان عدد الأنبياء 75
بيان ما قيل في الغرانيق 76
بيان السجدة الثانية من تلك السورة 80
تفسير سورة المؤمنون 82(4/277)
بيان ما في عصا موسى عليه السلام من الآيات 88
بيان معنى فساد السموات عند اتباع الحق الأهواء 92
تفسير سورة النور 98
بيان معنى الإحصان وبيان الخلاف في أن التائب عن القذف تقبل شهادته أم لا؟ 99
بيان أسباب حديث الإفك 100
بيان أن القاذف لأزواج النبي هل له توبة أم لا؟ 103
بيان الأربعة الذين برأهم الله 104
بيان ما يجوز إظهاره للمرأة من زينتها وبدنها 104
بيان الكتابة للأرقاء 106
بيان معنى النور ووجه إطلاقه على الله تعالى 107
بيان ما قيل في المطر والسحاب والبرد والثلج 110
تفسير سورة الفرقان 117
بيان السبب في إحباط أعمال الكفار 122
بيان السبب الّذي يدعو إلى التوكل 129
تفسير سورة الشعراء 133
بيان أنّ الواجب تعالى لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية 136
بيان أنّ الموت لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب 141
بيان أن المعاني الروحانية تتنزل أولاً على الروح، ثم منها إلى القلب، ثم منه إلى الدماغ 149
تفسير سورة النمل 154
بيان ما أوتيه سليمان عليه السلام من معرفة منطق الطير 156
بيان السبب في تفقد سليمان الطير حتى علم بغياب الهدهد 157
بيان أنّ إحضار عرش بلقيس من المعجزات 161
بيان الدابة الّتي تخرج آخر الزمان تكلّم النّاس 167
تفسير سورة القصص 171
بيان المدينة الّتي دخلها موسى عليه السلام 174
بيان الشروط الّتي جرى عقد زواج موسى عليها 175
بيان معنى الاختيار 183
بيان نسب قارون وأسباب حسده 185(4/278)
تفسير سورة العنكبوت 188
بيان معنى المجادلة بالتي هي أحسن 196
تفسير سورة الروم 201
بيان أن آية فسبحان الله، جامعة للصلوات الخمس وبيان فضلها 203
بيان الأسباب الّتي تقتضي عدم التوكل 211
تفسير سورة لقمان 212
بيان نسب لقمان ومعنى الحكمة 213
تفسير سورة السجدة 219
تفسير سورة الأحزاب 224
بيان معنى كون النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ 225
بيان غزوة الخندق 226
بيان غزوة بني قريظة 229
بيان زواجه صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش 232
بيان وجوب الصلاة والسلام عليه صلّى الله عليه وسلّم 237
تفسير سورة سبأ 241
بيان معنى تسبيح الجبال والطير مع داود عليه السلام 243
بيان كيفية موت سليمان عليه السلام وما فيه من الآيات 244
بيان نسب سبأ ومسكنهم 244
بيان ما فعل بسبإ وتخريب ديارهم 245
تفسير سورة فاطر الملائكة 253
تفسير سورة يس 263
بيان رسل عيسى عليه السلام إلى أنطاكية وما فعلوه 264
بيان العذاب الّذي فعل بأصحاب القرية 267(4/279)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
[الجزء الخامس]
(37) سورة الصافات
مكية وآيها مائة واثنتان وثمانون آية
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً أقسم بالملائكة الصافين في مقام العبودية، على مراتب باعتبارها تفيض عليهم الأنوار الإِلهية، منتظرين لأمر الله الزاجرين الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به فيها، أو الناس عن المعاصي بإلهام الخير، أو الشياطين عن التعرض لهم التالين آيات الله وجلايا قدسه على أنبيائه وأولياءه، أو بطوائف الأجرام المرتبة كالصفوف المرصوصة والأرواح المدبرة لها والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لاَ يَفْتُرُونَ أو بنفوس العلماء الصافين في العبادات الزاجرين عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح التالين آيات الله وشرائعه، أو بنفوس الغزاة الصافين في الجهاد الزاجرين الخيل، أو العدو التالين ذكر الله لا يشغلهم عنه مباراة العدو والعطف لاختلاف الذوات، أو الصفات والفاء لترتيب الوجود كقوله:
يا لهف زيابة للحارث الص ... ابح فالغانم فالآئب
فإن الصف كمال والزجر تكميل بالمنع عن الشر، أو الإِشاقة إلى قبول الخير والتلاوة إفاضته أو الرتبة
كقوله عليه الصلاة والسلام «رحم الله المحلقين فالمقصرين»
غير أنه لفضل المتقدم على المتأخر وهذا للعكس، وأدغم أبو عمرو وحمزة التاءات فيما يليها لتقاربها فإنها من طرف اللسان وأصول الثنايا.
[سورة الصافات (37) : الآيات 4 الى 5]
إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)
إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ جواب للقسم والفائدة فيه تعظيم المقسم به وتأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم، وأما تحقيقه فبقوله تعالى:
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ فإن وجودها وانتظامها على الوجه الأكمل مع إمكان غيره دليل على وجود الصانع الحكيم ووحدته على ما مر غير مرة، وَرَبُّ بدل من واحد أو خبر ثان أو خبر محذوف وما بينهما يتناول أفعال العباد فيدل على أنها من خلقه، والْمَشارِقِ مشارق الكواكب أو مشارق الشمس في السنة وهي ثلاثمائة وستون مشرقاً، تشرق كل يوم في واحد وبحسبها تختلف المغارب، ولذلك اكتفى بذكرها مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة، وما قيل إنها مائة وثمانون إنما يصح لو لم تختلف أوقات الانتقال.
[سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 7]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا القربى منكم. بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بزينة هي الْكَواكِبِ والإِضافة للبيان، ويعضده قراءة حمزة ويعقوب وحفص بتنوين «زينة» وجر الْكَواكِبِ على إبدالها منه، أو بزينة هي لها(5/5)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
كأضوائها وأوضاعها، أو بأن زينا الْكَواكِبِ فيها على إضافة المصدر إلى المفعول فإنها كما جاءت اسماً كالليقة جاءت مصدراً كالنسبة ويؤيده قراءة أبي بكر بالتنوين، والنصب على الأصل أو بأن زينتها الْكَواكِبِ على إضافته إلى الفاعل وركوز الثوابت في الكرة الثامنة وما عدا القمر من السيارات في الست المتوسطة بينها وبين السماء الدنيا أن تحقق لم يقدح في ذلك، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة.
وَحِفْظاً منصوب بإضمار فعله، أو العطف على «زينة» باعتبار المعنى كأنه قال إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء الدنيا وحفظاً. مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ خارج من الطاعة برمي الشهب.
[سورة الصافات (37) : الآيات 8 الى 10]
لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى كلام مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم، ولا يجوز جعله صفة لكل شيطان فإنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون، ولا علة للحفظ على حذف اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذف أن وأهدرها كقوله:
أَلا أَيّهذا الزَّاجِرِي أحضر الوغى فإن اجتماع ذلك منكر والضمير ل كُلِّ باعتبار المعنى، وتعدية السماع بإلى لتضمنه معنى الإِصغاء مبالغة لنفيه وتهويلاً لما يمنعهم عنه، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بالتشديد من التسمع وهو طلب السماع والْمَلَإِ الْأَعْلى الملائكة وأشرافهم. وَيُقْذَفُونَ ويرمون. مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السماء إذا قصدوا صعوده.
دُحُوراً علة أي للدحور وهو الطرد، أو مصدر لأنه والقذف متقاربان، أو حال بمعنى مدحورين أو منزوع عنه الباء جمع دحر، وهو ما يطرد به ويقويه القراءة بالفتح وهو يحتمل أيضاً أن يكون مصدراً كالقبول أو صفة له أي قذفاً دحوراً. وَلَهُمْ عَذابٌ أي عذاب آخر. واصِبٌ دائم أو شديد وهو عذاب الآخرة.
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء من واو يَسَّمَّعُونَ ومن بدل منه، والخطف الاختلاس والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة ولذلك عرف الخطفة، وقرئ «خَطِفَ» بالتشديد مفتوح الخاء ومكسورها وأصلها اختطف. فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ أتبع بمعنى تبع، والشهاب ما يرى كأن كوكباً انقض، وما قيل إنه بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل فتخمين، إن صح لم يناف ذلك إذ ليس فيه ما يدل على أنه ينقض من الفلك ولا في قوله وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ فإن كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض وزينة للسماء من حيث إنه يرى كأنه على سطحه، ولا يبعد أن يصير الحادث كما ذكر في بعض الأوقات رجماً لشياطين تتصعد إلى قرب الفلك للتسمع، وما
روي أن ذلك حدث بميلاد النبي عليه الصلاة والسلام
إن صح فلعل المراد كثرة وقوعه، أو مصيره دُحُوراً. واختلف في أن المرجوم يتأذى به فيرجع أو يحترق به لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأساً، ولا يقال إن الشيطان من النار فلا يحترق، لأنه ليس من النار الصرف كما أن الإِنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها. ثاقِبٌ مضيء كأنه يثقب الجو بضوئه.
[سورة الصافات (37) : آية 11]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)
فَاسْتَفْتِهِمْ فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة أو لبني آدم. أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني ما ذكر من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب، ومَنْ لتغليب(5/6)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
العقلاء ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك، وقراءة من قرأ «أم من عددنا» ، وقوله: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم كعاد وثمود، وإن المراد إثبات المعاد ورد استحالته والأمر فيه بالإِضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء، وتقريره أن استحالة ذلك إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام بعد، وقد علموا أن الإِنسان الأول إنما تولد منه إما لاعترافهم بحدوث العالم أو بقصة آدم وشاهدوا تولد كثير من الحيوانات منه بلا توسط مواقعة، فلزمهم أن يجوزوا إعادتهم كذلك، وإما لعدم قدرة الفاعل ومن قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتد به بالإِضافة إليها سيما ومن ذلك بدؤهم أولاً وقدرته ذاتية لا تتغير.
[سورة الصافات (37) : الآيات 12 الى 14]
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
بَلْ عَجِبْتَ من قدرة الله تعالى وإنكارهم للبعث. وَيَسْخَرُونَ من تعجبك وتقريرك للبعث، وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء أي بلغ كمال قدرتي وكثرة خلائقي أن تعجبت منها، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها. أو عجبت من أن ينكر البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يجوزه. والعجب من الله تعالى إما على الفرض والتخييل أو على معنى الاستعظام اللازم له فإنه روعة تعتري الإِنسان عند استعظامه الشيء، وقيل إنه مقدر بالقول أي: قال يا محمد بل عجبت.
وَإِذا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ وإذا وعظوا بشيء لا يتعظون به، أو إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً معجزة تدل على صدق القائل به. يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها.
[سورة الصافات (37) : الآيات 15 الى 18]
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18)
وَقالُوا إِنْ هذا يعنون ما يرونه. إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أصله انبعث إذا متنا فبدلوا الفعلية بالاسمية وقدموا الظرف وكرروا الهمزة مبالغة في الإِنكار، وإشعاراً بأن البعث مستنكر في نفسه وفي هذه الحالة أشد استنكاراً، فهو أبلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الأولى وقراءة نافع والكسائي ويعقوب بطرح الثانية.
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ عطف على محل إِنْ واسمها، أو على الضمير في «مبعوثون» فإنه مفصول منه بهمزة الاستفهام لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم، وسكن نافع برواية قالون وابن عامر الواو على معنى الترديد.
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون، وإنما اكتفى به في الجواب لسبق ما يدل على جوازه وقيام المعجز على صدق المخبر عن وقوعه، وقرئ «قَالَ» أي الله أو الرسول وقرأ الكسائي وحده نَعَمْ بالكسر وهو لغة فيه.
[سورة الصافات (37) : الآيات 19 الى 21]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ جواب شرط مقدر أي إذا كان ذلك فإنما البعثة زَجْرَةٌ أي صيحة واحدة،(5/7)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)
وهي النفخة الثانية من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها وأمرها في الإِعادة كأمر كُنْ في الإِبداء ولذلك رتب عليها. فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون، أو ينتظرون ما يفعل بهم.
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ اليوم الذي نجازى بأعمالنا وقد تم به كلامهم وقوله:
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ جواب الملائكة، وقيل هو أيضاً من كلام بعضهم لبعض والفصل القضاء، أو الفرق بين المحسن والمسيء.
[سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 23]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أمر الله للملائكة، أو أمر بعضهم لبعض بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف.
وقيل منه إلى الجحيم. وَأَزْواجَهُمْ وأشباههم عابد الصنم مع عبدة الصنم وعابد الكوكب مع عبدته كقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً أو نساءهم اللاتي على دينهم أو قرناءهم من الشياطين. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام وغيرها زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم، وهو عام مخصوص بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية، وفيه دليل على أن الَّذِينَ ظَلَمُوا هم المشركون. فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ فعرفوهم طريقاً ليسلكوها.
[سورة الصافات (37) : الآيات 24 الى 26]
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) مَا لَكُمْ لاَ تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
وَقِفُوهُمْ احبسوهم في الموقف. إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن عقائدهم وأعمالهم والواو لا توجب الترتيب مع جواز أن يكون موقفهم متعدداً.
مَا لَكُمْ لاَ تَناصَرُونَ لا ينصر بعضكم بعضاً بالتخليص، وهو توبيخ وتقريع.
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم، وأصل الاستسلام طلب السلامة أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضاً ويخذله.
[سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 28]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني الرؤساء والأتباع أو الكفرة والقرناء. يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضاً للتوبيخ ولذلك فسر بيتخاصمون.
قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ عن أقوى الوجوه وأيمنها، أو عن الدين أو عن الخير كأنكم تنفعوننا نفع السانح فتبعناكم وهلكنا، مستعار من يمين الإِنسان الذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما ولذلك سمي يميناً وتيمن بالسانح، أو عن القوة والقهر فتقسروننا على الضلال، أو عن الحلف فإنهم كانوا يحلفون لهم إنهم على الحق.
[سورة الصافات (37) : الآيات 29 الى 32]
قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32)
قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.
وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أجابهم الرؤساء أولاً بمنع إضلالهم بأنهم كانوا ضالين في أنفسهم، وثانياً بأنهم ما أجبروهم على الكفر إذ لم يكن لهم عليهم تسلط وإنما جنحوا إليه لأنهم كانوا قوماً مختارين الطغيان.(5/8)
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ.
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ثم بينوا أن ضلال الفريقين ووقوعهم في العذاب كان أمراً مقضياً لا محيص لهم عنه، وإن غاية ما فعلوا بهم أنهم دعوهم إلى الغي لأنهم كانوا على الغي فأحبوا أن يكونوا مثلهم، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كل غواية لإِغواء غاو فمن أغواهم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 33 الى 35]
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
فَإِنَّهُمْ فإن الأتباع والمتبوعين. يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين في الغواية.
إِنَّا كَذلِكَ مثل ذلك الفعل. نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ بالمشركين لقوله تعالى:
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ أي عن كلمة التوحيد، أو على من يدعوهم إليه.
[سورة الصافات (37) : الآيات 36 الى 39]
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمداً عليه الصلاة والسلام.
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ رد عليهم بأن ما جاء به من التوحيد حق قام به البرهان وتطابق عليه المرسلون.
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ بالإشراك وتكذيب الرسل، وقرئ بنصب الْعَذابِ، على تقرير النون كقوله:
وَلاَ ذَاكِرُ الله إِلاَّ قَلِيلاً وهو ضعيف في غير المحلى باللام وعلى الأصل.
وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إلا مثل ما عملتم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 40 الى 43]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع إلا أن يكون الضمير في تُجْزَوْنَ لجميع المكلفين فيكون استثناؤهم عنه باعتبار المماثلة، فإن ثوابهم مضاعف والمنقطع أيضاً بهذا الاعتبار.
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ خصائصه من الدوام، أو تمحض اللذة ولذلك فسره بقوله:
فَواكِهُ فإن الفاكهة ما يقصد للتلذذ دون التغذي والقوت بالعكس، وأهل الجنة لما أعيدوا على خلقة محكمة محفوظة عن التحلل كانت أرزاقهم فواكه خالصة. وَهُمْ مُكْرَمُونَ في نيله يصل إليهم من غير تعب وسؤال كما عليه رزق الدنيا.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ في جنات ليس فيها إلا النعيم، وهو ظرف أو حال من المستكن في مُكْرَمُونَ، أو خبر ثان ل أُولئِكَ وكذلك:
[سورة الصافات (37) : الآيات 44 الى 47]
عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47)(5/9)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
عَلى سُرُرٍ يحتمل الحال أو الخبر فيكون: مُتَقابِلِينَ حالاً من المستكن فيه أو في مُكْرَمُونَ، وأن يتعلق ب مُتَقابِلِينَ فيكون حالاً من ضمير مُكْرَمُونَ.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ بإناء فيه خمر أو خمر كقوله: وَكَأْسٌ شُرِبَتْ عَلَى لَذَّةٍ. مِنْ مَعِينٍ من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون، أو خارج من العيون وهو صفة للماء من عان الماء إذا نبع. وصف به خمر الجنة لأنها تجري كالماء، أو للإِشعار بأن ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من أنواع الأشربة لكمال اللذة، وكذلك قوله:
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وهما أيضاً صفتان لكأس، ووصفها ب لَذَّةٍ إما للمبالغة أو لأنها تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب ووزنه فعل قال:
وَلَذّ كَطَعْم الصَرخديّ تَرَكْتُه ... بِأَرْضِ العِدَا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثَانِ
لاَ فِيها غَوْلٌ غائلة كما في خمر الدنيا كالخمار من غاله يغوله إذا أفسده ومنه الغول. وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون من نزف الشارب فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله، أفرده بالنفي وعطفه على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي وتابعهما عاصم في «الواقعة» من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه، وأصله للنفاد يقال نزف المطعون إذا خرج دمه كله ونزحت الركية حتى نزفتها.
[سورة الصافات (37) : الآيات 48 الى 49]
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهن على أزواجهن. عِينٌ نجل العيون جمع عيناء.
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ شبههن ببيض النعام المصون عن الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة فإنه أحسن ألوان الأبدان.
[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 53]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ معطوف على يُطافُ عَلَيْهِمْ أي يشربون فيتحادثون على الشراب قال:
وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إِلا ... أَحَادِيثُ الكِرَامِ عَلَى المُدَامِ
والتعبير عنه بالماضي للتأكيد فيه فإنه ألذ تلك اللذات إلى العقل، وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ في مكالمتهم. إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ جليس في الدنيا ...
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ يوبخني على التصديق بالبعث، وقرئ بتشديد الصاد من التصدق.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ لمجزيون من الدين بمعنى الجزاء.
[سورة الصافات (37) : الآيات 54 الى 55]
قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55)
قالَ أي ذلك القائل. هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين، وقيل القائل هو الله أو(5/10)
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
بعض الملائكة يقول لهم: هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم؟ وعن أبي عمرو مُطَّلِعُونَ، فَاطَّلَعَ بالتخفيف وكسر النون وضم الألف على أنه جعل اطلاعهم سبب اطلاعه من حيث أن أدب المجالسة يمنع الاستبداد به، أو خاطب الملائكة على وضع المتصل موضع المنفصل كقوله:
هُم الآمِرُونَ الخَيْرَ وَالفَاعِلُونَهُ أو شبه اسم الفاعل بالمضارع.
فَاطَّلَعَ عليهم. فَرَآهُ أي قرينه. فِي سَواءِ الْجَحِيمِ وسطه.
[سورة الصافات (37) : الآيات 56 الى 59]
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ لتهلكني بالإغواء، وقرئ «لتغوين» وإِنْ هي المخففة واللام هي الفارقة.
وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي بالهداية والعصمة. لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك فيها.
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ عطف على محذوف أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين، أي بمن شأنه الموت وقرئ «بمائتين» .
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي كانت في الدنيا وهي متناولة لما في القبر بعد الإِحياء للسؤال، ونصبها على المصدر من اسم الفاعل. وقيل على الاستثناء المنقطع. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ كالكفار، وذلك تمام كلامه لقرينه تقريعاً له أو معاودة إلى مكالمة جلسائه تحدثاً بنعمة الله، أو تبجحاً بها وتعجباً منها وتعريضاً للقرين بالتوبيخ.
[سورة الصافات (37) : الآيات 60 الى 61]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يحتمل أن يكون من كلامهم وأن يكون كلام الله لتقرير قوله والإِشارة إلى ما هم عليه من النعمة والخلود والأمن من العذاب.
لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام، وهو أيضاً يحتمل الأمرين.
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 66]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ شجرة ثمرها نزل أهل النار، وانتصاب نُزُلًا على التمييز أو الحال وفي ذكره دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقام للنازل ولهم وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، وكذلك الزقوم لأهل النار، وهو: اسم شجرة صغيرة الورق دفر مرة تكون بتهامة سميت به الشجرة الموصوفة.
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ محنة وعذاباً لهم في الآخرة، أو ابتلاء في الدنيا فإنهم لما سمعوا أنها في النار قالوا كيف ذلك والنار تحرق الشجر، ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإِحراق.(5/11)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
طَلْعُها حملها مستعار من طلع التمر لمشاركته إياه في الشكل، أو الطلوع من الشجر. كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ في تناهي القبح والهول، وهو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق الحسن بالملك. وقيل الشَّياطِينِ حيات هائلة قبيحة المنظر لها أعراف، ولعلها سميت بها لذلك.
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها من الشجرة أو من طلعها. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ لغلبة الجوع أو الجبر على أكلها.
[سورة الصافات (37) : الآيات 67 الى 68]
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم، ويجوز أن يكون ثم لما في شرابهم من مزيد الكراهة والبشاعة. لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ لشراباً من غساق، أو صديد مشوباً بماء حميم يقطع أمعاءهم، وقرئ بالضم وهو اسم ما يشاب به والأول مصدر سمي به.
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ مصيرهم. لَإِلَى الْجَحِيمِ إلى دركاتها أو إلى نفسها، فإن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولهم، وقيل الحميم خارج عنها لقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ يوردون إليه كما تورد الإِبل إلى الماء ثم يردون إلى الجحيم، ويؤيده أنه قرئ «ثم إن منقلبهم» .
[سورة الصافات (37) : الآيات 69 الى 74]
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال، والإِهراع: الإِسراع الشديد كأنهم يزعجون على الإِسراع على آثارِهِمْ، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير توقف على نظر وبحث.
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك. أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنبياء أنذروهم من العواقب.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ من الشدة والفظاعة.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ إلا الذين تنبهوا بإنذارهم فأخلصوا دينهم لله، وقرئ بالفتح أي الذين أخلصهم الله لدينه والخطاب مع الرسول صلّى الله عليه وسلم، والمقصود خطاب قومه فإنهم أيضاً سمعوا أخبارهم ورأوا آثارهم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 78]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها، أي ولقد دعانا حين أيس من قومه. فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي فأجبناه أحسن الإجابة فو الله لنعم المجيبون نحن، فحذف منها ما حذف لقيام ما يدل عليه.
وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من الغرق أو أذى قومه.(5/12)
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ إذ هلك من عداهم وبقوا متناسلين إلى يوم القيامة، إذ
روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير بنيه وأزواجهم.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ من الأمم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 79 الى 82]
سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
سَلامٌ عَلى نُوحٍ هذا الكلام جيء به على الحكاية والمعنى يسلمون عليه تسليماً. وقيل هو سلام من الله عليه ومفعول تَرَكْنا محذوف مثل الثناء. فِي الْعالَمِينَ متعلق بالجار والمجرور ومعناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعاً.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تعليل لما فعل بنوح من التكرمة بأنه مجازاة له على إحسانه.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ تعليل لإِحسانه بالإِيمان إظهاراً لجلالة قدره وأصالة أمره.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعني كفار قومه.
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 87]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ ممن شايعه في الإِيمان وأصول الشريعة. لَإِبْراهِيمَ ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالباً، وكان بينهما ألفان وستمائة وأربعون سنة، وكان بينهما نبيان هود وصالح.
إِذْ جاءَ رَبَّهُ متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة أو بمحذوف هو اذكر. بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من آفات القلوب أو من العلائق خالص لله أو مخلص له، وقيل حزين من السليم بمعنى اللديغ. ومعنى المجيء به ربه: إخلاصه له كأنه جاء به متحفاً إياه.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ بدل من الأولى أو ظرف ل جاءَ أو سَلِيمٍ.
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي تريدون آلهة دون الله إفكاً مقدم المفعول للعناية ثم المفعول له لأن الأهم أن يقرر أنهم على الباطل ومبنى أمرهم على الافك، ويجوز أن يكون إِفْكاً مفعولاً به وآلِهَةً بدل منه على أنها إفك في نفسها للمبالغة، أو المراد بها عبادتها بحذف المضاف أو حالاً بمعنى إفكين.
فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربا للعالمين حتى تركتم عبادته، أو أشركتم به غيره أو أمنتم من عذابه، والمعنى إنكار ما يوجب ظناً فضلاً عن قطع يصد عن عبادته، أو يجوز الإِشراك به أو يقتضي الأمن من عقابه على طريقة الإِلزام وهو كالحجة على ما قبله.
[سورة الصافات (37) : الآيات 88 الى 90]
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فرأى مواقعها واتصالاتها، أو في علمها أو في كتابها، ولا منع منه مع أن قصده إيهامهم وذلك حين سألوه أن يعبد معهم.
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ أراهم أنه استدل بها لأنهم كانوا منجمين على أنه مشارف للسقم لئلا يخرجوه إلى معبدهم، فإنه كان أغلب أسقامهم الطاعون وكانوا يخافون العدوى، أو أراد إني سقيم القلب لكفركم، أو خارج المزاج عن الاعتدال خروجاً قل من يخلو منه أو بصدد الموت ومنه المثل: كفى بالسلامة داء، وقول لبيد:(5/13)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
فَدَعَوْتُ رَبِّي بِالسَّلاَمَةِ جَاهِدا ... لِيُصحّنِي فَإِذَا السَّلاَمَةُ دَاءُ
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ هاربين مخافة العدوى.
[سورة الصافات (37) : الآيات 91 الى 93]
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93)
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فذهب إليها في خفية من روغة الثعلب وأصله الميل بحيلة. فَقالَ أي للأصنام استهزاء. أَلا تَأْكُلُونَ يعني الطعام الذي كان عندهم.
مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ بجوابي.
فَراغَ عَلَيْهِمْ فمال عليهم مستخفياً، والتعدية بعلى للاستعلاء وإن الميل لمكروه. ضَرْباً بِالْيَمِينِ مصدر «لراغ عليهم» لأنه في معنى ضربهم، أو لمضمر تقديره فراغ عليهم يضربهم وتقييده باليمين للدلالة على قوته فإن قوة الآلة تستدعي قوة الفعل، وقيل بِالْيَمِينِ بسبب الحلف وهو قوله: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ.
[سورة الصافات (37) : الآيات 94 الى 96]
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة وبحثوا عن كاسرها فظنوا أنه هو كما شرحه في قوله: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا الآية. يَزِفُّونَ يسرعون من زفيف النعام. وقرى حمزة على بناء المفعول من أزفه أي يحملون على الزفيف. وقرئ «يَزِفُّونَ» أي يزف بعضهم بعضاً، و «يَزِفُّونَ» من وزف يزف إذا أسرع و «يَزِفُّونَ» من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضاً لتسارعهم إليه قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ما تنحتونه من الأصنام.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي وما تعملونه فإن جوهرها بخلقه وشكلها وإن كان بفعلهم، ولذلك جعل من أعمالهم فبإقداره إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي والعدد، أو عملكم بمعنى معمولكم ليطابق ما تنحتون، أو إنه بمعنى الحدث فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى فيهم كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك، وبهذا المعنى تمسك أصحابنا على خلق الأعمال ولهم أن يرجحوه على الأولين لما فيهما من حذف أو مجاز.
[سورة الصافات (37) : الآيات 97 الى 98]
قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ في النار الشديدة من الجحمة وهي شدة التأجج، واللام بدل الإِضافة أي جحيم ذلك البنيان.
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فإنه لما قهرهم بالحجة قصدوا تعذيبه بذلك لئلا يظهر للعامة عجزهم. فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهاناً نيراً على علو شأنه، حيث جعل النار عليه برداً وسلاما.
[سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 101]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني ربي وهو الشام، أو حيث أتجرد فيه لعبادته. سَيَهْدِينِ إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي، وإنما بت القول لسبق وعده أو لفرط توكله، أو البناء على عادته معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه الصلاة والسلام حين قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ فلذلك ذكر بصيغة التوقع.
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة، يعني الولد لأن لفظ الهبة غالب فيه ولقوله:(5/14)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ بشره بالولد وبأنه ذكر يبلغ أوان الحلم، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ويكون حليماً وأي حلم مثل حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فقال سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. وقيل ما نعت الله نبياً بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه عليهما الصلاة والسلام، وحالهما المذكورة بعد تشهد عليه.
[سورة الصافات (37) : الآيات 102 الى 103]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي فلما وجد وبلغ أن يسعى معه في أعماله، ومَعَهُ متعلق بمحذوف دل عليه السَّعْيَ لا به لأن صلة المصدر لا تتقدمه ولا ب بَلَغَ فإن بلوغهما لم يكن معاً كأنه لَمَّا قال: فَلَمَّا بَلَغَ السعي فقيل مع من فقيل مَعَهُ، وتخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق والاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه، أو لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة. قالَ يَا بُنَيَّ وقرأ حفص بفتح الياء.
إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره، وقيل إنه رأى ليلة التروية أن قائلاً يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح روى أنه من الله أو من الشيطان، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره وقال له ذلك، ولهذا سميت الأيام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر، والأظهر أن المخاطب إسماعيل عليه السلام لأنه الذي وهب له أثر الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام،
ولقوله عليه الصلاة والسلام «أنا ابن الذبيحين» .
فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله، فإن جده عبد المطلب نذر أن يذبح ولداً إن سهل الله له حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة، فلما سهل أقرع فخرج السهم على عبد الله ففداه بمائة من الإِبل، ولذلك سنت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير، ولم يكن إسحاق ثمة ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقاً، وما
روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل أي النسب أشرف فقال: يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن خليل الله فالصحيح أنه قال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم»
والزوائد من الراوي.
وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياء فيهما.
فَانْظُرْ مَاذَا تَرى من الرأي، وإنما شاوره فيه وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله فيثبت قدمه إن جزع، ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون ويكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله، وقرأ حمزة والكسائي مَاذَا تَرى بضم التاء وكسر الراء خالصة، والباقون بفتحهما وأبو عمرو يميل فتحة الراء وورش بين بين والباقون بإخلاص فتحها. قالَ يَا أَبَتِ وقرأ ابن عامر بفتح التاء. افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ أي ما تؤمر به فحذفا دفعة، أو على الترتيب كما عرفت أو أمرك على إرادة المأمور به والإِضافة إلى المأمور، أو لعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأموراً به، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، ولعل الأمر به في المنام دون اليقظة لتكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص، وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على الذبح أو على قضاء الله، وقرأ نافع بفتح الياء.
فَلَمَّا أَسْلَما استسلما لأمر الله أو سلما الذبيح نفسه وإبراهيم ابنه، وقد قرئ بهما وأصلها سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة. وقيل كبه على وجهه بإشارته لئلا يرى فيه تغيراً يرق له فلا يذبحه، وكان ذلك عند الصخرة بمنى أو في الموضع المشرف على مسجده، أو المنحر الذي ينحر فيه اليوم.(5/15)
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
[سورة الصافات (37) : الآيات 104 الى 106]
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106)
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا بالعزم والإِتيان بالمقدمات.
وقد روي أنه أمر السكين بقوته على حلقه مراراً فلم تقطع
، وجواب «لما» محذوف تقديره كان ما كان مما ينطق به الحال ولا يحيط به المقال، من استبشارهما وشكرهما لله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق بما لم يوفق غيرهما لمثله، وإظهار فضلهما به على العالمين مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تعليل لإِفراج تلك الشدة عنهما بإحسانهما، واحتج به من جوز النسخ قبل وقوعه فإنه عليه الصلاة والسلام كان مأموراً بالذبح لقوله يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ولم يحصل.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الابتلاء البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، أو المحنة البينة الصعوبة فإنه لا أصعب منها.
[سورة الصافات (37) : الآيات 107 الى 110]
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ بما يذبح بدله فيتم به الفعل. عَظِيمٍ عظيم الجثة سمين، أو عظيم القدر لأنه يفدي به الله نبياً ابن نبي وأي نبي من نسله سيد المرسلين. قيل كان كبشاً من الجنة. وقيل وعلاً أهبط عليه من ثبير.
وروي أنه هرب منه عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فصارت سنة
، والفادي على الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإنما قال وفديناه لأن الله المعطي له والآمر به على التجوز في الفداء أو الإِسناد، واستدل به الحنفية على أن من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة وليس فيه ما يدل عليه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ سبق بيانه في قصة نوح عليه السلام. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لعله طرح عنه أنا اكتفاء بذكره مرة في هذه القصة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 111 الى 113]
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ مقضياً نبوته مقدراً كونه من الصالحين وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال غير شرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار المعنى بالحال، فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملا فيهما مثلا وبَشَّرْناهُ بوجود إسحاق أي بأن يوجد إسحاق نبياً من الصالحين، ومع ذلك لا يصير نظير قوله: فَادْخُلُوها خالِدِينَ فإن الداخلين مقدرون خلودهم وقت الدخول وإسحاق لم يكن مقدراً نبوة نفسه وصلاحها حينما يوجد، ومن فسر الذبيح بإسحاق جعل المقصود من البشارة نبوته، وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه وإيماء بأنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإِطلاق.
وَبارَكْنا عَلَيْهِ على إبراهيم في أولاده. وَعَلى إِسْحاقَ بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب، أو أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا، وقرئ «وبركنا» . وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ في عمله أو إلى نفسه بالإِيمان والطاعة. وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر والمعاصي. مُبِينٌ ظاهر ظلمه، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في أعقابهما لا يعود عليهما بنقيصه وعيب.
[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 118]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)(5/16)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية.
وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من تغلب فرعون أو الغرق.
وَنَصَرْناهُمْ ثم الضمير لهما مع القوم. فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على فرعون وقومه.
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ البليغ في بيانه وهو التوراة.
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الطريق الموصل إلى الحق والصواب.
[سورة الصافات (37) : الآيات 119 الى 122]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ سبق مثل ذلك.
[سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 126]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ هو إلياس بن ياسين سبط هارون أخى موسى بعث بعده. وقيل إدريس لأنه قرئ إدريس وإدراس مكانه وفي حرف أبي رضي الله عنه. «وإن إبليس» وقرأ ابن ذكوان مع خلاف عنه بحذف همزة إلياس.
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ عذاب الله.
أَتَدْعُونَ بَعْلًا أتعبدونه أو أتطلبون الخير منه، وهو اسم صنم كان لأهل بَكَّ من الشام وهو البلد الذي يقال له الآن بعلبك وقيل البعل الرب بلغة اليمن، والمعنى أتدعون بعض البعول. وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ وتتركون عبادته، وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار المعني بالهمزة ثم صرح به بقوله:
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص بالنصب على البدل.
[سورة الصافات (37) : الآيات 127 الى 128]
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي في العذاب، وإنما أطلقه اكتفاء منه بالقرينة، أو لأن الإِحضار المطلق مخصوص بالشر عرفاً.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ مستثنى من الواو لا من المحضرين لفساد المعنى.
[سورة الصافات (37) : الآيات 129 الى 132]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ.
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ لغة في إلياس كسيناء وسينين، وقيل جمع له مراد به هو وأتباعه كالمهلبين، لكن فيه أن العلم إذا جمع يجب تعريفه باللام أو للمنسوب إليه بحذف ياء النسب كالأعجمين وهو قليل ملبس، وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب على إضافة إل إلى يَاسِينَ لأنهما في المصحف مفصولان فيكون يَاسِينَ أبا إِلْيَاسَ، وقيل محمد عليه الصلاة والسلام أو القرآن أو غيره من كتب الله والكل لا يناسب(5/17)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
نظم سائر القصص ولا قوله:
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ إذ الظاهر أن الضمير لإلياس.
[سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
سبق بيانه.
وَإِنَّكُمْ
يا أهل مكة. لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سدوم في طريقه.
مُصْبِحِينَ
داخلين في الصباح.
وَبِاللَّيْلِ
أي ومساء أو نهاراً وليلاً، ولعلها وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحاً والقاصد لها مساء. أَفَلا تَعْقِلُونَ
أفليس فيكم عقل تعتبرون به.
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 144]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
وقرئ بكسر النون.
إِذْ أَبَقَ
هرب، وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه.
إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
المملوء.
فَساهَمَ
فقارع أهله. فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
فصار من المغلوبين بالقرعة، وأصله المزلق عن مقام الظفر.
روي أنه لما وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله، فركب السفينة فوقفت فقالوا: ها هنا عبد آبق فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فقال أنا الآبق ورمى بنفسه في الماء.
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فابتلعه من اللقمة. وَهُوَ مُلِيمٌ داخل في الملامة، أو آت بما يلام عليها أو مليم نفسه، وقرئ بالفتح مبنياً من ليم كمشيب في مشوب.
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح مدة عمره، أو في بطن الحوت وهو قوله لاَّ إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وقيل من المصلين.
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ حياً وقيل ميتاً، وفيه حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه، ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده عند الضراء.
[سورة الصافات (37) : الآيات 145 الى 148]
فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)
فَنَبَذْناهُ بأن حملنا الحوت على لفظه. بِالْعَراءِ بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت.
روي أن الحوت سار مع السفينة رافعاً رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح حتى انتهوا إلى البر فلفظه
، واختلف في مدة لبثه فقيل بعض يوم وقيل ثلاثة أيام وقيل سبعة، وقيل عشرون وقيل أربعون. وَهُوَ سَقِيمٌ مما ناله قيل صار بدنه كبدن الطفل حين يولد.
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ أي فوقه مظلة عليه. شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ من شجر ينبسط على وجه الأرض ولا يقوم(5/18)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
على ساقه، يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به، والأكثر على أنها كانت الدباء غطته بأوراقها عن الذباب فإنه لا يقع عليه، ويدل عليه أنه
قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنك لتحب القرع، قال: «أجل هي شجرة أخي يونس» .
وقيل التين وقيل الموز تغطى بورقه واستظل بأغصانه وأفطر على ثماره.
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ هم قومه الذين هرب عنهم وهم أهل نينوى، والمراد به ما سبق من إرساله أو إرسال ثان إليهم أو إلى غيرهم. أَوْ يَزِيدُونَ في مرأى الناظر أي إذا نظر إليهم، قال هم مائة ألف أو يزيدون والمراد الوصف بالكثرة وقرئ بالواو.
فَآمَنُوا فصدقوه أو فجددوا الإِيمان به بمحضره. فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ إلى أجلهم المسمى، ولعله إنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص تفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع الكبر وأولى العزم من الرسل، أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 152]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ معطوف على مثله، في أول السورة أمر رسوله أولاً باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث، وساق الكلام في تقريره جاراً لما يلائمه من القصص موصولاً بعضها ببعض، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة حيث جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين في قولهم: الملائكة بنات الله، وهؤلاء زادوا على الشرك ضلالات أخر، التجسيم وتجويز الفناء على الله تعالى، فإن الولادة مخصوصة بالأجسام الكائنة الفاسدة، وتفضيل أنفسهم عليه حيث جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم، واستهانتهم بالملائكة حيث أنثوهم ولذلك كرر الله تعالى إنكار ذلك وإبطاله في كتابه مراراً، وجعله مما تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، والإِنكار ها هنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما، أو لأن فسادهما مما تدركه العامة بمقتضى طباعهم حيث جعل المعادل للاستفهام عن التقسيم.
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ وإنما خص علم المشاهدة لأن أمثال ذلك لا تعلم إلا بها، فإن الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم لتمكن معرفته بالعقل الصرف مع ما فيه من الاستهزاء، والإشعار بأنهم لفرط جهلهم يبتون به كأنهم قد شاهدوا خلقهم.
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ لعدم ما يقتضيه وقيام ما ينفيه. وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يتدينون به، وقرئ «وَلَدَ الله» أي الملائكة ولده، فعل بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
[سورة الصافات (37) : الآيات 153 الى 157]
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157)
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ استفهام إنكار واستبعاد، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء، وعن نافع كسر الهمزة على حذف حرف الاستفهام لدلالة أم بعدها عليها أو على الإِثبات بإضمار القول أي: لكاذبون في قولهم اصطفى، أو إبداله من وَلَدَ اللَّهُ.
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بما لا يرتضيه عقل.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ أنه منزه عن ذلك.
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بناته.(5/19)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي أنزل عليكم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
في دعواكم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 158 الى 160]
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً يعني الملائكة ذكرهم باسم جنسهم وضعاً منهم أن يبلغوا هذه المرتبة، وقيل قالوا إن الله تعالى صاهر الجن فخرجت الملائكة، وقيل قالوا الله والشياطين إخوان. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ إن الكفرة أو الإِنس والجن إن فسرت بغير الملائكة لَمُحْضَرُونَ في العذاب.
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من الولد والنسب.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء من المحضرين منقطع، أو متصل إن فسر الضمير بما يعمهم وما بينهما اعتراض أو من يَصِفُونَ.
[سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 163]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ عود إلى خطابهم.
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ على الله. بِفاتِنِينَ مفسدين الناس بالإِغواء.
إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ إِلاَّ من سبق في علمه أنه من أهل النار ويصلاها لا محالة، وأَنْتُمْ ضمير لهم ولآلهتهم غلب فيه المخاطب على الغائب، ويجوز أن يكون وَما تَعْبُدُونَ لما فيه من معنى المقارنة ساداً مسد الخبر أي إنكم وآلهتكم قرناء لا تزالون تعبدونها، ما أنتم على ما تعبدونه بفاتنين بباعثين على طريق الفتنة إلا ضالاً مستوجباً للنار مثلكم، وقرئ «صَال» بالضم على أنه جمع محمول على معنى من ساقط واوه لالتقاء الساكنين، أو تخفيف صائل على القلب كشاك في شائك، أو المحذوف منه كالمنسي كما في قولهم:
ما باليت به بالة، فإن أصلها بالية كعافية.
[سورة الصافات (37) : الآيات 164 الى 166]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ حكاية اعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم والمعنى: وما منا أحد إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ في المعرفة والعبادة والانتهاء إلى أمر الله في تدبير العالم، ويحتمل أن يكون هذا وما قبله من قوله سُبْحانَ اللَّهِ من كلامهم ليتصل بقوله: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ كأنه قال ولقد علمت الملائكة أن المشركين معذبون بذلك وقالوا سُبْحانَ اللَّهِ تنزيهاً له عنه، ثم استثنوا الْمُخْلَصِينَ تبرئة لهم منه، ثم خاطبوا المشركين بأن الافتتان بذلك للشقاوة المقدرة، ثم اعترفوا بالعبودية وتفاوت مراتبهم فيه لا يتجاوزونها فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ في أداء الطاعة ومنازل الخدمة.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ المنزهون الله عما لا يليق به، ولعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف، وما في إن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائماً من غير فترة دون غيرهم. وقيل هو من كلام النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين والمعنى: وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مقام معلوم في الجنة أو بين يدي الله يوم القيامة، وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ له في الصلاة والمنزهون له عن السوء.
[سورة الصافات (37) : الآيات 167 الى 170]
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)(5/20)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ أي مشركو قريش.
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ كتاباً من الكتب التي نزلت عليهم.
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لأخلصنا العبادة له ولم نخالف مثلهم.
فَكَفَرُوا بِهِ أي لما جاءهم الذكر الذي هو أشرف الأذكار والمهيمن عليها. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 175]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي وعدنا لهم النصر والغلبة وهو قوله: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ.
إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
وهو باعتبار الغالب والمقضي بالذات، وإنما سماه كلمة وهي كلمات لانتظامهم في معنى واحد.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عنهم. حَتَّى حِينٍ هو الموعد لنصرك عليهم وهو يوم بدر، وقيل يوم الفتح.
وَأَبْصِرْهُمْ على ما ينالهم حينئذ والمراد بالأمر الدلالة على أن ذلك كائن قريب كأنه قدامه. فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما قضينا لك من التأييد والنصرة والثواب في الآخرة، و «سوف» للوعيد لا للتبعيد.
[سورة الصافات (37) : الآيات 176 الى 179]
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ
روي أنه لما نزل فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا متى هذا فنزلت.
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فإذا نزل العذاب بفنائهم، شبهه بجيش هجمهم فأناخ بفنائهم بغتة، وقيل الرسول وقرئ نَزَلَ على إسناده إلى الجار والمجرور ونَزَلَ أي العذاب. فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ فبئس صباح المنذرين صباحهم، واللام للجنس وال صَباحُ مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب، ولما كثر فيهم الهجوم والغارة في الصباح سموا الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ تأكيد إلى تأكيد وإطلاق بعد تقييد للاشعار بأنه يبصر وأنهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من أصناف المسرة وأنواع المساءة، أو الأول لعذاب الدنيا والثاني لعذاب الآخرة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 180 الى 182]
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ عما قاله المشركون فيه على ما حكي في السورة، وإضافة الرب إلى العزة لاختصاصها به إذ لا عزة إلا له أو لمن أعزه، وقد أدرج فيه جملة صفاته السلبية والثبوتية مع الإِشعار بالتوحيد.
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ تعميم للرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على ما أفاض عليهم وعلى من اتبعهم من النعم وحسن العاقبة ولذلك(5/21)
أخره عن التسليم، والمراد تعليم المؤمنين كيف يحمدونه ويسلمون على رسله.
وعن علي رضي الله عنه: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه: سبحان ربك إلى آخر السورة.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ «والصافات» أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان، وتباعدت عنه مردة الجن والشياطين، وبرىء من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمناً بالمرسلين» .(5/22)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
(38) سورة ص
مكية وآيها ست أو ثمان وثمانون آية
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2)
ص وقرئ بالكسر لالتقاء الساكنين، وقيل إنه أمر من المصاداة بمعنى المعارضة، ومنه الصدى فإنه يعارض الصوت الأول أي عارض القرآن بعملك، وبالفتح لذلك أو لحذف حرف القسم وإيصال فعله إليه، أو إضماره والفتح في موضع الجر فإنها غير مصروفة لأنها علم السورة وبالجر والتنوين على تأويل الكتاب.
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ الواو للقسم إن جعل ص اسماً للحرف أو مذكور للتحدي، أو للرمز بكلام مثل صدق محمد عليه الصلاة والسلام، أو للسورة خبر المحذوف أو لفظ الأمر، وللعطف إن جعل مقسماً به كقولهم: الله لأفعلن بالجر والجواب محذوف دل عليه ما في ص من الدلالة على التحدي، أو الأمر بالمعادلة أي إنه لمعجز أو لواجب العمل به، أو إن محمداً لصادق أو قوله:
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا به. فِي عِزَّةٍ أي استكبار عن الحق. وَشِقاقٍ خلاف لله ورسوله ولذلك كفروا به، وعلى الأولين الإِضراب أيضاً من الجواب المقدر ولكن من حيث إشعاره بذلك والمراد بالذكر العظة أو الشرف والشهره، أو ذكر ما يحتاج اليه في الدين من العقائد والشرائع والمواعيد، والتنكير في عِزَّةٍ وَشِقاقٍ للدلالة على شدتهما، وقرئ في «غرة» أي غفلة عما يجب عليهم النظر فيه.
[سورة ص (38) : آية 3]
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3)
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ وعيد لهم على كفرهم به استكباراً وشقاقاً. فَنادَوْا استغاثة أو توبة أو استغفاراً. وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي ليس الحين حين مناص، ولا هي المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب وثم، وخصت بلزوم الأحيان وحذف أحد المعمولين، وقيل هي النافية للجنس أي ولا حين مناص لهم، وقيل للفعل والنصب بإضماره أي ولا أرى حين مناص، وقرئ بالرفع على أنه اسم لا أو مبتدأ محذوف الخبر أي ليس حين مناص حاصلاً لهم، أو لا حين مناص كائن لهم وبالكسر كقوله:
طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلاَتَ أَوان ... فَأَجَبْنَا أَنَّ لاَتَ حِينَ بَقَاءِ
إما لأن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر في قوله: لَوْلاَكَ هَذَا العَامُ لَمْ أَحْجُج، أو لأن أوان شبه بإذ لأنه مقطوع عن الإِضافة إذ أصله أوان صلح، ثم حمل عليه مَناصٍ تنزيلاً لما أضيف إليه الظرف منزلته لما بينهما من الاتحاد، إذ أصله يحن مناصهم ثم بني الحين لإِضافته إلى غير متمكن وَلاتَ بالكسر كجير، وتقف الكوفية عليها بالهاء كالأسماء والبصرية بالتاء كالأفعال. وقيل إن التاء مزيدة على حين لاتصالها به في الامام ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس إذ مثله لم يعهد فيه، والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل ولقوله:(5/23)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
العَاطِفُونَ تَحِينَ لاَ مِنْ عَاطِف ... وَالُمْطعُمونَ زَمَانَ مَا مِنْ مُطْعمِ
والمناص المنجا من ناصه ينوصه إذا فاته.
[سورة ص (38) : الآيات 4 الى 5]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5)
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ بشر مثلهم أو أمي من عدادهم. وَقالَ الْكافِرُونَ وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضباً عليهم وذماً لهم، وإشعاراً بأن كفرهم جسرهم على هذا القول. هذا ساحِرٌ فِيمَا يظهره معجزة. كَذَّابٌ فيما يقوله على الله تعالى.
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بأن جعل الألوهية التي كانت لهم لواحد. إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ بليغ في العجب فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا، وما نشاهده من أن الواحد لا يفي علمه وقدرته بالأشياء الكثيرة، وقرئ مشدداً وهو أبلغ ككرام وكرام.
وروي أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه شق ذلك على قريش، فأتوا أبا طالب وقالوا أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا جئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ماذا يسألونني، فقالوا: ارفضنا وارفض ذكر، آلهتنا وندعك وإلهك، فقال: «أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطي أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» ، فقالوا: نعم وعشراً، فقال: «قولوا لا إله إلا الله» ، فقالوا وقالوا ذلك.
[سورة ص (38) : الآيات 6 الى 7]
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) مَّا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب بعد ما بكتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. أَنِ امْشُوا قائلين بعضهم لبعض امْشُوا. وَاصْبِرُوا واثبتوا. عَلى آلِهَتِكُمْ على عبادتها فلا ينفعكم مكالمته، وأَنِ هي المفسرة لأن الانطلاق عن مجلس التقاول يشعر بالقول. وقيل المراد بالانطلاق الاندفاع في القول، وامْشُوا من مشت المرأة إذا كثرت أولادها ومنه الماشية أي اجتمعوا، وقرئ بغير أَنِ وقرئ «يمشون أن اصبروا» . إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ إن هذا الأمر لشيء من ريب الزمان يراد بنا فلا مرد له، أو أن هذا الذي يدعيه من التوحيد أو يقصده من الرئاسة، والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يريده كل أحد، أو أن دينكم لشيء يطلب ليؤخذ منكم.
مَّا سَمِعْنا بِهذا بالذي يقوله. فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ في الملة التي أدركنا عليها آباءنا، أو في ملة عيسى عليه الصلاة والسلام التي هي آخر الملل فإن النصارى يثلثون. ويجوز أن يكون حالاً من هذا أي ما سمعنا مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ الكهان بالتوحيد كائناً في الملة المترقبة. إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ كذب اختلقه.
[سورة ص (38) : الآيات 8 الى 9]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا إنكار لاختصاصه بالوحي وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرئاسة كقولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ وأمثال ذلك دليل على أن مبدأ تكذيبهم لم يكن إلا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي من القرآن أو الوحي لميلهم إلى(5/24)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
التقليد وإعراضهم عن الدليل، وليس في عقيدتهم ما يبتون به من قولهم هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ. بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ بل لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال شكهم، والمعنى أنهم لا يصدقون به حتى يمسهم العذاب فيلجئهم إلى تصديقه.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ بل أعندهم خزائن رحمته وفي تصرفهم حتى يصيبوا بها من شاؤوا ويصرفوها عمن شاؤوا فيتخير للنبوة بعض صناديدهم، والمعنى أن النبوة عطية من الله يتفضل بها على مَن يَشَاء مِنْ عباده لا مانع له فإنه العزيز أي الغالب الذي لا يغلب، الوهاب الذي له أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء، ثم رشح ذلك فقال:
[سورة ص (38) : الآيات 10 الى 11]
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ مَّا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما كأنه لما أنكر عليهم التصرف في نبوته بأن ليس عندهم خزائن رحمته التي لا نهاية لها، أردف ذلك بأنه ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائنه فمن أين لهم أن يتصرفوا فيها. فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم، فينزلوا الوحي إلى من يستصوبون. وهو غاية التهكم بهم، والسبب في الأصل هو الوصلة، وقيل المراد بالأسباب السموات لأنها أسباب الحوادث السفلية.
جُنْدٌ مَّا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أي هم جند ما من الكفار المتحزبين على الرسل مَهْزُومٌ مكسور عما قريب فمن أين لهم التدابير الإِلهية والتصرف في الأمور الربانية، أو فلا تكترث بما يقولون وما مزيدة للتقليل كقولك أكلت شيئاً ما، وقيل للتعظيم على الهزء وهو لا يلائم ما بعده، وهنالك إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول.
[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 14]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ ذو الملك الثابت بالأوتاد كقوله:
وَلَقَدْ غَنوا فِيْهَا بِأَنْعَمِ عِيْشَةٍ ... فِي ظِلِّ ملكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ
مأخوذ من ثبات البيت المطنب بأوتاده، أو ذو الجموع الكثيرة سموا بذلك لأن بعضهم يشد بعضاً كالوتد يشد البناء. وقيل نصب أربع سوار وكان يمد يدي المعذب ورجليه إليها ويضرب عليها أوتاداً ويتركه حتى يموت.
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وأصحاب الغيضة وهم قوم شعيب، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «ليكة» . أُولئِكَ الْأَحْزابُ يعني المتحزبين على الرسل الذين جعل الجند المهزوم منهم.
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ بيان لما أسند إليهم من التكذيب على الإِبهام مشتمل على أنواع من التأكيد ليكون تسجيلاً على استحقاقهم للعذاب، ولذلك رتب عليه: فَحَقَّ عِقابِ وهو إما مقابلة الجمع بالجمع أو جعل تكذيب الواحد منهم تكذيب جميعهم.(5/25)
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
[سورة ص (38) : الآيات 15 الى 16]
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ وما ينتظر قومك أو الأحزاب فإنهم كالحضور لاستحضارهم بالذكر، أو حضورهم في علم الله تعالى: إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأولى. مَّا لَها مِنْ فَواقٍ من توقف مقدار فواق وهو ما بين الحلبتين، أو رجوع وترداد فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع، وقرأ حمزة والكسائي بالضم وهما لغتان.
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قسطنا من العذاب الذي توعدنا به، أو الجنة التي تعدها للمؤمنين وهو من قطه إذا قطعه، وقيل لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس وقد فسر بها أي: عجل لنا صحيفة أعمالنا للنظر فيها. قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ استعجلوا ذلك استهزاء.
[سورة ص (38) : الآيات 17 الى 18]
اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18)
اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ واذكر لهم قصته تعظيماً للمعصية في أعينهم، فإنه مع علو شأنه واختصاصه بعظائم النعم والمكرمات لما أتى صغيرة نزل عن منزلته ووبخه الملائكة بالتمثيل والتعريض حتى تفطن فاستغفر ربه وأناب فما الظن بالكفرة وأهل الطغيان، أو تذكر قصته وصن نفسك أن تزل فيلقاك ما لقيه من المعاتبة على إهمال عنان نفسه أدنى إهمال. ذَا الْأَيْدِ ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وآد وأياد بمعنى. إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع إلى مرضاة الله تعالى، وهو تعليل ل الْأَيْدِ ودليل على أن المراد به القوة في الدين، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ويقوم نصف الليل.
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ قد مر تفسيره، ويُسَبِّحْنَ حال وضع موضع مسبحات لاستحضار الحال الماضية والدلالة على تجدد التسبيح حالاً بعد حال. بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ووقت الإِشراق وهو حين تشرق الشمس أي تضيء ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها يقال شرقت الشمس ولما تشرق.
وعن أم هانئ رضى الله عنها: انه عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الضحى وقال «هذه صلاة الإِشراق» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية.
[سورة ص (38) : الآيات 19 الى 20]
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً إليه من كل جانب، وإنما لم يراع المطابقة بين الحالين لأن الحشر جملة أدل على القدرة منه مدرجا، وقرئ «والطير مَحْشُورَةً» بالمبتدأ والخبر. كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ
كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح، والفرق بينه وبين ما قبله أنه يدل على الموافقة في التسبيح وهذا على المداومة عليها، أو كل منهما ومن داود عليه السلام مرجع لله التسبيح.
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وقويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود، وقرئ بالتشديد للمبالغة. قيل: إن رجلاً ادعى بقرة على آخر وعجز عن البيان، فأوحى إليه أن اقتل المدعى عليه فأعلمه فقال: صدقت إني قتلت أباه وأخذت البقرة فعظمت بذلك هيبته. وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ النبوة أو كمال العلم واتقان العمل. وَفَصْلَ الْخِطابِ وفصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل، أو الكلام المخلص الذي ينبه المخاطب على المقصود من غير التباس يراعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار ونحوها، وإنما سمي به أما بعد لأنه يفصل المقصود عما سبق مقدمة له من الحمد والصلاة، وقيل هو الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء في وصف كلام الرسول عليه الصلاة والسلام «فصل لا نزر ولا هذر» .(5/26)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
[سورة ص (38) : الآيات 21 الى 23]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23)
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ استفهام معناه التعجيب والتشويق إلى استماعه، والخصم في الأصل مصدر ولذلك أطلق على الجمع. إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إذ تصعدوا سور الغرفة، تفعل من السور كتسنم من السنام، وإذ متعلق بمحذوف أي نبأ تحاكم الخصم إِذْ تَسَوَّرُوا، أو بالنبأ على أن المراد به الواقع في عهد داود عليه السلام، وأن إسناد أتى إليه على حذف مضاف أي قصة نبأ الخصم لما فيه من معنى الفعل لا بأتى لأن إتيانه الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن حينئذ وإِذْ الثانية في إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ بدل من الأولى أو ظرف ل تَسَوَّرُوا. فَفَزِعَ مِنْهُمْ لأنهم نزلوا عليه من فوق في يوم الاحتجاب والحرس على الباب لا يتركون من يدخل عليه، فإنه عليه الصلاة والسلام كان جزأ زمانه: يوماً للعبادة، ويوماً للقضاء، ويوماً للوعظ، ويوماً للاشتغال بخاصته، فتسور عليه ملائكة على صورة الإِنسان في يوم الخلوة. قالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمانِ نحن فوجان متخاصمان على تسمية مصاحب الخصم خصماً. بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ وهو على الفرض وقصد التعريض إن كانوا ملائكة وهو المشهور. فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ولا تجر في الحكومة، وقرئ «وَلاَ تُشْطِطْ» أي ولا تبعد عن الحق ولا تشطط ولا تشاط، والكل من معنى الشطط وهو مجاوزة الحد. وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي إلى وسطه وهو العدل.
إِنَّ هَذَا أَخِي بالدين أو بالصحبة. لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ هي الأنثى من الضأن وقد يكنى بها عن المرأة، والكناية والتمثيل فيما يساق للتعريض أبلغ في المقصود، وقرئ «تِسْعٌ وَتِسْعُونَ» بفتح التاء ونعجة بكسر النون، وقرأ حفص بفتح ياء لِيَ نَعْجَةٌ. فَقالَ أَكْفِلْنِيها ملكنيها وحقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، وقيل اجعلها كفلي أي نصيبي. وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ وغلبني في مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده، أو في مغالبته إياي في الخطبة يقال: خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطاباً حيث زوجها دوني، وقرئ «وعازني» أي غالبني «وعزني» على تخفيف غريب.
[سورة ص (38) : آية 24]
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24)
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه ولعله قال ذلك بعد اعترافه، أو على تقدير صدق المدعي والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإِضافة. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الشركاء الذين خلطوا أموالهم جمع خليط لَيَبْغِي ليتعدى. بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ وقرئ بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة وحذفها كقوله: اضرب عنك الهموم طارقها. وبحذف الياء اكتفاء بالكسرة. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ أي وهم قليل، وما مزيدة للإبهام والتعجب من قلتهم. وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ابتليناه بالذنب أو امتحناه بتلك الحكومة هل يتنبه بها. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ لذنبه. وَخَرَّ راكِعاً ساجداً على تسمية السجود ركوعاً لأنه مبدؤه، أو خر للسجود راكعاً أي مصلياً كأنه أحرم بركعتي الاستغفار. وَأَنابَ ورجع إلى الله بالتوبة، وأقصى ما في هذه القضية الإِشعار بأنه عليه الصلاة والسلام ود أن يكون له ما لغيره، وكان له أمثاله فنبهه الله بهذه القصة فاستغفر وأناب عنه. وما
روي أن بصره وقع على امرأة فعشقها وسعى حتى تزوجها وولدت منه سليمان
، إن صح فلعله خطب مخطوبته أو استنزله عن زوجته، وكان ذلك معتاداً فيما بينهم وقد واسى الأنصار المهاجرين بهذا المعنى. وما قيل إنه أرسل أوريا إلى الجهاد مراراً وأمر أن يقدم حتى قتل فتزوجها هزء وافتراء، ولذلك
قال علي رضي الله عنه: من حدث بحديث داود عليه(5/27)
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين.
وقيل إن قوماً قصدوا أن يقتلوه فتسوروا المحراب ودخلوا عليه فوجدوا عنده أقواماً فتصنعوا بهذا التحاكم فعلم غرضهم وأراد أن ينتقم منهم، فظن أن ذلك ابتلاء من الله له فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ مما همّ به وَأَنابَ.
[سورة ص (38) : الآيات 25 الى 26]
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما استغفر عنه. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربة بعد المغفرة. وَحُسْنَ مَآبٍ مرجع في الجنة.
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ استخلفناك على الملك فيها، أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق. فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ بحكم الله. وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ما تهوى النفس، وهو يؤيد ما قيل إن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مسألته. فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دلائله التي نصبها على الحق. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن السبيل، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى.
[سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا خلقا باطلا لا حكمة فيه، أو ذوي باطل بمعنى مبطلين عابثين كقوله: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أو للباطل الذي هو متابعة الهوى، بل للحق الذي هو مقتضى الدليل من التوحيد والتدرع بالشرع كقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ على وضعه موضع المصدر مثل هنيئاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الإِشارة إلى خلقها باطلاً والظن بمعنى المظنون.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ بسبب هذا الظن.
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ منقطعة والاستفهام فيها لإِنكار التسوية بين الحزبين التي هي من لوازم خلقها باطلاً ليدل على نفيه وكذا التي في قوله: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ كأنه أنكر التسوية أولاً بين المؤمنين والكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين والمجرمين منهم، ويجوز أن يكون تكريراً للإِنكار الأول باعتبار وصفين آخرين يمنعان التسوية من الحكيم الرحيم، والآية تدل على صحة القول بالحشر، فإن التفاضل بينهما إما أن يكون في الدنيا والغالب فيها عكس ما يقتضي الحكمة فيه، أو في غيرها وذلك يستدعي أن يكون لهم حالة أخرى يجازون فيها.
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ نفاع، وقرئ بالنصب على الحال. لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ليتفكروا فيها فيعرفوا ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني المستنبطة. وقرئ «ليتدبروا» على الأصل و «لتدبروا» أي أنت وعلماء أمتك. وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وليتعظ به ذوو العقول السليمة، أو ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل، فإن الكتب الإلهية بيان لما لا يعرف إلا من الشرع، وإرشاد إلى ما يستقل به العقل، ولعل التدبر للمعلوم الأول والتذكر الثاني.
[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 31]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31)(5/28)
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ أي نعم العبد سليمان إذ ما بعده تعليل للمدح وهو من حاله. إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع إلى الله بالتوبة، أو إلى التسبيح مرجع له.
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ ظرف ل أَوَّابٌ أو ل نِعْمَ، والضمير ل سُلَيْمانَ عند الجمهور بِالْعَشِيِّ بعد الظهر الصَّافِناتُ الصافن من الخيل الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل، وهو من الصفات المحمودة في الخيل الذي لا يكاد يكون إلا في العراب الخلص. الْجِيادُ جمع جواد أو جود، وهو الذي يسرع في جريه وقيل الذي يجود في الركض، وقيل جمع جيد.
روي أنه عليه الصلاة والسلام غزا دمشق ونصيبين وأصاب ألف فرس
، وقيل أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه فاستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر، أو عن ورد كان له فاغتم لما فاته فاستردها فعقرها تقرباً لله.
[سورة ص (38) : الآيات 32 الى 33]
فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)
فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أصل أَحْبَبْتُ أن يعدى بعلى لأنه بمعنى آثرت لكن لما أنيب مناب أنبت عدي تعديته، وقيل هو بمعنى تقاعدت من قوله:
مِثْلُ بَعِيرِ السُّوءِ إِذَا أَحَبَّا أي برك، وحُبَّ الْخَيْرِ مفعول له والخير المال الكثير، والمراد به الخيل التي شغلته ويحتمل أنه سماها خيراً لتعلق الخير بها.
قال عليه الصلاة والسلام «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياء. حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي غربت الشمس، شبه غروبها بتواري المخبأة بحجابها وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها.
رُدُّوها عَلَيَّ الضمير ل الصَّافِناتُ. فَطَفِقَ مَسْحاً فأخذ بمسح السيف مسحاً. بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي بسوقها وأعناقها يقطعها من قولهم مسح علاوته إذا ضرب عنقه، وقيل جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها حبالها، وعن ابن كثير «بالسؤق» على همز الواو لضمة ما قبلها كمؤقن، وعن أبي عمرو «بالسؤوق» وقرئ «بالساق» اكتفاء بالواحد عن الجمع لأمن الإلباس.
[سورة ص (38) : آية 34]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ وأظهر ما قيل فيه ما
روي مرفوعاً «أنه قال:
لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل، فو الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرساناً» .
وقيل ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله فعلم ذلك، فكان يغدوه في السحاب فما شعر به إلا أن ألقي على كرسيه ميتاً فتنبه على خطئه بأن لم يتوكل على الله. وقيل إنه غزا صيدون من الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته جرادة، فأحبها وكان لا يرقأ دمعها جزعاً على أبيها، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته فكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه، فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة وخرج إلى الفلاة باكياً متضرعاً، وكانت له أم ولد اسمها أمينة إذا دخل للطهارة أعطاها خاتمه وكان ملكه فيه، فأعطاها يوماً فتمثل لها بصورته شيطان اسمه صخر وأخذ الخاتم وتختم به وجلس على كرسيه، فاجتمع عليه الخلق ونفذ حكمه في كل شيء إلا في نسائه وغير سليمان عن هيئته، فأتاها لطلب الخاتم فطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفف حتى مضى أربعون يوماً عدد ما عبدت الصورة في بيته، فطار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فوقعت في يده فبقر بطنها فوجد الخاتم فتختم به وخر ساجداً(5/29)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
وعاد إليه الملك، فعلى هذا الجسد صخر سمي به وهو جسم لا روح فيه لأنه كان متمثلاً بما لم يكن كذلك، والخطيئة تغافله عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل كان جائزاً حينئذ، وسجود الصورة بغير علمه لا يضره.
[سورة ص (38) : آية 35]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لا يتسهل له ولا يكون ليكون معجزة لي مناسبة لحالي، أو لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة، أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته كقولك:
لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال، على إرادة وصف الملك بالعظمة لا أن لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة، وتقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين ووجوب تقديم ما يجعل الدعاء بصدد الإِجابة. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ المعطي ما تشاء لمن تشاء.
[سورة ص (38) : الآيات 36 الى 38]
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ فذللناها لطاعته إجابة لدعوته وقرئ «الرياح» . تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً لينة من الرخاوة لا تزعزع، أو لا تخالف إرادته كالمأمور المنقاد. حَيْثُ أَصابَ أراد من قولهم أصاب الصواب فأخطأ الجواب.
وَالشَّياطِينَ عطف على الرِّيحَ. كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ بدل منه.
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ عطف على كُلَّ كأنه فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص، ومردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفوا عن الشر، ولعل أجسامهم شفافة صلبة فلا ترى ويمكن تقييدها، هذا والأقرب أن المراد تمثيل كفهم عن الشرور بالإِقران في الصفد وهو القيد، وسمي به العطاء لأنه يرتبط به المنعم عليه. وفرقوا بين فعليهما فقالوا صفده قيده وأصفده أعطاه عكس وعد وأوعد وفي ذلك نكتة.
[سورة ص (38) : الآيات 39 الى 40]
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
هذا عَطاؤُنا أي هذا الذي أعطيناك من الملك والبسطة والتسلط على ما لم يسلط به غيرك عطاؤنا.
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ فاعط من شئت وامنع من شئت. بِغَيْرِ حِسابٍ حال من المستكن في الأمر، أي غير محاسب على منه وإمساكه لتفويض التصرف فيه إليك أو من العطاء أو صلة له وما بينهما اعتراض. والمعنى أنه عطاء جم لا يكاد يمكن حصره، وقيل الإِشارة إلى تسخير الشياطين، والمراد بالمن والإِمساك إطلاقهم وإبقاءهم في القيد.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا. وَحُسْنَ مَآبٍ هو الجنة.
[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ هو ابن عيص بن إسحاق وامرأته ليا بنت يعقوب صلوات الله عليه. إِذْ نادى رَبَّهُ بدل من عَبْدَنا وأَيُّوبَ عطف بيان له. أَنِّي مَسَّنِيَ بأني مسني، وقرأ حمزة بإسكان الياء وإسقاطها في الوصل. الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ بتعب. وَعَذابٍ ألم وهي حكاية لكلامه الذي ناداه به ولولا هي(5/30)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
لقال إنه مسه، والإِسناد إلى الشَّيْطانُ إما لأن الله مسه بذلك لما فعل بوسوسته كما قيل إنه أعجب بكثرة ماله أو استغاثة مظلوم فلم يغثه، أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه، أو لسؤاله امتحاناً لصبره فيكون اعترافاً بالذنب أو مراعاة للأدب، أو لأنه وسوس إلى أتباعه حتى رفضوه وأخرجوه من ديارهم، أو لأن المراد بالنصب والعذاب ما كان يوسوس إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الجزع، وقرأ يعقوب بفتح النون على المصدر، وقرئ بفتحتين وهو لغة كالرشد والرشد وبضمتين للتثقيل.
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ حكاية لما أجيب به أي اضرب برجلك الأرض. هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أي فضربها فنبعت عين فقيل هذا مغتسل أي ماء تغتسل به وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهرك، وقيل نبعت عينان حارة وباردة فاغتسل من الحارة وشرب من الأخرى.
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم أو أحييناهم بعد موتهم، وقيل وهبنا له مثلهم.
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ حتى كان له ضعف ما كان. رَحْمَةً مِنَّا لرحمتنا عليه وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ وتذكيراً لهم لينتظروا الفرج بالصبر واللجأ إلى الله فيما يحيق بهم.
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً عطف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش ونحوه. فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ روي أن زوجته ليا بنت يعقوب وقيل رحمة بنت افراثيم بن يوسف ذهبت لحاجة فأبطأت فحلف إن برىء ضربها مائة ضربة، فحلل الله يمينه بذلك وهي رخصة باقية في الحدود. إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً فيما أصابه في النفس والأهل والمال، ولا يخل به شكواه إلى الله من الشيطان فإنه لا يسمى جزعاً كتمني العافية وطلب الشفاء مع أنه قال ذلك خيفة أن يفتنه أو قومه في الدين. نِعْمَ الْعَبْدُ أيوب. إِنَّهُ أَوَّابٌ مقبل بشراشره على الله تعالى.
[سورة ص (38) : الآيات 45 الى 47]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47)
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وقرأ ابن كثير عَبْدَنَا وضع الجنس موضع الجمع، أو على أن إِبْراهِيمَ وحده لمزيد شرفه عطف بيان له، وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ عطف عليه. أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين، أو أولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة، فعبر بالأيدي عن الأعمال لأن أكثرها بمباشرتها وبالأبصار عن المعارف لأنها أقوى مباديها، وفيه تعريض بالبطلة الجهال أنهم كالزمنى والعماة.
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة لا شوب فيها هي: ذِكْرَى الدَّارِ تذكرهم الدار الآخرة دائماً فإن خلوصهم في الطاعة بسببها، وذلك لأن مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون جوار الله والفوز بلقائه وذلك في الآخرة، وإطلاق الدَّارِ للاشعار بأنها الدار الحقيقة والدنيا معبر، وأضاف نافع وهشام بِخالِصَةٍ إلى ذِكْرَى للبيان أو لأنه مصدر بمعنى الخلوص فأضيف إلى فاعله.
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ لمن المختارين من أمثالهم المصطفين عليهم في الخير جمع خير كشر وأشرار. وقيل جمع خير أو خير على تخفيفه كأموات في جمع ميت أو ميت.
[سورة ص (38) : آية 48]
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ هو ابن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبئ، واللام فيه كما في قوله: رَأَيْتُ الوَلِيْدَ بْنَ اليَزِيدَ مُبَارَكاً. وقرأ حمزة والكسائي «والليسع» تشبيهاً بالمنقول من ليسع من اللسع. وَذَا(5/31)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)
الْكِفْلِ
ابن عم يسع أو بشر بن أيوب. واختلف في نبوته ولقبه فقيل فر إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم وكفلهم، وقيل كفل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة وَكُلٌّ أي وكلهم. مِنَ الْأَخْيارِ.
[سورة ص (38) : الآيات 49 الى 51]
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51)
هذا إشارة إلى ما تقدم من أمورهم. ذِكْرٌ شرف لهم، أو نوع من الذكر وهو القرآن. ثم شرع في بيان ما أعد لهم ولأمثالهم فقال: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ مرجع.
جَنَّاتِ عَدْنٍ عطف بيان لَحُسْنَ مَآبٍ وهو من الأعلام الغالبة لقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ وانتصب عنها. مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ على الحال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل، وقرئتا مرفوعتين على الابتداء والخبر أو أنهما خبران لمحذوف.
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ حالان متعاقبان أو متداخلان من الضمير في لَهُمْ لا من المتقين للفصل، والأظهر أن يدعون استئناف لبيان حالهم فيها ومتكئين حال من ضميره، والاقتصار على الفاكهة للإشعار بأن مطاعمهم لمحض التلذذ، فإن التغذي للتحلل ولا تحلل ثمة.
[سورة ص (38) : الآيات 52 الى 54]
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ لا ينظرون إلى غير أزواجهن. أَتْرابٌ لذات لهم فإن التحاب بين الأقران أثبت، أو بعضهن لبعض لا عجوز فيهن ولا صبية، واشتقاقه من التراب فإنه يمسهن في وقت واحد.
هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ لأجله فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء ليوافق ما قبله.
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ انقطاع.
[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 58]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58)
هذا أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر أو خذ هذا. وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ.
جَهَنَّمَ إعرابه ما سبق. يَصْلَوْنَها حال من جهنم. فَبِئْسَ الْمِهادُ المهد والمفترش، مستعار من فراش النائم والمخصوص بالذم محذوف وهو جَهَنَّمَ لقوله لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ.
هذا فَلْيَذُوقُوهُ، أي ليذوقوا هذا فليذوقوه، أو العذاب هذا فليذوقوه، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره:
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وهو على الأولين خبر محذوف أي هو حَمِيمٌ، والغساق ما يغسق من صديد أهل النار من غسقت العين إذا سال دمعها، وقرأ حفص وحمزة والكسائي غَسَّاقٌ بتشديد السين.
وَآخَرُ أي مذوق أو عذاب آخر، وقرأ البصريان «وأخرى» أي ومذوقات أو أنواع عذاب أخر. مِنْ شَكْلِهِ من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة، وتوحيد الضمير على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق أو للغساق. وقرئ بالكسر وهو لغة. أَزْواجٌ أجناس خبر ل آخَرُ أو صفة له أو للثلاثة، أو مرتفع بالجار والخبر محذوف مثل لهم.(5/32)
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
[سورة ص (38) : الآيات 59 الى 61]
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61)
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ حكاية ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار واقتحمها معهم فوج تبعهم في الضلال، والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها. لاَ مَرْحَباً بِهِمْ دعاء من المتبوعين على أتباعهم أو صفة ل فَوْجٌ، أو حال أي مقولاً فيهم لا مرحباً أي ما أتوا بهم رحباً وسعة. إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ داخلون النار بأعمالهم مثلنا.
قالُوا أي الأتباع للرؤساء. بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ بل أنتم أحق بما قلتم، أو قيل لنا لضلالكم وإضلالكم كما قالوا: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا قدمتم العذاب أو الصلي لنا بإِغوائنا وإغرائنا على ما قدمتموه من العقائد الزائغة والأعمال القبيحة. فَبِئْسَ الْقَرارُ فبئس المقر جهنم.
قالُوا أي الأتباع أيضاً. رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ مضاعفاً أي ذا ضعف وذلك أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين كقوله رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ.
[سورة ص (38) : الآيات 62 الى 64]
وَقالُوا مَا لَنا لاَ نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
وَقالُوا أي الطاغوت. مَا لَنا لاَ نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلونهم ويسخرون بهم.
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا صفة أخرى ل رِجالًا، وقرأ الحجازيان وابن عامر وعاصم بهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي سِخْرِيًّا بالضم وقد سبق مثله في «المؤمنين» . أَمْ زاغَتْ مالت. عَنْهُمُ الْأَبْصارُ فلا نراهم وأَمْ معادلة ل مَا لَنا لاَ نَرى على أن المراد نفي رؤيتهم لغيبتهم كأنهم قالوا: أليسوا ها هنا أم زاغت عنهم أبصارنا، أو لاتخذناهم على القراءة الثانية بمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم تحقيرهم، فإن زيغ الأبصار كناية عنه على معنى إنكارهما على أنفسهم، أو منقطعة والمراد الدلالة على أن استرذالهم والاستسخار منهم كان لزيغ أبصارهم وقصور أنظارهم على رثاثة حالهم.
إِنَّ ذلِكَ الذي حكيناه عنهم. لَحَقٌّ لا بد أن يتكلموا به ثم بين ما هو فقال: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وهو بدل من لحق أو خبر محذوف، وقرئ بالنصب على البدل من ذلك.
[سورة ص (38) : الآيات 65 الى 66]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
قُلْ يا محمد للمشركين. إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أنذركم عذاب الله. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا يقبل الشركة والكثرة في ذاته. الْقَهَّارُ لكل شيء يريد قهره.
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا منه خلقها وإليه أمرها. الْعَزِيزُ الذي لا يغلب إذا عاقب.
الْغَفَّارُ الذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن يشاء، وفي هذه الأوصاف تقرير للتوحيد ووعد ووعيد للموحدين والمشركين، وتثنية ما يشعر بالوعيد وتقديمه لأن المدعو به هو الإنذار.
[سورة ص (38) : الآيات 67 الى 70]
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)(5/33)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
قُلْ هُوَ أي ما أنبأتكم به من أني نذير من عقوبة من هذه صفته وأنه واحد في ألوهيته، وقيل ما بعده من نبأ آدم. نَبَأٌ عَظِيمٌ.
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ لتمادي غفلتكم فإن العاقل لا يعرض عن مثله كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة، أما على التوحيد فما مرَّ وأما على النبوة فقوله:
مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ فإن إخباره عن تقاول الملائكة وما جرى بينهم على ما ورد في الكتب المتقدمة من غير سماع ومطالعة كتاب لا يتصوّر إلا بالوحي، وإِذْ متعلق ب عِلْمٍ أو بمحذوف إذ التقدير من علم بكلام الملأ الأعلى.
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي لأنما كأنه لما جوز أن الوحي يأتيه بين بذلك ما هو المقصود به تحقيقاً لقوله إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ويجوز أن يرتفع بإسناد يوحى إليه، وقرئ إِنَّمَا بالكسر على الحكاية.
[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 74]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74)
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ مبين له فإن القصة التي دخلت إذ عليها مشتملة على تقاول الملائكة وإبليس في خلق آدم عليه السلام، واستحقاقه للخلافة والسجود على ما مر في «البقرة» ، غير أنها اختصرت اكتفاء بذلك واقتصاراً على ما هو المقصود منها، وهو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي عليه الصلاة والسلام بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم عليه السلام، هذا ومن الجائز أن يكون مقاولة الله تعالى إياهم بواسطة ملك، وأن يفسر «الملأ الأعلى» بما يعم الله تعالى والملائكة.
فَإِذا سَوَّيْتُهُ عدلت خلقته. وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وأحييته بنفخ الروح فيه، وإضافته الى نفسه لشرفه وطهارته. فَقَعُوا لَهُ فخروا له. ساجِدِينَ تكرمة وتبجيلاً له وقد مر الكلام فيه في «البقرة» .
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ.
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ تعظم. وَكانَ وصار. مِنَ الْكافِرِينَ باستنكاره أمر الله تعالى واستكباره عن المطاوعة، أو كان منهم في علم الله تعالى.
[سورة ص (38) : الآيات 75 الى 76]
قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ خلقته بنفسي من غير توسط كأب وأم، والتثنية لما في خلقه من مزيد القدرة واختلاف الفعل، وقرئ على التوحيد وترتيب الإنكار عليه للإشعار بأنه المستدعي للتعظيم، أو بأنه الذي تشبث به في تركه وهو لا يصلح مانعاً إذ للسيد أن يستخدم بعض عبيده لبعض سيما وله مزيد اختصاص. أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ تكبرت من غير استحقاق أو كنت ممن علا واستحق التفوق، وقيل استكبرت الآن أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين، وقرئ «اسْتَكْبَرْتَ» بحذف الهمزة لدلالة أَمْ عليها أو بمعنى الإخبار.(5/34)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إبداء للمانع وقوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ دليل عليه وقد سبق الكلام فيه.
[سورة ص (38) : الآيات 77 الى 81]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها من الجنة أو من السماء، أو من الصورة الملكية. فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود من الرحمة ومحل الكرامة.
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ مر بيانه في «الحجر» .
[سورة ص (38) : الآيات 82 الى 85]
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
قالَ فَبِعِزَّتِكَ فبسلطانك وقهرك. لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم الله لطاعته وعصمهم من الضلالة، أو أخلصوا قلوبهم لله على اختلاف القراءتين.
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ أي فأحق الحق وأقوله، وقيل «الحق» الأول اسم الله نصبه بحذف حرف القسم كقوله: إِنَّ عَلَيْكَ الله أَنْ تُبَايِعَا.
وجوابه لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ وما بينهما اعتراض وهو على الأول جواب محذوف والجملة تفسير ل الْحَقَّ المقول، وقرأ عاصم وحمزة برفع الأول على الابتداء أي الحق يميني أو قسمي، أو الخبر أي أنا الْحَقَّ، وقرئا مرفوعين على حذف الضمير من أقول كقوله: كله لم أصنع.
ومجرورين على إضمار حرف القسَم في الأول وحكاية لفظ المقسم به في الثاني للتأكيد، وهو سائغ فيه إذا شارك الأول وبرفع الأول وجره ونصب الثاني وتخريجه على ما ذكرناه، والضمير في منهم للناس إذ الكلام فيهم والمراد بمنك من جنسك ليتناول الشياطين، وقيل للثقلين وأجمعين تأكيد له أو للضميرين.
[سورة ص (38) : الآيات 86 الى 88]
قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي على القرآن أو تبليغ الوحي. وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ المتصفين بما ليسوا من أهله على ما عرفتم من حالي فأنتحل النبوة، وأتقول القرآن.
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة. لِلْعالَمِينَ للثقلين. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ وهو ما فيه من الوعد والوعيد، أو صدقه بإتيان ذلك. بَعْدَ حِينٍ بعد الموت أو يوم القيامة أو عند ظهور الإِسلام وفيه تهديد.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة (ص) كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات، وعصمه الله أن يصر على ذنب صغير أو كبير» .(5/35)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
(39) سورة الزمر
مكية إلا قوله: (قُلْ يا عِبادِيَ) الآية وآيها خمس وسبعون أو اثنتان وسبعون آية
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)
تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر محذوف مثل هذا أو مبتدأ خبره. مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وهو على الأول صلة ل تَنْزِيلُ، أو خبر ثان أو حال عمل فيها معنى الإِشارة أو ال تَنْزِيلُ، والظاهر أن الْكِتابِ على الأول السورة وعلى الثاني القرآن، وقرئ «تَنزِيلَ» بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ أو الزم.
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ملتبساً بالحق أو بسبب إثبات الحق وإظهاره وتفصيله. فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ممحضا له الدين من الشرك والرياء، وقرئ برفع «الدين» على الاستئناف لتعليل الأمر وتقديم الخبر لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام كما صرح به مؤكداً وإجراؤه مجرى المعلوم المقرر لكثرة حججه وظهور براهينه فقال:
[سورة الزمر (39) : آية 3]
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة، فإنه المتفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يحتمل المتخذين من الكفرة والمتخذين من الملائكة وعيسى والأصنام على حذف الراجع وإضمار المشركين من غير ذكر لدلالة المساق عليهم، وهو مبتدأ خبره على الأول. مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى بإضمار القول. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وهو متعين على الثاني، وعلى هذا يكون القول المضمر بما في حيزه حالاً أو بدلاً من الصلة وزُلْفى مصدر أو حال، وقرئ «قالوا ما نعبدهم» و «ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله» حكاية لما خاطبوا به آلهتهم و «نَعْبُدُهُمْ» بضم النون اتباعاً. فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين بإدخال المحق الجنة والمبطل النار والضمير للكفرة ومقابليهم، وقيل لهم ولمعبوديهم فإنهم يرجون شفاعتهم وهم يلعنونها. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي لا يوفق للاهتداء إلى الحق. مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ فإنهما فاقدا البصيرة.
[سورة الزمر (39) : الآيات 4 الى 5]
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
.(5/36)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما زعموا. لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوقه لقيام الدلالة على امتناع وجود واجبين ووجوب استناد ما عدا الواجب إليه، ومن البين أن المخلوق لا يماثل الخالق فيقوم مقام الوالد له ثم قرر ذلك بقوله: سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ فإن الألوهية الحقيقية تتبع الوجوب المستلزم للوحدة الذاتية، وهي تنافي المماثلة فضلاً عن التوالد لأن كل واحد من المثلين مركب من الحقيقة المشتركة، والتعين المخصوص والقهارية المطلقة تنافي قبول الزوال المحوج إلى الولد، ثم استدل على ذلك بقوله:
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ يغشى كل واحد منهما الآخر كأنه يلفه عليه لف اللباس باللابس، أو يغيبه به كما يغيب الملفوف باللفافة، أو يجعله كاراً عليه كروراً متتابعاً تتابع أكوار العمامة. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى هو منتهى دوره أو منقطع حركته. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء. الْغَفَّارُ حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة.
[سورة الزمر (39) : آية 6]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها استدلال آخر بما أوجده في العالم السفلي مبدوءا به من خلق الإِنسان لأنه أقرب وأكثر دلالة وأعجب، وفيه على ما ذكره ثلاث دلالات: خلق آدم أولاً من غير أب وأم، ثم خلق حواء من قصيراه، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما. وثُمَّ للعطف على محذوف هو صفة نَفْسٍ مثل خلقها أو على معنى واحدة أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها فشفعها بها، أو على خَلَقَكُمْ لتفاوت ما بين الآيتين، فإن الأولى عادة مستمرة دون الثانية. وقيل أخرج من ظهره ذريته كالذر ثم خلق منها حواء. وَأَنْزَلَ لَكُمْ وقضى أو قسم لكم، فإن قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتبت في اللوح المحفوظ، أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار. مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكرا وأنثى من الإِبل والبقر والضأن والمعز. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ بيان لكيفية ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيها من عجائب القدرة، غير أنه غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون. خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ حيواناً سوياً من بعد عظام مكسوة لحماً من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف. فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظلمة البطن والرحم والمشيمة، أو الصلب والرحم والبطن.
ذلِكُمُ الذي هذه أفعاله. اللَّهُ رَبُّكُمْ هو المستحق لعبادتكم والمالك. لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا يشاركه في الخلق غيره. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يعدل بكم عن عبادته إلى الإشراك.
[سورة الزمر (39) : آية 7]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ عن إِيمانكم. وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ لاستضرارهم به رحمة عليهم.
وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ لأنه سبب فلا حكم، وقرأ ابن كثير ونافع في رواية وأبو عمرو والكسائي بإشباع ضمة الهاء لأنها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرك، وعن أبي عمرو ويعقوب إسكانها وهو لغة فيها.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمحاسبة والمجازاة. إِنَّهُ عَلِيمٌ(5/37)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)
بِذاتِ الصُّدُورِ
فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.
[سورة الزمر (39) : آية 8]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ لزوال ما ينازع العقل في الدلالة على أن مبدأ الكل منه. ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أعطاه من الخول وهو التعهد، أو الخول وهو الافتخار. نِعْمَةً مِنْهُ من الله. نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ أي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، أو ربه الذي كان يتضرع إليه وما مثل الذي في قوله:
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. مِنْ قَبْلُ من قبل النعمة. وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء، والضلال والإِضلال لما كانا نتيجة جعله صح تعليله بهما وإن لم يكونا غرضين. قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أمر تهديد فيه إشعار بأن الكفر نوع تشه لا سند له، وإقناط للكافرين من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ على سبيل الاستئناف للمبالغة.
[سورة الزمر (39) : آية 9]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ قائم بوظائف الطاعات. آناءَ اللَّيْلِ ساعاته وأم متصلة بمحذوف تقديره الكافر خير أم من هو قانت، أو منقطعة والمعنى بل أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ كمن هو بضده، وقرأ الحجازيان وحمزة بتخفيف الميم بمعنى أمن هو قانت لله كمن جعل له أنداداً. ساجِداً وَقائِماً حالان من ضمير قانِتٌ، وقرئا بالرفع على الخبر بعد الخبر والواو للجمع بين الصفتين يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ في موضع الحال أو الاستئناف للتعليل. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ نفى لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيه باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم. وقيل تقرير للأول على سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ بأمثال هذه البيانات، وقرئ «يذكر» بالإدغام.
[سورة الزمر (39) : آية 10]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ بلزوم طاعته. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة. وقيل معناه للذين أحسنوا حسنة في الدنيا هي الصحة والعافية، وفي هذه بيان لمكان حَسَنَةٌ. وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فمن تعسر عليه التوفر على الإِحسان في وطنه فليهاجر إلى حيث يتمكن منه. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مشاق الطاعات من احتمال البلاء ومهاجرة الأوطان لها. أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أجراً لا يهتدي إليه حساب الحساب،
وفي الحديث إنه «ينصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون بها أجورهم، ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» .
[سورة الزمر (39) : الآيات 11 الى 13]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)(5/38)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ موحداً له.
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة، لأن قصب السبق في الدين بالإِخلاص أو لأنه أول مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ من قريش ومن دان بدينهم، والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة، والإشعار بأن العبادة المقرونة بالإِخلاص وإن اقتضت لذاتها أن يؤمر بها فهي أيضاً تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين، ويجوز أن تجعل اللام مزيدة كما في أردت لأن أفعل فيكون أمر بالتقدم في الإِخلاص والبدء بنفسه في الدعاء إليه بعد الأمر به.
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظمة ما فيه.
[سورة الزمر (39) : الآيات 14 الى 16]
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي أمر بالإِخبار عن إخلاصه وأن يكون مخلصاً له دينه بعد الأمر بالإِخبار عن كونه مأموراً بالعبادة والإِخلاص خائفاً عن المخالفة من العقاب قطعاً لأطماعهم، ولذلك رتب عليه قوله:
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ تهديداً وخذلاناً لهم. قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الكاملين في الخسران. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالضلال. وَأَهْلِيهِمْ بالإِضلال. يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يدخلون النار بدل الجنة لأنهم جمعوا وجوه الخسران. وقيل وخسروا أهليهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده. أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ مبالغة في خسرانهم لما فيه من الاستئناف والتصدير ب أَلا، وتوسيط الفصل وتعريف الخسران ووصفه ب الْمُبِينُ.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ شرح لخسرانهم. وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أطباق من النار هي ظلل للآخرين. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ذلك العذاب هو الذي يخوفهم به ليجتنبوا ما يوقعهم فيه. يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي.
[سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 18]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ البالغ غاية الطغيان فعلوت منه بتقديم اللام على العين بني للمبالغة في المصدر كالرحموت، ثم وصف به للمبالغة في النعت ولذلك اختص بالشيطان. أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال منه. وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ وأقبلوا إليه بشراشرهم عما سواه. لَهُمُ الْبُشْرى بالثواب على ألسنة الرسل، أو الملائكة عند حضور الموت. فَبَشِّرْ عِبادِ.
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وضع فيه الظاهر موضع ضمير الَّذِينَ اجْتَنَبُوا للدلالة على مبدأ اجتنابهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحق والباطل ويؤثرون الأفضل فالأفضل. أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ لدينه. وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة، وفي ذلك دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله وقبول النفس لها.
[سورة الزمر (39) : الآيات 19 الى 20]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)(5/39)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ جملة شرطية معطوفة على محذوف دل عليه الكلام تقديره أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، فكررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الإِنكار والاستبعاد، ووضع مَنْ فِي النَّارِ موضع الضمير لذلك وللدلالة على أن من حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه لامتناع الخلف فيه، وأن اجتهاد الرسل في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار، ويجوز أن يكون أَفَأَنْتَ تنقذ جملة مستأنفة للدلالة على ذلك والإشعار بالجزاء المحذوف.
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ علالي بعضها فوق بعض. مَبْنِيَّةٌ بنيت بناء النازل على الأرض. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت تلك الغرف. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لأن قوله لَهُمْ غُرَفٌ في معنى الوعد. لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ ولأن الخلف نقص وهو على الله محال.
[سورة الزمر (39) : آية 21]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء هو المطر. فَسَلَكَهُ فأدخله. يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ هي عيون ومجاري كائنة فيها، أو مياه نابعات فيها إذ الينبوع جاء للمنبع وللنابع فنصبها على الظرف أو الحال. ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أصنافه من بر وشعير وغيرهما، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما. ثُمَّ يَهِيجُ يتم جفافه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منبته. فَتَراهُ مُصْفَرًّا من يبسه. ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فتاتاً. إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لتذاكيراً بأنه لا بد من صانع حكيم دبره وسواه، أو بأنه مثل الحياة الدنيا فلا تغتر بها. لِأُولِي الْأَلْبابِ إِذْ لاَ يَتَذكر به غيرهم.
[سورة الزمر (39) : آية 22]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ حتى تمكن فيه بيسر عبر به عمن خلق نفسه شديدة الاستعداد لقبوله غير متأبية عنه من حيث أن الصدر محل القلب المنبع للروح المتعلق للنفس القابلة للإِسلام. فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني المعرفة والاهتداء إلى الحق.
وعنه عليه الصلاة والسلام «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، فقيل فما علامة ذلك قال: الإِنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله» .
وخبر مِنْ محذوف دل عليه فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ من أجل ذكره وهو أبلغ من أن يكون عن مكان من، لأن القاسي من أجل الشيء أشد تأبياً عن قبوله من القاسي عنه لسبب آخر، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بامتناع ذكر شرح الصدر وأسنده إلى الله وقابله بقساوة القلب وأسنده إليه. أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يظهر للناظر بأدنى نظر، والآية نزلت في حمزة وعلي وأبي لهب وولده.
[سورة الزمر (39) : آية 23]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن،
روي أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له حدثنا فنزلت.
وفي الابتداء باسم الله وبناء نزل عليه تأكيد للإسناد إليه وتفخيم للمنزل واستشهاد على حسنه. كِتاباً(5/40)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
مُتَشابِهاً
بدل من أَحْسَنَ أو حال منه، وتشابهه تشابه أبعاضه في الإِعجاز وتجاوب النظم وصحة المعنى والدلالة على المنافع العامة. مَثانِيَ جمع مثنى أو مثنى أو مثن على ما مر في «الحجر» ، وصف به كتاباً باعتبار تفاصيله كقولك: القرآن سور وآيات، والإِنسان: عظام وعروق وأعصاب، أو جعل تمييزاً من مُتَشابِهاً كقولك: رأيت رجلاً حسناً شمائله. تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ تشمئز خوفاً مما فيه من الوعيد، وهو مثل في شدة الخوف واقشعرار الجلد تقبضه وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس بزيادة الراء ليصير رباعياً كتركيب أقمطر من القمط وهو الشد. ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ بالرحمة وعموم المغفرة، والإِطلاق للإشعار بأن أصل أمره الرحمة وأن رحمته سبقت غضبه، والتعدية ب إِلى لتضمين معنى السكون والاطمئنان، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها. ذلِكَ أي الكتاب أو الكائن من الخشية والرجاء. هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ هدايته. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذله.
فَما لَهُ مِنْ هادٍ يخرجهم من الضلال.
[سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 26]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ يجعله درقة يقي به نفسه لأنه يكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يقدر أن يتقي إلا بِوَجْهِهِ. سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ كمن هو آمن منه، فحذف الخبر كما حذف في نظائره.
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ أي لهم فوضع الظاهر موضعه تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بالموجب لما يقال لهم وهو: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي وباله، والواو للحال وقد مقدرة.
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ من الجهة التي لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها.
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ الذل. فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإِجلاء. وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ المعد لهم. أَكْبَرُ لشدته ودوامه. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لو كانوا من أهل العلم والنظر لعلموا ذلك واعتبروا به.
[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 28]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاج إليه الناظر في أمر دينه. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتعظون به.
قُرْآناً عَرَبِيًّا حال من هذا والاعتماد فيها على الصفة كقولك: جاءني زيد رجلاً صالحاً، أو مدح له.
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لا اختلال فيه بوجه ما، وهو أبلغ من المستقيم وأخص بالمعاني. وقيل بالشك استشهاداً بقوله:
وَقَدْ أَتَاكَ يَقِينٌ غَيْرُ ذِيْ عِوَجٍ ... مِنَ الإِلَهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ
وهو تخصيص له ببعض مدلوله. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ علة أخرى مرتبة على الأولى.
[سورة الزمر (39) : آية 29]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (29)(5/41)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للمشرك والموحد. رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ مثل المشرك على ما يقتضيه مذهبه من أن يدعي كل واحد من معبوديه عبوديته، ويتنازعوا فيه بعبد يتشارك فيه جمع، يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة في تحيره وتوزع قلبه، والموحد بمن خلص لواحد ليس لغيره عليه سبيل ورَجُلًا بدل من مثل وفيه صلة شُرَكاءُ، والتشاكس والتشاخص الاختلاف. وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون سَلَماً بفتحتين، وقرئ بفتح السين وكسرها مع سكون اللام وثلاثتها مصادر سلم نعت بها، أو حذف منها ذا و «رجل سالم» أي وهناك رجل سالم، وتخصيص الرجل لأنه أفطن للضر والنفع. هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا صفة وحالاً ونصبه على التمييز ولذلك وحده، وقرئ «مثلين» للإشعار باختلاف النوع، أو لأن المراد على يَسْتَوِيانِ في الوصفين على أن الضمير للمثلين فإن التقدير مثل رجل ومثل رجل. الْحَمْدُ لِلَّهِ كل الحمد له لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه، لأنه المنعم بالذات والمالك على الإِطلاق. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فيشركون به غيره من فرط جهلهم.
[سورة الزمر (39) : الآيات 30 الى 32]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ فإن الكل بصدد الموت وفي عداد الموتى، وقرئ «مائت» و «مائتون» لأنه مما سيحدث.
ثُمَّ إِنَّكُمْ على تغليب المخاطب على الغيب. يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فتحتج عليهم بأنك كنت على الحق في التوحيد وكانوا على الباطل في التشريك، واجتهدت في الإرشاد والتبليغ ولجوا في التكذيب والعناد، ويعتذرون بالأباطيل مثل أَطَعْنا سادَتَنا ووَجَدْنا آباءَنا. وقيل المراد به الاختصام العام يخاصم الناس بعضهم بعضاً فيما دار بينهم في الدنيا.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بإضافة الولد والشريك إليه. وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. إِذْ جاءَهُ من غير توقف وتفكر في أمره. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ وذلك يكفيهم مجازاة لأعمالهم، واللام تحتمل العهد والجنس، واستدل به على تكفير المبتدعة فإنهم يكذبون بما علم صدقه وهو ضعيف لأنه مخصوص بمن فاجأ ما علم مجيء الرسول به بالتكذيب.
[سورة الزمر (39) : الآيات 33 الى 35]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ اللام للجنس ليتناول الرسل والمؤمنين لقوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وقيل هو النبي صلّى الله عليه وسلم والمراد هو ومن تبعه كما في قوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وقيل الجائي هو الرسول والمصدق أبو بكر رضي الله عنه، وذلك يقتضي إضمار الذى وهو غير جائز. وقرئ «وَصَدَّقَ بِهِ» بالتخفيف أي صدق به الناس فأداه إليهم كما نزل من غير تحريف، أو صار صادقاً بسببه لأنه معجز يدل على صدقه «وَصَدَّقَ بِهِ» على البناء للمفعول.
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة. ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم.
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا خص الأسوأ للمبالغة فإنه إذا كفر كان غيره أولى بذلك، أو(5/42)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
للإشعار بأنهم لاستعظامهم الذنوب يحسبون أنهم مقصرون مذنبون وأن ما يفرط منهم من الصغائر أسوأ ذنوبهم، ويجوز أن يكون بمعنى السيئ كقولهم: الناقص والأشج أعدلا بني مروان، وقرئ «أسواء» جمع سوء. وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ ويعطيهم ثوابهم. بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ فيعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر وعظمه لفرط إخلاصهم فيها.
[سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 37]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإِثبات، والعبد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويحتمل الجنس ويؤيده قراءة حمزة والكسائي «عباده» ، وفسر بالأنبياء صلوات الله عليهم. وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني قريشاً فإنهم قالوا له إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا بعيبك إياها. وقيل إنه بعث خالداً ليكسر العزى فقال له سادنها أُحَذِّرْكَهَا فإن لها شدة، فعمد إليها خالد فهشم أنفها فنزل تخويف خالد منزلة تخويفه لأنه الآمر له بما خوف عليه. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ حتى غفل عن كفاية الله له وخوفه بما لا ينفع ولا يضر. فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديهم إلى الرشاد.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ إذ لا راد لفعله كما قال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ غالب منيع. ذِي انْتِقامٍ ينتقم من أعدائه.
[سورة الزمر (39) : آية 38]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية. قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أي أرأيتم بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله تعالى وأن آلهتكم إن أراد الله أن يصيبني بضر هل يكشفنه. أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ بنفع. هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ فيمسكنها عني، وقرأ أبو عمرو كاشِفاتُ ضُرِّهِ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ بالتنوين فيهما ونصب ضره ورحمته. قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ كافياً في إصابة الخير ودفع الضر إذ تقرر بهذا التقرير أنه القادر الذي لا مانع لما يريده من خير أو شر.
روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سألهم فسكتوا فنزل ذلك
، وإنما قال كاشِفاتُ ومُمْسِكاتُ على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيهاً على كمال ضعفها. عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ لعلمهم بأن الكل منه تعالى.
[سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 41]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على حالكم، اسم للمكان استعير للحال كما استعير هنا وحيث من المكان للزمان، وقرئ «مكاناتكم» . إِنِّي عامِلٌ أي على مكانتي فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد، والإشعار بأن حاله لا يقف فإنه تعالى يزيده على مر الأيام قوة ونصرة ولذلك توعدهم بكونه منصوراً عليهم في الدارين فقال: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.(5/43)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فإن خزي أعدائه دليل غلبته، وقد أخزاهم الله يوم بدر. وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم وهو عذاب النار.
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم. بِالْحَقِّ متلبساً به. فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ إذ نفع به نفسه. وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها فإن وباله لا يتخطاها. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى وإنما أمرت بالبلاغ وقد بلغت.
[سورة الزمر (39) : آية 42]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها عنها وتصرفها فيها إما ظاهراً وباطناً وذلك عند الموت، أو ظاهراً لا باطناً وهو في النوم. فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ولا يردها إلى البدن، وقرأ حمزة والكسائي قَضى بِضَم القاف وكسر الضاد والموت بالرفع. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي النائمة إلى بدنها عند اليقظة. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو الوقت المضروب لموته وهو غاية جنس الإرسال.
وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن في ابن آدم نفساً وروحاً بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والحياة، فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم. قريب مما ذكرناه.
إِنَّ فِي ذلِكَ من التوفي والإِمساك والإِرسال. لَآياتٍ دالة على كمال قدرته وحكمته وشمول رحمته.
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في كيفية تعلقها بالأبدان وتوفيها عنها بالكلية حين الموت، وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها، وما يعتريها من السعادة والشقاوة والحكمة في توفيها عن ظواهرها وإرسالها حيناً بعد حين إلى توفي آجالها.
[سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 44]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
أَمِ اتَّخَذُوا بل اتخذ قريش. مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ تشفع لهم عند الله. قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم.
قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لعله رد لما عسى يجيبون به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون هي تماثيلهم، والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ورضاه، ولا يستقل بها ثم قرر ذلك فقال:
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة فيكون الملك له أيضاً حينئذ.
[سورة الزمر (39) : آية 45]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ دون آلهتهم. اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ انقبضت ونفرت. وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأوثان. إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لفرط افتتانهم بها ونسيانهم حق الله، ولقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فيهما، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه، والاشمئزاز أن يمتلئ غماً حتى ينقبض أديم وجهه، والعامل في إِذا ذُكِرَ العامل في إذ المفاجأة.
[سورة الزمر (39) : آية 46]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)(5/44)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ التجئ إلى الله بالدعاء لما تحيرت في أمرهم وضجرت من عنادهم وشدة شكيمتهم، فإنه القادر على الأشياء والعالم بالأحوال كلها. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فأنت وحدك تقدر أن تحكم بيني وبينهم.
[سورة الزمر (39) : الآيات 47 الى 48]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وعيد شديد وإقناط كلي لهم من الخلاص. وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ زيادة مبالغة فيه وهو نظير قوله:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ في الوعد.
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض صحائفهم. وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وأحاط بهم جزاؤه.
[سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 50]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ (50)
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا إخبار عن الجنس بما يغلب فيه، والعطف على قوله وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ بالفاء لبيان مناقضتهم وتعكيسهم في التسبب بمعنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره، وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم. ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا أعطيناه إياه تفضلاً فإن التخويل مختص به. قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ مني بوجوه كسبه، أو بأني سأعطاه لما لي من استحقاقه، أو من الله بي واستحقاقي، والهاء فيه لما إن جعلت موصولة وإلا فللنعمة والتذكير لأن المراد شيء منها. بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ امتحان له أيشكر أم يكفر، وهو رد لما قاله وتأنيث الضمير باعتبار الخير أو لفظ ال نِعْمَةً، وقرئ بالتذكير. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ذلك، وهو دليل على أن الإِنسان للجنس.
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الهاء لقوله إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ لأنها كلمة أو جملة، وقرئ بالتذكير والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قارون وقومه فإنه قال ورضي به قومه فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا.
[سورة الزمر (39) : الآيات 51 الى 52]
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا جزاء سيئات أعمالهم أو جزاء أعمالهم، وسماه سيئة لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة رمزاً إلى أن جميع أعمالهم كذلك. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا بالعتو. مِنْ هؤُلاءِ المشركين ومِنْ للبيان أو للتبعيض. سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا كما أصاب أولئك، وقد أصابهم فإنهم قحطوا سبع سنين وقتل ببدر صناديدهم. وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين.
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ حيث حبس عنهم الرزق سبعاً ثم بسط لهم سبعاً.(5/45)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بأن الحوادث كلها من الله بوسط أو غيره.
[سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 54]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ (54)
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أفرطوا في الجناية عليها بالإِسراف في المعاصي، وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن. لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لا تيأسوا من مغفرته أولاً وتفضله ثانياً. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً عفواً ولو بَعْدَ بُعْدٍ وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، والتعليل بقوله: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ على المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في عِبادِيَ من الدلالة على الذلة، والإِختصاص المقتضيين للترحم، وتخصيص ضرر الإِسراف بأنفسهم والنهي عن القنوط مطلقاً عن الرحمة فضلاً عن المغفرة، وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب جميعا، ووضع اسم اللَّهِ موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإِطلاق والتأكيد بالجميع. وما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها، فقال رجل يا رسول الله ومن أشرك فسكت ساعة ثم قال: ألا ومن أشرك ثلاث مرات» .
وما
روي أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الوثن وقتل النفس بغير حق لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس فنزلت.
وقيل في عياش والوليد بن الوليد في جماعة افتتنوا أو في الوحشي لا ينفي عمومها وكذا قوله:
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ فإنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن التوبة والإِخلاص في العمل وتنافي الوعيد بالعذاب.
[سورة الزمر (39) : الآيات 55 الى 56]
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ القرآن أو المأمور به دون المنهي عنه، أو العزائم دون الرخص أو الناسخ دون المنسوخ، ولعله ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ بمجيئه فتتداركوا.
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ كراهة أن تقول وتنكير نَفْسٌ لأن القائل بعض الأنفس أو للتكثير كقول الأعشى:
وَرُبَّ بَقِيعَ لَوْ هَتَفْتُ بِجَوِّه ... أَتَانِي كَرِيمٌ يَنْفُضُ الرَّأْسَ مُغْضبا
يا حَسْرَتى وقرئ بالياء على الأصل. عَلى مَا فَرَّطْتُ بما قصرت. فِي جَنْبِ اللَّهِ في جانبه أي في حقه وهو طاعته. قال سابق البربري:
أَمَا تَتَّقِينَ الله فِي جَنْبٍ وَامِق ... لَهُ كبدٌ حَرّى عَلَيْكَ تَقَطَّع
وهو كناية فيها مبالغة كقوله:
إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالمُرُوءَةَ وَالنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الحَشْرَجِ
وقيل ذاته على تقدير مضاف كالطاعة وقيل في قربه من قوله تعالى: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وقرئ «في ذكر الله» . وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ المستهزئين بأهله ومحل إِنْ كُنْتُ نصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر.(5/46)
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
[سورة الزمر (39) : الآيات 57 الى 59]
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي بالإرشاد إلى الحق. لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الشرك والمعاصي.
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في العقيدة والعمل، وأو للدلالة على أنها لا تخلوا من هذه الأقوال تحيراً وتعللاً بما لا طائل تحته.
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ رد من الله عليه لما تضمنه قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي من معنى النفي وفصله عنه لأن تقديمه يفرق القرائن وتأخير المودود يخل بالنظم المطابق للوجود لأنه يتحسر بالتفريط ثم يتعلل بفقد الهداية ثم يتمنى الرجعة، وهو لا يمنع تأثير قدرة الله فعل العبد ولا ما فيه من إسناد الفعل إليه كما عرفت وتذكير الخطاب على المعنى، وقرئ بالتأنيث للنفس.
[سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 61]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بأن وصفوه بما لا يجوز كاتخاذ الولد. وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ بما ينالهم من الشدة أو بما يتخيل عليها من ظلمة الجهل، والجملة حال إذ الظاهر أن ترى من رؤية البصر واكتفى فيها بالضمير عن الواو. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مقام. لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الإِيمان والطاعة وهو تقرير لأنهم يرون كذلك.
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وقرئ «وَيُنَجّي» . بِمَفازَتِهِمْ بفلاحهم مفعلة من الفوز وتفسيرها بالنجاة تخصيصها بأهم أقسامه وبالسعادة والعمل الصالح إطلاق لها على السبب، وقرأ الكوفيون غير حفص بالجمع تطبيقاً له بالمضاف إليه والباء فيها للسببية صلة لينجي أو لقوله: لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وهو حال أو استئناف لبيان المفازة.
[سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 63]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63)
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خير وشر وإيمان وكفر. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يتولى التصرف.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره، وهو كناية عن قدرته وحفظه لها وفيها مزيد دلالة على الاختصاص، لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها الا من بيده مفاتيحها، وهو جمع مقليد أو مقلاد من قلدته إذا ألزمته، وقيل جمع إقليد معرب إكليد على الشذوذ كمذاكير.
وعن عثمان رضي الله عنه: أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن المقاليد فقال «تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بيده الخير يحيي ويميت وَهُوَ على كُلّ شَىْء قدير» .
والمعنى على هذا إن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها أصابه. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ متصل بقوله وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها، وتغيير(5/47)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
النظم للإشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل الله وفي هلاك الكافرين أن خسروا أنفسهم، وللتصريح بالوعد والتعريض بالوعيد قضية للكرم أو بما يليه، والمراد بآيات الله دلائل قدرته واستبداده بأمر السموات والأرض، أو كلمات توحيده وتمجيده وتخصيص الخسار بهم لأن غيرهم ذو حظ من الرحمة والثواب.
[سورة الزمر (39) : الآيات 64 الى 65]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي أفغير الله أعبد بعد هذه الدلائل والمواعيد، وتَأْمُرُونِّي اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك لفرط غباوتهم، ويجوز أن ينتصب غير بما دل عليه تَأْمُرُونّى أَنْ أَعْبُدَ لأنه بمعنى تعبدونني على أن أصله تأمرونني أن أعبد فحذف إن ورفع كقوله:
أَلا أَيّهذا الزَّاجِرِي أحضر الوغى ويؤيده قراءة أَعْبُدُ بالنصب، وقرأ ابن عامر «تأمرونني» بإظهار النونين على الأصل ونافع بحذف الثانية فإنها تحذف كثيراً.
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ أي من الرسل. لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ كلام على سبيل الفرض والمراد به تهييج الرسل وإقناط الكفرة والإِشعار على حكم الأمة، وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد واللام الأولى موطئة للقسم والأخريان للجواب، وإطلاق الإِحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم لأن شركهم أقبح، وأن يكون على التقييد بالموت كما صرح به في قوله وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وعطف الخسران عليه من عطف المسبب على السبب.
[سورة الزمر (39) : الآيات 66 الى 67]
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ رد لما أمروه به ولولا دلالة التقديم على الاختصاص لم يكن كذلك. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ إنعامه عليك وفيه إشارة الى موجب الاختصاص.
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما قدروا عظمته في أنفسهم حق تعظيمه حيث جعلوا له شركاء ووصفوه بما لا يليق به، وقرئ بالتشديد. وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ تنبيه على عظمته وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإِضافة إلى قدرته، ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازاً كقولهم: شابت لمة الليل، والقبضة المرة من القبض أطلقت بمعنى القبضة وهي المقدار المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضة. وقرئ بالنصب على الظرف تشبيهاً للمؤقت بالمبهم، وتأكيد الْأَرْضُ بالجميع لأن المراد بها الأرضون السبع أو جميع أبعاضها البادية والغائرة. وقرئ «مطويات» على أنها حال والسَّماواتُ معطوفة على الْأَرْضُ منظومة في حكمها. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ما أبعد وأعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم، أو ما يضاف إليه من الشركاء.
[سورة الزمر (39) : آية 68]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68)(5/48)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعني المرة الأولى. فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ خر ميتاً أو مغشياً عليه. إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل جبريل وميكائيل وإسرافيل فإنهم يموتون بعد، وقيل حملة العرش. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى نفخة أخرى وهي تدل على أن المراد بالأُولى ونُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ كما صرح به في مواضع، وأخرى تحتمل النصب والرفع. فَإِذا هُمْ قِيامٌ قائمون من قبورهم أو متوقفون، وقرئ بالنصب على أن الخبر. يَنْظُرُونَ وهو حال من ضميره والمعنى: يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ما يفعل بهم.
[سورة الزمر (39) : الآيات 69 الى 70]
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها بما أقام فيها من العدل، سماه «نور» لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة.
وفي الحديث «الظلم ظلمات يوم القيامة» .
ولذلك أضاف اسمه إلى الْأَرْضُ أو بنور خلق فيها بلا واسطة أجسام مضيئة ولذلك أضافه الى نفسه. وَوُضِعَ الْكِتابُ للحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال، واكتفى باسم الجنس عن الجمع.
وقيل اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين، وقيل المستشهدون. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين العباد. بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد.
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ جزاءه. وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فلا يفوته شيء من أفعالهم، ثم فصل التوفية فقال:
[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 72]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أفواجاً متفرقة بعضها في أثر بعض على تفاوت أقدامهم في الضلالة والشرارة، جمع زمرة واشتقاقها من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه، أو من قولهم شاة زمرة قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة وهي الجمع القليل. حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها وحَتَّى وهي التي تحكي بعدها الجملة، وقرأ الكوفيون فُتِحَتْ بتخفيف التاء. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعاً وتوبيخاً. أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم. يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار، وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب. قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ كلمة الله بالعذاب علينا وهو الحكم عليهم بالشقاوة، وأنهم من أهل النار ووضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة، وقيل هو قوله وقيل هو قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم. فَبِئْسَ مَثْوَى مكان.
الْمُتَكَبِّرِينَ اللام فيه للجنس والمخصوص بالذم سبق ذكره، ولا ينافي إشعاره بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها لأن كلمة العذاب حقت عليهم، فإن تكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عنه كما
قال عليه الصلاة والسلام «إِن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل(5/49)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة. وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار» .
[سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 74]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِسراعاً بهم إلى دار الكرامة، وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين. زُمَراً على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة. حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها حذف جواب إذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين، وقرأ الكوفيون فُتِحَتْ بالتخفيف. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يعتريكم بعد مكروه. طِبْتُمْ طهرتم من دنس المعاصي. فَادْخُلُوها خالِدِينَ مقدرين الخلود فيها، والفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه لأنه مطهره.
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث والثواب. وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يريدون المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه. نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي يتبوأ كل منا في أي مقام أراده من جنته الواسعة، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها. فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة.
[سورة الزمر (39) : آية 75]
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ محدقين. مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي حوله ومِنْ مزيدة أو لابتداء الحفوف.
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ملتبسين بحمده. والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى، والمعنى ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذاً به، وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بين الخلق بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم. وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضي بيننا بالحق. والقائلون هم المؤمنون من المقضي بينهم أو الملائكة وطي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع رجاءه يوم القيامة وأعطاه الله ثواب الخائفين» .
عن عائشة رضي الله عنها: «أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر»
والله أعلم.(5/50)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
(40) سورة المؤمن
مكية وآيها خمس وثمانون
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
حَم أماله ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر صريحاً، ونافع برواية ورش وأبو عمرو بين بين، وقرئ بفتح الميم على التحريك لالتقاء الساكنين، أو النصب بإضمار اقرأ ومنع صرفه للتعريف والتأنيث، أو لأنها على زنة أعجمي كقابيل وهابيل.
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإِعجاز والحكم الدال على القدرة الكاملة والحكمة البالغة.
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ صفات أخرى لتحقيق ما فيه من الترغيب والترهيب والحث على ما هو المقصود منه، والإضافة فيها حقيقة على أنه لم يرد بها زمان مخصوص، وأريد ب شَدِيدِ الْعِقابِ مشددة أو الشديد عقابه فحذف اللام للازدواج وأمن الالتباس، أو إبدال وجعله وحده بدلاً مشوش للنظم وتوسيط الواو بين الأولين لإِفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة، أو تغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد، أو تغاير موقع الفعلين لأن الغفر هو الستر فيكون لذنب باق وذلك لمن لم يتب فإن
«التائب من الذنب كمن لا ذنب له» .
والتوب مصدر كالتوبة وقيل جمعها والطول الفضل بترك العقاب المستحق، وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل رجحانها. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ فيجب الإِقبال الكلي على عبادته. إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فيجازي المطيع والعاصي.
[سورة غافر (40) : آية 4]
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا لما حقق أمر التنزيل سجل بالكفر على المجادلين فيه بالطعن وإدحاض الحق لقوله: وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وأما الجدال فيه لحل عقده واستنباط حقائقه وقطع تشبث أهل الزيغ به وقطع مطاعنهم فيه فمن أعظم الطاعات، ولذلك
قال عليه الصلاة والسلام «إن جدالاً في القرآن كفر»
بالتنكير مع أنه ليس جدالاً فيه على الحقيقة. فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ فلا يغررك إمهالهم وإقبالهم في دنياهم وتقلبهم في بلاد الشام واليمن بالتجارات المربحة فإنهم مأخوذون عما قريب بكفرهم أخذ من قبلهم كما قال:
[سورة غافر (40) : الآيات 5 الى 6]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
.(5/51)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ والذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم بعد قوم نوح كعاد وثمود. وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من هؤلاء. بِرَسُولِهِمْ وقرئ «برسولها» . لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب وقتل من الأخذ بمعنى الأسر. وَجادَلُوا بِالْباطِلِ بما لا حقيقة له. لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ليزيلوه به. فَأَخَذْتُهُمْ بالإِهلاك جزاء لهم. فَكَيْفَ كانَ عِقابِ فإنكم تمرون على ديارهم وترون أثره. وهو تقرير فيه تعجيب.
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وعيده أو قضاؤه بالعذاب. عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بكفرهم. أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ بدل من كلمة رَبِّكَ بدل الكل أو الاشتمال على إرادة اللفظ أو المعنى.
[سورة غافر (40) : آية 7]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ الكروبيون أعلى طبقات الملائكة وأولهم وجوداً وحملهم إياه وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له، أو كناية عن قربهم من ذي العرش ومكانتهم عنده وتوسطهم في نفاذ أمره. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يذكرون الله بمجامع الثناء من صفات الجلال والإِكرام، وجعل التسبيح أصلاً والحمد حالاً لأن الحمد مقتضى حالهم دون التسبيح. وَيُؤْمِنُونَ بِهِ أخبر عنهم بالإِيمان إظهاراً لفضله وتعظيماً لأهله ومساق الآية لذلك كما صرح به بقوله: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وإشعاراً بأن حملة العرش وسكان الفرش في معرفته سواء رداً على المجسمة واستغفارهم شفاعتهم وحملهم على التوبة وإلهامهم ما يوجب المغفرة، وفيه تنبيه على أن المشاركة في الإِيمان توجب النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس لأنها أقوى المناسبات كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ. رَبَّنا أي يقولون رَبَّنا وهو بيان ل يَسْتَغْفِرُونَ أو حال. وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً أي وسعت رحمتك وعلمك فأزيل عن أصله للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم والمبالغة في عمومها، وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات ها هنا.
فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيل الحق. وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ واحفظهم عنه وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد والدلالة على شدة العذاب.
[سورة غافر (40) : الآيات 8 الى 9]
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وعدتهم إياها. وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على هم الأول أي أدخلهم ومعهم هؤلاء ليتم سرورهم، أو الثاني لبيان عموم الوعد، وقرئ «جنة عدن» و «صَلُحَ» بالضم و «ذريتهم» بالتوحيد. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الذي لا يمتنع عليه مقدور. الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته ومن ذلك الوفاء بالوعد. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ العقوبات أو جزاء السيئات، وهو تعميم بعد تخصيص، أو تخصيص بمن صَلَحَ أو المعاصي في الدنيا لقوله: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ أي ومن تقها في الدنيا فقد رحمته في الآخرة كأنهم طلبوا السبب بعد ما سألوا المسبب. وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني الرحمة أو الوقاية أو مجموعهما.
[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)(5/52)
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ يوم القيامة فيقال لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنفسكم الأمارة بالسوء. إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ ظرف لفعل دل عليه المقت الأول لا له لأنه أخبر عنه، ولا للثاني لأن مقتهم أنفسهم يوم القيامة حين عاينوا جزاء أعمالهم الخبيثة إلا أن يؤول بنحو: بالصَّيْفِ ضيّعْتِ اللَّبَن. أو تعليل للحكم وزمان المقتين واحد.
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ إماتتين بأن خلقتنا أمواتا أوّلا ثم صيرتنا أمواتاً عند انقضاء آجالنا، فإن الإماتة جعل الشيء عادم الحياة ابتداء أو بتصيير كالتصغير والتكبير، ولذلك قيل سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل، وإن خص بالتصيير فاختيار الفاعل المختار أحد مفعوليه تصيير وصرف له عن الآخر. وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. وقيل الإِماتة الأولى عند انخرام الأجل والثانية في القبر بعد الإِحياء للسؤال والإِحياءان ما في القبر والبعث، إذ المقصود اعترافهم بعد المعاينة بما غفلوا عنه ولم يكترثوا به ولذلك تسبب بقوله: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فإن اقترافهم لها من اغترارهم بالدنيا وإنكارهم البعث. فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ نوع خروج من النار. مِنْ سَبِيلٍ
طريق فنسلكه وذلك إنما يقولونه من فرط قنوطهم تعللاً وتحيراً ولذلك أجيبوا بقوله:
[سورة غافر (40) : الآيات 12 الى 13]
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13)
ذلِكُمْ الذي أنتم فيه. بِأَنَّهُ بسبب أنه. إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ متحداً أو توحد وحده فحذف الفعل وأقيم مقامه في الحالية. كَفَرْتُمْ بالتوحيد. وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بالإِشراك. فَالْحُكْمُ لِلَّهِ المستحق للعبادة حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد الدائم. الْعَلِيِّ عن أن يشرك به ويسوى بغيره. الْكَبِيرِ حيث حكم على من أشرك وسوى به بعض مخلوقاته في استحقاق العبادة بالعذاب السرمد.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالة على التوحيد وسائر ما يجب أن يعلم تكميلاً لنفوسكم. وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أسباب رزق كالمطر مراعاة لمعاشكم. وَما يَتَذَكَّرُ بالآيات التي هي كالمركوزة في العقول لظهورها المغفول عنها للانهماك في التقليد واتباع الهوى. إِلَّا مَنْ يُنِيبُ يرجع عن الإِنكار بالإِقبال عليها والتفكر فيها، فإن الجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه.
[سورة غافر (40) : الآيات 14 الى 15]
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15)
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك. وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إخلاصكم وشق عليهم.
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ خبران آخران للدلالة على علو صمديته من حيث المعقول والمحسوس الدال على تفرده في الألوهية، فإن من ارتفعت درجات كماله بحيث لا يظهر دونها كمال وكان العرش الذي هو أصل العالم الجسماني في قبضة قدرته لا يصح أن يشرك به، وقيل الدرجات مراتب المخلوقات أو مصاعد الملائكة إلى العرش أو السموات أو درجات الثواب. وقرئ «رَفِيعَ» بالنصب على المدح. يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ خبر رابع للدلالة على أن الروحانيات أيضاً مسخرات لأمره بإظهار آثارها وهو الوحي، وتمهيد للنبوة بعد تقرير التوحيد والروح الوحي ومن أمره بيانه لأنه أمر بالخير أو مبدؤه والآمر هو الملك المبلغ. عَلى مَنْ(5/53)
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
يختاره للنبوة، وفيه دليل على أنها عطائية. لِيُنْذِرَ غاية الإلقاء والمستكن فيه لله، أو لمن أو للروح واللام مع القرب تؤيد الثاني. يَوْمَ التَّلاقِ يوم القيامة، فإن فيه تتلاقى الأرواح والأجساد وأهل السماء والأرض أو المعبودون والعباد أو الأعمال والعمال.
[سورة غافر (40) : الآيات 16 الى 17]
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لاَ يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ خارجون من قبورهم أو ظاهرون لا يسترهم شيء أو ظاهرة نفوسهم لا تحجبهم غواشي الأبدان، أو أعمالهم وسرائرهم. لاَ يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم، وهو تقرير لقوله هُمْ بارِزُونَ وإزاحة لنحو ما يتوهم في الدنيا. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به، أو لما دل عليه ظاهر الحال فيه من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط، وأما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائماً.
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ كأنه نتيجة لما سبق، وتحقيقه أن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيئات توجب لذتها وألمها لكنها لا تشعر بها في الدنيا لعوائق تشغلها، فإذا قامت قيامتها زالت العوائق وأدركت لذتها وألمها. لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص الثواب وزيادة العقاب. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ إذ لا يشغله شأن عن شأن فيصل إليهم ما يستحقونه سريعا.
[سورة غافر (40) : آية 18]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أي القيامة سميت بها لأزوفها أي قربها، أو الخطة الْآزِفَةِ وهي مشارفتهم النار وقيل الموت. إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ فإنها ترتفع عن أماكنها فتلصق بحلوقهم فلا تعود فيتروحوا ولا تخرج فيستريحوا. كاظِمِينَ على الغم حال من أصحاب القلوب على المعنى لأنه على الإِضافة، أو منها أو من ضميرها في لدى وجمعه كذلك لأن الكظم من أفعال العقلاء كقوله: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ. أو من مفعول أَنْذِرْهُمْ على أنه حال مقدرة. مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ قريب مشفق. وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ ولا شفيع مشفع، والضمائر إن كانت للكفار وهو الظاهر كان وضع الظالمين موضع ضميرهم للدلالة على اختصاص ذلك بهم وأنه لظلمهم.
[سورة غافر (40) : الآيات 19 الى 20]
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ النظرة الخائنة كالنظرة الثانية إلى غير المحرم واستراق النظر إليه، أو خيانة الأعين. وَما تُخْفِي الصُّدُورُ من الضمائر والجملة خبر خامس للدلالة على أنه ما من خفي إلا وهو متعلق العلم والجزاء وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ لأنه المالك الحاكم على الإطلاق فلا يقضي بشيء إلا وهو حقه وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ تهكم بهم لأن الجماد لا يقال فيه إنه يقضي أو لا يقضي. وقرأ نافع وهشام بالتاء على الالتفات أو إضمار قل: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تقرير لعلمه ب خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وقضائه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون، وتعريض بحال مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ.(5/54)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
[سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 22]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ مآل حال الذين كذبوا الرسل قبلهم كعاد وثمود. كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة وتمكناً، وإنما جيء بالفصل وحقه أن يقع بين معرفتين لمضارعة أفعل من للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه. وقرأ ابن عامر «أشد منكم» بالكاف. وَآثاراً فِي الْأَرْضِ مثل القلاع والمدائن الحصينة. وقيل المعنى وأكثر آثاراً كقوله: متقلداً سيفاً ورمحاً. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ يمنع العذاب عنهم.
ذلِكَ الأخذ. بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو الأحكام الواضحة. فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ متمكن مما يريده غاية التمكن. شَدِيدُ الْعِقابِ لا يؤبه بعقاب دون عقابه.
[سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا يعني المعجزات. وَسُلْطانٍ مُبِينٍ وحجة قاهرة ظاهرة، والعطف لتغاير الوصفين أو لإِفراد بعض المعجزات كالعصا تفخيماً لشأنه.
إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ يعنون موسى عليه الصلاة والسلام، وفيه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وبيان لعاقبة من هو أشد الذين كانوا من قبلهم بطشاً وأقربهم زماناً.
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم أولاً كي يصدوا عن مظاهرة موسى عليه السلام. وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع، ووضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم والدلالة على العلة.
[سورة غافر (40) : الآيات 26 الى 27]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى كانوا يكفونه عن قتله ويقولون إنه ليس الذي تخافه بل هو ساحر، ولو قتلته ظن أنك عجزت عن معارضته بالحجة وتعلله بذلك مع كونه سفاكاً في أهون شيء دليل على أنه تيقن أنه نبي فخاف من قتله، أو ظن أنه لو حاوله لم يتيسر له ويؤيده قوله. وَلْيَدْعُ رَبَّهُ فإنه تجلد وعدم مبالاة بدعائه. إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله. أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغير ما أنتم عليه من عبادته وعبادة الأصنام لقوله: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ. أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر أن يبطل دينكم بالكلية. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالواو على معنى الجمع، وابن كثير وابن عامر والكوفيون غير حفص بفتح الياء والهاء ورفع الْفَسادَ.
وَقالَ مُوسى أي لقومه لما سمع بكلامه. إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ صدر الكلام بأن تأكيداً وإشعاراً على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله، وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ والتربية، وإضافته إليه وإليهم حثاً لهم على موافقته لما في تظاهر الأرواح من(5/55)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
استجلاب الإِجابة، ولم يسم فرعون وذكر وصفاً يعمه وغيره لتعميم الإِستعاذة ورعاية الحق والدلالة على الحامل له على القول. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي عدت فيه وفي سورة «الدخان» بالإِدغام وعن نافع مثله.
[سورة غافر (40) : آية 28]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ من أقاربه. وقيل مِنْ متعلق بقوله: يَكْتُمُ إِيمانَهُ والرجل إسرائيلي أو غريب موحد كان ينافقهم. أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أتقصدون قتله. أَنْ يَقُولَ لأن يقول، أو وقت أن يقول من غير روية وتأمل في أمره. رَبِّيَ اللَّهُ وحده وهو في الدلالة على الحصر مثل صديقي زيد. وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ المتكثرة الدالة على صدقه من المعجزات والاستدلالات. مِنْ رَبِّكُمْ أضافه إليهم بعد ذكر البينات احتجاجاً عليهم واستدراجاً لهم إلى الاعتراف به، ثم أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط فقال:
وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله. وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، وفيه مبالغة في التحذير وإظهار للإِنصاف وعدم التعصب، ولذلك قدم كونه كاذباً أو يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده، كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالاً عندهم وتفسير ال بَعْضُ بالكل كقول لبيد:
تَرَاكَ أَمْكنة إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضُ النُّفُوسِ حمامُهَا
مردود لأنه أراد بال بَعْضُ نفسه. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ احتجاج ثالث ذو وجهين:
أحدهما: أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات.
وثانيهما: أن من خذله الله أهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله. ولعله أراد به المعنى الأول وخيل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم، وعرض به لفرعون بأنه مُسْرِفٌ كَذَّابٌ لا يهديه الله سبيل الصواب وطريق النجاة.
[سورة غافر (40) : آية 29]
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ غالبين عالين. فِي الْأَرْضِ أرض مصر. فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد، وإنما أدرج نفسه في الضميرين لأنه كان منهم في القرابة وليريهم أنه معهم ومساهمهم فيما ينصح لهم. قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ ما أشير عليكم. إِلَّا مَا أَرى وأستصوبه من قتله وما أعلمكم إلا ما علمت من الصواب وقلبي ولساني متواطئان عليه. وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ طريق الصواب، وقرئ بالتشديد على أنه فعال للمبالغة من رشد كعلام، أو من رشد كعباد لا من أرشد كجبار من أجبر لأنه مقصور على السماع أو للنسبة إلى الرشد كعواج وبتات.
[سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 31]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31)
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ في تكذيبه والتعرض له. مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مثل أيام(5/56)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
الأمم الماضية يعني وقائعهم، وجمع الْأَحْزابِ مع التفسير أغنى عن جمع اليوم.
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ مثل جزاء ما كانوا عليه دائباً من الكفر وإيذاء الرسل. وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ فلا يعاقبهم بغير ذنب ولا يخلي الظالم منهم بغير انتقام، وهو أبلغ من قوله: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ من حيث أن المنفي فيه حدوث تعلق إرادته بالظلم.
[سورة غافر (40) : الآيات 32 الى 33]
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يوم القيامة ينادي فيه بعضهم بعضاً للاستغاثة، أو يتصايحون بالويل والثبور، أو يتنادى أصحاب الجنة وأصحاب النار كما حكي في «الأعراف» . وقرئ بالتشديد وهو أن يند بعضهم من بعض كقوله يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ.
يَوْمَ تُوَلُّونَ عن الموقف. مُدْبِرِينَ منصرفين عنه إلى النار. وقيل فارين عنها. مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يعصمكم من عذابه. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ.
[سورة غافر (40) : آية 34]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34)
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ يوسف بن يعقوب على أن فرعونه فرعون موسى، أو على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد أو سبطه يوسف بن إبراهيم بن يوسف. مِنْ قَبْلُ من قبل موسى. بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات.
فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من الدين. حَتَّى إِذا هَلَكَ مات. قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ضما إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده، أو جزماً بأن لا يبعث من بعده رسول مع الشك في رسالته، وقرئ «ألن يبعث الله» على أن بعضهم يقرر بعضاً بنفي البعث. كَذلِكَ مثل ذلك الضلال. يُضِلُّ اللَّهُ في العصيان. مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم والانهماك في التقليد.
[سورة غافر (40) : آية 35]
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بدل من الموصول الأول لأنه بمعنى الجمع. بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ بغير حجة بل إما بتقليد أو بشبهة داحضة. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا فيه ضمير من وإفراده للفظ، ويجوز أن يكون الَّذِينَ مبتدأ وخبره كَبُرَ على حذف مضاف أي: وجدال الذين يجادلون كبر مقتاً أو بغير سلطان وفاعل كَبُرَ كَذلِكَ أي كبر مقتاً مثل ذلك الجدال فيكون قوله: يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ استئنافاً للدلالة على الموجب لجدالهم. وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان قلب بالتنوين على وصفه بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم: رأت عيني وسمعت أذني، أو على حذف مضاف أي على كل ذي قلب متكبر.
[سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
.(5/57)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً بناء مكشوفاً عالياً من صرح الشيء إذا ظهر. لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ الطرق.
أَسْبابَ السَّماواتِ بيان لها وفي إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها.
فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى عطف على أَبْلُغُ. وقرأ حفص بالنصب على جواب الترجي ولعله أراد أن يبني له رصداً في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله إياه، أو إن يرى فساد قول موسى بأن أخباره من إله السماء يتوقف على إطلاعه ووصوله إليه، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء وهو مما لا يقوى عليه الإنسان، وذلك لجهله بالله وكيفية استنبائه. وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً في دعوى الرسالة. وَكَذلِكَ ومثل التزيين، زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ سبيل الرشاد، والفاعل على الحقيقة هو الله تعالى ويدل عليه أنه قرئ زين بالفتح وبالتوسط الشيطان. وقرأ الحجازيان والشامي وأبو عمرو وَصُدَّ على أن فرعون صد الناس عن الهدى بأمثال هذه التمويهات والشبهات ويؤيده: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي خسار.
[سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 39]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39)
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يعني مؤمن آل فرعون. وقيل موسى عليه الصلاة والسلام. يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ بالدلالة. سَبِيلَ الرَّشادِ سبيلاً يصل سالكه إلى المقصود، وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي.
يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ تمتع يسير لسرعة زوالها. وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ لخلودها.
[سورة غافر (40) : آية 40]
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها عدلاً من الله، وفيه دليل على أن الجنايات تغرم بمثلها. وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافاً مضاعفة فضلاً منه ورحمة، ولعل تقسيم العمال وجعل الجزاء جملة إسمية مصدرة باسم الإِشارة، وتفضيل الثواب لتغليب الرحمة، وجعل العمل عمدة والإِيمان حالاً للدلالة على أنه شرط في اعتبار العمل وأن ثوابه أعلى من ذلك.
[سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 42]
وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ كرر نداءهم إيقاظاً لهم عن سنة الغفلة واهتماماً بالمنادى له، ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحه، وعطفه على النداء الثاني الداخل على ما هو بيان لما قبله ولذلك لم يعطف على الأول، فإن ما بعده أيضاً تفسير لما أجمل فيه تصريحاً أو تعريضاً أو على الأول.
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ بدل أو بيان فيه تعليل والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام. وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ بربوبيته. عِلْمٌ والمراد نفي المعلوم والإِشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان فاعتقادها لا(5/58)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)
يصح إلا عن إيقان. وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ المستجمع لصفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإِرادة، والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران.
[سورة غافر (40) : الآيات 43 الى 44]
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44)
لاَ جَرَمَ لا رد لما دعوه إليه، وجَرَمَ فعل بمعنى حق وفاعله: أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ أي حق عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلاً لأنها جمادات ليس لها ما يقتضي ألوهيتها أو عدم دعوة مستجابة أو عدم استجابة دعوة لها. وقيل جَرَمَ بمعنى كسب وفاعله مستكن فيه أي كسب ذلك الدعاء إليه أن لا دعوة له بمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، وقيل فعل من الجرم بمعنى القطع كما إن بدا من لا بد فعل من التبديد وهو التفريق، والمعنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع في وقت ما فتنقلب حقاً، ويؤيده قولهم لا جرم أنه يفعل لغة فيه كالرشد والرشد. وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ بالموت. وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ في الضلالة والطغيان كالإِشراك وسفك الدماء. هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها.
فَسَتَذْكُرُونَ وقرئ «فَسَتَذْكُرُونَ» أي فسيذكر بعضكم بعضاً عند معاينة العذاب. مَا أَقُولُ لَكُمْ من النصيحة. وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ليعصمني من كل سوء. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فيحرسهم وكأنه جواب توعدهم المفهوم من قوله:
[سورة غافر (40) : الآيات 45 الى 46]
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا شدائد مكرهم. وقيل الضمير لموسى عليه الصلاة والسلام. وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ بفرعون وقومه فاستغنى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك. وقيل بطلبة المؤمن من قومه فإنه فر إلى جبل فاتبعه طائفة فوجدوه يصلي والوحوش حوله صفوفاً فرجعوا رعباً فقتلهم. سُوءُ الْعَذابِ الغرق أو القتل أو النار.
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا جملة مستأنفة أو النَّارُ خبر محذوف ويُعْرَضُونَ استئناف للبيان، أو بدل ويُعْرَضُونَ حال منها، أو من الآل وقرئت منصوبة على الاختصاص أو بإضمار فعل يفسره يُعْرَضُونَ مثل يصلون، فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم: عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به، وذلك لأرواحهم كما روى ابن مسعود أن أرواحهم في أجواف طيور سود تعرض على النار بكرة وعشياً إلى يوم القيامة، وذكر الوقتين تحتمل التخصيص والتأبيد، وفيه دليل على بقاء النفس وعذاب القبر.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي هذا ما دامت الدنيا فإذا قامت الساعة قيل لهم: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ يا آل فرعون.
أَشَدَّ الْعَذابِ عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه، أو أشد عذاب جهنم. وقرأ حمزة والكسائي ونافع ويعقوب وحفص أَدْخِلُوا على أمر الملائكة بإدخالهم النار.
[سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 48]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48)(5/59)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ واذكر وقت تخاصمهم فيها ويحتمل العطف على غدوا. فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تفصيل له. إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً تباعاً كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع بمعنى أتباع على الإِضمار أو التجوز. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ بالدفع أو الحمل، ونَصِيباً مفعول به لما دل عليه مُغْنُونَ أوله بالتضمين أو مصدر كشيئاً في قوله: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.
فيكون من صلة ل مُغْنُونَ.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها نحن وأنتم فكيف نغني عنكم ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا، وقرئ «كلا» على التأكيد لأنه بمعنى كلنا وتنوينه عوض عن المضاف إليه، ولا يجوز جعله حالاً من المستكن في الظرف فإنه لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم كقولك كل يوم لك ثوب. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.
[سورة غافر (40) : الآيات 49 الى 50]
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ أي لخزنتها، ووضع جَهَنَّمَ موضع الضمير للتهويل أو لبيان محلهم فيها، إذ يحتمل أن تكون جَهَنَّمَ أبعد دركاتها من قولهم: بئر جهنام بعيدة القعر. ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً قدر يوم. مِنَ الْعَذابِ شيئاً من العذاب، ويجوز أن يكون المفعول «يوما» بحذف المضاف ومِنَ الْعَذابِ بيانه.
قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ أرادوا به إلزامهم للحجة وتوبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء وتعطيلهم أسباب الإِجابة. قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا فإنا لا نجترئ فيه إذ لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم، وفيه إقناط لهم عن الإِجابة. وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع لا يجاب، وفيه اقناط لهم عن الإجابة.
[سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 52]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة. فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي في الدارين ولا ينتقض ذلك بما كان لأعدائهم عليهم من الغلبة أحياناً إذ العبرة بالعواقب وغالب الأمر، والْأَشْهادُ جمع شاهد كصاحب وأصحاب، والمراد بهم من يقوم يوم القيامة الشهادة على الناس من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.
يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ بدل من الأول وعدم نفع المعذرة لأنها باطلة، أو لأنه لم يؤذن لهم فيعتذروا. وقرأ غير الكوفيين ونافع بالتاء. وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ البعد عن الرحمة. وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ جهنم.
[سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 54]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54)(5/60)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ما يهتدي به في الدين من المعجزات والصحف والشرائع. وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وتركنا عليهم بعده من ذلك التوراة.
هُدىً وَذِكْرى هداية وتذكرة أو هادياً ومذكراً. لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول السليمة.
[سورة غافر (40) : آية 55]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55)
فَاصْبِرْ على أذى المشركين. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بالنصر لا يخلفه، واستشهد بحال موسى وفرعون.
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وأقبل على أمر دينك وتدارك فرطاتك بترك الأولى والاهتمام بأمر العدا بالاستغفار، فإنه تعالى كافيك في النصر إظهار الأمر. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ ودم على التسبيح والتحميد لربك.
وقيل صلِّ لهذين الوقتين، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وركعتين عشيّا.
[سورة غافر (40) : آية 56]
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ عام في كل مجادل مبطل وإن نزل في مشركي مكة أو اليهود حين قالوا: لست صاحبنا بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار. إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ إلا تكبر عن الحق وتعظم عن التفكر والتعلم، أو إرادة الرياسة أو إن النبوة والملك لا يكونان إلا لهم. مَّا هُمْ بِبالِغِيهِ ببالغي دفع الآيات أو المراد. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فالتجئ إليه. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لأقوالكم وأفعالكم.
[سورة غافر (40) : الآيات 57 الى 58]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58)
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ فمن قدر على خلقها مع عظمها أولاً من غير أصل قدر على خلق الإِنسان ثانياً من أصل، وهو بيان لأشكل ما يجادلون فيه من أمر التوحيد. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لفرط غفلتهم واتباعهم أهواءهم.
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الغافل والمستبصر. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ والمحسن والمسيء فينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت، وهي فيما بعد البعث وزيادة لا في المسيء لأن المقصود نفي مساواته للمحسن فيما له من الفضل والكرامة، والعاطف الثاني عطف الموصول بما عطف عليه على الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ لتغاير الوصفين في المقصود، أو الدلالة بالصراحة والتمثيل. قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ أي تذكراً ما قليلاً يتذكرون، والضمير للناس أو الكفار. وقرأ الكوفيون بالتاء على تغليب المخاطب، أو الالتفات أو أمر الرسول بالمخاطبة.
[سورة غافر (40) : الآيات 59 الى 60]
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيها في مجيئها لوضوح الدلالة على جوازها وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ لا يصدقون بها لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسون به.
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي اعبدوني. أَسْتَجِبْ لَكُمْ أثبكم لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي(5/61)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ
صاغرين، وإن فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلاً منزلته للمبالغة، أو المراد بالعبادة الدعاء فإنه من أبوابها. وقرأ ابن كثير وأبو بكر سَيَدْخُلُونَ بضم الياء وفتح الخاء.
[سورة غافر (40) : آية 61]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (61)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ لتستريحوا فيه بأن خلقه بارداً مظلماً ليؤدي إلى ضعف الحركات وهدوء الحواس. وَالنَّهارَ مُبْصِراً يبصر فيه أو به، وإسناد الإِبصار إليه مجاز فيه مبالغة ولذلك عدل به عن التعليل إلى الحال: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ لا يوازيه فضل، وللإِشعار به لم يقل لمفضل. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم، وتكرير الناس لتخصيص الكفران بهم.
[سورة غافر (40) : الآيات 62 الى 63]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
ذلِكُمُ المخصوص بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية. اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقررها، وقرئ «خالق» بالنصب على الاختصاص فيكون لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ استئنافاً بما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي كما أفكوا أفك عن الحق كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها.
[سورة غافر (40) : الآيات 64 الى 65]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً استدلال ثان بأفعال أخر مخصوصة. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بأن خلقكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء، والتخطيطات متهيأ لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات. وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اللذائذ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فإن كل ما سواه مربوب مفتقر بالذات معرض للزوال.
هُوَ الْحَيُّ المتفرد بالحياة الذاتية. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موجد سواه ولا موجود يساويه أو يدانيه فِي ذاته وصفاته. فَادْعُوهُ فاعبدوه. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة من الشرك والرياء. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قائلين له.
[سورة غافر (40) : آية 66]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي من الحجج والآيات أو من الآيات فإنها مقوية لأدلة العقل منبهة عليها. وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بأن أنقاد له أو أخلص له ديني.(5/62)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
[سورة غافر (40) : الآيات 67 الى 68]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أطفالاً، والتوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ اللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره: ثم يبقيكم لتبلغوا وكذا في قوله: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ويجوز عطفه على لِتَبْلُغُوا وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام شُيُوخاً بضم الشين. وقرئ «شيخاً» كقوله طِفْلًا. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد. وَلِتَبْلُغُوا ويفعل ذلك لتبلغوا: أَجَلًا مُسَمًّى هو وقت الموت أو يوم القيامة. وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في ذلك من الحجج والعبر.
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فإذا أراده. فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة وتجشم كلفة، والفاء الأولى للدلالة على أن ذلك نتيجة ما سبق من حيث أنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد.
[سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 70]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ عَن التصديق به وتكرير ذم المجادلة لتعدد المجادل، أو المجادل فيه، أو للتأكيد.
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ بالقرآن أو بجنس الكتب السماوية. وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب أو الوحي والشرائع. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ جزاء تكذيبهم.
[سورة غافر (40) : الآيات 71 الى 74]
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74)
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ظرف ل يَعْلَمُونَ إذ المعنى على الاستقبال، والتعبير بلفظ المضي لتيقنه. وَالسَّلاسِلُ عطف على الْأَغْلالُ أو مبتدأ خبره. يُسْحَبُونَ.
فِي الْحَمِيمِ والعائد محذوف أي يسحبون بها، وهو على الأول حال. وقرئ «والسلاسل يُسْحَبُونَ» بالنصب وفتح الياء على تقديم المفعول وعطف الفعلية على الاسمية، وَالسَّلاسِلُ بالجر حملاً على المعنى إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ بمعنى أعناقهم في الأغلال، أو إضماراً للباء ويدل عليه القراءة به. ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يحرقون من سجر التنور إذا ملأه بالوقود، ومنه السجير للصديق كأنه سجر بالحب أي ملئ.
والمراد أنهم يعذبون بأنواع من العذاب وينقلون من بعضها إلى بعض.
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا غابوا عنا وذلك قبل أن تقرن بهم آلهتهم، أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم. بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي بل تبين لنا أنا لم نكن نعبد شيئاً بعبادتهم فإنهم ليسوا شيئاً يعتد به كقولك: حسبته شيئاً فلم يكن. كَذلِكَ مثل ذلك الضلال. يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة، أو يضلهم عن آلهتهم حتى لو(5/63)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
تطالبوا لم يتصادفوا.
[سورة غافر (40) : الآيات 75 الى 76]
ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
ذلِكُمْ الإِضلال. بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ تبطرون وتتكبرون. بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشرك والطغيان. وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تتوسعون في الفرح، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ.
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ الأبواب السبعة المقسومة لكم. خالِدِينَ فِيها مقدرين الخلود. فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الحق جهنم، وكان مقتضى النظم فبئس مدخل المتكبرين ولكن لما كان الدخول المقيد بالخلود بسبب الثواء عبر بالمثوى.
[سورة غافر (40) : الآيات 77 الى 78]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بهلاك الكافرين. حَقٌّ كائن لا محالة. فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ فإن نرك، وما مزيدة لتأكيد الشرطية ولذلك لحقت النون الفعل ولا تلحق مع أن وحدها. بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ وهو القتل والأسر. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن تراه. فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، وهو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ، وجواب نُرِيَنَّكَ محذوف مثل فذاك، ويجوز أن يكون جواباً لهما بمعنى إن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب، ويدل على شدته الاقتصار بذكر الرجوع في هذا المعرض.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ إذ قيل عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والمذكور قصصهم أشخاص معدودة. وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإن المعجزات عطايا قسمها بينهم على ما اقتضته حكمته كسائر القسم، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها. فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بالعذاب في الدنيا أو الآخرة. قُضِيَ بِالْحَقِّ بإنجاء المحق وتعذيب المبطل. وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ المعاندون باقتراح الآيات بعد ظهور ما يغنيهم عنها.
[سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ فإن من جنسها ما يؤكل كالغنم ومنها ما يؤكل ويركب كالإِبل والبقر.
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كالألبان والجلود والأوبار. وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بالمسافرة عليها.
وَعَلَيْها في البر. وَعَلَى الْفُلْكِ في البحر. تُحْمَلُونَ وإنما قال وَعَلَى الْفُلْكِ ولم يقل في الفلك للمزاوجة، وتغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة. وقيل لأنه يقصد به التعيش وهو من الضروريات والتلذذ والركوب والمسافرة عليها قد تكون لأغراض دينية واجبة أو مندوبة، أو للفرق بين العين والمنفعة.
يُرِيكُمْ آياتِهِ
دلائله الدالة على كمال قدرته وفرط رحمته. أَيَّ آياتِ اللَّهِ
أي فأي آية من تلك(5/64)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
الآيات. نْكِرُونَ
فإنها لظهورها لا تقبل الإِنكار، وهو ناصب «أي» إذ لو قدرته متعلقاً بضميره كان الأولى رفعه والتفرقة بالتاء في أي أغرب منها في الأسماء غير الصفات لإبهامه.
[سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 83]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ما بقي منهم من القصور والمصانع ونحوهما، وقيل آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم. فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ «ما» الأولى نافية أو استفهامية منصوبة ب أَغْنى، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به.
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو الآيات الواضحات. فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ واستحقروا علم الرسل، والمراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة كقوله: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وهو قولهم: لا نبعث ولا نعذب، وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً ونحوها، وسماها علماً على زعمهم تهكماً بهم، أو علم الطبائع والتنجيم والصنائع ونحو ذلك، أو علم الأنبياء، وفرحهم به ضحكهم منه واستهزاؤهم به ويؤيده: وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وقيل الفرح أيضاً للرسل فإنهم لما رأوا تمادي جهل الكفار وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.
[سورة غافر (40) : الآيات 84 الى 85]
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا شدة عذابنا. قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون الأصنام.
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا لامتناع قبوله حينئذ ولذلك قال: فَلَمْ يَكُ بمعنى لم يصح ولم يستقم، والفاء الأولى لأن قوله: فَما أَغْنى كالنتيجة لقوله: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، والثانية لأن قوله:
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ كالتفسير لقوله: فَما أَغْنى والباقيتان لأن رؤية البأس مسببة عن مجيء الرسل وامتناع نفي الإِيمان مسبب عن الرؤية. سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد وهي من المصادر المؤكدة. وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي وقت رؤيتهم البأس، اسم مكان استعير للزمان.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له» .(5/65)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
(41) سورة فصلت
مكية وآيها ثلاث أو أربع وخمسون آية
[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
حَمَ إن جعلته مبتدأ فخبره:
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وإن جعلته تعديداً للحروف ف تَنْزِيلٌ خبر محذوف أو مبتدأ لتخصصه بالصفة وخبره:
كِتابٌ وهو على الأولين بدل منه أو خبر آخر أو خبر محذوف، ولعل افتتاح هذه السور السبع ب حم وتسميتها به لكونها مصدرة ببيان الكتاب متشاكلة في النظم والمعنى، وإضافة ال تَنْزِيلٌ إلى الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ للدلالة على أنه مناط المصالح الدينية والدنيوية. فُصِّلَتْ آياتُهُ ميزت باعتبار اللفظ والمعنى. وقرئ «فُصّلَتْ» أي فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني، أو فصلت بين الحق والباطل. قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على المدح أو الحال من فُصِّلَتْ، وفيه امتنان بسهولة قراءته وفهمه. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لقوم يعلمون العربية أو لأهل العلم والنظر، وهو صفة أخرى ل قُرْآناً أو صلة ل تَنْزِيلٌ، أو ل فُصِّلَتْ، والأول أولى لوقوعه بين الصفات.
[سورة فصلت (41) : الآيات 4 الى 5]
بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)
بَشِيراً وَنَذِيراً للعاملين به والمخالفين له، وقرئا بالرفع على الصفة لل كِتابٌ أو الخبر لمحذوف.
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبره وقبوله. فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ سماع تأمل وطاعة.
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أغطية جمع كنان. مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ صمم، وأصله الثقل، وقرئ بالكسر. وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ يمنعنا عن التواصل، ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ منهم ومنه بحيث استوعب المسافة المتوسطة ولم يبق فراغ. وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه واعتقادهم ومج أسماعهم له، وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلّى الله عليه وسلم. فَاعْمَلْ على دينك أو في إبطال أمرنا. إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا أو في إبطال أمرك.
[سورة فصلت (41) : الآيات 6 الى 7]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7)
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لست ملكاً ولا جنياً لا يمكنكم التلقي منه، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول والاسماع، وإنما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل، وقد يدل(5/66)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
عليهما دلائل العقل وشواهد النقل. فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ فاستقيموا في أفعالكم متوجهين إليه، أو فاستووا إليه بالتوحيد والإِخلاص في العمل. وَاسْتَغْفِرُوهُ مما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل، ثم هددهم على ذلك فقال. وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله.
الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ لبخلهم وعدم اشفاقهم على الخلق، وذلك من أعظم الرذائل، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع. وقيل معناه لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإِيمان والطاعة. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا وإنكارهم للآخرة.
[سورة فصلت (41) : آية 8]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ عظيم. غَيْرُ مَمْنُونٍ لا يمن به عليهم من المن وأصله الثقل، أو لا يقطع من مننت الحبل إذا قطعته. وقيل نزلت في المرضى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.
[سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 10]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10)
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ في مقدار يومين، أو نوبتين وخلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون. ولعل المراد من الْأَرْضَ ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة ومن خلقها فِي يَوْمَيْنِ أنه خلق لها أصلاً مشتركاً ثم خلق لها صوراً بها صارت أنواعاً، وكفرهم به إلحادهم في ذاته وصفاته. وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ولا يصح أن يكون له ند. ذلِكَ الذي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ. رَبُّ الْعالَمِينَ خالق جميع ما وجد من الممكنات ومربيها.
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ استئناف غير معطوف على خَلَقَ للفصل بما هو خارج عن الصلة. مِنْ فَوْقِها مرتفعة عليها ليظهر للنظار ما فيها من وجوه الاستبصار وتكون منافعها معرضة للطلاب. وَبارَكَ فِيها وأكثر خيرها بأن خلق فيها أنواع النبات والحيوان. وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أقوات أهلها بأن عين لكل نوع ما يصلحه ويعيش به، أو أقواتاً تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها، وقرئ «وقسم فِيهَا أقواتها» . فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ في تتمة أربعة أيام كقولك: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً. ولعله قال ذلك ولم يقل في يومين للإِشعار باتصالهما باليومين الأولين.
والتصريح على الفذلكة. سَواءً أي استوت سواء بمعنى استواء، والجملة صفة أيام ويدل عليه قراءة يعقوب بالجر. وقيل حال من الضمير في أقواتها أو في فيها، وقرئ بالرفع على هي سواء. لِلسَّائِلِينَ متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، أو بقدر أي قدر فيها الأقوات للطالبين لها.
[سورة فصلت (41) : الآيات 11 الى 12]
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قصد نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجهاً لا يلوي على غيره، والظاهر أن ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في المدة لقوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها(5/67)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
ودحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها. وَهِيَ دُخانٌ أمر ظلماني، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي ركبت منها فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وأبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة. أو ائْتِيا في الوجود على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب للرتبة، أو الإِخبار أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة، وقد عرفت ما فيه أو لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما ويؤيده قراءة وآتيا من المؤاتاة أي لتوافق كل واحدة أختها فيما أردت منكما. طَوْعاً أَوْ كَرْهاً شئتما ذلك أو أبيتما والمراد إظهار كمال قدرته ووجوب وقوع مراده لا إثبات الطوع والكره لهما، وهما مصدران وقعا موقع الحال. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ منقادين بالذات، والأظهر أن المراد تصوير تأثير قدرته فيهما وتأثرهما بالذات عنها، وتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة المطيع الطائع كقوله:
كُنْ فَيَكُونُ وما قيل من أنه تعالى خاطبهما وأقدرهما على الجواب إنما يتصور على الوجه الأول والأخير، وإنما قال طائعين على المعنى باعتبار كونهما مخاطبتين كقوله: ساجِدِينَ.
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فخلقهن خلقاً إبداعياً وأتقن أمرهن، والضمير ل السَّماءَ على المعنى أو مبهم، وسَبْعَ سَماواتٍ حال على الأول وتمييز على الثاني. فِي يَوْمَيْنِ قيل خلق السموات يوم الخميس والشمس والقمر والنجوم يوم الجمعة. وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها شأنها وما يتأتى منها بأن حملها عليه اختياراً أو طبعاً. وقيل أوحى إلى أهلها بأوامره ونواهيه. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ فإن الكواكب كلها ترى كأنها تتلألأ عليها. وَحِفْظاً أي وحفظناها من الآفات، أو من المسترقة حفظاً. وقيل مفعول له على المعنى كأنه قال: وخصصنا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظاً. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ البالغ في القدرة والعلم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 14]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14)
فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإِيمان بعد هذا البيان. فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً فحذرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة. مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وقرئ «صعقة مثل صعقة عاد وثمود» وهي المرة من الصعق أو الصعق يقال صعقته الصاعقة صعقاً فصعق صعقاً.
إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ حال من صاعِقَةِ عادٍ، ولا يجوز جعله صفة ل صاعِقَةً أو ظرفاً ل أَنْذَرْتُكُمْ لفساد المعنى. مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أتوهم من جميع جوانبهم واجتهدوا بهم من كل جهة، أو من جهة الزمن الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار، ومن جهة المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة، وكل من اللفظين يحتملهما، أو من قبلهم ومن بعدهم إذ قد بلغتهم خبر المتقدمين وأخبرهم هود وصالح عن المتأخرين داعين إلى الإِيمان بهم أجمعين، ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله تعالى:
يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بأن لا تعبدوا أو أي لا تعبدوا. قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا إرسال الرسل. لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً برسالته. فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على زعمكم. كافِرُونَ إذ أنتم بَشَرٌ مِّثْلُنَا لا فضل لكم علينا.
[سورة فصلت (41) : الآيات 15 الى 16]
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16)
.(5/68)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فتعظموا فيها على أهلها من غير استحقاق. وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً اغتراراً بقوتهم وشوكتهم. قيل كان من قوتهم أن الرجل منهم ينزع الصخرة فيقتلعها بيده. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة فإنه قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى، قوي على ما لا يقدر عليه أحد غيره. وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يعرفون أنها حق وينكرونها وهو عطف على فَاسْتَكْبَرُوا.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردة تهلك بشدة بردها من الصر وهو البرد الذي يصر أي يجمع، أو شديدة الصوت في هبوبها من الصرير. فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ جمع نحسة من نحس نحساً نقيض سعد سعداً، وقرأ الحجازيان والبصريان بالسكون على التخفيف أو النعت على فعل، أو الوصف بالمصدر، قيل كن آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء. لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أضاف ال عَذابَ إلى الْخِزْيِ وهو الذل على قصد وصفة به لقوله: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وهو في الأصل صفة المعذب وإنما وصف به العذاب على الإِسناد المجازي للمبالغة. وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 17 الى 18]
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل، وقرئ «ثَمُودَ» بالنصب بفعل مضمر يفسره ما بعده ومنوناً في الحالين وبضم الثاء. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فاختاروا الضلالة على الهدى. فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ صاعقة من السماء فأهلكتهم، وإضافتها إلى الْعَذابِ ووصفه ب الْهُونِ للمبالغة. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من اختيار الضلالة.
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ من تلك الصاعقة.
[سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 20]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ وقرئ «يَحْشُرُ» على البناء للفاعل وهو الله عز وجل. وقرأ نافع نَحْشُرُ بالنون مفتوحة وضم الشين ونصب أَعْداءُ. فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أولهم على آخرهم لئلا يتفرقوا وهو عبارة عن كثرة أهل النار.
حَتَّى إِذا ما جاؤُها إذا حضروها وما مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور. شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بأن ينطقها الله تعالى، أو يظهر عليها آثاراً تدل على ما اقترف بها فتنطق بلسان الحال.
[سورة فصلت (41) : الآيات 21 الى 22]
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا سؤال توبيخ أو تعجب، ولعل المراد به نفس التعجب. قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء، أو ليس نطقنا بعجب من قدرة الله الذي أنطق كل حي، ولو أول الجواب والنطق بدلالة الحال بقي الشيء عاماً في(5/69)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)
الموجودات الممكنة. وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود وأن يكون استئنافاً.
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم بها فما استترتم عنها. وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أنه لا يمر عليه حال إلا وهو عليه رقيب. وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 23 الى 24]
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
وَذلِكُمْ إشارة إلى ظنهم هذا، وهو مبتدأ وقوله: ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ خبران له ويجوز أن يكون ظَنُّكُمُ بدلاً وأَرْداكُمْ خبراً. فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ إذ صار ما منحوا للاستسعاد به في الدارين سبباً لشقاء المنزلين.
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ لا خلاص لهم عنها. وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبون. فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المجابين إليها ونظيره قوله تعالى حكاية أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ وقرئ «وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ المعتبين» ، أي إن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون لفوات المكنة.
[سورة فصلت (41) : آية 25]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)
وَقَيَّضْنا وقدرنا. لَهُمْ للكفرة. قُرَناءَ أخدانا من الشياطين يستولون عليهم استيلاء القبض على البيض وهو القشر. وقيل أصل القيض البدل ومنه المقايضة للمعاوضة. فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا واتباع الشهوات. وَما خَلْفَهُمْ مِنْ أمر الآخرة وإنكاره. وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي كلمة العذاب. فِي أُمَمٍ في جملة أمم كقوله:
إِنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ مَأ ... فُوكاً فِفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا
وهو حال من الضمير المجرور. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وقد عملوا مثل أعمالهم.
إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل لاستحقاقهم العذاب، والضمير لَهُمْ ولل أُمَمٍ.
[سورة فصلت (41) : الآيات 26 الى 27]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ وعارضوه بالخرافات أو ارفعوا أصواتكم بها لتشوشوه على القارئ، وقرئ بضم الغين والمعنى واحد يقال لغى يلغي ولغا يلغو إذا هذى. لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي تغلبونه على قراءته.
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً المراد بهم هؤلاء القائلون، أو عامة الكفار. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ سيئات أعمالهم وقد سبق مثله.(5/70)
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
[سورة فصلت (41) : الآيات 28 الى 29]
ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
ذلِكَ: إشارة إلى الأسوأ. جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ خبره. النَّارُ عطف بيان لل جَزاءُ أو خبر محذوف. لَهُمْ فِيها في النار. دارُ الْخُلْدِ فإنها دار إقامتهم، وهو كقولك: في هذه الدار دار سرور، وتعني بالدار عينها على أن المقصود هو الصفة. جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ينكرون الحق أو يلغون، وذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعني شيطاني النوعين الحاملين على الضلالة والعصيان. وقيل هما إبليس وقابيل فإنهما سنا الكفر والقتل، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر والسوسي أَرِنَا بالتخفيف كفخذ في فخذ، وقرأ الدوري باختلاس كسرة الراء. نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ندسهما انتقاماً منهما، وقيل نجعلهما في الدرك الأسفل. لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ مكاناً أو ذلا.
[سورة فصلت (41) : آية 30]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ اعترافاً بربوبيته وإقراراً بوحدانيته. ثُمَّ اسْتَقامُوا في العمل وثُمَّ لتراخيه عن الإِقرار في الرتبة من حيث أنه مبدأ الاستقامة، أو لأنها عسر قلما تتبع الإِقرار، وما روي عن الخلفاء الراشدين في معنى الاستقامة من الثبات على الإِيمان وإخلاص العمل وأداء الفرائض فجزئياتها. تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ فيما يعن لهم بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن، أو عند الموت أو الخروج من القبر. أَلَّا تَخافُوا ما تقدمون عليه. وَلا تَحْزَنُوا على ما خلفتم وأن مصدرية أو مخففة مقدرة بالباء أو مفسرة. وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا على لسان الرسل.
[سورة فصلت (41) : الآيات 31 الى 32]
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
نلهمكم الحق ونحملكم على الخير بدل ما كانت الشياطين تفعل بالكفرة. وَفِي الْآخِرَةِ
بالشفاعة والكرامة حيثما يتعادى الكفرة وقرناؤهم. وَلَكُمْ فِيها
في الآخرة مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
من اللذائذ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
ما تتمنون من الدعاء بمعنى الطلب وهو أعم من الأول.
نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ حال من ما تدعون للإشعار بأن ما يتمنون بالنسبة إلى ما يعطون مما لا يخطر ببالهم كالنزل للضيف.
[سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 34]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ إلى عبادته. وَعَمِلَ صالِحاً فيما بينه وبين ربه. وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ تفاخراً به واتخاذاً للإسلام ديناً ومذهباً من قولهم: هذا قول فلان لمذهبه. والآية عامة لمن استجمع تلك الصفات. وقيل نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلم وقيل في المؤذنين.
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ في الجزاء وحسن العاقبة ولا الثانية مزيدة لتأكيد النفي. ادْفَعْ(5/71)
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقاً، أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، وإنما أخرجه مخرج الاستئناف على أنه جواب من قال كيف أصنع؟ للمبالغة ولذلك وضع أَحْسَنُ موضع الحسنة. فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أي إذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق.
[سورة فصلت (41) : الآيات 35 الى 36]
وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
وَما يُلَقَّاها وما يلقى هذه السجية وهي مقابلته الإِساءة بالإحسان. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا فَإِنها تحبس النفس عن الانتقام. وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الخير وكمال النفس وقيل الحظ العظيم الجنة.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ نخس شبه به وسوسته لأنها تبعث الإِنسان على ما لا ينبغي كالدفع بما هو أسوأ، وجعل النزغ نازغاً على طريقة جديدة، أو أريد به نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شره ولا تطعه. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاستعاذتك. الْعَلِيمُ بنيتك أو بصلاحك.
[سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 38]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38)
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لأنهما مخلوقان مأموران مثلكم. وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ الضمير للأربعة المذكورة، والمقصود تعليق الفعل بهما إشعاراً بأنهما من عداد ما لا يعلم ولا يختار. إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فإن السجود أخص العبادات وهو موضع السجود عندنا لاقتران الأمر به، وعند أبي حنيفة آخر الآية الأخرى لأنه تمام المعنى.
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عن الامتثال. فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة. يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي دائماً لقوله: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ أي لا يملون.
[سورة فصلت (41) : الآيات 39 الى 40]
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل. فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ تزخرفت وانتفخت بالنبات، وقرئ «ربأت» أي زادت. إِنَّ الَّذِي أَحْياها بعد موتها. لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الإِحياء والإِماتة.
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ يميلون عن الاستقامة. فِي آياتِنا بالطعن والتحريف والتأويل الباطل والإِلغاء فيها. لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنا فنجازيهم على إلحادهم. أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ قابل الإِلقاء في النار بالإِتيان آمناً مبالغة في إحماد حال المؤمنين. اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ تهديد شديد. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وعيد بالمجازاة.
[سورة فصلت (41) : الآيات 41 الى 42]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لاَّ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)(5/72)
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ بدل من قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أو مستأنف وخبر إِنَّ محذوف مثل معاندون أو هالكون، أو أُولئِكَ يُنادَوْنَ و «الذكر» القرآن. وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ كثير النفع عديم النظير أو منيع لا يتأتى إبطاله وتحريفه.
لاَّ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات أو مما فيه من الأخبار الماضية والأمور الآتية. تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ أي حكيم. حَمِيدٍ يحمده كل مخلوق بما ظهر عليه من نعمه.
[سورة فصلت (41) : الآيات 43 الى 44]
ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)
مَّا يُقالُ لَكَ أي ما يقول لك كفار قومك. إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إلا مثل ما قال لهم كفار قومهم، ويجوز أن يكون المعنى ما يقول الله لك إلا مثل ما قال لهم. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لأنبيائه.
وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ لأعدائهم، وهو على الثاني يحتمل أن يكون المقول بمعنى أن حاصل ما أوحي إليك وإليهم، وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة.
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا جواب لقولهم: هلا أنزل القرآن بلغة العجم والضمير «للذكر» . لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ بينت بلسان نفقهه. ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أكلام أعجمي ومخاطب عربي إنكار مقرر للتخصيص، والأعجمي يقال للذي لا يفهم كلامه. وهذا قراءة أبي بكر وحمزة والكسائي، وقرأ قالون وأبو عمرو بالمد والتسهيل وورش بالمد وإبدال الثانية ألفاً، وابن كثير وابن ذكوان وحفص بغير المد بتسهيل الثانية وقرئ «أعجمي» وهو منسوب إلى العجم، وقرأ هشام «أعجمي» على الإِخبار، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجمياً لإِفهام العجم وبعضها عربياً لإِفهام العرب، والمقصود إبطال مقترحهم باستلزامه المحذور، أو للدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت في الآيات كيف جاءت. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً إلى الحق. وَشِفاءٌ لِمَا فِى الصدور من الشك والشبه. وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ مبتدأ خبره: فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ على تقدير هو في آذانِهِمْ وَقْرٌ لقوله: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى وذلك لتصامهم عن سماعه وتعاميهم عما يريهم من الآيات، ومن جوز العطف على عاملين مختلفين عطف ذلك على لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً. أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي صم، وهو تمثيل لهم في عدم قبولهم الحق واستماعهم له بمن يصاح به من مسافة بعيدة.
[سورة فصلت (41) : الآيات 45 الى 46]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ بالتصديق والتكذيب كما اختلف في القرآن. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهي العدة بالقيامة وفصل الخصومة حينئذ، أو تقدير الآجال. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ باستئصال المكذبين. وَإِنَّهُمْ وإن اليهود أو الذين لاَ يُؤْمِنُونَ. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من التوراة أو القرآن. مُرِيبٍ موجب للاضطراب.(5/73)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ نفعه. وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ضره. وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله.
[سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 48]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي إذا سئل عنها إذ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ. وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَةٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا من أوعيتها جمع كم بالكسر. وقرأ نافع وابن عامر وحفص مِنْ ثَمَراتٍ بالجمع لاختلاف الأنواع، وقرئ بجمع الضمير أيضا وما نافية ومِنْ الأولى مزيدة للاستغراق، ويحتمل أن تكون موصولة معطوفة على السَّاعَةِ ومِنْ مبينة بخلاف قوله: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ بِمكان. إِلَّا بِعِلْمِهِ إلا مقروناً بعلمه واقعاً حسب تعلقه به. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي بزعمكم. قالُوا آذَنَّاكَ أعلمناك. مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ من أحد يشهد لهم بالشركة إذ تبرأنا عنهم لما عاينا الحال فيكون السؤال عنهم للتوبيخ، أو من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنا. وقيل هو قول الشركاء أي ما منا من يشهد لهم بأنهم كانوا محقين.
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَدْعُونَ يعبدون. مِنْ قَبْلُ لا ينفعهم أو لا يرونه. وَظَنُّوا وأيقنوا. مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب والظن معلق عنه بحرف النفي.
[سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 50]
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50)
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ لا يمل. مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ من طلب السعة في النعمة، وقرئ «من دعاء بالخير» .
وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ الضيقة. فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ من فضل الله ورحمته وهذا صفة الكافر لقوله: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ وقد بولغ في يأسه من جهة البنية والتكرير وما في القنوط من ظهور أثر اليأس.
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ بتفريجها عنه. لَيَقُولَنَّ هذا لِي حقي أستحقه لمالي من الفضل والعمل، أولي دائماً لا يزول. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً تقوم. وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي ولئن قامت على التوهم كان لي عند الله الحالة الحسنى من الكرامة، وذلك لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا فلاستحقاق لا ينفك عنه. فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فلنخبرنهم. بِما عَمِلُوا بحقيقة أعمالهم ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها. وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ لا يمكنهم التقصي عنه.
[سورة فصلت (41) : الآيات 51 الى 52]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن الشكر. وَنَأى بِجانِبِهِ وانحرف عنه أو ذهب بنفسه وتباعد عنه بكليته تكبراً، والجانب مجاز عن النفس كالجنب في قوله: فِي جَنْبِ اللَّهِ. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير مستعار مما له عرض متسع للاشعار بكثرته واستمراره، وهو أبلغ من الطويل إذ الطول أطول(5/74)
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
الامتدادين، فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ أخبروني. إِنْ كانَ أي القرآن. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ من غير نظر واتباع دليل.
مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي من أضل منكم، فوضع الموصول موضع الضمير شرحاً لحالهم وتعليلاً لمزيد ضلالهم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 53 الى 54]
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ يعني ما أخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام به من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية، وما يسر الله له ولخلفائه من الفتوح والظهور على ممالك الشرق والغرب على وجه خارق للعادة. وَفِي أَنْفُسِهِمْ ما ظهر فيما بين أهل مكة وما حل بهم، أو ما في بدن الإنسان من عجائب الصنع الدالة على كمال القدرة. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ الضمير للقرآن أو الرسول أو التوحيد أو الله أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أي أو لم يكف ربك، والباء مزيدة للتأكيد كأنه قيل: أو لم تحصل الكفاية به ولا تكاد تزاد في الفاعل إلا مع كفى. أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بدل منه، والمعنى أو لم يكفك أنه تعالى على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة، أو مطلع فيعلم حالك وحالهم، أو أو لم يكف الإنسان رادعاً عن المعاصي أنه تعالى مطلع على كل شيء لا يخفى عليه خافية.
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ شك، وقرئ بالضم وهو لغة كخفية وخفية. مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ بالبعث والجزاء.
أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها، مقتدر عليها لا يفوته شيء منها.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات» .(5/75)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
(42) سورة حم عسق
مكية وهي ثلاث وخمسون آية وتسمه سورة «الشورى»
[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
حَمَ. عَسَقَ لعله اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين، وإن كانا اسماً واحداً فالفصل ليطابق سائر الحواميم، وقرئ «حم سق» .
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي مثل ما في هذه السورة من المعاني، أو إيحاء مثل إيحائها أوحى الله إليك وإلى الرسل من قبلك، وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحي وأن إيحاء مثله عادته، وقرأ ابن كثير يُوحِي بالفتح على أن كذلك مبتدأ ويُوحِي خبره المسند إلى ضميره، أو مصدر ويُوحِي مسند إلى إليك، واللَّهُ مرتفع بما دل عليه يُوحِي، والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان له مقررتان لعلو شأن الموحى به كما مر في السورة السابقة، أو بالابتداء كما في قراءة «نوحي» بالنون والْعَزِيزُ وما بعده أخبار أو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان. وقوله:
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ خبران له وعلى الوجوه الأخر استئناف مقرر لعزته وحكمته.
[سورة الشورى (42) : آية 5]
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
تَكادُ السَّماواتُ وقرأ نافع والكسائي بالياء. يَتَفَطَّرْنَ يتشققن من عظمة الله، وقيل من ادعاء الولد له. وقرأ البصريان وأبو بكر «ينفطرن» بالنون والأول أبلغ لأنه مطاوع فطر وهذا مطاوع فطر، وقرئ «تتفطرن» بالتاء لتأكيد التأنيث وهو نادر. مِنْ فَوْقِهِنَّ أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية، وتخصيصها على الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه من تلك الجهة، وعلى الثاني ليدل على الانفطار من تحتهن بالطريق الأولى. وقيل الضمير للأرض فإن المراد بها الجنس. وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإِلهام وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة، وذلك في الجملة يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد، وحيث خص بالمؤمنين فالمراد به الشفاعة. أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ إذ ما من مخلوق إلا وهو ذو حظ من رحمته، والآية على الأول زيادة تقرير لعظمته وعلى الثاني دلالة على تقدسه عما نسب إليه، وإن عدم معاجلتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء باستغفار الملائكة وفرط غفران الله ورحمته.
[سورة الشورى (42) : الآيات 6 الى 7]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)(5/76)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ شركاء وأنداداً. اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها. وَما أَنْتَ يا محمد. عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم.
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا الإِشارة إلى مصدر يُوحِي أو إلى معنى الآية المتقدمة، فإنه مكرر في القرآن في مواضع جمة فتكون الكاف مفعولاً به وقُرْآناً عَرَبِيًّا حال منه. لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أهل أم القرى وهي مكة شرفها الله تعالى. وَمَنْ حَوْلَها من العرب. وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ يوم القيامة يجمع فيه الخلائق أو الأرواح أو الأشباح، أو العمال والأعمال وحذف ثاني مفعولي الأول وأول مفعولي الثاني للتهويل وإيهام التعميم، وقرئ «لينذر» بالياء والفعل «للقرآن» . لاَ رَيْبَ فِيهِ اعتراض لا محل له من الإعراب.
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي بعد جمعهم في الموقف يجمعون أولاً ثم يفرقون، والتقدير منهم فريق والضمير للمجموعين لدلالة الجمع عليه، وقرئا منصوبين على الحال منهم أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين بمعنى مشارفين للتفرق، أو متفرقين في داري الثواب والعقاب.
[سورة الشورى (42) : الآيات 8 الى 10]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً مهتدين أو ضالين. وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ بالهداية والحمل على الطاعة. وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي يدعهم بغير ولي ولا نصير في عذابه، ولعل تغيير المقابلة للمبالغة في الوعيد إذ الكلام في الإِنذار.
أَمِ اتَّخَذُوا بل اتخذوا. مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ كالأصنام. فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ جواب لشرط محذوف مثل إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق. وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كالتقرير لكونه حقيقاً بالولاية.
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ أنتم والكفار. فِيهِ مِنْ شَيْءٍ من أمر من أمور الدنيا أو الدين. فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ مفوض إليه يميز المحق من المبطل بالنصر أو بالإثابة والمعاقبة. وقيل وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ من تأويل متشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب الله. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في مجامع الأمور. وَإِلَيْهِ أُنِيبُ إليه أرجع في المعضلات.
[سورة الشورى (42) : الآيات 11 الى 12]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خبر آخر ل ذلِكُمُ أو مبتدأ خبره. جَعَلَ لَكُمْ وقرئ بالجر على البدل من الضمير أو الوصف لإلى الله. مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم. أَزْواجاً نساء. وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجاً، أو خلق لكم منَّ الأنعام أصنافاً أو ذكوراً وأناثاً. يَذْرَؤُكُمْ يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذر والذرو والضمير على الأول للناس، والْأَنْعامِ على تغليب المخاطبين(5/77)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
العقلاء. فِيهِ في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجاً يكون بينهم توالد، فإنه كالمنبع للبث والتكثير. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أي ليس مثله شيء يزاوجه ويناسبه، والمراد من مثله ذاته كما في قولهم:
مثلك لا يفعل كذا، على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى، ونظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: أَلاَ وَفِيهِمْ الطَّيِّبُ الطَاهِرُ لِذَاتِهِ. ومن قال الكاف فيه زائدة لعله عنى أنه يعطى معنى لَّيْسَ مّثْلِهِ غير أنه آكد لما ذكرناه. وقيل «مثله» صفته أي ليس كصفته صفة.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لكل ما يسمع ويبصر.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خزائنها. يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يوسع ويضيق على وفق مشيئته. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيفعله على ما ينبغي.
[سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 14]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد عليهما الصلاة والسلام ومن بينهما من أرباب الشرائع، وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وهو الإِيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله ومحله النصب على البدل من مفعول شَرَعَ، أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب وما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به. وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ولا تختلفوا في هذا الأصل أما فروع الشرائع فمختلفة كما قال. لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عظم عليهم. مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من التوحيد. اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ يجتلب إليه والضمير لما تدعوهم أو للدين. وَيَهْدِي إِلَيْهِ بالإِشارة والتوفيق. مَنْ يُنِيبُ يقبل إليه.
وَما تَفَرَّقُوا يعني الأمم السالفة. وقيل أهل الكتاب لقوله: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ. إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ العلم بأن التفرق ضلال متوعد عليه، أو العلم بمبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام، أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما فلم يلتفتوا إليها. بَغْياً بَيْنَهُمْ عداوة أو طلباً للدنيا. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بالإِمهال. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ باستئصال المبطلين حين افترقوا لعظم ما اقترفوا. وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني أهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب. وقرئ «ورّثوا» و «وورثوا» . لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من كتابهم لا يعلمونه كما هو أو لا يؤمنون به حق الإيمان، أو من القرآن.
مُرِيبٍ مقلق أو مدخل في الريبة.
[سورة الشورى (42) : الآيات 15 الى 16]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)
فَلِذلِكَ فلأجل ذلك التفرق أو الكتاب، أو العلم الذي أوتيته. فَادْعُ إلى الاتفاق على الملة(5/78)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
الحنيفية أو الاتباع لما أوتيت، وعلى هذا يجوز أن تكون اللام في موضع إلى لإِفادة الصلة والتعليل.
وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ واستقم على الدعوة كما أمرك الله تعالى. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الباطلة. وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ يعني جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في تبليغ الشرائع والحكومات، والأول إشارة إلى كمال القوة النظرية وهذا إشارة إلى كمال القوة العملية. اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ خالق الكل ومتولي أمره. لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وكل مجازى بعمله. لاَ حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ لا حجاج بمعنى لا خصومة إذ الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة مجال ولا للخلاف مبدأ سوى العناد. اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ مرجع الكل لفصل القضاء، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأساً حتى تكون منسوخة بآية القتال.
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ في دينه. مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا فيه، أو من بعد ما استجاب الله لرسوله فأظهر دينه بنصره يوم بدر، أو من بعد ما استجاب له أهل الكتاب بأن أقروا بنبوته واستفتحوا به. حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ زائلة باطلة. وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ لمعاندتهم. وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ على كفرهم.
[سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 18]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ جنس الكتاب. بِالْحَقِّ ملتبساً بعيداً من الباطل، أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام. وَالْمِيزانَ والشرع الذي توزن به الحقوق ويسوى بين الناس، أو العدل بأن أنزل الأمر به أو آلة الوزن بأن أوحى بإعدادها. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ إتيانها فاتبع الكتاب واعمل بالشرع وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه أعمالك وتوفى جزاءك، وقيل تذكير القريب لأنه بمعنى ذات قرب، أو لأن الساعة بمعنى البعث.
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِها استهزاء. وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها خائفون منها مع اغتيابها لتوقع الثواب. وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي الكائن لا محالة. أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ يجادلون فيها من المرية، أو من مريب الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كلاً من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق فإن البعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات، فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه.
[سورة الشورى (42) : الآيات 19 الى 20]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ بر بهم بصنوف من البر لا تبلغها الأفهام. يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ أي يرزقه كما يشاء فيخص كلاً من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته. وَهُوَ الْقَوِيُّ الباهر القدرة. الْعَزِيزُ المنيع الذي لا يغلب.
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ ثوابها شبهه بالزرع من حيث أنه فائدة تحصل بعمل الدنيا ولذلك قيل:
الدنيا مزرعة الآخرة، والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض ويقال للزرع الحاصل منه. نَزِدْ لَهُ فِي(5/79)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
حَرْثِهِ
فنعطه بالواحد عشراً إلى سبعمائة فما فوقها. وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها شيئاً منها على ما قسمنا له. وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ إذ الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
[سورة الشورى (42) : آية 21]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21)
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ بل ألهم شركاء، والهمزة للتقرير والتقريع وشركاؤهم شياطينهم. شَرَعُوا لَهُمْ بالتزيين. مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا. وقيل شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم بما تدينوا به، أو صور من سنة لهم. وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء، أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الكافرين والمؤمنين، أو المشركين وشركائهم. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وقرئ «أن» بالفتح عطفاً على كلمة الْفَصْلِ أي وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا، فإن العذاب الأليم غالب في عذاب الآخرة.
[سورة الشورى (42) : الآيات 22 الى 23]
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
تَرَى الظَّالِمِينَ في القيامة. مُشْفِقِينَ خائفين. مِمَّا كَسَبُوا من السيئات. وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي وباله لاحق بهم أشفقوا أو لم يشفقوا. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ في أطيب بقاعها وأنزهها. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ما يشتهونه ثابت لهم عند ربهم. ذلِكَ إشارة إلى المؤمنين. هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي يصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا.
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ذلك الثواب الذي يبشرهم الله به فحذف الجار ثم العائد، أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي يُبَشِّرُ من بشره وقرئ «يُبَشّرُ» من أبشره. قُلْ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على ما أتعاطاه من التبليغ والبشارة. أَجْراً نفعاً منكم. إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أي تودوني لقرابتي منكم، أو تودوا قرابتي، وقيل الاستثناء منقطع والمعنى:
لا أسألكم أجراً قط ولكني أسألكم المودة، وفِي الْقُرْبى حال منها أي إِلَّا الْمَوَدَّةَ ثابتة في ذوي الْقُرْبى متمكنة في أهلها، أو في حق القرابة ومن أجلها كما جاء
في الحديث «الحب في الله والبغض في الله» .
روي: أنها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم علينا قال: «علي وفاطمة وابناهما» .
وقيل الْقُرْبى التقرب إلى الله أي إلا أن تودوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح، وقرئ «إلا مودة في القربى» . وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ومن يكتسب طاعة سيما حب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومودته لهم. نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً في الحسنة بمضاعفة الثواب، وقرئ «يزد» أي يزد الله وحسنى. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن أذنب. شَكُورٌ لمن أطاع بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة.
[سورة الشورى (42) : آية 24]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24)(5/80)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
أَمْ يَقُولُونَ بل أيقولون. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً افترى محمد بدعوى النبوة أو القرآن. فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ استبعاد للافتراء عن مثله بالإِشعار على أنه إنما يجترئ عليه من كان مختوماً على قلبه جاهلاً بربه، فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا، وكأنه قال: إن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك لتجترئ بالافتراء عليه. وقيل يختم على قلبك يمسك القرآن أو الوحي عنه، أو يربط عليه بالصبر فلا يشق عليك أذاهم. وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ استئناف لنفي الافتراء عما يقوله بأنه لو كان مفترى لمحقه إذ من عادته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه أو بوعده، بمحو باطلهم وإثبات حقه بالقرآن، أو بقضائه الذي لا مرد له، وسقوط الواو من يَمْحُ في بعض المصاحف لاتباع اللفظ كما في قوله: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ.
[سورة الشورى (42) : الآيات 25 الى 26]
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ بالتجاوز عما تابوا عنه، والقبول يعدى إلى مفعول ثان بمن وعن لتضمنه معنى الأخذ والإِبانة، وقد عرفت حقيقة التوبة.
وعن علي رضي الله عنه: هي اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإِعادة، ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ صغيرها وكبيرها لمن يشاء. وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُونَ فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة، وقرأ الكوفيون غير أبي بكر ما تَفْعَلُونَ بالتاء.
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يستجيب الله لهم فحذف اللام كما حذف في وَإِذا كالُوهُمْ والمراد إجابة الدعاء أو الإِثابة على الطاعة، فإنها كدعاء وطلب لما يترتب عليها. ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام «أفضل الدعاء الحمد لله»
، أو يستجيبون لله بالطاعة إذا دعاهم إليها. وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما سألوا واستحقوا واستوجبوا له بالاستجابة. وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضل.
[سورة الشورى (42) : آية 27]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ لتكبروا وأفسدوا فيها بطراً، أو لبغى بعضهم على بعض استيلاء واستعلاء وهذا على الغالب، وأصل البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى كمية أو كيفية. وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ بتقدير. مَا يَشاءُ كما اقتضته مشيئته. إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ يعلم خفايا أمرهم وجلايا حالهم فيقدر لهم ما يناسب شأنهم.
روي أن أهل الصفة تمنوا الغنى فنزلت.
وقيل في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وإذا أجدبوا انتجعوا.
[سورة الشورى (42) : الآيات 28 الى 29]
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم يُنَزِّلُ بالتشديد. مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا أيسوا منه، وقرئ بكسر النون. وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان. وَهُوَ الْوَلِيُّ الذي يتولى عباده بإحسانه ونشر رحمته.(5/81)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
الْحَمِيدُ المستحق للحمد على ذلك.
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإنها بذاتها وصفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم. وَما بَثَّ فِيهِما عطف على السَّماواتِ أو ال خَلْقُ. مِنْ دابَّةٍ من حي على إطلاق اسم المسبب على السبب، أو مما يدب على الأرض وما يكون في أحد الشيئين يصدق أن فيهما في الجملة. وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ أي في أي وقت يشاء. قَدِيرٌ متمكن منه وإِذا كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع.
[سورة الشورى (42) : الآيات 30 الى 31]
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فبسبب معاصيكم، والفاء لأن مَا شرطية أو متضمنة معناه، ولم يذكرها نافع وابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببية. وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب فلا يعاقب عليها. والآية مخصوصة بالمجرمين، فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر منها تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ فائتين ما قضى عليكم من المصائب. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يحرسكم عنها. وَلا نَصِيرٍ يدفعها عنكم.
[سورة الشورى (42) : الآيات 32 الى 34]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ السفن الجارية. فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال. قالت الخنساء:
وَإِنَّ صَخْراً لَتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِه ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارٌ
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ وقرئ «الرياح» . فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ فيبقين ثوابت على ظهر البحر.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ لكل من وكل همته وحبس نفسه على النظر في آيات الله والتفكر في آلائه، أو لكل مؤمن كامل الإِيمان فإن الإِيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر.
أَوْ يُوبِقْهُنَّ أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة، والمراد إهلاك أهلها لقوله: بِما كَسَبُوا وأصله أو يرسلها فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود كما في قوله: وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ إذ المعنى أو يرسلها فيوبق ناساً بذنوبهم وينج ناساً على العفو منهم، وقرئ «ويعفو» على الاستئناف.
[سورة الشورى (42) : الآيات 35 الى 36]
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم وَيَعْلَمَ، أو على الجزاء ونصب نصب الواقع جواباً للأشياء الستة لأنه أيضاً غير واجب، وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على الاستئناف، وقرئ بالجزم عطفاً على يَعْفُ فيكون المعنى ويجمع بين إهلاك قوم وإنجاء قوم وتحذير آخرين. مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ محيد من العذاب والجملة معلق عنها الفعل.
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا تمتعون به مدة حياتكم. وَما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الآخرة.
خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لخلوص نفعه ودوامه وما الأولى موصولة تضمنت معنى الشرط من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بِهَا فِي الحياة الدنيا فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية.(5/82)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
وعن علي رضي الله عنه: تصدق أبو بكر رضي الله تعالى عنه بماله كله فلامه جمع فنزلت.
[سورة الشورى (42) : الآيات 37 الى 38]
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ بما بعده عطف على لِلَّذِينَ آمَنُوا أو مدح منصوب أو مرفوع، وبناء يَغْفِرُونَ على ضميرهم خبراً للدلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال الغضب، وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإِثم» .
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الإِيمان فاستجابوا له. وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ذو شورى بينهم لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تدبرهم وتيقظهم في الأمور، وهي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الله الخير.
[سورة الشورى (42) : الآيات 39 الى 40]
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ على ما جعله الله لهم كراهة التذلل، وهو وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمهات الفضائل وهو لا يخالف وصفهم بالغفران، فإنه ينبئ عن عجز المغفور والانتصار عن مقاومة الخصم، والحلم عن العاجز محمود وعن المتغلب مذموم لأنه إجراء وإغراء على البغي، ثم عقب وصفهم بالانتصار للمنع عن التعدي.
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وسمى الثانية سَيِّئَةٍ للازدواج، أو لأنها تسوء من تنزل به. فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ بينه وبين عدوه. فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عدة مبهمة تدل على عظم الموعود. إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المبتدئين بالسيئة والمتجاوزين في الانتقام.
[سورة الشورى (42) : الآيات 41 الى 42]
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ بعد ما ظلم، وقد قرئ به. فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ بالمعاتبة والمعاقبة.
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ يبتدئونهم بالإِضرار ويطلبون ما لا يستحقونه تجبراً عليهم.
وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على ظلمهم وبغيهم.
[سورة الشورى (42) : الآيات 43 الى 44]
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
وَلَمَنْ صَبَرَ على الأذى. وَغَفَرَ ولم ينتصر. إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي إن ذلك منه فحذف كما حذف في قولهم: السمن منوان بدرهم، للعلم به.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ من ناصر يتولاه من بعد خذلان الله إياه. وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ حين يرونه فذكر بلفظ الماضي تحقيقاً. يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ هل إلى رجعة إلى(5/83)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
الدنيا.
[سورة الشورى (42) : الآيات 45 الى 46]
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها على النار، ويدل عليه الْعَذابَ. خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ متذللين متقاصرين مما يلحقهم من الذل. يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أي يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم ضعيف كالمصبور ينظر إلى السيف. وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ بالتعريض للعذاب المخلد. يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف ل خَسِرُوا والقول في الدنيا، أو لقال أي يقولون إذا رأوهم على تلك الحال. أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ تمام كلامهم أو تصديق من الله لهم.
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ إلى الهدى أو النجاة.
[سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 48]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ لا يرده الله بعد ما حكم به ومِنْ صلة ل مَرَدَّ. وقيل صلة يَأْتِيَ أي من قبل أن يأتى يوم من الله لا يمكن رده. مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ مفر.
يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائف أعمالكم تشهد عليه ألسنتكم وجوارحكم.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيباً أو محاسباً. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وقد بلغت. وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها أراد بالإِنسان الجنس لقوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ بليغ الكفران ينسى النعمة رأساً ويذكر البلية ويعظمها ولا يتأمل سببها، وهذا وإن اختص بالمجرمين جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه. وتصدير الشرطية الأولى ب إِذا والثانية ب إِنْ لأن أذاقة النعمة محققة من حيث أنها عادة مقتضاة بالذات بخلاف إصابة البلية، وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضع المضمر في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة.
[سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 50]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فله أن يقسم النعمة والبلية كيف يشاء. يَخْلُقُ مَا يَشاءُ من غير لزوم ومجال اعتراض. يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ.
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً بدل من يَخْلُقُ بدل البعض، والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة فيهب لبعض إما صنفاً واحداً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى أو الصنفين جميعاً ويعقم آخرين، ولعل تقديم الإِناث لأنها أكثر لتكثير النسل، أو لأن مساق الآية للدلالة على أن الواقع ما يتعلق به مشيئة الله لا مشيئة الإِنسان والإِناث كذلك، أو لأن الكلام في البلاء والعرب تعدهن بلاء، أو لتطييب قلوب آبائهن أو للمحافظة على الفواصل ولذلك عرف الذكور، أو لجبر التأخير وتغيير العاطف في(5/84)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
الثالث لأنه قسيم المشترك بين القسمين، ولم يحتج إليه الرابع لإفصاحه بأنه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدمة. إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار.
[سورة الشورى (42) : آية 51]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
وَما كانَ لِبَشَرٍ وما صح له. أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً كلاماً خفياً يدرك لأنه بسرعة تمثيل ليس في ذاته مركباً من حروف مقطعة تتوقف على تموجات متعاقبة، وهو ما يعم المشافه به كما روي في حديث المعراج، وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى في طوى والطور، ولكن عطف قوله:
أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها. وقيل المراد به الإِلهام والإِلقاء في الروع أو الوحي المنزل به الملك إلى الرسل فيكون المراد بقوله: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ أو يرسل إليه نبياً فيبلغ وحيه كما أمره، وعلى الأول المراد بالرسول الملك الموحي إلى الرسل، ووحياً بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأن مِنْ وَراءِ حِجابٍ صفة كلام محذوف والإِرسال نوع من الكلام، ويجوز أن يكون وحياً ويرسل مصدرين ومِنْ وَراءِ حِجابٍ ظرفاً وقعت أحوالاً، وقرأ نافع أَوْ يُرْسِلَ برفع اللام. إِنَّهُ عَلِيٌّ عن صفات المخلوقين. حَكِيمٌ يفعل ما تقتضيه حكمته فيكلم تارة بوسط، وتارة بغير وسط إما عياناً وإما من وراء حجاب.
[سورة الشورى (42) : الآيات 52 الى 53]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا يعني ما أوحي إليه، وسماه روحاً لأن القلوب تحيا به، وقيل جبريل والمعنى أرسلناه إليك بالوحي. مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ أي قبل الوحي، وهو دليل على أنه لم يكن متعبداً قبل النبوة بشرع. وقيل المراد هو الإِيمان بما لا طريق إليه إلا السمع. وَلكِنْ جَعَلْناهُ أي الروح أو الكتاب أو الإِيمان. نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا بالتوفيق للقبول والنظر فيه.
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو الإسلام، وقرئ «لَتَهْدِى» أي ليهديك الله.
صِراطِ اللَّهِ بدل من الأول. الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقاً وملكاً. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ بارتفاع الوسائط والتعلقات، وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له» .(5/85)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
(43) سورة الزخرف
مكية وقيل إلا قوله: (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) وآيها تسع وثمانون آية
[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآناً عربياً، وهو من البدائع لتناسب القسم والمقسم عليه كقول أبي تمام: وَثَنَايَاكَ أَنَّهَا إِغْرِيضُ. ولعل إقسام الله بالأشياء استشهاد بما فيها من الدلالة على المقسم عليه، وبالقرآن من حيث أنه معجز مبين لطرق الهدى وما يحتاج إليه في الديانة، أو بين للعرب ما يدل على أنه تعالى صيره كذلك لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفهموا معانيه.
وَإِنَّهُ عطف على انا، وقرأ حمزة والكسائي بالكسر على الاستئناف. فِي أُمِّ الْكِتابِ في اللوح المحفوظ فإنه أصل الكتب السماوية، وقرئ أم الكتاب بالكسر. لَدَيْنا محفوظاً عندنا عن التغيير.
لَعَلِيٌّ رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزاً من بينها. حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة، أو محكم لا ينسخه غيره.
وهما خبران لأن وفِي أُمِّ الْكِتابِ متعلق ب «عليّ» واللام لا تمنعه، أو حال منه ولَدَيْنا بدل منه أو حال من أُمِّ الْكِتابِ.
[سورة الزخرف (43) : آية 5]
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أفنذوده ونبعده عنكم مجاز من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض، قال طرفة:
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضَرْبكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَس الفَرَسِ
والفاء للعطف على محذوف أي انهملكم فنضرب عَنْكُمُ الذِّكْرَ، وصَفْحاً مصدر من غير لفظه فإن تنحية الذكر عنهم إعراض أو مفعول له أو حال بمعنى صافحين، وأصله أن تولي الشيء صفحة عنقك.
وقيل إنه بمعنى الجانب فيكون ظرفاً ويؤيده أنه قرئ «صَُفْحاً» بالضم، وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح بمعنى صافحين، والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب على لغتهم ليفهموه. أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ أي لأن كنتم، وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإِعراض عنهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي أَنْ بالكسر على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق مخرج المشكوك استجهالاً لهم، وما قبلها دليل الجزاء.(5/86)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 6 الى 8]
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه.
فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي من القوم المسرفين لأنه صرف الخطاب عنهم إلى الرسول مخبراً عنهم.
وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ وسلف في القرآن قصتهم العجيبة، وفيه وعد للرسول ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 11]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ لعله لازم مقولهم أو ما دل عليه إجمالاً أقيم مقامه تقريراً لإِلزام الحجة عليهم، فكأنهم قالوا «الله» كما حكي عنهم في مواضع أخر وهو الذي من صفته ما سرد من الصفات، ويجوز أن يكون مقولهم وما بعده استئناف.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً فتستقرون فيها وقرأ غير الكوفيون «مهاداً» بالإلف.
وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا تسلكونها. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لكي تهتدوا إلى مقاصدكم، أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك.
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ بمقدار ينفع ولا يضر. فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً مال عنه النماء.
وتذكيره لأن البلدة بمعنى البلد والمكان. كَذلِكَ مثل ذلك الإِنشار. تُخْرَجُونَ تنشرون من قبوركم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تُخْرَجُونَ بفتح التاء وضم الراء.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 12 الى 14]
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أصناف المخلوقات. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ ما تركبونه على تغليب المتعدي بنفسه على المتعدي بغيره إذ يقال: ركبت الدابة وركبت في السفينة، أو المخلوق للركوب على المصنوع له أو الغالب على النادر ولذلك قال:
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ أي ظهور ما تركبون وجمعه للمعنى. ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ تذكروها بقلوبكم معترفين بها حامدين عليها. وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ مطيقين من أقرن الشيء إذا أطاقه، وأصله وجد قرينته إذ الصعب لا يكون قرينة الضعيف. وقرئ بالتشديد والمعنى واحد.
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله على كل حال.
سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا إلى قوله:
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي راجعون، واتصاله بذلك لأن الركوب للتنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى، أو لأنه مخطر فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه ويستعد للقاء الله تعالى.(5/87)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
[سورة الزخرف (43) : آية 15]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً متصل بقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي وقد جعلوا له بعد ذلك الاعتراف من عباده ولداً فقالوا الملائكة بنات الله، ولعله سماه جزءاً كما سمي بعضاً لأنه بضعة من الوالد دلالة على استحالته على الواحد الحق في ذاته، وقرأ أبو بكر «جزءوا» بضمتين. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ظاهر الكفران ومن ذلك نسبة الولد إلى الله لأنها من فرط الجهل به والتحقير لشأنه.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 16 الى 17]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ معنى الهمزة في أَمِ للإِنكار والتعجب من شأنهم حيث لم يقنعوا بأن جعلوا له جزءاًً حتى جعلوا له من مخلوقاته أجزاء أخس مما اختير لهم وأبغض الأشياء إليهم، بحيث إذا بشر أحدهم بها اشتد غمه به كما قال:
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا بالجنس الذي جعله له مثلاً إذ الولد لا بد وأن يماثل الوالد. ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا صار وجهه أسود في الغاية لما يعتريه من الكآبة. وَهُوَ كَظِيمٌ مملوء قلبه من الكرب، وفي ذلك دلالات على فساد ما قالوه، وتعريف البنين بما مر في الذكور، وقرئ «مسود» و «مسواد» على أن في ظَلَّ ضمير المبشر و «وَجْهُهُ مُسْوَدّ» جملة وقعت خبرا.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 18 الى 19]
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي أو جعلوا له، أو اتخذ من يتربى في الزينة يعني البنات. وَهُوَ فِي الْخِصامِ في المجادلة. غَيْرُ مُبِينٍ مقرر لما يدعيه من نقصان العقل وضعف الرأي، ويجوز أن يكون من مبتدأ محذوف الخبر أي أو من هذا حاله ولده وفِي الْخِصامِ متعلق ب مُبِينٍ، وإضافة غَيْرُ إليه لا يمنعه لما عرفت. وقرأ حمزة والكسائي وحفص يُنَشَّأُ أي يربي. وقرئ «يُنَشَّأُ» و «يناشأ» بمعناه ونظير ذلك أعلاه وعلاه وعالاه بمعنى.
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً كفر آخر تضمنه مقالهم شنع به عليهم، وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله تعالى أنقصهم رأياً وأخسهم صنفاً. وقرئ عبيد وقرأ الحجازيان وابن عامر ويعقوب «عند» على تمثيل زلفاهم. وقرئ «أنثاً» وهو جمع الجمع. أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أحضروا خلق الله إياهم فشاهدوهم إناثاً، فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة وهو تجهيل وتهكم بهم. وقرأ نافع أَشْهَدُواْ بهمزة الاستفهام وهمزة مضمومة بين بين، و «ءاأشهدوا» بمدة بينهما. سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ التي شهدوا بها على الملائكة. وَيُسْئَلُونَ أي عنها يوم القيامة، وهو وعيد شديد. وقرئ «سيكتب» و «سنكتب» بالياء والنون.
و «شهاداتهم» وهي أن لله جزءا أو أن له بنات وهن الملائكة ويساءلون من المساءلة.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 21]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ مَّا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ أي لو شاء عدم عبادة الملائكة ما عبدناهم فاستدلوا بنفي مشيئة عدم العبادة على امتناع النهي عنها أو على حسنها، وذلك باطل لأن المشيئة ترجح بعض الممكنات على(5/88)
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
بعض مأموراً كان أو منهياً حسناً كان أو غيره، ولذلك جهلهم فقال: مَّا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يتمحلون تمحلاً باطلاً، ويجوز أن تكون الإِشارة إلى أصل الدعوى كأنه لما أبدى وجوه فسادها وحكى شبهتهم المزيفة نفى أن يكون لهم بها علم من طريق العقل، ثم أضرب عنه إلى إنكار أن يكون لهم سند من جهة النقل فقال:
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن أو ادعائهم ينطق على صحة ما قالوه. فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بذلك الكتاب متمسكون.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 22 الى 23]
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ أي لا حجة لهم على ذلك عقلية ولا نقلية، وإنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة، وال أُمَّةٍ الطريقة التي تؤم كالراحلة للمرحول إليه، وقرئت بالكسر وهي الحالة التي يكون عليها الأم أي القاصد ومنها الدين.
وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن مقدميهم أيضاً لم يكن لهم سند منظور إليه، وتخصيص المترفين إشعار بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 24 الى 25]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا أي أتتبعون آبائكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم، وهي حكاية أمر ماض أوحي إلى النذير، أو خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويؤيد الأول أنه قرأ ابن عامر وحفص قالَ وقوله: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي وإن كان أهدى إقناطاً للنذير من أن ينظروا أو يتفكروا فيه.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالاستئصال. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ولا تكترث بتكذيبهم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 28]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ واذكر وقت قوله هذا ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل، أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد فإنه أشرف آبائهم. لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ بريء من عبادتكم أو معبودكم، مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث، وقرئ «بريء» و «براء» ككريم وكرام.
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي استثناء منقطع أو متصل على أن «ما» يعم أولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام والأوثان، أو صفة على أن «ما» موصوفة أي إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني.
فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ سيثبتني على الهداية، أو سيهديني إلى ما وراء ما هداني إليه.
وَجَعَلَها وجعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو الله كلمة التوحيد. كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذريته فيكون فيهم أبداً من يوحد الله ويدعو إلى توحيده، وقرئ «كَلِمَةَ» و «فِى عَقِبِهِ» على التخفيف و «في عاقبه»(5/89)
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
أي فيمن عقبه. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يرجع من أشرك بدعاء من وحد.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 29 الى 30]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ هؤلاء المعاصرين للرسول صلّى الله عليه وسلم من قريش وآباءهم بالمد في العمر والنعمة، فاغتروا لذلك وانهمكوا في الشهوات. وقرئ «مَتَّعْتُ» بالفتح على أنه تعالى اعترض به على ذاته في قوله:
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً مبالغة في تعييرهم. حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ دعوة التوحيد أو القرآن. وَرَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الرسالة بما له من المعجزات، أو مُبِينٌ للتوحيد بالحجج والآيات.
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ لينبههم عن غفلتهم قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ زادوا شرارة فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به، فسموا القرآن سحراً وكفروا به واستحقروا الرسول.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 31 الى 32]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ من إحدى القريتين مكة والطائف. عَظِيمٍ بالجاه والمال كالوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي، فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم، ولم يعلموا أنها رتبة روحانية تستدعي عظم النفس بالتحلي بالفضائل والكمالات القدسية، لا التزخرف بالزخارف الدنيوية.
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم، والمراد بالرحمة النبوة. نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهم عاجزون عن تدبيرها وهي خويصة أمرهم في دنياهم، فمن أين لهم أن يدبروا أمر النبوة التي هي أعلى المراتب الإنسية، وإطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها وحرامها من الله. وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ وأوقعنا بينهم التفاوت في الرزق وغيره. لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ليستعمل بعضهم بعضاً في حوائجهم فيحصل بينهم تآلف وتضام ينتظم بذلك نظام العالم، لا لكمال في الموسع ولا لنقص في المقتر، ثم إنه لا اعتراض لهم علينا في ذلك ولا تصرف فكيف يكون فيما هو أعلى منه. وَرَحْمَتُ رَبِّكَ يعني هذه النبوة وما يتبعها. خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا والعظيم من رزق منها لا منه.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 33 الى 35]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لولا أن يرغبوا في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة وتنعم لحبهم الدنيا فيجتمعوا عليه. لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ ومصاعد جمع معرج، وقرئ «ومعاريج» جمع معراج. عَلَيْها يَظْهَرُونَ يعلون السطوح لحقارة الدنيا، وَلِبُيُوتِهِمْ بدل من لِمَنْ بدل الاشتمال أو على كقولك: وهبت له ثوباً لقميصه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «وسقفا» اكتفاء بجمع البيوت، وقرئ «سقفاً» بالتخفيف و «سقوفاً» و «سقفاً» وهي لغة في سقف. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ أي أبواباً وسرراً من فضة.(5/90)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
وَزُخْرُفاً وزينة عطف على سُقُفاً أو ذهباً عطف على محل من فضة وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إِن هي المخففة واللام هي الفارقة. وقرأ عاصم وحمزة وهشام بخلاف عنه لما بالتشديد بمعنى إلا وأن نافية، وقرئ به مع أن وما وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ عَن الكفر والمعاصي، وفيه دلالة على أن العظيم هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا، وإشعار بما لأجله لم يجعل ذلك للمؤمنين حتى يجتمع الناس على الإِيمان، وهو أنه تمتع قليل بالإِضافة إلى ما لهم في الآخرة مخل به في الأغلب لما فيه من الآفات قل من يتخلص عنها كما أشار إليه بقوله:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 37]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ يتعام ويعرض عنه لفرط اشتغاله بالمحسوسات وانهماكه في الشهوات، وقرئ «يَعْشَ» بالفتح أي يعم يقال عشي إذا كان في بصره آفة وعشى إذا تعشى بلا آفة كعرج وعرج، وقرئ «يعشو» على أن مَنْ موصولة. نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يوسوسه ويغويه دائماً، وقرأ يعقوب بالياء على إسناده إلى ضمير الرَّحْمنِ، ومن رفع «يعشو» ينبغي أن يرفع نُقَيِّضْ.
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ عن الطريق الذي من حقه أن يسبل، وجمع الضميرين للمعنى إذ المراد جنس العاشي والشيطان المقيض له. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ الضمائر الثلاثة الأول له والباقيان للشيطان.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 38 الى 39]
حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
حَتَّى إِذا جاءَنا أي العاشي، وقرأ الحجازيان وابن عامر وأبو بكر «جاآنا» أي العاشي والشيطان.
قالَ أي العاشي للشيطان. يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ بعد المشرق من المغرب، فغلب المشرق وثنى وأضيف البعد إليهما. فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت.
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أي ما أنتم عليه من التمني. إِذْ ظَلَمْتُمْ إذ صح إنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا بدل من الْيَوْمَ. أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وشياطينكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه، ويجوز أن يسند الفعل إليه بمعنى. ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في أمر صعب معاونتهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لمكابدة عنائه، إذ لكل منكم ما لا تسعه طاقته. وقرئ «إِنَّكُمْ» بالكسر وهو يقوي الأول.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 40 الى 42]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ إِنكار وتعجب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم بعد تمرنهم على الكفر واستغراقهم في الضلال بحيث صار عشاهم عمى مقروناً بالصمم. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتعب نفسه في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا غياً فنزلت. وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عطف على الْعُمْيَ باعتبار تغاير الوصفين، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى.
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أي فإِن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم، و «ما» مزيدة مؤكدة بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بعذاب فِى الدنيا والآخرة.(5/91)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أو إِن أردنا أن نريك ما وعدناهم من العذاب، وقرأ يعقوب برواية رويس أو نُرِيَنَّكَ بإسكان النون وكذا نَذْهَبَنَّ. فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ لاَ يَفوتوننا.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 43 الى 44]
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من الآيات والشرائع، وقرئ «أُوحِىَ» على البناء للفاعل وهو الله تعالى. إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا عوج له.
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ لشرف لك. وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ أي عَنْهُ يوم القيامة وعن قيامكم بحقه.
[سورة الزخرف (43) : آية 45]
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أي واسأل أممهم وعلماء دينهم، وقرأ ابن كثير والكسائي بتخفيف الهمزة. أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ هل حكمنا بعبادة الأوثان وهل جاءت في ملة من مللهم، والمراد به الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد والدلالة على أنه ليس ببدع ابتدعه فيكذب ويعادي له، فإنه كان أقوى ما حملهم على التكذيب والمخالفة.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ يريد باقتصاصه تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومناقضة قولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ والاستشهاد بدعوة موسى عليه السلام إلى التوحيد ليتأملوا فيها.
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ فاجؤوا وقت ضحكهم منها، أي استهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها.
[سورة الزخرف (43) : آية 48]
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها إلا هي بالغة أقصى درجات الإِعجاز بحيث يحسب الناظر فيها أنها أكبر مما يقاس إليها من الآيات، والمراد وصف الكل بالكبر كقولك: رأيت رجالاً بعضهم أفضل من بعض، وكقوله:
مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاَقَيْتُ سَيِّدَهُم ... مِثْلُ النُّجُومِ الَّتي يَسْرِي بِهَا السَّارِي
أو إِلَّا وهي مختصة بنوع من الاعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار. وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ كالسنين والطوفان والجراد. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ على وجه يرجى رجوعهم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 49 الى 50]
وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ نادوه بذلك في تلك الحال لشدة شكيمتهم وفرط حماقتهم، أو لأنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحراً. وقرأ ابن عامر بضم الهاء ادْعُ لَنا رَبَّكَ فيكشف عنا العذاب. بِما عَهِدَ(5/92)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
عِنْدَكَ
بعهده عندك من النبوة، أو من أن يستجيب دعوتك، أو أن يكشف العذاب عمن اهتدى، أو بِما عَهِدَ عِنْدَكَ فوفيت به وهو الإِيمان والطاعة. إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ.
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فاجؤوا نكث عهدهم بالاهتداء.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 51 الى 52]
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52)
وَنادى فِرْعَوْنُ بنفسه أو بمناديه. فِي قَوْمِهِ في مجمعهم أو فيما بينهم بعد كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمن بعضهم. قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ أنهار النيل ومعظمها أربعة أنهر: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس. تَجْرِي مِنْ تَحْتِي تحت قصري أو أمري، أو بين يدي في جناني والواو إما عاطفة لهذه الْأَنْهارُ على الملك وتَجْرِي حال منها. أو واو حال وهذه مبتدأ والْأَنْهارُ صفتها وتَجْرِي خبرها. أَفَلا تُبْصِرُونَ ذلك.
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مَع هذه المملكة والبسطة. مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ضعيف حقير لا يستعد للرئاسة، من المهانة وهي القلة. وَلا يَكادُ يُبِينُ الكلام لما به من الرتة فكيف يصلح للرسالة، وأَمْ إما منقطعة والهمزة فيها للتقرير إذ قدم من أسباب فضله، أو متصلة على إقامة المسبب مقام السبب. والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون فتعلمون أني خير منه.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 53 الى 54]
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54)
فلولا ألقي عليه أساورة مّن ذَهَبٍ أي فهلا ألقي عليه مقاليد الملك إن كان صادقاً، إذ كانوا إذا سودوا رجلاً سوروه وطوقوه بسوار وطوق من ذهب، وأساورة جمع أسوار بمعنى السوار على تعويض التاء من ياء أساوير. وقد قرئ به وقرأ يعقوب وحفص «أَسْوِرَةٌ» وهي جمع سوار. وقرئ «أساور» جمع «أَسْوِرَةٌ» و «أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ» و «أساور» على البناء للفاعل وهو الله تعالى. أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ مقرونين يعينونه أو يصدقونه من قرنته به فاقترن، أو متقارنين من اقترن بمعنى تقارن.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فطلب منهم الخفة في مطاوعته أو فاستخف أحلامهم. فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 55 الى 56]
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)
فَلَمَّا آسَفُونا أغَضبونا بالإِفراط في العناد والعصيان منقول من أسف إذا اشتد غضبه. انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ في اليم.
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قدوة لمن بعدهم من الكفار يقتدون به في استحقاق مثل عقابهم، مصدر نعت به أو جمع سالف كخدم وخادم، وقرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام جمع سليف كرغف ورغيف، أو سالف كصبر جمع صابر أو سلف كخشب. وقرئ «سَلَفاً» بإبدال ضمة اللام فتحة أو على أنه جمع سلفة أي ثلة قد سلفت. وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ وعظة لهم أو قصة عجيبة تسير مسير الأمثال لهم فيقال: مثلكم مثل قوم فرعون.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 58]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)(5/93)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أي ضربه ابن الزبعرى لما جادل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أو غيره بأن قال النصارى أهل كتاب وهم يعبدون عيسى عليه السلام ويزعمون أنه ابن الله والملائكة أولى بذلك، أو على قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أو أن محمداً يريد أن نعبده كما عبد المسيح. إِذا قَوْمُكَ قريش مِنْهُ من هذا المثل. يَصِدُّونَ يضجون فرحاً لظنهم أن الرسول صلّى الله عليه وسلم صار ملزماً به. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالضم من الصدود أي يصدون عن الحق ويعرضون عنه. وقيل هما لغتان نحو يعكف ويعكف.
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي آلهتنا خير عندك أم عيسى عليه السلام فإن يكن في النار فلتكن آلهتنا معه، أو آلهتنا الملائكة خير أم عيسى عليه السلام فإذا جاز أن يعبد ويكون ابن الله كانت آلهتنا أولى بذلك، أو آلهتنا خير أم محمد صلّى الله عليه وسلم فنعبده وندع آلهتنا. وقرأ الكوفيون «أآلهتنا» بتحقيق الهمزتين وألف بعدهما. مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ما ضربوا هذا المثل إلا لأجل الجدل والخصومة لا لتمييز الحق من الباطل. بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ شداد الخصومة حراص على اللجاج.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 59 الى 60]
إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بالنبوة. وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أمراً عجيباً كالمثل السائر لبني إسرائيل، وهو كالجواب المزيح لتلك الشبهة.
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ لولدنا منكم يا رجال كما ولدنا عيسى من غير أب، أو لجعلنا بدلكم.
مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ملائكة يخلفونكم في الأرض، والمعنى أن حال عيسى عليه السلام وإن كانت عجيبة فإنه تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك، وأن الملائكة مثلكم من حيث أنها ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليداً كما جاز خلقها إبداعاً، فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله سبحانه وتعالى.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 61 الى 62]
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
وَإِنَّهُ وإن عيسى عليه السلام. لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ لأن حدوثه أو نزوله من أشراط الساعة يعلم به دنوها، أو لأن احياء الموتى يدل على قدرة الله تعالى عليه. وقرئ «لَعِلْمٌ» أي لعلامة ولذكر على تسمية ما يذكر به ذكراً،
وفي الحديث ينزل عيسى عليه السلام على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها أفيق وبيده حربة يقتل بها الدجال، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن به.
وقيل الضمير للقرآن فإن فيه الإعلام بالساعة والدلالة عليها. فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فَلا تشكن فيها. وَاتَّبِعُونِ واتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي. وقيل هو قول الرسول صلّى الله عليه وسلم أمر أن يقوله.
هذا الذي أدعوكم إليه. صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه.
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ عن المتابعة. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثابت عداوته بأن أخرجكم عن الجنة وعرضكم للبلية.(5/94)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 64]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو بآيات الإِنجيل، أو بالشرائع الواضحات. قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ بالإِنجيل أو بالشريعة. وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهو ما يكون من أمر الدين لا ما يتعلق بأمر الدنيا، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا لبيانه، ولذلك
قال عليه الصلاة والسلام «أنتم أعلم بأمر دنياكم» .
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما أبلغه عنه.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بيان لما أمرهم بالطاعة فيه، وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع.
هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ الإِشارة إلى مجموع الأمرين وهو تتمة كلام عيسى عليه السلام، أو استئناف من الله تعالى يدل على ما هو المقتضي للطاعة في ذلك.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 65 الى 67]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ الفرق المتحزبة. مِنْ بَيْنِهِمْ من بين النصارى أو اليهود والنصارى من بين قومه المبعوث إليهم. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من المتحزبين مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هو القيامة.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ الضمير لقريش أو لِلَّذِينَ ظَلَمُوا. أَنْ تَأْتِيَهُمْ بدل من السَّاعَةَ والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة. بَغْتَةً فجأة. وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ غَافِلُونَ عنها لاشتغالهم بأمور الدنيا وإنكارهم لها.
الْأَخِلَّاءُ الأحباء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي يتعادون يومئذ لانقطاع العلق لظهور ما كانوا يتخالون له سبباً للعذاب. إِلَّا الْمُتَّقِينَ فإن خلتهم لما كانت في الله تبقى نافعة أبد الآباد.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 68 الى 69]
يا عِبادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69)
يا عِبادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ حكاية لما ينادي به المتقون المتحابون في الله يومئذ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص بغير الياء.
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا صفة المنادي. وَكانُوا مُسْلِمِينَ حال من الواو أي الذين آمنوا مخلصين، غير أن هذه العبارة آكد وأبلغ.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 70 الى 71]
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ نساؤكم المؤمنات. تُحْبَرُونَ تسرون سروراً يظهر حباره أي أثره على وجوهكم، أو تزينون من الحبر وهو حسن الهيئة أو تكرمون إكراماً يبالغ فيه، والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ الصحاف جمع صحفة، والأكواب جمع كوب وهو كوز لا(5/95)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
عروة له. وَفِيها وفي الجنة مَا تَشْتَهِى الأنفس وقرأ نافع وابن عامر وحفص تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ على الأصل. وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ بمشاهدته وذلك تعميم بعد تخصيص ما يعد من الزوائد في التنعم والتلذذ. وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الحال.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 72 الى 73]
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقرأ ورثتموها، شبه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه عليه العامل، وتلك إشارة إلى الجنة المذكورة وقعت مبتدأ والجنة خبرها، والَّتِي أُورِثْتُمُوها صفتها أو الْجَنَّةُ صفة تِلْكَ والَّتِي خبرها أو صفة الْجَنَّةُ والخبر بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وعليه يتعلق الباء بمحذوف لا ب أُورِثْتُمُوها.
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ بعضها تأكلون لكثرتها ودوام نوعها، ولعل تفصيل التنعم بالمطاعم والملابس وتكريره في القرآن وهو حقير بالإضافة إلى سائر نعائم الجنة لما كان بهم من الشدة والفاقة.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 76]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ الكاملين في الإِجرام وهم الكفار لأنه جعل قسيم المؤمنين بالآيات، وحكى عنهم ما يخص بالكفار. فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ خبر إن أو خالدون خبر والظرف متعلق به.
لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلاً والتركيب للضعف. وَهُمْ فِيهِ في العذاب مُبْلِسُونَ آيسون من النجاة.
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ مر مثله غير مرة وهم فصل.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 77 الى 78]
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)
وَنادَوْا يا مالِكُ وقرئ «يا مال» على الترخيم مكسوراً ومضموماً، ولعله إشعار بأنهم لضعفهم لا يستطيعون تأدية اللفظ بالتمام ولذلك اختصروا فقالوا: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ والمعنى سل ربنا أن يقضي علينا من قضى عليه إذا أماته، وهو لا ينافي إبلاسهم فإنه جؤار وتمن للموت من فرط الشدة قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لا خلاص لكم بموت ولا بغيره.
لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ بالإِرسال والإِنزال، وهو تتمة الجواب إن كان في قالَ ضمير الله وإلا فجواب منه فكأنه تعالى تولى جوابهم بعد جواب مالك. وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لما في اتباعه من إتعاب النفس وآداب الجوارح.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 79 الى 80]
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً في تكذيب الحق ورده ولم يقتصروا على كراهته. فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أمراً في مجازاتهم والعدول عن الخطاب للإشعار بأن ذلك أسوأ من كراهتهم، أو أم أحكم المشركون أمراً من كيدهم بالرسول(5/96)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كيدنا بهم، ويؤيده قوله:
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ حديث أنفسهم بذلك. وَنَجْواهُمْ وتناجيهم. بَلى نسمعهما.
وَرُسُلُنا والحفظة مع ذلك. لَدَيْهِمْ ملازمة لهم. يَكْتُبُونَ ذلك.
[سورة الزخرف (43) : آية 81]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81)
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ منكم فإن النبي صلّى الله عليه وسلم يكون أعلم بالله وبما يصح له وبما لا يصح له، وأولى بتعظيم ما يوجب تعظيمه ومن تعظيم الوالد تعظيم ولده، ولا يلزم من ذلك صحة كينونة الولد وعبادته له إذ المحال قد يستلزم المحال بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا غير أن لَوْ ثم مشعرة بانتفاء الطرفين، وإن هاهنا لا تشعر به ولا بنقيضه فإنها لمجرد الشريطة بل الانتفاء معلوم لانتفاء اللازم الدال على انتفاء ملزومه، والدلالة على أن إنكاره الولد ليس لعناد ومراء بل لو كان لكان أولى الناس بالاعتراف به. وقيل معناه إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول العابدين لله الموحدين له أو الآنفين منه، أو من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه، أو ما كان له ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة. وقرأ حمزة والكسائي وَلَدَ بالضم وسكون اللام.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 82 الى 83]
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ عن كونه ذا ولد فإن هذه الأجسام لكونها أصولاً ذات استمرار تبرأت عما يتصف به سائر الأجسام من توليد المثل، فما ظنك بمبدعها وخالقها.
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم. وَيَلْعَبُوا في دنياهم. حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي يوم القيامة، وهو دلالة على أن قولهم هذا جهل واتباع هوى، وإنهم مطبوع على قلوبهم معذبون في الآخرة.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 84 الى 85]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ مستحق لأن يعبد فيهما، والظرف متعلق به لأنه بمعنى المعبود أو متضمن معناه كقولك: هو حاتم في البلد، وكذا فيمن قرأ «الله» والراجع مبتدأ محذوف لطول الصلة بمتعلق الخبر والعطف عليه، ولا يجوز جعله خبراً له لأنه لا يبقى له عائد لكن لو جعل صلة وقدر الإِله مبتدأ محذوف يكون به جملة مبينة للصلة دالة على أن كونه في السماء بمعنى الألوهية دون الاستقرار، وفيه نفي الآلهة السماوية والأرضية واختصاصه باستحقاق الألوهية. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ كالدليل عليه.
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما كالهواء. وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ العلم بالساعة التي تقوم القيامة فيها. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم وروح بالتاء على الالتفات للتهديد.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 86 الى 87]
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله.(5/97)
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بالتوحيد، والاستثناء متصل إن أريد بالموصول كل ما عبد من دون الله لاندراج الملائكة والمسيح فيه، ومنفصل إن خص بالأصنام.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ سألت العابدين أو المعبودين. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لتعذر المكابرة فيه من فرط ظهوره فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 88 الى 89]
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
وَقِيلِهِ وقول الرسول ونصبه للعطف على سرهم، أو على محل الساعة أو لإِضمار فعله أي وقال قِيلِهِ. وجره عاصم وحمزة عطفا على السَّاعَةِ، وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ خبره: يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ أو معطوف على عِلْمُ السَّاعَةِ بتقدير مضاف. وقيل هو قسم منصوب بحذف الجار أو مجرور بإضماره، أو مرفوع بتقدير وَقِيلِهِ يا رَبِّ قسمي، وإِنَّ هؤُلاءِ جوابه.
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ فأعرض عن دعوتهم آيساً عن إيمانهم. وَقُلْ سَلامٌ تسلم منكم ومتاركة. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تسلية للرسول وتهديد لهم، وقرأ نافع وابن عامر بالتاء على أنه من المأمور بقوله.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة يا عبادي لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم ولا أنتم تحزنون» .(5/98)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
(44) سورة الدخان
مكية إِلا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) الآية، وهي سبع أو تسع وخمسون آية
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
حَم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ القرآن والواو للعطف إن كان حم مقسماً به وإلا فللقسم والجواب قوله:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ليلة القدر، أو البراءة ابتدئ فيها إنزاله، أو أنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ، ثم أنزل على الرسول صلّى الله عليه وسلم نجوماً وبركتها لذلك، فإن نزول القرآن سبب للمنافع الدينية والدنيوية، أو لما فيها من نزول الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وقسم النعمة وفصل الأقضية. إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ استئناف يبين المقتضى للإنزال وكذلك قوله:
[سورة الدخان (44) : الآيات 4 الى 6]
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فَإِن كونها مفرق الأمور المحكمة أو الملتبسة بالحكمة يستدعي أن ينزل فيها القرآن الذي هو من عظائمها، ويجوز أن يكون صفة لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وما بينهما اعتراض، وهو يدل على أن الليلة ليلة القدر لأنه صفتها لقوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وقرئ «يُفْرَقُ» بالتشديد و «يُفْرَقُ كل» أي يفرقه الله، و «نفرق» بالنون.
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا أي أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا على مقتضى حكمتنا، وهو مزيد تفخيم للأمر ويجوز أن يكون حالاً من (كل) أو أمر، أو ضميره المستكن في حَكِيمٍ لأنه موصوف، وأن يكون المراد به مقابل النهي وقع مصدراً ل يُفْرَقُ أو لفعله مضمراً من حيث أن الفرق به، أو حالاً من أحد ضميري أَنْزَلْناهُ بمعنى آمرين أو مأموراً. إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ.
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ بدل من إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لأجل الرحمة عليهم، وضع الرب موضع الضمير للإِشعار بأن الربوبية اقتضت ذلك، فإنه أعظم أنواع التربية أو علة ل يُفْرَقُ أو أَمْراً، ورَحْمَةً مفعول به أي يفصل فيها كل أمر أو تصدر الأوامر مِنْ عِنْدِنا لأن من شأننا أن نرسل رحمتنا، فإن فصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها وصدور الأوامر الإِلهية من باب الرحمة، وقرئ «رَحْمَةً» على تلك رحمة. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع أقوال العباد ويعلم أحوالهم، وهو بما بعده تحقيق لربوبيته فإنها لا تحق إلا لمن هذه صفاته.
[سورة الدخان (44) : الآيات 7 الى 9]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)(5/99)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما خبر آخر أو استئناف. وقرأ الكوفيون بالجر بدلاً مِنْ رَبِّكَ.
إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم، أو كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم من خلقها؟
فقلتم الله، علمتم أن الأمر كما قلنا، أو إن كنتم مريدين اليقين فاعلموا ذلك.
لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا خالق سواه. يُحْيِي وَيُمِيتُ كما تشاهدون. رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وقرئا بالجر بدلاً مِنْ رَبِّكَ.
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ رد لكونهم موقنين.
[سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 11]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11)
فَارْتَقِبْ فانتظر لهم. يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان من ضعف بصره، أو لأن الهواء يظلم عام القحط لقلة الأمطار وكثرة الغبار، أو لأن العرب تسمي الشر الغالب دخاناً وقد قحطوا حتى أكلوا جيف الكلاب وعظامها، وإسناد الإتيان إلى السماء لأن ذلك يكفه عن الأمطار، أو يوم ظهور الدخان المعدود في أشراط الساعة لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال: أول الآيات الدخان ونزول عيسى عليه السلام، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر. قيل وما الدخان فتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآية وقال: «يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره»
أو يوم القيامة والدخان يحتمل المعنيين.
يَغْشَى النَّاسَ يحيط بهم صفة للدخان وقوله: هذا عَذابٌ أَلِيمٌ.
[سورة الدخان (44) : الآيات 12 الى 14]
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ مقدر بقول وقع حالا وإِنَّا مُؤْمِنُونَ وعد بالإِيمان إن كشف العذاب عنهم.
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى من أين لهم وكيف يتذكرون بهذه الحالة. وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ بين لهم ما هو أعظم منها في إيجاب الإذكار من الآيات والمعجزات.
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي قال بعضهم يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف وقال آخرون إنه مَجْنُونٌ.
[سورة الدخان (44) : الآيات 15 الى 16]
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام فإنه لما دعا رفع القحط قَلِيلًا كشفا قليلاً أو زماناً قليلاً وهو ما بقي من أعمارهم. إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر غب الكشف، ومن فسر الدخان بما هو من الأشراط قال إذا جاء الدخان غوث الكفار بالدعاء فيكشفه الله عنهم بعد الأربعين، فريثما يكشفه عنهم يرتدون، ومن فسره بما في القيامة أوله بالشرط والتقدير:
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يوم القيامة أو يوم بدر ظرف لفعل دل عليه. إِنَّا مُنْتَقِمُونَ لا لمنتقمون فإن إن تحجزه عنه، أو بدل من يَوْمَ تَأْتِي. وقرئ «نَبْطِشُ» أي نجعل البطشة الكبرى باطشة بهم، أو تحمل الملائكة على بطشهم وهو التناول بصولة.(5/100)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 18]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام إليهم، أو أوقعناهم في الفتنة بالإِمهال وتوسيع الرزق عليهم. وقرئ بالتشديد للتأكيد أو لكثرة القوم. وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على الله أو على المؤمنين أو في نفسه لشرف نسبه وفضل حسبه.
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ بأن أدوهم إلى وأرسلوهم معي، أو بأن أدوا إلي حق الله من الإِيمان وقبول الدعوة يا عباد الله، ويجوز أن تكون أَنْ مخففة ومفسرة لأن مجيء الرسول يكون برسالة ودعوة. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ غير متهم لدلالة المعجزات على صدقه، أو لائتمان الله إياه على وحيه وهو علة الأمر.
[سورة الدخان (44) : الآيات 19 الى 20]
وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ولا تتكبروا عليه بالاستهانة بوحيه ورسوله، وأَنْ كالأولى في وجهيها.
إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ علة للنهي ولذكر ال أَمِينٌ مع الأداء، والسلطان مع العلاء شأن لا يخفى.
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ التجأت إليه وتوكلت عليه. أَنْ تَرْجُمُونِ أن تؤذوني ضرباً أو شتماً أو أن تقتلوني. وقرئ «عت» بالإدغام فيه.
[سورة الدخان (44) : الآيات 21 الى 22]
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي، ولا تتعرضوا إليَّ بسوء فإنه ليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم.
فَدَعا رَبَّهُ بعد ما كذبوه. أَنَّ هؤُلاءِ بأن هؤلاء قَوْمٌ مُجْرِمُونَ وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به ولذلك سماه دعاء، وقرئ بالكسر على إضمار القول.
[سورة الدخان (44) : الآيات 23 الى 24]
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي فقال أسر أو قال إن كان الأمر كذلك فَأَسْرِ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير بوصل الهمزة من سرى إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم.
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً مفتوحاً ذا فجوة واسعة أو ساكناً على هيئته بعد ما جاوزته ولا تضربه بعصاك ولا تغير منه شيئاً ليدخله القبط إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ وقرئ بالفتح بمعنى لأنهم.
[سورة الدخان (44) : الآيات 25 الى 27]
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27)
كَمْ تَرَكُوا كثيراً تَرَكُواْ. مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ محافل مزينة ومنازل حسنة.
وَنَعْمَةٍ وتنعم. كانُوا فِيها فاكِهِينَ متنعمين، وقرئ «فكهين» .
[سورة الدخان (44) : الآيات 28 الى 29]
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)
كَذلِكَ مثل ذلك الإِخراج أخرجناهم أو الأمر كذلك. وَأَوْرَثْناها عطف على المقدر أو على تَرَكُوا. قَوْماً آخَرِينَ ليسوا منهم في شيء وهم بنو إسرائيل، وقيل غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر.(5/101)
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ مجاز من عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم كقولهم:
بكت عليهم السماء والأرض وكسفت لمهلكهم الشمس في نقيض ذلك. ومنه ما
روي في الأخبار: إن المؤمن ليبكي عليه مصلاه ومحل عبادته ومصعد عمله ومهبط رزقه.
وقيل تقديره فما بكت عليهم أهل السماء والأرض وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ممهلين إلى وقت آخر.
[سورة الدخان (44) : الآيات 30 الى 31]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ من استعباد فرعون وقتله أبناءهم.
مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من الْعَذابِ على حذف المضاف، أو جعله عذاب لإِفراطه في التعذيب، أو حال من المهين بمعنى واقعاً من جهته، وقرئ «مِن فِرْعَوْنَ» على الاستفهام تنكير له لنكر ما كان عليه من الشيطنة. إِنَّهُ كانَ عالِياً متكبراً. مِنَ الْمُسْرِفِينَ في العتو والشرارة، وهو خبر ثان أي كان متكبراً مسرفاً، أو حال من الضمير في عالِياً أي كان رفيع الطبقة من بينهم.
[سورة الدخان (44) : الآيات 32 الى 33]
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ اخترنا بني إسرائيل. عَلى عِلْمٍ عالمين بأنهم أحقاء بذلك، أو مع علم منا بأنهم يزيغون في بَعض الأحوال. عَلَى الْعالَمِينَ لكثرة الأنبياء فيهم أو على عالمي زمانهم.
وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى. مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ نعمة جلية أو اختبار ظاهر.
[سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 35]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)
إِنَّ هؤُلاءِ يعني كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإِصرار على الضلالة، والإِنذار عن مثل ما حل بهم. لَيَقُولُونَ.
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية، ولا قصد فيه إلى إثبات ثانية كما في قولك. حج زيد الحجة الأولى ومات. وقيل لما قيل إنكم تموتون موتة يعقبها حياة كما تقدم منكم موتة كذلك قالوا إن هي إلا موتتنا الأولى، أي ما الموتة التي من شأنها كذلك إلا الموتة الأولى. وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ بمبعوثين.
[سورة الدخان (44) : الآيات 36 الى 37]
فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)
فَأْتُوا بِآبائِنا خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول والمؤمنين. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم ليدل عليه.
أَهُمْ خَيْرٌ في القوة والمنعة. أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ تبع الحميري الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبنى سمرقند.
وقيل هدمها وكان مؤمناً وقومه كافرين ولذلك ذمهم دونه.
وعنه عليه الصلاة والسلام: «ما أدري أكان تبع نبياً أم غير نبي» .
وقيل لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون كما قيل لهم الأقيال لأنهم يتقيلون. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد وثمود. أَهْلَكْناهُمْ استئناف بمآل قوم تبع، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو خبر من الموصول إن استؤنف به. إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ بيان للجامع المقتضي للإهلاك.(5/102)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
[سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 39]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (39)
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما وَمَا بين الجنسين وقرئ «وما بينهن» . لاعِبِينَ لاهين، وهو دليل على صحة الحشر كما مر في الأنبياء وغيرها.
مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ إلا بسبب الحق الذي اقتضاه الدليل من الإِيمان والطاعة، أو البعث والجزاء.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ لقلة نظرهم.
[سورة الدخان (44) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ فصل الحق عن الباطل، أو المحق عن المبطل بالجزاء، أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبائه. مِيقاتُهُمْ وقت موعدهم. أَجْمَعِينَ وقرئ «ميقاتهم» بالنصب على أنه الاسم أي إن ميعاد جزائهم في يَوْمَ الْفَصْلِ.
يَوْمَ لاَ يُغْنِي بدل من يَوْمَ الْفَصْلِ أو صفة ل مِيقاتُهُمْ، أو ظرف لما دل عليه الفصل لا له الفصل. مَوْلًى من قرابة أو غيرها. عَنْ مَوْلًى أي مولى كان. شَيْئاً من الاغناء. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ الضمير ل مَوْلًى الأول باعتبار المعنى لأنه عام.
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه، ومحله الرفع على البدل من الواو أو النصب على الاستثناء إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ لا ينصر منه من أراد تعذيبه. الرَّحِيمُ لمن أراد أن يرحمه.
[سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 46]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ وقرئ بكسر الشين ومعنى الزَّقُّومِ سبق في «الصافات» .
طَعامُ الْأَثِيمِ الكثير الآثام، والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه.
كَالْمُهْلِ وهو ما يمهل في النار حتى يذوب. وقيل دردي الزيت. تغلي فِى البطون وقرأ ابن كثير وحفص ورويس بالياء على أن الضمير لل طَعامُ، أو الزَّقُّومِ لا «للمهل» إذ الأظهر أن الجملة حال من أحدهما.
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ غلياناً مثل غليه.
[سورة الدخان (44) : الآيات 47 الى 50]
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
خُذُوهُ على إرادة القول والمقول له الزبانية. فَاعْتِلُوهُ فجروه والعتل الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر، وقرأ الحجازيان وابن عامر ويعقوب بالضم وهما لغتان. إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ وسطه.
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ كان أصله يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم فقيل يُصَبُّ مِن فَوْقَ رُؤُوسَهُمْ عَذابِ هو الْحَمِيمِ للمبالغة، ثم أضيف ال عَذابِ إلى الْحَمِيمِ للتخفيف وزيد من للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع.(5/103)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي وقولوا له ذلك استهزاء به وتقريعا على ما كان يزعمه، وقرأ الكسائي إِنَّكَ بالفتح أي ذق لأنك أو عَذابِ إِنَّكَ.
إِنَّ هَذَا إن هذا. العذاب. مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تشكون وتمارون فيه.
[سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 57]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ في موضع إقامة، وقرأ نافع وابن عامر بضم الميم أَمِينٍ يأمن صاحبه عن الآفة والانتقال.
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
بدل من مقام جيء به للدلالة على نزاهته، واشتماله على ما يستلذ به من المآكل والمشارب.
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ خبر ثان أو حال من الضمير في الجار أو استئناف، والسندس ما رَقَّ من الحرير والاستبرق ما غلظ منه معرب استبره، أو مشتق من البراقة. مُتَقابِلِينَ في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض. كَذلِكَ الأمر كذلك أو آتيناهم مثل ذلك. وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ قرناهم بهن ولذلك عدي بالباء، والحوراء البيضاء والعيناء عظيمة العينين، واختلف في أنهن نساء الدنيا أو غيرها.
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه لا يتخصص شيء منها بمكان ولا بزمان. آمِنِينَ من الضرر.
لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى بل يحيون فيها دائماً، والاستثناء منقطع أو متصل والضمير للآخرة والْمَوْتَ أول أحوالها، أو الجنة والمؤمن يشارفها بالموت ويشاهدها عنده فكأنه فيها، أو الإِستثناء للمبالغة في تعميم النفي وامتناع الْمَوْتَ فكأنه قال: لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل. وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وقرئ «ووقاهم» على المبالغة.
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلاً منه. وقرئ بالرفع أي ذلك فضل. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنه خلاص عن المكاره وفوز بالمطالب.
[سورة الدخان (44) : الآيات 58 الى 59]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ سهلناه حيث أنزلناه بلغتك وهو فذلكة السورة. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعلهم يفهمونه فيتذكرون به ما لم يتذكروا.
فَارْتَقِبْ فانتظر ما يحل بهم. إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون ما يحل بك.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ حم الدخان ليلة جمعة أصبح مغفوراً له» .(5/104)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
(45) سورة الجاثية
مكية وآيها سبع أو ست وثلاثون آية
[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ إن جعلت حم مبتدأ خبره تَنْزِيلُ الْكِتابِ احتجت إلى إضمار مثل ذلك تَنْزِيلُ حم، وإن جعلتها تعديداً للحروف كان تَنْزِيلُ مبتدأ خبره: مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وقيل حم مقسم به وتَنْزِيلُ الْكِتابِ صفته وجواب القسم:
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وهو يحتمل أن يكون على ظاهره وأن يكون المعنى إِنَّ فِي خَلْقِ السموات لقوله:
وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ وَلاَ يحسن عطف ما على الضمير المجرور بل عطفه على المضاف إليه بأحد الاحتمالين، فإن بثه وتنوعه واستجماعه لما به يتم معاشه إلى غير ذلك دلائل على وجود الصانع المختار. آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ محمول على محل إن واسمها، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بالنصب حملا على الاسم.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 5 الى 6]
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ من مطر وسماه رزقاً لأنه سببه. فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يبسها. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ باختلاف جهاتها وأحوالها، وقرأ حمزة والكسائي «وتصريف الريح» . آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فيه القراءتان ويلزمهما العطف على عاملين في والابتداء، أو أن إلا أن يضمر في أو ينصب آياتٌ على الاختصاص أو يرفع بإضمار هي، ولعل اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدقة والظهور.
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ أي تلك الآيات دلائله نَتْلُوها عَلَيْكَ حال عاملها معنى الإِشارة. بِالْحَقِّ ملتبسين به أو ملتبسة به. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ أي بعد آيات اللهِ، وتقديم اسم اللَّهِ للمبالغة والتعظيم كما في قولك أعجبني زيد وكرمه أو بعد حديث اللَّهِ وهو القرآن كقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وآياتِهِ دلائله المتلوة أو القرآن، والعطف لتغاير الوصفين. وقرأ الحجازيان وحفص وأبو عمرو وروح يُؤْمِنُونَ بالياء ليوافق ما قبله.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 10]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10)(5/105)
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ كذاب. أَثِيمٍ كثير الآثام.
يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ يقيم على كفره. مُسْتَكْبِراً عن الإِيمان بالآيات وثُمَّ لاستبعاد الإِصرار بعد سماع الآيات كقوله: يَرَى غَمَرات ثُمَّ يَزُورهَا. كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي كأنه فخففت وحذف ضمير الشأن والجملة في موضع الحال، أي يصر مثل غير السامع. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ على إصراره والبشارة على الأصل أو التهكم.
وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً وإذا بَلغه شيء من آياتِنا وعلم أنه منها. اتَّخَذَها هُزُواً لذلك من غير أن يرى فيها ما يناسب الهزء، والضمير ل آياتِنا وفائدته الإِشعار بأنه إذا سمع كلاماً وعلم أنه من الآيات بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على ما سمعه، أو لشيء لأنه بمعنى الآية. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ من قدامهم لأنهم متوجهون إليها، أو من خلفهم لأنها بعد آجالهم. وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ولا يدفع عنهم. مَّا كَسَبُوا من الأموال والأولاد. شَيْئاً من عذاب الله. وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي الأصنام. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يتحملونه.
[سورة الجاثية (45) : آية 11]
هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
هذا هُدىً الإِشارة إلى القرآن ويدل عليه قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص برفع أَلِيمٌ وال رِجْزٍ أشد العذاب.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 13]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه. لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ بتسخيره وأنتم راكبوها. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ التجارة والغوص والصيد وغيرها. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم.
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً بأن خلقها نافعة لكم. مِنْهُ حال من ما أي سخر هذه الأشياء كائنة منه، أو خبر لمحذوف أي هي جميعاً منه، أو ل مَا فِي السَّماواتِ وَسَخَّرَ لَكُمْ تكرير للتأكيد أو ل ما فِي الْأَرْضِ، وقرئ منه على المفعول له ومنه على أنه فاعل سَخَّرَ على الإِسناد المجازي أو خبر محذوف. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في صنائعه.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 14 الى 15]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا حذف المقول لدلالة الجواب عليه، والمعنى قل لهم اغفروا يغفروا أي يعفوا ويصفحوا. لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لاَ يتوقعون وقائعه بأعدائه من قولهم أيام العرب لوقائعهم، أو لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لنصر المؤمنين وثوابهم ووعدهم بها. والآية نزلت في عمر رضي الله عنه شتمه غفاري فهم أن يبطش به، وقيل إنها منسوخة بآية القتال. لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ علة للأمر، والقوم هم المؤمنون أو الكافرون أو كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو الشيوع، والكسب المغفرة أو(5/106)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
الإساءة أو ما يعمهما. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «لنجزي» بالنون وقرئ «ليجزي قوم» و «ليجزي قوماً» أي ليجزي الخير أو الشر أو الجزاء، أعني ما يجزى به لا المصدر فإن الإسناد إليه سيما مع المفعول به ضعيف.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي لها ثواب العمل وعليها عقابه. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ فَيجازيكم على أعمالكم.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 17]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ التوراة. وَالْحُكْمَ والحكمة النظرية والعملية أو فصل الخصومات.
وَالنُّبُوَّةَ إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثروا في غيرهم. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ مما أحل الله من اللذائذ.
وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم.
وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أدلة في أمر الدين ويندرج فيها المعجزات. وقيل آيات من أمر النبي عليه الصلاة والسلام مبينة لصدقه. فَمَا اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر. إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بحقيقة الحال.
بَغْياً بَيْنَهُمْ عداوة وحسداً. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بالمؤاخذة والمجازاة.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 18 الى 19]
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ طريقة مِنَ الْأَمْرِ من أمر الدين. فَاتَّبِعْها فاتبع شريعتك الثابتة بالحجج.
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ آراء الجهال التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش قالوا له ارجع إلى دين آبائك.
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً مما أراد بك. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إذ الجنسية علة الانضمام فلا توالهم باتباع أهوائهم. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ فواله بالتقى واتباع الشريعة.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 20 الى 21]
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21)
هذا أي القرآن أو اتباع الشريعة. بَصائِرُ لِلنَّاسِ بينات تبصرهم وجه الفلاح. وَهُدىً من الضلالة. وَرَحْمَةٌ وَنعمة من الله. لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يطلبون اليقين.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
أَمْ منقطعة ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة. أَنْ نَجْعَلَهُمْ
أن نصيرهم. كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
مثلهم وهو ثاني مفعولي نجعل وقوله: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
بدل منه إن كان الضمير للموصول الأول لأن المماثلة فيه إذ المعنى انكار أن يكون حياتهم ومماتهم سيين في البهجة والكرامة كما هو للمؤمنين، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص سَوَآء بالنصب على البدل أو الحال من الضمير في الكاف، أو المفعولية والكاف حال وإن كان للثاني فحال منه أو استئناف يبين المقتضى للانكار، وإن كان لهما فبدل أو حال من الثاني، وضمير الأول والمعنى إنكار أن يستووا بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استووا في الرزق والصحة في الحياة،(5/107)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
أو استئناف مقرر لتساوي محيا كل صنف ومماته في الهدى والضلال، وقرئ «مَمَاتَهُمْ» بالنصب على أن مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
ظرفان كمقدم الحاج. ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
ساء حكمهم هذا أو بئس شيئاً حكموا به ذلك.
[سورة الجاثية (45) : آية 22]
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ كأنه دليل على الحكم السابق من حيث أن خلق ذلك بالحق المقتضي للعدل يستدعي انتصار المظلوم من الظالم، والتفاوت بين المسيء والمحسن وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات. وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ عَطف على بالحق لأنه في معنى العلة أو على علة محذوفة مثل ليدل بها على قدرته أو ليعدل وَلِتُجْزى. وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بنقص ثواب وتضعيف عقاب، وتسمية ذلك ظلماً ولو فعله الله لم يكن منه ظلماً لأنه لو فعله غيره لكان ظلماً كالابتلاء والاختبار.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 25]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى فكأنه يعبده، وقرئ «آلهة هواه» لأنه كان أحدهم يستحسن حجراً فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه إليه. وَأَضَلَّهُ اللَّهُ وخذله. عَلى عِلْمٍ عالِماً بضلاله وفساد جوهر روحه. وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ فلا يبالي بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات. وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فلا ينظر بعين الاستبصار والاعتبار، وقرأ حمزة والكسائي «غشوة» . فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ من بعد إضلاله. أَفَلا تَذَكَّرُونَ وقرئ «تتذكرون» .
وَقالُوا مَا هِيَ ما الحياة أو الحال. إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التي نحن فيها. نَمُوتُ وَنَحْيا أي نكون أمواتاً نطفاً وما قبلها ونحيا بعد ذلك، أو نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا، أو يموت بعضنا ويحيا بعضنا، أو يصيبنا الموت والحياة فيها وليس وراء ذلك حياة ويحتمل أنهم أرادوا به التناسخ فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان.
وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ إلا مرور الزمان وهو في الأصل مدة بقاء العالم من دهره إذا غلبه. وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ يعني نسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك وما يتعلق بها على الاستقلال، أو إنكار البعث أو كليهما.
إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ إذ لا دليل لهم عليه وإنما قالوه بناء على التقليد والإِنكار لما لم يحسوا به.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على ما يخالف معتقدهم أو مبينات له. مَّا كانَ حُجَّتَهُمْ ما كان لهم متشبث يعارضونها به. إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وإنما سماه حجة على حسبانهم ومساقهم، أو على أسلوب قولهم: تحية بَيْنَهمْ ضَرْبٌ وجِيعٌ. فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء حالا امتناعه مطلقا.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 26 الى 27]
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ على ما دلت عليه الحجج. ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ فإن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما قرر مراراً، والوعد(5/108)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
المصدق بالآيات دل على وقوعها، وإذا كان كذلك أمكن الإتيان بآبائهم لكن الحكمة اقتضت أن يعادوا يوم الجمع للجزاء. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ لقلة تفكرهم وقصور نظرهم على ما يحسونه.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تعميم للقدرة بعد تخصيصها. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ أي ويخسر يوم تقوم ويَوْمَئِذٍ بدل منه.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 28 الى 29]
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً مجتمعة من الجثوة وهي الجماعة، أو باركة مستوفزة على الركب. وقرئ «جاذية» أي جالسة على أطراف الأصابع لاستيفازهم. كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا صحيفة أعمالها. وقرأ يعقوب كُلَّ على أنه بدل من الأول وتدعى صفة أو مفعول ثان. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ محمول على القول.
هذا كِتابُنا أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم. يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان. إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ نستكتب الملائكة. مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أعمالكم.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 30 الى 31]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ التي من جملتها الجنة. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الظاهر لخلوصه عن الشوائب.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أي فيقال لهم ألم يأتكم رسلي أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فحذف القول والمعطوف عليه اكتفاء بالمقصود واستغناء بالقرينة. فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإِيمان بها.
وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ عادتكم الإِجرام.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 32 الى 33]
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33)
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ يحتمل الموعود به والمصدر. حَقٌّ كائن هو أو متعلقه لا محالة: وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيها إفراد للمقصود، وقرأ حمزة بالنصب عطفاً على اسم إن. قُلْتُمْ مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي شيء الساعة استغراباً لها. إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أصله نظن ظناً فأدخل حرفا النفي والاستثناء لإثبات الظن ونفي ما عداه كأنه قال: ما نحن إلّا نظن ظناً، أو لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغة ثم أكده بقوله: وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي لإِمكانه، ولعل ذلك قول بعضهم تحيروا بين ما سمعوا من آبائهم وما تليت عليهم من الآيات في أمر الساعة.
وَبَدا لَهُمْ ظهر لهم. سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا على ما كانت عليه بأن عرفوا قبحها وعاينوا وخامة عاقبتها، أو جزاءها. وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وهو الجزاء.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 34 الى 35]
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)(5/109)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم في العذاب ترك ما ينسى. كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا كما تركتم عدته ولم تبالوا به، وإضافة لقاء إلى يوم إضافة المصدر إلى ظرفه. وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم منها.
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً استهزأتم بها ولم تتفكروا فيها. وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فحسبتم أن لا حياة سواها. فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْها وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الراء. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه لفوات أوانه.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37]
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ إذ الكل نعمة منه ودال على كمال قدرته. وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إذ ظهر فيها آثارها. وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلب. الْحَكِيمُ فيما قدر وقضى فاحمدوه وكبروه وأطيعوا له.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب» .(5/110)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
(46) سورة الأحقاف
مكية وآيها أربع أو خمس وثلاثون آية
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ إلا خلقاً ملتبساً بالحق وهو ما تقتضيه الحكمة والمعدلة، وفيه دلالة على وجود الصانع الحكيم، والبعث للمجازاة على ما قررناه مراراً. وَأَجَلٍ مُسَمًّى وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه الكل وهو يوم القيامة، أو كل واحد وهو آخر مدة بقائه المقدرة له. وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا من هول ذلك الوقت، ويجوز أن تكون «ما» مصدرية. مُعْرِضُونَ لا يتفكرون فيه ولا يستعدون لحلوله.
[سورة الأحقاف (46) : آية 4]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمل فيها، هل يعقل أن يكون لها في أنفسها مدخل في خلق شيء من أجزاء العالم فتستحق به العبادة. وتخصيص الشرك بالسموات احتراز عما يتوهم أن للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية. ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا من قبل هذا الكتاب يعني القرآن فإنه ناطق بالتوحيد. أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين عل فيها ما يدل على استحقاقهم للعبادة أو الأمر به.
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم، وهو إلزام بعدم ما يدل على ألوهيتهم بوجه ما نقلاً بعد إلزامهم بعدم ما يقتضيها عقلا، وقرئ «إثارة» بالكسر أي مناظرة فإن المناظرة تثير المعاني، و «أثرة» أي شيء أوثرتم به و «أثرة» بالحركات الثلاث في الهمزة وسكون الثاء فالمفتوحة للمرة من مصدر أثر الحديث إذا رواه والمكسورة بمعنى الأثرة والمضمومة اسم ما يؤثر.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 5 الى 6]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إنكار أن يكون أحد أضل من المشركين حيث تركوا عبادة السميع البصير المجيب القادر الخبير إلى عبادة من لا يستجيب لهم لو سمع دعاءهم، فضلاً أن يعلم سرائرهم ويراعي مصالحهم. إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ما دامت الدنيا. وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ لأنهم إما جمادات وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم.
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً يضرونهم ولا ينفعونهم. وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ مكذبين بلسان(5/111)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
الحال أو المقال. وقيل الضمير للعابدين وهو كقوله: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ واضحات أو مبينات. قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لأجله وفي شأنه، والمراد به الآيات ووضعه موضع ضميرها ووضع الَّذِينَ كَفَرُوا موضع ضمير المتلو عليهم للتسجيل عليها بالحق وعليهم بالكفر والانهماك في الضلالة. لَمَّا جاءَهُمْ حينما جاءهم من غير نظر وتأمل. هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر بطلانه.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب عن ذكر تسميتهم إياه سحراً إلى ذكر ما هو أشنع منه وإنكار له وتعجيب.
قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ على الفرض. فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي إن عاجلني الله بالعقوبة فلا تقدرون على دفع شيء منها فكيف أجترئ عليه وأعرض نفسي للعقاب من غير توقع نفع ولا دفع ضر من قبلكم. هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ تندفعون فيه من القدح في آياته. كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والإِنكار، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم جرمهم.
[سورة الأحقاف (46) : آية 9]
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ بديعاً منهم أدعوكم إلى ما لا يدعون إليه، أو أقدر على ما لم يقدروا عليه، وهو الإِتيان بالمقترحات كلها ونظيره الخف بمعنى الخفيف. وقرئ بفتح الدال على أنه كقيم أو مقدر بمضاف أي ذا بدع. وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ في الدارين على التفضيل إذ لا علم لي بالغيب، ولا لتأكيد النفي المشتمل على ما يفعل بي وَما إما موصولة منصوبة أو استفهامية مرفوعة. وقرئ «يَفْعَلُ» أي يفعل الله. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ لا أتجاوزه، وهو جواب عن اقتراحهم الإِخبار عما لم يوح إليه من الغيوب، أو استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذى المشركين. وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ من عقاب الله.
مُبِينٌ بين الإِنذار بالشواهد المبينة والمعجزات المصدقة.
[سورة الأحقاف (46) : آية 10]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي القرآن. وَكَفَرْتُمْ بِهِ وقد كفرتم به، ويجوز أن تكون الواو عاطفة على الشرط وكذا الواو في قوله: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلا أنها تعطفه بما عطف عليه على جملة ما قبله، والشاهد هو عبد الله بن سلام وقيل موسى عليه الصلاة والسلام وشهادته ما في التوراة من نعت الرسول عليه الصلاة والسلام. عَلى مِثْلِهِ مثل القرآن وهو ما في التوراة من المعاني المصدقة للقرآن المطابقة له، أو مثل ذلك وهو كونه من عند الله. فَآمَنَ أي بالقرآن لما رآه من جنس الوحي مطابقاً للحق.
وَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإِيمان. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ استئناف مشعر بأن كفرهم به لضلالهم المسبب عن ظلمهم، ودليل على الجواب المحذوف مثل ألستم ظالمين.(5/112)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 الى 12]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لأجلهم. لَوْ كانَ الإِيمان أو ما أتى به محمد عليه الصلاة والسلام.
خَيْراً مَّا سَبَقُونا إِلَيْهِ وهم سقاط إذ عامتهم فقراء وموال ورعاة، وإنما قاله قريش وقيل بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع لما أسلم جهينة ومزينة وأسلم وغفار، أو اليهود حين أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه. وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ظرف لمحذوف مثل ظهر عنادهم وقوله: فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ مسبب عنه وهو كقولهم:
أساطير الأولين. وَمِنْ قَبْلِهِ وَمَن قَبل القرآن وهو خبر لقوله: كِتابُ مُوسى ناصب لقوله: إِماماً وَرَحْمَةً على الحال. وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لكتاب موسى أو لما بين يديه وقد قرئ به. لِساناً عَرَبِيًّا حال من ضمير كِتابُ في مُصَدِّقٌ أو منه لتخصصه بالصفة، وعاملها معنى الإِشارة وفائدتها الإِشعار بالدلالة على أن كونه مصدقاً للتوراة كما دل على أنه حق دل على أنه وحي وتوقيف من الله سبحانه وتعالى.
وقيل مفعول مُصَدِّقٌ أي يصدق ذا لسان عربي بإعجازه. لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا علة مُصَدِّقٌ، وفيه ضمير الكتاب أو الله أو الرسول، ويؤيد الأخير قراءة نافع وابن عامر والبزي بخلاف عنه ويعقوب بالتاء وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ عطف على محله.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 الى 14]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا جَمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والإِستقامة في الأمور التي هي منتهى العمل، وثم للدلالة على تأخر رتبة العمل وتوقف اعتباره على التوحيد. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على فوات محبوب، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من اكتساب الفضائل العلمية والعملية، وخالدين حال من المستكن في أصحاب وجزاء مصدر لفعل دل عليه الكلام أي جوزوا جزاء.
[سورة الأحقاف (46) : آية 15]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وقرأ الكوفيون «إحسانا» ، وقرئ حَسَنًا أي إيصاء «حَسَنًا» . حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ذات كره أو حملاً ذا كره وهو المشقة، وقرأ الحجازيان وأبو عمرو وهشام بالفتح وهما لغتان كالفُقُر والفُقر. وقيل المضموم اسم والمفتوح مصدر. وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ومدة حَمْلُهُ وَفِصالُهُ، والفصال الفطام ويدل عليه قراءة يعقوب «وفصله» أو وقته والمراد به الرضاع التام المنتهى به ولذلك عبر به كما يعبر بالأمد عن المدة، قال:
كُلّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ عِدَّةَ العُم ... رِ وَمَود إِذَا انْتَهَى أَمَدّهُ
ثَلاثُونَ شَهْراً كل ذلك بيان لما تكابده الأم في تربية الولد مبالغة في التوصية بها، وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأنه إذا حط منه للفصال حولان لقوله: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ(5/113)
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
بقي ذلك وبه قال الأطباء ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع لانضباطهما وتحقق ارتباط حكم النسب والرضاع بهما. حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله. وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قيل لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين. قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ألهمني وأصله أولعني من أوزعته بكذا. أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ يعني نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ نكرة للتعظيم أو لأنه أراد نوعاً من الجنس يستجلب رضا الله عز وجل. وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي واجعل لي الصلاح سارياً في ذريتي راسخاً فيهم ونحوه قوله:
وَإِنْ تَعْتَذِرْ بالمَحل عَنْ ذِي ضُرُوعِهَا ... إِلَى الضَيْفِ يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبهَا نَصْلي
إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ عما لا ترضاه أو يشغل عنك. وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ المخلصين لك.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 16 الى 17]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا يعني طاعاتهم فإن المباح حسن ولا يثاب عليه. وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ لتوبتهم، وقرأ حمزة الكسائي وحفص بالنون فيهما. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ كائنين في عدادهم أو مثابين أو معدودين فيهم. وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد لنفسه فإن يتقبل ويتجاوز وعد. الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي في الدنيا.
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما مبتدأ خبره أُولئِكَ، والمراد به الجنس وإن صح نزولها في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، فإن خصوص السبب لا يوجب التخصيص. وفي أُفٍّ قراءات ذكرت في سورة «بني إسرائيل» . أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أبعث، وقرأ هشام «أتعداني» بنون واحدة مشددة. وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فلم يرجع أحد منهم. وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يقولان الغياث بالله منك، أو يسألانه أن يغيثه بالتوفيق للإيمان. وَيْلَكَ آمِنْ أي يقولان له وَيْلَكَ، وهو الدعاء بالثبور بالحث على ما يخاف على تركه. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أباطيلهم التي كتبوها.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 18 الى 19]
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بأنهم أهل النار وهو يرد النزول في عبد الرحمن لأنه يدل على أنه من أهلها لذلك وقد جب عنه إن كان لإسلامه. فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ كقوله في أصحاب الجنة. مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بيان للأمم. إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل للحكم على الاستئناف.
وَلِكُلٍّ من الفريقين. دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا مراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، أو من أجل ما عملوا وال دَرَجاتٌ غالبة في المثوبة وها هنا جاءت على التغليب. وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ جزاءها، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وابن ذكوان بالنون. وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بنقص ثواب وزيادة عقاب.
[سورة الأحقاف (46) : آية 20]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)(5/114)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يعذبون بها. وقيل تعرض النار عليهم فقلب مبالغة كقولهم:
عرضت الناقة على الحوض. أَذْهَبْتُمْ أي يقال لهم أذهبتم، وهو ناصب اليوم وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالاستفهام غير أن ابن كثير يقرؤه بهمزة ممدودة وهما يقرآن بها وبهمزتين محققتين. طَيِّباتِكُمْ لذاتكم. فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا باستيفائها. وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فما بقي لكم منها شيء. فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ الهوان وقد قرئ به. بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة الله، وقرئ «تفسقون» بالكسر.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 23]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23)
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هوداً. إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج، وكانوا يسكنون بين رمال مشرفة على البحر بالشجر من اليمن. وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ الرسل. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ قبل هود وبعده والجملة حال أو اعتراض. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا فإن النهي عن الشيء إنذار من مضرته. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هائل بسبب شرككم.
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا لتصرفنا. عَنْ آلِهَتِنا عن عبادتها. فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب على الشرك.
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعدك. قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ لا علم لي بوقت عذابكم ولا مدخل لي فيه فأستعجل به، وإنما علمه عند الله فيأتيكم به في وقته المقدر له. وَأُبَلِّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إليكم وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ. وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ لا تعلمون أن الرسل بعثوا مبلغين منذرين لا معذبين مقترحين.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 24 الى 25]
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لاَ يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً سحاباً عرض في أفق السماء. مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ متوجه أوديتهم، والإضافة فيه لفظية وكذا في قوله: قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أي يأتينا بالمطر. بَلْ هُوَ أي قال هود عليه الصلاة والسلام بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب، وقرئ «قل» «بل» : رِيحٌ هي ريح، ويجوز أن يكون بدل ما. فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ صفتها وكذا قوله:
تُدَمِّرُ تهلك. كُلَّ شَيْءٍ من نفوسهم وأموالهم. بِأَمْرِ رَبِّها إذ لا توجد نابضة حركة ولا قابضة سكون إلا بمشيئته، وفي ذكر الأمر والرب وإضافة إلى الريح فوائد سبق ذكرها مرارا، وقرئ «يدمر كل شيء» من دمر دماراً إذا هلك فيكون العائد محذوفاً أو الهاء في رَبِّها، ويحتمل أن يكون استئنافاً للدلالة على أن لكل ممكن فناء مقضياً لا يتقدم ولا يتأخر، وتكون الهاء لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء فَأْصْبَحُواْ لاَ تُرَى إِلاَّ مساكنهم أي فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا بحيث لو حضرت بلادهم لا ترى إلا مساكنهم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي لاَ يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ بالياء المضمومة ورفع المساكن. كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ.
روي أن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح اعتزل بالمؤمنين في الحظيرة وجاءت الريح فأمالت الأحقاف على الكفرة، وكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام، ثم كشفت عنهم واحتملتهم فقذفتهم في البحر.(5/115)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
[سورة الأحقاف (46) : آية 26]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ إِنْ نافية وهي أحسن من ما هاهنا لأنها توجب التكرير لفظاً ولذلك قلبت ألفها هاء في مهما، أو شرطية محذوفة الجواب والتقدير، ولقد مكناهم في الذي أوفي شيء إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر، أو صلة كما في قوله:
يُرَجِّي المَرْءُ مَا إِنْ لاَ يَرَاه ... ويعرض دُونَ أدناهُ الخُطُوبُ
والأول أظهر وأوفق لقوله: هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً. وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على مانحها تعالى ويواظبوا على شكرها. فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ من الإِغناء وهو القليل. إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ صلة فَما أَغْنى وهو ظرف جرى مجرى التعليل من حيث إن الحكم مرتب على ما أضيف إليه وكذلك حيث.
وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 27 الى 28]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ يا أهل مكة. مِنَ الْقُرى كحجر ثمود وقرى قوم لوط. وَصَرَّفْنَا الْآياتِ بتكريرها. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم.
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً فهلا منعتهم من الهلاك آلهتهم الذين يتقربون بهم إلى الله تعالى حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وأول مفعولي اتَّخَذُوا
الراجع إلى الموصول محذوف، وثانيهما قُرْباناً وآلِهَةً بدل أو عطف بيان، أو آلِهَةً وقُرْباناً حال أو مفعول له على أنه بمعنى التقرب.
وقرئ «قُربَاناً» بضم الراء. بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ غابوا عن نصرهم وامتنع أن يستمدوا بهم امتناع الاستمداد بالضال. وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وذلك الاتخاذ الذي هذا أثره صرفهم عن الحق، وقرئ «إِفْكِهِمْ» بالتشديد للمبالغة، و «آفكهم» أي جعلهم آفكين و «آفكهم» أي قولهم الآفك أي ذو الإِفك. وَما كانُوا يَفْتَرُونَ.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 30]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أملناهم إليك والنفر دون العشرة وجمعه أنفار. يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ حَال محمولة على المعنى. فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي القرآن أو الرسول. قالُوا أَنْصِتُوا قال بعضهم لبعض اسكتوا لنسمعه. فَلَمَّا قُضِيَ أتم وفرغ من قراءته، وقرئ على بناء الفاعل وهو ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام. وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي منذرين إياهم بما سمعوا.
روي أنهم وافوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده.
قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى قيل إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهودا أو ما سمعوا بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ من العقائد. وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ من(5/116)
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
الشرائع.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 31 الى 32]
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لاَّ يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ بعض ذنوبكم، وهو ما يكون في خالص حق الله فإن المظالم لا تغفر بالإِيمان. وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ هو معد للكفار، واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه باقتصارهم على المغفرة والإِجارة على أن لا ثواب لهم، والأظهر أنهم في توابع التكليف كبني آدم.
وَمَنْ لاَّ يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ إذ لا ينجي منه مهرب. وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ يمنعونه منه. أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 34]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ولم يتعب ولم يعجز، والمعنى أن قدرته واجبة لا تنقص ولا تنقطع بالإِيجاد أبد الأباد. بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي قادر، ويدل عليه قراءة يعقوب «يقدر» ، والباء مزيدة لتأكيد النفي فإنه مشتمل على أَنَّ وما في حيزها ولذلك أجاب عنه بقوله: بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تقرير للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود، كأنه صَدَّرَ السورة بتحقيق المبدأ أراد ختمها بإثبات المعاد.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ منصوب بقول مضمر مقوله: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ والإِشارة إلى العذاب. قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بكفركم في الدنيا، ومعنى الأمر هو الإِهانة بهم والتوبيخ لهم.
[سورة الأحقاف (46) : آية 35]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أولوا الثبات والجد منهم فإنك من جملتهم، ومِنَ للتبيين، وقيل للتبعيض، وأُولُوا الْعَزْمِ أصحاب الشرائع اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاعنين فيها، ومشاهيرهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى صلّى الله وسلم عليهم. وقيل الصابرون على بلاء الله كنوح صبر على أذى قومه، كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم على النار وذبح ولده والذبيح على الذبح، ويعقوب على فقد الولد والبصر، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضر، وموسى قال له قومه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة. وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ لكفار قريش بالعذاب فإنه نازل بهم في وقته لا محالة. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ استقصروا من هوله مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة. بَلاغٌ هذا الذي وعظتم به أو هذه السورة بلاغ أي كفاية، أو تبليغ من الرسول عليه الصلاة والسلام ويؤيده أنه قرئ «بلغ» ، وقيل بَلاغٌ مبتدأ خبره لَهُمْ وما بينهما اعتراض أي لهم وقت يبلغون إليه كأنهم إذا بلغوه ورأوا ما فيه استقصروا مدة عمرهم، وقرئ بالنصب أي بلغوا بلاغاً. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ(5/117)
الخارجون عن الاتعاظ أو الطاعة، وقرئ «يهلك» بفتح اللام وكسرها من هلك وهلك، و «نهلك» بالنون ونصب القوم.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا» .(5/118)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
(47) سورة محمد صلّى الله عليه وسلم
وتسمه سورة القتال وهي مدينة وقيل مكية وآيها سبع أو ثمان وثلاثون أو أربعون آية
[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ امتنعوا عن الدخول في الإِسلام وسلوك طريقه، أو منعوا الناس عنه كالمطعمين يوم بدر، أو شياطين قريش أو المصريين من أهل الكتاب. أو عام في جميع من كفر وصد.
أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ جعل مكارمهم كصلة الرحم وفك الأسارى وحفظ الجوار ضالة أي ضائعة محبطة بالكفر، أو مغلوبة مغمورة فيه كما يضل الماء في اللبن، أو ضلال حيث لم يقصدوا به وجه الله، أو أبطل ما عملوه من الكيد لرسوله والصد عن سبيله بنصر رسوله وإظهار دينه على الدين كله.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعم المهاجرين والأنصار والذين آمنوا من أهل الكتاب وغيرهم.
وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ تخصيص للمنزل عليه مما يجب الإيمان به تعظيماً له وإشعاراً بأن الإيمان لا يتم دونه، وأنه الأصل فيه ولذلك أكده بقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ اعتراضاً على طريقة الحصر. وقيل حقيقته بكونه ناسخا لا ينسخ، وقرئ «نَزَّلَ» على البناء للفاعل و «أنزل» على البناءين و «نَزَلَ» بالتخفيف. كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ سترها بالإِيمان وعملهم الصالح. وَأَصْلَحَ بالَهُمْ في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد.
[سورة محمد (47) : آية 3]
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)
ذلِكَ إشارة إلى ما مر من الإِضلال والتكفير والإِصلاح وهو مبتدأ خبره. بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ بسبب اتباع هؤلاء الباطل واتباع هؤلاء الحق، وهذا تصريح بما أشعر به ما قبلها ولذلك سمي تفسيراً. كَذلِكَ مثل ذلك الضرب. يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ يبين لهم.
أَمْثالَهُمْ أحوال الفريقين أو أحوال الناس، أو يضرب أمثالهم بأن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار والإِضلال مثلاً لخيبتهم واتباع الحق مثلاً للمؤمنين، وتكفير السيئات مثلاً لفوزهم.
[سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 6]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)
.(5/119)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا في المحاربة. فَضَرْبَ الرِّقابِ أصله فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر، وأنيب منابه مضافاً إلى المفعول ضماً إلى التأكيد والاختصار. والتعبير به عن القتل إشعاراً بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقاب حيث أمكن، وتصوير له بأشنع صورة. حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الثخين وهو الغليظ. فَشُدُّوا الْوَثاقَ فأسروهم واحفظوهم، والوثاق بالفتح والكسر ما يوثق به. فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أي فإما تمنون منا أو تفدون فداء، والمراد التخيير بعد الأسر بين المن والإِطلاق وبين أخذ الفداء، وهو ثابت عندنا فإن الذكر الحر المكلف إذا أسر تخير الإِمام بين القتل والمن والفداء، والاسترقاق منسوخ عند الحنفية أو مخصوص بحرب بدر فإنهم قالوا يتعين القتل أو الاسترقاق. وقرئ «فدا» كعصا. حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع، أي تنقضي الحرب ولم يبق إلا مسلم أو مسالم. وقيل آثامها والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم، وهو غاية للضرب أو الشد أو للمن والفداء أو للمجموع بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيها حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم. وقيل بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام ذلِكَ أي الأمر ذلك، أو افعلوا بهم ذلك. وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ لا لانتقم منهم بالاستئصال. وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ولكن أمركم بالقتال ليبلوا المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب العظيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر. وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي جاهدوا، وقرأ البصريان وحفص قُتِلُوا أي استشهدوا. فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ فلن يضيعها، وقرئ «يضل» من ضل و «يُضِلَّ» على البناء للمفعول.
سَيَهْدِيهِمْ إلى الثواب، أو سيثبت هدايتهم. وَيُصْلِحُ بالَهُمْ.
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ وقد عرفها لهم في الدنيا حتى اشتاقوا إليها فعملوا ما استحقوها به، أو بينها لهم بحيث يعلم كل واحد منزله ويهتدي إليه كأنه كان ساكنه منذ خلق، أو طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة، أو حددها لهم بحيث يكون لكل جنة مفرزة.
[سورة محمد (47) : الآيات 7 الى 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ إن تنصروا دينه ورسوله. يَنْصُرْكُمْ على عدوكم. وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في القيام بحقوق الإِسلام والمجاهدة مع الكفار.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ فعثوراً لهم وانحطاطا ونقيضه لما قال الأعشى. فالتعس أولى بها من أن أقول لَعَا. وانتصابه بفعله الواجب إضماره سماعاً، والجملة خبر الَّذِينَ كَفَرُوا أو مفسرة لناصبه. وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ عطف عليه.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن لما فيه من التوحيد والتكاليف المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم، وهو تخصيص وتصريح بسببية الكفر بالقرآن للتعس والإِضلال. فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ كرره إشعاراً بأنه يلزم الكفر بالقرآن ولا ينفك عنه بحال.
[سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 11]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لاَ مَوْلى لَهُمْ (11)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ استأصل عليهم ما(5/120)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم. وَلِلْكافِرِينَ من وضع الظاهر موضع المضمر. أَمْثالُها أمثال تلك العاقبة أو العقوبة، أو الهلكة لأن التدمير يدل عليها، أو السنة لقوله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ناصرهم على أعدائهم. وَأَنَّ الْكافِرِينَ لاَ مَوْلى لَهُمْ فيدفع العذاب عنهم وهو لا يخالف قوله: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فإن المولى فيه بمعنى المالك.
[سورة محمد (47) : الآيات 12 الى 14]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ينتفعون بمتاع الدنيا. وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ حريصين غافلين عن العاقبة. وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ منزل ومقام.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ على حذف المضاف وإجراء أحكامه على المضاف إليه، والإِخراج باعتبار التسبب. أَهْلَكْناهُمْ بأنواع العذاب. فَلا ناصِرَ لَهُمْ يدفع عنهم العذاب وهو كالحال المحكية.
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ حجة من عنده وهو القرآن، أو ما يعمه والحجج العقلية كالنبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين. كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ كالشرك والمعاصي. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في ذلك لا شبهة لهم عليه فضلا عن حجة.
[سورة محمد (47) : آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي فيما قصصنا عليك صفتها العجيبة. وقيل مبتدأ خبره: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، وتقدير الكلام أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد، أو أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد فعري عن حرف الإِنكار وحذف ما حذف استغناء يجري مثله تصويراً لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة والتابع للهوى، بمكابرة من يسوي بين الجنة والنار، وهو على الأول خبر محذوف تقديره: أفمن هو خالد في هذه الجنة كمن هو خالد في النار، أو بدل من قوله: كَمَنْ زُيِّنَ وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بينة في الآخرة تقريراً لإِنكار المساواة. فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ استئناف لشرح المثل أو حال من العائد المحذوف، أو خبر لمثل وآسِنٍ من أسن الماء بالفتح إذا تغير طعمه وريحه، أو بالكسر على معنى الحدوث. وقرأ ابن كثير «أسن» . وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ لم يصر قارصاً ولا حازراً. وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لذيذة لا يكون فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار تأنيث لذ أو مصدر نعت به بإضمار ذات، أو تجوز وقرئت بالرفع على صفة الأنهار والنصب على العلة. وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لم يخالطه الشمع وفضلات النحل وغيرها، وفي ذلك تمثيل لما يقوم مقام الأشربة في الجنة بأنواع ما يستلذ منها في الدنيا بالتجريد عما ينقصها وينغصها، والتوصيف بما يوجب غزارتها واستمرارها. وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ صنف على هذا القياس. وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ عطف على الصنف المحذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي لهم مغفرة. كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً مكان تلك الأشربة. فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ(5/121)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
من فرط الحرارة.
[سورة محمد (47) : آية 16]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ يعني المنافقين كانوا يحضرون مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلم ويسمعون كلامه فإذا خرجوا. قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي لعلماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم. مَاذَا قالَ آنِفاً ما الذي قال الساعة، استهزاء أو استعلاما إذ لم يلقوا له آذانهم تهاونا به، وآنِفاً من قولهم أنف الشيء لما تقدم منه مستعار من الجارحة، ومنه استأنف وائتنف وهو ظرف بمعنى وقتاً مؤتنفاً، أو حال من الضمير في قالَ وقرأ ابن كثير «أنفاً» .
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ فلذلك استهزءوا وتهاونوا بكلامه.
[سورة محمد (47) : الآيات 17 الى 18]
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً أي زادهم الله بالتوفيق والإِلهام، أو قول الرسول عليه الصلاة والسلام.
وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ بين لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم، أو أعطاهم جزاءها.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ فهل ينتظرون غيرها. أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً بدل اشتمال من السَّاعَةَ، وقوله:
فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها كالعلة له، وقرئ «أن تأتهم» على أنه شرط مستأنف جزاؤه: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ والمعنى أن تأتهم الساعة بغتة لأنه قد ظهر أماراتها كمبعث النبي عليه الصلاة والسلام، وانشقاق القمر فكيف لهم ذِكْراهُمْ أي تذكرهم إِذا جاءَتْهُمْ الساعة بغتة، وحينئذ لا يفرغ له ولا ينفع.
[سورة محمد (47) : آية 19]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية وتكميل النفس بإصلاح أحوالها وأفعالها وهضمها بالاستغفار لِذَنْبِكَ.
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ولذنوبهم بالدعاء لهم والتحريض على ما يستدعي غفرانهم، وفي إعادة الجار وحذف المضاف إشعار بفرط احتياجهم وكثرة ذنوبهم وأنها جنس آخر، فإن الذنب له ماله تبعة ما بترك الأولى. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ في الدنيا فإنها مراحل لا بد من قطعها. وَمَثْواكُمْ في العقبى فإنها دار إقامتكم فاتقوا الله واستغفروه وأعدوا لمعادكم.
[سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 24]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)
.(5/122)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي هلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ في أمر الجهاد. فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ مبينة لا تشابه فيها. وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي الأمر به. رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف في الدين وقيل نفاق. يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ جبناً ومخافة. فَأَوْلى لَهُمْ فويل لَهُمْ، أفعل من الولي وهو القرب، أو فعلى من آل ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه أو يؤول إليه أمرهم.
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ استئناف أي أمرهم طاعَةٌ أو طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ خير لهم، أو حكاية قولهم لقراءة أُبيّ «يقولون طاعة» . فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي جد وهو لأصحاب الأمر، وإسناده إليه مجاز وعامل الظرف محذوف، وقيل فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ أي فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الإِيمان. لَكانَ الصدق. خَيْراً لَهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ فهل يتوقع منكم. إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أمور الناس وتأمرتم عليهم، أو اعرضتم وتوليتم عن الإِسلام. أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ تناحراً على الولاية وتجاذباً لها، أو رجوعاً إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغاور ومقاتلة الأقارب، والمعنى أنهم لضعفهم في الدين وحرصهم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم ويقول لهم: هل عسيتم، وهذا على لغة الحجاز فإن بني تميم لا يلحقون الضمير به وخبره أَنْ تُفْسِدُوا وإِنْ تَوَلَّيْتُمْ اعتراض، وعن يعقوب تَوَلَّيْتُمْ أي إن تولاكم ظلمة خرجتم معهم وساعدتموهم في الإِفساد وقطيعة الرحم وَتُقَطِّعُوا من القطع، وقرئ تقطعوا من التقطع.
أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين. الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ لإِفسادهم وقطعهم الأرحام. فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحق. وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ فلا يهتدون سبيله.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يجسروا على المعاصي. أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها لا يصل إليها ذكر ولا ينكشف لها أمر، وقيل أَمْ منقطعة ومعنى الهمزة فيها التقرير، وتنكير القلوب لأن المراد قلوب بعض منهم أو للإِشعار بأنها لإِبهام أمرها في القساوة، أو لفرط جهالتها ونكرها كأنها مبهمة منكورة وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها مختصة بها لا تجانس الأقفال المعهودة. وقرئ «إقفالها» على المصدر.
[سورة محمد (47) : الآيات 25 الى 26]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي إلى ما كانوا عليه من الكفر. مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بالدلائل الواضحة والمعجزات الظاهرة. الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ سهل لهم اقتراف الكبائر من السول وهو الاسترخاء.
وقيل حملهم على الشهوات من السول وهو التمني، وفيه أن السول مهموز قلبت همزته واواً لضم ما قبلها ولا كذلك التسويل، ويمكن رده بقولهم هما يتساولان وقرئ «سَوَّلَ» على تقدير مضاف أي كيد الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ. وَأَمْلى لَهُمْ ومد لهم في الآمال والأماني، أو أمهلهم الله تعالى ولم يعاجلهم بالعقوبة لقراءة يعقوب وَأَمْلى لَهُمْ، أي وأنا أملي لهم فتكون الواو للحال أو الاستئناف، وقرأ أبو عمرو وَأَمْلى لَهُمْ على البناء للمفعول وهو ضمير الشَّيْطانُ أو لَهُمُ.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ أي قال اليهود للذين كفروا بالنبي عليه الصلاة والسلام بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ نعته للمنافقين، أو المنافقون لهم أو أحد الفريقين للمشركين. سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ في بعض أموركم أو في بعض ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد والموافقة في الخروج معهم إن أخرجوا، والتظافر على الرسول صلّى الله عليه وسلم. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ومنها قولهم هذا الذي أفشاه الله عليهم، وقرأ حمزة والكسائي وحفص إِسْرارَهُمْ على المصدر.(5/123)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
[سورة محمد (47) : الآيات 27 الى 29]
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29)
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ فكيف يعملون ويحتالون حينئذ، وقرئ «توفاهم» وهو يحتمل الماضي والمضارع المحذوف إحدى تاءيه. يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ تصوير لتوفيهم بما يخافون منه ويجبنون عن القتال له.
ذلِكَ إشارة إلى التوفي الموصوف. بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر ككتمان نعت الرسول عليه الصلاة والسلام وعصيان الأمر. وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ ما يرضاه من الإِيمان والجهاد وغيرهما من الطاعات.
فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ لذلك.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أن لن يبرز الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين.
أَضْغانَهُمْ أحقادهم.
[سورة محمد (47) : الآيات 30 الى 31]
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ لعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم. فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلاماتهم التي نسمهم بها، واللام لام الجواب كررت في المعطوف. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ جواب قسم محذوف ولَحْنِ الْقَوْلِ أسلوبه، أو إمالته إلى جهة تعريض وتورية، ومنه قيل للمخطئ لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ فيجازيكم على حسب قصدكم إذ الأعمال بالنيات.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة. حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ على مشاقه. وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ما يخبر به عن أعمالكم فيظهر حسنها وقبحها، أو أخبارهم عن إيمانهم وموالاتهم المؤمنين في صدقها وكذبها. وقرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة بالياء لتوافق ما قبلها، وعن يعقوب وَنَبْلُوَا بسكون الواو على تقدير ونحن نبلو.
[سورة محمد (47) : الآيات 32 الى 33]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى هم قريظة والنضير أو المطعمون يوم بدر. لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بكفرهم وصدهم، أو لن يضروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمشاقته وحذف المضاف لتعظيمه وتفظيع مشاقته. وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ ثواب حسنات أعمالهم بذلك، أو مكايدهم التي نصبوها في مشاقته فلا يصلون بها إلى مقاصدهم ولا تثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بما أبطل به هؤلاء كالكفر والنفاق والعجب والرياء والمن والأذى ونحوها، وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر.
[سورة محمد (47) : الآيات 34 الى 35]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)(5/124)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ عام في كل من مات على كفره وإن صح نزوله في أصحاب القليب، ويدل بمفهومه على أنه قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه.
فَلا تَهِنُوا فلا تضعفوا. وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ولا تدعوا إلى الصلح خوراً وتذللاً، ويجوز نصبه بإضمار إن وقرئ «ولا تدعوا» من ادعى بمعنى دعا، وقرئ أبو بكر وحمزة بكسر السين. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الأغلبون. وَاللَّهُ مَعَكُمْ ناصركم. وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ ولن يضيع أعمالكم، من وترت الرجل إذا قتلت متعلقاً به من قريب أو حميم فأفردته منه من الوتر، شبه به تعطيل ثواب العمل وإفراده منه.
[سورة محمد (47) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لا ثبات لها. وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ثواب إيمانكم وتقواكم. وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ جميع أموالكم بل يقتصر على جزء يسير كربع العشر والعشر.
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ فيجهدكم بطلب الكل والإِحفاء والإِلحاف المبالغة وبلوغ الغاية يقال: أحفى شاربه إذ استأصله. تَبْخَلُوا فلا تعطوا. وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ ويضغنكم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم والضمير في يخرج لله تعالى، ويؤيده القراءة بالنون أو البخل لأنه سبب الإضغان، وقرئ «وتخرج» بالتاء والياء ورفع «أضغانكم» .
[سورة محمد (47) : آية 38]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون وقوله: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ استئناف مقرر لذلك، أو صلة ل هؤُلاءِ على أنه بمعنى الذين وهو يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرهما.
فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ناس يبخلون وهو كالدليل على الآية المتقدمة. وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ فإن نفع الإنفاق وضر البخل عائدان إليه، والبخل يعدى بعن وعلى لتضمنه معنى الإِمساك والتعدي فإنه إمساك عن مستحق. وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ فما يأمركم به فهو لاحتياجكم إليه فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم.
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عطف على إِنْ تُؤْمِنُوا. يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يقم مقامكم قوماً آخرين. ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في التولي والزهد في الإِيمان، وهم الفرس
لأنه سئل عليه الصلاة والسلام عنه وكان سلمان إلى جنبه فضرب فخذه وقال: «هذا وقومه» : أو الأنصار أو اليمن أو الملائكة.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة محمد كان حقاً على الله أن يسقيه من أنهار الجنة» .(5/125)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
(48) سورة الفتح
مدنية نزلت في مرجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الحديبية وآيها تسع وعشرون
[سورة الفتح (48) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وعد بفتح مكة، والتعبير عنه بالماضي لتحققه أو بما اتفق له في تلك السنة كفتح خيبر وفدك، أو إخبار عن صلح الحديبية وإنما سماه فتحاً لأنه كان بعد ظهوره على المشركين حتى سألوا الصلح وتسبب لفتح مكة، وفرغ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسائر العرب فغزاهم وفتح مواضع وأدخل في الإِسلام خلقاً عظيماً، وظهر له في الحديبية آية عظيمة وهي أنه نزح ماؤها بالكلية فتمضمض ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه، أو فتح الروم فإنهم غلبوا الفرس في تلك السنة. وقد عرفت كونه فتحا للرسول عليه الصلاة والسلام في سورة «الروم» . وقيل الفتح بمعنى القضاء أي قضينا لك أن تدخل مكة من قابل.
[سورة الفتح (48) : الآيات 2 الى 3]
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إزاحة الشرك وإعلاء الدين وتكميل النفوس الناقصة قهراً ليصير ذلك بالتدريج اختياراً، وتخليص الضعفة عن أيدي الظلمة. مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ جميع ما فرط منك مما يصح أن تعاتب عليه. وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوة. وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرئاسة.
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً نصراً فيه عز ومنعة، أو يعز به المنصور فوصف بوصفه مبالغة.
[سورة الفتح (48) : آية 4]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ الثبات والطمأنينة. فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ حتى ثبتوا حيث تقلق النفوس وتدحض الأقدام. لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ يقيناً مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفس عليها، أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم ليزدادوا إيماناً بالشرائع مع إيمانهم بالله واليوم الآخر. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدبر أمرها فيسلط بعضها على بعض تارة ويوقع فيما بينهم السلم أخرى كما تقتضيه حكمته. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بالمصالح. حَكِيماً فيما يقدر ويدبر.
[سورة الفتح (48) : الآيات 5 الى 7]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)(5/126)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها علة بما بعده لما دل عليه قوله:
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من معنى التدبير، أي دبر ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله فيه ويشكروها فيدخلهم الجنة ويعذب الكفار والمنافقين لما غاظهم من ذلك، أو فَتَحْنا أو أَنْزَلَ أو جميع ما ذكر أو لِيَزْدادُوا، وقيل إنه بدل منه بدل الاشتمال. وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يغطيها ولا يظهرها. وَكانَ ذلِكَ أي الإِدخال والتكفير. عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضر، وعند حال من الفوز.
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ عطف على «يَدْخُلِ» إلا إذا جعلته بدلاً فيكون عطفاً على المبدل منه. الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ظن الأمر السوء وهو أن لا ينصر رسوله والمؤمنين.
عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ دائرة ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين لا يتخطاهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو دائِرَةُ السَّوْءِ بالضم وهما لغتان، غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه والمضموم جرى مجرى الشر وكلاهما في الأصل مصدر وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ عطف لما استحقوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا، والواو في الأخيرين والموضع موضع الفاء إذ اللعن سبب للاعداد، والغضب سبب له لاستقلال الكل في الوعيد بلا اعتبار السببية. وَساءَتْ مَصِيراً جهنم. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً.
[سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على أمتك. وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً على الطاعة والمعصية.
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم والأمة، أو لهم على أن خطابه منزل منزلة خطابهم.
وَتُعَزِّرُوهُ وتقووه بتقوية دينه ورسوله وَتُوَقِّرُوهُ وتعظموه. وَتُسَبِّحُوهُ وتنزهوه أو تصلوا له. بُكْرَةً وَأَصِيلًا غدوة وعشياً أو دائماً. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الأربعة بالياء، وقرئ «تعزروه» بسكون العين و «تعزروه» بفتح التاء وضم الزاي وكسرها و «تعززوه» بالزاءين «وَتُوَقّرُوهُ» من أوقره بمعنى وقره.
[سورة الفتح (48) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأنه المقصود ببيعته. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ حال أو استئناف مؤكد له على سبيل التخييل. فَمَنْ نَكَثَ نقض العهد. فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه. وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ في مبايعته فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً هو الجنة، وقرئ «عهد» وقرأ حفص عَلَيْهُ بضم الهاء وابن كثير ونافع وابن عامر وروح فسنؤتيه بالنون. والآية نزلت في بيعة الرضوان.
[سورة الفتح (48) : آية 11]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ هم أسلم وجهينة ومزينة وغفار استنفرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام(5/127)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
الحديبية فتخلفوا واعتلوا بالشغل بأموالهم وأهاليهم، وإنما خلفهم الخذلان وضعف العقيدة والخوف من مقاتلة قريش إن صدوهم. شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا إذ لم يكن لنا من يقوم بأشغالهم، وقرئ بالتشديد للتكثير.
فَاسْتَغْفِرْ لَنا من الله على التخلف. يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تكذيب لهم في الاعتذار والاستغفار. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمن يمنعكم من مشيئته وقضائه. إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا ما يضركم كقتل أو هزيمة أو خلل في المال والأهل عقوبة على التخلف، وقرأ حمزة والكسائي بالضم. أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً ما يضاد ذلك، وهو تعريض بالرد. بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيعلم تخلفكم وقصدكم فيه.
[سورة الفتح (48) : آية 12]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً لظنكم أن المشركين يستأصلونهم، وأهلون جمع أهل وقد يجمع على أهلات كأرضات على أن أصله أهلة وأما أهال فاسم جمع كليال. وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ فتمكن فيها، وقرئ على البناء للفاعل وهو الله أو الشيطان. وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ الظن المذكور، والمراد التسجيل عليه ب السَّوْءِ أو هو وسائر ما يظنون بالله ورسوله من الأمور الزائغة. وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً هالكين عند الله لفساد عقيدتكم وسوء نيتكم.
[سورة الفتح (48) : الآيات 13 الى 14]
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً وضع الكافرين موضع الضمير إيذاناً بأن من لم يجمع بين الإِيمان بالله ورسوله فهو كافر وأنه مستوجب للسعير بكفره، وتنكير سعيراً للتهويل أو لأنها نار مخصوصة.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدبره كيف يشاء. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ إذ لا وجوب عليه. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فإن الغفران والرحمة من ذاته والتعذيب داخل تحت قضائه بالعرض، ولذلك جاء
في الحديث الإلهي «سبقت رحمتي غضبي» .
[سورة الفتح (48) : آية 15]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ يعني المذكورين. إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها يعني مغانم خيبر فإنه عليه السلام رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالاً كثيرة فخصها بهم. ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ أن يغيروه وهو وعده لأهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر، وقيل قوله: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً والظاهر أنه في تبوك. والكلام اسم للتكليم غلب في الجملة المفيدة وقرأ حمزة والكسائي «كلم الله» وهو جمع كلمة. قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا نفي في معنى النهي. كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ. من قبل تهيئهم للخروج إلى خيبر. فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أن يشارككم في الغنائم، وقرئ بالكسر. بَلْ كانُوا لاَ يَفْقَهُونَ لا يفهمون. إِلَّا قَلِيلًا إلا فهما قليلاً وهو فطنتهم لأمور الدنيا، ومعنى الإِضراب الأول رد منهم أن يكون(5/128)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات للحسد، والثاني رد من الله لذلك وإثبات لجهلهم بأمور الدين.
[سورة الفتح (48) : الآيات 16 الى 17]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ كرر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة في الذم وإشعاراً بشناعة التخلف.
سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بني حنيفة أو غيرهم ممن ارتدوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو المشركين فإنه قال: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإِسلام لا غير كما دل عليه قراءة «أو يسلموا» ، ومن عداهم يقاتل حتى يسلم أو يعطي الجزية. وهو يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه إذا لم تتفق هذه الدعوة لغيره إلا إذا صح أنهم ثقيف وهوازن فإن ذلك كان في عهد النبوة. وقيل فارس والروم ومعنى يُسْلِمُونَ ينقادون ليتناول تقبلهم الجزية. فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً هو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ عن الحديبية. يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لتضاعف جرمكم.
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ لما أوعد على التخلف نفي الحرج عن هؤلاء المعذورين استثناء لهم عن الوعيد. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فصل الوعد وأجمل الوعيد مبالغة في الوعد لسبق رحمته، ثم جبر ذلك بالتكرير على سبيل التعميم فقال: وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً إذ الترهيب ها هنا أنفع من الترغيب، وقرأ نافع وابن عامر ندخله ونعذبه بالنون.
[سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 19]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
روي: أنه صلّى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية بعث جوّاس ابن أمية الخزاعي إلى أهل مكة، فهموا به فمنعه الأحابيش فرجع، فبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه فحبسوه فأرجف بقتله، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه وكانوا ألفا وثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشاً ولا يفروا عنهم وكان جالساً تحت سمرة أو سدرة.
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ من الإِخلاص. فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ الطمأنينة وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح. وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً فتح خيبر غب انصرافهم، وقيل مكة أو هجر.
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها يعني مغانم خيبر. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً غالباً مراعياً مقتضى الحكمة.
[سورة الفتح (48) : الآيات 20 الى 21]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم القيامة. فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني مقام خيبر. وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أي أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان، أو أيدي قريش بالصلح. وَلِتَكُونَ هذه الكفة أو الغنيمة. آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أمارة يعرفون بها أنهم من الله بمكان، أو(5/129)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
صدق الرسول في وعدهم فتح خيبر في حين رجوعه من الحديبية، أو وعد المغانم أو عنواناً لفتح مكة والعطف على محذوف هو علة ل كَفَّ، أو «عجل» مثل لتسلموا، أو لتأخذوا أو العلة لمحذوف مثل فعل ذلك. وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الثقة بفضل الله والتوكل عليه.
وَأُخْرى ومغانم أخرى معطوفة على هذه، أو منصوبة بفعل يفسره قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها مثل قضى، ويحتمل رفعها بالابتداء لأنها موصوفة وجرها بإضمار رب. لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها بعد لما كان فيها من الجولة.
قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها استولى فأظفركم بها وهي مغانم هوازن أو فارس. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء.
[سورة الفتح (48) : الآيات 22 الى 24]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ مكة ولم يصالحوا. لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ لانهزموا. ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا يحرسهم. وَلا نَصِيراً ينصرهم.
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ أي سنَّ غُلَّبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم كما قال تعالى:
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا تغييراً.
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي أيدي كفار مكة. وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ في داخل مكة. مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أظهركم عليهم، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد. وقيل كان ذلك يوم الفتح واستشهد به على أن مكة فتحت عنوة وهو ضعيف إذ السورة نزلت قبله. وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من مقاتلتهم أولاً طاعة لرسوله وكفهم ثانياً لتعظيم بيته، وقرأ أبو عمرو بالياء. بَصِيراً فيجازيهم عليه.
[سورة الفتح (48) : آية 25]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ يدل على أن ذلك كان عام الحديبية، والهدي ما يهدى إلى مكة. وقرئ «الهدي» وهو فعيل بمعنى مفعول، ومحله مكانه الذي يحل فيه نحره والمراد مكانه المعهود وهو منى لا مكانه الذي لا يجوز أن ينحر في غيره، وإلا لما نحره الرسول صلّى الله عليه وسلم حيث أحصر فلا ينتهض حجة للحنفية على أن مذبح هدي المحصر هو الحرم. وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين. أَنْ تَطَؤُهُمْ أن توقعوا بهم وتبيدهم قال:
وَوَطَئْتْنَا وَطْأْ عَلَى حَنَق ... وَطْءَ المُقَيَّدِ ثَابِت الهَرَمِ
وقال عليه الصلاة والسلام «إن آخر وطأة وطئها الله بوج»
وطهو وادٍ بالطائف كان آخر وقعة للنبي صلّى الله عليه وسلم بها، وأصله الدوس وهو بدل الاشتمال من رِجالٌ وَنِساءٌ أو من ضميرهم في تَعْلَمُوهُمْ. فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ من جهتهم. مَعَرَّةٌ مكروه كوجوب الدية والكفارة بقتلهم والتأسف عليهم، وتعيير الكفار بذلك والإِثم بالتقصير في البحث عنهم مفعلة من عره إذا عراه ما يكرهه. بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق ب أَنْ تَطَؤُهُمْ أي تطؤهم غير عالمين بهم، وجواب لَوْلا محذوف لدلالة الكلام عليه، والمعنى لَوْلا كراهة أن تهلكوا(5/130)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
أناساً مؤمنين بين أظهر الكافرين جاهلين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم. لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ علة لما دل عليه كف الأيدي عن أهل مكة صوناً لمن فيها من المؤمنين، أي كان ذلك ليدخل الله في رحمته أي في توفيقه لزيادة الخير أو للإِسلام. مَنْ يَشاءُ من مؤمنيهم أو مشركيهم. لَوْ تَزَيَّلُوا لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض، وقرئ «تزايلوا» . لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً بالقتل والسبي.
[سورة الفتح (48) : آية 26]
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مقدر باذكر أو ظرف لَعَذَّبْنَا أو صَدُّوكُمْ. فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ الأنفة.
حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ التي تمنع إذعان الحق. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فأنزل عليهم الثبات والوقار وذلك ما
روي «أنه عليه الصلاة والسلام لما هم بقتالهم بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص ليسألوه أن يرجع من عامه على أن يخلي له قريش مكة من القابل ثلاثة أيام، فأجابهم وكتبوا بينهم كتابا، فقال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا ما نعرف هذا اكتب باسمك اللهم ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة فقال عليه الصلاة والسلام: اكتب ما يريدون»
فَهَمَّ المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا عليهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقروا وتحملوا. وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى كلمة الشهادة أو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ محمد رسول الله اختارها لهم، أو الثبات والوفاء بالعهد وإضافة ال كَلِمَةَ إلى التَّقْوى لأنها سببها أو كلمة أهلها. وَكانُوا أَحَقَّ بِها من غيرهم. وَأَهْلَها والمستأهلين لها. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيعلم أهل كل شيء وييسره له.
[سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 28]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا رأى عليه الصلاة والسلام أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا، فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا وحسبوا أن ذلك يكون في عامهم، فلما تأخر قال بعضهم والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا البيت فنزلت والمعنى صدقة في رؤياه. بِالْحَقِّ ملتبساً به فإن ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدر له وهو العام القابل، ويجوز أن يكون بِالْحَقِّ صفة مصدر محذوف أي صدقاً ملتبساً بِالْحَقِّ وهو القصد إلى التمييز بين الثابت على الإِيمان والمتزلزل فيه، وأن يكون قسماً إما باسم الله تعالى أو بنقيض الباطل وقوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ جوابه وعلى الأولين جواب قسم محذوف. إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للعدة. بالمشيئة تعليماً للعباد، أو إشعاراً بأن بعضهم لا يدخل لموت أو غيبة أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه. آمِنِينَ حال من الواو والشرط معترض. مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ أي محلقاً بعضكم ومقصراً آخرون. لاَ تَخافُونَ حال مؤكدة أو استئناف أي لا تخافون بعد ذلك. فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة في تأخير ذلك. فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ من دون دخولكم المسجد أو فتح مكة. فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر ليستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الموعود.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ملتبساً به أو بسببه أو لأجله. وَدِينِ الْحَقِّ وبدين الإِسلام.
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليغلبه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقاً وإظهار فساد ما كان باطلاً، أو بتسليط المسلمين على أهله إذ ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون، وفيه تأكيد لما وعده من الفتح.(5/131)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن ما وعده كائن أو على نبوته بإظهار المعجزات.
[سورة الفتح (48) : آية 29]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جملة مبينة للمشهود به، ويجوز أن يكون رَسُولُ اللَّهِ صفة ومُحَمَّدٌ خبر محذوف أو مبتدأ: وَالَّذِينَ مَعَهُ معطوف عليه وخبرهما. أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ وأَشِدَّاءُ جمع شديد ورُحَماءُ جمع رحيم، والمعنى أنهم يغلظون على من خالف دينهم ويتراحمون فيما بينهم كقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ. تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً
لأنهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً الثواب والرضا. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ يريد السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود، فعلى من سامه إذا أعلمه وقد قرئت ممدودة ومِنْ أَثَرِ السُّجُودِ بيانها أو حال من المستكن في الجار. ذلِكَ إشارة إلى الوصف المذكور. أو إشارة مبهمة يفسرها كَزَرْعٍ. مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ صفتهم العجيبة الشأن المذكورة فيها. وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ عطف عليه أي ذلك مثلهم في الكتابين وقوله: كَزَرْعٍ تمثيل مستأنف أو تفسير أو مبتدأ وكَزَرْعٍ خبره.
أَخْرَجَ شَطْأَهُ فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ، وقرأ ابن كثير وابن عامر برواية ابن ذكوان شَطْأَهُ بفتحات وهو لغة فيه، وقرئ «شطاه» بتخفيف الهمزة و «شطاءه» بالمد و «شطه» بنقل حركة الهمزة وحذفها و «شطوه» بقلبها واواً. فَآزَرَهُ فقواه من المؤازرة وهي المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان فَآزَرَهُ كأجره في آجره. فَاسْتَغْلَظَ فصار من الدقة إلى الغلط. فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ فاستقام على قصبه جمع ساق، وعن ابن كثير «سؤقه» بالهمزة. يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بكثافته وقوته وغلظه وحسن منظره، وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة قلوا في بدء الإِسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس.
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ علة لتشبيههم بالزرع في زكائه واستحكامه أو لقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً فإن الكفار لما سمعوه غاظهم ذلك ومنهم للبيان.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد عليه الصلاة والسلام فتح مكة» .(5/132)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
(49) سورة الحجرات
مدينة وآيها ثماني عشرة آية
[سورة الحجرات (49) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا أي لا تقدموا أمراً، فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كل ما يمكن، أو ترك لأن المقصود نفي التقديم رأساً أو لا تتقدموا ومنه مقدمة الجيش لمتقدميهم، ويؤيده قراءة يعقوب لاَ تُقَدِّمُوا. وقرئ «لاَ تُقَدّمُواْ» من القدوم. بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مستعار مما بين الجهتين المسامتتين ليدي الإنسان تهجيناً لما نهوا عنه، والمعنى لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكما به. وقيل المراد بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذكر الله تعظيم له وإشعار بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله. وَاتَّقُوا اللَّهَ في التقديم أو مخالفة الحكم.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم. عَلِيمٌ بأفعالكم.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 2 الى 3]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي إذا كلمتموه فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته. وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته محاماة على الترحيب ومراعاة للأدب. وقيل معناه ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضاً وخاطبوه بالنبي والرسول، وتكرير النداء لاستدعاء مزيد الاستبصار والمبالغة في الاتعاظ والدلالة على استقلال المنادى له وزيادة الاهتمام به. أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ كراهة أن تحبط فيكون علة للنهي، أو لأن تحبط على أن النهي عن الفعل المعلل باعتبار التأدية لأن في الجهر والرفع استخفافاً قد يؤدي إلى الكفر المحبط، وذلك إذ انضم إليه قصد الإِهانة وعدم المبالاة.
وقد روي: أن ثابت بن قيس كان في أذنه وقر وكان جهورياً، فلما نزلت تخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتفقده ودعاه فقال: يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام: «لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة» .
وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أنها محبطة.
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ يخفضونها. عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مراعاة للأدب أو مخافة عن مخالفة النهي.
قيل كان أبو بكر وعمر بعد ذلك يسرانه حتى يستفهمهما. أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى جربها للتقوى ومرنها عليها، أو عرفها كائنة للتقوى خالصة لها، فإن الامتحان سبب المعرفة واللام صلة محذوف أو للفعل باعتبار الأصل، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى، فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها، أو أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم. وَأَجْرٌ عَظِيمٌ لغضهم وسائر طاعاتهم، والتنكير للتعظيم والجملة خبر ثان لأن، أو استئناف لبيان(5/133)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
ما هو جزاء الغاضبين إحماداً لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين، والمبتدأ إسم الإِشارة المتضمن لما جعل عنواناً لهم، والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بغضهم والارتضاء له، وتعريضاً بشناعة الرفع والجهر وأن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 5]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خارجها خلفها أو قدامها، ومن ابتدائية فإن المناداة نشأت من جهة الوراء، وفائدتها الدلالة على أن المنادي داخل الحجرة إذ لا بد وأن يختلف المبتدأ والمنتهى بالجهة، وقرئ «الحجرات» بفتح الجيم، وسكونها وثلاثتها جمع حجرة وهي القطعة من الأرض المحجورة بحائط، ولذلك يقال لحظيرة الإِبل حجرة. وهي فعلة بمعنى مفعول كالغرفة والقبضة، والمراد حجرات نساء النبي عليه الصلاة والسلام وفيها كناية خلوته بالنساء ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فأسند فعل الأبعاض إلى الكل. وقيل إن الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وفدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً من بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا يا محمد اخرج إلينا، وإنما أسند إلى جميعهم لأنهم رضوا بذلك أو أمروا به، أو لأنه وجد فيما بينهم.
أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة سيما لمن كان بهذا المنصب.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ أي ولو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج إليهم، فإن أن وإن دلت بما في حيزها على المصدر دلت بنفسها على الثبوت، ولذلك وجب إضمار الفعل وحتى تفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مغيا بخروجه، فإن حتى مختصة بغاية الشيء في نفسه ولذلك تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولا تقول حتى نصفها، بخلاف إلى فإنها عامة، وفي إِلَيْهِمْ إشعار بأنه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم. لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لكان الصبر خيراً لهم من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثناء والثواب، والإِسعاف بالمسؤول إذ روي أنهم وفدوا شافعين في أسارى بني العنبر فأطلق النصف وفادى النصف. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب التاركين تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام.
[سورة الحجرات (49) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا فتعرفوا وتصفحوا،
روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث الوليد بن عقبة مصدقاً إلى بني المصطلق وكان بينه وبينهم إحنة، فلما سمعوا به استقبلوه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فهم بقتالهم فنزلت.
وقيل بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع، وتنكير الفاسق والنبأ للتعميم، وتعليق الأمر بالتبين على فسق المخبر يقتضي جواز قبول خبر العدل من حيث إن المعلق على شيء بكلمة إن عدم عند عدمه، وأن خبر الواحد لو وجب تبينه من حيث هو كذلك لما رتب على الفسق، إذ الترتيب يفيد التعليل وما بالذات لا يعلل بالغير. وقرأ حمزة والكسائي فتثبتوا أي فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال. أَنْ تُصِيبُوا كراهة إصابتكم. قَوْماً بِجَهالَةٍ جاهلين بحالهم. فَتُصْبِحُوا فتصيروا. عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ مغتمين غما لازماً متمنين أنه لم يقع، وتركيب هذه الأحرف الثلاثة دائر مع الدوام.(5/134)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
[سورة الحجرات (49) : الآيات 7 الى 8]
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أن بما في حيزه ساد مسد مفعولي اعلموا باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ فإنه حال من أحد ضميري فيكم، ولو جعل استئنافاً لم يظهر للأمر فائدة. والمعنى أن فيكم رسول الله على حال يجب تغييرها وهي أنكم تريدون أن يتبع رأيكم في الحوادث، ولو فعل ذلك لَعَنِتُّمْ أي لوقعتم في الجهد من العنت، وفيه إشعار بأن بعضهم أشار إليه بالإِيقاع ببني المصطلق وقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ استدراك ببيان عذرهم، وهو أنه من فرط حبهم للإِيمان وكراهتهم للكفر حملهم على ذلك لما سمعوا قول الوليد، أو بصفة من لم يفعل ذلك منهم إحماداً لفعلهم وتعريضاً بذم من فعل ويؤيده قوله: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي أولئك المستثنون هم الذين أصابوا الطريق السوي، وَكَرَّهَ يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد فإذا شدد زاد له آخر، لكنه لما تضمن معنى التبغيض نزل كره منزلة بغض فعدي إلى آخر بإلى، أو نزل إليكم منزلة مفعول آخر. والْكُفْرَ: تغطية نعم الله بالجحود. وَالْفُسُوقَ: الخروج عن القصد وَالْعِصْيانَ:
الامتناع عن الانقياد.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً تعليل ل كَرَّهَ أو حَبَّبَ، وما بينهما اعتراض لا ل الرَّاشِدُونَ فإن الفضل فعل الله، والرشد وإن كان مسبباً عن فعله مسند إلى ضميرهم أو مصدر لغير فعله فإن التحبيب والرشد فضل من الله وإنعام. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل حَكِيمٌ حيث يفضل وينعم بالتوفيق عليهم.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا تقاتلوا والجمع باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى. فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى تعدت عليها. فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ ترجع إلى حكمه أو ما أمر به، وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس، والغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين. فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بفصل ما بينهما على ما حكم الله، وتقييد الإِصلاح بالعدل ها هنا لأنه مظنة الحيف من حيث إنه بعد المقاتلة. وَأَقْسِطُوا واعدلوا في كل الأمور. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يحمد فعلهم بحسن الجزاء. والآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالسعف والنعال، وهي تدل على أن الباغي مؤمن وأنه إذا قبض عن الحرب ترك كما جاء في الحديث لأنه فيء إلى أمر الله تعالى، وأنه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ من حيث إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإِيمان الموجب للحياة الأبدية، وهو تعليل وتقرير للأمر بالإِصلاح ولذلك كرره مرتباً عليه بالفاء فقال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ووضع الظاهر موضع الضمير مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتخصيص، وخص الإثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق. وقيل المراد بالأخوين الأوس والخزرج. وقرئ «بين إخوتكم» و «إخوانكم» . وَاتَّقُوا(5/135)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
اللَّهَ
في مخالفة حكمه والإِهمال فيه. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على تقواكم.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 11 الى 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ أي لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيراً عند الله من الساخر، والقوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر وزور، والقيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ وحيث فسر بالقبيلين كقوم عاد وفرعون، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع، واختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع وعَسى باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي ولا خبر لها لإغناء الإسم عنه. وقرئ «عسوا أن يكونوا» و «عسين أن يكن» فهي على هذا ذات خبر. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي ولا يغتب بعضكم بعضاً فإن المؤمنين كنفس واحدة، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه. واللمز الطعن باللسان. وقرأ يعقوب بالضم. وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفاً. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإِيمان واشتهارهم به، والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسق إلى المؤمنين خصوصاً إذ
روي أن الآية نزلت في صفية بنت حيي رضي الله عنها، أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها «هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد عليهم السلام» .
أو الدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإِيمان مستقبح. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما نهى عنه. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ كونوا منه على جانب، وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وما يحرم كالظن في الإِلهيات والنبوات وحيث يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين، وما يباح كالظن في الأمور المعاشية. إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ مستأنف للأمر، والإِثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه. والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها. وَلا تَجَسَّسُوا ولا تبحثوا عن عورات المسلمين، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمس، وقرئ بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ولذلك قيل للحواس الخمس الجواس.
وفي الحديث «لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته» .
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ولا يذكر بعضكم بعضاً بالسوء في غيبته.
وسئل عليه الصلاة والسلام عن الغيبة فقال: «أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» .
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه مع مبالغات الاستفهام المقرر، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإِنسان وجعل المأكول أخاً وميتاً وتعقيب ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ تقريراً وتحقيقاً لذلك. والمعنى إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته، وانتصاب مَيْتاً على الحال من اللحم أو الأخ وشدده نافع. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ لمن اتقى ما نهى عنه وتاب مما فرط منه، والمبالغة في ال تَوَّابٌ لأنه بليغ في قبول التوبة إذ(5/136)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
يجعل صاحبها كمن لم يذنب، أو لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم،
روي: أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً، وكان أسامة على طعامه فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لهما: «ما لي أرى حضرة اللحم في أفواهكما» ، فقالا: ما تناولنا لحماً، فقال: «إنكما قد اغتبتما» فنزلت.
[سورة الحجرات (49) : آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى من آدم وحواء عليهما السلام، أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب. ويجوز أن يكون تقريراً للأخوة المانعة عن الاغتياب.
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد وهو يجمع القبائل. والقبيلة تجمع العمائر. والعمارة تجمع البطون. والبطن تجمع الأفخاذ. والفخذ يجمع الفضائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، وعباس فصيلة. وقيل الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب. لِتَعارَفُوا ليعرف بعضكم بعضاً لا للتفاخر بالآباء والقبائل. وقرئ «لتعارفوا» بالإِدغام و «لتتعارفوا» و «لتعرفوا» . إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فإن التقوى بها تكمل النفوس وتتفاضل بها الأشخاص، فمن أراد شرفاً فليلتمسه منها كما
قال عليه الصلاة والسلام «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله»
وقال عليه السلام «يَا أَيُّهَا الناس إِنَّمَا الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله» .
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكم خَبِيرٌ ببواطنكم.
[سورة الحجرات (49) : آية 14]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون. قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا إذ الإِيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب، ولم يحصل لكم وإلا لما مننتم على الرسول عليه الصلاة والسلام بالإِسلام وترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة. وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإِسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادتين وترك المحاربة، يشعر به وكان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم فعدل منه إلى هذا النظم احترازاً من النهي عن القول بالإِيمان والجزم بإسلامهم، وقد فقد شرط اعتباره شرعاً. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ توقيت ل قُولُوا فإنه حال من ضميره أي: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ولم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد. وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإِخلاص وترك النفاق. لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ لا ينقصكم من أجورها. شَيْئاً من لات يليت ليتا إذا نقص، وقرأ البصريان «لا يألتكم» من الألت وهو لغة غطفان. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من المطيعين.
رَحِيمٌ بالتفضل عليهم.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 15 الى 16]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
.(5/137)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة، وفيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإِيمان عنهم، وثُمَّ للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإِيمان ليس حال الإِيمان فقط بل فيه وفيما يستقبل فهي كما في قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا. وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعته والمجاهدة بالأموال والأنفس تصلح للعبادات المالية والبدنية بأسرها. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الذين صدقوا في إدعاء الإِيمان.
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أتخبرونه به بقولكم آمَنَّا. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه خافية، وهو تجهيل لهم وتوبيخ.
روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 17 الى 18]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا يعدون إسلامهم عليك منة وهي النعمة التي لا يستثيب موليها ممن بذلها إليه، من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته. وقيل النعمة الثقيلة من المن. قُلْ لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي بإسلامكم، فنصب بنزع الخافض أو تضمين الفعل معنى الاعتدال. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ على ما زعمتم مع أن الهداية لا تستلزم الاهتداء، وقرئ «إن هَداكُمْ» بالكسر و «إِذْ هَداكُمْ» .
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادعاء الإِيمان، وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم، وفي سياق الآية لطف وهو أنهم لما سموا ما صدر عنهم إيماناً ومنوا به فنفى أنه إيماٌن وسماه إسلاماً بأن قال يمنون عليكم بما هو في الحقيقة إسلام وليس بجدير أن يمن به عليك، بل لو صح ادعاؤهم للإِيمان فلله المنة عليهم بالهداية له لا لهم.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ما غاب فيهما. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم، وقرأ ابن كثير بالياء لما في الآية من الغيبة.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه» .(5/138)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
(50) سورة ق
مكية، وهي خمس وأربعون آية
[سورة ق (50) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الكلام فيه كما مر في ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. والْمَجِيدِ ذو المجد والشرف على سائر الكتب، أو لأنه كلام المجيد، أو لأن من علم معانيه وامتثل أحكامه مجد.
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم أحد من جنسهم أو من أبناء جلدتهم. فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ حكاية لتعجبهم، وهذا إشارة إلى اختيار الله محمداً للرسالة، وإضمار ذكرهم ثم إظهاره للاشعار بتعنتهم بهذا المقال، ثم التسجيل على كفرهم بذلك أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة، والمبالغة فيه بوضع الظاهر موضع ضميرهم وحكاية تعجبهم مبهماً إن كانت الإِشارة إلى مبهم يفسره ما بعده، أو مجملا إن كانت الإِشارة إلى محذوف دل عليه منذر، ثم تفسيره أو تفصيله لأنه أدخل في الإنكار إذ الأول استبعاد لأن يفضل عليهم مثلهم، والثاني استقصار لقدرة الله تعالى عما هو أهون مما يشاهدون من صنعه.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً أي أنرجع إذا متنا وصرنا تراباً، ويدل على المحذوف قوله: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي بعيد عن الوهم أو العادة أو الإِمكان. وقيل الرجع بمعنى المرجوع.
[سورة ق (50) : الآيات 4 الى 5]
قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ما تأكل من أجساد موتاهم، وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه، وقيل إنه جواب القسم واللام محذوف لطول الكلام. وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، أو محفوظ عن التغيير، والمراد إما تمثيل علمه بتفاصيل الأشياء بعلم من عنده كتاب محفوظ يطالعه، أو تأكيد لعلمه بها بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ يعني النبوة الثابتة بالمعجزات، أو النبي صلّى الله عليه وسلم، أو القرآن. لَمَّا جاءَهُمْ وقرئ «لمّا» بالكسر. فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب من مرج الخاتم في أصبعه إذا خرج، وذلك قولهم تارة أنه شاعِرٌ وتارة أنه ساحِرٌ وتارة أنه كاهن.
[سورة ق (50) : الآيات 6 الى 8]
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)(5/139)
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا بالبعث. إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ إلى آثار قدرة الله تعالى في خلق العالم.
كَيْفَ بَنَيْناها رفعناها بلا عمد. وَزَيَّنَّاها بالكواكب. وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ فتوق بأن خلقها ملساء متلاصقة الطباق.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها. وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالاً ثوابت. وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي من كل صنف. بَهِيجٍ حسن.
تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنعه، وهما علتان للأفعال المذكورة معنى وإن انتصبتا عن الفعل الأخير.
[سورة ق (50) : الآيات 9 الى 11]
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاء مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاء مُبارَكاً كثير المنافع فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ أشجاراً وأثماراً. وَحَبَّ الْحَصِيدِ وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبر والشعير.
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ طوالاً أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون من أفعل فهو فاعل، وإفرادها بالذكر لفرط ارتفاعها وكثرة منافعها. وقرئ «باصقات» لأجل القاف. لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر.
رِزْقاً لِلْعِبادِ علة ل أَنْبَتْنا أو مصدر، فإن الإِنبات رزق. وَأَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء. بَلْدَةً مَيْتاً أرضاً جدبة لا نماء فيها. كَذلِكَ الْخُرُوجُ كما حييت هذه البلدة يكون خروجكم أحياء بعد موتكم.
[سورة ق (50) : الآيات 12 الى 14]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ أراد بفرعون إياه وقومه ليلائم ما قبله وما بعده. وَإِخْوانُ لُوطٍ أخدانه لأنهم كانوا أصهاره.
وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ سبق في «الحجر» و «الدخان» . كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي كل واحد أو قوم منهم أو جميعهم، وإفراد الضمير لإِفراد لفظه. فَحَقَّ وَعِيدِ فوجب وحل عليه وعيدي، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم.
[سورة ق (50) : الآيات 15 الى 16]
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أي أفعجزنا عن الإِبداء حتى نعجز عن الإِعادة، من عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة فيه للإِنكار. بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول بل هم في خلط، وشبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة، وتنكير الخلق الجديد لتعظيم شأنه والإِشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ما تحدثه به نفسه وهو ما يخطر بالبال، والوسوسة الصوت الخفي ومنها وسواس الحلي، والضمير ل ما إن جعلت موصولة والباء مثلها في صوت بكذا، أو ل الْإِنْسانَ إن جعلت مصدرية والباء للتعدية. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي ونحن أعلم بحاله ممن(5/140)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
كان أقرب إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، تجوز بقرب الذات لقرب العلم لأنه موجبه وحَبْلِ الْوَرِيدِ مثل في القرب قال: والموت أدنى من الوريد. وال حَبْلِ العرق وإضافته للبيان، والوريدان عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه، وقيل سمي وريداً لأن الروح ترده.
[سورة ق (50) : الآيات 17 الى 18]
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ مقدر باذكر أو متعلق ب أَقْرَبُ، أي هو أعلم بحاله من كل قريب حين يتلقى أي يتلقن الحفيظان ما يتلفظ به، وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين فإنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما، لكنه لحكمة اقتضته وهي ما فيه من تشديد يثبط العبد عن المعصية، وتأكيد في اعتبار الأعمال وضبطها للجزاء وإلزام للحجة يوم يقوم الاشهاد. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي عَنِ الْيَمِينِ قعيد وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، أي مقاعد كالجليس فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقوله: فإنِّي وَقَيَّارٌ بها لغريب.
وقد يطلق الفعيل للواحد والمتعدد كقوله: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ.
مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يرمي به من فيه. إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ملك يرقب عمله. عَتِيدٌ معد حاضر، ولعله يكتب عليه ما فيه ثواب أو عقاب
وفي الحديث «كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر» .
[سورة ق (50) : الآيات 19 الى 20]
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ لما ذكر استبعادهم البعث للجزاء وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه أعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب عند الموت وقيام الساعة، ونبه على اقترابه بأن عبر عنه بلفظ الماضي، وسكرة الموت شدته الذاهبة بالعقل والباء للتعدية كما في قولك: جاء زيد بعمرو. والمعنى وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر أو الموعود الحق، أو الحق الذي ينبغي أن يكون من الموت أو الجزاء، فإن الإِنسان خلق له أو مثل الباء في تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ. وقرئ «سكرة الحق بالموت» على أنها لشدتها اقتضت الزهوق أو لاستعقابها له كأنها جاءت به، أو على أن الباء بمعنى مع. وقيل سَكْرَةُ الحق سكرة الله وإضافتها إليه للتهويل. وقرئ «سكرات الموت» . ذلِكَ أي الموت. مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ تميل وتنفر عنه والخطاب للإِنسان.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعني نفخة البعث. ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي وقت ذلك يوم تحقق الوعيد وإنجازه والإِشارة إلى مصدر نُفِخَ.
[سورة ق (50) : الآيات 21 الى 22]
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ملكان أحدهما يسوقه والآخر يشهد بعمله، أو ملك جامع للوصفين. وقيل السائق كاتب السيئات، والشهيد كاتب الحسنات. وقيل السائق نفسه أو قرينه والشهيد جوارحه أو أعماله، ومحل مَعَها النصب على الحال من كل لإِضافته إلى ما هو في حكم المعرفة.
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا على إضمار القول والخطاب لِكُلِّ نَفْسٍ إذ ما من أحد إلا وله اشتغال ما عن الآخرة أو للكفار. فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الغطاء الحاجب لأمور المعاد، وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والإِلف بها وقصور النظر عليها. فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ نافذ لزوال المانع للأبصار. وقيل(5/141)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى: كنت في غفلة من أمر الديانة فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون. ويؤيد الأول قراءة من كسر التاء والكافات على خطاب النفس.
[سورة ق (50) : الآيات 23 الى 25]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
وَقالَ قَرِينُهُ قال الملك الموكل عليه. هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا ما هو مكتوب عندي حاضر لدي، أو الشيطان الذي قيض له هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم هيأته لها باغوائي وإضلالي، وما إن جعلت موصوفة ف عَتِيدٌ صفتها وإن جعلت موصولة فبدلها أو خبر بعد خبر أو خبر محذوف.
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد، أو لملكين من خزنة النار، أو لواحد وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل وتكريره كقوله:
فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِر ... وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمٍ عِرْضاً مُمنعاً
أَو الألف بدل من نون التأكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف، ويؤيده أنه قرئ «ألقين» بالنون الخفيفة. عَنِيدٍ معاند للحق.
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للمال عن حقوقه المفروضة. وقيل المراد بالخير الإِسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه عنه. مُعْتَدٍ متعد. مُرِيبٍ شاك في الله وفي دينه.
[سورة ق (50) : الآيات 26 الى 27]
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ مبتدأ متضمن معنى الشرط وخبره. فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ أو بدل من كُلَّ كَفَّارٍ فيكون فَأَلْقِياهُ تكريراً للتوكيد، أو مفعول لمضمر يفسره فَأَلْقِياهُ.
قالَ قَرِينُهُ أي الشيطان المقيض له، وإنما استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول فإنه جواب لمحذوف دل عليه. رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ كأن الكافر قال هو أطغاني ف قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ بخلاف الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها للدلالة على الجمع بين مفهوميهما في الحصول، أعني مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه: وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ فأعنته عليه فإن إغواء الشياطين إنما يؤثر فيمن كان مختل الرأي مائلاً إلى الفجور كما قال: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.
[سورة ق (50) : الآيات 28 الى 29]
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)
قالَ أي الله تعالى. لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي في موقف الحساب فإنه لا فائدة فيه، وهو استئناف مثل الأول. وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلم يبق لكم حجة. وهو حال فيه تعليل للنهي أي لاَ تَخْتَصِمُوا عالمين بأني أوعدتكم، والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم، ويجوز أن يكون بِالْوَعِيدِ حالاً والفعل واقعاً على قوله:
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي بوقوع الخلف فيه فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي. وعفو بعض المذنبين لبعض الأسباب ليس من التبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد. وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فأعذب من(5/142)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
ليس لي تعذيبه.
[سورة ق (50) : آية 30]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ سؤال وجواب جيء بهما للتخييل والتصوير، والمعنى أنها مع اتساعها تطرح فيها الجنة والناس فوجاً فوجا حتى تمتلئ لقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ، أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد فراغ، أو أنها من شدة زفيرها وحدتها وتشبثها بالعصاة كالمستكثرة لهم والطالبة لزيادتهم. وقرأ نافع وأبو بكر يقول بالياء وال مَزِيدٍ إما مصدر كالمحيد أو مفعول كالمبيع، ويَوْمَ مقدر باذكر أو ظرف ل نُفِخَ فيكون ذلك إشارة إليه فلا يفتقر إلى تقدير مضاف.
[سورة ق (50) : الآيات 31 الى 35]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ قربت لهم. غَيْرَ بَعِيدٍ مكاناً غير بعيد، ويجوز أن يكون حالاً وتذكيره لأنه صفة محذوف، أو شيئاً غير بعيد أو على زنة المصدر أو لأن الجنة بمعنى البستان.
هذا مَا تُوعَدُونَ على إضمار القول والإِشارة إلى الثواب أو مصدر أُزْلِفَتِ. وقرأ ابن كثير بالياء.
لِكُلِّ أَوَّابٍ رجاع إلى الله تعالى، بدل من «المتقين» بإعادة الجار. حَفِيظٍ حافظ لحدوده.
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ بدل بعد بدل أو بدل من موصوف أَوَّابٍ، ولا يجوز أن يكون في حكمه لأن مَنْ لا يوصف به أو مبتدأ خبره:
ادْخُلُوها على تأويل يقال لهم ادْخُلُوها، فإن من بمعنى الجمع وبالغيب حال من الفاعل أو المفعول، أو صفة لمصدر أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب، أو العقاب بعد غيب أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد. وتخصيص الرَّحْمنَ للإِشعار بأنهم يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويخافون عَذَابَهُ، أو بأنهم يخشون مع علمهم بسعة رحمته، ووصف القلب بالإِنابة إذ الاعتبار برجوعه إلى الله. بِسَلامٍ سالمين من العذاب وزوال النعم، أو مسلماً عليكم من الله وملائكته. ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ يوم تقدير الخلود كقوله:
فَادْخُلُوها خالِدِينَ.
لَهُمْ مَّا يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ وهو ما لا يخطر ببالهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
[سورة ق (50) : آية 36]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ قبل قومك. مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً قوة كعاد وثمود وفرعون. فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ فخرقوا في البلاد وتصرفوا فيها، أو جالوا في الأرض كل مجال حذر الموت، فالفاء على الأول للتسبب وعلى الثاني لمجرد التعقيب، وأصل التنقيب التنقير عن الشيء والبحث عنه. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي لهم من الله أو من الموت. وقيل الضمير في فَنَقَّبُوا لأهل مكة أي ساروا في أسفارهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيضا حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم، ويؤيده أنه قرئ «فنقّبوا» على الأمر، وقرئ «فَنَقَّبُواْ» بالكسر من النقب وهو أن ينتقب خف البعير أي أكثروا السير حتى نقبت أقدامهم أو أخفاف مراكبهم.(5/143)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
[سورة ق (50) : الآيات 37 الى 38]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38)
إِنَّ فِي ذلِكَ فيما ذكر في هذه السورة. لَذِكْرى لتذكرة. لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع يتفكر في حقائقه. أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي أصغى لاستماعه. وَهُوَ شَهِيدٌ حاضر بذهنه ليفهم معانيه، أو شاهد بصدقه فيتعظ بظواهره وينزجر بزواجره، وفي تنكير ال قَلْبٌ وإبهامه تفخيم وإشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر كلا قلب.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مر تفسيره مراراً. وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ من تعب وإعياء، وهو رد لما زعمت اليهود من أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش.
[سورة ق (50) : الآيات 39 الى 40]
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40)
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإن من قدر على خلق العالم بلا اعياء قدر على بعثهم والانتقام منهم، أو ما يقول اليهود من الكفر والتشبيه. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ونزهه عن العجز عما يمكن والوصف بما يوجب التشبيه حامداً له على ما أنعم عليك من إصابة الحق وغيرها. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ يعني الفجر والعصر وقد عرفت فضيلة الوقتين.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي وسبحه بعض الليل. وَأَدْبارَ السُّجُودِ وأعقاب الصلوات جمع دبر من أدبر، وقرأ الحجازيان وحمزة وخلف بالكسر من أدبرت الصلاة إذا انقضت. وقيل المراد بالتسبيح الصلاة، فالصلاة قبل الطلوع: الصبح وقبل الغروب: الظهر، والعصر. ومن الليل: العشاءان، والتهجد. وأدبار السجود النوافل بعد المكتوبات، وقيل الوتر بعد العشاء.
[سورة ق (50) : الآيات 41 الى 43]
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)
وَاسْتَمِعْ لما أخبرك به من أحوال القيامة، وفيه تهويل وتعظيم للمخبر به. يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ إسرافيل أو جبريل عليهما السلام فيقول: أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء، ولعله في الإِعادة نظير «كن» في الإِبداء، ويوم نصب بما دل عليه يوم الخروج.
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بدل منه والصَّيْحَةَ النفخة الثانية. بِالْحَقِّ متعلق ب الصَّيْحَةَ والمراد به البعث للجزاء. ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور، وهو من أسماء يوم القيامة وقد يقال للعيد.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ في الدنيا. وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ للجزاء في الآخرة.
[سورة ق (50) : الآيات 44 الى 45]
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)(5/144)
يَوْمَ تَشَقَّقُ تتشقق، وقرى «تنشق» . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو بتخفيف الشين.
الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً مسرعين. ذلِكَ حَشْرٌ بعث وجمع. عَلَيْنا يَسِيرٌ هين، وتقديم الظرف للاختصاص فإن ذلك لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال الله تعالى:
مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتهديد لهم. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ بمسلط تقسرهم على الإِيمان، أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت داع. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فإنه لا ينتفع به غيره.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة «ق» هون الله عليه تارات الموت وسكراته» .
والله أعلم.(5/145)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
(51) سورة والذاريات
مكية وآيها ستون آية
[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3)
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً يعني الرياح تذرو التراب وغيره، أو النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد، أو الأسباب التي تذري الخلائق من الملائكة وغيرهم. وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الذال.
فَالْحامِلاتِ وِقْراً فالسحب الحاملة للأمطار، أو الرياح الحاملة للسحاب، أو النساء الحوامل، أو أسباب ذلك. وقرئ «وِقْراً» على تسمية المحمول بالمصدر.
فَالْجارِياتِ يُسْراً فالسفن الجارية في البحر سهلاً، أو الرياح الجارية في مهابها، أو الكواكب التي تجري في منازلها. ويُسْراً صفة مصدر محذوف أي جريا ذا يسر.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 4 الى 6]
فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6)
فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة، أو الرياح يقسمن الأمطار بتصريف السحاب، فإن حملت على ذوات مختلفة فالفاء لترتيب الأقسام بها باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة، وإلا فالفاء لترتيب الأفعال إذ الريح مثلاً تذرو الأبخرة إلى الجو حتى تنعقد سحاباً، فتحمله فتجري به باسطة له إلى حيث أمرت به فتقسم المطر.
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ.
وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ جواب القسم كأنه استدل باقتداره على هذه الأشياء العجيبة المخالفة لمقتضى الطبيعة على اقتداره على البعث للجزاء الموعود، وما موصولة أو مصدرية والدِّينَ الجزاء والواقع الحاصل.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 7 الى 9]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ذات الطرائق، والمراد إما الطرائق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو المعقولة التي يسلكها النظار وتتوصل بها إلى المعارف، أو النجوم فإن لها طرائق أو أنها تزينها كما يزين الموشي طرائق الوشي. جمع حبيكة كطريقة وطرق أو حباك كمثال ومثل. وقرئ «الحبك» بالسكون و «الحبك» كالإِبل و «الحبك» كالسلك و «الحبك» كالجبل و «الحبك» كالنعم و «الحبك» كالبرق.
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في الرسول صلّى الله عليه وسلم وهو قولهم تارة أنه شاعِرٌ وتارة أنه ساحِرٍ وتارة أنه مَجْنُونٍ، أو في القرآن أو القيامة أو أمر الديانة، ولعل النكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بطرائق السموات في تباعدها واختلاف غاياتها.
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ يصرف عنه والضمير للرسول أو القرآن أو الإيمان، من صرف إذ لا صرف أشد(5/146)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
منه فكأنه لا صرف بالنسبة إليه، أو يصرف من صرف في علم الله وقضائه ويجوز أن يكون الضمير لل قَوْلٍ على معنى يصدر أُفِكَ من أفك عن القول المختلف وبسببه كقوله: ينهون عن أكل وعن شرب. أي يصدر تناهيهم عنهما وبسببهما وقرئ «أُفِكَ» بالفتح أي من أفك الناس وهم قريش كانوا يصدون الناس عن الإيمان.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 10 الى 14]
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الكذابون من أصحاب القول المختلف، وأصله الدعاء بالقتل أجري مجرى اللعن.
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ في جهل يغمرهم. ساهُونَ غافلون عما أمروا به.
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي فيقولون متى يوم الجزاء أي وقوعه، وقرئ «إيَّانَ» بالكسر.
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يحرقون جواب للسؤال أي يقع يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ، أو هو يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ، وفتح يَوْمَ لإِضافته إلى غير متمكن ويدل عليه أنه قرئ بالرفع.
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي مقولاً لهم هذا القول. هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ هذا العذاب هو الذى كنتم به تستعجلون، ويجوز أن يكون هذا بدلا من فِتْنَتَكُمْ والَّذِي صفته.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 19]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قابلين لما أعطاهم راضين به، ومعناه أن كل ما آتاهم حسن مرضي متلقى بالقبول. إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ قد أحسنوا أعمالهم وهو تعليل لاستحقاقهم ذلك.
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ تفسير لإِحسانهم وما مزيدة أي يهجعون في طائفة من الليل، أو يَهْجَعُونَ هجوعاً قليلاً أو مصدرية أو موصولة أي في قليل من الليل هجوعهم، أو ما يهجعون فيه ولا يجوز أن تكون نافية لأن مَا بعدها لا يعمل فيما قبلها. وفيه مبالغات لتقليل نومهم واستراحتهم ذكر القليل واللَّيْلِ الذي هو وقت السبات، والهجوع الذي هو الفرار من النوم وزيادة مَا.
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي أنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم، وفي بناء الفعل على الضمير إشعاراً بأنهم أحقاء بذلك لوفور علمهم بالله وخشيتهم منه.
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ نصيب يستوجبونه على أنفسهم تقرباً إلى الله وإشفاقاً على الناس. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ للمستجدي والمتعفف الذي يظن غنياً فيحرم الصدقة.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 20 الى 21]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ أي فيها دلائل من أنواع المعادن والحيوانات، أو وجوه دلالات من الدحو والسكون وارتفاع بعضها عن الماء واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص والمنافع، تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط رحمته.
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي وفي أنفسكم آيات إذ ما في العالم شيء إلا وفي الإِنسان له نظير يدل دلالته مع ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة، والتمكن من الأفعال الغريبة واستنباط الصنائع(5/147)
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة. أَفَلا تُبْصِرُونَ تنظرون نظر من يعتبر.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 22 الى 23]
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أسباب رزقكم أو تقديره. وقيل المراد ب السَّماءِ السحاب وبالرزق المطر فإنه سبب الأقوات. وَما تُوعَدُونَ من الثواب لأن الجنة فوق السماء السابعة، أو لأن الأعمال وثوابها مكتوبة مقدرة في السماء. وقيل إنه مستأنف خبره:
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ وعلى هذا فالضمير ل مَا وعلى الأول يحتمل أن يكون له ولما ذكر من أمر الآيات والرزق والوعد. مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في تحقق ذلك، ونصبه على الحال من المستكن في لَحَقٌّ أو الوصف لمصدر محذوف أي أنه لحق حقاً مثل نطقكم. وقيل إنه مبني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت بمعنى شيء، وإن بما في حيزها إن جعلت زائدة ومحله الرفع على أنه صفة لَحَقٌّ، ويؤيده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر بالرفع.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 25]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه أوحي إليه، والضيف في الأصل مصدر ولذلك يطلق على الواحد والمتعدد. قيل كانوا إثني عشر ملكاً. وقيل ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل، وسماهم ضيفاً لأنهم كانوا في صورة الضيف. الْمُكْرَمِينَ أي مكرمين عند الله أو عند إبراهيم إذ خدمهم بنفسه وزوجته.
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ظرف لل حَدِيثُ أو ال ضَيْفِ أو الْمُكْرَمِينَ. فَقالُوا سَلاماً أي نسلم عليك سلاماً. قالَ سَلامٌ أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى تكون تحيته أحسن من تحيتهم، وقرئا مرفوعين وقرأ حمزة والكسائي «قَالَ سلم» وقرئ منصوباً والمعنى واحد. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي أنتم قوم منكرون، وإنما أنكرهم لأنه ظن أنهم بنو آدم ولم يعرفهم، أو لأن السلام لم يكن تحيتهم فإنه علم الإِسلام وهو كالتعرف عنهم.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 26 الى 28]
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فذهب إليهم في خفية من ضيفه فإن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى حذراً من أن يكفه الضيف أو يصير منتظراً. فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ لأنه كان عامة ماله البقر.
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بأن وضعه بين أيديهم. قالَ أَلا تَأْكُلُونَ أي منه، وهو مشعر بكونه حنيذا، والهمزة فيه للعرض والحث على الأكل على طريقة الأدب أن قاله أول ما وضعه، وللإِنكار إن قاله حينما رأى إعراضهم.
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فأضمر منهم خوفاً لما رأى إعراضهم عن طعامه لظنه أنهم جاءوه لشر. وقيل وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب. قالُوا لاَ تَخَفْ إنا رسل الله. قيل مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم. وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ هو اسحق عليه السلام. عَلِيمٍ يكمل علمه إذ بلغ.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 29 الى 30]
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)(5/148)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم. فِي صَرَّةٍ في صيحة من الصرير، ومحله النصب على الحال أو المفعول إن أول فأقبلت بأخذت. فَصَكَّتْ وَجْهَها فلطمت بأطراف الأصابع جبهتها فعل المتعجب. وقيل وجدت حرارة دم الحيض فلطمت وجهها من الحياء. وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي أنا عجوز عاقر فكيف ألد.
قالُوا كَذلِكَ مثل ذلك الذي بشرنا به. قالَ رَبُّكِ وإنما نخبرك به عنه. إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ فيكون قوله حقاً وفعله محكما.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 31 الى 34]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون مجتمعين إلا لأمر عظيم سأل عنه.
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنون قوم لوط.
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ يريد السجيل فإنه طين متحجر.
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ مرسلة من أسمت الماشية، أو معلمة من السومة وهي العلامة. لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحد في الفجور.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 35 الى 37]
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها في قرى قوم لوط وإضمارها ولم يجر ذكرها لكونها معلومة. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ممن آمنَ بلوط.
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غير أهل بيت من المسلمين، واستدل به على اتحاد الإِيمان والإِسلام وهو ضعيف لأن ذلك لا يقتضي إلا من صدق المؤمن والمسلم على من اتبعه، وذلك لا يقتضي اتحاد مفهوميهما لجواز صدق المفهومات المختلفة على ذات واحدة.
وَتَرَكْنا فِيها آيَةً علامة. لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ فإنهم المعتبرون بها وهي تلك الأحجار، أو صخر منضود فيها أو ماء أسود منتن.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 40]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
وَفِي مُوسى عطف على وَفِى الأرض، أو تَرَكْنا فِيها على معنى وجعلنا في موسى كقوله:
علفتها تبناً وماء بارداً. إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ هو معجزاته كالعصا واليد.
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ فأعرض عن الإِيمان به كقوله وَنَأى بِجانِبِهِ أو فتولى بما كان يتقوى به من جنوده، وهو اسم لما يركن إليه الشيء ويتقوى به. وقرئ بضم الكاف. وَقالَ ساحِرٌ أي هو ساحر. أَوْ مَجْنُونٌ كأنه جعل ما ظهر عليه من الخوارق منسوباً إلى الجن، وتردد في أنه حصل ذلك باختياره وسعيه أو بغيرهما.(5/149)
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
أَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ
فأغرقناهم في البحر. هُوَ مُلِيمٌ
آت بما يلام عليه من الكفر والعناد، والجملة حال من الضمير في أَخَذْناهُ.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 41 الى 42]
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ سماها عقيماً لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم، أو لأنها لم تتضمن منفعة، وهي الدبور أو الجنوب أو النكباء.
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ مرت. عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ كالرماد من الرم وهو البلى والتفتت.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 43 الى 45]
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ تفسيره قوله: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ.
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فاستكبروا عن امتثاله. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي العذاب بعد الثلاث. وقرأ الكسائي «الصعقة» وهي المرة من الصعق. وَهُمْ يَنْظُرُونَ إليها فإنها جاءتهم معاينة بالنهار.
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ كقوله: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. وقيل من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه. وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ممتنعين منه.
[سورة الذاريات (51) : آية 46]
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)
وَقَوْمَ نُوحٍ أي وأهلكنا قوم نوح لأن ما قبله يدل عليه. أو أذكر ويجوز أن يكون عطفاً على محل فِي عادٍ، ويؤيده قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي بالجر. مِنْ قَبْلُ من قبل هؤلاء المذكورين. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الاستقامة بالكفر والعصيان.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 49]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ بقوة. وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة والموسع القادر على الإنفاق. أو لَمُوسِعُونَ السماء أو ما بينها وبين الأرض أو الرزق.
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها مهدناها لتستقروا عليها. فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن.
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ من الأجناس. خَلَقْنا زَوْجَيْنِ نوعين لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلمون أن التعدد من خواص الممكنات وأن الواجب بالذات لا يقبل التعدد والانقسام.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 50 الى 51]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ من عقابه بالإِيمان والتوحيد وملازمة الطاعة. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي من عذابه المعد لمن أشرك أو عصى. نَذِيرٌ مُبِينٌ بين كونه منذراً من الله بالمعجزات، أو مُبِينٌ ما يجب أن يحذر عنه.
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إفراد لأعظم ما يجب أن يفر منه. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تكرير للتأكيد، أو الأول مرتب على ترك الإِيمان والطاعة والثاني على الإِشراك.(5/150)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
[سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 55]
كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
كَذلِكَ أي الأمر مثل ذلك، والإِشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميتهم إياه ساحراً أو مجنوناً وقوله:
مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ كالتفسير له، ولا يجوز نصبه ب أَتَى أو ما يفسره لأن ما بعد مَا النافية لا يعمل فيما قبلها.
أَتَواصَوْا بِهِ أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضاً بهذا القول حتى قالوه جميعاً. بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن أن التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أن الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فاعرض عن مجادلتهم بعد ما كررت عليهم الدعوة فأبوا إلا الإِصرار والعناد. فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على الإِعراض بعد ما بذلت جهدك في البلاغ.
وَذَكِّرْ ولا تدع التذكير والموعظة. فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ من قدر الله إيمانه أو من آمن فإنه يزداد بها بصيرة.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 56 الى 58]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ لما خلقهم على صورة متوجهة إلى العبادة مغلبة لها، جعل خلقهم مغيا بها مبالغة في ذلك، ولو حمل على ظاهره مع أن الدليل يمنعه لنا في ظاهر قوله: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وقيل معناه إلا لأمرهم بالعبادة أو ليكونوا عباداً لي.
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي ما أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي فاشتغلوا بما أنتم كالمخلوقين له والمأمورين به، والمراد أن يبين أن شأنه مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم، فإنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم، ويحتمل أن يقدر بقل فيكون بمعنى قوله: قُلْ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الذي يرزق كل ما يفتقر إلى الرزق، وفيه إيماء باستغنائه عنه، وقرئ «إني أنا الرزاق» ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ شديد القوة، وقرئ «المتين» بالجر صفة ل الْقُوَّةِ.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 59 الى 60]
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً أي للذين ظلموا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتكذيب نصيباً من العذاب. مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة، وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالدلاء، فإن الذنوب هو الدلو العظيم المملوء. فَلا يَسْتَعْجِلُونِ جواب لقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ من يوم القيامة أو يوم بدر.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والذاريات أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا» .(5/151)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
(52) سورة والطور
مكية وآيها تسع أو ثمان وأربعون آية
[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
وَالطُّورِ يريد طور سينين، وهو جبل بمدين سمع فيه موسى عليه السلام كلام الله تعالى، وَالطُّورِ الجبل بالسريانية أو ما طار من أوج الإِيجاد إلى حضيض المواد، أو من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.
وَكِتابٍ مَسْطُورٍ مكتوب، والسطر ترتيب الحروف المكتوبة. والمراد به القرآن أو ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، أو ألواح موسى عليه السلام، أو في قلوب أوليائه من المعارف والحكم أو ما تكتبه الحفظة.
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ الرق الجلد الذي يكتب فيه استعير لما كتب فيه الكتاب، وتنكيرهما للتعظيم والإِشعار بأنهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس.
[سورة الطور (52) : الآيات 4 الى 6]
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ يعني الكعبة وعمارتها بالحجاج والمجاورين، أو الضراح وهو في السماء الرابعة وعمرانه كثرة غاشيته من الملائكة، أو قلب المؤمن وعمارته بالمعرفة والإخلاص.
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يعني السماء.
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي المملوء وهو المحيط، أو الموقد من قوله: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ
روي أنه تعالى يجعل يوم القيامة البحار ناراً يسجر بها نار جهنم، أو المختلط من السجير وهو الخليط.
[سورة الطور (52) : الآيات 7 الى 10]
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) مَّا لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10)
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ لنازل.
مَّا لَهُ مِنْ دافِعٍ يدفعه، ووجه دلالة هذه الأمور المقسم بها على ذلك أنها أمور تدل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته وصدق أخباره وضبطه أعمال العباد للمجازاة.
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً تضطرب، والمور تردد في المجيء والذهاب، وقيل تحرك في تموج ويَوْمَ ظرف.
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي تسير عن وجه الأرض فتصير هباء.
[سورة الطور (52) : الآيات 11 الى 14]
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)(5/152)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي إذا وقع ذلك فويل لهم.
الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي في الخوض في الباطل.
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا يدفعون إليها دفعاً بعنف، وذلك بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار. وقرئ «يَدَّعُونَ» من الدعاء فيكون دعا حالاً بمعنى مدعوين، ويَوْمَ بدل من يَوْمَ تَمُورُ أو ظرف لقول مقدر محكية.
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي يقال لهم ذلك.
[سورة الطور (52) : الآيات 15 الى 16]
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
أَفَسِحْرٌ هذا أي كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفهذا المصداق أيضاً سحر، وتقديم الخبر لأنه المقصود بالإِنكار والتوبيخ. أَمْ أَنْتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ هذا أيضاً كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، ما يدل عليه وهو تقريع وتهكم أو: أم سدت أبصاركم كما سدت في الدنيا على زعمكم حين قلتم إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا.
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا أي ادخلوها على أي وجه شئتم من الصبر وعدمه فإنه لا محيص لكم عنها. سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الأمران الصبر وعدمه. إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعليل للاستواء فإنه لما كان الجزاء واجب الوقوع كان الصبر وعدمه سيين في عدم النفع.
[سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 20]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ في أية جنات وأي نعيم، أو في جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ مخصوصة بهم.
فاكِهِينَ ناعمين متلذذين. بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وقرئ «فكهين» و «فاكهون» على أنه الخبر والظرف لغو. وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ عطف على آتاهُمْ إن جعل مَا مصدرية، أو فِي جَنَّاتٍ أو حال بإضمار قد من المستكن في الظرف أو الحال، أو من فاعل آتي أو مفعوله أو منهما.
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي أكلا وشرابا هَنِيئاً، أو طعاماً وشراباً هَنِيئاً وهو الذي لا تنغيص فيه.
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بسببه أو بدله، وقيل الباء زائدة و «ما» فاعل هَنِيئاً، والمعنى هنأكم مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاؤه.
مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ مصطفة وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ الباء لما في التزويج من معنى الوصل والإِلصاق، أو للسببية إذ المعنى صيرناهم أزواجاً بسببهن، أو لما في التزويج من معنى الإلصاق والقرن ولذلك عطف:
[سورة الطور (52) : آية 21]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)
وَالَّذِينَ آمَنُوا على حور أي قرناهم بأزواج حور ورفقاء مؤمنين. وقيل إنه مبتدأ خبره أَلْحَقْنا بِهِمْ وقوله: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ اعتراض للتعليل، وقرأ ابن عامر ويعقوب «ذرياتهم» بالجمع وضم التاء(5/153)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)
للمبالغة في كثرتهم والتصريح، فإن الذرية تقع على الواحد والكثير، وقرأ أبو عمرو و «أتبعناهم ذرياتهم» أي جعلناهم تابعين لهم في الإِيمان. وقيل بِإِيمانٍ حال من الضمير أو الذرية أو منهما وتنكيره للتعظيم، أو الإِشعار بأنه يكفي للإِلحاق المتابعة في أصل الإِيمان. أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في دخول الجنة أو الدرجة. لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية»
وقرأ نافع وابن عامر والبصريان ذرياتهم. وَما أَلَتْناهُمْ وما نقصناهم. مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ بهذا الإِلحاق فإنه كان يحتمل أن يكون بنقص مرتبة الآباء أو بإعطاء الأبناء بعض مثوباتهم، ويحتمل أن يكون بالتفضل عليهم وهو اللائق بكمال لطفه. وقرأ ابن كثير بكسر اللام من ألت يألت، وعنه «لتناهم» من لات يليت و «آلتناهم» من آلت يولت، و «ولتناهم» من ولت يلت ومعنى الكل واحد. كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ بعمله مرهون عند الله تعالى فإن عمل صالحاً فكه وإلا أهلكه.
[سورة الطور (52) : الآيات 22 الى 24]
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي وزدناهم وقتاً بعد وقت ما يشتهون من أنواع التنعم.
يَتَنازَعُونَ فِيها يتعاطون هم وجلساؤهم بتجاذب. كَأْساً خمراً سماها باسم محلها ولذلك أنث الضمير في قوله: لاَّ لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ أي لا يتكلمون بلغو الحديث في أثناء شربها، ولا يفعلوا ما يؤثم به فاعله كما هو عادة الشاربين في الدنيا، وذلك مثل قوله تعالى: لاَ فِيها غَوْلٌ وقرأهما ابن كثير والبصريان بالفتح.
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي بالكأس. غِلْمانٌ لَهُمْ أي مماليك مخصوصون بهم. وقيل هم أولادهم الذين سبقوهم. كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مصون في الصدف من بياضهم وصفائهم.
وعنه صلّى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» .
[سورة الطور (52) : الآيات 25 الى 28]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضاً عن أحواله وأعماله.
قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ خائفين من عصيان الله معتنين بطاعته، أو وجلين من العاقبة.
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالرحمة والتوفيق. وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم، وقرئ «ووقانا» بالتشديد.
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ من قبل ذلك في الدنيا. نَدْعُوهُ نعبده أو نسأله الوقاية. إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ المحسن، وقرأ نافع والكسائي إِنَّهُ بالفتح. الرَّحِيمُ الكثير الرحمة.
[سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 32]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32)
فَذَكِّرْ فاثبت على التذكير ولا تكترث بقولهم. فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بحمد الله وإنعامه. بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ، كما يقولون.
أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ما يقلق النفوس من حوادث الدهر، وقيل الْمَنُونِ الموت(5/154)
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
فعول من منه إذا قطعه.
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي.
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ عقولهم. بِهذا بهذا التناقض في القول فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى عقله والشاعر يكون ذا كلام موزون متسق مخيل، ولا يتأتى ذلك من المجنون وأمر الأحلام به مجاز عن أدائها إليه. أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ مجاوزون الحد في العناد وقرئ «بل هم» .
[سورة الطور (52) : الآيات 33 الى 36]
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36)
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ اختلقه من تلقاء نفسه. بَلْ لاَّ يُؤْمِنُونَ فيرمونه بهذه المطاعن لكفرهم وعنادهم.
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ مثل القرآن. إِنْ كانُوا صادِقِينَ في زعمهم إذ فيهم كثير ممن عدوا فضحاء فهو رد للأقوال المذكورة بالتحدي، ويجوز أن يكون ردا للتقول فإن سائر الأقسام ظاهر الفساد.
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أم أحدثوا وقدروا من غير محدث ومقدر فلذلك لا يعبدونه، أو من أجل لا شيء من عبادة ومجازاة. أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ يؤيد الأول فإن معناه أم خلقوا أنفسهم ولذاك عقبه بقوله:
أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وأَمْ في هذه الآيات منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإِنكار. بَلْ لاَّ يُوقِنُونَ إذا سئلوا من خلقكم ومن خلق السموات والأرض قالوا الله إذ لو أيقنوا ذلك لما أعرضوا عن عبادته.
[سورة الطور (52) : الآيات 37 الى 38]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ خزائن رزقه حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا، أو خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختارته حكمته. أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ الغالبون على الأشياء يدبرونها كيف شاؤوا. وقرأ قنبل وحفص بخلاف عنه وهشام بالسين وحمزة بخلاف عن خلاد بين الصاد والزاي، والباقون بالصاد خاصة.
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ مرتقى إلى السماء. يَسْتَمِعُونَ فِيهِ صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحي إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن. فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة واضحة تصدق استماعه.
[سورة الطور (52) : الآيات 39 الى 43]
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ فيه تسفيه لهم وإشعار بأن من هذا رأيه لا يعد من العقلاء فضلاً أن يترقى بروحه إلى عالم الملكوت فيتطلع على الغيوب.
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً على تبليغ الرسالة. فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ من التزام غرم. مُثْقَلُونَ محملون الثقل فلذلك زهدوا في اتباعك.
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ اللوح المحفوظ المثبت فيه المغيبات. فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه.
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله صلّى الله عليه وسلم. فَالَّذِينَ كَفَرُوا يحتمل العموم والخصوص فيكون وضعه موضع الضمير للتسجيل على كفرهم، والدلالة على أنه الموجب للحكم المذكور.(5/155)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
هُمُ الْمَكِيدُونَ هم الذين يحيق بهم الكيد أو يعود عليهم وبال كيدهم، وهو قتلهم يوم بدر أو المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته.
أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعينهم ويحرسهم من عذابه. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم أو شركة ما يشركونه به.
[سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 47]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (47)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعة. مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا من فرط طغيانهم وعنادهم. سَحابٌ مَرْكُومٌ هذا سحاب تراكم بعضه على بعض، وهو جواب قولهم فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ.
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ وهو عند النفخة الأولى، وقرئ. «يلقوا» وقرأ ابن عامر وعاصم يُصْعَقُونَ على المبني للمفعول من صعقه أو أصعقه.
يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي شيئاً من الإِغناء في رد العذاب. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون من عذاب الله.
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يحتمل العموم والخصوص. عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي دون عذاب الآخرة وهو عذاب القبر أو المؤاخذة في الدنيا كقتلهم ببدر والقحط سبع سنين. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ذلك.
[سورة الطور (52) : الآيات 48 الى 49]
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم وإبقائك في عنائهم. فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا في حفظنا بحيث نراك ونكلؤك وجمع العين لجمع الضمير والمبالغة بكثرة أسباب الحفظ. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ من أي مكان قمت أو من منامك أو إلى الصلاة.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فإن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد من الرياء، ولذلك أفرده بالذكر وقدمه على الفعل وَإِدْبارَ النُّجُومِ وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل، وقرئ بالفتح أي في أعقابها إذا غربت أو خفيت.
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والطور كان حقاً على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته» .(5/156)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
(53) سورة والنجم
مكية وآيها إحدى أو اثنتان وستون آية
[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى أقسم بجنس النجوم أو الثريا فإنه غلب فيها إذا غرب أو انتثر يوم القيامة أو انقض أو طلع فإنه يقال. هوى هوياً بالفتح إذا سقط وغرب، وهويا بالضم إذا علا وصعد، أو بالنجم من نجوم القرآن إذا نزل أو النبات إذا سقط على الأرض، أو إذا نما وارتفع على قوله.
مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ ما عدل محمد صلّى الله عليه وسلم عن الطريق المستقيم، والخطاب لقريش. وَما غَوى وما اعتقد باطلاً والخطاب لقريش، والمراد نفي ما ينسبون إليه.
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى وما يصدر نطقه بالقرآن عَنِ الهوى.
إِنْ هُوَ ما القرآن أو الذي ينطق به. إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي إلا وحي يوحيه الله إليه، واحتج به من لم ير الاجتهاد له. وأجيب عنه بأنه إذا أوحي إليه بأن يجتهد كان اجتهاده وما يستند إليه وحياً، وفيه نظر لأن ذلك حينئذ يكون بالوحي لا الوحي.
[سورة النجم (53) : الآيات 5 الى 7]
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ملك شديد قواه وهو جبريل عليه السلام فإن الواسطة في إبداء الخوارق،
روي أنه قلع قرى قوم لوط ورفها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين.
ذُو مِرَّةٍ حصافة في عقله ورأيه. فَاسْتَوى فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها. قيل ما رآه أحد من الأنبياء في صورته غير محمد عليه الصلاة والسلام مرتين، مرة في السماء ومرة في الأرض، وقيل استوى بقوته على ما جعل له من الأمر.
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى في أفق السماء والضمير لجبريل.
[سورة النجم (53) : الآيات 8 الى 10]
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)
ثُمَّ دَنا من النبي عليه الصلاة والسلام. فَتَدَلَّى فتعلق به وهو تمثيل لعروجه بالرسول. وقيل ثم تدلى من الأفق الأعلى فدنا من الرسول فيكون إشعاراً بأنه عرج به غير منفصل عن محله تقريراً لشدة قوته، فإن التدلي استرسال مع تعلق كتدلي الثمرة، ويقال دلى رجليه من السرير وأدلى دلوه، والدوالي الثمر المعلق.
فَكانَ جبريل عليه السلام كقولك: هو مني معقد الإزار، أو المسافة بينهما. قابَ قَوْسَيْنِ مقدارهما. أَوْ أَدْنى على تقديركم كقوله أو يزيدون، والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما(5/157)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
أوحي إليه بنفي البعد الملبس.
فَأَوْحى
جبريل عليه السلام. إِلى عَبْدِهِ
عبد الله واضماره قبل الذكر لكونه معلوماً كقوله: عَلى ظَهْرِها مَا أَوْحى
جبريل عليه السلام وفيه تفخيم للموحى به أو الله إليه، وقيل الضمائر كلها لله تعالى وهو المعني بشديد القوى كما في قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ودنوه منه برفع مكانته وتدليه جذبه بشَرَاشِرِِهِ إلى جناب القدس.
[سورة النجم (53) : الآيات 11 الى 12]
مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى (12)
مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى ما رأى ببصره من صورة جبريل عليه السلام أو الله تعالى، أي ما كذب بصره بما حكاه له فإن الأمور القدسية تدرك أولاً بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر، أو ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك كان كاذباً لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره، أو ما رآه بقلبه والمعنى أنه لم يكن تخيلاً كاذباً. ويدل عليه
«أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل رأيت ربك؟ فقال رأيته بفؤادي» .
وقرأ هشام ما كذب أي صدقه ولم يشك فيه.
أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى أفتجادلونه عليه، من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة كأن كلا من المتجادلين يمري ما عند صاحبه. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب «أفتمرونه» أي أفتغلبونه في المراء من ماريته فمريته، أو أفتجحدونه من مراه حقه إذا جحده وعلى لتضمين الفعل معنى الغلبة فإن المماري والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم.
[سورة النجم (53) : الآيات 13 الى 16]
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى (16)
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى مرة أخرى فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصبت نصبها إشعاراً بأن الرؤية في هذه المرة كانت أيضاً بنزول ودنو والكلام في المرئي والدنو ما سبق. وقيل تقديره ولقد رآه نازلاً نزلة أخرى، ونصبها على المصدر والمراد به نفي الريبة عن المرة الأخيرة.
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى التي ينتهي إليها أعمال الخلائق وعلمهم، أو ما ينزل من فوقها ويصعد من تحتها، ولعلها شبهت بالسدرة وهي شجرة النبق لأنهم يجتمعون في ظلها. وروي مرفوعاً أنها في السماء السابعة.
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى الجنة التي يأوي إليها المتقون أو أرواح الشهداء.
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى تعظيم وتكثير لما يغشاها بحيث لا يكتنهها نعت ولا يحصبها عد، وقيل يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها.
[سورة النجم (53) : الآيات 17 الى 18]
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)
مَا زاغَ الْبَصَرُ ما مال بصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عما رآه. وَما طَغى وما تجاوزه بل أثبته إثباتاً صحيحاً مستيقناً، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها وما جاوزها.
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي والله لقد رأى الكبرى من آياته وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج وقد قيل إنها المعنية بما رَأى. ويجوز أن تكون الْكُبْرى صفة لل آياتِ على أن المفعول محذوف أي شيئاً من آيات ربه أو مِنْ مزيدة.(5/158)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
[سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 22]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هي أصنام كانت لهم، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة وهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها أي يطوفون. وقرأ هبة الله عن البزي ورويس عن يعقوب اللَّاتَ بالتشديد على أنه سمي به لأنه صورة رجل كان يلت السويق بالسمن ويطعم الحاج.
وَالْعُزَّى بالتشديد سمرة لغطفان كانوا يعبدونها فبعث إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها، وأصلها تأنيث الأعز وَمَناةَ صخرة كانت لهذيل وخزاعة أو لثقيف وهي فعلة من مناه إذا قطعه فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين ومنه منى. وقرأ ابن كثير مناءة وهي مفعلة من النوء فإنهم كانوا يستمطرون الأنواء عندها تبركاً بها، وقوله الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان للتأكيد كقوله: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ أو الْأُخْرى من التأخر في الرتبة.
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى إنكار لقولهم الملائكة بنات الله، وهذه الأصنام استوطنها جنيات هن بناته، أو هياكل الملائكة وهو المفعول الثاني لقوله أَفَرَأَيْتُمُ.
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى جائرة حيث جعلتم له ما تستنكفون منه وهي فعلى من الضيز وهو الجور، لكنه كسر فاؤه لتسلم الياء كما فعل في بيض فإن فعلى بالكسر لم تأت وصفاً. وقرأ ابن كثير بالهمزة من ضأزه إذا ظلمه على أنه مصدر نعت به.
[سورة النجم (53) : آية 23]
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَّآ أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ الضمير للأصنام أي ما هي باعتبار الألوهية إلا أسماء تطلقونها عليها لأنهم يقولون أنها آلهة وليس فيها شيء من معنى الألوهية، أو للصفة التي تصفونها بها من كونها آلهة وبنات وشفعاء، أو للأسماء المذكورة فإنهم كانوا يطلقون اللات عليها باعتبار استحقاقها للعكوف على عبادتها، والعزى لعزتها ومناة لاعتقادهم أنها تستحق أن يتقرب إليها بالقرابين. سَمَّيْتُمُوها سميتم بها.
أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ بهواكم. مَّآ أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ برهان تتعلقون به. إِنْ يَتَّبِعُونَ وقرئ بالتاء.
إِلَّا الظَّنَّ إلا توهم أن ما هم عليه حق تقليداً وتوهماً باطلاً. وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وما تشتهيه أنفسهم.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى الرسول أو الكتاب فتركوه.
[سورة النجم (53) : الآيات 24 الى 26]
أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26)
أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى أَمْ منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإِنكار، والمعنى ليس له كل ما يتمناه والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة وقولهم: لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى وقولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ونحوهما.
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى يعطي منهما ما يشاء لمن يريد وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منهما.
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم شيئاً ولا تنفع.(5/159)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ في الشفاعة. لِمَنْ يَشاءُ من الملائكة أن يشفع أو من الناس أن يشفع له.
وَيَرْضى ويراه أهلاً لذلك فكيف تشفع الأصنام لعبدتهم.
[سورة النجم (53) : الآيات 27 الى 28]
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28)
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ أي كل واحد منهم. تَسْمِيَةَ الْأُنْثى بأن يسموه بنتاً.
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي بما يقولون، وقرئ بها أي بالملائكة أو بالتسمية. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فإن الحق الذي هو حقيقة الشيء لا يدرك إلا بالعلم، والظن لا اعتبار له في المعارف الحقيقية، وإنما العبرة به في العمليات وما يكون وصلة إليها.
[سورة النجم (53) : الآيات 29 الى 30]
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا فأعرض عن دعوته والاهتمام بشأنه فإن من غفل عن الله وأعرض عن ذكره. وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته ومبلغ علمه لا تزيده الدعوة إلا عناداً وإصراراً على الباطل.
ذلِكَ أي أمر الدنيا أو كونها شهية. مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ لا يتجاوزه علمهم والجملة اعتراض مقرر لقصور هممهم بالدنيا وقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى تعليل للأمر بالإِعراض أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب فلا تتعب نفسك في دعوتهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت.
[سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 32]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقاً وملكا. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا بعقاب ما عملوا من السوء أو بمثله أو بسبب ما عملوا من السوء، وهو علة لما دل عليه ما قبله أي خلق العالم وسواه للجزاء، أو ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم لذلك وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى بالمثوبة الحسنى وهي الجنة، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى.
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه. وقيل ما أوجب الحد. وقرأ حمزة والكسائي وخلف كبير الإِثم على إرادة الجنس أو الشرك. وَالْفَواحِشَ وما فحش من الكبائر خصوصاً. إِلَّا اللَّمَمَ إلا ما قل وصغر فإنه مغفور من مجتنبي الكبائر، والاستثناء منقطع ومحل الَّذِينَ النصب على الصفة أو المدح أو الرفع على أنه خبر محذوف. إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، أو له أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها وكبيرها، ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أعلم بأحوالكم منكم. إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ علم أحوالكم ومصارف أموركم حين ابتدأ خلقكم من التراب بخلق آدم وحينما صوركم في الأرحام. فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ فلا تثنوا(5/160)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)
عليها بزكاء العمل وزيادة الخير، أو بالطهارة عن المعاصي والرذائل. هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى فإنه يعلم التقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه السلام.
[سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 35]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى عن اتباع الحق والثبات عليه.
وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى وقطع العطاء من قولهم أكدى الحافر إذا بلغ الكدية وهي الصخرة الصلبة فترك الحفر. والأكثر على أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعيره بعض بعض المشركين وقال: تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال أخشى عذاب الله تعالى فضمن أن يتحمل عنه العقاب إن أعطاه بعض ماله فارتد وأعطى بعض المشروط ثم بخل بالباقي.
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى يعلم أن صاحبه يتحمل عنه.
[سورة النجم (53) : الآيات 36 الى 38]
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38)
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى وفى وأتم ما التزمه أو أمر به، أو بالغ في الوفاء بما عاهد الله، وتخصيصه بذلك لاحتماله ما لم يحتمله غيره كالصبر على نار نمروذ حتى أتاه جبريل عليه السلام حين ألقي في النار فقال ألك حاجة، فقال أما إليك فلا، وذبح الولد وأنه كان يمشي كل يوم فرسخاً يرتاد ضيفاً فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم، وتقديم موسى عليه الصلاة والسلام لأن صحفه وهي التوراة كانت أشهر وأكبر عندهم.
أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أن هي المخففة من الثقيلة وهي بما بعدها في محل الجر بدلاً مما فِي صُحُفِ مُوسى، أو الرفع على هو أن أَلَّا تَزِرُ كأنه قيل ما في صحفهما؟ فأجاب به، والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ولا يخالف ذلك قوله تعالى: كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً
وقوله عليه الصلاة والسلام، «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»
فإن ذلك للدلالة والتسبب الذي هو وزره.
[سورة النجم (53) : الآيات 39 الى 41]
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى إلا سعيه أي كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير لا يثاب بفعله، وما جاء
في الأخبار من أن الصدقة والحج ينفعان الميت
فلكون الناوي له كالنائب عنه.
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي يجزى العبد سعيه بالجزاء الأوفر فنصب بنزع الخافض، ويجوز أن يكون مصدراً وأن تكون الهاء للجزاء المدلول عليه بيجزي والْجَزاءَ بدله.
[سورة النجم (53) : الآيات 42 الى 44]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44)
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى انتهاء الخلائق ورجوعهم، وقرئ بالكسر على أنه منقطع عما في الصحف وكذلك ما بعده.
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا لا يقدر على الإِماتة والإِحياء غيره فإن القاتل ينقض البنية والموت يحصل عنده بفعل الله تعالى على سبيل العادة.
[سورة النجم (53) : الآيات 45 الى 47]
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47)(5/161)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى تدفق في الرحم أو تخلق، أو يقدر منها الولد من منى إذا قدر.
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى الإِحياء بعد الموت وفاء بوعده، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بالمدة وهو أيضاً مصدر نشأ.
[سورة النجم (53) : الآيات 48 الى 49]
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى وأعطى القنية وهو ما يتأثل من الأموال، وإفرادها لأنها أشف الأموال أو أرضى وتحقيقه جعل الرضا له قنية.
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى يعني العبور وهي أشد ضياء من الغميصاء، عبدها أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وخالف قريشاً في عبادة الأوثان، ولذلك كانوا يسمون الرسول صلّى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة، ولعل تخصيصها للإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام وإن وافق أبا كبشة في مخالفتهم خالفه أيضاً في عبادتها.
[سورة النجم (53) : الآيات 50 الى 54]
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولى القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه والسلام. وقيل «عاد الأولى» قوم هود وعاد الأخرى إرم. وقرئ «عَاداً لولي» بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى لام التعريف وقرأ نافع وأبو عمرو عاد الاولى بضم اللام بحركة الهمزة وبادغام التنوين، وقالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو.
وَثَمُودَاْ عطف على عَاداً لأن ما بعده لا يعمل فيه، وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين ويقفان بغير الألف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف. فَما أَبْقى الفريقين.
وَقَوْمَ نُوحٍ أيضاً معطوف عليه. مِنْ قَبْلُ من قبل عاد وثمود. إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى من الفريقين لأنهم كانوا يؤذونه وينفرون عنه ويضربونه حتى لا يكون به حراك.
وَالْمُؤْتَفِكَةَ والقرى التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت وهي قرى قوم لوط. أَهْوى بعد أن رفعها فقلبها.
فَغَشَّاها مَا غَشَّى فيه تهويل وتعميم لما أصابهم.
[سورة النجم (53) : الآيات 55 الى 56]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى تتشكك والخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم، أو لكل أحد والمعدودات وإن كانت نعماً ونقماً سماها آلاءِ من قبل ما في نقمه من العبر والمواعظ للمعتبرين، والانتقام للأنبياء والمؤمنين.
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي هذا القرآن إنذار من جنس الإِنذارات المتقدمة، أو هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين.
[سورة النجم (53) : الآيات 57 الى 58]
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ دنت الساعة الموصوفة بالدنو في نحو قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ.
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله لكنه لا يكشفها، أو(5/162)
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
الآن بتأخيرها إلا الله، أو ليس لها كاشفة لوقتها إلا الله إذ لا يطلع عليه سواه، أو ليس لها من غير الله كشف على أنها مصدر كالعافية.
[سورة النجم (53) : الآيات 59 الى 62]
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن تَعْجَبُونَ إنكاراً.
وَتَضْحَكُونَ استهزاء. وَلا تَبْكُونَ تحزناً على ما فرطتم.
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ لاهون أو مستكبرون من سمد البعير في مسيره إذا رفع رأسه، أو مغنون لتشغلوا الناس عن استماعه من السمود وهو الغناء.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا أي واعبدوه دون الآلهة.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة» .(5/163)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
(54) سورة القمر
مكية وآيها خمس وخمسون آية
[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
روي أن الكفار سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم آية فانشق القمر.
وقيل معناه سينشق يوم القيامة ويؤيد الأول أنه قرئ «وقد انشق القمر» أي اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها انشقاق القمر، وقوله:
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا عن تأملها والإِيمان بها. وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ مطرد وهو يدل على أنهم رأوا قبله آيات أخر مترادفة ومعجزات متتابعة حتى قالوا ذلك، أو محكم من المرة يقال أمررته فاستمر إذا أحكمته فاستحكم، أو مستبشع من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته أو مار ذاهب لا يبقى.
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وهو ما زين لهم الشيطان من رد الحق بعد ظهوره، وذكرهما بلفظ الماضي للإِشعار بأنهما من عادتهم القديمة. وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ منته إلى غاية من خذلان أو نصر في الدنيا وشقاوة، أو سعادة في الآخرة فإن الشيء إذا انتهى إلى غايته ثبت واستقر، وقرئ بالفتح أي ذو مستقر بمعنى استقرار وبالكسر والجر على أنه صفة أمر، وكل معطوف على الساعة.
[سورة القمر (54) : الآيات 4 الى 5]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5)
وَلَقَدْ جاءَهُمْ في القرآن مِنَ الْأَنْباءِ أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة. مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ازدجار من تعذيب أو وعيد، وتاء الافتعال تقلب دالاً مع الذال والدال والزاي للتناسب، وقرئ «مزجر» بقلبها زايا وإدغامها.
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ غايتها لا خلل فيها وهي بدل من ما أو خبر لمحذوف، وقرئ بالنصب حالاً من ما فإنها موصولة أو مخصوصة بالصفة نصب الحال عنها. فَما تُغْنِ النُّذُرُ نفي أو استفهام إنكار، أي فأي غناء تغني النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر، أو المنذر منه أو مصدر بمعنى الإنذار.
[سورة القمر (54) : الآيات 6 الى 8]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ لعلمك بأن الإِنذار لا يغني فيهم. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إسرافيل، ويجوز أن يكون الدعاء فيه كالأمر في قوله: كُنْ فَيَكُونُ وإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة للتخفيف وانتصاب يَوْمَ ب يَخْرُجُونَ أو بإضمار اذكر. إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد مثله وهو هول يوم القيامة، وقرأ ابن كثير بالتخفيف، وقرئ «نكر» بمعنى أنكر.(5/164)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
خاشعا أبصارهم يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث أي يخرجون من قبورهم خاشعاً ذليلاً أبصارهم من الهول، وإفراده وتذكيره لأن فاعله ظاهر غير حقيقي التأنيث، وقرئ «خاشعة» على الأصل، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم خُشَّعاً، وإنما حسن ذلك ولم يحسن مررت برجال قائمين غلمانهم لأنه ليس على صيغة تشبه الفعل، وقرئ «خشع أبصارهم» على الابتداء والخبر فتكون الجملة حالاً. كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة والتموج والانتشار في الأمكنة.
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ مسرعين مادي أعناقهم إليه، أو ناظرين إليه. يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب.
[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 10]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ قبل قومك. فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحاً عليه السلام وهو تفصيل بعد إجمال، وقيل معناه كذبوه تكذيباً على عقب تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب، أو كذبوه بعد ما كذبوا الرسل. وَقالُوا مَجْنُونٌ هو مجنون. وَازْدُجِرَ وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية، وقيل إنه من جملة قيلهم أي هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته.
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي بأني وقرئ بالكسر على إرادة القول. مَغْلُوبٌ غَلبني قومي. فَانْتَصِرْ فانتقم لي منهم وذلك بعد يأسه منهم.
فقد روي أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشياً عليه فيفيق ويقول: «اللَّهُم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» .
[سورة القمر (54) : الآيات 11 الى 12]
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصب، وهو مبالغة وتمثيل لكثرة الأمطار وشدة انصبابها، وقرأ ابن عامر ويعقوب ففتحنا بالتشديد لكثرة الأبواب.
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة، وأصله وفجرنا عيون الأرض فغير للمبالغة. فَالْتَقَى الْماءُ ماء السماء وماء الأرض، وقرئ «الماءان» لاختلاف النوعين «الماوان» بقلب الهزة واواً. عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ على حال قدرها الله تعالى في الأزل من غير تفاوت، أو على حال قدرت وسويت وهو أن قدر ما أنزل على قدر ما أخرج، أو على أمر قدره الله تعالى وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.
[سورة القمر (54) : الآيات 13 الى 14]
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14)
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ ذات أخشاب عريضة. وَدُسُرٍ ومسامير جمع دسار من الدسر، وهو الدفع الشديد وهي صفة للسفينة أقيمت مقامها من حيث أنها كالشرح لها تؤدي مؤداها.
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا بمرأى منا أي محفوظة بحفظنا. جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي فعلنا ذلك جزاء لنوح لأنه نعمة كفروها، فإن كل نبي نعمة من الله تعالى ورحمة على أمته، ويجوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير، وقرئ «لِمَنْ كُفِرَ» أي للكافرين.
[سورة القمر (54) : الآيات 15 الى 17]
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
وَلَقَدْ تَرَكْناها أي السفينة أو الفعلة. آيَةً يعتبر بها إذ شاع خبرها واشتهر. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(5/165)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
معتبر، وقرئ «مذتكر» على الأصل، و «مذكر» بقلب التاء ذالاً والإِدغام فيها.
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ استفهام تعظيم ووعيد، والنذر يحتمل المصدر والجمع.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ سهلناه أو هيأناه من يسر ناقته للسفر إذا رحلها. لِلذِّكْرِ للادكار والاتعاظ بأن صرفنا فيه أنواع المواعظ والعبر، أو للحفظ بالاختصار وعذوبة اللفظ. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ.
[سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 21]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21)
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وإنذاري أتى لهم بالعذاب قبل نزوله، أو لمن بعدهم في تعذيبهم.
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً بارداً أو شديد الصوت. فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم. مُسْتَمِرٍّ أي استمر شؤمه، أو استمر عليهم حتى أهلكهم، أو على جميعهم كبيرهم وصغيرهم فلم يبق منهم أحداً، أو اشتد مرارته وكان يوم الاربعاء آخر الشهر.
تَنْزِعُ النَّاسَ تقلعهم، روي أنهم دخلوا في الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح منها وصرعتهم موتى. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أصول نخل منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض. وقيل شبهوا بالاعجاز لأن الريح طيرت رؤوسهم وطرحت أجسادهم، وتذكير مُنْقَعِرٍ للحمل على اللفظ، والتأنيث في قوله أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ للمعنى.
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ كرره للتهويل. وقيل الأول لما حاق بهم في الدنيا، والثاني لما يحيق بهم في الآخرة كما قال أيضاً في قصتهم لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى.
[سورة القمر (54) : الآيات 22 الى 25]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ بالإِنذارات والمواعظ، أو الرسل.
فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا من جنسنا أو من جملتنا لا فضل له علينا، وانتصابه بفعل يفسره وما بعده وقرئ بالرفع على الابتداء والأول أوجه للاستفهام. واحِداً منفرداً لاتبع له أو من آحادهم دون أشرافهم. نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ جمع سعير كأنه عكسوا عليه فرتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على ترك اتباعهم له، وقيل السعر الجنون ومنه ناقة مسعورة.
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ الكتاب أو الوحي. عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا وفينا من هو أحق منه بذلك. بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ حمله بطره على الترفع علينا بادعائه إياه.
[سورة القمر (54) : الآيات 26 الى 28]
سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
سَيَعْلَمُونَ غَداً عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة. مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ الذي حمله أشره على الاستكبار عن الحق وطلب الباطل أصالح عليه السلام أم من كذبه؟ وقرأ ابن عامر وحمزة ورويس ستعلمون على الالتفات أو حكاية ما أجابهم به صالح، وقرئ «الأشر» كقولهم حذر في حذر و «الأشر» أي الأبلغ في الشرارة وهو أصل مرفوض كالأخير.(5/166)
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مخرجوها وباعثوها. فِتْنَةً لَهُمْ امتحاناً لهم. فَارْتَقِبْهُمْ فانتظرهم وتبصر ما يصنعون. وَاصْطَبِرْ على أذاهم.
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم لها يوم ولهم يوم، وبَيْنَهُمْ لتغليب العقلاء. كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ يحضره صاحبه في نوبته أو يحضره عنه غيره.
[سورة القمر (54) : الآيات 29 الى 31]
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ قدار بن سالف أحيمر ثمود فَتَعاطى فَعَقَرَ فاجترأ على تعاطي قتلها فقتلها أو فتعاطى السيف فقتلها والتعاطي تناول الشيء بتكلف.
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً صيحة جبريل عليه السلام. فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ كالشجر اليابس المتكسر الذي يتخذه من يعمل الحظيرة لأجلها أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء، وقرئ بفتح الظاء أي كهشيم الحظيرة أو الشجر المتخذ لها.
[سورة القمر (54) : الآيات 32 الى 35]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ريحاً تحصبهم بالحجارة أي ترميهم. إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ في سحر وهو آخر الليل أو مسحرين.
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا إنعاماً منا وهو علة لنجينا. كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمتنا بالإِيمان والطاعة.
[سورة القمر (54) : الآيات 36 الى 39]
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39)
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط. بَطْشَتَنا أخذتنا بالعذاب. فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ فكذبوا بالنذر متشاكين.
وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ قصدوا الفجور بهم. فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فمسحناها وسويناها بسائر الوجه.
روي أنهم لما دخلوا داره عنوة صفقهم جبريل عليه السلام صفقة فأعماهم.
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ فقلنا لهم ذوقوا على ألسنة الملائكة أو ظاهر الحال.
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً وقرئ «بُكْرَةً» غير مصروفة على أن المراد بها أول نهار معين. عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ يستقر بهم حتى يسلمهم إلى النار.
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ.
[سورة القمر (54) : الآيات 40 الى 42]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كرر ذلك في كل قصة إشعاراً بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب واستماع كل قصة مستدع للادكار والاتعاظ، واستئنافاً للتنبيه والاتعاظ لئلا يغلبهم السهو والغفلة، وهكذا تكرير قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ونحوهما.
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ اكتفى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك منهم.(5/167)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعني الآيات التسع. فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ لا يغالب. مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شيء.
[سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 45]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب. خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ الكفار المعدودين قوة وعدة أو مكانة وديناً عند الله تعالى. أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أم نزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم فهو في أمان من العذاب.
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ جماعة أمرنا مجتمع مُنْتَصِرٌ ممتنع لا نرام أو منتصر من الأعداء لا نغلب، أو متناصر ينصر بعضنا بعضاً والتوحيد على لفظ الجميع.
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الأدبار وإفراده لإِرادة الجنس، أو لأن كل واحد يولي دبره وقد وقع ذلك يوم بدر وهو من دلائل النبوة.
وعن عمر رضي الله تعالى عنه «أنه لما نزلت قال لم أعلم ما هو فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبس الدرع ويقول. سيهزم الجمع، فعلمته» .
[سورة القمر (54) : الآيات 46 الى 48]
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ موعد عذابهم الأصلي وما يحيق بهم في الدنيا فمن طلائعه. وَالسَّاعَةُ أَدْهى أشد، والداهية أمر فظيع لا يهتدي لدوائه. وَأَمَرُّ مذاقاً من عذاب الدنيا.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ عن الحق في الدنيا. وَسُعُرٍ ونيران في الآخرة.
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ يجرون عليها. ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي يقال لهم ذوقوا حر النار وألمها فإن مسها سبب التألم بها، وسقر علم لجهنم ولذلك لم يصرف من سقرته النار وصقرته إذا لوحته.
[سورة القمر (54) : الآيات 49 الى 50]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي إنا خلقنا كل شيء مقدراً مرتباً على مقتضى الحكمة، أو مقدراً مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، وكل شيء منصوب بفعل يفسره ما بعده، وقرئ بالرفع على الابتداء وعلى هذا فالأولى أن يجعل خلقناه خبراً لا نعتاً ليطابق المشهورة في الدلالة على أن كل شيء مخلوق بقدر، ولعل اختيار النصب ها هنا مع الإِضمار لما فيه من النصوصية على المقصود.
وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ إلا فعلة واحدة وهو الإيجاد بلا معالجة ومعاناة، أو إِلَّا كلمة واحدة وهو قوله كن. كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ في اليسر والسرعة، وقيل معناه معنى قوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ.
[سورة القمر (54) : الآيات 51 الى 53]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أشباهكم في الكفر ممن قبلكم. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ.
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ مكتوب في كتب الحفظة.
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ من الأعمال. مُسْتَطَرٌ مسطور في اللوح.(5/168)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
[سورة القمر (54) : الآيات 54 الى 55]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أنهار واكتفى باسم الجنس، أو سعة أو ضياء من النهار. وقرئ «نهر» وبضم الهاء جمع نهر كأسد وأسد.
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضي، وقرئ «مقاعد صدق» . عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ مقربين عند من تعالى أمره في الملك، والاقتدار بحيث أبهمه ذوو الأفهام.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة القمر في كل غب بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر» .(5/169)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
(55) سورة الرحمن
مكية او مدنية او متبعضة وآيها ثمان وسبعون آية
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والآخروية صدرها ب الرَّحْمنُ، وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، فإنه أساس الدين ومنشأ الشرع وأعظم الوحي وأعز الكتب، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدق لنفسه ومصداق لها، ثم اتبعه قوله:
خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ إيماء بأن خلق البشر وما يميز به عن سائر الحيوان من البيان، وهو التعبير عما في الضمير وإفهام الغير لما أدركه لتلقي الوحي وتعرف الحق وتعلم الشرع، وإخلاء الجمل الثلاث التي هي أخبار مترادفة ل الرَّحْمنُ عن العاطف لمجيئها على نهج التعديد.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 5 الى 6]
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ يجريان بحساب معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما، وتتسق بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات، ويعلم السنون والحساب.
وَالنَّجْمُ والنبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له. وَالشَّجَرُ الذي له ساق.
يَسْجُدانِ ينقادان لله تعالى فيما يريد بهما طبعاً انقياد الساجد من المكلفين طوعاً، وكان حق النظم في الجملتين أن يقال: وأجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر. أو الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ له، ليطابقا ما قبلهما وما بعدهما في اتصالهما ب الرَّحْمنُ، لكنهما جردتا عما يدل على الاتصال إشعاراً بأن وضوحه يغنيه عن البيان، وإدخال العاطف بينهما لاشتراكهما في الدلالة على أن ما يحس به من تغيرات أحوال الأجرام العلوية والسفلية بتقديره وتدبيره.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 7 الى 9]
وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالسَّماءَ رَفَعَها خلقها مرفوعة محلاً ومرتبة، فإنها منشأ أقضيته ومتنزل أحكامه ومحل ملائكته، وقرئ بالرفع على الابتداء. وَوَضَعَ الْمِيزانَ العدل بأن وفر على كل مستعد مستحقه، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما
قال عليه السلام «بالعدل قامت السموات والأرض» .
أو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما، كأنه لما وصف السماء بالرفعة من حيث إنها مصدر القضايا والإقدار أراد وصف الأرض بما فيها مما يظهر به التفاوت ويعرف به المقدار ويسوى به الحقوق والمواجب.
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ لئلا تطغوا فيه أي لا تعتدوا ولا تجاوزوا الإنصاف، وقرئ «لا تطغوا» على(5/170)
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)
إرادة القول.
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ولا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه، وتكريره مبالغة في التوصية به وزيادة حث على استعماله، وقرئ وَلا تُخْسِرُوا بفتح التاء وضم السين وكسرها، وتُخْسِرُوا بفتحها على أن الأصل وَلا تُخْسِرُوا في الْمِيزانَ فحذف الجار وأوصل الفعل.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 10 الى 13]
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها خفضها مدحوة. لِلْأَنامِ للخلق. وقيل الأنام كل ذي روح.
فِيها فاكِهَةٌ ضروب مما يتفكه به. وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ أوعية التمر جمع كم، أو كل ما يكم أي يغطى من ليف وسعف وكفري فإنه ينتفع به كالمكموم كالجذع والجمار والتمر.
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ كالحنطة والشعير وسائر ما يتغذى به، والْعَصْفِ ورق النبات اليابس كالتين.
وَالرَّيْحانُ يعني المشموم، أو الرزق من قولهم: خرجت أطلب ريحان الله، وقرأ ابن عامر «والحب ذا العصف والريحان» أي وخلق الحب والريحان أو وأخص، ويجوز أن يراد وذا الريحان فحذف المضاف، وقرأ حمزة والكسائي «والريحان» بالخفض ما عدا ذلك بالرفع، وهو فيعلان من الروح فقلبت الواو ياء وأدغم ثم خفف، وقيل «روحان» فقلبت واوه ياء للتخفيف.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله: لِلْأَنامِ وقوله: أَيُّهَ الثَّقَلانِ.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 16]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16)
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ الصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، والفخار الخزف وقد خلق الله آدم من تراب جعله طيناً ثم حمأ مسنوناً، ثم صلصالاً فلا يخالف ذلك قوله خلقه من تراب ونحوه.
وَخَلَقَ الْجَانَّ الجن أو أبا الجن. مِنْ مارِجٍ من صاف من الدخان. مِنْ نارٍ بيان ل مارِجٍ فإنه في الأصل للمضطرب من مرج إذا اضطرب.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما أفاض عليكما في أطوار خلقتكما حتى صيركما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 17 الى 20]
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى، كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه إلى غير ذلك.
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أرسلهما من مرجت الدابة إذا أرسلتها، والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب.
يَلْتَقِيانِ يتجاوران ويتماس سطوحهما، أو بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان يتشعبان منه.(5/171)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز من قدرة الله تعالى أو من الأرض. لاَّ يَبْغِيانِ لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 21 الى 24]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ كبار الدر وصغاره، وقيل المرجان الخرز الأحمر، وإن صح أن الدر يخرج من الملح فعلى الأول إنما قال منهما لأنه مخرج من مجتمع الملح والعذب، أو لأنهما لما اجتمعا صارا كالشيء الواحد فكأن المخرج من أحدهما كالمخرج منهما. وقرأ نافع وأبو عمرو ويعقوب يَخْرُجُ، وقرئ «نُخْرِجُ» و «يَخْرُجُ» بنصب اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلَهُ الْجَوارِ أي السفن جمع جارية، وقرئ بحذف الياء ورفع الراء كقوله:
لَهَا ثَنَايَا أَرْبَعٌ حِسَانٌ ... وَأَرْبَعٌ فَكُلُهَا ثَمَانٍ
الْمُنْشَآتُ المرفوعات الشرع، أو المصنوعات وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الشين أي الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج أو السير. فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 25 الى 27]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من خلق مواد السفن والإِرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره.
كُلُّ مَنْ عَلَيْها من على الأرض من الحيوانات أو المركبات ومَنْ للتغليب، أو من الثقلين.
فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذاته ولو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله أي الوجه الذي يلي جهته. ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ذو الاستغناء المطلق والفضل العام.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 28 الى 30]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما ذكرنا قبل من بقاء الرب وإبقاء ما لا يحصى مما هو على صدد الفناء رحمة وفضلاً، أو مما يترتب على فناء الكل من الإِعادة والحياة الدائمة والنعيم المقيم.
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَهم مفتقرون إليه في ذواتهم وصفاتهم وسائر ما يهمهم، ويعن لهم والمراد بالسؤال ما يدل على الحاجة إلى تحصيل الشيء في ذواتهم وصفاتهم نطقاً كان أو غيره. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ كل وقت يحدث أشخاصاً ويجدد أحوالاً على ما سبق به قضاؤه،
وفي الحديث «من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين» .
وهو رد لقول اليهود إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما من مكمن العدم حينا فحينا.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 33]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ آي سنتجرد لحسابكم وجزائكم وذلك يوم القيامة، فإنه تعالى لا يفعل فيه(5/172)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
غيره وقيل تهديد مستعار من قولك لمن تهدده سأفرغ لك، فإن المتجرد للشيء كان أقوى عليه وأجد فيه، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وقرئ «سنفرغ إليكم» أي سنقصد إليكم. والثَّقَلانِ الإِنس والجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض أو لرزانة رأيهما وقدرهما، أو لأنهما مثقلان بالتكليف.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من الله فارين من قضائه. فَانْفُذُوا فاخرجوا.
لاَ تَنْفُذُونَ لا تقدرون على النفوذ. إِلَّا بِسُلْطانٍ إلا بقوة وقهر وأنى لكم ذلك، أو إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا ما في السموات والأرض فَانْفُذُوا لتعلموا لكن لاَ تَنْفُذُونَ ولا تعلمون إلا ببينة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 34 الى 36]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة، أو مما نصب من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السموات العلا.
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ لهب. مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ ودخان قال:
تُضِيءُ كَضَوْءِ السِرَاجِ السَّلِي ... طِ لَمْ يَجْعَلِ الله فِيهِ نُحَاساً
أو صفر مذاب يصب على رؤوسهم، وقرأ ابن كثير شُواظٌ بالكسر وهو لغة وَنُحاسٌ بالجر عطفاً على نارٍ، ووافقه فيه أبو عمرو ويعقوب في رواية، وقرئ «ونحس» وهو جمع كلحف. فَلا تَنْتَصِرانِ فلا تمتنعان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار في عداد الآلاء.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 40]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً أي حمراء كوردة وقرئت بالرفع على كان التامة فيكون من باب التجريد كقوله:
وَلَئِنْ بَقِيتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ ... تَحْوِي الغَنَائِمِ أَوْ يَمُوتَ كَرِيمُ
كَالدِّهانِ مذابة كالدهن وهو اسم لما يدهن به كالحزام، أو جمع دهن وقيل هو الأديم الأحمر.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما يكون بعد ذلك.
فَيَوْمَئِذٍ أي فيوم تنشق السماء. لاَّ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ لأنهم يعرفون بسيماهم وذلك حين ما يخرجون من قبورهم ويحشرون إلى الموقف ذوداً ذوداً على اختلاف مراتبهم، وأما قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ ونحوه فحين يحاسبون في المجمع، والهاء للإِنس باعتبار اللفظ فإنه وإن تأخر لفظاً تقدم رتبة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 41 الى 46]
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46)(5/173)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ وهو ما يعلوهم من الكآبة والحزن. فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ مجموعاً بينهما، وقيل يؤخذون بِالنَّواصِي تارة وب الْأَقْدامِ أخرى.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها بين النار يحرقون بها. وَبَيْنَ حَمِيمٍ ماء حار. آنٍ بلغ النهاية في الحرارة يصب عليهم، أو يسقون منه، وقيل إذا استغاثوا من النار أغيثوا بالحميم.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، أو قيامه على أحواله من قام عليه إذا راقبه، أو مقام الخائف عند ربه للحساب بأحد المعنيين فأضيف إلى الرب تفخيماً وتهويلاً، أو ربه ومَقامَ مقحم للمبالغة كقوله:
ذَعَرَّتُ بِهِ القَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ
جَنَّتانِ جنة للخائف الإِنسي والأخرى للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين والمعنى لكل خائفين منكما أو لكل واحد جنة لعقيدته وأخرى لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه، أو روحانية وجسمانية وكذا ما جاء مثنى بعد.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 47 الى 50]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ أنواع من الأشجار والثمار جمع فِنْ، أو أغصان جمع فنن وهي الغصنة التي تتشعب من فرع الشجرة، وتخصيصها بالذكر لأنها التي تورق وتثمر وتمد الظل.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل. قيل إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 51 الى 54]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان غريب ومعروف، أو رطب ويابس.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ من ديباج ثخين وإذا كانت البطائن كذلك فما ظنك بالظهائر، ومُتَّكِئِينَ مدح للخائفين أو حال منهم، لأن من خاف في معنى الجمع.
وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ قريب يناله القاعد والمضطجع، وَجَنَى اسم بمعنى مجنى وقرئ بكسر الجيم.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 55 الى 58]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ في الجنان فإن جنتان تدل على جنان هي للخائفين أو فيما فيهما من الأماكن والقصور، أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش. قاصِراتُ الطَّرْفِ نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ لم يمس الإِنسيات إنس ولا الجنيات جن، وفيه دليل على أن الجن يطمثون. وقرأ الكسائي بضم الميم. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ أي وحمرة الوجنة وبياض البشرة وصفائهما.(5/174)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
[سورة الرحمن (55) : الآيات 59 الى 61]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ في العمل. إِلَّا الْإِحْسانُ في الثواب وهو الجنة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 65]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65)
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين جَنَّتانِ لمن دونهم من أصحاب اليمين.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُدْهامَّتانِ خضراوان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة، وفيه إشعار بأن الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض، وعلى الأوليين الأشجار والفواكه دلالة على ما بينهما من التفاوت فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 66 الى 69]
فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69)
هِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
فوارتان بالماء هو أيضاً أقل مما وصف به الأوليين وكذا ما بعده.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عطفهما على الفاكهة بياناً لفضلهما، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء وثمرة الرمان فاكهة ودواء، واحتج به أبو حنيفة رضي الله عنه على أن من حلف لا يأكل فاكهة فأكل رطباً أو رماناً لم يحنث. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 70 الى 74]
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74)
فِيهِنَّ خَيْراتٌ أي خيرات فخففت لأن خيراً الذي بمعنى أخير لا يجمع، وقد قرئ على الأصل.
حِسانٌ حسان الخلق والخلق.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ قصرن في خدورهن، يقال امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة أي مخدرة، أو مقصورات الطرف على أزواجهن.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ كحور الأولين وهم أصحاب الجنتين فإنهما يدلان عليهم.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 75 الى 78]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ وسائد أو نمارق جمع رفرفة. وقيل الرفرف ضرب من البسط أو ذيل الخيمة وقد يقال لكل ثوب عريض. خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ العبقري منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه اسم بلد للجن فينسبون إليه كل شيء عجيب، والمراد به الجنس ولذلك جمع حِسانٍ حملاً على المعنى.(5/175)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تعالى اسمه من حيث إنه مطلق على ذاته فما ظنك بذاته، وقيل الإِسم بمعنى الصفة أو مقحم كما في قوله:
إلى الحولِ ثُم اسمُ السَّلاَم عَلَيْكُمَا ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ وقرأ ابن عامر بالرفع صفة للإِسم.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله تعالى عليه» .(5/176)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
(56) سورة الواقعة
مكية وآيها ست وتسعون آية
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3)
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إذا حدثت القيامة، سماها واقعة لتحقق وقوعها وانتصاب إِذا بمحذوف مثل اذكر أو كان كيت وكيت.
لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله تعالى، أو تكذب في نفيها كما تكذب الآن، واللام مثلها في قوله: قَدَّمْتُ لِحَياتِي أو ليس لأحد في وقعتها كاذبة فإن من أخبر عنها صدق، أو ليس لها حينئذ نفس تحدث صاحبها بإطاقة شدتها واحتمالها وتغريه عليها من قولهم: كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم، إذا شجعته عليه وسولت له أنه يطيقه.
خافِضَةٌ رافِعَةٌ تخفض قوماً وترفع آخرين، وهو تقرير لعظمتها فإن الوقائع العظام كذلك، أو بيان لما يكون حينئذ من خفض أعداء الله ورفع أوليائه، أو إزالة الأجرام عن مقارها بنثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو، وقرئتا بالنصب على الحال.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 4 الى 7]
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7)
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا حركت تحريكاً شديداً بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، والظرف متعلق ب خافِضَةٌ أو بدل من إِذا وَقَعَتِ.
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لته، أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها، فَكانَتْ هَباءً غباراً. مُنْبَثًّا منتشراً.
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً أصنافاً. ثَلاثَةً وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 8 الى 9]
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ فأصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنيئة من تيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل، أو أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم، أو أصحاب اليمن والشؤم فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. والجملتان الاستفهاميتان خبران لما قبلهما بإقامة الظاهر مقام الضمير ومعناهما التعجب من حال الفريقين.(5/177)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 10 الى 12]
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ والذين سبقوا إلى الإِيمان والطاعة بعد ظهور الحق من غير تلعثم وتوان، أو سبقوا في حيازة الفضائل والكمالات، أو الأنبياء فإنهم مقدمو أهل الأديان هم الذين عرفت حالهم وعرفت مآلهم كقول أبي النجم:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي أو الذين سبقوا إلى الجنة أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ الذين قربت درجاتهم في الجنة وأعليت مراتبهم.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 14]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي هم كثير من الأولين يعني الأمم السالفة من لدن آدم إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام ولا يخالف ذلك
قوله عليه الصلاة والسلام «إن أمتي يكثرون سائر الأمم» .
لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعو هذه أكثر من تابعيهم، ولا يرده قوله في أصحاب اليمين، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ. لأن كثرة الفريقين لا تنافي أكثرية أحدهما، وروي مرفوعاً أنهما من هذه الأمة، واشتقاقها من الثل وهو القطع.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 15 الى 19]
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ خبر آخر للضمير المحذوف، وال مَوْضُونَةٍ المنسوجة بالذهب مشبكة بالدار والياقوت، أو المتواصلة من الوضن وهو نسج الدرع.
مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ حالان من الضمير في عَلى سُرُرٍ.
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ للخدمة. وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ مبقون أبداً على هيئة الولدان وطراوتهم.
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ حال الشرب وغيره، والكوب إناء بلا عروة ولا خرطوم له، والإِبريق إناء له ذلك.
وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ من خمر.
لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْها بخمار. وَلا يُنْزِفُونَ ولا تنزف عقولهم، أو لا ينفد شرابهم. وقرأ الكوفيون بكسر الزاي لاَّ يُصَدَّعُونَ بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 20 الى 24]
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يختارون.
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يتمنون.
وَحُورٌ عِينٌ عطف على وِلْدانٌ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي وفيها أو ولهم حور، وقرأ حمزة والكسائي بالجر عطفاً على جَنَّاتِ بتقدير مضاف أي هم في جنات ومصاحبة حور، أو على أكواب لأن معنى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ ينعمون بأكواب، وقرئتا بالنصب على ويؤتون حوراً.(5/178)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ المصون عما يضربه في الصفاء والنقاء.
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 25 الى 26]
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً باطلاً. وَلا تَأْثِيماً ولا نسبة إلى الإِثم أي لا يقال لهم أثمتم.
إِلَّا قِيلًا أي قولاً. سَلاماً سَلاماً بدل من قِيلًا كقوله: لاَّ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً أو صفته أو مفعوله بمعنى إلا أن يقولوا سلاماً، أو مصدر والتكرير للدلالة على فشو السلام بينهم. وقرئ «سلام سلام» على الحكاية.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 30]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ لا شوك فيه من خضد الشوك إذا قطعه، أو مثني أغصانه من كثرة حمله من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب.
وَطَلْحٍ وشجر موز، أو أم غيلان وله أنوار كثيرة طيبة الرائحة، وقرئ بالعين. مَنْضُودٍ نضد حمله من أسفله إلى أعلاه.
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 31 الى 33]
وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33)
وَماءٍ مَسْكُوبٍ يسكب لهم أين شاؤوا وكيف شاؤوا بلا تعب، أو مصبوب سائل كأنه لما شبه حال السابقين في التنعم بأعلى ما يتصور لأهل المدن شبه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتمناه أهل البوادي إشعاراً بالتفاوت بين الحالين.
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ كثيرة الأجناس.
لاَّ مَقْطُوعَةٍ لا تنقطع في وقت. وَلا مَمْنُوعَةٍ لا تمنع عن متناولها بوجه.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 34 الى 37]
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37)
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ رفيعة القدر أو منضدة مرتفعة. وقيل الفرش النساء وارتفاعها أنها على الأرائك، ويدل عليه قوله:
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أي ابتدأناهن ابتداء جديداً من غير ولادة إبداء أو إعادة.
وفي الحديث «هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطاً رمصاً، جعلهن الله بعد الكبر أتراباً على ميلاد واحد، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً» .
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً متحببات إلى أزواجهن جمع عروب، وسكن راءه حمزة وأبو بكر وروي عن نافع وعاصم مثله. أَتْراباً فإن كلهن بنات ثلاث وثلاثين وكذا أزواجهن.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 38 الى 40]
لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلق ب أَنْشَأْناهُنَّ أو «جعلنا» ، أو صفة ل أَبْكاراً أو خبر لمحذوف مثل هن أو لقوله:(5/179)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وهي على الوجه الأول خبر محذوف.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 44]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44)
وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ في حر نار ينفذ في المُسام. وَحَمِيمٍ وماء متناه في الحرارة.
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ من دخان أسود يفعول من الحممة.
لاَّ بارِدٍ كسائر الظل. وَلا كَرِيمٍ ولا نافع، نفى بذلك ما أوهم الظل من الاسترواح.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 45 الى 46]
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ منهمكين في الشهوات.
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ الذنب العظيم يعني الشرك، ومنه بلغ الغلام الحنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب، وحنث في يمينه خلاف بر فيها وتحنث إذا تأثم.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 47 الى 50]
وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ كررت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقاً وخصوصاً في هذا الوقت كما دخلت العاطفة في قوله:
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ للدلالة على أن ذلك أشد إنكاراً في حقهم لتقادم زمانهم وللفصل بها حسن العطف على المستكن في لَمَبْعُوثُونَ، وقرأ نافع وابن عامر أَوْ بالسكون وقد سبق مثله، والعامل في الظرف ما دل عليه «مبعوثون» لا هو للفصل بأن والهمزة.
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ. وقرئ «لمجمعون» . إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ إلى ما وقت به الدنيا وحدت من يوم معين عند الله معلوم له.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 51 الى 53]
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ أي بالبعث والخطاب لأهل مكة وأضرابهم.
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ مِنْ الأولى للابتداء والثانية للبيان.
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ من شدة الجوع.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 54 الى 56]
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ لغلبة العطش، وتأنيث الضمير في منها وتذكيره في عَلَيْهِ على معنى الشجر ولفظه، وقرئ «من شجرة» فيكون التذكير لل زَقُّومٍ فإنه تفسيرها.
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ الإِبل التي بها الهيام وهو داء يشبه الاستسقاء، جمع أهيم وهيماء قال ذو الرمة:
فَأَصْبَحَّتُ كَالهَيْمَاءِ لاَ المَاءُ مُبْردٌ ... صَدَاهَا وَلاَ يَقْضِي عَلَيْهَا هَيَامُهَا(5/180)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
وقيل الرمال على أنه جمع هيام بالفتح وهو الرمل الذي لا يتماسك جمع على هيم كسحب، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض وكل من المعطوف والمعطوف عليه أخص من الآخر من وجه فلا اتحاد، وقرأ نافع وحمزة وعاصم شُرْبَ بضم الشين.
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء فما ظنك بما يكون لهم بعد ما استقروا في الجحيم، وفيه تهكم كما في قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ لأن النزل ما يعد للنازل تكرمة له، وقرئ «نزلهم» بالتخفيف.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 59]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59)
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بالخلق متيقنين محققين للتصديق بالأعمال الدالة عليه، أو بالبعث فإن من قدر على الإِبداء قدر على الإِعادة.
أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أي ما تقذفونه في الأرحام من النطف، وقرئ بفتح التاء من منى النطفة بمعنى أمناها.
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تجعلونه بشراً سوياً. أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 60 الى 62]
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ قسمناه عليكم وأقتنا موت كل بوقت معين، وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال.
وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ لا يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته، أو لا يغلبنا أحد من سبقته على كذا إذا غلبته عليه.
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
على الأول حال أو علة ل قَدَّرْنا وعلى بمعنى اللام، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ اعتراض وعلى الثاني صلة، والمعنى على أن نبدل منكم أشباهكم فنخلق بدلكم، أو نبدل صفاتكم على أن أمثالكم جمع مثل بمعنى صفة. وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لاَ تَعْلَمُونَ
في خلق أو صفات لا تعلمونها.
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أن من قدر عليها قدر على النشأة الأخرى فإنها أقل صنعاً لحصول المواد وتخصيص الاجزاء وسبق المثال، وفيه دليل على صحة القياس.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 63 الى 67]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ تبذرون حبه.
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه. أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ المنبتون.
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً هشيماً. فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ تعجبون أو تندمون على اجتهادكم فيه، أو على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه، والفكه التنقل بصنوف الفاكهة وقد استعير للتنقل بالحديث، وقرئ «فَظَلْتُمْ» بالكسر و «فظللتم» على الأصل.
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ لملزمون غرامة ما أنفقنا، أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام، وقرأ أبو بكر «أإنا لمغرمون» على الاستفهام.
بَلْ نَحْنُ قوم. مَحْرُومُونَ حرمنا رزقنا، أو محدودون لا مجدودون.(5/181)
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 68 الى 70]
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70)
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أي العذب الصالح للشرب.
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ من السحاب واحده مزنة، وقيل الْمُزْنِ السحاب الأبيض وماؤه أعذب.
أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ بقدرتنا والرؤية إن كانت بمعنى العلم فمتعلقة بالاستفهام.
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ملحاً أو من الأجيج فإنه يحرق الفم، وحذف اللام الفاصلة بين جواب ما يتمحض للشرط وما يتضمن معناه لعلم السامع بمكانها، أو الاكتفاء بسبق ذكرها أو يختص ما يقصد لذاته ويكون أهم وفقده أصعب بمزيد التأكيد. فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أمثال هذه النعم الضرورية.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 71 الى 74]
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ تقدحون.
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ يعني الشجرة التي منها الزناد.
نَحْنُ جَعَلْناها جعلنا نار الزناد. تَذْكِرَةً تبصرة في أمر البعث كما مر في سورة «يس» ، أو في الظلام أو تذكيراً وأنموذجاً لنار جهنم. وَمَتاعاً ومنفعة. لِلْمُقْوِينَ الذين ينزلون القواء وهي القفر، أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام، من أقوت الدار إذا خلت من ساكنيها.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فأحدث التسبيح بذكر اسمه تعالى أو بذكره فإن إطلاق اسم الشيء ذكره والعظيم صفة للاسم أو الرب، وتعقيب الأمر بالتسبيح لما عدد من بدائع صنعه وإنعامه إما لتنزيهه تعالى عما يقول الجاحدون لوحدانيته الكافرون لنعمته، أو للتعجب من أمرهم في غمط نعمه، أو للشكر على ما عدها من النعم.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 76]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)
فَلا أُقْسِمُ إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم، أو فأقسم و «لا» مزيدة للتأكيد كما في لِئَلَّا يَعْلَمَ أو فلأنا أقسم فحذف المبتدأ وأشبع فتحة لام الابتداء، ويدل عليه قراءة فلا قسم أو فَلا رد لكلام يخالف المقسم عليه. بِمَواقِعِ النُّجُومِ بمساقطها، وتخصيص المغارب لما في غروبها من زوال أثرها والدلالة على وجود مؤثر لا يزول تأثيره، أو بمنازلها ومجاريها. وقيل النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها، وقرأ حمزة والكسائي بموقع.
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ لما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة وكمال الحكمة وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى، وهو اعتراض في اعتراض فإنه اعتراض بين القسم والمقسم عليه، ولَوْ تَعْلَمُونَ اعتراض بين الموصوف والصفة.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 77 الى 80]
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ كثير النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد، أو حسن(5/182)
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)
مرضي في جنسه.
فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ مصون وهو اللوح المحفوظ.
لاَّ يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا يطلع على اللوح إلا المطهرون من الكدورات الجسمانية وهم الملائكة، أو لا يمس القرآن إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من الأحداث فيكون نفياً بمعنى النهي، أو لا يطلبه إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من الكفر، وقرئ «المتَطَهِرُونَ» و «المطهرون» من أطهره بمعنى طهره و «المطهرون» أي أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والإِلهام.
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة ثالثة أو رابعة للقرآن، وهو مصدر نعت به وقرئ بالنصب أي نزل تنزيلاً.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 الى 82]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن. أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به.
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي شكر رزقكم. أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أي بمانحه حيث تنسبونه إلى الأنواء، وقرئ «شكركم» أي وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به وتكذبون أي بقولكم في القرآن أنه سحر وشعر، أو في المطر أنه من الأنواء.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 85]
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85)
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ أي النفس.
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ حالكم، والخطاب لمن حول المحتضر والواو للحال.
وَنَحْنُ أَقْرَبُ أي ونحن أعلم. إِلَيْهِ إلى المحتضر. مِنْكُمْ عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى سبب الاطلاع. وَلكِنْ لاَّ تُبْصِرُونَ لا تدركون كنه ما يجري عليه.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 86 الى 87]
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي مجزيين يوم القيامة أو مملوكين مقهورين من دانه إذا أذله واستعبده، وأصل التركيب للذل والانقياد.
تَرْجِعُونَها ترجعون النفس إلى مقرها وهو عامل الظرف والمحضض عليه بلولا الأولى والثانية تكرير للتوكيد وهي بما في حيزها دليل جواب الشرط، والمعنى إن كنتم غير مملوكين مجزيين كما دل عليه جحدكم أفعال الله وتكذيبكم بآياته. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أباطيلكم فَلَوْلا ترجعون الأرواح إلى الأبدان بعد بلوغها الحلقوم.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 88 الى 91]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91)
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي إن كان المتوفى من السابقين.
فَرَوْحٌ فله استراحة وقرئ «فَرَوْحٌ» بالضم وفسر بالرحمة لأنها كالسبب لحياة المرحوم وبالحياة(5/183)