يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ
كنَت محمد صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى عليه الصلاة والسلام بأحمد صلّى الله عليه وسلّم في الإِنجيل. وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مما تخفونه لا يخبر به إذا لم يضطر إليه أمر ديني، أو عن كثير منكم فلا يؤخذاه بجرمه. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يعني القرآن فإنه الكاشف لظلمات الشك والضلال والكتاب الواضح الإِعجاز. وقيل يريد بالنور محمد صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة المائدة (5) : آية 16]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ وحد الضمير لأن المراد بهما واحد، أو لأنهما كواحد في الحكم. مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ من اتبع رضاه بالإِيمان منهم. سُبُلَ السَّلامِ طرق السلامة من العذاب، أو سبل الله. وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من أنواع الكفر إلى الإِسلام. بِإِذْنِهِ بإرادته أو توفيقه. وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ طريق هو أقرب الطرق إلى الله سبحانه وتعالى ومؤد إليه لا محالة.
[سورة المائدة (5) : آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، وقيل لم يصرح به أحد منهم ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتاً وقالوا لا إله إلا الله واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم توضيحاً لجهلهم وتفضيحاً لمعتقدهم. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمن يمنع من قدرته وإرادته شيئاً. إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ عيسى ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً احتج بذلك على فساد عقولهم وتقريره: أن المسيح مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إزاحة لما عرض لهم من الشبهة في أمره، والمعنى أنه سبحانه وتعالى قادر على الإِطلاق يخلق من غير أصل كما خلق السموات والأرض، ومن أصل كخلق ما بينهما فينشئ من أصل ليس من جنسه كآدم وكثير من الحيوانات، ومن أصل يجانسه إما من ذكر وحده كما خلق حواء أو من أنثى وحدها كعيسى، أو منهما كسائر الناس.
[سورة المائدة (5) : آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أشياع ابنيه عزيراً والمسيح كما قيل لأشياع ابن الزبير الخبيبون أو المقربون عنده قرب الأولاد من والدهم وقد سبق لنحو ذلك مزيد بيان في سورة «آل عمران» .
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي فإن صح ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم فإن من كان بهذا المنصب لا يفعل ما يوجب تعذيبه، وقد عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياماً معدودات.
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ممن خلقه الله تعالى. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وهم من آمن به وبرسله. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وهم من كفر، والمعنى أنه يعاملكم معاملة سائر الناس لا مزية لكم عنده. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما كلها سواء في كونها خلقاً وملكاً له. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.(2/120)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
[سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ أي الدين، وحذف لظهوره، أو ما كتمتم وحذف لتقدم ذكره ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى يبذل لكم البيان والجملة في موضع الحال أي جاءكم رسولنا مبيناً لكم. عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ متعلق بجاءكم أي جاءكم على حين فتور من الإِرسال وانقطاع من الوحي، أو يبين حال من الضمير فيه. أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ
كراهة أن تقولوا ذلك وتعتذروا به. فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا ب مَا جاءَنا فقد جاءكم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإِرسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، إِذْ كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي، وعلى الإِرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كان بينهما ستمائة أو خمسمائة وتسع وستون سنة وأربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي، وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكونون إليه.
[سورة المائدة (5) : آية 20]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فأرشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء. وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً أي وجعل منكم أو فيكم، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهموا بقتل عيسى، وقيل: لما كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم وأمورهم سماهم ملوكاً. وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى ونحوها مما آتاهم الله، وقيل: المراد بالعالمين عالمي زمانهم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 21 الى 22]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22)
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومسكن المؤمنين. وقيل: الطور وما حوله. وقيل: دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقيل الشام. الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قسمها لكم أو كتب في اللوح أنها تكون مسكناً لكم، ولكن إن آمنتم وأطعتم لقوله لهم بعد ما عصوا فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من الجبابرة قيل لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا وقالوا: ليتنا متنا بمصر تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر، أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق على الله سبحانه وتعالى. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ثواب الدارين، ويجوز في فتنقلبوا الجزم على العطف والنصب على الجواب.
قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ متغلبين لا تتأتى مقاومتهم، والجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره وهو الذي يجبر الناس على ما يريده. وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إِذ لاَ طَاقَة لَنَا بهم.(2/121)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
[سورة المائدة (5) : آية 23]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
قالَ رَجُلانِ كالب ويوشع مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي يخافون الله سبحانه وتعالى ويتقونه. وقيل كان رجلان من الجبابرة أسلما وسارا إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فعلى هذا الواو لبني اسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل، ويشهد له أنه قرئ «الذين يُخَافُونَ» بالضم أي المخوفين، وعلى المعنى الأول يكون هذا من الإِخافة أي من الذين يخوفون من الله عز وجل بالتذكير أو يخوفهم الوعيد. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإِيمان والتثبيت وهو صفة ثانية لرجلان أو اعتراض. ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ باب قريتهم أي باغتوهم وضاغطوهم في المضيق وامنعوهم من الأصحار. فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لتعسر الكر عليهم في المضايق من عظم أجسامهم، ولأنهم أجسام لا قلوب فيها، ويجوز أن يكون علمهما بذلك من إخبار موسى عليه الصلاة والسلام وقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أو مما علما من عادة الله سبحانه وتعالى في نصرة رسله، وما عهدا من صنعه لموسى عليه الصلاة والسلام في قهر أعدائه. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مؤمنين به ومصدقين بوعده.
[سورة المائدة (5) : الآيات 24 الى 25]
قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)
قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً نفوا دخولهم على التأكيد والتأبيد. مَّا دامُوا فِيها بدل من أبدا بدل البعض. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما، وقيل تقديره اذهب أنت وربك يعينك.
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي قاله شكوى بثه وحزنه إلى الله سبحانه وتعالى لما خالفه قومه وأيس منهم، ولم يبق معه موافق يثق به غير هارون عليه السلام والرجلان المذكوران وإن كانا يوافقانه لم يثق عليهما لما كابد من تلون قومه، ويجوز أن يراد بأخي من يواخيني في الدين فيدخلان فيه، ويحتمل نصبه عطفاً على نفسي، أو على اسم أن ورفعه عطفاً على الضمير في لا أَمْلِكُ، أو على محل إن واسمها، وجره عند الكوفيين عطفاً على الضمير في نفسي. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ بأن تحكم لنا بما نستحقه وتحكم عليهم بما يستحقونه، أو بالتبعيد بيننا وبينهم وتخليصنا من صحبتهم.
[سورة المائدة (5) : آية 26]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
قالَ فَإِنَّها فإن الأرض المقدسة. مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم.
أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ عامل الظرف إما محرمة فيكون التحريم موقتاً غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، ويؤيد ذلك ما
روي: أن موسى عليه الصلاة والسلام سار بعده بمن بقي من بني اسرائيل ففتح أريحاء، وأقام بها ما شاء الله ثم قبض
وقيل: إنه قبض في التيه ولما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي وأن الله سبحانه وتعالى أمره بقتال الجبابرة، فسار بهم يوشع وقتل الجبابرة وصار الشام كله لبني اسرائيل، وإما يتيهون أي يسيرون فيها متحيرين لا يرون طريقاً فيكون التحريم مطلقاً، وقد قيل لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال إنا لن ندخلها بل هلكوا في التيه، وإنما قاتل الجبابرة أولادُهم.
روي: أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون من الصباح إلى المساء، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان الغمام(2/122)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم، وكان طعامهم المن والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملونه، والأكثر على أن موسى وهارون كانا معهم في التيه إلا أنه كان ذلك روحاً لهما وزيادة في درجتهما، وعقوبة لهم، وأنهما ماتا فيه مات هارون، وموسى بعده بسنة. ثم دخل يوشع أريحاء بعد ثلاثة أشهر ومات النقباء فيه بغتة غير كالب ويوشع.
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ خاطب به موسى عليه الصلاة والسلام لما ندم على الدعاء عليهم وبين أنهم أحقاء بذلك لفسقهم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 28]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ قابيل وهابيل، أوحى الله سبحانه وتعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر، فسخط منه قابيل لأن توأمته كانت أجمل، فقال لهما آدم: قربا قرباناً فمن أيكما قُبِلَ تزوجها، فَقُبِلَ قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته، فازداد قابيل سخطاً وفعل ما فعل. وقيل لم يرد لهما ابني آدم لصلبه وأنهما رجلان من بني اسرائيل ولذلك قال: كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ. بِالْحَقِّ صفة مصدر محذوف أي تلاوة ملتبسة بالحق، أو حال من الضمير في اتل، أو من نبأ أي ملتبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأولين إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ظرف لنبأ، أو حال منه، أو بدل على حذف مضاف أي واتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت، والقربان اسم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من ذبيحة أو غيرها، كما أن الحلوان اسم ما يحلى به أي يعطى، وهو في الأصل مصدر ولذلك لم يثن وقيل تقديره إذ قرب كل واحد منهما قرباناً. قيل كان قابيل صاحب زرع وقرب أردأ قمح عنده، وهابيل صاحب ضرع وقرب جملاً سميناً. فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ لأنه سخط حكم الله سبحانه وتعالى ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده. قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ نوعده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه ولذلك. قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ في جوابه أي إنما أتيت من قبل نفسك بترك التقوى لا من قبلي فلم تقتلني، وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظاً، لا في إزالة حظه فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متقٍ.
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ قيل: كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفاً من الله سبحانه وتعالى لأن الدفع لم يبح بعد، أو تحرياً لما هو الأفضل
قال عليه الصلاة والسلام: «كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» .
وإنما قال:
مَا أَنَا بِباسِطٍ في جواب لَئِنْ بَسَطْتَ للتبري عن هذا الفعل الشنيع رأساً، والتحرز من أن يوصف به ويطلق عليه ولذلك أكد النفي بالباء.
[سورة المائدة (5) : الآيات 29 الى 30]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ تعليل ثان للامتناع عن المعارضة والمقاومة، والمعنى إنما استسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي، وإثمك ببسطك يدك إلي ونحوه المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم. وقيل معنى بإثمي بإثم قتلي، وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك، وكلاهما في موضع الحال أي ترجع ملتبساً بالإِثمين حاملاً لهما، ولعله لم يرد معصية أخيه وشقاوته بل قصده بهذا الكلام إلى أن ذلك إن كان لا محالة واقفاً فأريد أن يكون لك لا لي،(2/123)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
فالمراد بالذات أن لا يكون له لا أن يكون لأخيه ويجوز أن يكون المراد بالإِثم عقوبته وإرادة عقاب العاصي جائزة.
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع. وقرئ «فطاوعت» على أنه فاعل بمعنى فعل، أو على أن قَتْلَ أَخِيهِ كأنه دعاها إلى الإِقدام عليه فطاوعته، وله لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله. فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ديناً ودنيا، إذ بقي مدة عمره مطروداً محزوناً. قيل قتل هابيل وهو ابن عشرين سنة عند عقبة حراء. وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.
[سورة المائدة (5) : آية 31]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ
روي أنه لما قتله تحير في أمره ولم يدر ما يصنع به إذ كان أول ميت من بني آدم، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة
والضمير في ليرى، لله سبحانه وتعالى، أو للغراب، وكيف حال من الضمير في يُوارِي والجملة ثاني مفعولي يرى،! والمراد بسوأة أخيه جسده الميت فإنه مما يستقبح أن يرى. قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع وتحسر والألف فيها بدل من ياء المتكلم. والمعنى يا ويلتي احضري فهذا أوانك، والويل والويلة الهلكة. أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي لا أهتدي إلى مثل ما أهتدي إليه، وقوله: فَأُوارِيَ عطف على أَكُونَ وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى هاهنا لو عجزت لواريت، وقرئ بالسكون على فأنا أواري أو على تسكين المنصوب تخفيفاً. فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره وحمله على رقبته سنة أو أكثر على ما قيل، وتلمذه للغراب واسوداد لونه وتبري أبويه منه، إذ
روي أنه لما قتله اسود جسده فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلاً فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك وتبرأ منه ومكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك وعدم الظفر بما فعله من أجله.
[سورة المائدة (5) : آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بسببه قضينا عليهم، وأجل في الأصل مصدر أجل شراً إذا جناه استعمل في تعليل الجنايات كقولهم، من جراك فعلته، أي من أن جررته أي جنيته ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل، ومن ابتدائية متعلقة بكتبنا أي ابتداء الكتب ونشؤه من أجل ذلك. أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص. أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أو بغير فساد فيها كالشرك أو قطع الطريق.
فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل، وجرأ الناس عليه، أو من حيث إن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم. وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً أي ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة فكأنما فعل ذلك بالناس جميعاً، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيباً عن التعرض لها وترغيباً في المحاماة عليها. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ أي بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيداً للأمر وتجديداً للعهد كي يتحاموا عنها وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون به، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها والإِسراف التباعد عن حد الاعتدال في الأمر.(2/124)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
[سورة المائدة (5) : آية 33]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يحاربون أولياءهما وهم المسلمون، جعل محاربتهم محاربتهما تعظيماً. وأصل الحرب السلب والمراد به هاهنا قطع الطريق. وقيل المكابرة باللصوصية وإن كانت في مصر. وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي مفسدين، ويجوز نصبه على العلة أو المصدر لأن سعيهم كان فساداً فكأنه قيل: ويفسدون في الأرض فساداً. أَنْ يُقَتَّلُوا أي قصاصاً من غير صلب إن أفردوا القتل. أَوْ يُصَلَّبُوا أي يصلبوا مع القتل إن قتلوا وأخذوا المال، وللفقهاء خلاف في أنه يقتل ويصلب أو يصلب حياً ويترك أو يطعن حتى يموت. أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن أخذوا المال ولم يقتلوا. أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ينفوا من بلد إلى بلد بحيث لا يتمكنون من القرار في موضع إن اقتصروا على الإِخافة. وفسر أبو حنيفة النفي بالحبس، وأو في الآية على هذا للتفصيل، وقيل: إنه للتخيير والإِمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ذل وفضيحة. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنوبهم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 34 الى 35]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثناء مخصوص بما هو حق الله سبحانه وتعالى ويدل عليه قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أما القتل قصاصاً فإلى الأولياء يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب، وأن الآية في قطاع المسلمين لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى منه من فعل الطاعات وترك المعاصي، من وسل إلى كذا إذا تقرب إليه
وفي الحديث «الوسيلة منزلة في الجنة» .
وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بالوصول إلى الله سبحانه وتعالى والفوز بكرامته.
[سورة المائدة (5) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ من صنوف الأموال جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ ليجعلوه فدية لأنفسهم. مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ واللام متعلقة بمحذوف تستدعيه لو، إذ التقدير لو ثبت أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض، وتوحيد الضمير في به والمذكور شيئان إما لإجرائه مجرى اسم الإشارة في نحو قوله تعالى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ. أو لأن الواو ومثله بمعنى مع. مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ جواب لو، ولو بما في حيزه خبر إن والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تصريح بالمقصود منه، وكذلك قوله:(2/125)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ وقرئ يَخْرُجُوا من أخرج وإنما قال وَما هُمْ بِخارِجِينَ بدل وما يخرجون للمبالغة.
[سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 39]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جملتان عند سيبويه إذ التقدير فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما، وجملة عند المبرد والفاء للسببية دخل الخبر لتضمنهما معنى الشرط إذ المعنى: والذي سرق والتي سرقت، وقرئ بالنصب وهو المختار في أمثاله لأن الإِنشاء لا يقع خبراً إلا بإضمار وتأويل. والسرقة:
أخذ مال الغير في خفية، وإنما توجب القطع إذا كانت من حرز والمأخوذ ربع دينار أو ما يساويه
لقوله عليه الصلاة والسلام «القطع في ربع دينار فصاعداً»
وللعلماء خلاف في ذلك لأحاديث وردت فيه وقد استقصيت الكلام فيه في شرح المصابيح، والمراد بالأيدي الإيمان ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أيمانهما، ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما اكتفاء بتثنية المضاف إليه، واليد اسم لتمام العضو ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب، والجمهور على أنه الرسغ لأنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه. جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ منصوبان على المفعول له أو المصدر ودل على فعلهما فاقطعوا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
فَمَنْ تابَ من السراق. مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي بعد سرقته. وَأَصْلَحَ أمره بالتقصي عن التبعات والعزم على أن لا يعود إليها. فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة. وأما القطع فلا يسقط بها عند الأكثرين لأن فيه حق المسروق منه.
[سورة المائدة (5) : آية 40]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد. يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قدم التعذيب على المغفرة إيتاء على ترتيب ما سبق، أو لأن استحقاق التعذيب مقدم أو لأن المراد به القطع وهو في الدنيا.
[سورة المائدة (5) : آية 41]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي صنيع الذين يقعون في الكفر سريعاً أي في إظهاره إذا وجدوا منه فرصة. مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أي من المنافقين والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا والواو تحتمل الحال والعطف. وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا عطف على مِنَ الَّذِينَ قالُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ خبر محذوف أي هم سماعون، والضمير للفريقين، أو للذين يسارعون ويجوز أن يكون مبتدأ ومن الذين خبره أي ومن اليهود قوم سماعون واللام في للكذب، إما مزيدة للتأكيد أو لتضمين السماع معنى القبول(2/126)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
أي قابلون لما تفتريه الأحبار، أو للعلة والمفعول محذوف أي: سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه.
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي لجمع آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبراً وإفراطاً في البغضاء، والمعنى على الوجهين أي مصغون لهم قابلون كلامهم، أو سماعون منك لأجلهم والإِنهاء إليهم، ويجوز أن تتعلق اللام بالكذب لأن سماعون الثاني مكرر للتأكيد أي: سماعون ليكذبوا لقوم آخرين. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، إما لفظاً: بإهماله أو تغيير وضعه، وإما معنى: بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده، والجملة صفة أخرى لقوم أو صفة لسماعون أو حال من الضمير فيه أو استئناف لا موضع له، أو في موضع الرفع خبراً لمحذوف أي هم يحرفون وكذلك يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ أي إن أوتيتم هذا المحرف فاقبلوه واعملوا به. وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ بل أفتاكم محمد بخلافه فَاحْذَرُوا أي احذروا قبول ما أفتاكم به.
روي (أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة وكانا محصنين فكرهوا رجمهما، فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه وقالوا: إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا، فأمرهم بالرجم فأبوا عنه، فجعل ابن صوريا حكماً بينه وبينهم، وقال له: أنشدك الله الذى لاَ إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن، قال: نعم. فوثبوا عليه فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالزانيين فرجما عند باب المسجد) .
وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ ضلالته أو فضيحته فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فلن تستطيع له من الله شيئا في دفعها. أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الكفر وهو كما ترى نص على فساد قول المعتزلة. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هو أن بالجزية والخوف من المؤمنين. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو الخلود في النار، والضمير للذين هادوا إن استأنفت بقوله ومن الذين وإلا فللفريقين.
[سورة المائدة (5) : آية 42]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ كرره للتأكيد. أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي الحرام كالرشا من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب في المواضع الثلاثة بضمتين وهما لغتان كالعنق والعنق، وقرئ بفتح السين على لفظ المصدر. فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ تخيير لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تحاكموا إليه بين الحكم والإِعراض ولهذا قيل: لو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم، وهو قول للشافعي والأصح وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذمياً لأنا التزمنا الذب عنهم ودفع الظلم منهم، والآية ليست في أهل الذمة، وعند أبي حنيفة يجب مطلقاً. وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً بأن يعادوك لإِعراضك عنهم فإن الله سبحانه وتعالى يعصمك من الناس. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي أَمَرَ الله بِهِ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ فيحفظهم ويعظم شأنهم.
[سورة المائدة (5) : آية 43]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به، والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم، وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع، وإنما طلبوا به ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم، وفِيها حُكْمُ اللَّهِ حال من التوراة إن رفعتها بالظرف، وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه وتأنيثها لكونها نظيرة المؤنث(2/127)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
في كلامهم لفظاً كموماة ودوداة. ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد التحكيم، وهو عطف على يحكمونك داخل في حكم التعجيب. وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم لإِعراضهم عنه أولاً وعما يوافقه ثانياً، أو بك وبه.
[سورة المائدة (5) : آية 44]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً يهدي إلى الحق. وَنُورٌ يكشف عما استبهم من الأحكام. يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ يعني أنبياء بني إسرائيل، أو موسى ومن بعده إن قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وبهذه الآية تمسك القائل به. الَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت على النبيين مدحاً لهم وتنويهاً بشأن المسلمين، وتعريضاً باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واقتفاء هديهم. لِلَّذِينَ هادُوا متعلق بأنزل، أو بيحكم أي يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدل على أن النبيين أنبياؤهم. وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم عطف على النبيون بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ بسبب أمر الله إياهم بأن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف، والراجع إلى ما محذوف ومن للتبيين. وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ رقباء لا يتركون أن يغير، أو شهداء يبينون ما يخفى منه كما فعل ابن صوريا. فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ نهي للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها. ثَمَناً قَلِيلًا هو الرشوة والجاه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مستهيناً به منكراً له. فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره، ولذلك وصفهم بقوله الْكافِرُونَ والظَّالِمُونَ والْفاسِقُونَ، فكفرهم لإِنكاره، وظلمهم بالحكم على خلافه، وفسقهم بالخروج عنه. ويجوز أن يكون كل واحدة من الصفات الثلاث باعتبار حال انضمت إلى الامتناع عن الحكم به ملائمة لها، أو لطائفة كما قيل هذه في المسلمين لاتصالها بخطابهم، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى.
[سورة المائدة (5) : آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ وفرضنا على اليهود. فِيها في التوراة. أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أي أن النفس تقتل بالنفس. وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ رفعها الكسائي على أنها جمل معطوفة على أن وما في حيزها باعتبار المعنى وكأنه قيل: وكتبنا عليهم النفس بالنفس، والعين بالعين، فإن الكتابة والقراءة تقعان على الجمل كالقول، أو مستأنفة ومعناها: وكذلك العين مفقوءة بالعين، والأنف مجدوعة بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن، أو على أن المرفوع منها معطوف على المستكن في قوله بالنفس، وإنما ساغ لأنه في الأصل مفصول عنه بالظرف، والجار والمجرور حال مبينة للمعنى، وقرأ نافع وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وفي أذنيه بإسكان الذال حيث وقع. وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ أي ذات قصاص، وقراءة الكسائي أيضاً بالرفع ووافقه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر على أنه إجمال للحكم بعد التفصيل. فَمَنْ تَصَدَّقَ من المستحقين. بِهِ بالقصاص أي فمن عفا عنه. فَهُوَ فالتصدق. كَفَّارَةٌ لَهُ للمتصدق يكفر الله به ذنوبه. وقيل للجاني يسقط عنه ما لزمه. وقرئ «فهو كفارته له» أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها(2/128)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
بالتصدق له لا ينقص منها شيء. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِن القصاص وغيره. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
[سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 47]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي وأتبعناهم على آثارهم، فحذف المفعول لدلالة الجار والمجرور عليه، والضمير للنبيون. بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مفعول ثان عدي إليه الفعل بالباء. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وقرئ بفتح الهمزة. فِيهِ هُدىً وَنُورٌ في موضع النصب بالحال. وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ عطف عليه وكذا قوله: وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ويجوز نصبهما على المفعول له عطفاً على محذوف أو تعلقاً به وعطف.
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ «عليه» في قراءة حمزة، وعلى الأول اللام متعلقة بمحذوف أي وآتيناه ليحكم، وقرئ: «وأن ليحكم» على أَنَّ أَنْ موصولة بالأمر كقولك: أمرتك بأن قم أي وأمرنا بأن ليحكم. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ عن حكمه، أو عن الإِيمان إن كان مستهيناً به، والآية تدل على أن الإِنجيل مشتمل على الأحكام وأن اليهودية منسوخة ببعثة عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه كان مستقلاً بالشرع وحملها على وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر.
[سورة المائدة (5) : آية 48]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي القرآن. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ من جنس الكتب المنزلة، فاللام الأولى للعهد والثانية للجنس. وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ورقيباً على سائر الكتب يحفظه عن التغيير ويشهد له بالصحة والثبات، وقرئ على بنية المفعول أي هومن عليه وحوفظ من التحريف والحافظ له هو الله سبحانه وتعالى، أو الحفاظ في كل عصر. فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي بما أنزل الله إليك. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه فعن صلة للا تتبع لتضمنه معنى لا تنحرف، أو حال من فاعله أي لا تتبع أهواءهم مائلاً عما جاءك. لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيها الناس. شِرْعَةً شريعة وهي الطريق إلى الماء شبه بها الدين لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبدية. وقرئ بفتح الشين. وَمِنْهاجاً وطريقاً واضحاً في الدين من نهج الأمر إذا وضح. واستدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل، ومفعول لو شاء محذوف دل عليه الجواب، وقيل المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه. وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الشرائع المختلفة المناسبة لكل عصر وقرن، هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن اختلافها بمقتضى الحكمة الإلهية، أم تزيغون عن الحق وتفرِّطون في العمل. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ فابتدروها انتهازاً للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدم. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استئناف فيه تعليل الأمر بالاستباق ووعد(2/129)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
ووعيد للمبادرين والمقصرين. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعامل والمقصر.
[سورة المائدة (5) : آية 49]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم، أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم، ويجوز أن يكون جملة بتقدير وأمرنا أن أحكم. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي أن يضلوك ويصرفوك عنه، وأن بصلته بدل من هم بدل الاشتمال أي احذر فتنتهم، أو مفعول له أي احذرهم مخافة أن يفتنوك.
روي (أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم، إن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) فنزلت.
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل وأرادوا غيره. فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ يعني ذنب التولي عن حكم الله سبحانه وتعالى، فعبر عنه بذلك تنبيهاً على أن لهم ذنوباً كثيرة وهذا مع عظمه واحد منها معدود من جملتها، وفيه دلالة على التعظيم كما في التنكير ونظيره قول لبيد:
أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ جمامها وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ لمتمردون في الكفر معتدون فيه.
[سورة المائدة (5) : آية 50]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ الذي هو الميل والمداهنة في الحكم، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى. وقيل نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى. وقرئ برفع الحكم على أنه مبتدأ، ويَبْغُونَ خبره، والراجع محذوف حذفه في الصلة في قوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا واستضعف ذلك في غير الشعر وقرئ «أفحكم الجاهلية» أي يبغون حاكماً كحكام الجاهلية يحكم بحسب شهيتهم. وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على قل لهم أفحكم الجاهلية تبغون. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي عندهم، واللام للبيان كما في قوله تعالى: هَيْتَ لَكَ أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكماً من الله سبحانه وتعالى.
[سورة المائدة (5) : آية 51]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ فلا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب. بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إيماء على علة النهي، أي فإنهم متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضاً لاتحادهم في الدين وإجماعهم على مضادتكم. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي ومن والاهم منكم فإنه من جملتهم، وهذا التشديد في وجوب مجانبتهم كما
قال عليه الصلاة والسلام: «لا تتراءى ناراهما»
، أو لأن الموالي لهم كانوا منافقين. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار أو المؤمنين بموالاة أعدائهم.(2/130)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
[سورة المائدة (5) : آية 52]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعنى ابن أبي وأضرابه. يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي في موالاتهم ومعاونتهم.
يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ يعتذرون بأنهم يخافون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار.
روي (أن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن لي موالي من اليهود كثيراً عددهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم وأوالي الله ورسوله، فقال ابن أبي: إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية موالي) فنزلت.
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أعدائه وإظهار المسلمين. أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يقطع شأفة اليهود من القتل والإِجلاء، أو الأمر بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم. فَيُصْبِحُوا أي هؤلاء المنافقون. عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ على ما استبطنوه من الكفر والشك في أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فضلاً عما أظهروه مما أشعر على نفاقهم.
[سورة المائدة (5) : آية 53]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بالرفع قراءة عاصم وحمزة والكسائي على أنه كلام مبتدأ ويؤيده قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر مرفوعاً بغير واو على أنه جواب قائل يقول فماذا يقول المؤمنون حينئذ، وبالنصب قراءة أبي عمرو ويعقوب عطفاً على أن يأتي باعتبار المعنى، وكأنه قال: عسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا، أو يجعله بدلاً من اسم الله تعالى داخلاً في اسم عسى مغنياً عن الخبر بما تضمنه من الحدث، أو على الفتح بمعنى عسى الله أن يأتي بالفتح وبقول المؤمنين فإن الإِتيان بما يوجبه كالإِتيان به. أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ يقول المؤمنين بعضهم لبعض تعجباً من حال المنافقين وتبجحاً بما منَّ الله سبحانه وتعالى عليهم من الإِخلاص أو يقولونه لليهود، فإن المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وجهد الأيمان أغلظها، وهو في الأصل مصدر ونصبه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يجهدون جهد أيمانهم، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ولذلك ساغ كونها معرفة أو على المصدر لأنه بمعنى أقسموا. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ إما من جملة المقول أو من قول الله سبحانه وتعالى شهادة لهم بحبوط أعمالهم، وفيه معنى التعجب كأنه قيل أحبط أعمالهم فما أخسرهم.
[سورة المائدة (5) : آية 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ قرأه على الأصل نافع وابن عامر وهو كذلك في الإِمام، والباقون بالإِدغام وهذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها، وقد ارتد من العرب في أواخر عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث فرق: بنو مدلج وكان رئيسهم ذا الحمار الأسود العنسي، تنبأ باليمن واستولى على بلاده ثم قتله فيروز الديلمي ليلة قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غدها وأخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم في تلك الليلة فسر المسلمون وأتى الخبر في أواخر ربيع الأول.
وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، فأجاب من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجند من المسلمين وقتله وحشي قاتل حمزة. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ(2/131)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
فبعث إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالداً فهرب بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه.
وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه سبع فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم فرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة زوجة مسيلمة، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله أمرهم على يده، وفي إمرة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر وسار إلى الشام. فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ قيل هم أهل اليمن لما
روي (أنه عليه الصلاة والسلام أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال:
هم قوم هذا) .
وقيل الفرس لأنه عليه الصلاة والسلام سُئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال: هذا وذووه.
وقيل الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيله، وثلاثة آلاف من أفناء الناس. والراجع إلى من محذوف تقديره فسوف يأتي الله بقوم مكانهم ومحبة الله تعالى للعباد إرادة الهدى والتوفيق لهم في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة، ومحبة العباد له إرادة طاعته والتحرز عن معاصيه. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عاطفين عليهم متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل، واستعماله مع على إما لتضمنه معنى العطف والحنو أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خاضعون لهم أو للمقابلة. أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ شداد متغلبين عليهم من عزه إذا غلبه، وقرئ بالنصب على الحال.
يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صفة أخرى لقوم، أو حال من الضمير في أعزة. وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ عطف على يجاهدون بمعنى أنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلب في دينه، أو حال بمعنى أنهم مجاهدون وحالهم خلاف حال المنافقين، فإنهم يخرجون في جيش المسلمين خائفين ملامة أوليائهم من اليهود فلا يعملون شيئاً يلحقهم فيه لوم من جهتهم، واللومة المرة من اللوم وفيها وفي تنكير لائم مبالغتان. ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف. فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يمنحه ويوفق له وَاللَّهُ واسِعٌ كثير الفضل.
عَلِيمٌ بمن هو أهله.
[سورة المائدة (5) : الآيات 55 الى 56]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا لما نهى عن موالاة الكفرة ذكر عقيبه من هو حقيق بها، وإنما قال وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَلم يقل أولياؤكم للتنبيه على أن الولاية لله سبحانه وتعالى على الأصالة ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين على التبع. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ صفة للذين آمنوا فإنه جرى مجرى الاسم، أو بدل منه ويجوز نصبه ورفعه على المدح. وَهُمْ راكِعُونَ متخشعون في صلاتهم وزكاتهم، وقيل هو حال مخصوصة بيؤتون، أي يؤتون الزكاة في حال ركوعهم في الصلاة حرصاً على الإحسان ومسارعه إليه، وإنها نزلت في علي رضي الله عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته، فطرح له خاتمه. واستدل بها الشيعة على إمامته زاعمين أن المراد بالولي المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها، والظاهر ما ذكرناه مع أن حمل الجمع على الواحد أيضاً خلاف الظاهر وإن صح أنه نزل فيه فلعله جيء بلفظ الجمع لترغيب الناس في مثل فعله فيندرجوا فيه، وعلى هذا يكون دليل على أن الفعل القليل في الصلاة لا يبطلها وأن صدقة التطوع تسمى زكاة.
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ومن يتخذهم أولياء. فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ أي فإنهم هم الغالبون، ولكن وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على البرهان عليه فكأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون وتنويهاً بذكرهم وتعظيماً لشأنهم وتشريفاً لهم بهذا الاسم، وتعريضاً لمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان. وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حَزَّ بِهِمْ.(2/132)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
[سورة المائدة (5) : آية 57]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ نزلت في رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهرا الإِسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما. وقد رتب النهي عن موالاتهم على اتخاذهم دينهم هزواً ولعباً إيماء إلى العلة وتنبيهاً على أن من هذا شأنه بعيد عن الموالاة جدير بالمعاداة والبغضاء، وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار على قراءة من جره وهم أبو عمرو والكسائي ويعقوب، والكفار وإن عم أهل الكتاب يطلق على المشركين خاصة لتضاعف كفرهم، ومن نصبه عطفه على الذين اتخذوا على أن النهي عن موالاة من ليس على الحق رأساً سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرفه عن الصواب كأهل الكتاب ومن لم يكن كالمشركين. وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك المناهي. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لأن الإِيمان حقاً يقتضي ذلك. وقيل إن كنتم مؤمنين بوعده ووعيده.
[سورة المائدة (5) : آية 58]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (58)
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً أي اتخذوا الصلاة، أو المنادة وفيه دليل على أن الأذان مشروع للصلاة.
روي: أن نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمداً رسول الله، قال:
أحرق الله الكاذب، فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطاير شررها في البيت فأحرقه وأهله.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ فإن السفه يؤدي إلى الجهل بالحق والهزء به، والعقل يمنع منه.
[سورة المائدة (5) : آية 59]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا هل تنكرون منا وتعيبون، يقال نقم منه كذا إذا أنكره وانتقم إذا كافأه. وقرئ تَنْقِمُونَ بفتح القاف وهي لغة. إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ الإِيمان بالكتب المنزّلة كلها. وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف على أَنْ آمَنَّا وكأن المستثنى لازم الأمرين وهو المخالفة أي: ما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا الإِيمان وأنتم خارجون منه، أو كان الأصل واعتقاد أن أكثركم فاسقون فحذف المضاف، أو على ما أي: وما تنقمون منا إلا الإِيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم فاسقون، أو على علة محذوفة والتقدير هل تنقمون منا إِلا أن آمنا لقلة إِنصافكم وفسقكم، أو نصب بإضمار فعل يدل عليه هل تنقمون أي: ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو رفع على الابتداء والخبر محذوف أي:
وفسقكم ثابت معلوم عندكم ولكن حب الرياسة والمال يمنعكم عن الإِنصاف. والآية خطاب ليهود سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمن يؤمن به فقال: أؤمن بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا إلى قوله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى: لا نعلم ديناً شراً من دينكم.
[سورة المائدة (5) : آية 60]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ أي من ذلك المنقوم. مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ جزاء ثابتاً عند الله سبحانه وتعالى، والمثوبة مختصة بالخير كالعقوبة بالشر فوضعت هاهنا موضعها على طريقة قوله:
تَحِيَّةٌ بينهم ضرب وجيع(2/133)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
ونصبها على التمييز عن بشر. مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ بدل من بشر على حذف مضاف أي بشر من أهل ذلك من لعنه الله، أو بشر من ذلك دين من لعنه الله، أو خبر محذوف أي هو من لعنه الله وهم اليهود أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات، ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت، وبعضهم خنازير وهم كفار أهل مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام. وقيل كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة ومشايخهم خنازير. وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ عطف على صلة من وكذا عَبَدَ الطَّاغُوتَ على البناء للمفعول، ورفع الطَّاغُوتَ وعَبَدَ بمعنى صار معبوداً، فيكون الراجع محذوفاً أي فيهم أو بينهم، ومن قرأ «وعابد الطاغوت» أو عَبَدَ على أنه نعت كفطن ويقظ أو عبدة أو عَبَدَ الطَّاغُوتَ على أنه جمع كخدم أو أن أصله عبدة فحذف التاء للإضافة عطفه على القردة، ومن قرأ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بالجر عطفه على من، والمراد مِنْ الطاغوت العجل وقيل الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى. أُولئِكَ أي الملعونون. شَرٌّ مَكاناً جعل مكانهم شراً ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم، وقيل مَكاناً منصرفاً. وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ قصد الطريق المتوسط بين غلو النصارى وقدح اليهود، والمراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقاً لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشرارة والضلالة.
[سورة المائدة (5) : الآيات 61 الى 62]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62)
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا نزلت في يهود نافقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو في عامة المنافقين. وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، والجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعلي دخلوا وخرجوا، وقد وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالاً أفادت أيضاً لما فيها من التوقع أن أمارة النفاق كانت لائحة عليهم، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يظنه ولذلك قال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي من الكفر، وفيه وعيد لهم.
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي من اليهود أو من المنافقين. يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ أي الحرام وقيل الكذب لقوله: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَالْعُدْوانِ الظلم، أو مجاوزة الحد في المعاصي. وقيل الْإِثْمِ ما يختص بهم والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم. وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام خصه بالذكر للمبالغة. لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ لبئس شيئاً عملوه.
[سورة المائدة (5) : آية 63]
لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك فإن لولا إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض. لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ أبلغ من قوله لبئس مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتروٍ وتحري إجادة، ولذلك ذم به خواصهم ولأن ترك الحسبة أقبح من مواقعه المعصية، لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك ترك الإِنكار عليها فكان جديرا بأبلغ الذم.
[سورة المائدة (5) : آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)(2/134)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي هو ممسك يقتر بالرزق وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ولا قصد فيه إلى إثبات يد وغل وبسط ولذلك يستعمل حيث لا يتصور ذلك كقوله:
جَاَد الحِمَى بَسَطَ اليدينِ بِوَابل ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تلاَعُهُ وَوِهَادُهُ
ونظيره من المجازات المركبة: شابت لمة الليل. وقيل معناه إنه فقير لقوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا دعاء عليهم بالبخل والنكد أو بالفقر والمسكنة، أو بغل الأيدي حقيقة يغلون أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة فتكون المطابقة من حيث اللفظ وملاحظة الأصل كقولك: سبني سب الله دابره. بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ثنى اليد مبالغة في الرد ونفي البخل عنه تعالى وإثباتاً لغاية الجود، فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه، وتنبيهاً على منح الدنيا والآخرة وعلى ما يعطي للاستدراج وما يعطي للإِكرام. يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ تأكيد لذلك أي هو مختار في إِنفاقه يوسع تارة ويضيق أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته، لا على تعاقب سعة وضيق في ذات يد، ولا يجوز جعله حالاً من الهاء للفصل بينهما بالخبر ولأنها مضاف إليها، ولا من اليدين إذ لا ضمير لهما فيه ولا من ضميرهما لذلك. والآية نزلت في فنحاص بن عازوراء فإنه قال ذلك لما كف الله عن اليهود ما بسط عليهم من السعة بشؤم تكذيبهم محمداً صلّى الله عليه وسلّم وأشرك فيه الآخرون لأنهم رضوا بقوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً أي هم طاغون كافرون ويزدادون طغياناً وكفراً بما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضاً من تناول الغذاء الصالح للأصحاء. وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم. كُلَّما أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ كلما أرادوا حرب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإثارة شر عليه ردهم الله سبحانه وتعالى بأن أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين، وللحرب صلة أوقدوا أو صفة ناراً.
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي للفساد وهو اجتهادهم في الكيد وإثارة الحروب والفتن وهتك المحارم.
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فلا يجازيهم إلا شرا.
[سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 66]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به. وَاتَّقَوْا ما عددنا من معاصيهم ونحوه.
لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي فعلوها ولم نؤاخذهم بها. وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وجعلناهم داخلين فيها.
وفيه تنبيه على عظم معاصيهم وكثرة ذنوبهم، وأن الإِسلام يجب ما قبله، وإن جل وأن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم.
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ بإذاعة ما فيهما من نعت محمد عليه الصلاة والسلام والقيام بأحكامها. وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يعني سائر الكتب المنزلة فإنها من حيث إنهم مكلفون بالإِيمان بها كالمنزل إليهم، أو القرآن لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات مّنَ السماء والأرض، أو يكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار. فيجتنونها من رأس الشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض بين بذلك أن ما كف عنهم بشؤم كفرهم ومعاصيهم لا لقصور الفيض، ولو أنهم آمنوا وأقاموا ما أمروا به لوسع عليهم وجعل لهم خير الدارين. مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ(2/135)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
عادلة غير غالية ولا مقصرة، وهم الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وقيل مقتصدة متوسطة في عداوته. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ أي بئس ما يعملونه، وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم وهو المعاندة وتحريف الحق والإِعراض عنه والإِفراط في العداوة.
[سورة المائدة (5) : آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ جميع ما أنزل إِليك غير مراقب أحداً ولا خائف مكروهاً.
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك. فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ فما أديت شيئاً منها، لأن كتمان بعضها يضيع ما أدي منها كترك بعض أركان الصلاة، فإن غرض الدعوة ينتقض به، أو فكأنك ما بلغت شيئاً منها كقوله: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً من حيث أن كتمان البعض والكل سواء في الشفاعة واستجلاب العقاب.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر رِسالاتِهِ بالجمع وكسر التاء. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ عدة وضمان من الله سبحانه وتعالى بعصمة روحه صلّى الله عليه وسلّم من تعرض الأعادي وإزاحة لمعاذيره. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ لا يمكنهم مما يريدون بك.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعاً فأوحى الله تعالى إليَّ إن لم تبلغ رسالتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت» .
وعن أنس رضي الله تعالى عنه، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرس حتى نزلت، فأخرج رأسه من قبة أدم فقال: انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس.
وظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل ولعل المراد به تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد، وقصد بإنزاله إطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإِلهية ما يحرم افشاؤه.
[سورة المائدة (5) : آية 68]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي دين يعتد به ويصح أن يسمى شيئاً لأنه باطل. حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والإِذعان لحكمه، فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإِيمان بمن صدقه والمعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له، والمراد إقامة أصولها وما لم ينسخ من فروعها. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه إليهم، فإن ضرر ذلك لاحق بهم لا يتخطاهم وفي المؤمنين مندوحة لك عنهم.
[سورة المائدة (5) : آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى سبق تفسيره في سورة «البقرة» والصابئون رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز إن والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك كقوله:
فإنِّي وَقَيَّارٌ بها لَغَرِيبُ وقوله:
وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُم ... بُغَاةٌ مَا بَقينا فِي شِقَاق(2/136)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
أي فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك، وهو كاعتراض دل به على أنه لما كان الصابئون مع ظهور ضلالهم وميلهم عن الأديان كلها يتاب عليهم إن صح منهم الإِيمان والعمل الصالح، كان غيرهم أولى بذلك. ويجوز أن يكون والنصارى معطوفاً عليه ومن آمن خبرهما وخبر إن مقدر دل عليه ما بعده كقوله:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
ولا يجوز عطفه على محل إن واسمها فإنه مشروط بالفراغ من الخبر، إذ لو عطف عليه قبله كان الخبر خبر المبتدأ وخبر إن معاً فيجتمع عليه عاملان ولا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل، ولأنه يوجب كون الصابئين هوداً. وقيل إِن بمعنى نعم وما بعدها في موضع الرفع بالابتداء. وقيل الصَّابِئُونَ منصوب بالفتحة وذلك كما جوز بالياء جوز بالواو. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً في محل الرفع بالابتداء وخبره. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ والجملة خبر إن أو خبر المبتدأ كما مر والراجع محذوف، أي:
من آمن منهم، أو النصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه. وقرئ و «الصابئين» وهو الظاهر و «الصابيون» بقلب الهمزة ياء و «الصابون» بحذفها من صبأ بإبدال الهمزة ألفاً، أو من صبوت لأنهم صبوا إلى اتباع الشهوات ولم يتبعوا شرعاً ولا عقلا.
[سورة المائدة (5) : آية 70]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ليذكروهم وليبينوا لهم أمر دينهم. كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لاَ تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بما يخالَف هواهم من الشرائع ومشاق التكاليف. فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ جواب الشرط والجملة صفة رسلاً والراجع محذوف أي رسول منهم. وقيل الجواب محذوف دل عليه ذلك وهو استئناف، وإنما جيء ب يَقْتُلُونَ موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها واستفظاعاً للقتل وتنبيهاً على أن ذلك من ديدنهم ماضياً ومستقبلاً ومحافظة على رؤوس الآي.
[سورة المائدة (5) : آية 71]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي وحسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم بلاء وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيبهم.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب لاَ تَكُونَ بالرفع على أنّ أن المخففة من الثقيلة، وأصله أنه لا تكون فتنة فخففت أن وحذف ضمير الشأن فصار: أن لا تكون وإدخال فعل الحسبان عليها وهي للتحقيق تنزيل له منزلة العلم لتمكنه في قلوبهم، وأن أو أن بما في حيزها ساد مسد مفعوليه. فَعَمُوا عن الدين أو الدلائل والهدى. وَصَمُّوا عن استماع الحق كما فعلوا حين عبدوا العجل. ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي ثم تابوا فتاب الله عليهم. ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كرة أخرى. وقرئ بالضم فيهما على أن الله تعالى عماهم وصمهم أي رماهم بالعمى والصمم، وهو قليل واللغة الفاشية أعمى وأصم. كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير، أو فاعل والواو علامة الجمع كقولهم: أكلوني البراغيث، أو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصم كثير منهم.
وقيل مبتدأ والجملة قبله خبره وهو ضعيف لأن تقديم الخبر في مثله ممتنع. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم على وفق أعمالهم.
[سورة المائدة (5) : آية 72]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)(2/137)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أي إني عبد مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم. إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي في عبادته أو فيما يختص به من الصفات والأفعال. فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم فإنها دار الموحدين. وَمَأْواهُ النَّارُ فإنها المعدة للمشركين. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي وما لهم أحد ينصرهم من النار، فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً على أنهم ظلموا بالاشراك وعدلوا عن طريق الحق، وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه الصلاة والسلام وأن يكون من كلام الله تعالى نبه به على أنهم قالوا ذلك تعظيما لعيسى صلّى الله عليه وسلّم، وتقرباً إليه وهو معاديهم بذلك ومخاصمهم فيه فما ظنك بغيره.
[سورة المائدة (5) : الآيات 73 الى 74]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي أحد ثلاثة، وهو حكاية عما قاله النسطورية والملكانية منهم القائلون بالأقانيم الثلاثة وما سبق قول اليعقوبية القائلين بالاتحاد. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وما في الوجود ذات واجب مستحق للعبادة من حيث إنه مبدئ جميع الموجودات إلا إله واحد، موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة ومن مزيدة للاستغراق. وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ ولم يوحدوا. لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي ليمسن الذين بقوا منهم على الكفر، أو ليمسن الذين كفروا من النصارى، وضعه موضع ليمسنهم تكريراً للشهادة على كفرهم وتنبيهاً على أَنَّ العذاب على مَن دام على الكفر ولم ينقلع عنه فلذلك عقبه بقوله:
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ أي أفلا يتوبون بالانتهاء عن تلك العقائد والأقوال الزائغة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقرير والتهديد. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا. وفي هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.
[سورة المائدة (5) : آية 75]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي ما هو إلا رسول كالرسل قبله خصه الله سبحانه وتعالى بالآيات كما خصهم بها، فإن إحياء الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى عليه السلام وهو أعجب، وإن خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب وأم وهو أغرب. وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق، أو يصدقن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ويفتقران إليه افتقار الحيوانات، بين أولاً أقصى ما لهما من الكمال ودل على أنه لا يوجب لهما ألوهية لأن كثيراً من الناس يشاركهما في مثله، ثم نبه على نقصهما وذكر ما ينافي الربوبية ويقتضي أن يكونا من عداد المركبات الكائنة الفاسدة، ثم عجب لمن يدعي الربوبية لهما مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة فقال:
انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله وثم لتفاوت ما بين العجبين أي إن بياننا للآيات عجب وإعراضهم عنها أعجب.
[سورة المائدة (5) : آية 76]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً يعني عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو وإن(2/138)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
ملك ذلك بتمليك الله سبحانه وتعالى إياه لا يملكه من ذاته ولا يملك مثل ما يضر الله تعالى به من البلايا والمصائب، وما ينفع به من الصحة والسعة وإنما قال ما نظراً إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأساً، وتنبيهاً على أنه من هذا الجنس ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة فبمعزل عن الألوهية، وإنما قدم الضر لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع. وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالأقوال والعقائد فيجازي عليها إن خيراً فخير وإن شرا فشر.
[سورة المائدة (5) : آية 77]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أي غلوا باطلا فترفعوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أن تدعوا له الألوهية، أو تضعوه فتزعموا أنه لغير رشدة. وقيل الخطاب للنصارى خاصة. وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ يعني أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم في شريعتهم.
وَأَضَلُّوا كَثِيراً ممن شايعهم على بدعهم وضلالهم. وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ عن قصد السبيل الذي هو الإسلام بعد مبعثه صلّى الله عليه وسلّم لما كذبوه وبغوا عليه، وقيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل والثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع.
[سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 79]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لاَ يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (79)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي لعنهم الله في الزبور والإِنجيل على لسانهما. وقيل إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت لعنهم الله تعالى على لسان داود فمسخهم الله تعالى قردة، وأصحاب المائدة لما كفروا دعا عليهم عيسى عليهم السلام ولعنهم فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ أي ذلك اللعن الشنيع المقتضي للمسخ بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرم عليهم.
كانُوا لاَ يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي لا ينهى بعضهم بعضاً عن معاودة منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله وتهيؤوا له، أو لا ينتهون عنه من قولهم تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع. لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 80 الى 81]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ من أهل الكتاب. يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يوالون المشركين بغضاً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي لبئس شيئا قدموه ليردوا عليه يوم القيامة أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ هو المخصوص بالذم، والمعنى موجب سخط الله والخلود في العذاب، أو علة الذم والمخصوص محذوف أي لبئس شيئاً ذلك لأنه كسبهم السخط والخلود.
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ يعني نبيهم وإن كانت الآية في المنافقين فالمراد نبينا عليه السلام. وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ إذ الإِيمان يمنع ذلك. وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم أو متمردون في نفاقهم.(2/139)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
[سورة المائدة (5) : آية 82]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى للين جانبهم ورقة قلوبهم وقلة حرصهم على الدنيا وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل وإليه أشار بقوله: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحق إذا فهموه، أو يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود. وفيه دليل على أن التواضع والإِقبال على العلم والعمل والإِعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر.
[سورة المائدة (5) : آية 83]
وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ عطف على لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم تأبيهم عنه، والفيض انصباب عن امتلاء، فوضع موضع الامتلاء للمبالغة، أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها. مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ مِنْ الأولى للابتداء والثانية لتبيين ما عرفوا، أو للتبعيض بأنه بعض الحق. والمعنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله. يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بذلك أو بمحمد. فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ، من الذين شهدوا بأنه حق، أو بنبوته، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة.
[سورة المائدة (5) : آية 84]
وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ استفهام إنكار واستبعاد لانتفاء الإِيمان مع قيام الداعي وهو الطمع في الانخراط مع الصالحين، والدخول في مداخلهم أو جواب سائل قال لم آمنتم؟ ولا نُؤْمِنُ حال من الضمير والعامل ما في اللام من معنى الفعل، أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين بالله، أي بوحدانيته فإنهم كانوا مثلثين. أو بكتابه ورسوله فإن الإِيمان بهما إيمان به حقيقة وذكره توطئة وتعظيماً، ونطمع عطف على نؤمن أو خبر محذوف، والواو للحال أي ونحن نطمع والعامل فيها عامل الأولى مقيداً بها أو نؤمن.
[سورة المائدة (5) : الآيات 85 الى 86]
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا أي عن اعتقاد من قولك هذا قول فلان أي معتقده. جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا النظر والعمل، أو الذين اعتادوا الإِحسان في الأمور. والآيات الأربع
روي (أنها نزلت في النجاشي وأصحابه بعث إليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بكتابه فقرأه، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر الرهبان والقسيسين، فأمر جعفراً أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن)
وقيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليهم سورة يس فبكوا وآمنوا.(2/140)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ عطف التكذيب بآيات الله على الكفر، وهو ضرب منه لأن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم في معرض المصدقين بها جمعاً بين الترغيب والترهيب.
[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أي ما طاب ولذ منه كأنه لما تضمن ما قبله مدح النصارى على ترهبهم والحث على كسر النفس ورفض الشهوات عقبه النهي عن الإِفراط في ذلك والاعتداء عما حد الله سبحانه وتعالى بجعل الحلال حراماً فقال: وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ويجوز أن يراد به ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم، فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرم داعية إلى القصد بينهما.
روي (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصف القيامة لأصحابه يوماً وبالغ في إنذارهم، فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين، وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح، ويسيحوا في الأرض، ويجبوا مذاكيرهم. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم: إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) فنزلت.
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله، فيكون حلالاً مفعول كلوا ومما حال منه تقدمت عليه لأنه نكرة، ويجوز أن تكون من ابتدائية متعلقة بكلوا، ويجوز أن تكون مفعولاً وحلالاً حال من الموصول، أو العائد المحذوف، أو صفة لمصدر محذوف وعلى الوجوه لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لاَّ يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
لاَّ يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ هو ما يبدو من المرء بلا قصد كقول الرجل: لا والله وبلى والله، وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، وقيل الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وفي أيمانكم صلة يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به. وقرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم عَقَّدْتُمُ بالتخفيف، وابن عامر برواية ابن ذكوان «عاقدتم» وهو من فاعل بمعنى فعل. فَكَفَّارَتُهُ فكفارة نكثه أي الفعلة التي تذهب إثمه وتستره، واستدل بظاهره على جواز التكفير بالمال قبل الحنث وهو عندنا خلافا للحنفية
لقوله عليه الصلاة والسلام «من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير» .
إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ من أقصده في النوع أو القدر، وهو مد لكل مسكين عندنا ونصف صاع عند الحنفية، وما محله النصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره: أن تطعموا عشرة مساكين طعاماً من أوسط ما تطعمون، أو الرفع على البدل من إطعام، وأهلون كأرضون. وقرئ «أهاليكم» بسكون الياء على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث كالألف، وهو جمع أهل كالليالي في جمع ليل والأراضي في جمع أرض.(2/141)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
وقيل هو جمع أهلاة. أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على إطعام أو من أوسط إن جعل بدلاً وهو ثوب يغطي العورة.
وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار. وقرئ بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وكأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً كان أو تقتيراً تواسون بينهم وبينهم إن لم تطعموهم الأوسط، والكاف في محل الرفع وتقديره: أو إطعامهم كأسوتهم. أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أو إعتاق إنسان، وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأَيمان قياساً على كفارة القتل، ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقا وتخيير المكلف في التعيين. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي واحداً منها. فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فكفارته صيام ثلاثة أيام، وشرط فيه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه التتابع لأنه قرئ «ثلاثة أيام متتابعات» ، والشواذ ليست بحجة عندنا إذا لم تثبت كتاباً ولم ترو سنة. ذلِكَ أي المذكور. كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم. وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ بأن تضنوا بها ولا تبذلوها لكل أمر، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير، أو بأن تكفروها إذا حنثتم.
كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أعلام شرائعه. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه.
[سورة المائدة (5) : آية 90]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ أي الأصنام التي نصبت للعبادة. وَالْأَزْلامُ سبق تفسيرها في أول السورة. رِجْسٌ قذر تعاف عنه العقول، وأفرده لأنه خبر للخمر، وخبر المعطوفات محذوف أو لمضاف محذوف كأنه قال: إنما تعاطي الخمر والميسر. مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ لأنه مسبب عن تسويله وتزيينه. فَاجْتَنِبُوهُ الضمير للرجس أو لما ذكر أو للتعاطي. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفلحوا بالاجتناب عنه.
واعلم أنه سبحانه وتعالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية، بأن صدر الجملة ب إِنَّما وقرنهما بالأنصاب والأزلام، وسماهما رجساً، وجعلهما من عمل الشيطان تنبيهاً على أن الاشتغال بهما شرّ بحت أو غالب، وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعله سبباً يرجى منه الفلاح، ثم قرر ذلك بأن بين ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقال تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 91 الى 92]
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ وإنما خصهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيهاً على أنهما المقصود بالبيان، وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة
لقوله عليه الصلاة والسلام «شارب الخمر كعابد الوثن» .
وخص الصلاة من الذكر بالإِفراد للتعظيم، والإِشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإِيمان من حيث إنها عماده والفارق بينه وبين الكفر، ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتباً على ما تقدم من أنواع الصوارف فقال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ إيذاناً بأن الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أمرا به. وَاحْذَرُوا ما نهيا عنه أو مخالفتهما. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ(2/142)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ
أي فاعلموا أنكم لم تضروا الرسول صلّى الله عليه وسلّم بتوليكم، فإنما عليه البلاغ وقد أدى، وإنما ضررتم به أنفسكم.
[سورة المائدة (5) : آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا مما لم يحرم عليهم لقوله: إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي اتقوا المحرم وثبتوا على الإِيمان والأعمال الصالحة. ثُمَّ اتَّقَوْا ما حرم عليهم بعد كالخمر. وَآمَنُوا بتحريمه. ثُمَّ اتَّقَوْا ثم استمروا وثبتوا على اتقاء المعاصي. وَأَحْسَنُوا وتحروا الأعمال الجميلة واشتغلوا بها.
روي (أنه لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر) فنزلت.
ويحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة، أو باعتبار الحالات الثلاث استعمال الإنسان التقوى والإِيمان بينه وبين نفسه وبينه وبين الناس وبينه وبين الله تعالى، ولذلك بدل الإِيمان بالإِحسان في الكرة الثالثة إشارة إلى ما قاله عليه الصلاة والسلام في تفسيره، أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى، أو باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقياً من العقاب والشبهات تحرزاً عن الوقوع في الحرام، وبعض المباحات تحفظاً للنفس عن الخسة وتهذيباً لها عن دنس الطبيعة. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فلا يؤاخذهم بشيء، وفيه أن من فعل ذلك صار محسناً ومن صار محسناً صار لله محبوبا.
[سورة المائدة (5) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ نزلت في عام الحديبية ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالصيد، وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم وهم محرمون، والتقليل والتحقير في بشيء للتنبيه على أنه ليس من العظائم التي تدحض الأقدام كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال، فمن لم يثبت عنده كيف يثبت عند ما هو أشد منه. لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ ليتميز الخائف من عقابه وهو غائب منتظر لقوة إيمانه ممن لا يخافه لضعف قلبه وقلة إيمانه، فذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره أو تعلق العلم. فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ بعد ذلك الابتلاء بالصيد.
فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ فالوعيد لاحق به، فإن من لا يملك جأشه في مثل ذلك ولا يراعي حكم الله فيه فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه وأحرص عليه.
[سورة المائدة (5) : آية 95]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي محرمون جمع حرام كرداح وردح، ولعله ذكر القتل دون الذبح والذكاة للتعميم، وأراد بالصيد ما يؤكل لحمه لأنه الغالب فيه عرفاً ويؤيده
قوله عليه الصلاة والسلام «خمس يقتلن في الحل والحرم، الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور» . وفي رواية أخرى «الحية»
بدل «العقرب» ، مع ما فيه من التنبيه على جواز قتل كل مؤذ، واختلف في أن هذا النهي هل(2/143)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
يلغي حكم الذبح فيلحق مذبوح المحرم بالميتة ومذبوح الوثني أو لا فيكون كالشاة المغصوبة إذا ذبحها الغاصب. وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً ذاكراً لإحرامه عالماً بأنه حرام عليه قبل ما يقتله، والأكثر على أن ذكره ليس لتقييد وجوب الجزاء فإن إتلاف العامد والمخطئ واحد في إيجاب الضمان، بل لقوله: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ولأن الأية نزلت فيمن تعمد إذ
روي: أنه عن لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله. فنزلت.
فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ برفع الجزاء، والمثل قراءة الكوفيين ويعقوب بمعنى فعليه أي فواجبه جزاء يماثل ما قتل من النعم، وعليه لا يتعلق الجار بجزاء للفصل بينهما بالصفة فإن متعلق المصدر كالصلة له فلا يوصف ما لم يتم بها، وإنما يكون صفته وقرأ الباقون على إضافة المصدر إلى المفعول وإقحام مثل كما في قولهم مثلي لا يقول كذا، والمعنى فعليه أن يجزى مثل ما قتل. وقرئ «فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ» ، بنصبهما على فليجز جزاء، أو فعليه أن يجزي جزاء يماثل ما قتل وفجزاؤه مثل ما قتل، وهذه المماثلة باعتبار الخلقة والهيئة عند مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما، والقيمة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال: يقوم الصيد حيث صيد فإن بلغت القيمة ثمن هدى تخير بين أن يهدي ما قيمته قيمته وبين أن يشتري بها طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً وإن لم تبلغ تخير بين الإطعام والصوم واللفظ للأول أوفق. يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ صفة جزاء ويحتمل أن يكون حالاً من ضميره في خبره أو منه إذا أضفته، أو وصفته ورفعته بخبر مقدر لمن وكما أن التقويم يحتاج إلى نظر واجتهاد يحتاج إلى المماثلة في الخلقة والهيئة إليها، فإن الأنواع تتشابه كثيرا.
وقرئ «ذو عدل» على إرادة الجنس أو الإمام. هَدْياً حال من الهاء في به أو من جزاء وإن نون لتخصصه بالصفة، أو بدل من مثل باعتبار محله أو لفظه فيمن نصبه. بالِغَ الْكَعْبَةِ وصف به هدياً لأن إضافته لفظية ومعنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم والتصدق به، وقال أبو حنيفة يذبح بالحرم ويتصدق به حيث شاء. أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على جزاء إن رفعته وإن نصبته فخبر محذوف. طَعامُ مَساكِينَ عطف بيان أو بدل منه، أو خبر محذوف أي هي طعام. وقرأ نافع وابن عامر كفارة طَعامُ بالإِضافة للتبيين كقولك: خاتم فضة، والمعنى عند الشافعي أو أن يكفر بإطعام مساكين ما يساوي قيمة الهدي من غالب قوت البلد فيعطي كل مسكين مداً. أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أو ما ساواه من الصوم فيصوم عن طعام كل مسكين يوماً، وهو في الأصل مصدر أطلق للمفعول. وقرئ بكسر العين وهو ما عدل بالشيء في المقدر كعدلي الحمل وذلك إشارة إلى الطعام، وصياماً تمييز للعدل. لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ متعلق بمحذوف أي فعليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه لحرمة الإِحرام، أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى وأصل الوبل الثقل ومنه الطعام الوبيل. عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من قتل الصيد محرماً في الجاهلية أو قبل التحريم، أو في هذه المرة. وَمَنْ عادَ إلى مثل هذا. فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فهو ينتقم الله منه وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكي عن ابن عباس وشريح. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ مما أصر على عصيانه.
[سورة المائدة (5) : آية 96]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ما صيد منه مما لا يعيش إلا في الماء، وهو حلال كله
لقوله عليه الصلاة والسلام في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» .
وقال أبو حنيفة لا يحل منه إلا السمك. وقيل يحل السمك وما يؤكل نظيره في البر. وَطَعامُهُ ما قذفه أو نضب عنه. وقيل الضمير للصيد وطعامه أكله. مَتاعاً لَكُمْ تمتيعاً لكم نصب على الغرض. وَلِلسَّيَّارَةِ أي ولسيارتكم يتزودونه قديداً. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ أي ما صيد فيه، أو الصيد فيه فعلى الأول يحرم على المحرم أيضاً ما صاده الحلال وإن لم يكن له فيه مدخل،(2/144)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
والجمهور على حله
لقوله عليه الصلاة والسلام «لحم الصيد حلال لكم، ما لم تصطادوه أو يصد لكم»
مَا دُمْتُمْ حُرُماً أي محرمين وقرئ بكسر الدال من دام يدام. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
[سورة المائدة (5) : آية 97]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ صيرها، وإنما سمي البيت كعبة لتكعبه. الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح، أو المفعول الثاني قِياماً لِلنَّاسِ انتعاشاً لهم أي سبب انتعاشهم في أمر معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف، ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعمار، أو ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم. وقرأ ابن عامر «قيماً» على أنه مصدر على فعل كالشبع أعل عينه كما أعل في فعله ونصبه على المصدر أو الحال. وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ سبق تفسيرها والمراد بالشهر الشهر الذي يؤدي فيه الحج، وهو ذو الحجة لأنه المناسب لقرنائه وقيل الجنس. ذلِكَ إشارة إلى الجعل، أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإِحرام وغيره. لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها، دليل حكمة الشارع وكمال علمه. وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق.
[سورة المائدة (5) : الآيات 98 الى 99]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعيد ووعد لمن انتهك محارمه ولمن حافظ عليها، أو لمن أصر عليه ولمن أقلع عنه.
مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ تشديد في إيجاب القيام بما أمر به أي الرسول أتى بما أمر به من التبليغ ولم يبق لكم عذر في التفريط. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة.
[سورة المائدة (5) : آية 100]
قُلْ لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
قُلْ لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها، رغب به في مصالح العمل وحلال المال. وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي فاتقوه في تحري الخبيث وإن كثر، وآثروا الطيب وإن قل. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ راجين أن تبلغوا الفلاح.
روي: أنها نزلت في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عنه وإن كانوا مشركين.
[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ الشرطية وما عطف عليها صفتان لأشياء والمعنى: لا تسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء إن تظهر لكم تغمكم وإن(2/145)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم، وهما كمقدمتين تنتجان ما يمنع السؤال وهو أنه مما يغمهم والعاقل لا يفعل ما يغمه، وأشياء اسم جمع كطرفاء غير أنه قلبت لامه فجعلت لفعاء. وقيل أفعلاء حذفت لامه جمع لشيء على أن أصله شيئ كهين، أو شيء كصديق فخفف. وقيل أفعال جمع له من غير تغيير كبيت وأبيات ويرده منع صرفه. عَفَا اللَّهُ عَنْها صفة أخرى أي عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلف بها. إذ
روي أنه لما نزلت وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قال سراقة بن مالك: أكل عام فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أعاد ثلاثاً فقال: «لا ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم فاتركوني ما تركتكم» فنزلت
أو استئناف أي عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا لمثلها. وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم، ويعفو
عن كثير وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب ذات يوم وهو غضيان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال: لا أسأل عن شيء إلا أجبت، فقال رجل: أين أبي فقال في النار، وقال آخر من أبي فقال: حذافة وكان يدعى لغيره) فنزلت.
قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ الضمير للمسألة التي دل عليها تسألوا ولذلك لم يعد بعن أو لأشياء بحذف الجار.
مِنْ قَبْلِكُمْ متعلق بسألها وليس صفة لقوم، فإن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها. ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ أي بسببها حيث لم يأمروا بما سألوا جحودا.
[سورة المائدة (5) : آية 103]
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ رد وإنكار لما ابتدعه أهل الجاهلية وهو أنهم إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وخلوا سبيلها، فلا تركب ولا تحلب، وكان الرجل منهم يقول: إن شفيت فناقتي سائبة ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لألهتهم وإن ولدتهما قالوا وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لها الذكر، وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى وقالوا: قد حمي ظهره، ومعنى ما جعل ما شرع ووضع، ولذلك تعدى إلى مفعول واحد وهو البحيرة ومن مزيدة. وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بتحريم ذلك ونسبته إلى الله سبحانه وتعالى. وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ أي الحلال من الحرام والمبيح من المحرم، أو الآمر من الناهي ولكنهم يقلدون كبارهم وفيه أن منهم من يعرف بطلان ذلك ولكن يمنعهم حب الرياسة وتقليد الآباء أن يعترفوا به.
[سورة المائدة (5) : آية 104]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا بيان لقصور عقولهم وانهماكهم في التقليد وأن لا سند لهم سواه. أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ الواو للحال والهمزة دخلت عليها لإِنكار الفعل على هذه الحال، أي أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد.
[سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي إحفظوها والزموا إصلاحها، والجار مع المجرور جعل اسماً(2/146)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
لإِلزموا ولذلك نصب أنفسكم. وقرئ بالرفع على الابتداء. لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين، ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما
قال عليه الصلاة والسلام «من رأى منكم منكراً واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه» .
والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم، وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك فنزلت. ولا يَضُرُّكُمْ يحتمل الرفع على أنه مستأنف ويؤيده أن قرئ «لا يضيركم» والجزم على الجواب أو النهي لكنه ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة وتنصره قراءة من قرأ لاَ يَضُرُّكُمْ بالفتح، ولا يَضُرُّكُمْ بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بذنب غيره.
[سورة المائدة (5) : آية 106]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ أي فيما أمرتم شهادة بينكم، والمراد بالشهادة الإِشهاد في الوصية وإضافتها إلى الظرف على الاتساع وقرئ «شَهَادَةً» بالنصب والتنوين على ليقم. إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إذا شارفه وظهرت أماراته وهو ظرف للشهادة. حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل منه وفي إبداله تنبيه على أن الوصية مما ينبغي أن لا يتهاون فيه أو ظرف حضر. اثْنانِ فاعل شهادة ويجوز أن يكون خبرها على حذف المضاف.
ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي من أقاربكم أو من المسلمين وهما صفتان لاثنان. أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ عطف على اثنان، ومن فسر الغير بأهل الذمة جعله منسوخاً فإن شهادته على المسلم لا تسمع إجماعاً. إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم فيها. فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي قاربتم الأجل. تَحْبِسُونَهُما تقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله أو آخران من غيركم اعتراض، فائدته الدلالة على أنه ينبغي أن يشهد اثنان منكم فإن تعذر كما في السفر فمن غيركم، أو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين فقال تحبسونهما. مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار. وقيل أي صلاة كانت. فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ إن ارتاب الوارث منكم. لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً مقسم عليه، وإن ارتبتم اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب. والمعنى لا نستبدل بالقسم أو بالله عرضاً من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذباً لطمع. وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى ولو كان المقسم له قريباً منا، وجوابه أيضاً محذوف أي لا نشتري. وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي الشهادة التي أمرنا الله بإقامتها، وعن الشعبي أنه وقف على شهادة ثم ابتدأ الله بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه، وروي عنه بغيره كقولهم الله لأفعلن. إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أي إن كتمنا. وقرئ «لَمِلاْثِمِين» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها.
[سورة المائدة (5) : آية 107]
فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
فَإِنْ عُثِرَ فإن اطلع. عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي فعلا ما أوجب إثماً كتحريف. فَآخَرانِ فشاهدان آخران. يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ من الذين جنى عليهم وهم الورثة. وقرأ حفص اسْتَحَقَّ على البناء للفاعل وهو الأوليان. الْأَوْلَيانِ الاحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وهو خبر محذوف أي: هما الأوليان أو خبر آخَرانِ أو مبتدأ خبره آخران، أو بدل منهما أو من الضمير في يقومان.(2/147)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
وقرأ حمزة ويعقوب وأبو بكر عن عاصم الْأَوَّلِينَ على أنه صفة للذين، أو بدل منه أي من الأولين الذين استحق عليهم. وقرئ «الأولين» على التثنية وانتصابه على المدح والأولان وإعرابه إعراب الأوليان.
فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أصدق منها وأولى بأن تقبل. وَمَا اعْتَدَيْنا وما تجاوزنا فيها الحق. إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الواضعين الباطل موضع الحق، أو الظالمين أنفسهم إن اعتدينا. ومعنى الآيتين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته، أو يوصي إليهما احتياطاً فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم، ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت، والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإنه لا يخلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث وثابت إن كانا وصيين ورد اليمين إلى الورثة إما لظهور خيانة الوصيين فإن تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى. إذ
روي أن تميماً الداري وعدي بن يزيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلماً، فلما قدموا الشام مرض بديل فدون ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ولم يخبرهما به، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات، ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشاً بالذهب فغيباه، فأصاب أهله الصحيفة فطالبوهما بالإِناء فجحدا فترافعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت
: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية، فحلفهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد صلاة العصر عند المنبر وخلى سبيلهما، ثم وجد الإِناء في أيديهما فأتاهما بنو سهم في ذلك فقالا: قد اشتريناه منه ولكن لم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت فَإِنْ عُثِرَ فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا واستحقاه. ولعل تخصيص العدد فيهما لخصوص الواقعة.
[سورة المائدة (5) : آية 108]
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
ذلِكَ أي الحكم الذي تقدم أو تحليف الشاهد. أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها على نحو ما حملوها من غير تحريف وخيانة فيها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أن ترد اليمين على المدعين. بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة وإنما جمع الضمير لأنه حكم يعم الشهود كلهم. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ما توصون به سمع إجابة. وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قوماً فاسقين وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة. فقوله تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 109]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لاَ عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ظرف له. وقيل بدل من مفعول واتقوا بدل الاشتمال، أو مفعول واسمعوا على حذف المضاف أي واسمعوا خبر يوم جمعهم، أو منصوب باضمار اذكر. فَيَقُولُ أي للرسل. مَاذَا أُجِبْتُمْ أي إجابة أجبتم، على أن ماذا في موضع المصدر، أو بأي شيء أجبتم فحذف الجار، وهذا السؤال لتوبيخ قومهم كما أن سؤال الموؤدة لتوبيخ الوائد ولذلك قالُوا لاَ عِلْمَ لَنا أي لا علم لنا بما لست تعلمه.
إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فتعلم ما نعلمه مما أجابونا وأظهروا لنا وما لا نعلم مما أضمروا في قلوبهم، وفيه التشكي منهم ورد الأمر إلى علمه بما كابدوا منهم. وقيل المعنى لا علم لنا إلى جنب علمك، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة. وقرئ «علام» بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله إِنَّكَ أَنْتَ، أي إنك أنت الموصوف بصفاتك المعروفة وعلام منصوب على الاختصاص أو النداء. وقرأ أبو بكر وحمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع.(2/148)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
[سورة المائدة (5) : آية 110]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ بدل من يوم يجمع وهو على طريقة وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ والمعنى أنه سبحانه وتعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة، وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة. أو نصب بإضمار اذكر. إِذْ أَيَّدْتُكَ قويتك وهو ظرف لنعمتي أو حال منه وقرئ «آيدتك» . بِرُوحِ الْقُدُسِ بجبريل عليه الصلاة والسلام، أو بالكلام الذي يحيا به الدين، أو النفس حياة أبدية ويطهر من الآثام ويؤيده قوله: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي كائناً في المهد وكهلاً، والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على سواء، والمعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل والتكلم، وبه استدل على أنه سينزل فإنه رفع قبل أن يكتهل. وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي سبق تفسيره في سورة «آل عمران» . وقرأ نافع ويعقوب طائراً ويحتمل الإِفراد والجمع كالباقر. وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعني اليهود حين هموا بقتله. إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ ظرف لكففت. فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين. وقرأ حمزة والكسائي إلا «ساحر» فالإِشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.
[سورة المائدة (5) : الآيات 111 الى 112]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي أمرتهم على ألسنة رسلي. أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي يجوز أن تكون أن مصدرية وأن تكون مفسرة. قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ مخلصون.
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ منصوب بالذكر، أو ظرف لقالوا فيكون تنبيهاً على أن ادعاءهم الإِخلاص مع قولهم. هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة. وقيل هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإِرادة لا على ما تقتضيه القدرة. وقيل المعنى هل يطيع ربك أي هل يجيبك، واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب وأجاب. وقرأ الكسائي تستطيع ربك أي سؤال ربك، والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف. والمائدة الخوان إذا كان عليه الطعام، من ماد الماء يميد إذا تحرك، أو من ماد إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليه ونظيرها قولهم شجرة مطعمة. قالَ اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا السؤال. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بكمال قدرته وصحة نبوتي، أو صدقتم في ادعائكم الإيمان.
[سورة المائدة (5) : الآيات 113 الى 114]
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)(2/149)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال وهو أن يتمتعوا بالأكل منها.
وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته سبحانه وتعالى. وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في ادعاء النبوة، أو أن الله يجيب دعوتنا. وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لما رأى أن لهم غرضاً صحيحاً في ذلك، أو أنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها. اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً أي يكون يوم نزولها عيداً نعظمه.
وقيل العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيداً. وقرئ «تكن» على جواب الأمر. لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بدل من لنا بإعادة العامل أي عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا. روي: أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً. وقيل يأكل منها أولنا وآخرنا. وقرئ «لأولانا وأخرانا» بمعنى الأمة أو الطائفة. وَآيَةً عطف على عِيداً. مِنْكَ صفة لها أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي. وَارْزُقْنا المائدة والشكر عليها. وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض.
[سورة المائدة (5) : آية 115]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ إجابة إلى سؤالكم. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم مُنَزِّلُها بالتشديد.
فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً أي تعذيباً ويجوز أن يجعل مفعولاً به على السعة. لاَّ أُعَذِّبُهُ الضمير للمصدر، أو للعذاب إن أريد ما يعذب به على حذف حرف الجر. أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي من عالمي زمانهم أو العالمين مطلقاً فإنهم مسخوا قردة وخنازير، ولم يعذب بمثل ذلك غيرهم.
روي: أنها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة، ثم قام فتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسماً وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال: ليس منهما ولكن اخترعه الله سبحانه وتعالى بقدرته كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله، فقالوا: يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال: يا سمكة احيي بإذن الله تعالى فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ثم طارت المائدة، ثم عصوا بعدها فمسخوا.
وقيل كانت تأتيهم أربعين يوماً غباً يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها، ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره، ولا مريض إلا بريء ولم يمرض أبداً، ثم أوحي الله تعالى إلى عيسى عليه السلام أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء، فاضطرب الناس لذلك فمسخ منهم ثلاثة وثمانون رجلاً. وقيل لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة استعفوا وقالوا: لا نريد فلم تنزل. وعن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله لمقترحي المعجزات. وعن بعض الصوفية: المائدة هاهنا عبارة عن حقائق المعارف، فإنها غذاء الروح كما أن الأطعمة غذاء البدن وعلى هذا فلعل الحال أنهم رغبوا في حقائق لم يستعدوا للوقوف عليها، فقال لهم عيسى عليه الصلاة والسلام: إن حصلتم الإِيمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الاطلاع عليها، فلم يقلعوا عن السؤال وألحوا فيه فسأل لأجل اقتراحهم، فبين الله سبحانه وتعالى أن إنزاله سهل ولكن فيه خطر وخوف عاقبة، فإن السالك إذا انكشف له ما هو أعلى من مقامه لعله لا يحتمله ولا يستقر له فيضل به ضلالاً بعيدا.(2/150)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
[سورة المائدة (5) : آية 116]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ يريد به توبيخ الكفرة وتبكيتهم، ومن دون الله صفة لإِلهين أو صلة اتخذوني، ومعنى دون إما المغايرة فيكون فيه تنبيه على أن عبادة الله سبحانه وتعالى مع عبادة غيره كلا عبادة، فمن عبده مع عبادتهما كأنه عبدهما ولم يعبده أو القصور، فإنهم لم يعتقدوا أنهما مستقلان باستحقاق العبادة وإنما زعموا أن عبادتهما توصل إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وكأنه قيل: اتخذوني وأمي إلهين متوصلين بنا إلى الله سبحانه وتعالى. قالَ سُبْحانَكَ أنزهك تنزيهاً من أن يكون لك شريك. مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ تعلم ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أعلنه، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك. وقوله في نفسك للمشاكلة وقيل المراد بالنفس الذات. إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تقرير للجملتين باعتبار منطوقه ومفهومه.
[سورة المائدة (5) : الآيات 117 الى 118]
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ عطف بيان للضمير في به، أو بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقاً ليلزم بقاء الموصول بلا راجع، أو خبر مضمر أو مفعوله مثل هو أو أعني، ولا يجوز إبداله من ما أمرتني به فإن المصدر لا يكون مفعول القول ولا أن تكون أن مفسرة لأن الأمر مسند إلى الله سبحانه وتعالى، وهو لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم والقول لا يفسر بل الجملة تحكي بعده إلا أن يؤول القول بالأمر فكأن قيل: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به أن اعْبُدُوا اللَّهَ. وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ أي رقيباً عليهم أمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه، أو مشاهداً لأحوالهم من كفر وإيمان. فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي بالرفع إلى السماء لقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ والتوفي أخذ الشيء وافياً، والموت نوع منه قال الله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها. كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ المراقب لأحوالهم فتمنع من أردت عصمته من القول به بالارشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآيات. وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مطلع عليه مراقب له.
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ أي إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك. وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فلا عجز ولا استقباح فإنك القادر القوي على الثواب والعقاب، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم، فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل. وعدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمنع الترديد والتعليق بأن.
[سورة المائدة (5) : الآيات 119 الى 120]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)(2/151)
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ وقرأ نافع يَوْمِ بالنصب على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف، أو ظرف مستقر وقع خبراً والمعنى هذا الذي مر من كلام عيسى واقع يوم ينفع. وقيل إنه خبر ولكن بني على الفتح بإضافته إلى الفعل وليس بصحيح، لأن المضاف إليه معرب والمراد بالصدق الصدق في الدنيا فإن النافع ما كان حال التكليف. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ بيان للنفع. لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تنبيه على كذب النصارى وفساد دعواهم في المسيح وأمه، وإنما لم يقل ومن فيهن تغليباً للعقلاء وقال وَما فِيهِنَّ اتباعاً لهم غير أولي العقل إعلاماً بأنهم في غاية القصور عن معنى الربوبية والنزول عن رتبة العبودية، وإهانة لهم وتنبيهاً على المجانسة المنافية للألوهية، ولأن ما يطلق متناولاً للأجناس كلها فهو أولى بإرادة العموم.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا» .(2/152)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
(6) سورة الأنعام
مكية غير ست آيات أو ثلاث آيات من قوله:
قُلْ تَعالَوْا وهي مائة وخمس وستون آية
[سورة الأنعام (6) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أخبر بأنه سبحانه وتعالى حقيق بالحمد، ونبه على أنه المستحق له على هذه النعم الجسام حمد أو لم يحمد، ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون، وجمع السموات دون الأرض وهي مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات، وقدمها لشرفها وعلو مكانها وتقدم وجودها. وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أنشأهما، والفرق بين خلق وجعل الذي له مفعول واحد أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمن. ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيهاً على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، أو لأن المراد بالظلمة الضلال، وبالنور الهدى والهدى واحد والضلال متعدد، وتقديمها لتقدم الإِعدام على الملكات.
ومن زعم أن الظلمة عرض يضاد النور احتج بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عطف على قوله الحمد لله على معنى أن الله سبحانه وتعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته، ويكون بربهم تنبيهاً على أنه خلق هذه الأشياء أسباباً لتكونهم وتعيشهم، فمن حقه أن يحمد عليها ولا يكفر، أو على قوله خلق على معنى أنه سبحانه وتعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. ومعنى ثم: استبعاد عدولهم بعد هذا البيان، والباء على الأول متعلقة بكفروا وصلة يعدلون محذوفة أي يعدلون عنه ليقع الإِنكار على نفس الفعل، وعلى الثاني متعلقة ب يَعْدِلُونَ والمعنى أن الكفار يعدلون بربهم الأوثان أي يسوونها به سبحانه وتعالى.
[سورة الأنعام (6) : آية 2]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي ابتدأ خلقكم منه، فإنه المادة الأولى وأن آدم الذي هو أصل البشر خلق منه، أو خلق أباكم فحذف المضاف. ثُمَّ قَضى أَجَلًا أجل الموت. وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل القيامة. وقيل الأول ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث، فإن الأجل كما يطلق لآخر المدة يطلق لجملتها. وقيل الأول النوم والثاني الموت. وقيل الأول لمن مضى والثاني لمن بقي ولمن يأتي، وأجل نكرة خصصت بالصفة ولذلك استغني عن تقديم الخبر والاستئناف به لتعظيمه ولذلك نكر ووصف بأنه مسمى أي مثبت معين لا يقبل التغير، وأخبر عنه بأنه عند الله لا مدخل لغيره فيه يعلم ولا قدرة ولأنه المقصود بيانه.
ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت أنه خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم، فإن من(2/153)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
قدر على خلق المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانياً، فالآية الأولى دليل التوحيد والثانية دليل البعث، والامتراء الشك وأصله المري وهو استخراج اللبن من الضرع.
[سورة الأنعام (6) : آية 3]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)
وَهُوَ اللَّهُ الضمير لله سبحانه وتعالى واللَّهُ خبره. فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ متعلق باسم اللَّهُ والمعنى هو المستحق للعبادة فيهما لا غير، كقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أو بقوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ والجملة خبر ثان، أو هي الخبر واللَّهُ بدل، ويكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما كقولك رميت الصيد في الحرم إذا كنت خارجه والصيد فيه أو ظرف مستقر وقع خبراً، بمعنى أنه سبحانه وتعالى لكمال علمه بما فيهما كأنه فيهما، ويعلم سركم وجهركم بيان وتقرير له وليس متعلقاً بالمصدر لأن صفته لا تتقدم عليه. وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ من خير أو شر فيثيب عليه ويعاقب، ولعله أريد بالسر والجهر ما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 5]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مِنْ الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للتبعيض، أي: ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن. إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ تاركين للنظر فيه غير ملتفتين إليه.
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ يعني القرآن وهو كاللازم مما قبله كأنه قيل: إنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا به لما جاءهم، أو كالدليل عليه على معنى أنهم لما أعرضوا عن القرآن وكذبوا به وهو أعظم الآيات فكيف لا يعرضون عن غيره، ولذلك رتب عليه بالفاء. فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي سيظهر لهم ما كانوا به يستهزئون عند نزول العذاب بهم فِى الدنيا والآخرة، أَوْ عند ظهور الإِسلام وارتفاع أمره.
[سورة الأنعام (6) : آية 6]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي من أهل زمان، والقرن مدة أغلب أعمار الناس وهي سبعون سنة. وقيل ثمانون. وقيل القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم. قلت المدة أو كثرت واشتقاقه من قرنت. مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ جعلنا لهم فيها مكاناً وقررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والآلات ما تمكنوا بها من أنواع التصرف فيها. مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ما لم نجعل لكم من السعة وطول المقام يا أهل مكة ما لم نعطكم من القوة والسعة في المال والاستظهار في العدد والأسباب. وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ أي المطر أو السحاب، أو المظلة فطن مبدأ المطر منها. مِدْراراً أي مغزاراً. وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار. فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي لم يغن ذلك عنهم شيئاً.
وَأَنْشَأْنا وأحدثنا. مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ بدلاً منهم، والمعنى أنه سبحانه وتعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد وثمود وينشئ مكانهم يعمر بهم بلاده يقدر أن يفعل ذلك بكم.(2/154)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 8]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8)
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ مكتوباً في ورق. فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فمسوه، وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا، ولأنه يتقدمه الإِبصار حيث لا مانع، وتقييده بالأيدي لدفع التجوز فإنه قد يتجوز به للفحص كقوله: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ تعنتاً وعناداً.
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ هلا أنزل معه ملك يكلمنا أنه نبي كقوله: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ جواب لقولهم وبيان هو المانع مما اقترحوه والخلل فيه، والمعنى أن الملك لو أنزل بحيث عاينوه كما اقترحوا لحق إهلاكهم فإن سنة الله قد جرت بذلك فيمن قبلهم. ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ بعد نزوله طرفة عين.
[سورة الأنعام (6) : آية 9]
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ (9)
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب، وإن جعل للرسول فهو جواب اقتراح ثان، فإنهم تارة يقولون لولا أنزل عليه ملك، وتارة يقولون لَوْ شَاء رَبُّنَا لأَنزَلَ ملائكة. والمعنى ولو جعلنا قريناً لك ملكاً يعاينونه أو الرسول ملكاً لمثلناه رجلاً كما مثل جبريل في صورة دحية الكلبي، فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته، وإنما رآهم كذلك الأفراد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوتهم القدسية، وللبسنا جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلاً للبسنا أي: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فيقولون مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مثلكم. وقرئ «لبسنا» بلام واحدة و «للبّسنا» بالتشديد للمبالغة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يرى من قومه. فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فأحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله، أو فنزل بهم وبال استهزائهم.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ كيف أهلكهم الله بعذاب الاستئصال كي تعتبروا، والفرق بينه وبين قوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا أن السير ثمة لأجل النظر ولا كذلك ها هنا، ولذلك قيل معناه إباحة السير للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13]
قُلْ لِمَنْ مَّا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قُلْ لِمَنْ مَّا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقاً وملكاً، وهو سؤال تبكيت. قُلْ لِلَّهِ تقريراً لهم وتنبيهاً على أنه المتعين للجواب بالإِنفاق، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره. كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ التزمها تفضلاً وإحساناً والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده بنصب الأدلة، وإنزال الكتب والإِمهال على الكفر. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ استئناف وقسم للوعيد على إشراكهم وإغفالهم(2/155)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
النظر أي: ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة، فيجازيكم على شرككم. أو في يوم القيامة وإلى بمعنى في. وقيل بدل من الرحمة بدل البعض فإنه من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم. لاَ رَيْبَ فِيهِ في اليوم أو الجمع. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع رأس مالهم. وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم، وموضع الذين نصب على الذم أو رفع على الخبر أي: وأنتم الذين أو على الابتداء والخبر. فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم، فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الاصرار على الكفر والامتناع من الإِيمان وَلَهُ عطف على لله. مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من السكنى وتعديته بفي كما في قوله تعالى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ والمعنى ما اشتملا عليه، أو من السكون أي ما سكن فيهما وتحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر. وَهُوَ السَّمِيعُ لكل مسموع. الْعَلِيمُ بكل معلوم فلا يخفى عليه شيء، ويجوز أن يكون وعيداً للمشركين على أقوالهم وأفعالهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 14]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا إنكار لاتخاذ غير الله ولياً لا لاتخاذ الولي. فلذلك قدم وأولى الهمزة والمراد بالولي المعبود لأنه رد لمن دعاه إلى الشرك. فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعهما، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما، أنا فطرتها أي ابتدأتها. وجره على الصفة لله فإنه بمعنى الماضي ولذلك قرئ «فطر» وقرئ بالرفع والنصب على المدح.
وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ يَرزق ولا يُرزق، وتخصيص الطعام لشدة الحاجة إليه. وقرئ «ولا يطعم» بفتح الياء وبعكس الأول على أن الضمير لغير الله، والمعنى كيف أشرك بمن هو فاطر السموات والأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانية، وببنائهما لفاعل على أن الثاني من أطعم بمعنى استطعم، أو على معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله: يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ. قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سابق أمته في الدين. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وقيل لي ولا تكونَنَّ، ويجوز عطفه على قل.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 15 الى 16]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مبالغة أخرى في قطع أطماعهم، وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب، والشرط معترض بين الفعل والمفعول به وجوابه محذوف دل عليه الجملة.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي يصرف العذاب عنه. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم يُصْرَفْ عَلَى أن الضمير فيه لله سبحانه وتعالى. وقد قرئ بإظهاره والمفعول به محذوف، أو يومئذ بحذف المضاف. فَقَدْ رَحِمَهُ نجاه وأنعم عليه. وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي الصرف أو الرحمة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 18]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ببلية كمرض وفقر. فَلا كاشِفَ لَهُ فلا قادر على كشفه. إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ بنعمة كصحة وغنى. فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فكان قادراً على حفظه وإدامته فلا يقدر غيره على دفعه كقوله تعالى: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ.(2/156)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ تصوير لقهره وعلوه بالغلبة والقدرة. وَهُوَ الْحَكِيمُ في أمره وتدبيره.
الْخَبِيرُ بالعباد وخفايا أحوالهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 19]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً نزلت حين قالت قريش: يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله. والشيء يقع على كل موجود، وقد سبق القول فيه في سورة «البقرة» . قُلِ اللَّهُ أي الله أكبر شهادة ثم ابتدأ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي هو شهيد بيني وبينكم، ويجوز أن يكون الله شهيد هو الجواب لأنه سبحانه وتعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شيء شهادة. وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ أي بالقرآن، واكتفى بذكر الإِنذار عن ذكر البشارة. وَمَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المخاطبين، أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر، أو من الثقلين، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن بلغه إلى يوم القيامة، وفيه دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه. أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى تقرير لهم مع إنكار واستبعاد. قُلْ لاَّ أَشْهَدُ بما تشهدون. قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي بل أشهد أن لا إله إلا هو. وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ يعني الأصنام.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 21]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحليته المذكورة في التوراة والإِنجيل. كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بحلاهم. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين. فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ لتضييعهم ما به يكتسب الإِيمان.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كقولهم: الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كأن كذبوا بالقرآن والمعجزات وسموها سحراً. وإنما ذكر (أو) وهم وقد جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أن كلاً منهما وحده بالغ غاية الإِفراط في الظلم على النفس. إِنَّهُ الضمير للشأن. لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فضلاً عمن لا أحد أظلم منه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 23]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً منصوب بمضمر تهويلاً للأمر. ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله، وقرأ يعقوب «يحشرهم» ويقول بالياء. الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ، ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها، ويحتمل أن يشاهدوهم ولكن لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم.
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا أي كفرهم، والمراد عاقبته وقيل معذرتهم التي يتوهمون أن يتخلصوا بها، من فتنت الذهب إذا خلصته. وقيل جوابهم وإنما سماه فتنة لأنه كذب، أو لأنهم قصدوا به الخلاص.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم لَمْ تكن بالتاء وفِتْنَتُهُمْ بالرفع على أنها الاسم، ونافع وأبو(2/157)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
عمرو وأبو بكر عنه بالتاء والنصب على أن الاسم أَنْ قالُوا، والتأنيث للخبر كقولهم من كانت أمك والباقون بالياء والنصب. وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ يكذبون ويحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفعهم من فرط الحيرة والدهشة، كما يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها. وقد أيقنوا بالخلود. وقيل معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا وهو لا يوافق قوله.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 24 الى 25]
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي بنفي الشرك عنها، وحمله على كذبهم في الدنيا تعسف يخل بالنظم ونظير ذلك قوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وقرأ حمزة والكسائي ربنا بالنصب على النداء أو المدح. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الشركاء.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تتلو القرآن، والمراد أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم، اجتمعوا فسمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ القرآن فقالوا للنضر ما يقول، فقال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية، فقال أبو سفيان إني لأرى حقاً فقال أبو جهل كلا. وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية جمع كنان وهو ما يستر الشيء. أَنْ يَفْقَهُوهُ كراهة أن يفقهوه. وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً يمنع من استماعه، وقد مر تحقيق ذلك في أول «البقرة» .
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِها لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم. حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ أي بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم جاءوك يجادلونك، وحتى هي التي تقع بعدها الجمل لا عمل لها، والجملة إذا وجوابه وهو يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فإن جعل أصدق الحديث خرافات الأولين غاية التكذيب، ويجادلونك حال لمجيئهم، ويجوز أن تكون الجارة وإذا جاءوك في موضع الجر ويجادلونك حال ويقول تفسير له، والأساطير الأباطيل جمع أسطورة أو اسطارة أو أسطار جمع سطر، وأصله السطر بمعنى الخط.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 26 الى 27]
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي ينهون الناس عن القرآن، أو الرسول صلّى الله عليه وسلّم والإِيمان به. وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ بأنفسهم أو ينهون عن التعرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينأون عنه فلا يؤمنون به كأبي طالب. وَإِنْ يُهْلِكُونَ وما يهلكون بذلك. إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ أن ضرره لا يتعداهم إلى غيرهم.
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ جوابه محذوف أي: لو تراهم حين يوقعون على النار حتى يعاينوها، أو يطلعون عليها، أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت أمرا شنيعا. وقرئ «وُقِفُواْ» على البناء للفاعل من وقف عليها وقوفاً. فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ تمنياً للرجوع إلى الدنيا. وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ استئناف كلام منهم على وجه الإِثبات كقولهم: دعني ولا أعود، أي وأنا لا أعود تركتني، أو لم تتركني أو عطف على نرد أو حال من الضمير فيه فيكون في حكم التمني، وقوله: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ راجع إلى ما تضمنه التمني من الوعد، ونصبهما حمزة ويعقوب وحفص على الجواب بإضمار أن بعد الواو إجراء لها مجرى الفاء. وقرأ ابن عامر برفع الأول على العطف ونصب الثاني على الجواب.(2/158)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 28 الى 29]
بَلْ بَدا لَهُمْ مَّا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
بَلْ بَدا لَهُمْ مَّا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ الإِضراب عن إرادة الإِيمان المفهومة من التمني، والمعنى أنه ظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم، أو قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجراً لا عزماً على أنهم لو ردوا لآمنوا.
وَلَوْ رُدُّوا أي إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور. لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر والمعاصي. وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوا به من أنفسهم.
وَقالُوا عطف على لعادوا، أو على إنهم لكاذبون أو على نهوا، أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا.
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا الضمير للحياة وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 30 الى 31]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (31)
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ مجاز عن الحبس للسؤال والتوبيخ، وقيل معناه وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، أو عرفوه حق التعريف. قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ كأنه جواب قائل قال: ماذا قال ربهم حينئذ؟
والهمزة للتقريع على التكذيب، والإِشارة إلى البعث وما يتبعه من الثواب والعقاب. قالُوا بَلى وَرَبِّنا إقرار مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الجلاء. قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم أو ببدله.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ إذ فاتهم النعيم واستوجبوا العذاب المقيم ولقاء الله البعث وما يتبعه.
حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ غاية لكذبوا لا لخسر، لأن خسرانهم لا غاية له. بَغْتَةً فجأة ونصبها على الحال، أو المصدر فإنها نوع من المجيء. قالُوا يَا حَسْرَتَنا أي تعالي فهذا أوانك. عَلى مَا فَرَّطْنا قصرنا فِيها في الحياة الدنيا أضمرت وإن لم يجر ذكرها للعلم بها، أو في الساعة يعني في شأنها والإِيمان بها.
وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تمثيل لاستحقاقهم آصار الآثام. أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ بئس شيئا يزرونه وزرهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 32]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي وما أعمالها إلا لعب ولهو يلهي الناس ويشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية. وهو جواب لقولهم إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا. وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ لدوامها وخلوص منافعها ولذاتها، وقوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو. وقرأ ابن عامر «ولدار الآخرة» . أَفَلا يَعْقِلُونَ أي الأمرين خير. وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ويعقوب بالتاء على خطاب المخاطبين به، أو تغليب الحاضرين على الغائبين.
[سورة الأنعام (6) : آية 33]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ معنى قد زيادة الفعل وكثرته كما في قوله:
وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ والهاء في أنه للشأن. وقرئ «لَيَحْزُنُكَ» من أحزن. فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ في الحقيقة. وقرأ نافع(2/159)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
والكسائي لاَ يُكَذِّبُونَكَ من أكذبه إذا وجده كاذباً، أو نسبه إلى الكذب. وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها، فوضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا بجحودهم، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم، والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب.
روي أن أبا جهل كان يقول: ما نكذبك وإنك عندنا لصادق وإنما نكذب ما جئتنا به. فنزلت.
[سورة الأنعام (6) : آية 34]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيه دليل على أن قوله: لاَ يُكَذِّبُونَكَ، ليس لنفي تكذيبه مطلقاً. فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا على تكذيبهم وإيذائهم فتأس بهم واصبر. حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا فيه إيماء بوعد النصر للصابرين. وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لمواعيده من قوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ الآيات. وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي بعض قصصهم وما كابدوا من قومهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 35]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ عظم وشق إِعْراضُهُمْ عنك وعن الإِيمان بما جئت به. فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ منفذاً تنفذ فيه إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية، أو مصعداً تصعد به إلى السماء فتنزل منها آية، وفي الأرض صفة لنفقاً وفي السماء صفة لسلما، ويجوز أن يكونا متعلقين بتبتغي، أو حالين من المستكن وجواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل، والجملة جواب الأول والمقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أي ولو شاء الله جمعهم عَلَى الهدى لوفقهم للإِيمان حتى يؤمنوا ولكن لم تتعلق به مشيئته، فلا تتهالك عليه والمعتزلة أولوه بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بالحرص على ما لا يكون، والجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (37)
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ إنما يجيب الذين يسمعون بفهم وتأمل لقوله: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وهؤلاء كالموتى الذين لا يسمعون. وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فيعلمهم حين لا ينفعهم الإِيمان. ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء.
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي آية بما اقترحوه، أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة لعدم اعتدادهم بها عناداً. قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مما اقترحوه، أو آية تضطرهم إلى الإِيمان كنتق الجبل، أو آية إن جحدوها هلكوا. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أن الله قادر على إنزالها، وأن إنزالها يستجلب عليهم البلاء، وأن لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره. وقرأ ابن كثير يُنَزِّلَ بالتخفيف والمعنى واحد.
[سورة الأنعام (6) : آية 38]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)(2/160)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ تدب على وجهها. وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ في الهواء، وصفه به قطعاً لمجاز السرعة ونحوها. وقرئ «ولا طائر» بالرفع على المحل. إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ
محفوظة أحوالها مقدرة أرزاقها وآجالها، والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره، ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية. وجمع الأمم للحمل على المعنى. مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ يعني اللوح المحفوظ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل والدقيق لم يهمل فيه أمر حيوان ولا جماد. أو القرآن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً أو مجملاً، ومن مزيدة وشيء في موضع المصدر لا المفعول به، فإن فرط لا يتعدى بنفسه وقد عدي بفي إلى الكتاب. وقرئ «مَّا فَرَّطْنَا» بالتخفيف. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعني الأمم كلها فينصف بعضها من بعض كما
روي: أنه يأخذ للجماء من القرناء.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حشرها موتها.
[سورة الأنعام (6) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظم قدرته سماعاً تتأثر به نفوسهم. وَبُكْمٌ لا ينطقون بالحق. فِي الظُّلُماتِ خبر ثالث أي خابطون في ظلمات الكفر، أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد، ويجوز أن يكون حالاً من المستكن في الخبر. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ من يشأ الله إضلاله يضلله، وهو دليل واضح لنا على المعتزلة. وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 41]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ استفهام تعجيب، والكاف حرف خطاب أكد به الضمير للتأكيد لا محل له من الإِعراب لأنك تقول: أرأيتك زيداً ما شأنه فلو جعلت الكاف مفعولاً كما قاله الكوفيون لعديت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل، وللزم في الآية أن يقال: أرأيتموكم بل الفعل معلق أو المفعول محذوف تقديره: أرأيتكم آلهتكم تنفعكم. إذ تدعونها. وقرأ نافع أرأيتكم وأ رأيت وأرأيتم وأ فرأيتم وأ فرأيت وشبهها إذا كان قبل الراء همزة بتسهيل الهمزة التي بعد الراء، والكسائي يحذفها أصلاً والباقون يحققونها وحمزة إذا وقف وافق نافعاً. إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ كما أتى من قبلكم. أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ وهو لها ويدل عليه. أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وهو تبكيت لهم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن الأصنام آلهة وجوابه محذوف أي فادعوه.
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ بل تخصونه بالدعاء كما حكي عنهم في مواضع، وتقديم المفعول لإِفادة التخصيص.
فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي ما تدعونه إلى كشفه. إِنْ شاءَ أي يتفضل عليكم ولا يشاء في الآخرة.
وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت لما ركز في العقول على أنه القادر على كشف الضر دون غيره، أو وتنسونه من شدة الأمر وهوله.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 43]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (43)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ أي قَبْلَكَ، وَمن زائدة. فَأَخَذْناهُمْ أي فكفروا وكذبوا المرسلين(2/161)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
فأخذناهم. بِالْبَأْساءِ بالشدة والفقر. وَالضَّرَّاءِ والضر والآفات وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما. لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يتذللون لنا ويتوبون عن ذنوبهم.
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه نفي تضرعهم في ذلك الوقت مع قيام ما يدعوهم أي لم يتضرعوا. وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ استدراك على المعنى وبيان للصارف لهم عن التضرع وأنه: لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 44 الى 45]
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ من البأساء والضراء ولم يتعظوا به. فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من أنواع النعم مراوحة عليهم بين نوبتي الضراء والسراء، وامتحاناً لهم بالشدة والرخاء إلزاماً للحجة وإزاحة للعلة، أو مكراً بهم لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «مكر بالقوم ورب الكعبة»
. وقرأ ابن عامر «فَتَحْنَا» بالتشديد في جميع القرآن ووافقه يعقوب فيما عدا هذا والذي في «الأعراف» . حَتَّى إِذا فَرِحُوا أعجبوا بِما أُوتُوا من النعم ولم يزيدوا غير البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه سبحانه وتعالى. أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ متحسرون آيسون.
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي آخرهم بحيث لم يبق منهم أحد من دبره دبراً ودبوراً إذا تبعه.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم فإن هلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 47]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ أصمكم وأعماكم. وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي بذلك، أو بما أخذ وختم عليه أو بأحد هذه المذكورات. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من جهة الترغيب والترهيب، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين. ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ يعرضون عنها، وثم لاستبعاد الإِعراض بعد تصريف الآيات وظهورها.
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً من غير مقدمة. أَوْ جَهْرَةً بتقدمة أمارة تؤذن بحلوله. وقيل ليلاً أو نهارا. وقرئ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً. هَلْ يُهْلَكُ أي ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب. إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ولذلك صح الاستثناء المفرغ منه، وقرئ «يهلك» بفتح الياء.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 48 الى 49]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ المؤمنين بالجنة. وَمُنْذِرِينَ الكافرين بالنار، ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم. فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات الثواب.(2/162)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ جعل العذاب ماساً لهم كأنه الطالب للوصول إليهم، واستغنى بتعريفه عن التوصيف. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 51]
قُلْ لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
قُلْ لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ مقدوراته أو خزائن رزقه. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ما لم يوح إلي ولم ينصب عليه دليل وهو من جملة المقول. وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ أي من جنس الملائكة، أو أقدر على ما يقدرون عليه. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ تبرأ عن دعوى الألوهية والملكية، وادعى النبوة التي هي من كمالات البشر رداً لاستبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدعاه. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ مثل للضال والمهتدي، أو الجاهل والعالم، أو مدعي المستحيل كالألوهية والملكية ومدعي المستقيم كالنبوة.
أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فتهتدوا أو فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل، أو فتعلموا أن اتباع الوحي مما لا محيص عنه.
وَأَنْذِرْ بِهِ الضمير لما يوحى إلي. الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ هم المؤمنون المفرطون في العمل، أو المجوزون للحشر مؤمناً كان أو كافراً مقراً به أو متردداً فيه، فإن الإنذار ينجع فيهم دون الفارغين الجازمين باستحالته. لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ في موضع الحال من يحشروا فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يتقوا.
[سورة الأنعام (6) : آية 52]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ بعد ما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين وتقريبهم وأن لا يطردهم ترضية لقريش.
روي أنهم قالوا: لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين كعمار وصهيب وخباب وسلمان. جلسنا إليك وحادثناك فقال: «ما أنا بطارد المؤمنين» ، قالوا: فأقمهم عنا إذا جئناك قال «نعم» .
وروي أن عمر رضي الله عنه قال له: لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون فدعا بالصحيفة وبعلي رضي الله تعالى عنه ليكتب فنزلت.
والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام، وقيل صلاتا الصبح والعصر.
وقرأ ابن عامر بالغدوة هنا وفي الكهف. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حال من يدعون، أي يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإِخلاص تنبيهاً على أنه ملاك الأمر. ورتب النهي عليه إشعاراً بأنه يقتضي إكرامهم وينافي إبعادهم. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي ليس عليك حساب إيمانهم فلعل إيمانهم عند الله أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعاً في إيمانهم لو آمنوا، أو ليس عليك اعتبار بواطنهم وإخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي كما ذكره المشركون وطعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعداهم إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم. وقيل ما عليك من حساب رزقهم أي من فقرهم. وقيل الضمير للمشركين والمعنى: لا تؤاخذ بحسابهم ولا هم بحسابك حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعاً فيه. فَتَطْرُدَهُمْ فتبعدهم وهو جواب النفي فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جواب النهي ويجوز عطفه على فتطردهم على وجه التسبب وفيه نظر.
[سورة الأنعام (6) : آية 53]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)(2/163)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ومثل ذلك الفتن، وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا. فَتَنَّا أي ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإِيمان. لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أي أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعدهم دوننا، ونحن الأكابر والرؤساء وهم المساكين والضعفاء. وهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم: لَوْ كانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونا إِلَيْهِ. واللام للعاقبة أو للتعليل على أن فتنا متضمن معنى خذلنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ بمن يقع منه الإِيمان والشكر فيوفقه وبمن لا يقع منه فيخذله.
[سورة الأنعام (6) : آية 54]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الذين يؤمنون هم الذين يدعون ربهم وصفهم بالإِيمان بالقرآن واتباع الحجج بعد ما وصفهم بالمواظبة على العبادة، وأمره بأن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله بعد النهي عن طردهم، إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرب ولا يطرد، ويعز ولا يذل، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة.
وقيل إن قوماً جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فلم يرد عليهم شيئاً فانصرفوا فنزلت.
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً استئناف بتفسير الرحمة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالفتح على البدل منها. بِجَهالَةٍ في موضع الحال أي من عمل ذنباً جاهلاً بحقيقة ما يتبعه من المضار والمفاسد، كعمر فيما أشار إليه، أو ملتبساً بفعل الجهالة فإن ارتكاب ما يؤدي إلى الضرر من أفعال أهل السفه والجهل. ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ بعد العمل أو السوء. وَأَصْلَحَ بالتدارك والعزم على أن لا يعود إليه. فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فتحه من فتح الأول غير نافع على إضمار مبتدأ أو خبر أي فأمره أو فله غفرانه.
[سورة الأنعام (6) : آية 55]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
وَكَذلِكَ ومثل ذلك التفصيل الواضح. نُفَصِّلُ الْآياتِ أي آيات القرآن في صفة المطيعين والمجرمين المصرين منهم والأوابين. وليستبين سَبِيلُ المجرمين قرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على معنى ولتستوضح يا محمد سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يحق له فصلنا هذا التفصيل، وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم برفعه على معنى ولنبين سبيلهم، والباقون بالياء والرفع على تذكير السبيل فإنه يذكر ويؤنث، ويجوز أن يعطف على علة مقدرة أي نفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين.
[سورة الأنعام (6) : آية 56]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ صرفت وزجرت بما نصب لي من الأدلة وأنزل علي من الآيات في أمر التوحيد. أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عن عبادة ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله، أو ما تدعونها آلهة أي تسمونها. قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ تأكيد لقطع أطماعهم وإشارة إلى الموجب للنهي وعلة الامتناع عن متابعتهم واستجهال لهم، وبيان لمبدأ ضلالهم وأن ما هم عليه هوى وليس بهدى، وتنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد. قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت. وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم، وفيه تعريض بأنهم كذلك.(2/164)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 57 الى 58]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ تنبيه على ما يجب اتباعه بعد ما بين ما لا يجوز اتباعه. والبينة الدلالة الواضحة التي تفصل الحق من الباطل وقيل المراد بها القرآن والوحي، أو الحجج العقلية أو ما يعمها. مِنْ رَبِّي من معرفته وأنه لا معبود سواه، ويجوز أن يكون صفة لبينة. وَكَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير لربي أي كذبتم به حيث أشركتم به غيره، أو للبينة باعتبار المعنى. مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني العذاب الذي استعجلوه بقولهم:
فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ في تعجيل العذاب وتأخيره.
يَقْضِي بِالْحَقِّ أي القضاء الحق، أو يصنع الحق ويدبره من قولهم قضى الدرع إذا صنعها، فيما يقضي من تعجيل وتأخير وأصل القضاء الفصل بتمام الأمر، وأصل الحكم المنع فكأنه منع الباطل. وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم يَقُصُّ من قص الأثر، أو من قص الخبر. وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ القاضين.
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي في قدرتي ومكنتي. مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب. لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي، وانقطع ما بيني وبينكم. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ في معنى الاستدراك كأنه قال: ولكن الأمر إلى الله سبحانه وتعالى وهو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن ينبغي أن يمهل منهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 59]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ خزائنه جمع مفتح بفتح الميم، وهو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتح الذي هو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح، ويؤيده أنه قرئ «مفاتيح» والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات المحيط علمه بها. لاَ يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته، وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها. وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عطف للأخبار عن تعلق علمه تعالى بالمشاهدات على الإِخبار عن اختصاص العلم بالمغيبات به. وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات. وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ معطوفات على ورقة وقوله: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين علم الله سبحانه وتعالى، أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح وقرئت بالرفع للعطف على محل ورقة أو رفعاً على الابتداء والخبر إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
[سورة الأنعام (6) : آية 60]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ينيمكم فيه ويراقبكم، استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهم من المشاركة في زوال الإِحساس والتمييز فإن أصله قبض الشيء بتمامه. وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ كسبتم فيه خص الليل بالنوم والنهار بالكسب جرياً على المعتاد. ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ يوقظكم أطلق البعث ترشيحاً للتوفي فِيهِ في النهار. لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ بالموت. ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمجازاة عليه. وقيل الآية خطاب للكفرة، والمعنى أنكم ملقون كالجيف بالليل وكاسبون للآثام بالنهار، وأنه سبحانه وتعالى مطلع على أعمالكم يبعثكم من القبور في شأن(2/165)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار، ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم، ثم إليه مرجعكم بالحساب، ثم ينبئكم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ بالجزاء.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 61 الى 62]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ملائكة تحفظ أعملكم، وهم الكرام الكاتبون، والحكمة فيه أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان أزجر عن المعاصي، وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه. حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ملك الموت وأعوانه. وقرأ حمزة «توفاه» بالألف ممالة. وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ بالتواني والتأخير. وقرئ بالتخفيف، والمعنى: لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو نقصان.
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى حكمه وجزائه. مَوْلاهُمُ الذي يتولى أمرهم. الْحَقِّ العدل الذي لا يحكم إلا بالحق وقرئ بالنصب على المدح. أَلا لَهُ الْحُكْمُ يومئذ لا حكم لغيره فيه. وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة لا يشغله حساب عن حساب.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ من شدائدهما، استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهما في الهول وإبطال الإِبصار فقيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب، أو من الخسف في البر والغرق في البحر.
وقرأ يعقوب يُنَجِّيكُمْ بالتخفيف والمعنى واحد. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً معلنين ومسرين، أو إعلاناً وإسراراً وقرأ أبو بكر هنا وفي «الأعراف» وَخُفْيَةً بالكسر وقرئ «خِيفَةً» . لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ على إرادة القول أي تقولون لئن أنجيتنا. وقرأ الكوفيون «لئن أنجانا» ليوافق قوله تَدْعُونَهُ وهذه إشارة إلى الظلمة.
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها شدده الكوفيون وهشام وخففه الباقون. وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ غم سواها. ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ تعودون إلى الشرك ولا توفون بالعهد، وإنما وضع تشركون موضع لا تشكرون تنبيهاً على أن من أشرك في عبادة الله سبحانه وتعالى فكأنه لم يعبده رأساً.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 66]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل. أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون، وخسف بقارون. وقيل من فوقكم أكابركم وحكامكم ومن تحت أرجلكم سفلتكم وعبيدكم. أَوْ يَلْبِسَكُمْ يخلطكم. شِيَعاً فرقا متحزبين على أهواء شتى، فينشب القتال بينكم قال:
وَكَتِيبَهٌ لَبسْتُهَا بِكَتِيبَة ... حَتَّى إِذَا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدَي
وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ يقاتل بعضكم بعضاً. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ بالوعد والوعيد.
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.(2/166)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ أي بالعذاب أو بالقرآن. وَهُوَ الْحَقُّ الواقع لا محالة أو الصدق. قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ وكل إلي أمركم فأمنعكم من التكذيب، أو أجازيكم إنما أنا منذر والله الحفيظ.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 67 الى 68]
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
لِكُلِّ نَبَإٍ خبر يريد به إما بالعذاب أو الإِيعاد به. مُسْتَقَرٌّ وقت استقرار ووقوع. وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عند وقوعه في الدنيا والآخرة.
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فلا تجالسهم وقم عنهم. حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أعاد الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بأن يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي. وقرأ ابن عامر يُنْسِيَنَّكَ بالتشديد. فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى بعد أن تذكره. مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم، فوضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام.
[سورة الأنعام (6) : آية 69]
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ وما يلزم المتقين من قبائح أعمالهم وأقوالهم الذين يجالسونهم. مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ شيء مما يحاسبون عليه. وَلكِنْ ذِكْرى ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى ويمنعوهم عن الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها وهو يحتمل النصب على المصدر والرفع على ولكن عليهم ذكرى، ولا يجوز عطفه على محل من شيء لأن من حسابهم يأباه ولا على شيء لذلك ولأن من لا تزاد في الإِثبات.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يجتنبون ذلك حياء أو كراهة لمساءتهم، ويحتمل أن يكون الضمير للذين يتقون والمعنى:
لعلهم يثبتون على تقواهم ولا تنثلم بمجالستهم.
روي: أن المسلمين قالوا لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، ونطوف، فنزلت.
[سورة الأنعام (6) : آية 70]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أي بنوا أمر دينهم على التشهي وتدينوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلاً وآجلاً، كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب، أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه لعباً ولهواً حيث سخروا به، أو جعلوا عيدهم الذي جعل ميقات عبادتهم زمان لهو ولعب. والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم، ويجوز أن يكون تهديداً لهم كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ومن جعله منسوخاً بآية السيف حمله على الأمر بالكف عنها وترك التعرض لهم وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا حتى أنكروا البعث.
وَذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن. أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ مخافة أن تسلم إلى الهلاك وترهن بسوء عملها. وأصل الأبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه، والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وهذا بسل عليك أي حرام. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ يدفع عنها العذاب. وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأنها تعادل المفدي وها هنا الفداء وكل نصب على المصدرية. لاَّ يُؤْخَذْ مِنْها الفعل مسند إلى منها لا إلى ضميره بخلاف قوله: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فإنه المفدى به. أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما(2/167)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
كَسَبُوا
أي سلموا إلى العذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة. لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ تأكيد وتفصيل لذلك، والمعنى هم بين ماء مغلي يتجرجر في بطونهم ونار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 71]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)
قُلْ أَنَدْعُوا أنعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا ما لا يقدر على نفعنا وضرنا. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا ونرجع إلى الشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ فأنقذنا منه ورزقنا الإِسلام. كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة، استفعال من هوى يهوي هويًا إذا ذهب. وقرأ حمزة «استهواه» بألف ممالة ومحل الكاف النصب على الحال من فاعل نُرَدُّ أي: مشبهين الذي استهوته، أو على المصدر أي رداً مثل رد الذي استهوته. فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ متحيراً ضالاً عن الطريق. لَهُ أَصْحابٌ لهذا المستهوى رفقة.
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى إلى أن يهدوه الطريق المستقيم، أو إلى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر. ائْتِنا يقولون له ائتنا. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هو الإسلام. هُوَ الْهُدى وحده وما عداه ضلال. وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ من جملة المقول عطف على أن هدى الله، واللام لتعليل الأمر أي أمرنا بذلك لنسلم. وقيل هي بمعنى الباء وقيل هي زائدة.
[سورة الأنعام (6) : آية 72]
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ عطف على لنسلم أي للإسلام ولإقامة الصلاة، أو على موقعه كأنه قيل:
وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا الصلاة. روي: أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان، فنزلت.
وعلى هذا كان أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بهذا القول إجابة عن الصديق رضي الله تعالى عنه تعظيماً لشأنه وإظهاراً للاتحاد الذي كان بينهما. وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يوم القيامة.
[سورة الأنعام (6) : آية 73]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ قائماً بالحق والحكمة. وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ جملة اسمية قدم فيها الخبر أي قوله الحق يوم يقول، كقولك: القتال يوم الجمعة، والمعنى أنه الخالق للسموات والأرضين، وقوله الحق نافذ في الكائنات. وقيل يوم منصوب بالعطف على السموات أو الهاء في واتقوه، أو بمحذوف دل عليه بالحق. وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون، والمراد به حين يكون الأشياء ويحدثها أو حين تقوم القيامة فيكون التكوين حشر الأموات وإحياءها. وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ كقوله سبحانه وتعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي هو عالم الغيب. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ كالفذلكة للآية.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 75]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)(2/168)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ هو عطف بيان لأبيه، وفي كتب التواريخ أن اسمه تارح فقيل هما علمان له كإسرائيل ويعقوب، وقيل العلم تارح وآزر وصف معناه الشيخ أو المعوج، ولعل منع صرفه لأنه أعجمي حمل على موازنه أو نعت مشتق من الآزر أو الوزر، والأقرب أنه علم أعجمي على فاعل كعابر وشالخ، وقيل اسم صنم يعبده فلقب به للزوم عبادته، أو أطلق عليه بحذف المضاف. وقيل المراد به الصنم ونصبه بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أتعبد آزر ثم قال: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً تفسيراً وتقريراً. ويدل عليه أنه قرئ «أزراً» ، تتخذ أصناماً بفتح همزة آزر وكسرها وهو اسم صنم. وقرأ يعقوب بالضم على النداء وهو يدل على أنه علم. إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ عن الحق. مُبِينٍ ظاهر الضلالة.
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ومثل هذا التبصير نبصره، وهو حكاية حال ماضية. وقرئ: «ترى» بالتاء ورفع الملكوت ومعناه تبصره دلائل الربوبية. مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ربوبيتها وملكها. وقيل عجائبها وبدائعها والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة. وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي ليستدل وليكون، أو وفعلنا ذلك ليكون.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 76 الى 77]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي تفصيل وبيان لذلك. وقيل عطف على قال إبراهيم وكذلك نري اعتراض فإن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال، وجن عليه الليل ستره بظلامه والكواكب كان الزهرة أو المشتري وقوله: هذا رَبِّي على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإِفساد، أو على وجه النظر والاستدلال، وإنما قاله زمان مراهقته أو أول أوان بلوغه. فَلَمَّا أَفَلَ أي غاب. قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فضلاً عن عبادتهم فإن الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهية.
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً مبتدئاً في الطلوع. قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ استعجز نفسه واستعان بربه في درك الحق، فإنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه إرشاداً لقومه وتنبيهاً لهم على أن القمر أيضاً لتغير حاله لا يصلح للألوهية، وأن من اتخذه إلهاً فهو ضال.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 78 الى 79]
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر وصيانة للرب عن شبهة التأنيث.
هذا أَكْبَرُ كبره استدلالاً أو إظهاراً لشبهة الخصم. فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها ومخصص يخصصها بما تختص به، ثم لما تبرأ منها توجه إلى موجدها ومبدعها الذي دلت هذه الممكنات عليه فقال:
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وإنما احتج بالأفوال دون البزوغ مع أنه أيضاً انتقال لتعدد دلالته، ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 81]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)(2/169)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ وخاصموه في التوحيد. قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ في وحدانيته سبحانه وتعالى. وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام بتخفيف النون. وَقَدْ هَدانِ إلى توحيده. وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ أي لا أخاف معبوداتكم في وقت لأنها لا تضر بنفسها ولا تنفع. إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً أن يصيبني بمكروه من جهتها، ولعله جواب لتخويفهم إياه من آلهتهم وتهديد لهم بعذاب الله. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً كأنه علة الاستثناء، أي أحاط به علماً فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز.
وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ولا يتعلق به ضر. وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وهو حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع بالصانع، وتسوية بين المقدور العاجز بالقادر الضار النافع. مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ما لم ينزل بإشراكه كتاباً، أو لم ينصب عليه دليلاً. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أي الموحدون أو المشركون، وإنما لم يقل أينا أنا أم أنتم احترازاً من تزكية نفسه. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما يحق أن يخاف منه.
[سورة الأنعام (6) : آية 82]
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ استئناف منه أو من الله بالجواب عما استفهم عنه، والمراد بالظلم ها هنا الشرك لما
روي أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا:
أينا لم يظلم نفسه فقال عليه الصلاة والسلام «ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان لابنه
يا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» وليس الإِيمان به أن يصدق بوجود الصانع الحكيم ويخلط بهذا التصديق الإِشراك به.
وقيل المعصية.
[سورة الأنعام (6) : آية 83]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
وَتِلْكَ إشارة إلى ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى قوله: وَهُمْ مُهْتَدُونَ أو من قوله: أَتُحاجُّونِّي إليه. حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها أو علمناه إياها. عَلى قَوْمِهِ متعلق ب حُجَّتُنا إن جعل خبر تلك وبمحذوف إن جعل بدله أي: آتيناها إبراهيم حجة على قومه.
نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ في العلم والحكمة. وقرأ الكوفيون ويعقوب بالتنوين. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في رفعه وخفضه. عَلِيمٌ بحال من يرفعه واستعداده له.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 85]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا أي كلا منهما. وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ من قبل إبراهيم، عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد يتعدى إلى الولد. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ الكلام فيه. وقيل لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأن يونس ولوطاً ليسا من ذرية إبراهيم، فلو كان لإبراهيم اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة عطف على(2/170)
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
نوحا داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ أيوب بن أموص من أسباط عيص بن إسحاق. وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي ونجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثر أولاده والنبوة فيهم.
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى هو ابن مريم وفي ذكره دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت. وَإِلْياسَ قيل هو إدريس جد نوح فيكون البيان مخصوصاً بمن في الآية الأولى. وقيل هو من أسباط هارون أخي موسى. كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح وهو الإِتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 86 الى 87]
وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ هو اليسع بن أخطوب. وقرأ حمزة والكسائي والليسع وعلى القراءتين هو علم أعجمي أدخل عليه اللام كما أدخل على اليزيد في قوله:
رَأَيْتُ الوَلِيْدَ بن اليزيد مُبَارَكا ... شَدِيداً بِأَعْبَاءِ الخِلاَفَةِ كَاهِلُهُ
وَيُونُسَ هو يونس بن متى. وَلُوطاً هو ابن هاران أخي إبراهيم. وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ بالنبوة، وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق.
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ عطف على كُلًّا أو نُوحاً أي فضلنا كلاً منهم، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فإن منهم من لم يكن نبياً ولا مهدياً. وَاجْتَبَيْناهُمْ عطف على فَضَّلْنا أو هَدَيْنا وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تكرير لبيان ما هدوا إليه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 88 الى 89]
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ إشارة إلى ما دانوا به. يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ دليل على أنه متفضل عليهم بالهداية. وَلَوْ أَشْرَكُوا أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع فضلهم وعلو شأنهم. لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَعْمَلُونَ لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها.
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريد به الجنس. وَالْحُكْمَ الحكمة أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق. وَالنُّبُوَّةَ والرسالة. فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بهذه الثلاثة. هؤُلاءِ يعني قريشاً. فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي بمراعاتها. قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون ومتابعوهم. وقيل هم الأنصار أو أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو كل من آمن به أو الفرس. وقيل الملائكة.
[سورة الأنعام (6) : آية 90]
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يريد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المتقدم ذكرهم. فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فاختص طريقهم بالاقتداء والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها، فإنها ليست هدى مضافاً إلى الكل ولا يمكن التأسي بهم جميعاً. فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله، والهاء في اقْتَدِهْ للوقف ومن أثبتها في الدرج ساكنة كابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم أجرى الوصل مجرى الوقف، ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة والكسائي وأشبعها بالكسر ابن(2/171)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
عامر برواية ابن ذكوان على أنها كناية المصدر وكسرها بغير إشباع برواية هشام. قُلْ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ أو القرآن. أَجْراً جعلاً من جهتكم كما لم يسأل من قبلي من النبيين، وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه. إِنْ هُوَ أي التبليغ أو القرآن أو الغرض. إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ إلا تذكيراً وموعظة لهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 91]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وما عرفوه حق معرفته في الرحمة والإِنعام على العباد. إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ حين أنكروا الوحي وبعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وذلك من عظائم رحمته وجلائل نعمته أو في السخط على الكفار وشدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة، والقائلون هم اليهود قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن بدليل نقض كلامهم، وإلزامهم بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ وقراءة الجمهور تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً بالتاء وإنما قرأ بالياء ابن كثير وأبو عمرو حملاً على قالوا وما قدروا، وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة وذمهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرقة وإخفاء بعض لا يشتهونه.
وروي (أن مالك بن الصيف قاله لما أغضبه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين قال: نعم إن الله يبغض الحبر السمين، قال عليه الصلاة والسلام: فأنت الحبر السمين)
وقيل هم المشركون وإلزامهم بإنزال التوراة لأنه كان من المشهورات الذائعة عندهم ولذلك كانوا يقولون لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ وَعُلِّمْتُمْ على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم. مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ زيادة على ما في التوراة وبياناً لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم ونظيره إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وقيل الخطاب لمن آمن من قريش قُلِ اللَّهُ أي أنزله الله، أو الله أنزله. أمره بأن يجيب عنهم إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيهاً على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ في أباطيلهم فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة. يَلْعَبُونَ حال من هم الأول، والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال من مفعوله، أو فاعل يلعبون أو من هم الثاني والظرف متصل بالأول.
[سورة الأنعام (6) : آية 92]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ كثير الفائدة والنفع. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني التوراة أو الكتب التي قبله. وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى عطف على ما دل عليه مبارك أي للبركات ولتنذر أو علة لمحذوف أي ولتنذر أهل أم القرى أنزلناه، وإنما سميت مكة بذلك لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ومجتمعهم وأعظم القرى شأناً.
وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها، أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس. وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء أي ولينذر الكتاب. وَمَنْ حَوْلَها أهل الشرق والغرب. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبي والكتاب، والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعة وتخصيص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإِيمان.
[سورة الأنعام (6) : آية 93]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)(2/172)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعم أنه بعثه نبياً كمسيلمة والأسود العنسي، أو اختلق عليه أحكاماً كعمرو بن لحي ومتابعيه. أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كعبد الله بن سعد بن أبي سرح (كان يكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ فلما بلغ قوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ
قال عبد الله (فتبارك الله أحسن الخالقين) تعجباً من تفصيل خلق الإِنسان فقال عليه الصلاة والسلام: اكتبها فكذلك نزلت، فشك عبد الله وقال لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال) .
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كالذين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ حذف مفعوله لدلالة الظرف عليه أي ولو ترى الظالمين. فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ شَدَائده من غمره الماء إذا غشيه. وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ يقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ أو بالعذاب. أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أي يقولون لهم أخرجوها إلينا من أجسادكم تغليظاً وتعنيفاً عليهم، أو أخرجوها من العذاب وخلصوها من أيدينا. الْيَوْمَ يريدون وقت الإِماتة، أو الوقت الممتد من الإِماتة إلى ما لا نهاية له.
تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي الهوان يريدون العذاب المتضمن لشدة وإهانة، فإضافته إلى الهون لعراقته وتمكنه فيه. بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ كادعاء الولد والشريك له ودعوى النبوة والوحي كاذبا. وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون.
[سورة الأنعام (6) : آية 94]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا للحساب والجزاء. فُرادى منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا، أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم، وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى. وقرئ «فراد» كرخال و «فراد» كثلاث و «فردي» كسكرى. كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بدل منه أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد، أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها، أو حال من الضمير في فُرادى أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلاً بهما، أو صفة مصدر جِئْتُمُونا أي مجيئنا كما خلقناكم. وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْناكُمْ ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة. وَراءَ ظُهُورِكُمْ ما قدمتم منه شيئاً ولم تحتملوا نقيراً.
وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ أي شركاء لله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم.
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أي تقطع وصلكم وتشتت جمعكم، والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل. وقيل هو الظرف أسند إليه الفعل اتساعاً والمعنى: وقع التقطع بينكم، ويشهد له قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه، أو أقيم مقام موصوفة وأصله لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به. وَضَلَّ عَنْكُمْ ضاع وبطل. مَّا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء.
[سورة الأنعام (6) : آية 95]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى بالنبات والشجر. وقيل المراد به الشقاق الذي في الحنطة والنواة. يُخْرِجُ الْحَيَّ يريد به ما ينمو من الحيوان والنبات ليطابق ما قبله. مِنَ الْمَيِّتِ
مما لا ينمو كالنطف والحب.
وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ومخرج ذلك من الحيوان والنبات، ذكره بلفظ الاسم حملاً على فالق الحب فإن(2/173)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
قوله: يخرج الحي واقع موقع البيان له. ذلِكُمُ اللَّهُ أي ذلكم المحيي المميت هو الذي يحق له العبادة.
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عنه إلى غيره.
[سورة الأنعام (6) : آية 96]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
فالِقُ الْإِصْباحِ شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل أو عن بياض النهار، أو شاق ظلمة الإِصباح وهو الغبش الذي يليه والإِصباح في الأصل مصدر أصبح إذا دخل في الصباح سمي به الصبح. وقرئ بفتح الهمزة على الجمع وقرئ «فَالِقُ الإصباح» بالنصب على المدح. وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه من سكن إليه إذا اطمأن إليه استئناساً به، أو يسكن فيه الخلق من قوله تعالى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ ونصبه بفعل دل عليه جاعل لا به، فإن في معنى الماضي. ويدل عليه قراءة الكوفيين وَجَعَلَ اللَّيْلَ حملاً على معنى المعطوف عليه، فإن فالق بمعنى فلق ولذلك قرئ به، أو به على أن المراد منه جعل مستمر في الأزمنة المختلفة وعلى هذا يجوز أن يكون وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عطفاً على محل الليل ويشهد له قراءتهما بالجر والأحسن نصبهما بجعل مقدرا. وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان. حُسْباناً أي على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات ويكونان علمي الحسبان، وهو مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب. وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان. ذلِكَ إشارة إلى جعلهما حسباناً أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم. تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص. الْعَلِيمِ بتدبيرهما والأنفع من التداوير الممكنة لهما.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 97 الى 98]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ خلقها لكم. لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ في ظلمات الليل في البر والبحر، وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة، وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعد ما أجملها بقوله لكم. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ بيناها فصلاً فصلاً. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنهم المنتفعون به.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم عليه الصلاة والسلام. فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ أي فلكم استقرار في الأصلاب، أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام، أو تحت الأرض أو موضع استقرار واستيداع، وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر القاف على أنه اسم فاعل، والمستودع اسم مفعول أي فمنكم قار ومنكم مستودع، لأن الاستقرار منا دون الاستيداع. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأن أمرها ظاهر، ومع ذكر تخليق بني آدم يفقهون لأن إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر.
[سورة الأنعام (6) : آية 99]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء من السحاب أو من جانب السماء. فَأَخْرَجْنا على تلوين الخطاب.
بِهِ بالماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ نبت كل صنف من النبات والمعنى: إظهار القدرة في إنبات الأنواع المختلفة المفننة بماء واحد كما في قوله سبحانه وتعالى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ.(2/174)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
فَأَخْرَجْنا مِنْهُ من النبات أو الماء. خَضِراً شيئاً أخضر يقال أخضر كأعور وعور، وهو الخارج من الحبة المتشعب. نُخْرِجُ مِنْهُ من الخضر. حَبًّا مُتَراكِباً وهو السنبل. وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ أي وأخرجنا من النخل نخلاً من طلعها قنوان، أو من النخل شيء من طلعها قنوان، ويجوز أن يكون من النخل خبر قنوان ومن طلعها بدل منه والمعنى: وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو الأعذاق جمع قنو كصنوان جمع صنو. وقرئ بضم القاف كذئب وذؤبان وبفتحها على أنه اسم جمع إذ ليس فعلان من أبنية الجمع. دانِيَةٌ قريبة من المتناول، أو ملتفة قريب بعضها من بعض، وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها. وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ عطف على نبات كل شيء. وقرأ نافع بالرفع على الإِبتداء أي ولكم أو ثم جنات أو من الكرم جنات، ولا يجوز عطفه على قِنْوانٌ إذ العنب لا يخرج من النخل. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ أيضاً عطف على نبات أو نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم. مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ حال من الرمان، أو من الجميع أي بعض ذلك متشابه وبعضه غير متشابه في الهيئة والقدر واللون والطعم. انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ أي ثمر كل واحد من ذلك. وقرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم، وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب، أو ثمار ككتاب وكتب. إِذا أَثْمَرَ إذا أخرج ثمره كيف يثمر ضئيلاً لا يكاد ينتفع به.
وَيَنْعِهِ وإلى حال نضجه أو إلى نضيجة كيف يعود ضخماً ذا نفع ولذة، وهو في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت. وقيل جمع يانع كتاجر وتجر. وقرئ بالضم وهو لغة فيه ويانعه. إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي لآيات دالة على وجود القادر الحكيم وتوحيده، فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها، ويرجح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه أو ضد يعانده، ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به والرد عليه فقال.
[سورة الأنعام (6) : آية 100]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ أي الملائكة بأن عبدوهم وقالوا: الملائكة بنات الله. وسماهم جناً لاجتنانهم تحقيراً لشأنهم، أو الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى، أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم، أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع، والشيطان خالق الشر وكل ضار كما هو رأي الثنوية.
ومفعولا جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ والجن بدل من شُرَكاءَ أو شُرَكاءَ الجن ولِلَّهِ متعلق ب شُرَكاءَ، أو حال منه وقرئ الْجِنَّ بالرفع كأنه قيل: من هم فقيل الجن، والْجِنَّ بالجر على الإِضافة للتبيين. وَخَلَقَهُمْ حال بتقدير قد، والمعنى وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن وليس من يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ. وقرئ وَخَلَقَهُمْ عطفاً على الْجِنَّ أي وما يخلقونه من الأصنام، أو على شركاء أي وجعلوا له اختلافهم للإِفك حيث نسبوه إليه. وَخَرَقُوا لَهُ افتعلوا وافتروا له. وقرأ نافع بتشديد الراء للتكثير. وقرئ «وحرفوا» أي وزوروا. بَنِينَ وَبَناتٍ فقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقالت العرب الملائكة بنات الله. بِغَيْرِ عِلْمٍ من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ويروا عليه دليلاً، وهو في موضع الحال من الواو، أو المصدر أي خرقاً بغير علم. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ وهو أن له شريكاً أو ولدا.
[سورة الأنعام (6) : آية 101]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)(2/175)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، أو إلى الظرف كقولهم: ثبت الغدر بمعنى أنه عديم النظير فيهما، وقيل معناه المبدع وقد سبق الكلام فيه، ورفعه على الخبر والمبتدأ محذوف أو على الابتداء وخبره. أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ أي من أين أو كيف يكون له ولد. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ يكون منها الولد. وقرئ بالياء للفصل أو لأن الاسم ضمير الله أو ضمير الشأن. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا تخفى عليه خافية، وإنما لم يقل به لتطرق التخصيص إلى الأول، وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه: (الأول) أنه من مبدعاته السموات والأرضون، وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها فهو أولى بأن يتعالى عنها، أو أن ولد الشيء نظيره ولا نظير له فلا ولد.
(والثاني) أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين والله سبحانه وتعالى منزه عن المجانسة.
(والثالث) أن الولد كفؤ الوالد ولا كفؤ له لوجهين: الأول أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه. والثاني أنه سبحانه وتعالى لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره بالإجماع.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 102 الى 103]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
ذلِكُمُ إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ. اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض بدلاً أو صفة والبعض خبراً. فَاعْبُدُوهُ حكم مسبب عن مضمونها فإن من استجمع هذه الصفات استحق العبادة. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي وهو مع تلك الصفات متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم ورقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها.
لاَّ تُدْرِكُهُ أي لا تحيط به. الْأَبْصارُ جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها واستدل به المعتزلة على امتناع الرؤية وهو ضعيف، إذ ليس الإِدراك مطلق الرؤية ولا النفي في الآية عاماً في الأوقات فلعله مخصوص ببعض الحالات ولا في الأشخاص، فإنه في قوة قولنا لا كل بصر يدركه مع أن النفي لا يوجب الامتناع. وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يحيط علمه بها. وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فيدرك ما لا تدركه الأبصار كالأبصار، ويجوز أن يكون من باب اللف أي لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير، فيكون اللطيف مستعاراً من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 105]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ البصائر جمع بصيرة وهي للنفس كالبصر للبدن، سميت بها الدلالة لأنها تجلي لها الحق وتبصرها به. فَمَنْ أَبْصَرَ أي أبصر الحق وآمن به. فَلِنَفْسِهِ أبصر لأن نفسه لها. وَمَنْ عَمِيَ عن الحق وضل. فَعَلَيْها وباله. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وإنما أنا منذر والله سبحانه وتعالى هو الحفيظ عليكم يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها، وهذا كلام ورد على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام.
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ومثل ذلك التصريف نصرف، وهو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف، وهو نقل الشيء من حال إلى حال. وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ أي وليقولوا درست صرفنا واللام لام العاقبة، والدرس القراءة والتعليم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست أي دارست أهل الكتاب وذاكرتهم، وابن عامر ويعقوب درست من الدروس أي قدمت هذه الآيات وعفت كقولهم أساطير الأولين. وقرئ «دَرُسْتَ» بضم الراء مبالغة في درست ودرست على البناء للمفعول بمعنى قرئت، أو عفيت ودارست بمعنى درست أو دارست اليهود محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وجاز إضمارهم بلا ذكر لشهرتهم بالدراسة، ودرسن أي عفون ودرس(2/176)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
أي درس محمد صلّى الله عليه وسلّم ودراسات أي قديمات أو ذوات درس كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. وَلِنُبَيِّنَهُ اللام على أصله لأن التبيين مقصود التصريف والضمير للآيات باعتبار المعنى، أو للقرآن وإن لم يذكر لكونه معلوماً أو للمصدر. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنهم المنتفعون به.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 106 الى 107]
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بالتدين به. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض أكد به إيجاب الاتباع، أو حال مؤكدة من ربك بمعنى منفرداً في الألوهية. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ولا تحتفل بأقوالهم ولا تلتفت إلى آرائهم، ومن جعله منسوخاً بآية السيف حمل الإِعراض على ما يعم الكف عنهم.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ توحيدهم وعدم إشراكهم. مَا أَشْرَكُوا وهو دليل على أنه سبحانه وتعالى لا يريد إيمان الكافرين وأن مراده واجب الوقوع. وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيباً. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ تقوم بأمورهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 108]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح.
فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً تجاوزاً عن الحق إلى الباطل. بِغَيْرِ عِلْمٍ على جهالة بالله سبحانه وتعالى وبما يجب أن يذكر به. وقرأ يعقوب عَدْواً يقال عدا فلان عدواًّ وعدواً وعداءَ وعدواناً.
روي: أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعن في آلهتهم فقالوا لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك، فنزلت.
وقيل كان المسلمون يسبونها فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله سبحانه وتعالى، وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر. كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقاً وتخذيلاً، ويجوز تخصيص العمل بالشر وكل أمة بالكفرة لأن الكلام فيهم، والمشبه به تزيين سب الله لهم. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بالمحاسبة والمجازات عليه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 109 الى 110]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مصدر في موقع الحال، والداعي لهم إلى هذا القسم والتأكيد فيه التحكم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم في طلب الآيات واستحقار ما رأوا منها. لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم. لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء وليس شيء منها بقدرتي وإرادتي. وَما يُشْعِرُكُمْ وما يدريكم استفهام إنكار. أَنَّها أي أن الآية المقترحة. إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا تدرون أنهم لا يؤمنون، أنكر السبب مبالغة في نفي المسبب، وفيه تنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وقيل لا مزيدة وقيل أن بمعنى لعل إذ قرئ لعلها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب إنها بالكسر كأنه قال: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبركم بما علم منهم والخطاب للمؤمنين فإنهم يتمنون مجيء الآية طمعاً في إيمانهم، فنزلت. وقيل للمشركين إذ قرأ ابن عامر وحمزة «لا تؤمنون»(2/177)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
بالتاء وقرئ «وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم» فيكون إنكاراً لهم على حلفهم أي: وما يشعرهم أن قلوبهم حينئذٍ لم تكن مطبوعة كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات فيؤمنون بها.
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ عطف على لا يؤمنون أي: وما يشعركم أنا حينئذ نقلب أفئدتهم عن الحق فلا يفقهونه، وأبصارهم فلا يبصرونه فلا يؤمنون بها. كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي بما أنزل من الآيات. أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وندعهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين. وقرئ. «وَيَقَلِّبُ» و «يذرهم» على الغيبة، و «تقلب» على البناء للمفعول والإِسناد إلى الأفئدة.
[سورة الأنعام (6) : آية 111]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا كما اقترحوا فقالوا: لولا أنزل علينا الملائكة فأتوا بآياتنا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا وقبلا جمع قبيل بمعنى كفيل أي: كفلاء بما بشروا به وأنذروا به، أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات، أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا وهو قراءة نافع وابن عامر، وهو على الوجوه حال من كل وإنما جاز ذلك لعمومه. وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لما سبق عليهم القضاء بالكفر. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء من أعم الأحوال أي: لا يؤمنون في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم، وقيل منقطع وهو حجة واضحة على المعتزلة. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعاً في إيمانهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 112 الى 113]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أي كما جعلنا لك عدواً جعلنا لكل نبي سبقك عدواً، وهو دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله سبحانه وتعالى وخلقه. شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مردة الفريقين، وهو بدل من عدواً، أو أول مفعولي جَعَلْنا وعَدُوًّا مفعوله الثاني، ولكل متعلق به أو حال منه. يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإِنس، أو بعض الجن إلى بعض، وبعض الإِنس إلى بعض. زُخْرُفَ الْقَوْلِ الأباطيل المموهة منه من زخرفة إذا زينه. غُرُوراً مفعول له أو مصدر في موقع الحال. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ إيمانهم. مَّا فَعَلُوهُ أي ما فعلوا ذلك يعني معاداة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وايحاء الزخارف، ويجوز أن يكون الضمير للايحاء أو الزخرف أو الغرور، وهو أيضاً دليل على المعتزلة. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ وكفرهم.
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عطف على غُرُوراً إن جعل علة، أو متعلق بمحذوف أي وليكون ذلك جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا. والمعتزلة لما اضطروا فيه قالوا: اللام لام العاقبة أو لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون أو لام الأمر وضعفه أظهر، والصغو: الميل والضمير لما له الضمير في فعلوه. وَلِيَرْضَوْهُ لأنفسهم. وَلِيَقْتَرِفُوا وليكتسبوا. مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ من الآثام.
[سورة الأنعام (6) : آية 114]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)(2/178)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً على إرادة القول أي: قل لهم يا محمد أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل، و «غير» مفعول أَبْتَغِي وحَكَماً حال منه ويحتمل عكسه، وحَكَماً أبلغ من حاكم ولذلك لا يوصف به غير العادل. وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ القرآن المعجز.
مُفَصَّلًا مبيناً فيه الحق والباطل بحيث ينفي التخليط والالتباس. وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه وتقريره مغنٍ عن سائر الآيات. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ تأييد لدلالة الإِعجاز على أن القرآن حق منزل من عند الله سبحانه وتعالى، يعلم أهل الكتاب به لتصديقه ما عندهم مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يمارس كتبهم ولم يخالط علماءهم، وإنما وصف جميعهم بالعلم لأن أكثرهم يعلمون ومن لم يعلم فهو متمكن منه بأدنى تأمل. وقيل المراد مؤمنون أهل الكتاب. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم مُنَزَّلٌ بالتشديد. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في أنهم يعلمون ذلك، أو في أنه منزل لجحود أكثرهم وكفرهم به، فيكون من باب التهييج كقوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أو خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لخطاب الأمة. وقيل الخطاب لكل أحد على معنى أن الأَدلة لما تعاضدت على صحته فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه.
[سورة الأنعام (6) : آية 115]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده. صِدْقاً في الأخبار والمواعيد.
وَعَدْلًا في الأقضية والأحكام ونصبهما يحتمل التمييز والحال والمفعول له. لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل، أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعاً ذائعاً كما فعل بالتوراة على أن المراد بها القرآن، فيكون ضماناً لها من الله سبحانه وتعالى بالحفظ كقوله: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أو لا نبي ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدل أحكامها. وقرأ الكوفيون ويعقوب كَلِمَةُ رَبِّكَ أي ما تكلم به أو القرآن. وَهُوَ السَّمِيعُ لما يقولون. الْعَلِيمُ بما يضمرون فلا يهملهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 116]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي أكثر الناس يريد الكفار، أو الجهال أو أتباع الهوى. وقيل الأرض أرض مكة. يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الطريق الموصل إليه، فإن الضال في غالب الأمر لا يأمر إلا بما فيه ضلال. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق، أو جهالاتهم وآراؤهم الفاسدة فإن الظن يطلق على ما يقابل العلم. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يكذبون على الله سبحانه وتعالى فيما ينسبون إليه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه، وتحليل الميتة وتحريم البحائر، أو يقدرون أنهم على شيء وحقيقته ما يقال عن ظن وتخمين.
[سورة الأنعام (6) : آية 117]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي أعلم بالفريقين، ومَنْ موصولة أو موصوفة في محل النصب بفعل دل عليه أعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر في مثل ذلك، أو استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر «يُضِلَّ» والجملة معلق عنها الفعل المقدر. وقرئ «مَن يَضِلُّ» أي يضله الله، فتكون من منصوبة بالفعل المقدر أو مجرورة بإضافة أعلم إليه أي: أعلم المضلين من قوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ(2/179)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
أو من أضللته إذا وجدته ضالاً، والتفضيل في العلم بكثرته وإحاطته بالوجوه التي يمكن تعلق العلم بها ولزومه وكونه بالذات لا بالغير.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 119]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحرمون الحلال ويحللون الحرام، والمعنى كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره أو مات حتف أنفه. إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فإن الإِيمان بها يقتضي استباحة ما أحله الله سبحانه وتعالى واجتناب ما حرمه.
وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وأي غرض لكم في أن تتحرجوا عن أكله وما يمنعكم عنه.
وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مما لم يحرم بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر فَصَّلَ على البناء للمفعول، ونافع ويعقوب وحفص حَرَّمَ على البناء للفاعل. إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ مما حرم عليكم فإنه أيضاً حلال حال الضرورة. وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بتحليل الحرام وتحريم الحلال.
قرأ الكوفيون بضم الياء والباقون بالفتح. بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ بتشبيههم من غير تعلق بدليل يفيد العلم. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ بالمجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 120 الى 121]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ما يعلن وما يسر، أو ما بالجوارح وما بالقلب. وقيل الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان. إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ يكتسبون.
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ظاهر في تحريم متروك التسمية عمداً أو نسياناً، وإليه ذهب داود وعن أحمد مثله، وقال مالك والشافعي بخلافه
لقوله عليه الصلاة والسلام «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه»
وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين العمد والنسيان وأوله بالميتة أو بما ذكر غير اسم الله عليه لقوله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ فإن الفسق ما أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ، والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه ولا تأكلوا. وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ ليوسوسون. إِلى أَوْلِيائِهِمْ من الكفار. لِيُجادِلُوكُمْ بقولهم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله، وهو يؤيد التأويل بالميتة. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال ما حرم. إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ فإن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك، وإنما حسن حذف الفاء فيه لأن الشرط بلفظ الماضي.
[سورة الأنعام (6) : آية 122]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (122)
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ مثل به من هداه الله سبحانه وتعالى وأنقذه من الضلال وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء، فيميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل.
وقرأ نافع ويعقوب مَيْتاً على الأصل. كَمَنْ مَثَلُهُ صفته وهو مبتدأ خبره. فِي الظُّلُماتِ وقوله: لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها حال من المستكن في الظرف لا من الهاء في مثله للفصل، وهو مثل لمن بقي على الضلالة لا(2/180)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
يفارقها بحال. كَذلِكَ كما زين للمؤمنين إيمانهم. زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ والآية نزلت في حمزة وأبي جهل وقيل في عمر أو عمار وأبي جهل.
[سورة الأنعام (6) : آية 123]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123)
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، وجَعَلْنا بمعنى صيرنا ومفعولاه أَكابِرَ مُجْرِمِيها على تقديم المفعول الثاني، أو في كل قرية أَكابِرَ ومُجْرِمِيها بدل ويجوز أن يكون مضافاً إليه إن فسر الجعل بالتمكين، وأفعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الإفراد والمطابقة ولذلك قرئ «أكبر مجرميها» ، وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم. وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن وباله يحيق بهم. وَما يَشْعُرُونَ ذلك.
[سورة الأنعام (6) : آية 124]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ يعني كفار قريش لما
روي: أن أبا جهل قال زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحي إليه، والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت
: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ استئناف للرد عليهم بأن النبوة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله سبحانه وتعالى بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالاته من علم أنه يصلح لها، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ ذل وحقارة بعد كبرهم. عِنْدَ اللَّهِ يوم القيامة وقيل تقديره من عند الله. وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ بسبب مكرهم أو جزاء على مكرهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 125]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان. يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فيتسع له ويفسح فيه مجاله، وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيأة لحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه، وإليه أشار عليه أفضل الصلاة والسلام حين سئل عنه
فقال «نور يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح»
فقالوا: هل لذلك من أمارة يعرف بها فقال: نعم الإِنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله» . وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإِيمان. وقرأ ابن كثير ضَيِّقاً بالتخفيف ونافع وأبو بكر عن عاصم حَرَجاً بالكسر أي شديد الضيق، والباقون بالفتح وصفاً بالمصدر. كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ شبهه مبالغة في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه، فإن صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة، ونبه به على أن الإِيمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود.
وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبواً عن الحق وتباعداً في الهرب منه، وأصل يصعد يتصعد وقد قرئ به وقرأ ابن كثير يَصَّعَّدُ وأبو بكر عن عاصم يصاعد بمعنى يتصاعد. كَذلِكَ أي كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الحق. يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ يجعل العذاب أو الخذلان عليهم، فوضع الظاهر موضع المضمر للتعليل.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 126 الى 127]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)(2/181)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
وَهذا إشارة إلى البيان الذي جاء به القرآن، أو إلى الإسلام أو إلى ما سبق من التوفيق والخذلان.
صِراطُ رَبِّكَ الطريق الذي ارتضاه أو عادته وطريقه الذي اقتضته حكمته. مُسْتَقِيماً لا عوج فيه، أو عادلاً مطرداً وهو حال مؤكدة كقوله وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً، أو مقيدة والعامل فيها معنى الإِشارة. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فيعلمون أن القادر هو الله سبحانه وتعالى وأن كل ما يحدث من خير أو شر فهو بقضائه وخلقه، وأنه عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم.
لَهُمْ دارُ السَّلامِ دار الله أضاف الجنة إلى نفسه تعظيماً لها، أو دار السلامة من المكاره أو دار تحيتهم فيها سلام. عِنْدَ رَبِّهِمْ في ضمانه أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره. وَهُوَ وَلِيُّهُمْ مواليهم أو ناصرهم. بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بسبب أعمالهم أو متوليهم بجزائها فيتولى إيصاله إليهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 128]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
ويوم نحشرهم جَمِيعاً نصب بإضمار اذكر أو نقول، والضمير لمن يحشر من الثقلين. وقرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب يَحْشُرُهُمْ بالياء. يا مَعْشَرَ الْجِنِّ يعني الشياطين. قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي من إغوائهم وإضلالهم، أو منهم بأن جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كقولهم استكثر الأمير من الجنود. وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الذين أطاعوهم. رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي انتفع الإنس بالجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها، والجن بالإِنس بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم. وقيل استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز وعند المخاوف، واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم يقدرون على إجارتهم. وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي البعث وهو اعتراف بما فعلوه من طاعة الشيطان واتباع الهوى وتكذيب البعث وتحسر على حالهم. قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ منزلكم أو ذات مثواكم. خالِدِينَ فِيها حال والعامل فيها مثواكم إن جعل مصدراً، ومعنى الإضافة إن جعل مكاناً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ إلا الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير وقيل إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ قبل الدخول كأنه قيل: النار مَثْوَاكُمْ أبداً إلا ما أمهلكم. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في أفعاله. عَلِيمٌ بأعمال الثقلين وأحوالهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 129 الى 130]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً نكل بعضهم إلى بعض، أو نجعل بعضهم يتولى بعضا فيغويهم أو أولياء بعض وقرناءهم في العذاب كما كانوا في الدنيا. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
الرسل من الإِنس خاصة، لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك ونظيره يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ والمرجان يخرج من الملح دون العذب وتعلق بظاهره قوم وقالوا بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم. وقيل الرسل من الجن رسل الرسل إليهم لقوله تعالى: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يعني يوم القيامة.
لُوا
جوابا. هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
بالجرم والعصيان وهو اعتراف منهم بالكفر واستيجاب العذاب.(2/182)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذير للسامعين من مثل حالهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 131 الى 132]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
ذلِكَ إشارة إلى إرسال الرسل، وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك. أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ تعليل للحكم وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة أي: الأمر ذلك لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى بسبب ظلم فعلوه، أو ملتبسين يظلم أو ظالماً وهم غافلون لم ينبهوا برسول أو بدل من ذلك.
وَلِكُلٍّ من المكلفين. دَرَجاتٌ مراتب مِمَّا عَمِلُوا من أعمالهم أو من جزائها، أو من أجلها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب. وقرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 134]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَّا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن العباد والعبادة. ذُو الرَّحْمَةِ يترحم عليهم بالتكليف تكميلاً لهم ويمهلهم على المعاصي، وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتأسيس لما بعده وهو قوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي ما به إليكم حاجة إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيها العصاة. وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَّا يَشاءُ من الخلق. كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أي قرنا بعد قرن لكنه أبقاكم ترحما عليكم.
إِنَّ ما تُوعَدُونَ من البعث وأحواله. لَآتٍ لكائن لا محالة. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ طالبكم به.
[سورة الأنعام (6) : آية 135]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على غاية تمكنكم واستطاعتكم يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن، أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة. وقرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم بالجمع في كل القرآن وهو أمر تهديد، والمعنى: اثبتوا على كفركم وعداوتكم. إِنِّي عامِلٌ ما كنت عليه من المصابرة والثبات على الإسلام، والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعاً عليه فيحمله بالأمر على ما يفضي به، إليه، وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن ينقضي عنه. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إن جعل مَنْ استفهامية بمعنى أينا تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار، فمحلها الرفع وفعل العلم معلق عنه وإن جعلت خبرية فالنصب ب تَعْلَمُونَ أي فسوف تعرفون الذي تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار، وفيه مع الإِنذار إنصاف في المقال وحسن الأدب، وتنبيه على وثوق المنذر بأنه محق. وقرأ حمزة والكسائي يَكُونَ بالياء لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي. إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وضع الظالمين موضع الكافرين لأنه أعم وأكثر فائدة.
[سورة الأنعام (6) : آية 136]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)(2/183)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
وَجَعَلُوا أي مشركو العرب. لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ خلق. مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ
روي: أنهم كانوا يعينون شيئا؟ من حرث ونتاج لله ويصرفونه إلى الضيفان والمساكين، وشيئاً منهما لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحونه عندها، ثم إن رأوا ما عينوا لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حباً لآلهتهم.
وفي قوله مِمَّا ذَرَأَ تنبيه على فرط جهالتهم فإنهم أشركوا الخالق في خلقه جماداً لا يقدر على شيء، ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له، وفي قوله بِزَعْمِهِمْ تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله به. وقرأ الكسائي بالضم في الموضعين وهو لغة فيه وقد جاء فيه الكسر أيضاً كالود والود. ساءَ مَا يَحْكُمُونَ حكمهم هذا.
[سورة الأنعام (6) : آية 137]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137)
وَكَذلِكَ ومثل ذلك التزيين في قسمة القربان. زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بالوأد ونحرهم لآلهتهم. شُرَكاؤُهُمْ من الجن أو من السدنة، وهو فاعل زَيَّنَ. وقرأ ابن عامر زَيَّنَ على البناء للمفعول الذي هو القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولاً بينهما بمفعوله وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورات الشعر كقوله:
فَزَجَجْتُهَا بِمَزَجَة ... زَجَّ القلوصِ أَبِي مُزَادَه
وقرئ بالبناء للمفعول وجر أولادهم ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه زَيَّنَ. لِيُرْدُوهُمْ ليهلكوهم بالإِغواء. وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين اسماعيل، أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين والعاقبة إن كان من السدنة. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ما فعل المشركون ما زين لهم، أو الشركاء التزيين أو الفريقان جميع ذلك. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ افتراءهم أو ما يفترونه من الإفك.
[سورة الأنعام (6) : آية 138]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)
وَقالُوا هذِهِ إشارة إلى ما جعل لآلهتهم. أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ حرام فعل بمعنى مفعول، كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى. وقرئ «حِجْرٍ» بالضم وحرج أي مضيق. لاَّ يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء. بِزَعْمِهِمْ من غير حجة. وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها يعني البحائر والسوائب والحوامي. وَأَنْعامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا في الذبح وإنما يذكرون أسماء الأصنام عليها، وقيل لا يحجون على ظهورها. افْتِراءً عَلَيْهِ نصب على المصدر لأن ما قالوا تقول على الله سبحانه وتعالى، والجار متعلق ب قالُوا أو بمحذوف هو صفة له أو على الحال، أو على المفعول له والجار متعلق به أو بالمحذوف. سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ بسببه أو بدله.
[سورة الأنعام (6) : آية 139]
وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)(2/184)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنون أجنة البحائر والسوائب. خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا حلال للذكور خاصة دون الإِناث إن ولد حيًا لقوله: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ فالذكور والإِناث فيه سواء وتأنيث الخالصة للمعنى فإن ما في معنى الأجنة ولذلك وافق عاصم في رواية أبي بكر ابن عامر في تكن بالتاء، وخالفه هو وابن كثير في مَيْتَةً فنصب كغيرهم، أو التاء فيه للمبالغة كما في رواية الشعر أو هو مصدر كالعافية وقع موقع الخالص. وقرئ بالنصب على أنه مصدر مؤكد والخبر لِذُكُورِنا، أو حال من الضمير الذي في الظرف لا من الذي في لذكورنا ولا من الذكور لأنها لا تتقدم على العامل المعنوي ولا على صاحبها المجرور. وقرئ «خالص» بالرفع والنصب وخالِصَةٌ بالرفع والإِضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأ ثان والمراد به ما كان حياً، والتذكير في فيه لأن المراد بالميتة ما يعم الذكر والأنثى فغلب الذكر. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي جزاء وصفهم الكذب على الله سبحانه وتعالى في التحريم والتحليل من قوله: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.
[سورة الأنعام (6) : آية 140]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ يريد بهم العرب الذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي والفقر. وقرأ ابن كثير وابن عامر قَتَلُوا بالتشديد بمعنى التكثير. سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله سبحانه وتعالى رازق أولادهم لا هم، ويجوز نصبه على الحال أو المصدر. وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ من البحائر ونحوها. افْتِراءً عَلَى اللَّهِ يحتمل الوجوه المذكورة في مثله. قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى الحق والصواب.
[سورة الأنعام (6) : آية 141]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ من الكروم. مَعْرُوشاتٍ مرفوعات على ما يحملها. وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ملقيات على وجه الأرض. وقيل المعروشات ما غرسه الناس فعرشوه وغير معروشات ما نبت في البراري والجبال. وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ثمره الذي يؤكل في الهيئة والكيفية، والضمير للزرع والباقي مقيس عليه، أو للنخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفاً عليه، أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كل واحد منهما ومختلفاً حالاً مقدرة لأنه لم يكن ذلك عند الإِنشاء. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ يتشابه بعض أفرادهما في اللون والطعم ولا يتشابه بعضها. كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ من ثمر كل واحد من ذلك. إِذا أَثْمَرَ وإن لم يدرك ولم يينع بعد. وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى. وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يريد به ما كان يتصدق به يوم الحصاد لا الزكاة المقدرة لأنها فرضت بالمدينة والآية مكية.
وقيل الزكاة والآية مدنية والأمر بإيتائها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ حتى لا يؤخر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوب بالإِدراك لا بالتنقية. وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي حَصادِهِ بكسر الحاء وهو لغة فيه.
وَلا تُسْرِفُوا في التصدق كقوله تعالى: وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضي فعلهم.(2/185)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 142 الى 143]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143)
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً عطف على جنات أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح، أو ما يفرش المنسوج من شعره وصوفه ووبره. وقيل الكبار الصالحة للحمل والصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ كلوا مما أحل لكم منه. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ في التحليل والتحريم من عند أنفسكم. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهرة العداوة.
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من حمولة وفرشاً، أو مفعول كلوا، ولا تتبعوا معترض بينهما أو فعل دل عليه أو حال من ما بمعنى مختلفة أو متعددة والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه وقد يقال لمجموعهما والمراد الأول. مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ زوجين اثنين الكبش والنعجة، وهو بدل من ثمانية وقرئ «اثنان» على الابتداء. والضَّأْنِ اسم جنس كالإِبل وجمعه ضئين أو جمع ضائن كتاجر وتجر. وقرئ بفتح الهمزة وهو لغة فيه.
وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ التيس والعنز، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالفتح وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس، وقرئ «المعزى» . قُلْ آلذَّكَرَيْنِ ذكر الضأن وذكر المعز. حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أم أنثييهما ونصب الذكرين والانثيين بحرم أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أو ما حملت إناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ بأمرٍ معلوم يدل على أن الله تعالى حرم شيئاً من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التحريم عليه.
[سورة الأنعام (6) : آية 144]
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ كما سبق والمعنى إنكار أن الله حرم شيئاً من الأجناس الأربعة ذكراً كان أو أنثى أو ما تحمل إناثها رداً عليهم، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة أخرى وأولادها كيف كانت تارة زاعمين أن الله حرمها. أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ بل أكنتم شاهدين حاضرين. إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا حين وصاكم بهذا التحريم إذ أنتم لا تؤمنون بنبي فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا المشاهدة والسماع. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرم، والمراد كبراؤهم المقررون لذلك، أو عمرو بن لحي بن قمعة المؤسس لذلك. لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
[سورة الأنعام (6) : آية 145]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ أي في القرآن، أو فيما أوحي إلَّي مطلقاً، وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى. مُحَرَّماً طعاماً محرماً. عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أن يكون الطعام ميتة، وقرأ ابن كثير وحمزة تكون بالتاء لتأنيث الخبر، وقرأ ابن عامر بالياء، ورفع مَيْتَةً على أن كان هي(2/186)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
التامة وقوله: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً عطف على أن مع ما في حيزه أي: إلا وجود ميتة أو دماً مسفوحاً، أي مصبوباً كالدم في العروق لا كالكبد والطحال. أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ فإن الخنزير أو لحمه قذر لتعوده أكل النجاسة أو خبيث مخبث أَوْ فِسْقاً عطف على لحم خنزير. وما بينهما اعتراض للتعليل. أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صفة له موضحة وإنما سمي ما ذبح على اسم الصنم فسقاً لتوغله في الفسق، ويجوز أن يكون فسقاً مفعولاً له من أهل وهو عطف على يكون والمستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون. فَمَنِ اضْطُرَّ فمن دعته الضرورة. إلى تناول شيء من ذلك غَيْرَ باغٍ على مضطر مثله وَلا عادٍ قدر الضرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه، والآية محكمة لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أوحي إلى تلك الغاية محرماً غير هذه، وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ولا على حل الأشياء غيرها إلا مع الاستصحاب.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 146 الى 147]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ كل ماله إصبع كالإبل والسباع والطيور. وقيل كل ذي مخلب وحافر وسمي الحافر ظفراً مجازاً ولعل المسبب عن الظلم تعميم التحريم. وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما الثروب وشحوم الكلى والإِضافة لزيادة الربط. إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما إلا ما علقت بظهورهما. أَوِ الْحَوايا أو ما اشتمل على الأمعاء جمع حاوية، أو حاوياء كقاصعاء وقواصع، أو حوية كسفينة وسفائن. وقيل هو عطف على شحومهما وأو بمعنى الواو. أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ هو شحم الإِلية لاتصالها بالعصعص. ذلِكَ التحريم أو الجزاء. جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ بسبب ظلمهم. وَإِنَّا لَصادِقُونَ في الإِخبار أو الوعد والوعيد.
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يهمل. وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ حين ينزل، أو ذو رحمة واسعة على المطيعين وذو بأس شديد على المجرمين، فأقام مقامه ولا يرد بأسه لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة على أنه لازب بهم لا يمكن رده عنهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 148]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إخبار عن مستقبل ووقوع مخبره يدل على إعجازه. لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ أي لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاه كقوله: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ لما فعلنا نحن ولا آباؤنا، أرادوا بذلك أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله لا الاعتذار عن ارتكاب هذه القبائح بإرادة الله إياها منهم حتى ينهض ذمهم به دليلاً للمعتزلة ويؤيده ذلك قوله: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مثل هذا التكذيب لك في أن الله تعالى منع من الشرك ولم يحرم ما حرموه كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ الرسل، وعطف آباؤنا على الضمير في أشركنا من غير تأكيد للفصل بلا. حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم. قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ من أمر معلوم يصح الاحتجاج به. على ما زعمتم. فَتُخْرِجُوهُ لَنا(2/187)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
فتظهروه لنا. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ما تتبعون في ذلك إلا الظن. وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تكذبون على الله سبحانه وتعالى، وفيه دليل على المنع من اتباع الظن سيما في الأصول، ولعل ذلك حيث يعارضه قاطع إذ الآية فيه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 149 الى 150]
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه وهي من الحج بمعنى القصد كأنها تقصد إثبات الحكم وتطلبه. فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين.
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ أحضروهم، وهو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز، وفعل يؤنث ويجمع عند بني تميم وأصله عند البصريين: ها لم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل، وعند الكوفيين هل أم فحذفت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام، وهو بعيد لأن هل لا تدخل الأمر ويكون متعدياً كما في الآية ولازماً كقوله هلم إلينا. الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا يعني قدوتهم فيه استحضرهم ليلزمهم الحجة ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم وأنه لا متمسك لهم كمن يقلدهم، ولذلك قيد الشهداء بالإِضافة ووصفهم بما يقتضي العهد بهم. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ فلا تصدقهم فيه وبين لهم فساده فإن تسلميه موافقة لهم في الشهادة الباطلة. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير، وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقاً بها. وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كعبدة الأوثان. وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يجعلون له عديلاً.
[سورة الأنعام (6) : آية 151]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
قُلْ تَعالَوْا أمر من التعالي وأصله أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل فاتسع فيه بالتعميم.
أَتْلُ أقرأ. مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ منصوب بأتل وما تحتمل الخبرية والمصدرية، ويجوز أن تكون استفهامية منصوبة بحرم والجملة مفعول أَتْلُ لأنه بمعنى أقل، فكأنه قيل أتل أي شيء حرم ربكم عَلَيْكُمْ متعلق ب حَرَّمَ أو أَتْلُ. أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ أي لا تشركوا به ليصح عطف الأمر عليه، ولا يمنعه تعليق الفعل المفسر ب مَا حَرَّمَ، فإن التحريم باعتبار الأوامر يرجع إلى أضدادها ومن جعل أن ناصبة فمحلها النصب بعليكم على أنه للإِغراء، أو البدل من مَا أو من عائده المحذوف على أن لا زائدة والجر بتقدير اللام، أو الرفع على تقدير المتلو أن لا تشركوا أو المحرم أن تشركوا. شَيْئاً يحتمل المصدر والمفعول. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأحسنوا بهما إحساناً وضعه موضع النهي عن الإِساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإِساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ من أجل فقر ومن خشيته.
كقوله: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ منع لموجبية ما كانوا يفعلون لأجله واحتجاج عليه. وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ كبائر الذنوب أو الزنا. مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ بدل منه وهو مثل قوله ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ كالقود وقتل المرتد ورجم المحصن. ذلِكُمْ إشارة إلى(2/188)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
ما ذكر مفصلاً. وَصَّاكُمْ بِهِ بحفظه. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ترشدون فإن كمال العقل هو الرشد.
[سورة الأنعام (6) : آية 152]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره.
حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
حتى يصير بالغاً، وهو جمع شدة كنعمة وأنعم أو شد كصر وأصر وقيل مفرد كأنك.
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
بالعدل والتسوية. لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
إلا ما يسعها ولا يعسر عليها، وذكره عقيب الأمر معناه أن إيفاء الحق عسر عليكم فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفو عنكم.
وَإِذا قُلْتُمْ
في حكومة ونحوها. فَاعْدِلُوا
فيه. وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى
ولو كان المقول له أو عليه من ذوي قرابتكم. وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
يعني ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
تتعظون به، وقرأ حمزة وحفص والكسائي تَذَكَّرُونَ
بتخفيف الذال حيث وقع إذا كان بالتاء والباقون بتشديدها.
[سورة الأنعام (6) : آية 153]
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً الإِشارة فيه إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة. وقرأ حمزة والكسائي إن بالكسر على الاستئناف، وابن عامر ويعقوب بالفتح والتخفيف.
وقرأ الباقون بها مشددة بتقدير اللام على أنه علة لقوله. فَاتَّبِعُوهُ وقرأ ابن عامر صِراطِي بفتح الياء، وقرئ «وهذا صراطي» «وهذا صراط ربكم» «وهذا صراط ربك» . وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الأديان المختلفة أو الطرق التابعة للهوى، فإن مقتضى الحجة واحد ومقتضى الهوى متعدد لاختلاف الطبائع والعادات. فَتَفَرَّقَ بِكُمْ فتفرقكم وتزيلكم. عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان. ذلِكُمْ الاتباع. وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الضلال والتفرق عن الحق.
[سورة الأنعام (6) : آية 154]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ عطف على وَصَّاكُمْ، وثم للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل: ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً ثم أعظم من ذلك أَنَّا آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ. تَماماً للكرامة والنعمة.
عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ على كل من أحسن القيام به، ويؤيده إن قرئ «على الذين أحسنوا» أو «على الذي أحسن تبليغه» وهو موسى عليه أفضل الصلاة والسلام، أو «تماماً على ما أحسنه» أي أجاده من العلم والتشريع أي زيادة على علمه إتماما له. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي «على الذي هو أحسن» أو على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب. وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج اليه في الدين، وهو عطف على تمام ونصبهما يحتمل العلة والحال والمصدر. وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ لعل بني إسرائيل. بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي بلقائه للجزاء.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 155 الى 156]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156)(2/189)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
وَهذا كِتابٌ يعني القرآن. أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ كثير النفع. فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بواسطة اتباعه وهو العمل بما فيه.
أَنْ تَقُولُوا كراهة أن تقولوا علة لأنزلناه. إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا اليهود والنصارى، ولعل الاختصاص في إِنَّما لأن الباقي المشهور حينئذ من الكتب السماوية لم يكن غير كتبهم.
وَإِنْ كُنَّا أن هي المخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبر كان أي وإنه كنا. عَنْ دِراسَتِهِمْ قراءتهم، لَغافِلِينَ لا ندري ما هي، أو لا نعرف مثلها.
[سورة الأنعام (6) : آية 157]
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)
أَوْ تَقُولُوا عطف على الأول. لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا ولذلك تلقفنا فنوناً من العلم كالقصص والأشعار والخطب على أنا أميون. فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ حجة واضحة تعرفونها. وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لمن تأمل فيه وعمل به. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ بعد أن عرف صحتها أو تمكن من معرفتها. وَصَدَفَ أعرض أو صد. عَنْها فضل أو أضل. سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ شدته. بِما كانُوا يَصْدِفُونَ بإعراضهم أو صدهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 158]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
هَلْ يَنْظُرُونَ أي ما ينتظرون يعني أهل مكة، وهم ما كانوا منتظرين لذلك ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين. إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ملائكة الموت أو العذاب. وقرأ حمزة والكسائي بالياء هنا وفي «النحل» . أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي أمره بالعذاب، أو كل آية يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني أشراط الساعة
وعن حذيفة بن اليمان والبراء بن عازب: (كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما تذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة، قال: «إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، ودابة الأرض، وخسفاً بالمشرق، وخسفاً بالمغرب، وخسفاً بجزيرة العرب، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وناراً تخرج من عدن) .
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها كالمحتضر إذ صار الأمر عيانا والإيمان برهاني.
وقرئ «تنفع» بالتاء لإِضافة الإِيمان إلى ضمير المؤنث. لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صفة نفساً. أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على آمَنَتْ والمعنى: أنه لا ينفع الإِيمان حينئذ نفساً غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة في إيمانها خيراً، وهو دليل لمن لم يعتبر الإِيمان المجرد عن العمل وللمعتبر تخصيص هذا الحكم بذلك اليوم، وحمل الترديد على اشتراط النفع بأحد الأمرين على معنى لا ينفع نفساً خلت عنها إيمانها، والعطف على لم تكن بمعنى لا ينفع نفساً إيمانها الذي أحدثته حينئذ وإن كسبت فيه خيراً. قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد لهم، أي: انتظروا إتيان أحد الثلاثة فإنا منتظرون له وحينئذ لنا الفوز وعليكم الويل.(2/190)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 159 الى 160]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بددوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، أو افترقوا فيه
قال عليه الصلاة والسلام: «إفترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة
، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة» . وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا» أي باينوا. وَكانُوا شِيَعاً فرقاً تشيع كل فرقة إماماً. لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي من السؤال عنهم وعن تفرقهم، أو من عقابهم، أو أنت بريء منهم. وقيل هو نهي عن التعرض لهم وهو منسوخ بآية السيف. إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ يتولى جزاءهم. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ بالعقاب.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أي عشر حسنات أمثالها فضلاً من الله. وقرأ يعقوب «عشرة» بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف. وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغيرِ حساب ولذلك قيل: المراد بالعشر الكثرة دون العدد. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها قضية للعدل.
وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بنقص الثواب وزيادة العقاب.
[سورة الأنعام (6) : آية 161]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالوحي والإِرشاد إلى ما نصب من الحجج. دِيناً بدل من محل إلى صراط إذ المعنى، هداني صراطاً كقوله: وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أو مفعول فعل مضمر دل عليه الملفوظ. قِيَماً فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزنة والمستقيم باعتبار الصيغة. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي قِيَماً على أنه مصدر نعت به وكان قياسه قوماً كعوض فاعل لإِعلال فعله كالقيام. مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان لدينا. حَنِيفاً حال من إبراهيم. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف عليه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 الى 163]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي عبادتي كلها، أو قرباني أو حجي. وَمَحْيايَ وَمَماتِي وما أنا عليه في حياتي وأموت عليه من الإِيمان والطاعة، أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير، أو الحياة والممات أنفسهما. وقرأ نافع مَحْيايَ بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف. لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ خالصة له لا أشرك فيها غيراً. وَبِذلِكَ القول أو الإِخلاص. أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته.
[سورة الأنعام (6) : آية 164]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا فأشركه في عبادتي وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم. وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ حال في موضع العلة للإنكار والدليل له أي وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية. وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها فلا ينفعني في ابتغاء رب غيره ما أنتم عليه من ذلك. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى جواب عن قولهم: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يوم القيامة. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما(2/191)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
بتبيين الرشد من الغي وتمييز المحق من المبطل.
[سورة الأنعام (6) : آية 165]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ يخلف بعضكم بعضاً، أو خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها على أن الخطاب عام، أو خلفاء الأمم السالفة على أن الخطاب للمؤمنين. وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الشرف والغنى. لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الجاه والمال. إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لأن ما هو آت قريب أو لأنه يسرع إذا أراده. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وصف العقاب ولم يضفه إلى نفسه، ووصف ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة، وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة تنبيهاً على أنه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض كثير الرحمة مبالغ فيها كثير العقوبة مسامح فيها.
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنزلت عليَّ سورة الأنعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد، فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوماً وليلة» .
تم بحمد الله وحسن توفيقه طبع الجزء الثاني من تفسير البيضاوي في مطابع دار إحياء التراث العربي بيروت الزاهرة، أدامها الله لطبع المزيد من الكتب النافعة، ويليه الجزء الثالث وأوله سورة الأعراف، وآخر دعوانا أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين(2/192)
محتوى الجزء الثاني من تفسير البيضاوي
سورة آل عمران 5
بيان إثبات علمه تعالى بالجزئيّات على وجه جزئيّ حتى على مذهب الفلاسفة 6
بيان معنى المحكم والمتشابه 6
بيان الرّدّ على تشبّث النّصارى بانتقال اقنوم العلم إلى المسيح 6
بيان صدق وعد الله نبيه بقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ بما حصل ببدر وخيبر 7
بيان معنى كون رضوان الله أكبر وما هو المراد بالرّضوان 8
بيان معنى شهادة الله بأنه لا إله إلا هو 9
بيان الفرق بين التوحيد والإيمان والإسلام 9
بيان أن أول راية ترفع يوم القيامة راية اليهود ثم يفضحون 11
بيان ما ظهر للنبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق من الآيات 12
بيان نسب موسى ومريم عليهما السلام 13
بيان معنى مسّ الشيطان للمولود حين وضعه 14
بيان تكليم الملائكة لمريم وأنه لم تنبأ امرأة 16
بيان المسيح وأصل معناه 17
بيان معنى النسخ وأنّ شريعة المسيح فيها نسخ لما في التوراة 18
بيان معنى قوله تعالى لعيسى عليه السلام إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وما ذهبت إليه النصارى في ذلك 19
بيان المجادلة التي حصلت بين النبي وأساقف نجران ومعنى المباهلة 20
بيان تنازع اليهود والنصارى في إبراهيم عليه السلام 21
بيان كون إبراهيم عليه السلام للمسلمين اختصاص باتباعه 22
بيان أنّ اليهود كانت تزعم أنّ أموال المسلمين كانت مباحة لهم في كتابهم 23
بيان أن الإسلام هو دين الفطرة وأنّ الطالب لغيره واقع في الخسران 26
بيان إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للناس المسجد الحرام ومن بناه 29
بيان أن الأمر بالمعروف فرض كفاية وذكر شروطه 31
بيان كون هذه الأمة خير الأمم والاستدلال على كون الإجماع حجة 33
بيان ما حصل قبل غزوة أحد من استشارة النبيّ لأصحابه 36
بيان ما حصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة أحد من جرحه وكسر رباعيته وغير ذلك 41
بيان ما حصل للمسلمين من النّصر بأحد وأسباب انهزامهم بعد ذلك 43
بيان الأمر بالمشاورة 45(2/193)
بيان أن الإنسان غير الهيكل المحسوس وأنه جوهر مدرك بذاته 48
بيان أن الإِيمان يزيد وينقص 49
بيان أن الأنبياء لا يطلعون على الغيب إلّا بإعلام الله لهم 51
بيان أن المعجزات جميعها توجب الإيمان وأن اليهود كذبوا في دعواهم التخصيص 52
بيان أن الاستدلال على وجود الباري طريقة تغير العالم 54
تفسير سورة النساء 58
بيان ما قيل في القراءات السبع من أن كلّ حرف منها منقول بالتواتر أم لا؟ 58
بيان ما قيل في قوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ الآية وتحقيق ذلك من جهة العربية 59
بيان أن الشخص لا ينبغي له أن يعطي ما في يديه من المال لأهله يقعد ناظرا لما أعطاهم 60
بيان أن الإنسان الوصي يلزمه أن يحب لمن تحت رعايته ما يحبّه لبنيه 61
بيان معنى الكلالة 63
بيان أن التوبة تقبل قبل الموت 65
بيان محرمات النكاح وأن الربيبة لا تحرم إلّا بالدخول بأمها 67
بيان عدم جواز نكاح الأمة إلّا بشروط وبيانها 69
بيان أن ثمان آيات في النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس 70
بيان الكبائر والاختلاف فيها 71
بيان الميراث بالمخالفة ونسخه 72
بيان الحكم الذي يكون من أهل الرجل والمرأة في الشقاق ووظيفته 73
بيان أن الإسراف مذموم كالبخل 74
بيان أن الإنسان إن دعي لأمر لا ضرر فيه ينبغي له الإجابة 74
بيان الاحتجاج على المعتزلة والخوارج في منعهم جواز غفران الذنوب 78
بيان أن البخل والحسد شرّ الرذائل وأن بينهما تلازما وتجاذبا 79
بيان أن الناس مأمورون بطاعة الأمراء إذا حكموا بالعدل 80
بيان أن المرضي عليهم من الناس أربعة، وبيان ما تميز به كل فريق 82
بيان أن كل ما أصاب من بليّة فمن ذنب 86
بيان معنى سلامة القرآن من الاختلاف 86
بيان المواضع التي لا يستحسن فيها السلام 88
بيان القتل الخطأ وديته 90
بيان الدليل على صحة إيمان المكره وأنّ المجتهد يخطئ وأن خطأه مغتفر 91
بيان قصر الصلاة ولو في سفر فيه أمن 93
بيان صلاة الخوف 93
بيان حكم من فعل العبادة لغرض شرعيّ ودنيويّ 96(2/194)
بيان الخلة وكيف اتّخذ الله إبراهيم خليلا 99
بيان ما كانت العرب تفعله مع النساء وصغار الولدان من أكل حقوقهن 100
بيان ما يجب على الشاهد من إقامة الحق 102
بيان السبب في تغليظ عذاب المنافق وبيان النفاق الموجب للكفر 105
بيان ما فعلته اليهود مع المسيح وكيف رفعه الله 107
بيان نزول المسيح آخر الدنيا وإيمان كل العالم به 107
بيان أن بعثة الأنبياء من ضروريات مصالح الخلق 109
بيان أن النظريات ضروريات للملائكة 110
تفسير سورة المائدة 113
بيان ما كانت تفعله الجاهلية من الاستقسام بالأزلام 114
بيان الطيبات التي أحلّ أكلها 115
بيان أن المائدة من آخر القرآن نزولا وأنه لا نسخ فيها 116
بيان أنّ العدل ولو مع الكفار
مقتضى التقوى وأن الجور مقتضى الهوى 118
بيان ما ذهب إليه بعض فرق النّصارى من قولهم المسيح هو الله 120
بيان المدّة والأنبياء بين موسى وعيسى وبين عيسى ومحمد عليهم السلام 121
بيان إن موسى عليه السلام مات بالتيه أو بعده 122
في بيان حدود قطّاع الطريق من المسلمين 125
في بيان تحريف اليهود 127
في بيان كفر من لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله 128
في بيان النهي عن موالاة الكفّار 130
بيان الفرق التي ارتدت من العرب في أواخر حياة رسول الله 131
بيان أن من الأسرار الإِلهية ما يحرم إفشاؤه 135
بيان المائدة التي نزلت من السماء وكلام بعض الصوفية فيها 150
تفسير سورة الأنعام 153
بيان من طلبت قريش إبعادهم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليجالسوه ونهي الله له عن ذلك 163
بيان الخلاف في أبي سيدنا إبراهيم 169
بيان ما يعتقده المشركون في الجن من الشركة 175
بيان الأمر بالتسمية عند الذّبح 180
بيان ما كانت تفعله الجاهلية من القسمة لشركائهم في الزرع والأنعام 184
بيان ما حرّم على بني إسرائيل من الشحوم وغيرها 187
بيان التفرق في الدين وأنه سنّة قديمة 191(2/195)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
[الجزء الثالث]
(7) سورة الأعراف
مكية غير ثمان آيات من قوله: وَسْئَلْهُمْ إلى قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ محكمة كلها. وقيل إلا قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وآيها مائتان وخمس أو ست آيات.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
المص سبق الكلام في مثله.
كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب، أو خبر المص والمراد به السورة أو القرآن. أُنْزِلَ إِلَيْكَ صفته. فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي شك، فإن الشاك حرج الصدر أو ضيق قلب من تبليغه مخافة أن تكذب فيه، أو تقصر في القيام بحقه، وتوجيه النهي إليه للمبالغة كقولهم: لا أرينك ها هنا. والفاء تحتمل العطف والجواب فكأنه قيل: إذا أنزل إليك لتنذر به فلا يحرج صدرك. لِتُنْذِرَ بِهِ متعلق بأنزل أو بلا يكن لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار، وكذا إذا لم يخفهم أو علم أنه موفق للقيام بتبليغه.
وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ يحتمل النصب بإضمار فعلها أي: لتنذر به وتذكر ذكرى فإنها بمعنى التذكير، والجر عطفاً على محل تنذر والرفع عطفاً على كِتابٌ أو خبر المحذوف.
[سورة الأعراف (7) : آية 3]
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعم القرآن والسنة لقوله سبحانه وتعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يضلونكم مّنَ الجن والإِنس. وقيل الضمير في مِنْ دُونِهِ ل ما أُنْزِلَ أي: ولا تتبعوا من دون دين الله أولياء. وقرئ «ولا تبتغوا» . قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تذكرون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره، و «مَا» مزيدة لتأكيد القلة وإن جعلت مصدرية لم ينتصب قَلِيلًا ب تَذَكَّرُونَ. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم تَذَكَّرُونَ بحذف التاء، وابن عامر «يتذكرون» على أن الخطاب بعد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 5]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ كثيرا من القرى. أَهْلَكْناها أردنا إهلاك أهلها، أو أهلكناها بالخذلان. فَجاءَها فجاء أهلها. بَأْسُنا عذابنا. بَياتاً بائتين كقوم لوط، مصدر وقع موقع الحال. أَوْ هُمْ قائِلُونَ عطف عليه أي: قائلين نصف النهار كقوم شعيب، وإنما حذفت واو الحال استثقالاً لاجتماع حرفي عطف، فإنها واو عطف استعيرت للوصل لا اكتفاء بالضمير فإنه غير فصيح. وفي التعبيرين مبالغة في غفلتهم وأمنهم من العذاب، ولذلك خص الوقتين ولأنهما وقت دعة واستراحة فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع.(3/5)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
فَما كانَ دَعْواهُمْ أي دعاؤهم واستغاثتهم، أو ما كانوا يدعونه من دينهم. إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه تحسرا عليهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 6 الى 7]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7)
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ عن قبول الرسالة وإجابتهم الرسل. وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عما أجيبوا به، والمراد من هذا السؤال توبيخ للكفرة وتقريعهم، والمنفي في قوله: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ سؤال استعلام. أو الأول في موقف الحساب وهذا عند حصولهم على العقوبة.
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ على الرسل حين يقولون لاَ عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، أو على الرسل والمرسل إليهم ما كانوا عليه. بِعِلْمٍ عالمين بظواهرهم وبواطنهم، أو بمعلومنا منهم. وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم فيخفى علينا شيء من أحوالهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 9]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
وَالْوَزْنُ أي القضاء، أو وزن الأعمال وهو مقابلتها بالجزاء. والجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان وكفتان، ينظر إليه الخلائق إظهاراً للمعدلة وقطعاً للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وتشهد بها جوارحهم. ويؤيده ما
روي: أن الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة.
وقيل توزن الأشخاص لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إنه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة» .
يَوْمَئِذٍ خبر المبتدأ الذي هو الوزن.
الْحَقُّ صفته، أو خبر محذوف ومعناه العدل السوي. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ حسناته، أو ما يوزن به حسناته فهو جمع موزون أو ميزان وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة والثواب.
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع الفطرة السليمة التي فطرت عليها، واقتراف ما عرضها للعذاب. بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ فيكذبون بدل التصديق.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أي مكناكم من سكناها وزرعها والتصرف فيها. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أسباباً تعيشون بها، جمع معيشة. وعن نافع أنه همزة تشبيهاً بما الياء فيه زائدة كصحائف. قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ فيما صنعت إليكم.
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصور ثم صورناه. نزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره، أو ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه. ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وقيل ثم لتأخير الإخبار. فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ممن سجد لآدم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 12 الى 13]
قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)(3/6)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أي أن تسجد ولا صلة مثلها في لِئَلَّا يَعْلَمَ، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه، ومنبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود. وقيل الممنوع عن الشيء مضطر إلى خلافه فكأنه قيل: ما اضطرك إلى ألا تسجد. إِذْ أَمَرْتُكَ دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور. قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ جواب من حيث المعنى استأنف به استبعاداً لأن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله كأنه قال: المانع أني خير منه، ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول، فكيف يحسن أن يؤمر به. فهو الذي سن التكبر وقال بالحسن والقبح العقليين أولاً. خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ تعليل لفضله عليه، وقد غلط في ذلك بأن رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي بغير واسطة، وباعتبار الصورة كما نبه عليه بقوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ وباعتبار الغاية وهو ملاكه ولذلك أمر الملائكة بسجوده لما بين لهم أنه أعلم منهم، وأن له خواص ليست لغيره، والآية دليل الكون والفساد وأن الشياطين أجسام كائنة، ولعل إضافة خلق الإنسان إلى الطين والشيطان إلى النار باعتبار الجزء الغالب.
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها من السماء أو الجنة. فَما يَكُونُ لَكَ فما يصح. أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها وتعصي فإنها مكان الخاشع والمطيع. وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة وأنه سبحانه وتعالى إنما طرده وأهبطه لتكبره لا لمجرد عِصيانه. فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ممن أهانه الله لتكبره،
قال عليه الصلاة والسلام «من تواضع رفعه الله ومن تكبر وضعه الله» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 14 الى 15]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أمهلني إلى يوم القيامة فلا تمتني، أو لا تعجل عقوبتي.
قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ يقتضي الإجابة إلى ما سأله ظاهراً لكنه محمول على ما جاء مقيداً بقوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو النفخة الأولى، أو وقت يعلم الله انتهاء أجله فيه، وفي إسعافه إليه ابتلاء العباد وتعريضهم للثواب بمخالفته.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 16 الى 17]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي بعد أن أمهلتني لاجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني بسبب إغوائك إياي بواسطتهم تسمية، أو حملاً على الغي، أو تكليفاً بما غويت لأجله والباء متعلقة بفعل القسم المحذوف لا بأقعدن فإن اللام تصد عنه وقيل الباء للقسم: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ ترصداً بهم كما يقعد القطاع للسابلة صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ طريق الإِسلام ونصبه على الظرف كقوله:
لدنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه ... فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
وقيل تقديره على صراطك كقولهم: ضرب زيد الظهر والبطن.
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي من جميع الجهات الأربع.
مثل قصده إياهم بالتسويل والإِضلال من أي وجه يمكنه بإتيان العدو من الجهات الأربع، ولذلك لم يقل مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أرجلهم. وقيل لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لأن الإِتيان منه يوحش الناس. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من بين أيديهم من قبل الآخرة، ومن خلفهم من قبل(3/7)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
الدنيا، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم. ويحتمل أن يقال من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه، ومن خلفهم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ولا يقدرون، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم. وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الأخيرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم، ونظيره قولهم جلست عن يمينه. وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ مطيعين، وإنما قاله ظناً لقوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ لما رأى فيهم مبدأ الشر متعدداً ومبدأ الخير واحداً، وقيل سمعه من الملائكة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 18 الى 19]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مذءوما من ذأمه إذا ذمه. وقرئ «مذوما» كمسول في مسؤول أو كمكول في مكيل، من ذامه يذيمه ذيما. مَدْحُوراً مطروداً. لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اللام فيه لتوطئة القسم وجوابه:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ وهو ساد مسد جواب الشرط. وقرئ «لِمَنْ» بكسر اللام على أنه خبر لأملأن على معنى: لمن تبعك هذا الوعيد، أو علة لأخرج ولأملأن جواب قسم محذوف ومعنى منكم منك ومنهم فغلب المخاطب.
وَيا آدَمُ أي وقلنا يا آدم. اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ وقرئ «هذي» وهو الأصل لتصغيره على ذيا والهاء بدل من الياء. فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ
فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم، وتكونا يحتمل الجزم على العطف والنصب على الجواب.
[سورة الأعراف (7) : آية 20]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي فعل الوسوسة لأجلهما، وهي في الأصل الصوت الخفي كالهينمة والخشخشة ومنه وسوس الحلي. وقد سبق في سورة «البقرة» كيفية وسوسته. لِيُبْدِيَ لَهُما ليظهر لهما، واللام للعاقبة أو للغرض على أنه أراد أيضاً بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما، ولذلك عبر عنهما بالسوأة. وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع.
مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما ما غطي عنهما من عوراتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر، وإنما لم تقلب الواو المضمومة همزة في المشهور كما قلبت في أويصل تصغير واصل لأن الثانية مدة وقرئ «سوءاتهما» بحذف الهزة وإلقاء حركتها على الواو و «سوءاتهما» بقلبها واواً وإدغام الواو الساكنة فيها.
وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا إِلاَّ كراهة أن تكونا. مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ الذين لا يموتون أو يخلدون في الجنة، واستدل به على فضل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وجوابه: أنه كان من المعلوم أن الحقائق لا تنقلب وإنما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما أيضا ما للملائكة من الكمالات الفطرية، والاستغناء عن الأطعمة والأشربة، وذلك لا يدل على فضلهم مطلقا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 21 الى 22]
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)(3/8)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي أقسم لهما على ذلك، وأخرجه على زنة المفاعلة للمبالغة.
وقيل أقسما له بالقبول. وقيل أقسما عليه بالله أنه لمن الناصحين فأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة.
فَدَلَّاهُما فنزلهما إلى الأكل من الشجرة، نبه به على أنه أهبطهما بذلك من درجة عالية إلى رتبة سافلة، فإن التدلية والإِدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل. بِغُرُورٍ بما غرهما به من القسم فإنهما ظناً أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً، أو ملتبسين بغرور. فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي فلما وجدا طعمها آخذين في الأكل منها أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية، فتهافت عنهما لباسهما وظهرت لهما عوراتهما.
واختلف في أن الشجرة كانت السنبلة أو الكرم أو غيرهما، وأن اللباس كان نوراً أو حلة أو ظفراً. وَطَفِقا يَخْصِفانِ أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة. عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ قيل كان ورق التين، وقرئ «يَخْصِفَانِ» من أخصف أي يخصفان أنفسهما ويخصفان من خصف ويخصفان وأصله يختصفان. وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ عتاب على مخالفة النهي، وتوبيخ على الاغترار بقول العدو. وفيه دليل على أن مطلق النهي للتحريم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 23 الى 24]
قَالاَ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)
قَالاَ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا أضررناها بالمعصية والتعريض للإخراج من الجنة. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ دليل على أن الصغائر معاقب عليها إن لم تغفر. وقالت المعتزلة لا تجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر ولذلك قالوا: إنما قالا ذلك على عادة المقربين في استعظام الصغير من السيئات واستحقار العظيم من الحسنات.
قالَ اهْبِطُوا الخطاب لآدم وحواء وذريتهما، أو لهما ولإِبليس. كرر الأمر له تبعاً ليعلم أنهم قرناء أبداً وأخبر عما قال لهم متفرقاً. بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في موضع الحال أي معتادين. وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ استقرار أي موضع استقرار. وَمَتاعٌ وتمتع. إِلى حِينٍ إلى أن تقضى آجالكم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 25 الى 26]
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ للجزاء وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان وَمِنْها تُخْرَجُونَ، وفي «الزخرف» كَذلِكَ تُخْرَجُونَ بفتح التاء وضم الراء.
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة، ونظيره قوله تعالى:
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ. يُوارِي سَوْآتِكُمْ التي قصد الشيطان إبداءها، ويغنيكم عن خصف الورق.
روي: أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فنزلت.
ولعله ذكر قصة آدم مقدمة لذلك حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإِنسان من الشيطان، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم. وَرِيشاً ولباساً تتجملون به، والريش الجمال. وقيل مالاً ومنه تريش الرجل إذا تموّل. وقرئ «رياشاً» وهو جمع ريش كشعب وشعاب. وَلِباسُ التَّقْوى خشية الله.
وقيل الإِيمان. وقيل السمت الحسن. وقيل لباس الحرب ورفعه بالابتداء وخبره: ذلِكَ خَيْرٌ أو خير وذلك صفته كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وَلِباسُ التَّقْوى بالنصب عطفاً على لِباساً. ذلِكَ أي إنزال اللباس. مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله ورحمته. لَعَلَّهُمْ(3/9)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
يَذَّكَّرُونَ
فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح.
[سورة الأعراف (7) : آية 27]
يا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)
يا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ لا يمحننكم بأن يمنعكم دخول الجنة بإغوائكم. كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها، والنهي في اللفظ للشيطان، والمعنى نهيهم عن اتباعه والافتتان به. يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما حال من أَبَوَيْكُمْ أو من فاعل أَخْرَجَ وإسناد النزع إليه للتسبب. إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ تعليل للنهي وتأكيد للتحذير من فتنته، وقبيله جنوده ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة لا تقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بما أوجدنا بينهم من التناسب، أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم من خذلانهم وحملهم على ما سولوا لهم. والآية مقصود القصة وفذلكة الحكاية.
[سورة الأعراف (7) : آية 28]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28)
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فعلة متناهية في القبح كعبادة الصنم وكشف العورة في الطواف. قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها اعتذروا واحتجوا بأمرين تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه وتعالى، فأعرض عن الأول لظهور فساده ورد الثاني بقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال، والحث على مكارم الخصال. ولا دلالة عليه على أن قبح الفعل بمعنى ترتب الذم عليه آجلاً عقلي، فإن المراد بالفاحشة ما ينفر عنه الطبع السليم ويستنقصه العقل المستقيم. وقيل هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها: لم فعلتم؟ فقالوا: وجدنا عليها آباءنا. فقيل ومن أين أخذ آباؤكم؟
فقالوا: الله أمرنا بها. وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه لا مطلقاً. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله تعالى.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 30]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بالعدل وهو الوسط من كل أمر المتجافي عن طرفي الإِفراط والتفريط. وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ وتوجهوا إلى عبادته مستقيمين غير عادلين إلى غيرها، أو أقيموها نحو القبلة. عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ في كل وقت سجود أو مكانه وهو الصلاة، أو في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم. وَادْعُوهُ واعبدوه. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة فإن إليه مصيركم. كَما بَدَأَكُمْ كما أنشأكم ابتداء. تَعُودُونَ بإعادته فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة، وإنما شبه الإِعادة بالإِبداء تقريراً لإِمكانها والقدرة عليها. وقيل كما بدأكم من التراب تعودون إليه. وقيل كما بدأكم حفاة عراة غرلاً تعودون. وقيل كما بدأكم مؤمناً وكافراً يعيدكم.
فَرِيقاً هَدى بأن وفقهم للإِيمان. وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بمقتضى القضاء السابق. وانتصابه بفعل يفسره ما بعده أي وخذل فريقاً. إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعليل لخذلانهم أو تحقيق(3/10)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
لضلالهم. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يدل على أن الكافر المخطئ والمعاند سواء في استحقاق الذم، وللفارق أن يحمله على المقصر في النظر.
[سورة الأعراف (7) : آية 31]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ثيابكم لمواراة عورتكم. عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ لطواف أو صلاة، ومن السنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة، وفيه دليل على وجوب ستر العورة في الصلاة. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ما طاب لكم.
روي: أن بني عامر في أيام حجهم كانوا لا يأكلون الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فهم المسلمون به، فنزلت.
وَلا تُسْرِفُوا بتحريم الحلال، أو بالتعدي إلى الحرام، أو بإفراط الطعام والشره عليه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. وقال علي بن الحسين بن واقد: قد جمع الله الطب في نصف آية فقال: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) . إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ أي لا يرتضي فعلهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 32]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ من الثياب وسائر ما يتجمل به. الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ من النبات كالقطن والكتان، والحيوان كالحرير والصوف، والمعادن كالدروع. وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ المستلذات من المآكل والمشارب. وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإِباحة، لأن الاستفهام في من للإنكار. قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالأصالة والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع. خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يشاركهم فيها غيرهم، وانتصابها على الحال. وقرأ نافع بالرفع على أنها خبر بعد خبر. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي كتفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 33 الى 34]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما تزايد قبحه، وقيل ما يتعلق بالفروج. مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ جهرها وسرها. وَالْإِثْمَ وما يوجب الإثم تعميم بعد تخصيص، وقيل شرب الخمر. وَالْبَغْيَ الظلم، أو الكبر أفرده بالذكر للمبالغة. بِغَيْرِ الْحَقِّ متعلق بالبغي مؤكد له معنى. وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً تهكم بالمشركين، وتنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ بالإِلحاد في صفاته سبحانه وتعالى، والافتراء عليه كقولهم اللَّهُ أَمَرَنا بِها.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدة، أو وقت لنزول العذاب بهم وهو وعيد لأهل مكة. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ انقرضت مدتهم، أو حان وقتهم. لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ أي لا يتأخرون ولا يتقدمون أقصر وقت، أو لا يطلبون التأخر والتقدم لشدة الهول.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)(3/11)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي شرط ذكره بحرف الشك للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائز غير واجب كما ظنه أهل التعليم، وضمت إليها ما لتأكيد معنى الشرط ولذلك أكد فعلها بالنون وجوابه: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ والمعنى فمن اتقى التكذيب وأصلح عمله منكم والذين كذبوا بآياتنا منكم، وإدخال الفاء في الخبر الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد.
[سورة الأعراف (7) : آية 37]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ممن تقول على الله ما لم يقله أو كذب ما قاله.
أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ مما كتب لهم من الأرزاق والآجال. وقيل الكتاب اللوح المحفوظ أي مما أثبت لهم فيه. حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي يتوفون أرواحهم، وهو حال من الرسل وحتى غاية لنيلهم وهي التي يبتدأ بعدها الكلام. قالُوا جواب إذا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها، وما وصلت بأين في خط المصحف وحقها الفصل لأنها موصولة. قالُوا ضَلُّوا عَنَّا غابوا عنا. وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 38 الى 39]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
قالَ ادْخُلُوا أي قال الله تعالى لهم يوم القيامة، أو أحد من الملائكة. فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أي كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم يوم القيامة. مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعني كفار الأمم الماضية عن النوعين. فِي النَّارِ متعلق بادخلوا. كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ أي في النار. لَعَنَتْ أُخْتَها التي ضلت بالاقتداء بها. حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً أي تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار. قالَتْ أُخْراهُمْ دخولاً أو منزلة وهم الأتباع. لِأُولاهُمْ أي لأجل أولاهم إذ الخطاب مع الله لا معهم. رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ مضاعفاً لأنهم ضلوا وأضلوا. قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أما القادة فبكفرهم وتضليلهم، وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم. وَلكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ ما لكم أو ما لكل فريق. وقرأ عاصم بالياء على الانفصال.
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ عطفوا كلامهم على جواب الله سبحانه وتعالى «لاِخْرَاهُمْ» ورتبوه عليه أي فقد ثبت أن لا فضل لَكُمْ علينا وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب. فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من قول القادة أو من قول الفريقين.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)(3/12)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي عن الإِيمان بها. لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لأدعيتهم وأعمالهم أو لأزواجهم، كما تفتح لأعمال المؤمنين وأرواحهم لتتصل بالملائكة. والتاء في تفتح للتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها، وقرأ أبو عمرو بالتخفيف وحمزة والكسائي به وبالياء، لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم. وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء على أن الفعل للآيات وبالياء لأن الفعل لله.
وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أي حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم وهو البعير فيما هو مثل في ضيق المسلك وهو ثقبة الإِبرة، وذلك مما لا يكون فكذا ما يتوقف عليه. وقرئ «الجمل» كالقمل، و «الجمل» كالنغر، و «الجمل» كالقفل، والجمل كالنصب، و «الجمل» كالحبل وهو الحبل الغليظ من القنب، وقيل حبل السفينة. وسم بالضم والكسر وفي سم المخيط وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم. وَكَذلِكَ ومثل ذلك الجزاء الفظيع. نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ.
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فراش. وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أغطية، والتنوين فيه للبدل عن الاعلال عند سيبويه، وللصرف عند غيره، وقرئ «غَوَاشٍ» على إلغاء المحذوف. وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآيات اتصفوا بهذه الأوصاف الذميمة، وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيهاً على أنه أعظم الإِجرام.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ على عادته سبحانه وتعالى في أن يشفع الوعيد بالوعد، وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وسعها اعتراض بين المبتدأ وخبره للترغيب في اكتساب النعيم المقيم بما يسعه طاقتهم ويسهل عليهم. وقرئ «لا تكلف نفس» .
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي نخرج من قلوبهم أسباب الغل، أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التواد.
وعن على كرم الله وجهه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ زيادة في لذتهم وسرورهم. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا لما جزاؤه هذا. وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لولا هداية الله وتوفيقه، واللام لتوكيد النفي وجواب لَوْلاَ محذوف دل عليه ما قبله.
وقرأ ابن عامر «ما كنا» بغير واو على أنها مبينة للأولى. لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فاهتدينا بإرشادهم.
يقولون ذلك اغتباطاً وتبجحاً بأن ما علموه يقيناً في الدنيا صار لهم عين اليقين في الآخرة. وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ إذا رأوها من بعيد، أو بعد دخولها والمنادى له بالذات. أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي أعطيتموها بسبب أعمالكم، وهو حال من الجنة والعامل فيها معنى الإِشارة، أو خبر والجنة صفة تلكم وأن في المواقع الخمسة هي المخففة أو المفسرة لأن المناداة والتأذين من القول.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 45]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)(3/13)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا إنما قالوه تبجحاً بحالهم وشماتة بأصحاب النار وتحسيراً لهم، وإنما لم يقل ما وعدكم كما قال مَّا وَعَدَنا لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصاً وعده بهم، كالبعث والحساب ونعيم أهل الجنة. قالُوا نَعَمْ وقرأ الكسائي بكسر العين وهما لغتان. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قيل هو صاحب الصور. بَيْنَهُمْ بين الفريقين.
أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وقرأ ابن كثير في رواية للبزي وابن عامر وحمزة والكسائي أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ بالتشديد والنصب. وقرئ «إِن» بالكسر على إرادة القول أو إجراء أذن مجرى قال.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صفة للظالمين مقررة، أو ذم مرفوع أو منصوب. وَيَبْغُونَها عِوَجاً زيغاً وميلاً عما هو عليه، والعوج بالكسر في المعاني والأعيان ما لم تكن منتصبة، وبالفتح ما كان في المنتصبة، كالحائط والرمح. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 46 الى 47]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي بين الفريقين لقوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ أو بين الجنة والنار ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى. وَعَلَى الْأَعْرافِ وعلى أعراف الحجاب أي أعاليه، وهو السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه يكون لظهوره أعرف من غيره. رِجالٌ طائفة من الموحدين قصروا في العمل فيحبسون بين الجنة والنار حتى يقضي الله سبحانه وتعالى فيهم ما يشاء وقيل قوم علت درجاتهم كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو الشهداء رضي الله تعالى عنهم، أو خيار المؤمنين وعلمائهم، أو ملائكة يرون في صورة الرجال. يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة والنار. بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه وسواده، فعلى من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة، أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه، وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملائكة.
وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ حال من الواو على الوجه الأول ومن أصحاب على الوجوه الباقية.
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا نعوذ بالله. رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي في النار.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 48 الى 49]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ من رؤساء الكفرة. قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ كثرتكم أو جمعكم المال. وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن الحق، أو على الخلق. وقرئ «تستكثرون» من الكثرة.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ من تتمة قولهم للرجال، والإِشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ أي فالتفتوا إلى أصحاب الجنة وقالوا لهم ادخلوا وهو أوفق للوجوه الأخيرة، أو فقيل لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى بعد أن حبسوا حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما(3/14)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
قالوا. قيل لما عيروا أصحاب النار أقسموا أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله سبحانه وتعالى أو بعض الملائكة هؤلاء الذين أقسمتم. وقرئ «أَدْخِلُواْ» و «دخلوا» على الاستئناف وتقديره دخلوا الجنة مقولاً لهم لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 51]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أي صبوه، وهو دليل على أن الجنة فوق النار. أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من سائر الأشربة ليلائم الإِفاضة، أو من الطعام كقوله: علفتها تبنا وماء بارداً. قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ منعهما عنهم منع المحرم من المكلف.
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً كتحريم البحيرة والتصدية والمكاء حول البيت واللهو صرف الهم بما لا يحسن أن يصرف به، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به. وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ نفعل بهم فعل الناسين فنتركهم في النار. كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا فلم يخطروه ببالهم ولم يستعدوا له. وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وكما كانوا منكرين أنها من عند الله.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (53)
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة. عَلى عِلْمٍ عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيماً، وفِيه دليل على أنه سبحانه وتعالى عالم بعلم، أو مشتملاً على علم فيكون حالا من المفعول. وقرئ «فضلناه» أي على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك. هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ حال من الهاء.
هَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون. إِلَّا تَأْوِيلَهُ إلا ما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ تركوه ترك الناسي. قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي قد تبين أنهم جاءوا بالحق. فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا اليوم. أَوْ نُرَدُّ أو هل نرد إلى الدنيا. وقرئ بالنصب عطفاً على فَيَشْفَعُوا، أو لأن أَوْ بمعنى إلى أن، فعلى الأول المسؤول أحد الأمرين الشفاعة أو ردهم إلى الدنيا، وعلى الثاني أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين أو لأمر واحد وهو الرد. فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ جوابِ الاستفهام الثاني وقرئ بالرفع أي فنحن نعمل. قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم في الكفر. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ بطل عنهم فلم ينفعهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 54]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي في ستة أوقات كقوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أو في مقدار ستة أيام، فإن المتعارف باليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن حينئذ، وفي خلق(3/15)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
الأشياء مدرجاً مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استوى أمره أو استولى، وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله بلا كيف، والمعنى: أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن، والعرش الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه، أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير تنزل منه وقيل الملك. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يغطيه به ولم يذكر عكسه للعلم به، أو لأن اللفظ يحتملهما ولذلك قرئ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ بنصب اللَّيْلَ ورفع النَّهارَ. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بالتشديد فيه وفي «الرعد» للدلالة على التكرير. يَطْلُبُهُ حَثِيثاً يعقبه سريعاً كالطالب له لا يفصل بينهما شيء، والحثيث فعيل من الحث وهو صفة مصدر محذوف أو حال من الفاعل بمعنى حاثاً، أو المفعول بمعنى محثوثاً. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ بقضائه وتصريفه ونصبها بالعطف على السموات ونصب مسخرات على الحال. وقرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فإنه الموجد والمتصرف. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظم بالتفرد في الربوبية.
وتحقيق الآية والله سبحانه وتعالى أعلم، أن الكفرة كانوا متخذين أرباباً فبين لهم أن المستحق للربوبية واحد وهو الله سبحانه وتعالى، لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه سبحانه وتعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب كما أشار إليه بقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدلة والهيئات المختلفة، ثم قسمها بصور نوعية متضادة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله وخلق الأرض أي ما في جهة السفل في يومين، ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة بتركيب موادها أولاً وتصويرها ثانياً كما قال تعالى بعد قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي مع اليومين الأولين لقوله تعالى في سورة السجدة اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثم لما تم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة، فدبر الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالي والأيام، ثم صرح بما هو فذلكة التقرير ونتيجته فقال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ثم أمرهم بأن يدعوه متذللين مخلصين فقال:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي ذوي تضرع وخفية فإن الإخفاء دليل الإخلاص. إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره، نبه به على أن الداعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والصعود إلى السماء. وقيل هو الصياح في الدعاء والاسهاب فيه.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم، «سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» .
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والمعاصي. بَعْدَ إِصْلاحِها ببعث الأنبياء وشرع الأحكام. وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ذوي خوف من الرد لقصور آمالكم وعدم استحقاقكم، وطمع في إجابته تفضلاً وإحساناً لفرط رحمته إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ترجيح للطمع وتنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة، وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الرحم، أو لأنه صفة محذوف أي أمر قريب، أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو الذي هو مصدر كالنقيض، أو الفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره.(3/16)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
[سورة الأعراف (7) : آية 57]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» على الوحدة. نَشْراً جمع نشور بمعنى ناشر، وقرأ ابن عامر «نشراً» بالتخفيف حيث وقع وحمزة والكسائي «نشراً» بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات، أو مفعول مطلق فإن الإِرسال والنشر متقاربان. وعاصم بُشْراً وهو تخفيف بشر جمع بشير وقد قرئ به وبُشْراً بفتح الباء مصدر بشره بمعنى باشرات، أو للبشارة وبشرى. بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قدام رحمته، يعني المطر فإن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب؟؟؟؟؟
والدبور تفرقه. حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ أي حملت، واشتقاقه من القلة فإن المقل للشيء يستقله. سَحاباً ثِقالًا بالماء جمعه لأن السحاب جمع بمعنى السحائب. سُقْناهُ أي السحاب وإفراد الضمير باعتبار اللفظ. لِبَلَدٍ مَيِّتٍ لأجله أو لإحيائه أو لسقيه. وقرئ «ميت» . فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح وكذلك. فَأَخْرَجْنا بِهِ ويحتمل فيه عود الضمير إلى الْماءَ، وإذا كان ل لِبَلَدٍ فالباء للإلصاق في الأول وللظرفية في الثاني، وإذا كان لغيره فهي للسببية فيهما. مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من كل أنواعها. كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى الإشارة فيه إلى إخراج الثمرات، أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوة النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات، نخرج الموتى من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على هذا.
[سورة الأعراف (7) : آية 58]
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ الأرض الكريمة التربة. يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ بمشيئته وتيسيره، عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنه أوقعه في مقابلة. وَالَّذِي خَبُثَ أي كالحرة والسبخة. لاَ يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً قليلاً عديم النفع، ونصبه على الحال وتقدير الكلام، والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكداً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعاً مستترا وقرئ «يخرج» أي يخرجه البلد فيكون إِلَّا نَكِداً مفعولاً ونَكِداً على المصدر أي ذا نكد ونَكِداً بالإِسكان للتخفيف. كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نرددها ونكررها. لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة الله فيتفكرون فيها ويعتبرون بها، والآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها، ولمن لم يرفع إليها رأساً ولم يتأثر بها.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 60]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60)
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ جواب قسم محذوف، ولا تكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع، فإن المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها. ونوح بن لمك بن متوشلح بن إدريس أول نبي بعده، بعث وهو ابن خمسين سنة أو أربعين. فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي اعبدوه وحده لقوله تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وقرأ الكسائي «غيره» بالكسر نعتاً أو بدلاً على اللفظ حيث وقع إذا كان قبل إله من التي تخفض. وقرئ بالنصب على الاستثناء. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إن لم تؤمنوا، وهو وعيد وبيان للداعي إلى عبادته. واليوم يوم القيامة، أو يوم نزول الطوفان.
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أي الأَشراف فإنهم يملؤون العيون رواء. إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ زوال عن الحق.(3/17)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
مُبِينٍ بين.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 61 الى 62]
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62)
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أي شيء من الضلال، بالغ في النفي كما بالغوا في الإِثبات وعرض لهم به. وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ استدراك باعتبار ما يلزمه، وهو كونه على هدى كأنه قال: ولكني على هدى في الغاية لأني رسول من الله سبحانه وتعالى.
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ صفات لرسول أو استئناف، ومساقها على الوجهين لبيان كونه رسولاً. وقرأ أبو عمرو أُبَلِّغُكُمْ بالتخفيف وجمع الرسالات لاختلاف أوقاتها أو لتنوع معانيها كالعقائد والمواعظ والأحكام، أو لأن المراد بها ما أوحي إليه وإلى الأنبياء قبله، كصحف شيث وإدريس وزيادة اللام في لكم للدلالة على إمحاض النصح لهم، وفي أعلم من الله تقريراً لما أوعدهم به فإن معناه أعلم من قدرته وشدة بطشه، أو من جهته بالوحي أشياء لا علم لكم بها.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 63 الى 64]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)
أَوَعَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف أي أكذبتم وعجبتم. أَنْ جاءَكُمْ من أن جاءكم. ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ رسالة أو موعظة. عَلى رَجُلٍ على لسان رجل. مِنْكُمْ من جملتكم أو من جنسكم، فإنهم كانوا يتعجبون من إرسال البشر ويقولون لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ. لِيُنْذِرَكُمْ عاقبة الكفر والمعاصي. وَلِتَتَّقُوا منهما بسبب الإنذار. وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالتقوى، وفائدة حرف الترجي التنبيه على أن التقوى غير موجب والترحم من الله سبحانه وتعالى تفضل، وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله تعالى.
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ وهم من آمن به وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة. وقيل تسعة بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به. فِي الْفُلْكِ متعلق بمعه أو بأنجيناه، أو حال من الموصول أو من الضمير في معه. وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ عمي القلوب غير مستبصرين، وأصله عميين فخفف وقرئ «عامين» والأول أبلغ لدلالته على الثبات.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 66]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66)
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ عطف على نوحاً إلى قومه هُوداً عطف بيان لأخاهم والمراد به الواحد منهم، كقولهم يا أخا العرب للواحد منهم، فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقيل هود بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح، ابن عم أبي عاد، وإنما جعل منهم لأنهم أفهم لقوله وأعرف بحاله وأرغب في اقتفائه. قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استأنف به ولم يعطف كأنه جواب سائل قال: فما قال لهم حين أرسل؟ وكذلك جوابهم. أَفَلا تَتَّقُونَ عذاب الله، وكأن قومه كانوا أقرب من قوم نوح عليه الصلاة والسلام ولذلك قال أفلا تتقون قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إذ كان من أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد.(3/18)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ متمكناً في خفة عقل راسخاً فيها حيث فارقت دين قومك. وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 67 الى 69]
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ سبق تفسيره. وفي إجابة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإِعراض عن مقابلتهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة، وهكذا ينبغي لكل ناصح، وفي قوله: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين. وقرأ أبو عمرو أبلغكم في الموضعين في هذه السورة وفي «الأحقاف» مخففاً. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي في مساكنهم، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شجر عمان، خوفهم من عقاب الله ثم ذكرهم بإنعامه. وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً قامة وقوة. فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ تعميم بعد تخصيص. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي إلى الفلاح.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 70 الى 71]
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والأعراض عما أشرك به آباؤهم انهماكاً في التقليد وحباً لما ألفوه، ومعنى المجيء في أَجِئْتَنا إما المجيء من مكان اعتزل به عن قومه أو من السماء على التهكم، أو القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبني. فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المدلول عليه بقوله أَفَلا تَتَّقُونَ. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيه.
قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ قد وجب وحق عليكم، أو نزل عليكم على أن المتوقع كالواقع، مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ عذاب من الارتجاس وهو الاضطراب. وَغَضَبٌ إرادة انتقام. أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي في أشياء سميتموها آلهة وليس فيها معنى الإِلهية، لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل، وأنها لو استحقت كان استحقاقها بجعله تعالى إما بإنزال آية أو بنصب حجة، بين أن منتهى حجتهم وسندهم أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقق المسمى، وإسناد الاطلاق إلى من لا يؤبه بقوله إظهاراً لغاية جهالتهم وفرط غباوتهم، واستدل به على أن الاسم هو المسمى وأن اللغات توقيفية إذ لو لم يكن كذلك لم يتوجه الذم والإِبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل الله بها سلطاناً وضعفهما ظاهر. فَانْتَظِرُوا لما وضح الحق وأنتم مصرون على العناد نزول العذاب بكم. إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
[سورة الأعراف (7) : آية 72]
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ في الدين. بِرَحْمَةٍ مِنَّا عليهم. وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استأصلناهم. وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ تعريض بمن آمن منهم، وتنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين من هلك(3/19)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
هو الإِيمان.
روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم هوداً فكذبوه، وازدادوا عتواً فأمسك الله القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم، وكان الناس حينئذ مسلمهم ومشركهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرج، فجهزوا إليه
قيل بن عنز ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر، فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فلبثوا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له، فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحيا أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم فعلم القينتين:
أَلاَ يَا قِيلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِم ... لَعَلَّ الله يُسْقِينَا الغَمَامَا
فَيُسْقِي أَرْضَ عَادٍ إن عَادا ... قَد امْسوا مَا يُبينُونَ الكَلاَما
حتى غنتا به، فأزعجهم ذلك فقال مرثد: والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سبحانه وتعالى سقيتم، فقالوا لمعاوية: احبسه عنا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا، ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء يا قيل: اختر لنفسك ولقومك. فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من وادي المغيث فاستبشروا بها وقالوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة وعبدوا الله سبحانه وتعالى فيها حتى ماتوا.
[سورة الأعراف (7) : آية 73]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)
وَإِلى ثَمُودَ قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح.
وقيل سموا به لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل. وقرئ مصروفاً بتأويل الحي أو باعتبار الأصل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. أَخاهُمْ صالِحاً صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي وقوله: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً استئناف لبيانها، وآية نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة، ولكم بيان لمن هي له آية، ويجوز أن تكون ناقَةُ اللَّهِ بدلاً أو عطف بيان ولكم خبراً عاملاً في آيَةً، وإضافة الناقة إلى الله لتعظيمها ولأنها جاءت من عنده بلا وسائط وأسباب معهودة ولذلك كانت آية. فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ العشب. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغة في الأمر وإزاحة للعذر. فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جواب للنهي.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 74 الى 75]
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أرض الحجر. تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تبنون في سهولها، أو من سهولة الأرض بما تعملون منها كاللبن والآجر. وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ(3/20)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
بُيُوتاً
وقرئ «تنحتون» بالفتح وتنحاتون بالإِشباع، وانتصاب بُيُوتاً على الحال المقدرة أو المفعول على أن التقدير بيوتاً من الجبال، أو تنحتون بمعنى تتخذون فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي عن الإِيمان. لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي للذين استضعفوهم واستذلوهم. لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الذين استضعفوا بدل الكل إن كان الضمير لقومه وبدل البعض إن كان للذين. وقرأ ابن عامر وقال الملأ بالواو. أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالوه على الاستهزاء. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ عدلوا به عن الجواب السوي الذي هو نعم تنبيهاً على أن إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل ويخفى على ذوي رأي، وإنما الكلام فيمن آمن به ومن كفر فلذلك قال:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 76 الى 77]
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على وجه المقابلة، ووضعوا آمَنْتُمْ بِهِ موضع أُرْسِلَ بِهِ رداً لما جعلوه معلوماً مسلماً.
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ فنحروها. أسند إلى جميعهم فعل بعضهم للملابسة، أو لأنه كان برضاهم. وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ واستكبروا عن امتثاله، وهو ما بلغهم صالح عليه الصلاة والسلام بقوله: فَذَرُوها. وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 78 الى 79]
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة. فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ خامدين ميتين.
روي: أنهم بعد عاد عمروا بلادهم وخلفوهم وكثروا، وعمروا أعماراً طوالاً لا تفي بها الأبنية، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في خصب وسعة فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحاً من أشرافهم فأنذرهم، فسألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا: اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فمن استجيب له اتبع، فخرج معهم فدعوا أصنامهم فلم تجبهم، ثم أشار سيدهم جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة يقال لها الكاثبة وقال: له أخرج من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء فإن فعلت صدقناك، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن فقالوا: نعم، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا وهم ينظرون، ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع في جماعة، ومنع الباقين من الإِيمان ذؤاب بن عمرو والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صغر كاهنهم، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غباً فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها، ثم تتفحج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون ويدخرون وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار، فعقروها واقتسموا لحمها، فرقي سقبها جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثاً فقال صالح لهم ادركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه إذ انفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح: تصبح وجوهكم غداً مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة، ثم يصبحكم العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين، ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.(3/21)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لاَ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ظاهره أن توليه عنهم كان بعد أن أبصرهم جاثمين، ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم كما
خاطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل قليب بدر وقال: «إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا» .
أو ذكر ذلك على سبيل التحسر عليهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 81]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
وَلُوطاً أي وأرسلنا لوطاً. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وقت قوله لهم أو واذكر لوطاً وإذ بدل منه. أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح. مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ما فعلها قبلكم أحد قط. والباء للتعدية ومن الأولى لتأكيد النفي والاستغراق، والثانية للتبعيض. والجملة استئناف مقرر للإِنكار كأنه وبخهم أولاً بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ.
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بيان لقوله: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وهو أبلغ في الإِنكار والتوبيخ، وقرأ نافع وحفص «إنكم» على الإِخبار المستأنف، وشهوة مفعول له أو مصدر في موقع الحال وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة، وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع، لا قضاء الوطر. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ إضراب عن الإِنكار إلى الإِخبار عن حالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها وهي اعتياد الإِسراف في كل شيء، أو عن الإِنكار عليها إلى الذم على جميع معايبهم، أو عن محذوف مثل لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإِسراف.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 82 الى 84]
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي ما جاءوا بما يكون جواباً عن كلامه، ولكنهم قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه فيمن معه من المؤمنين من قريتهم والاستهزاء بهم فقالوا: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي من الفواحش.
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي من آمن به. إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر. كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا والتذكير لتغليب الذكور.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي نوعاً من المطر عجيباً وهو مبين بقوله: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
روي: أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى الشام نزل بالأردن، فأرسله الله إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى الله وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة، فلم ينتهوا عنها فأمطر الله عليهم الحجارة فهلكوا.
وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 85]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أي وأرسلنا إليهم، وهم أولاد مدين بن إبراهيم خليل الله شعيب بن ميكائيل(3/22)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
ابن يسجر بن مدين، وكان يقال له خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لحسن مراجعته قومه. قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يريد المعجزة التي كانت له وليس في القرآن أنها ما هي، وما روي من محاربة عصا موسى عليه الصلاة والسلام التنين وولادة الغنم التي دفعها إليه الدرع خاصة وكانت الموعودة له من أولادها، ووقوع عصا آدم على يده في المرات السبع متأخرة عن هذه المقاولة، ويحتمل أن تكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصاً لنبوته. فَأَوْفُوا الْكَيْلَ أي آلة الكيل على الإِضمار، أو إطلاق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش لقوله: وَالْمِيزانَ كما قال في سورة «هود» أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أو الكيل ووزن الميزان، ويجوز أن يكون الميزان مصدراً كالميعاد. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ولا تنقصوهم حقوقهم، وإنما قال أشياءهم للتعميم تنبيهاً على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير. وقيل كانوا مكاسبين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والحيف.
بَعْدَ إِصْلاحِها بعد ما أصلح أمرها أو أهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع، أو أصلحوا فيها والإِضافة إليها كالإِضافة في بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه، ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقاً أو في الإِنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 86 الى 87]
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ بكل طريق من طرق الدين كالشيطان، وصراط الحق وإن كان واحداً لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام، وكانوا إذا رأوا أحداً يسعى فى شيء منها منعوه. وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيباً إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك ويوعدون لمن آمن به. وقيل كانوا يقطعون الطريق. وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني الذي قعدوا عليه فوضع الظاهر موضع المضمر بياناً لكل صراط، ودلالة على عظم ما يصدون عنه وتقبيحاً لما كانوا عليه أو الإيمان بالله. مَنْ آمَنَ بِهِ أي بالله، أو بكل صراط على الأول، ومن مفعول تصدون على إعمال الأقرب ولو كان مفعول توعدون لقال وتصدونهم وتوعدون بما عطف عليه في موقع الحال من الضمير في تقعدوا. وَتَبْغُونَها عِوَجاً وتطلبون لسبيل الله عوجاً بإلقاء الشبه، أو وصفها للناس بأنها معوجة. وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عَدَدَكُمْ أو عُدَدَكُمْ. فَكَثَّرَكُمْ بالبركة في النسل أو المال. وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الأمم قبلكم فاعتبروا بهم.
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا فتربصوا. حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أي بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين. وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 89]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا(3/23)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
أي ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم من القرية أو عودكم في الكفر، وشعيب عليه الصلاة والسلام لم يكن في ملتهم قط لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر مطلقاً، لكن غلبوا الجماعة على الواحد فخوطب هو وقومه بخطابهم، وعلى ذلك أجرى الجواب في قوله. قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها، أو أتعيدوننا في حال كراهتنا.
قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً قد اختلقنا عليه. إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها شرط جوابه محذوف دليله: قَدِ افْتَرَيْنا وهو بمعنى المستقبل لأنه لم يقع لكنه جعل كالواقع للمبالغة، وأدخل عليه قد لتقريبه من الحال أي قد افترينا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها حيث نزعم أن لله تعالى نداً، وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه باطل وما أنتم عليه حق. وقيل إنه جواب قسم وتقديره: والله لقد افترينا. وَما يَكُونُ لَنا وما يصح لنا. أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا خذلاننا وارتدادنا، وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة الله. وقيل أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون. وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم. عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أن يثبتنا على الإِيمان ويخلصنا من الأشرار. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ احكم بيننا وبينهم، والفتاح القاضي، والفتاحة الحكومة. أو أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه. وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ على المعنيين.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 90 الى 91]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً وتركتم دينكم. إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ لاستبدالكم ضلالته بهداكم، أو لفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف وهو ساد مسد جواب الشرط والقسم الموطأ باللام.
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة وفي سورة «الحجر» فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ولعلها كانت من مباديها.
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ أي في مدينتهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 92 الى 93]
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً مبتدأ خبره كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي استؤصلوا كأن لم يقيموا بها والمغنى المنزل. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ ديناً ودنيا لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا، فإنهم الرابحون في الدارين. وللتنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول واستأنف بالجملتين وأتى بهما اسميتين.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ قاله تأسفاً بهم لشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفسه فقال: فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم، أو قاله اعتذاراً عن عدم شدة حزنه عليهم. والمعنى لقد بالغت في الإبلاغ والإِنذار وبذلت وسعي في النصح والإِشفاق فلم تصدقوا قولي، فكيف آسى عليكم. وقرئ «فكيف أيسي» بإمالتين.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 95]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95)(3/24)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ بالبؤس والضر. لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ حتى يتضرعوا ويتذللوا.
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدة السلامة والسعة ابتلاء لهم بالأمرين. حَتَّى عَفَوْا كثروا عَدَداً وعُدَداً يقال عفا النبات إذا كثر ومنه إعفاء اللحى. وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ كفراناً لنعمة الله ونسياناً لذكره واعتقاداً بأنه من عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء وقد مس آباءنا منه مثل ما مسنا. فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فجأة. وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بنزول العذاب.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 96 الى 97]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى يعني القرى المدلول عليها بقوله: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ وقيل مكة وما حولها. آمَنُوا وَاتَّقَوْا مكان كفرهم وعصيانهم. لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب وقيل المراد المطر والنبات. وقرأ ابن عامر لَفَتَحْنا بالتشديد. وَلكِنْ كَذَّبُوا الرسل. فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى عطف على قوله: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وما بينهما اعتراض والمعنى:
أبعد ذلك أمن أهل القرى. أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً تبييتاً أو وقت بيات أو مبيتاً أو مبيتين، وهو في الأصل مصدر بمعنى البيتوتة ويجيء بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم. وَهُمْ نائِمُونَ حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 98 الى 99]
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر أَوْ بالسكون على الترديد. أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى ضحوة النهار، وهو في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت: وَهُمْ يَلْعَبُونَ يلهون من فرط الغفلة، أو يشتغلون بما لا ينفعهم.
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ تكرير لقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ومَكْرَ اللَّهِ استعارة لاستدراج العبد وأخذه مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ. فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا بالكفر وترك النظر والاعتبار.
[سورة الأعراف (7) : آية 100]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي يخلفون من خلا قبلهم ويرثون ديارهم، وإنما عدي يهد باللام لأنه بمعنى يبين. أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أن الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم، وهو فاعل يهد ومن قرأه بالنون جعله مفعولاً. وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ عطف على ما دل عليه، أو لم يهد أي يغفلون عن الهداية أو منقطع عنه بمعنى ونحن نطبع، ولا يجوز عطفه على أصبناهم على(3/25)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
أنه بمعنى وطبعنا لأنه في سياقه جواب لو لإفضائه إلى نفي الطبع عنهم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ سماع تفهم واعتبار.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 101 الى 102]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
تِلْكَ الْقُرى يعني قرى الأمم المار ذكرهم. نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها حال إن جعل الْقُرى خبراً وتكون إفادته بالتقييد بها، وخبر إن جعلت صفة ويجوز أن يكونا خبرين ومِنْ للتبعيض أي نقص بعض أنبائها، ولها أنباء غيرها لا نقصها. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات. فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيئهم بها. بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ بما كذبوه من قبل الرسل بل كانوا مستمرين على التكذيب، أو فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولاً حين جاءتهم الرسل، ولم تؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم ما صلحوا للإِيمان لمنافاته لحالهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر. وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ لأكثر الناس، والآية اعتراض أو لأكثر الأمم المذكورين. مِنْ عَهْدٍ من وفاء عهد، فإن أكثرهم نقضوا ما عهد الله إليهم في الإِيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج، أو ما عهدوا إليه حين كانوا في ضر ومخافة مثل لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ أي علمناهم.
لَفاسِقِينَ من وجدت زيدا ذا الحفاظ لدخول أن المخففة واللام الفارقة، وذلك لا يسوغ إلا في المبتدأ والخبر والأفعال الداخلة عليهما، وعند الكوفيين إن للنفي واللام بمعنى إلا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 105]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105)
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى الضمير للرسل في قوله: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ أو للأمم. بِآياتِنا يعني المعجزات. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها بأن كفروا بها مكان الإِيمان الذي هو من حقها لوضوحها، ولهذا المعنى وضع ظلموا موضع كفروا. وفرعون لقب لمن ملك مصر ككسرى لمن ملك فارس وكان اسمه قابوس، وقيل الوليد بن مصعب بن الريان. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.
وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إليك، وقوله: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ لعله جواب لتكذيبه إياه في دعوى الرسالة، وإنما لم يذكر لدلالة قوله فَظَلَمُوا بِها عليه وكان أصله حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ كما قرأ نافع فقلب لأمن الإِلباس كقوله: وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر. أو لأن ما لزمك فقد لزمته، أو للإغراق في الوصف بالصدق، والمعنى أنه حق واجب على القول الحق أن أكون أنا قائله لا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به، أو ضمن حقيق معنى حريص، أو وضع على مكان الباء لإفادة التمكن كقولهم: رميت على القوس وجئت على حال حسنة، ويؤيده قراءة أبي بالباء. وقرئ «حقيق أن لا أقول» بدون على. قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ فخلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم، وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال.(3/26)
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 106 الى 108]
قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ من عند من أرسلك. فَأْتِ بِها فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في الدعوى.
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان وهو الحية العظيمة.
روي: أنه لما ألقاها صارت ثعباناً أشعر فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر. ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً، وصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذه فعاد عصا.
وَنَزَعَ يَدَهُ من جيبه أو من تحت إبطه. فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي بيضاء بياضاً خارجاً عن العادة تجتمع عليها النظارة، أو بيضاء للنظار لا أنها كانت بيضاء في جبلتها.
روي: أنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة، فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ثم نزعها فإذا هي بيضاء نورانية غلب شعاعها شعاع الشمس.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 109 الى 112]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ قيل قاله هو وأشراف قومه على سبيل التشاور في أمره، فحكى عنه في سورة الشعراء وعنهم ها هنا.
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ تشيرون في أن نفعل.
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ.
يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ كأنه اتفقت عليه آراؤهم فأشاروا به على فرعون، والإِرجاء التأخير أي أخر أمره، وأصله أرجئه كما قرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب من أرجأت، وكذلك «أرجئهوه» على قراءة ابن كثير على الأصل في الضمير، أو أرجهي من أرجيت كما قرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي، وأما قراءته في رواية قالون أَرْجِهْ بحذف الياء فللاكتفاء بالكسرة عنها، وأما قراءة حمزة وعاصم وحفص أَرْجِهْ بسكون الهاء فلتشبيه المنفصل بالمتصل وجعل أَرْجِهْ كابل في إسكان وسطه وأما قراءة ابن عامر برواية ابن ذكوان «أرجئه» بالهمزة وكسر الهاء فلا يرتضيه النحاة فإن الهاء لا تكسر إلا إذا كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة، ووجهه أن الهمزة لما كانت تقلب ياء أجريت مجراها. وقرأ حمزة والكسائي «بكل سحار» فيه وفي «يونس» ويؤيده اتفاقهم عليه في «الشعراء» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 113 الى 114]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل الشرطة في طلبهم. قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ استأنف به كأنه جواب سائل قال: ما قالوا إذ جاءوا؟ وقرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم إِنَّ لَنا لَأَجْراً على الإِخبار وإيجاب الأجر كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم.
قالَ نَعَمْ إن لكم لأجراً. وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على ما سد مسده نَعَمْ وزيادة على(3/27)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
الجواب لتحريضهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 115 الى 116]
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ خيروا موسى مراعاة للأدب أو إظهاراً للجلادة، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله فنبهوا عليها بتغيير النظم إلى ما هو أبلغ وتعريف الخبر وتوسيط الفصل أو تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل فلذلك:
قالَ بَلْ أَلْقُوا كرماً وتسامحاً، أو ازدراء بهم ووثوقاً على شأنه. فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه. وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وأرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم طلبوا رهبتهم. وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في فنه.
روي أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً كأنها حيات ملأت الوادي، وركب بعضها بعضا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 119]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119)
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها فصارت حية. فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ أي ما يزورونه من الإِفك، وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه، ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول.
روي: أنها لما تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم، ثم أخذها موسى فصارت عصاً كما كانت فقال السحرة: لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا.
وقرأ حفص عن عاصم تَلْقَفُ هاهنا وفي «طه» و «الشعراء» .
فَوَقَعَ الْحَقُّ فثبت لظهور أمره. وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر والمعارضة.
فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي صاروا أذلاء مبهوتين، أو رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين، والضمير لفرعون وقومه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 120 الى 122]
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ جعلهم ملقين على وجوههم تنبيهاً على أن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك، أو أن الله ألهمهم ذلك وحملهم عليه حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى وينقلب الأمر عليه، أو مبالغة في سرعة خرورهم وشدته.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ.
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 124]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ بالله أو بموسى، والاستفهام فيه للإِنكار. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب وهشام بتحقيق الهمزتين على الأصل. وقرأ حفص آمَنْتُمْ بِهِ على الإِخبار، وقرأ قنبل قالَ فِرْعَوْنُ، و «آمنتم» يبدل في حال الوصل من همزة الاستفهام واوا مفتوحة ويمد بعدها مدة في تقدير ألفين وقرأ في طه على الخبر بهمزة وألف وقرأ في الشعراء على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة في تقدير(3/28)
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
ألفين، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزة الأولى وتليين الثانية. قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ أي إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى. فِي الْمَدِينَةِ في مصر قبل أن تخرجوا للميعاد. لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها يعنى القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلتم، وهو تهديد مجمل تفصيله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ من كل شق طرفاً. ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ تفضيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم. قيل إنه أول من سن ذلك فشرعه الله للقطاع تعظيما لجرمهم ولذلك سماه محاربة لله ورسوله، ولكن على التعاقب لفرط رحمته.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 125 الى 126]
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالموت لا محالة فلا نبالي بوعيدك، أو إنا منقلبون إلى ربنا وثوابه إن فعلت بنا ذلك، كأنهم استطابوه شغفاً على لقاء الله، أو مصيرنا ومصيرك إلى ربنا فيحكم بيننا.
وَما تَنْقِمُ مِنَّا وما تنكر منا. إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا وهو خير الأعمال وأصل المناقب ليس مما يتأتى لنا العدول عنه طلباً لمرضاتك، ثم فزعوا إلى الله سبحانه وتعالى فقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أفض علينا صبراً يغمرنا كما يفرغ الماء، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون. وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإِسلام. قيل إنه فعل بهم ما أوعدهم به. وقيل إنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ.
[سورة الأعراف (7) : آية 127]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتغيير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك. وَيَذَرَكَ عطف على يفسدوا، أو جواب الاستفهام بالواو كقول الحطيئة:
أَلَمْ أَكُ جَارَكُم وَيَكُونُ بَيْني ... وَبَيْنَكُمْ المَوَدَّةُ وَالإِخَاءُ
على معنى أيكون منك ترك موسى ويكون منه تركه إياك. وقرئ بالرفع على أنه عطف على أنذر أو استئناف أو حال. وقرئ بالسكون كأنه قيل: يفسدوا ويذرك كقوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ، وَآلِهَتَكَ معبوداتك قيل كان يعبد الكواكب. وقيل صنع لقومه أصناماً وأمرهم أن يعبدوها تقرباً إليه ولذلك قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وقرئ «إلا هتك» أي عبادتك. قالَ فرعون سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده. وقرأ ابن كثير ونافع سَنُقَتِّلُ بالتخفيف. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 128 الى 129]
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا لما سمعوا قول فرعون وتضجروا منه تسكيناً لهم إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ تسلية لهم وتقرير للأمر بالاستعانة بالله والتثبت في الأمر. وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(3/29)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
وعد لهم بالنصرة وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له. وقرئ «والعاقبة» بالنصب عطف على اسم إن واللام في الْأَرْضَ تحتمل العهد والجنس.
قالُوا أي بنو إسرائيل. أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة بقتل الأبناء وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا بإعادته.
قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ تصريحا بما كنى عنه أولاً لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك، ولعله أتى بفعل الطمع لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم.
وقد روي أن مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام
فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيرى ما تعملون من شكر وكفران وطاعة وعصيان فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 131]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131)
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ بالجدوب لقلة الأمطار والمياه، والسنة غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه ويؤرخ به، ثم اشتق منها فقيل أسنت القوم إذا قحطوا. وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة العاهات.
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لكي يتنبهوا على أن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم فيتعظوا، أو ترق قلوبهم بالشدائد فيفزعوا إلى الله ويرغبوا فيما عنده.
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ من الخصب والسعة. قالُوا لَنا هذِهِ لأجلنا ونحن مستحقوها. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ جدب وبلاء. يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ يتشاءموا بهم ويقولوا: ما أصابتنا إلا بشؤمهم، وهذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة، فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات، وهم لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتواً وانهماكاً في الغي، وإنما عرف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها، وتعلق الإرادة بإحداثها بالذات، ونكر السيئة وأتى بها مع حرف الشك لندورها وعدم القصد لها إلا بالتبع. أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي سبب خيرهم وشرهم عنده وهو حكمه ومشيئته، أو سبب شؤمهم عند الله وهو أعمالهم المكتوبة عنده، فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم. وقرئ «إنما طيرهم» وهو اسم الجمع وقيل هو جمع. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أن ما يصيبهم من الله تعالى أو من شؤم أعمالهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 132 الى 133]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)
وَقالُوا مَهْما أصلها ما الشرطية ضمت إليها ما المزيدة للتأكيد، ثم قلبت ألفها هاء استثقالاً للتكرير.
وقيل مركبة من مه الذي يصوت به الكاف وما الجزائية ومحلها الرفع على الابتداء أو النصب بفعل يفسره.
تَأْتِنا بِهِ أي أيما شيء تحضرنا تأتنا به. مِنْ آيَةٍ بيان لمهما، وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم ولذلك قالوا: لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي لتسحر بها أعيننا وتشبه علينا، والضمير في به وبها لمهما ذكره قبل التبيين باعتبار اللفظ وأنثه بعده باعتبار المعنى.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ماء طاف بهم وغشي أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل. وقيل الجدري، وقيل الموتان وقيل الطاعون. وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ قيل هو كبار القردان، وقيل أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها.
وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ
روي: أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يقدر أحد أن يخرج من بيته، ودخل(3/30)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم، وكانت بيوت بني إسرائيل مشتبكة ببيوتهم فلم يدخل فيها قطرة، وركد على أراضيهم فمنعهم من الحرث والتصرف فيها، ودام ذلك عليهم أسبوعاً فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا فكشف عنهم ونبت لهم من الكلأ والزرع ما لم يعهد مثله ولم يؤمنوا، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زروعهم وثمارهم، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب ففزعوا إليه ثانياً فدعا وخرج إلى الصحراء، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها فلم يؤمنوا، فسلط الله عليهم القمل فأكل ما أبقاه الجراد وكان يقع في أطعمتهم ويدخل بين أثوابهم وجلودهم فيمصها، ففزعوا إليه فرفع عنهم فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوب ولا طعام إلا وجدت فيه، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم وتثب إلى قدورهم وهي تغلي، وأفواههم عند التكلم ففزعوا إليه وتضرعوا، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ثم نقضوا العهود، ثم أرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دماً حتى كان يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على إناء فيكون ما يلي القبطي دماً وما يلي الإسرائيلي ماء، ويمص الماء من فم الإِسرائيلي فيصير دماً في فيه.
وقيل سلط الله عليهم الرعاف. آياتٍ نصب على الحال. مُفَصَّلاتٍ مبينات لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته عليهم، أو مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل اثنتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة أسبوعاً، وقيل إن موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل. فَاسْتَكْبَرُوا عن الإِيمان. وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 135]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ يعني العذاب المفصل، أو الطاعون الذي أرسله الله عليهم بعد ذلك. قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بعهده عندك وهو النبوة، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك، وهو صلة لادع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع الله متوسلاً إليه بما عهد عندك، أو متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل اسعفنا إلى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك أو قسم مجاب بقوله: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن ولنرسلن.
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إلى حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون فيه أو مهلكون، وهو وقت الغرق أو الموت. وقيل إلى أجل عينوه لإِيمانهم. إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب لما أي فلما كشفنا عنهم فاجؤوا النكث من غير تأمل وتوقف فيه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 136 الى 137]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فأردنا الانتقام منهم. فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل لجته.
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها. وقيل الضمير للنقمة المدلول عليها بقوله: فَانْتَقَمْنا.(3/31)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالاستعباد وذبح الأبناء من مستضعفيهم. مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا يعني أرض الشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا في نواحيها. الَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة العيش. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ومضت عليهم واتصلت بالانجاز عدته إياهم بالنصرة والتمكين وهو قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ إلى قوله: ما كانُوا يَحْذَرُونَ وقرئ «كلمات ربك» لتعدد المواعيد بِما صَبَرُوا بسبب صبرهم على الشدائد. وَدَمَّرْنا وخربنا. مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من القصور والعمارات. وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من الجنات أو ما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان وقرأ ابن عامر وأبو بكر هنا وفي «النحل» يَعْرِشُونَ بالضم. وهذا آخر قصة فرعون وقومه.
[سورة الأعراف (7) : آية 138]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
وقوله: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ وَمَا بعده ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن مَنَّ الله عليهم بالنعم الجسام، وأراهم من الآيات العظام تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما رأى منهم، وإيقاظاً للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم.
روي: أن موسى عليه السلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكراً.
فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ فمروا عليهم. يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ يقيمون على عبادتها، قيل كانت تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل، والقوم كانوا من العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم. وقيل من لخم، وقرأ حمزة والكسائي يَعْكُفُونَ بالكسر. قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً مثالاً نعبده. كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها، وما كافة للكاف. قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصفهم بالجهل المطلق وأكده لبعد ما صدر عنهم بعد ما رأوا من الآيات الكبرى عن العقل.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 139 الى 140]
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140)
إِنَّ هؤُلاءِ إشارة إلى القوم. مُتَبَّرٌ مكسر مدمر. مَّا هُمْ فِيهِ يعني أن الله يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضاً وَباطِلٌ مضمحل. مَا كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى، وإنما بالغ في هذا الكلام بإيقاع هؤُلاءِ اسم إِنَّ والإِخبار عما هم فيه بالتبار وعما فعلوا بالبطلان، وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبراً لأن للتنبيه على أن الدمار لاحق لما هم فيه لا محالة، وأن الإِحباط الكلي لازب لما مضى عنهم تنفيراً وتحذيراً عما طلبوا.
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً أطلب لكم معبوداً. وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ والحال أنه خصكم بنعم لم يعطها غيركم، وفيه تنبيه على سوء معاملتهم حيث قابلوا تخصيص الله إياهم من أمثالهم لما لم يستحقوه تفضلاً بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 141 الى 142]
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ واذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت. وقرأ ابن عامر «أنجاكم» .
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ استئناف لبيان ما أنجاهم منه، أو حال من المخاطبين، أو من آل فرعون أو منهما.(3/32)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ بدل منه مبين. وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وفي الإِنجاء أو العذاب نعمة أو محنة عظيمة.
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً ذا القعدة، وقرأ أبو عمرو ويعقوب «ووعدنا» . وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذي الحجة. فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بالغاً أربعين.
روي: أنه عليه السلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره الله بصوم ثلاثين، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشراً.
وقيل أمره بأن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها. وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي كن خليفتي فيهم. وَأَصْلِحْ ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحاً. وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ولا تتبع من سلك الإِفساد ولا تطع من دعاك إليه.
[سورة الأعراف (7) : آية 143]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا لوقتنا الذي وقتناه، واللام للاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا. وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير وسيط كما يكلم الملائكة، وفيما
روي: أن موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين.
قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك، أو تتجلى لي فأنظر إليك وأراك. وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصاً ما يقتضي الجهل بالله ولذلك رده بقوله تعالى:
لَنْ تَرانِي دون لن أرى أو لن أريك أو لن تنظر إليَّ، تنبيهاً على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي لم يوجد فيه بعد، وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً ولا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإِخبار عن عدم رؤيته إياه على أن لا يراه أبداً وأن لا يراه غيره أصلاً فضلاً عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورة فيه مكابرة أو جهالة بحقيقة الرؤية. قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه، وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضاً دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن، والجبل قيل هو جبل زبير. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره. وقيل أعطى له حياة ورؤية حتى رآه. جَعَلَهُ دَكًّا مدكوكاً مفتتاً والدك والدق أخوان كالشك والشق، وقرأ حمزة والكسائي «دكاء» أي أرضاً مستوية ومنه ناقة دكاء التي لا سنام لها. وقرئ دَكًّا أي قطعاً جمع دكاء. وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً مغشياً عليه من هول ما رأى. فَلَمَّا أَفاقَ قالَ تعظيماً لما رأى. سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من الجراءة والإِقدام على السؤال من غير إذن. وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ مر تفسيره. وقيل معناه أنا أول من آمن بأنك لا ترى في الدنيا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 145]
قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)(3/33)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ اخترتك. عَلَى النَّاسِ أي الموجودين في زمانك، وهارون وإن كان نبياً كان مأموراً باتباعه ولم يكن كليماً ولا صاحب شرع. بِرِسالاتِي يعني أسفار التوراة وقرأ ابن كثير ونافع «برسالتي» . وَبِكَلامِي وبتكليمي إياك. فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أعطيتك من الرسالة. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على النعمة فيه. روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة، وإعطاء التوراة كان يوم النحر.
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مما يحتاجون إليه من أمر الدين. مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ بدل من الجار والمجرور، أي وكتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام. واختلف في أن الألواح كانت عشرة أو سبعة، وكانت من زمرد أو زبرجد، أو ياقوت أحمر أو صخرة صماء لينها الله لموسى فقطعها بيده وسقفها بأصابعه وكان فيها التوراة أو غيرها. فَخُذْها على إضمار القول عطفاً على كتبنا أو بدل من قوله: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ والهاء للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو للرسالات. بِقُوَّةٍ بجد وعزيمة.
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي بأحسن ما فيها كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار، والاقتصاص على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. أو بواجباتها فإن الواجب أحسن من غيره، ويجوز أن يراد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقاً لا بالإضافة، وهو المأمور به كقولهم الصيف أحر من الشتاء. سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها، أو منازل عاد وثمود وأضرابهم لتعتبروا فلا تفسقوا، أو دارهم في الآخرة وهي جهنم. وقرئ «سأوريكم» بمعنى سأبين لكم من أوريت الزند و «سأورثكم» ، ويؤيده قوله: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (147)
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ المنصوبة في الآفاق والأنفس. الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وقيل سأصرفهم عن ابطالها وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه بإعلائها أو بإهلاكهم. بِغَيْرِ الْحَقِّ صلة يتكبرون أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل، أو حال من فاعله. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ منزلَة أو معجزة. لاَّ يُؤْمِنُوا بِها لعنادهم واختلال عقولهم بسبب انهماكهم في الهوى والتقليد وهو يؤيد الوجه الأول. وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لاستيلاء الشيطنة عليهم.
وقرأ حمزة والكسائي الرُّشْدِ بفتحتين وقرئ «الرشاد» وثلاثتها لغات كالسقم والسقم والسقام، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم للآيات، ويجوز أن ينصب ذلك على المصدر أي سأصرف ذلك الصرف بسببهما.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي ولقائهم الدار الآخرة، أو ما وعد الله في الدار الآخرة.
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لا ينتفعون بها. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ إلا جزاء أعمالهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 149]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ من بعد ذهابه للميقات. مِنْ حُلِيِّهِمْ التي استعاروا من القبط حين هموا(3/34)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
بالخروج من مصر، وإضافتها إليهم لأنها كانت في أيديهم أو ملكوها بعد هلاكهم. وهو جمع حلي كثدي وثدي. وقرأ حمزة والكسائي بالكسر بالاتباع كدلي ويعقوب على الإِفراد. عِجْلًا جَسَداً بدنا ذا لحم ودم، أو جسداً من الذهب خالياً من الروح ونصبه على البدل. لَهُ خُوارٌ صوت البقر.
روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل فصار حياً.
وقيل صاغه بنوع من الحيل فتدخل الريح جوفه وتصوت، وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأن المراد اتخاذهم إياه إلهاً. وقرئ «جوار» أي صياح. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر، والمعنى ألم يروا حين اتخذوه إلهاً أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر. اتَّخَذُوهُ تكرير للذم أي اتخذوه إلهاً. وَكانُوا ظالِمِينَ واضعين الأشياء في غير مواضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم.
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ كناية عن اشتداد ندمهم فإن النادم المتحسر يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها. وقرئ «سُقِطَ» على بناء الفعل للفاعل بمعنى وقع العض فيها. وقيل معناه سقط الندم في أنفسهم.
وَرَأَوْا وعلموا. أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا باتخاذ العجل. قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بإنزال التوراة. وَيَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن الخطيئة. لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وقرأهما حمزة والكسائي بالتاء ورَبُّنا على النداء.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 150 الى 151]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً شديد الغضب وقيل حزيناً. قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي فعلتم بعدي حيث عبدتم العجل، والخطاب للعبدة أو أقمتم مقامي فلم تكفوا العبدة والخطاب لهارون والمؤمنين معه، وما نكرة موصوفة تفسر المستكن في بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم، ومعنى من بعدي من بعد انطلاقي، أو من بعد ما رأيتم مني من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه. أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أتركتموه غير تام، كأنه ضمن عجل معنى سبق فعدى تعديته، أو أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وَأَلْقَى الْأَلْواحَ طرحها من شدة الغضب وفرط الضجر حمية للدين.
روي: أن التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفع ستة أسباعها وكان فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع كان فيه المواعظ والأحكام.
وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ بشعر رأسه. يَجُرُّهُ إِلَيْهِ توهماً بأنه قصر في كفهم، وهارون كان أكبر منه بثلاث سنين وكان حمولاً ليناً ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل. قالَ ابْنَ أُمَّ ذكر الأم ليرققه عليه وكانا من أب وأم. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم هنا وفي «طه» «يا ابن أم» بالكسر وأصله يا ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفاً كالمنادى المضاف إلى الياء، والباقون بالفتح زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيهاً بخمسة عشر. إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي إزاحة لتوهم التقصير في حقه، والمعنى بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي. فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله. وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ معدوداً في عدادهم بالمؤاخذة أو نسبة التقصير.
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي بما صنعت بأخي. وَلِأَخِي إن فرط في كفهم ضمه إلى نفسه في الاستغفار(3/35)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
ترضية له ودفعاً للشماتة عنه. وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ بمزيد الإِنعام علينا. وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 152 الى 153]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وهو ما أمرهم به من قتل أنفسهم. وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهي خروجهم من ديارهم. وقيل الجزية. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ على الله ولا فرية أعظم من فريتهم وهي قولهم هذا إلهكم وإله موسى، ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم.
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ من الكفر والمعاصي. ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها من بعد السيئات. وَآمَنُوا واشتغلوا بالإِيمان وما هو مقتضاه من الأعمال الصالحة. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد التوبة. لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وإن عظم الذنب كجريمة عبدة العجل، وكثر كجرائم بني إسرائيل.
[سورة الأعراف (7) : آية 154]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
وَلَمَّا سَكَتَ سكن وقد قرئ به. عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ باعتذار هارون، أو بتوبتهم وفي هذا الكلام مبالغة وبلاغة من حيث أنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالأمر به والمغري عليه حتى عبر عن سكونه بالسكوت. وقرئ «سَكَتَ» و «أسكت» على أن المسكت هو الله أو أخوه أو الذين تابوا. أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها. وَفِي نُسْخَتِها وفيما نسخ فيها أي كتب، فعلة بمعنى مفعول كالخطبة وقيل فيما نسخ منها أي من الألواح المنكسرة. هُدىً بيان للحق. وَرَحْمَةٌ إرشاد إلى الصلاح والخير. لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ دخلت اللام على المفعول لضعف الفعل بالتأخير، أو حذف المفعول واللام للتعليل والتقدير يرهبون معاصي الله لربهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 155]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155)
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل إليه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
روي أنه تعالى أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال:
ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا فقال: إن لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين، فلما دنوا من الجبل غشيه غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجداً، فسمعوه تعالى يكلم موسى يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فأخذتهم الرجفة
أي الصاعقة، أو رجفة الجبل فصعقوا منها. قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ تمنى هلاكهم وهلاكه، قبل أن يرى ما رأى أو بسبب آخر، أو عنى به أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم بالانقاذ منها فإن ترحمت عليهم مرة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك. أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من العناد والتجاسر على طلب الرؤية، وكان ذلك قاله بعضهم. وقيل المراد بما فعل السفهاء عبادة العجل، والسبعون اختارهم موسى لميقات التوبة عنها فغشيتهم(3/36)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
هيبة قلقوا منها ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم، وأشرفوا على الهلاك فخاف عليهم موسى فبكى ودعا فكشفها الله عنهم. إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرؤية، أو أوجدت في العجل خواراً فزاغوا به. تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ ضلاله بالتجاوز عن حده أو باتباع المخايل. وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ هداه فيقوى بها إيمانه. أَنْتَ وَلِيُّنا القائم بأمرنا. فَاغْفِرْ لَنا بمغفرة ما قارفنا. وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.
[سورة الأعراف (7) : آية 156]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً حسن معيشة وتوفيق طاعة. وَفِي الْآخِرَةِ الجنة. إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع. وقرئ بالكسر من هاد يهيده إذا أماله، ويحتمل أن يكون مبنياً للفاعل وللمفعول بمعنى أملنا أنفسنا وأملنا إليك، ويجوز أن يكون المضموم أيضاً مبنياً للمفعول منه على لغة من يقول عود المريض. قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ تعذيبه. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره. فَسَأَكْتُبُها فسأثبتها في الآخرة، أو فسأكتبها كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل.
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي. وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ خصها بالذكر لإنافتها ولأنها كانت أشق عليهم. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فلا يكفرون بشيء منها.
[سورة الأعراف (7) : آية 157]
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ مبتدأ خبره يأمرهم، أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين، أو بدل من الذين يتقون بدل البعض أو الكل، والمراد من آمن منهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وإنما سماه رسولاً بالإِضافة إلى الله تعالى ونبياً بالإِضافة إلى العباد. الْأُمِّيَّ الذي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته. الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اسماً وصفة. يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ مما حرم عليهم كالشحوم. وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ كالدم ولحم الخنزير أو كالربا والرشوة. وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة كتعيين القصاص في العمد والخطأ، وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة، وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله. وقرأ ابن عامر «آصارهم» . فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وعظموه بالتقوية. وقرئ بالتخفيف وأصله المنع ومنه التعزير. وَنَصَرُوهُ لي. وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي مع نبوته يعني القرآن، وإنما سماه نوراً لأنه بإعجازه ظاهر أمره مظهر غيره، أو لأنه كاشف الحقائق مظهر لها، ويجوز أن يكون معه متعلقاً باتبعوا أي واتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي فيكون إشارة إلى اتباع الكتاب والسنة. أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالرحمة الأبدية، ومضمون الآية جواب دعاء موسى صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الأعراف (7) : آية 158]
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)(3/37)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ الخطاب عام، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مبعوثاً إلى كافة الثقلين، وسائر الرسل إلى أقوامهم. جَمِيعاً حال من إليكم. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ صفة لله وإن حيل بينهما بما هو متعلق المضاف إليه لأنه كالتقدم عليه، أو مدح منصوب أو مرفوع، أو مبتدأ خبره لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ وهو على الوجوه. الأول بيان لما قبله فإن من ملك العالم كان هو الإِله لا غيره وفي: يُحيِي وَيُمِيتُ مزيد تقرير لاختصاصه بالألوهية. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه. وقرئ «وكلمته» على إرادة الجنس أو القرآن، أو عيسى تعريضًا لليهود وتنبيهاً على أن من لم يؤمن به لم يعتبر إيمانه، وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الإيمان به والاتباع له. وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين تنبيهاً على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 159 الى 160]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى يعنى من بني إسرائيل. أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق.
وَبِهِ بالحق. يَعْدِلُونَ بينهم في الحكم والمراد بها الثابتون على الإِيمان القائمون بالحق من أهل زمانه، أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيهاً على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر. وقيل مؤمنو أهل الكتاب. وقيل قوم وراء الصين رآهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج فآمنوا به.
وَقَطَّعْناهُمُ وصيرناهم قطعاً متميزاً بعضهم عن بعض. اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مفعول ثان لقطع فإنه متضمن معنى صير، أو حال وتأنيثه للحمل على الأمة أو القطعة. أَسْباطاً بدل منه ولذلك جمع، أو تمييز له على أن كل واحدة من اثنتي عشرة أسباط فكأنه قيل: اثنتي عشرة قبيلة. وقرئ بكسر الشين وإسكانها. أُمَماً على الأول بدل بعد بدل، أو نعت أسباط وعلى الثاني بدل من أسباط. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ في التيه. أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ أي فضرب فانبجست وحذفه للإِيماء على أن موسى صلّى الله عليه وسلّم لم يتوقف في الامتثال، وأن ضربه لم يكن مؤثراً يتوقف عليه الفعل في ذاته مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ كل سبط. مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ ليقيهم حر الشمس. وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا أي وقلنا لهم كُلُواْ. مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ سبق تفسيره في سورة «البقرة» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 161 الى 162]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ بإضمار اذكر والقرية بيت المقدس. وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً مثل ما في سورة «البقرة» معنى غير أن قوله فَكُلُوا فيها بالفاء أفاد تسبب(3/38)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
سكناهم للأكل منها، ولم يتعرض له ها هنا اكتفاء بذكره ثمة، أو بدلالة الحال عليه وأما تقديم قوله قولوا على وادخلوا فلا أثر له في المعنى لأنه لا يوجب الترتيب وكذا الواو العاطفة بينهما. نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وعد بالغفران والزيادة عليه بالإثابة، وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف للدلالة على أنه تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب «تغفر» بالتاء والبناء للمفعول، وخَطِيئاتِكُمْ بالجمع والرفع غير ابن عامر فإنه وحد وقرأ أبو عمرو «خطاياكم» .
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ مضى تفسيره فيها.
[سورة الأعراف (7) : آية 163]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)
وَسْئَلْهُمْ للتقرير والتقريع بقديم كفرهم وعصيانهم، والإِعلام بما هو من علومهم التي لا تعلم إلا بتعليم أو وحي ليكون لك ذلك معجزة عليهم. عَنِ الْقَرْيَةِ عن خبرها وما وقع بأهلها. الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه وهي أيلة قرية بين مدين والطور على شاطئ البحر، وقيل مدين، وقيل طبرية. إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت، وإِذْ ظرف ل كانَتْ أو حاضِرَةَ أو للمضاف المحذوف أو بدل منه بدل اشتمال. إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظرف ل «يَعْدُونَ» أو بدل بعد بدل. وقرئ «يَعْدُونَ» وأصله يعتدون ويعدون من الإِعداد أي يعدون آلات الصيد يوم السبت، وقد نهوا أن يشتغلوا فيه بغير العبادة. يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً يوم تعظيمهم أمر السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة. وقيل اسم لليوم والإِضافة لاختصاصهم بإحكام فيه، ويؤيد الأول إن قرئ يوم إسباتهم، وقوله: وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ
وقرئ «لاَ يَسْبِتُونَ» من أسبت و «لاَ يَسْبِتُونَ» على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت، وشُرَّعاً حال من الحيتان ومعناه ظاهرة على وجه الماء من شرع علينا إذا دنا وأشرف. كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم. وقيل كذلك متصل بما قبله أي لا تأتيهم مثل إتيانهم يوم السبت، والباء متعلق ب يَعْدُونَ.
[سورة الأعراف (7) : آية 164]
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
وَإِذْ قالَتْ عطف على إِذْ يَعْدُونَ. أُمَّةٌ مِنْهُمْ جماعة من أهل القرية يعني صلحاءهم الذين اجتهدوا في موعظتهم حتى أيسوا من اتعاظهم. لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ مخترمهم. أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً في الآخرة لتماديهم في العصيان، قالوه مبالغة في أن الوعظ لا ينفع فيهم، أو سؤالاً عن علة الوعظ ونفعه وكأنه تقاول بينهم أو قول من ارعوى عن الوعظ لمن لم يرعو منهم، وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم رداً عليهم وتهكماً بهم. قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ جواب للسؤال أي موعظتنا إنهاء عذر إلى الله حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر. وقرأ حفص مَعْذِرَةً بالنصب على المصدر أو العلة أي اعتذرنا به معذرة ووعظناهم معذرة. وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 165 الى 166]
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)
فَلَمَّا نَسُوا تركوا ترك الناسي. مَا ذُكِّرُوا بِهِ ما ذكرهم به صلحاؤهم. أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالاعتداء ومخالفة أمر الله. بِعَذابٍ بَئِيسٍ شديد فعيل من بؤس يبؤس بؤساً إذا(3/39)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
اشتد. وقرأ أبو بكر بَئِيسٍ على فيعل كضيغم، وابن عامر «بئس» بكسر الباء وسكون الهمز على أنه بئس كحذر، كما قرئ به فخفف عينه بنقل حركتها إلى الفاء ككبد في كبد، وقرأ نافع «بيس» على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذئب أو على أنه فعل الذم وصف به فجعل اسما، وقرئ «بيس» كريس على قلب الهمزة ثم ادغامها و «بيس» بالتخفيف كهين و «بائس» كفاعل. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم.
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ تكبروا عن ترك ما نهوا عنه كقوله تعالى: وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ. قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ كقوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولاً بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريراً وتفصيلاً للأولى.
روي: أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يوماً ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين فقالوا: إن لهم شأناً فدخلوا عليهم فإذا هم قردة فلم يعرفوا أنسباءهم ولكن القردة تعرفهم، فجعلت تأتي أنسباءهم وتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم ثم ماتوا بعد ثلاث.
وعن مجاهد مسخت قلوبهم لا أبدانهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 167 الى 168]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي أعلم تفعل من الإيذان بمعناه كالتوعد والإِيعاد، أو عزم لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله وأجري مجرى فعل القسم ك عَلِمَ اللَّهُ وشَهِدَ اللَّهُ. ولذلك أجيب بجوابه وهو: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ والمعنى وإذ أوجب ربك على نفسه ليسلطن على اليهود. مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ كالإِذلال وضرب الجزية، بعث الله عليهم بعد سليمان عليه السلام بختنصر فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم، وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم ففعل ما فعل ثم ضرب عليهم الجزية فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ عاقبهم في الدنيا. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب وآمن.
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً وفرقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة قط وأُمَماً مفعول ثان أو حال. مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ صفة أو بدل منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ونظراؤهم وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ تقديره ومنهم أناس من دون ذلك أي منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم. وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ بالنعم والنقم. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ينهون فيرجعون عما كانوا عليه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 169 الى 170]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد المذكورين. فَخَلَفَ بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع. وقيل جمع وهو شائع في الشر والخلف بالفتح في الخير والمراد به الذين كانوا في عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَرِثُوا الْكِتابَ التوراة من أسلافهم يقرءونها ويقفون على ما فيها ... يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا، وهو من الدنو أو الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في(3/40)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
الحكومة وعلى تحريف الكلم، والجملة حال من الواو. وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه، وهو يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور، أو مصدر يأخذون. وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ حال من الضمير في لَنا أي: يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه. أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي في الكتاب. أَنْ لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ عطف بيان للميثاق، أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب. وَدَرَسُوا مَا فِيهِ عطف على أَلَمْ يُؤْخَذْ من حيث المعنى فإنه تقرير، أو على وَرِثُوا وهو اعتراض. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ مما يأخذ هؤلاء. أَفَلا يَعْقِلُونَ فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين. وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ عطف على الذين يَتَّقُونَ وقوله: أَفَلا يَعْقِلُونَ اعتراض أو مبتدأ خبره: إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ على تقدير منهم، أو وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على أن الإِصلاح كالمانع من التضييع. وقرأ أبو بكر يُمَسِّكُونَ بالتخفيف وإفراد الإِقامة لإِنافتها على سائر أنواع التمسكات.
[سورة الأعراف (7) : آية 171]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي قلعناه ورفعناه فوقهم وأصل النتق الجذب. كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سقيفة وهي كل ما أظلك. وَظَنُّوا وتيقنوا. أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو ولأنهم كانوا يوعدون به، وإنما أطلق الظن لأنه لم يقع متعلقه وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لثقلها فرفع الله الطور فوقهم.
وقيل لهم إن قبلتم ما فيها وإلا ليقعن عليكم. خُذُوا على إضمار القول أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا.
ما آتَيْناكُمْ من الكتاب. بِقُوَّةٍ بجد وعزم على تحمل مشاقه، وهو حال من الواو. وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرناً بعد قرن، ومِنْ ظُهُورِهِمْ بدل مِنْ بَنِي آدَمَ بدل البعض. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب «ذرياتهم» . وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الاقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم: أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلى فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم منه بمنزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل ويدل عليه قوله: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي كراهة أن تقولوا. إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ لم ننبه عليه بدليل.
أَوْ تَقُولُوا عطف على أَنْ تَقُولُوا، وقرأ أبو عمرو كليهما بالياء لأن أول الكلام على الغيبة. إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم به لا يصلح عذراً. أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ يعني آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك. وقيل لما خلق الله آدم أخرج من ظهره ذرية كالذر وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك لحديث رواه عمر رضي الله تعالى عنه، وقد حققت الكلام فيه في شرحي لكتاب «المصابيح» ، والمقصود من إيراد هذا الكلام هاهنا الزام(3/41)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
اليهود بمقتضى الميثاق العام بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وحملهم على النظر والاستدلال كما قال:
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي عن التقليد واتباع الباطل.
[سورة الأعراف (7) : آية 175]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي على اليهود. نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا هو أحد علماء بني إسرائيل، أو أمية بن أبي الصلت فإنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولاً في ذلك الزمان، ورجا أن يكون هو فلما بعث محمد عليه السلام حسده وكفر به، أو بلعم بن باعوراء من الكنعانيين أوتي علم بعض كتب الله، فَانْسَلَخَ مِنْها من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ حتى لحقه وقيل استتبعه. فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فصار من الضالين.
روي أن قومه سألوه أن يدعو على موسى ومن معه فقال: كيف أدعو على من معه الملائكة، فألحوا حتى دعا عليهم فبقوا في التيه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 176 الى 177]
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ إلى منازل الأبرار من العلماء. بِها بسبب تلك الآيات وملازمتها. وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ مال إلى الدنيا أو إلى السفالة. وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ثم استدرك عنه بفعل العبد، تنبيهاً على أن المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك، وكان من حقه أن يقول ولكنه أعرض عنها فأوقع موقعه أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ، مبالغة وتنبيهاً على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة. فَمَثَلُهُ فصفته التي هي مثل في الخسة. كَمَثَلِ الْكَلْبِ كصفته في أخس أحواله وهو إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي يلهث دائماً سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له، بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده. واللهث إدلاع اللسان من التنفس الشديد والشرطية في موضع الحال والمعنى: لاهثاً في الحالتين، والتمثيل واقع موقع لازم التركيب الذي هو نفي الرفع ووضع المنزلة للمبالغة والبيان. وقيل لما دعا على موسى صلّى الله عليه وسلّم خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب. ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ القصة المذكورة على اليهود فإنها نحو قصصهم. لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ تفكراً يؤدي بهم إلى الاتعاظ.
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ أي مثل القوم، وقرئ سَاء مَثَل القوم على حذف المخصوص بالذم. الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم بها. وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ إما أن يكون داخلاً في الصلة معطوفاً على كذبوا بمعنى: الذين جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم، أو منقطعاً عنها بمعنى: وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتخطاها، ولذلك قدم المفعول.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 178 الى 179]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)(3/42)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ تصريح بأن الهدى والضلال من الله، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء والإِفراد في الأول والجمع في الثاني باعتبار اللفظ، والمعنى تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين، والاقتصار في الإِخبار عمن هداه الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها.
وَلَقَدْ ذَرَأْنا خلقنا. لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى.
لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِها إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله. وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِها أي لا ينظرون إلى مَا خَلَقَ الله نظر اعتبار. وَلَهُمْ آذانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِها الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر.
أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في عدم الفقه والإِبصار للاعتبار والاستماع للتدبر، أو في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها. بَلْ هُمْ أَضَلُّ فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار، وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها، وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار. أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 180 الى 181]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لأنها دالة على معان هي أحسن المعاني، والمراد بها الألفاظ وقيل الصفات.
فَادْعُوهُ بِها فسموه بتلك الأسماء. وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ واتركوا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لا توقيف فيه، إذ ربما يوهم معنى فاسداً كقولهم يا أبا المكارم يا أبيض الوجه، أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه كقولهم: ما نعرف إلا رحمان اليمامة، أو وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من «الله» ، والعزى من «العزيز» ولا توافقوهم عليه أو أعرضوا عنهم فإن الله مجازيهم كما قال: سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وقرأ حمزة هنا وفي «فصلت» يُلْحِدُونَ بالفتح يقال:
لحد وألحد إذا مال عن القصد.
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ذكر ذلك بعد ما بين أنه خلق للنار طائفة ضالين ملحدين عن الحق للدلالة على أنه خلق أيضاً للجنة أمة هادين بالحق عادلين في الأمر، واستدل به على صحة الإِجماع لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة
لقوله عليه الصلاة والسلام «لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله»
، إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن فائدة فإنه معلوم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 182 الى 184]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سنستدنيهم إلى الهلاك قليلاً قليلاً، وأصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة. مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ما نريد بهم وذلك أن تتواتر عليهم النعم فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم، فيزدادوا بطراً وانهماكاً في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب.
وَأُمْلِي لَهُمْ وأمهلهم عطف على سَنَسْتَدْرِجُهُمْ. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ إن أخذي شديد، وإنما سماه كيدا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان.
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم. مِنْ جِنَّةٍ من جنون.
روي: أنه صلّى الله عليه وسلّم صعد على(3/43)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم: إن صاحبكم لمجنون بات يهوت إلى الصباح، فنزلت.
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ موضح انذاره بحيث لا يخفى على ناظر.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 185 الى 186]
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا نظر استدلال. فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ مما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدلهم على كمال قدرة صانعها، ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها، ومتولي أمرها ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه. وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ عطف على ملكوت وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون والمعنى: أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم، قبل مغافصة الموت ونزول العذاب. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن. يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا به، وهو النهاية في البيان كأنه إخبار عنهم بالطبع والتصميم على الكفر بعد إلزام الحجة والارشاد إلى النظر. وقيل هو متعلق بقوله: عسى أن يكون، كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن، وماذا ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به.
وقوله: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ كالتقرير والتعليل له. وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ بالرفع على الاستئناف، وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء لقوله مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ، وحمزة والكسائي به وبالجزم عطفاً على محل فَلا هادِيَ لَهُ، كأنه قيل: لا يهده أحد غيره وَيَذَرُهُمْ. يَعْمَهُونَ حال من هم.
[سورة الأعراف (7) : آية 187]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (187)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أي عن القيامة، وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها إما لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، أو لأنها على طولها عند الله كساعة. أَيَّانَ مُرْساها متى إرسَاؤهَا أي إثباتها واستقرارها ورسو الشيء ثباته واستقراره، ومنه رسا الجبل وأرسى السفينة، واشتقاق أَيَّانَ من أي لأن معناه أي وقت، وهو من أويت إليه لأن البعض أو إلى الكل. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي استأثر به لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلا. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها لا يظهر أمرها في وقتها. إِلَّا هُوَ والمعنى أن الخفاء بها مستمر على غيره إلى وقت وقوعها، واللام للتأقيت كاللام في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها. لاَ تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً إلا فجأة على غفلة، كما
قال عليه الصلاة والسلام: «إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه» .
يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها عالم بها، فعيل من حفى عن الشيء إذا سأل عنه، فإن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه، ولذلك عدي بعن. وقيل هي صلة يَسْئَلُونَكَ. وقيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشاً قالوا له: إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة، والمعنى يسألونك عنها كأنك حفي تتحفى بهم فتخصهم لأجل قرابتهم بتعليم وقتها. وقيل معناه كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه، من حفى بالشيء إذا فرح أي تكثره لأنه من الغيب الذي استأثر الله بعلمه. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ كرره لتكرير يسألونك لما نيط به من هذه الزيادة وللمبالغة. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أن عِلْمُهَا عِندَ الله لم يؤته أحداً من خلقه.(3/44)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
[سورة الأعراف (7) : آية 188]
قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا جلب نفع ولا دفع ضر، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب. إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ
ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع واجتناب المضار حتى لا يمسني سوء. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بهما، ويجوز أن يكون متعلقاً بال بَشِيرٌ ومتعلق ال نَذِيرٌ محذوف.
[سورة الأعراف (7) : آية 189]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم. وَجَعَلَ مِنْها من جسدها من ضلع من أضلاعها، أو من جنسها كقوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً. زَوْجَها حواء. لِيَسْكُنَ إِلَيْها ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه، وإنما ذكر الضمير ذهاباً إلى المعنى ليناسب. فَلَمَّا تَغَشَّاها أي جامعها.
حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً خف عليها ولم تلق منه ما تلقى منه الحوامل غالباً من الأذى، أو محمولاً خفيفاً وهو النطفة. فَمَرَّتْ بِهِ فاستمرت به أي قامت وقعدت، وقرئ «فمرت» بالتخفيف و «فاستمرت به» و «فمارت» من المور وهو المجيء والذهاب، أو من المرية أي فظنت الحمل وارتابت منه. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها. وقرئ على البناء للمفعول أي أثقلها حملها. دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً ولداً سوياً قد صلح بدنه. لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك على هذه النعمة المجددة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 190 الى 191]
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ يعني الأصنام. وقيل: لما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج، فخافت من ذلك وذكرته لآدم فهما منه ثم عاد إليها وقال: إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقاً مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحرث، وكان اسمه حارثاً بين الملائكة فتقبلت، فلما ولدت سمياه عبد الحرث.
وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء ويحتمل أن يكون الخطاب في خَلَقَكُمْ لآل قصي من قريش، فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان له زوج من جنسه عربية قرشية وطلبا من الله الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم: عبد مناف، وعبد شمس، وعبد قصي، وعبد الدار. ويكون الضمير في يُشْرِكُونَ لهما ولأعقابهما المقتدين بهما. وقرأ نافع وأبو بكر «شركاً» أي شركة بأن أشركا فيه غيره أو ذوي شرك وهم الشركاء، وهم ضمير الأصنام جيء به على تسميتهم إياها آلهة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 192 الى 193]
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)(3/45)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً أي لعبدتهم. وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فيدفعون عنها ما يعتريها.
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ أي المشركين. إِلَى الْهُدى إلى الإسلام. لاَ يَتَّبِعُوكُمْ وقرأ نافع بالتخفيف وفتح الباء، وقيل الخطاب للمشركين وهم ضمير الأصنام أي: إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ وإنما لم يقل أم صمتم للمبالغة في عدم إفادة الدعاء من حيث إنه مسوى بالثبات على الصمات، أو لأنهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم فكأنه قيل:
سواء عليكم إحداثكم دعاءهم واستمراركم على الصمات عن دعائهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 194 الى 195]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة. عِبادٌ أَمْثالُكُمْ من حيث إنها مملوكة مسخرة. فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنهم آلهة، ويحتمل أنهم لما نحتوها بصور الأناسي قال لهم: إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحق بعضكم عبادة بعض، ثم عاد عليه بالنقض فقال: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها وقرئ «إِنَّ الذين» بتخفيف «أَن» ونصب «عِبَادِ» على أنها نافية عملت عمل ما الحجازية ولم يثبت مثله، و «يَبْطِشُونَ» بالضم ها هنا وفي «القصص» و «الدخان» . قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ واستعينوا بهم في عداوتي. ثُمَّ كِيدُونِ فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكر، وهي أنتم وشركاؤكم. فَلا تُنْظِرُونِ فلا تمهلون فإني لا أبالي بكم لوثوقي على ولاية الله تعالى وحفظه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 196 الى 198]
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (198)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن. وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلاً عن أنبيائه.
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم.
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 200]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
خُذِ الْعَفْوَ أي خذ مَا عفا لك من أفعال الناس وتسهل ولا تطلب ما يشق عليهم، من العفو الذي هو ضد الجهد أو خُذِ الْعَفْوَ عن المذنبين أو الفضل وما يسهل من صدقاتهم، وذلك قبل وجوب الزكاة.
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ المعروف المستحسن من الأفعال. وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ فلا تمارهم ولا تكافئهم بمثل(3/46)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
أفعالهم، وهذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق آمرة للرسول باستجماعها.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ينخسنك منه نخس أي وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به كاعتراء غضب وفكر، والنزغ والنسغ والنخس الغرز شبه وسوسته للناس إغراء لهم على المعاصي وإزعاجاً بغرز السائق ما يسوقه. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ يسمع استعاذتك. عَلِيمٌ يعلم ما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه، أو سَمِيعٌ بأقوال من آذاك عَلِيمٌ بأفعاله فيجازيه عليها مغنياً إياك عن الانتقام ومشايعة الشيطان.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 201 الى 202]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ لمة منه، وهو اسم فاعل من طاف يطوف كأنها طافت بهم ودارت حولهم فلم تقدر أن تؤثر فيهم، أو من طاف به الخيال يطيف طيفاً. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب «طيف» على أنه مصدر أو تخفيف طيف كلين وهين، والمراد بالشيطان الجنس ولذلك جمع ضميره. تَذَكَّرُوا مَا أَمَرَ الله بِهِ ونهى عنه. فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ بسبب التذكر مواقع الخطأ ومكايد الشيطان فيتحرزون عنها ولا يتبعونه فيها، والآية تأكيد وتقرير لما قبلها وكذا قوله:
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ أي وإخوان الشياطين الذين لم يتقوا بمدهم الشياطين. فِي الغَيِّ بالتزيين والحمل عليه، وقرئ «يمدونهم» من أمد و «يمادونهم» كأنهم يعينونهم بالتسهيل والإغراء وهؤلاء يعينونهم بالاتباع والامتثال. ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ثم لا يمسكون عن اغوائهم حتى يردوهم، ويجوز أن يكون الضمير للإخوان أي لا يكفون عن الغي ولا يقصرون كالمتقين، ويجوز أن يراد بال «الإخوان» الشياطين ويرجع الضمير إلى الْجاهِلِينَ فيكون الخبر جارياً على ما هو له.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 203 الى 204]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من القرآن أو مما اقترحوه. قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها هلا جمعتها تقولاً من نفسك كسائر ما تقرؤه أو هلا طلبتها من الله. قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي لست بمختلق للآيات أو لست بمقترح لها. هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ هذا القرآن بصائر للقلوب بها يبصر الحق ويدرك الصواب. وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ سبق تفسيره.
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإِمام والإِنصات له. وظاهر اللفظ يقتضي وجوبهما حيث يقرأ القرآن مطلقاً، وعامة العلماء على استحبابهما خارج الصلاة. واحتج به من لا يرى وجوب القراءة على المأموم وهو ضعيف.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 205 الى 206]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما، أو أمر للمأموم بالقراءة سراً بعد فراغ الإمام عن قراءته كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه. تَضَرُّعاً وَخِيفَةً متضرعاً وخائفاً.
وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ومتكلماً كلاماً فوق السر ودون الجهر فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص. بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ بأوقات الغدو والعشيات. وقرئ «والايصال» وهو مصدر آصل إذا دخل في الأصيل وهو مطابق(3/47)
للغدو. وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن ذكر الله.
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني ملائكة الملأ الأعلى. لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وينزهونه. وَلَهُ يَسْجُدُونَ ويخصونه بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره، وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين ولذلك شرع السجود لقراءته.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول: يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار»
وعنه صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة» .(3/48)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
(8) سورة الأنفال
مدنية وآياتها خمس وسبعون
[سورة الأنفال (8) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ أي الغنائم يعني حكمها، وإنما سميت الغنيمة نفلاً لأنها عطية من الله وفضل كما سمي به ما يشرطه الإمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه. قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي أمرها مختص بهما يقسمها الرسول على ما يأمره الله به. وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر أنها كيف تقسم ومن يقسم المهاجرون منهم أو الأنصار. وقيل شرط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن كان له غناء أن ينفله، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم. وكان المال قليلاً. فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات: كنا رِدْءاً لكم وفئة تنحازون إلينا، فنزلت فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم على السواء، ولهذا قيل:
لا يلزم الإمام أن يفي بما وعد وهو قول الشافعي رضي الله عنه،
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه، فأتيت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستوهبته منه فقال: ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلاً حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب فخذه.
وقرئ «يسألونك الأنفال» بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها، و «يسألونك الأنفال» أي يسألك الشبان ما شرطت لهم. فَاتَّقُوا اللَّهَ في الاختلاف والمشاجرة.
وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيه. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإِن الإيمان يقتضي ذلك، أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة: طاعة الأوامر، والاتقاء عن المعاصي، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 2 الى 4]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي الكاملون في الإيمان. الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فزعت لذكره استعظاماً له وتهيباً من جلاله. وقيل هو الرجل يهم بمعصية فيقال له اتق الله فينزع عنها خوفاً من عقابه. وقرئ «وَجِلَتْ» بالفتح وهي لغة، وفَرَقَتْ أي خافت. وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً لزيادة المؤمن به، أو لاطمئنان النفس ورسوخ اليقين بتظاهر الأدلة، أو بالعمل بموجبها وهو قول من قال الإِيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية بناء على أن العمل داخل فيه. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يفوضون إليه أمورهم ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه.(3/49)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، ومحاسن أفعال الجوارح التي هي العيار عليها من الصلاة والصدقة، وحَقًّا صفة مصدر محذوف أو مصدر مؤكد كقوله: «هو عبد الله حَقّا» . لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كرامة وعلو منزلة.
وقيل درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم. وَمَغْفِرَةٌ لما فرط منهم. وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أعد لهم في الجنة لا ينقطع عدده ولا ينتهي أمده.
[سورة الأنفال (8) : آية 5]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5)
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الحال في كراهتهم إياها كحال إخراجك للحرب في كراهتهم له، وهي كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة. أو صفة مصدر الفعل المقدر في قوله: لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي الأنفال ثبتت لله والرسول صلّى الله عليه وسلّم مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراجك ربك من بيتك، يعني المدينة لأنها مهاجرة ومسكنه أو بيته فيها مع كراهتهم. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ في موقع الحال أي أخرجك في حال كراهتهم، وذلك
أن عير قريش أقبلت من الشأم وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل وعمرو بن هشام، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال، فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة، فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول، عيركم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً، وقد رأت قبل ذلك بثلاث عاتكة بنت عبد المطلب أن ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت في مكة إلا أصابه شيء منها، فحدثت بها العباس وبلغ ذلك أبا جهل فقال: ما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة ومضى بهم إلى بدر وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوماً في السنة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادي ذفران فنزل عليه جبريل عليه السلام بالوعد بإحدى الطائفتين إما العير وإما قريش، فاستشار فيه أصحابه فقال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنما خرجنا للعير، فردد عليهم وقال: أن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقالا فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال: أنظر أمرك فامض فيه فو الله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال مقداد بن عمرو: امض لما أمرك الله فأنا معك حيثما أحببت، لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «أشيروا عليَّ أيها الناس» وهو يريد الأنصار لأنهم كانوا عددهم وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم برآء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم، فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة، فقام سعد بن معاذ فقال لكأنك تريدنا يا رسول الله فقال: أجل، قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى، فنشطه قوله ثم قال: «سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» .
وقيل إنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من بدر قيل له: عليك بالعير فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال له «لم» فقال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك، فكره بعضهم قوله.(3/50)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
[سورة الأنفال (8) : آية 6]
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ في إيثارك الجهاد بإظهار الحق لإيثارهم تلقي العير عليه. بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ أنهم ينصرون أينما توجهوا بإعلام الرسول عليه الصلاة والسلام. كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم إذ
روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم إلا فارسان،
وفيه إيماء إلى أن مجادلتهم إنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ على إضمار اذكر، وإحدى ثاني مفعولي يَعِدُكُمُ وقد أبدل منها.
أَنَّها لَكُمْ بدل الاشتمال. وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ يعني العير فإنه لم يكن فيها إلا أربعون فارساً ولذلك يتمنونها ويكرهون ملاقاة النفير لكثرة عَدَدِهِمْ، وعُدَدِهِمْ والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك. وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يثبته ويعليه. بِكَلِماتِهِ الموحى بها في هذه الحال، أو بأوامره للملائكة بالإمداد، وقرئ «بكلمته» . وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ويستأصلهم، والمعنى: أنكم تريدون أن تصيبوا مالاً ولا تلقوا مكروهاً، والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق وما يحصل لكم فوز الدارين.
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أي فعل ما فعل وليس بتكرير، لأن الأول لبيان المراد وما بينه وبين مرادهم من التفاوت، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة ونصرة عليها. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 10]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بدل من إِذْ يَعِدُكُمُ أو متعلق بقوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ، أو على إضمار اذكر، واستغاثتهم أنهم لما علموا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون: أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين،
وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه عليه السلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو: «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فقال أبو بكر يا نبي الله: كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك.
فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بأني ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه الفعل وقرأ أبو عمرو بالكسر على إرادة القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول. بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ متبعين المؤمنين أو بعضهم بعضاً من أردفته أنا إذا جئت بعده، أو متبعين بعضهم بعض المؤمنين، أو أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه. وقرأ نافع ويعقوب مُرْدِفِينَ بفتح الدال أي متبعين أو متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم. وقرئ «مُرْدِفِينَ» بكسر الراء وضمها وأصله مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاء في الدال فالتقى ساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على الاتباع. وقرئ «بآلاف» ليوافق ما في سورة «آل عمران» ، ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة، أو وجوههم وأعيانهم، أو من قاتل منهم واختلف في مقاتلتهم وقد روي أخبار تدل عليها.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي الإمداد إِلَّا بُشْرى إلا بشارة لكم بالنصر. وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ فيزول ما بها(3/51)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
من الوجل لقلتكم وذلتكم. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وإمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوهما وسائط لا تأثير لها فلا تحسبوا النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها.
[سورة الأنفال (8) : آية 11]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ بدل ثان من إِذْ يَعِدُكُمُ لإِظهار نعمة ثالثة أو متعلق بالنصر أو بما في عند الله من معنى الفعل، أو بجعل أو بإضمار اذكر. وقرأ نافع بالتخفيف من أغشيته الشيء إذا غشيته إياه والفاعل على القراءتين هو الله تعالى وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يغشاكم النعاس» بالرفع. أَمَنَةً مِنْهُ أمنا من الله، وهو مفعول له باعتبار المعنى فإن قوله يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ متضمن معنى تنعسون، و «يغشاكم» بمعناه، وال أَمَنَةً فعل لفاعله ويجوز أن يراد بها الإِيمان فيكون فعل المغشي، وأن تجعل على القراءة الأخيرة فعل النعاس على المجاز لأنها لأصحابه، أو لأنه كان من حقه أن لا يغشاهم لشدة الخوف فلما غشيهم فكأنه حصلت له أمنة من الله لولاها لم يغشهم كقوله:
بهاب النَّوْمُ أنْ يَغْشَى عُيُونا ... تَهَابُكَ فَهُوَ نَفَّارٌ شَرُودُ
وقرئ «أمنة» كرحمة وهي لغة. وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاء لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الحدث والجنابة.
وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ يعني الجنابة لأنها من تخييله، أو وسوسته وتخويفه إياهم من العطش.
روي أنهم نزلوا في كثيب أغفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء، فوسوس إليهم الشيطان وقال: كيف تنصرون، وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله، وفيكم رسوله فأشفقوا فأنزل الله المطر، فمطروا ليلاً حتى جرى الوادي واتخذوا الحياض على عدوته وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة.
وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ بالوثوق على لطف الله بهم. وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة.
[سورة الأنفال (8) : آية 12]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ بدل ثالث أو متعلق بيثبت. إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ في إعانتهم وتثبيتهم وهو مفعول يُوحِي. وقرئ بالكسر على إرادة القول أو إجراء الوحي مجراه. فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بالبشارة أو بتكثير سوادهم، أو بمحاربة أعدائهم فيكون قوله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ كالتفسير لقوله أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا، وفيه دليل على أنهم قاتلوا ومن منع ذلك جعل الخطاب فيه مع المؤمنين إما على تغيير الخطاب أو على أن قوله: سَأُلْقِي إلى قوله: كُلَّ بَنانٍ تلقين للملائكة ما يثبتون المؤمنين به كأنه قال:
قولوا لهم قوْلي هذا. فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أعاليها التي هي المذابح أو الرؤوس. وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ أصابع أي جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 الى 14]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)
ِكَ
إشارة إلى الضرب أو الأمر به والخطاب للرسول، أو لكل أحد من المخاطبين قبل. أَنَّهُمْ(3/52)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
بسبب مشاقتهم لهما واشتقاقه من الشق لأن كلاً من المتعادين في شق خلاف شق الآخر كالمعاداة من العدوة والمخاصمة من الخصم وهو الجانب. مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
تقرير للتعليل أو وعيد بما أعد لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا.
ذلِكُمْ الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات ومحله الرفع أي: الأمر ذلكم أو ذلكم واقع أو نصب يفعل دل عليه. فَذُوقُوهُ أو غيره مثل باشروا أو عليكم فتكون الفاء عاطفة. وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ عطف على ذلكم أو نصب على المفعول معه، والمعنى ذوقوا ما عجل لكم مع ما أجل لكم في الآخرة. ووضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على أن الكفر سبب العذاب الآجل أو الجمع بينهما.
وقرئ وَأَنْ بالكسر على الاستئناف.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 16]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً كثيراً بحيث يرى لكثرتهم كأنهم يزحفون، وهو مصدر زحف الصبي إذا دب على مقعده قليلاً قليلاً، سمي به وجمع على زحوف وانتصابه على الحال. فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ بالانهزام فضلاً أن يكونوا مثلكم أو أقل منكم، والأظهر أنها محكمة مخصوصة بقوله: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ الآية، ويجوز أن ينتصب زحفاً حالاً من الفاعل والمفعول أي: إذا لقيتموهم متزاحفين يدبون إليكم وتدبون إليهم فلا تنهزموا، أو من الفاعل وحده ويكون إشعاراً بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم إِثنا عشر ألفاً.
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ يريد الكر بعد الفر وتغرير العدو، فإنه من مكايد الحرب.
أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أو منحازاً إلى فئة أخرى من المسلمين على القرب ليستعين بهم، ومنهم من لم يعتبر القرب لما
روى ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففروا إلى المدينة فقلت: يا رسول الله نحن الفرارون فقال: «بل أنتم العكارون وأنا فئتكم» .
وانتصاب متحرفاً ومتحيزاً على الحال وإلا لغو لا عمل لها، أو الاستثناء من المولين أي إلا رجلاً متحرفاً أو متحيزاً، ووزن متحير متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزاً لأنه من حاز يحوز. فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ الآية، وقيل الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه في الحرب.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 17 الى 18]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ بقوتكم. وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم.
روي: أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام: هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان تناول كفاً من الحصباء فرمى بها في وجوههم وقال «شاهت الوجوه» ، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت، فنزلت.
والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن الله(3/53)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
قتلهم. وَما رَمَيْتَ يا محمد رمياً توصله إلى أعينهم ولم تقدر عليه. إِذْ رَمَيْتَ أي إذ أتيت بصورة الرمي. وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أتى بما هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعاً حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم، وقد عرفت أن اللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو كماله والمقصود منه. وقيل معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم. وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل يخور حتى مات. أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه، والجمهور على الأول. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وَلكِنَّ بالتخفيف ورفع ما بعده في الموضعين. وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات فعل ما فعل. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتهم ودعائهم. عَلِيمٌ بنياتهم وأحوالهم.
ذلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، أو القتل أو الرمي، ومحله الرفع أي المقصود أو الأمر ذلكم وقوله:
وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ معطوف عليه أي المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو مُوهِنُ بالتشديد، وحفص مُوهِنُ كَيْدِ بالإِضافة والتخفيف.
[سورة الأنفال (8) : آية 19]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين. وَإِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر ومعاداة الرسول فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين. وَإِنْ تَعُودُوا لمحاربته.
نَعُدْ لنصرته عليكم. وَلَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع. عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ جماعتكم. شَيْئاً من الإغناء أو المضار.
وَلَوْ كَثُرَتْ فئتكم. وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر والمعونة. وقرأ نافع وابن عامر وحفص وَإِنْ بالفتح على تقدير ولأن الله مع المؤمنين كان ذلك. وقيل الآية خطاب للمؤمنين والمعنى: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يستأثره الرسول فهو خير لكم وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو، ولن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر فإنه مع الكاملين في إيمانهم ويؤيد ذلك.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أي ولا تتولوا عن الرسول، فإن المراد من الآية الأمر بطاعته والنهي عن الإِعراض عنه، وذكر طاعة الله للتوطئة والتنبيه على أن طاعة الله في طاعة الرسول لقوله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وقيل الضمير للجهاد أو للأمر الذي دل عليه الطاعة. وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا كالكفرة والمنافقين الذين ادعوا السماع. وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ سماعاً ينتفعون به فكأنهم لا يسمعون رأسا.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 22 الى 23]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)(3/54)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ شر ما يدب على الأرض، أو شر البهائم. الصُّمُّ عن الحق. الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ إياه، عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها لإِبطالهم ما ميزوا به وفضلوا لأجله.
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً سعادة كتبت لهم أو انتفاعاً بالآيات. لَأَسْمَعَهُمْ سماع تفهم. وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ وقد علم أن لا خير فيهم. لَتَوَلَّوْا ولم ينتفعوا به، أو ارتدوا بعد التصديق والقبول. وَهُمْ مُعْرِضُونَ لعنادهم. وقيل كانوا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أحي لنا قصياً فإنه كان شيخاً مباركاً حتى يشهد لك ونؤمن بك. والمعنى لأسمعهم كلام قصي.
[سورة الأنفال (8) : آية 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ بالطاعة. إِذا دَعاكُمْ وحد الضمير فيه لما سبق ولأن دعوة الله تسمع من الرسول.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك عن إجابتي قال: كنت أصلي، قال: «ألم تخبر فيما أوحي إلي»
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ. واختلف فيه فقيل هذا لأن إجابته لا تقطع الصلاة فإن الصلاة أيضاً إجابة. وقيل لأن دعاءه كان لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله وظاهر الحديث يناسب الأول. لِما يُحْيِيكُمْ من العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته. قال:
لاَ تعْجَبَنَّ الجَهُولَ حِلَّته ... فَذَاكَ مَيتٌ وَثَوْبُهُ كَفَن
أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال، أو من الجهاد فإنه سبب بقائكم إذ لو تركوه لغلبهم العدو وقتلهم، أو الشهادة لقوله تعالى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته، وبينه وبين الإِيمان إن قضى شقاوته. وقرئ بين المرّ بالتشديد على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل الوقف على لغة من يشدد فيه. وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم بأعمالكم.
[سورة الأنفال (8) : آية 25]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً اتقوا ذنباً يعمكم أثره كإقرار المنكر بين أظهركم والمداهنة في الأمر بالمعروف وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد على أن قوله لا تصيبن إما جواب الأمر على معنى أن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة بل تعمكم، وفيه أن جواب الشرط متردد فلا يليق به النون المؤكدة لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ فيه كقوله تعالى: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ وأما صفة ل فِتْنَةً، ولا للنفي وفيه شذوذ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم، أو لنهي على إرادة القول كقوله:
حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط
وَإما جواب قسم محذوف كقراءة من قرأ لتصيبن وإن اختلفا في المعنى، ويحتمل أن يكون نهياً بعد الأمر باتقاء الذنب عن التعرض للظلم فإن وباله يصيب الظالم خاصة ويعود عليه، ومن في منكم على الوجوه(3/55)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
الأول للتبعيض وعلى الأخيرين للتبيين وفائدته التنبيه على أن الظلم منكم أقبح من غيركم. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
[سورة الأنفال (8) : آية 26]
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ أرض مكة يستضعفكم قريش، والخطاب للمهاجرين.
وقيل للعرب كافة فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم. تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ كفار قريش أو من عداهم فإنهم كانوا جميعاً معادين لهم مضادين لهم. فَآواكُمْ إلى المدينة، أو جعل لكم مأوى تتحصنون به عن أعاديكم. وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ على الكفار أو بمظاهرة الأنصار، أو بإمداد الملائكة يوم بدر. وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ بتعطيل الفرائض والسنن، أو بأن تضمروا خلاف ما تظهرون، أو بالغلول في المغانم.
وروي: (أنه عليه الصلاة والسلام حاصر بني قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوه الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحاء بأرض الشام، فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحاً لهم لأن عياله وماله في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا ما ترى هل ننزل على حكم سعد بن معاذ، فأشار إلى حلقه أنه الذبح، قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، فنزلت. فشد نفسه على سارية في المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشياً عليه، ثم تاب الله عليه فقيل له: قد تيب عليك فحل نفسك فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي فقال عليه الصلاة والسلام يجزيك الثلث أن تتصدق به) .
وأصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء التمام، واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه. وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ فيما بينكم وهو مجزوم بالعطف على الأول أو منصوب على الجواب بالواو. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنكم تخونون، أو وأنتم علماء تميزون الحسن من القبيح.
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
لأنهم سبب الوقوع في الإِثم أو العقاب، أو محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة. وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
لمن آثر رضا الله عليهم وراعى حدوده فيهم، فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه.
[سورة الأنفال (8) : آية 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل أو نصراً يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين، أو مخرجاً من الشبهات، أو نجاة عما تحذرون في الدارين، أو ظهوراً يشهر أمركم ويبث صيتكم من قولهم بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أي(3/56)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
الصبح. وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ويسترها. وَيَغْفِرْ لَكُمْ بالتجاوز والعفو عنكم. وقيل السيئات الصغائر والذنوب الكبائر. وقيل المراد ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى لهم. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان، وأنه ليس مما يوجب تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاماً على عمل.
[سورة الأنفال (8) : آية 30]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا تذكار لما مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في خلاصه. من مكرهم واستيلائه عليهم، والمعنى واذكر إذ يمكرون بك. لِيُثْبِتُوكَ بالوثاق أو الحبس، أو الإِثخان بالجرح من قولهم ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح، وقرئ لِيُثْبِتُوكَ بالتشديد و «ليبيتوك» من البيات و «ليقيدوك» . أَوْ يَقْتُلُوكَ بسيوفهم. أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكة، وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم فرقوا واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً فقال أبو البحتري: رأيي أن تحبسوه في بيت وتسدوا منافذه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها حتى يموت، فقال الشيخ بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم، فقال هشام بن عمرو رأيي أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع، فقال بئس الرأي يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم، فقال أبو جهل أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً صارماً فيضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه. فقال صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه، فأتى جبريل النبي عليهما السلام وأخبره الخبر وأمره بالهجرة، فبيت علياً رضي الله تعالى عنه في مضجعه وخرج مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ برد مكرهم عليهم، أو بمجازاتهم عليه، أو بمعاملة الماكرين معهم بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره، وإسناد أمثال هذا مما يحسن للمزاوجة ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 31 الى 32]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا هو قول النضر بن الحرث، وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم فإنه كان قاصهم، أو قول الذين ائتمروا في أمره عليه السلام وهذا غاية مكابرتهم وفرط عنادهم، إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم أن يشاءوا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين، ثم قارعهم بالسيف فلم يعارضوا سورة مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا خصوصاً في باب البيان.
إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما سطره الأولون من القصص.
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ هذا أيضاً من كلام ذلك القائل أبلغ في الجحود.
روي أنه لما قال النضر إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ويلك إنه كلام الله» فقال ذلك.
والمعنى إن كان هذا القرآن حقاً منزلاً فأمطر الحجارة علينا عقوبة على(3/57)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
إنكاره، أو ائتنا بعذاب أليم سواه، والمراد منه التهكم وإظهار اليقين والجزم التام على كونه باطلاً. وقرئ «الحق» بالرفع على أن هُوَ مبتدأ غير فصل، وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن المعلق به كونه حقاً بالوجه الذي يدعيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو تنزيله لا الحق مطلقاً لتجويزهم أن يكون مطابقاً للواقع غير منزل كأساطير الأولين.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 33 الى 34]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34)
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ بيان لما كان الموجب لإِمهالهم والتوقف في إجابة دعائهم، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال والنبي صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم خارج عن عادته غير مستقيم في قضائه، والمراد باستغفارهم إما استغفار من بقي فيهم من المؤمنين، أو قولهم اللهم غفرانك، أو فرضه على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ.
وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وما لهم مما يمنع تعذيبهم متى زال ذلك وكيف لا يعذبون. وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وحالهم ذلك ومن صدهم عنه إلجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين إلى الهجرة وإحصارهم عام الحديبية. وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ مستحقين ولاية أمره مع شركهم، وهو رد لما كانوا يقولون نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء. إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ من الشرك الذين لا يعبدون فيه غيره، وقيل الضميران لِلَّهِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أن لا ولاية لهم عليه كأنه نبه بالأكثر أن منهم من يعلم ويعاند، أو أراد به الكل كما يراد بالقلة العدم.
[سورة الأنفال (8) : آية 35]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ أي دعاؤهم أو ما يسمونه صلاة، أو ما يضعون موضعها. إِلَّا مُكاءً صفيراً فعال من مكا يمكو إذا صفر. وقرئ بالقصر كالبكا. وَتَصْدِيَةً تصفيقاً تفعله من الصدا، أو من الصد على إبدال أحد حرفي التضعيف بالياء. وقرئ «صَلاَتِهِمْ» بالنصب على أنه الخبر المقدم، ومساق الكلام لتقرير استحقاقهم العذاب أو عدم ولايتهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاته.
روي: أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون.
وقيل: كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي يخلطون عليه ويرون أنهم يصلون أيضاً. فَذُوقُوا الْعَذابَ يعني القتل والأسر يوم بدر، وقيل عذاب الآخرة واللام يحتمل أن تكون للعهد والمعهود: ائْتِنا بِعَذابٍ. بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ اعتقادا وعملا.
[سورة الأنفال (8) : آية 36]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً من قريش يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر، أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية. أو في أصحاب العير فإنه لما أصيب قريش(3/58)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
ببدر قيل لهم أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك منه ثأرنا ففعلوا، والمراد ب سَبِيلِ اللَّهِ دينه واتباع رسوله. فَسَيُنْفِقُونَها بتمامها ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال وهو إنفاق بدر، والثاني إخبار عن إنفاقهم فيما يستقبل وهو إنفاق أحد، ويحتمل أن يراد بهما واحد على أن مساق الأول لبيان غرض الإِنفاق ومساق الثاني لبيان عاقبته وإنه لم يقع بعد. ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ندماً وغماً لفواتها من غير مقصود جعل ذاتها تصير حسرة وهي عاقبة إنفاقها مبالغة. ثُمَّ يُغْلَبُونَ آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالاً قبل ذلك. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي الذين ثبتوا على الكفر منهم إذا أسلم بعضهم. إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ يساقون.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 37 الى 38]
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الكافر من المؤمن، أو الفساد من الصلاح. واللام متعلقة ب يُحْشَرُونَ أو يُغْلَبُونَ أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما أنفقه المسلمون في نصرته، واللام متعلقة بقوله ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب لِيَمِيزَ من التمييز وهو أبلغ من الميز. وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم، أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابه كمال الكانزين. فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ كله. أُولئِكَ إشارة إلى الخبيث لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى المنفقين. هُمُ الْخاسِرُونَ الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني أبا سفيان وأصحابه والمعنى قل لأجلهم. إِنْ يَنْتَهُوا عن معاداة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالدخول في الإسلام. يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من ذنوبهم، وقرئ بالتاء والكاف على أنه خاطبهم و «يَغْفِرُ» على البناء للفاعل وهو الله تعالى. وَإِنْ يَعُودُوا إلى قتاله. فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ لا يوجد فيهم شرك. وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وتضمحل عنهم الأديان الباطلة. فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر. فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم. وعن يعقوب «تعملون» بالتاء على معنى فإن الله بِمَا تَعْمَلُونَ من الجهاد والدعوة إلى الإِسلام والإِخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإِيمان بصير، فيجازيكم ويكون تعليقه بانتهائهم دلالة على أنه كما يستدعي إثابتهم للمباشرة يستدعي إثابة مقاتليهم للتسبب.
وَإِنْ تَوَلَّوْا ولم ينتهوا. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم. نِعْمَ الْمَوْلى لا يضيع من تولاه. وَنِعْمَ النَّصِيرُ لا يغلب من نصره.
[سورة الأنفال (8) : آية 41]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)(3/59)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ أي الذي أخذتموه من الكفار قهراً. مِنْ شَيْءٍ مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط. فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مبتدأ خبره محذوف أي: فثابت أن لله خمسه. وقرئ «فإن» بالكسر والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ. وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فكأنه قال: فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به. وحكمه بعده، باق غير أن سهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كما فعله الشيخان رضي الله تعالى عنهما. وقيل إلى الإمام. وقيل إلى الأصناف الأربعة. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته وصار الكل مصروفاً إلى الثلاثة الباقية. وعن مالك رضي الله تعالى عنه الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم، وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية فقال يقسم ستة أقسام ويصرف سهم الله إلى الكعبة لما
روي (أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ قبضة منه فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة) .
وقيل سهم الله لبيت المال. وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وذوو القربى: بنو هاشم، وبنو المطلب. لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى عليهما فقال له عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام وشبك بين أصابعه» .
وقيل بنو هاشم وحدهم. وقيل جميع قريش الغني والفقير فيه سواء. وقيل هو مخصوص بفقرائهم كسهم بن السبيل. وقيل الخمس كله لهم والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من كان منهم والعطف للتخصيص. والآية نزلت ببدر. وقيل الخمس كان في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة. إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ متعلق بمحذوف دل عليه وَاعْلَمُوا أي:
إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية، فإن العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل. وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا محمد صلّى الله عليه وسلّم من الآيات والملائكة والنصر. وقرئ عَبْدَنَا بضمتين أي الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل. يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ المسلمون والكافرون. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على نصر القليل على الكثير والإِمداد بالملائكة.
[سورة الأنفال (8) : آية 42]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا بدل من يَوْمَ الْفُرْقانِ، والعدوة بالحركات الثلاث شط الوادي وقد قرئ بها، والمشهور الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب. وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى البعدى من المدينة، تأنيث الأقصى وكان قياسه قلب الواو ياء كالدنيا والعليا تفرقة بين الإسم والصفة فجاء على الأصل كالقود وهو أكثر استعمالاً من القصيا. وَالرَّكْبُ أي العير أو قوادها. أَسْفَلَ مِنْكُمْ في مكان أسفل من مكانكم يعني الساحل، وهو منصوب على الظرف واقع موقع الخبر والجملة حال من الظرف قبله، وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارهم بالركب وحرصهم على المقاتلة عنها وتوطين نفوسهم على أن لا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى جهدهم، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم واستبعاد غلبتهم عادة، وكذا ذكر(3/60)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
مراكز الفريقين فإن العدوة الدنيا كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ولم يكن بها ماء، بخلاف العدوة القصوى وكذا قوله: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال ثم علمتم حالكم وحالهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم، ويأساً من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنعاً من الله تعالى خارقاً للعادة فيزدادوا إيماناً وشكراً. وَلكِنْ جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد. لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا حقيقاً بأن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه.
وقوله: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ بدل منه أو متعلق بقوله مفعولاً والمعنى:
ليموت من يموت عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة. أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإِسلام، والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة، أو من هذا حالة في علم الله وقضائه.
وقرئ «ليَهْلَكَ» بالفتح وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ويعقوب من حيي بفك الإِدغام للحمل على المستقبل. وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ بكفر من كفر وعقابه، وإيمان من آمن وثوابه، ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 43 الى 44]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مقدر باذكر أو بدل ثان من يوم الفرقان، أو متعلق بعليم أي يعلم المصالح إذ بقللهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكون تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم.
وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ لجبنتم. وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ في أمر القتال وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار.
وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما سيكون فيها وما يغير أحوالها.
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا الضميران مفعولا يرى وقَلِيلًا حال من الثاني، وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين فقال أراهم مائة، تثبيتاً لهم وتصديقاً لرؤيا الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال أبو جهل: إن محمداً وأصحابه أكلة جزور، وقللهم في أعينهم قبل التحام القتال ليجترؤوا عليهم ولا يستعدوا لهم، ثم كثرهم حتى يرونهم مثليهم لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم، وهذا من عظائم آيات تلك الوقعة فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلاً والقليل كثيراً لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد، وإنما يتصور ذلك بصد الله الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشروط.
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا كرره لاختلاف الفعل المعلل به، أو لأن المراد بالأمر ثمة الاكتفاء على الوجه المحكي وها هنا إعزاز الإِسلام وأهله وإذلال الإشراك وحزبه. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 46]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)(3/61)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً حاربتم جماعة ولم يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار، واللقاء مما غلب في القتال. فَاثْبُتُوا للقائهم. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً في مواطن الحرب داعين له مستظهرين بذكره مترقبين لنصره. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة، وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشره فارغ البال واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر أو أحد. فَتَفْشَلُوا جواب النهي.
وقيل عطف عليه ولذلك قرئ: «وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» بالجزم، والريح مستعارة للدولة من حيث إنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بها في هبوبها ونفوذها. وقيل المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله
وفي الحديث «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» .
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالكلاءة والنصرة.
[سورة الأنفال (8) : آية 47]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير. بَطَراً فخراً وأشراً. وَرِئاءَ النَّاسِ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فقال أبو جهل: لا والله حتى نقدم بدراً ونشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب، فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا وناحت عليهم النوائح، فنهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين، وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إن النهي عن الشيء أمر بضده. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ معطوف على بطراً إن جعل مصدراً في موضع الحال وكذا إن جعل مفعولاً له لكن على تأويل المصدر. وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فيجازيكم عليه.
[سورة الأنفال (8) : آية 48]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مقدر باذكر. أَعْمالَهُمْ في معاداة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وغيرها بأن وسوس إليهم.
وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ مقالة نفسانية والمعنى: أنه ألقى في روعهم وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون لكثرة عددهم وعددهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين، ولكم خبر لا غالب أو صفته وليس صلته وإلا لانتصب كقولك: لا ضارباً زيداً عندنا. فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي تلاقى الفريقان. نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ رجع القهقرى أي بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم. وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أي تبرأ منهم وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة، وقيل: لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينهم وبين كنانة من الإِحنة وكاد ذلك يثنيهم،. فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وقال لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم وإني مجيركم من بني كنانة، فلما رأى الملائكة تنزل نكص وكان يده في يد الحرث بن هشام فقال له: إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة فقال إني أرى ما لا ترون، ودفع في صدر الحارث وانطلق وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغه ذلك فقال: والله ما(3/62)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ إني أخافه أن يصيبني مكروه من الملائكة أو يهلكني ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله، والأول ما قاله الحسن واختاره ابن بحر. وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يجوز أن يكون من كلامه وأن يكون مستأنفا.
[سورة الأنفال (8) : آية 49]
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والذين لم يطمئنوا إلى الإِيمان بعد وبقي في قلوبهم شبهة. وقيل هم المشركون. وقيل المنافقون والعطف لتغاير الوصفين. غَرَّ هؤُلاءِ يعنون المؤمنين.
دِينُهُمْ حتى تعرضوا لما لا يدي لهم به فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ جواب لهم. فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يذل من استجار به وإن قل حَكِيمٌ يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 51]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)
وَلَوْ تَرى ولو رأيت فإن لو تجعل المضارع ماضياً عكس إن. إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ببدر، وإذ ظرف ترى والمفعول محذوف أي ولو ترى الكفرة أو حالهم حينئذ، والملائكة فاعل يتوفى ويدل عليه قراءة ابن عامر بالتاء ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله عز وجل وهو مبتدأ خبره يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ والجملة حال من الذين كفروا، واستغني فيه بالضمير عن الواو وهو على الأول حال منهم أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على الضميرين. وَأَدْبارَهُمْ ظهورهم أو أستاههم، ولعل المراد تعميم الضرب أي يضربون ما أقبل منهم وما أدبر. وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ عطف على يضربون بإضمار القول أي ويقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة. وقيل كانت معهم مقامع من حديد كلما ضربوا التهبت النار منها، وجواب لَوْ محذوف لتقطيع الأمر وتهويله.
ذلِكَ الضرب والعذاب. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ بسبب ما كسبت من الكفر والمعاصي وهو خبر لذلك. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عطف على «ما» للدلالة على أن سببيته مقيدة بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم. فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعاً ولا عقلاً حتى ينتهض نفي الظلم سبباً للتعذيب وظلام التكثير لأجل العبيد.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 52 الى 54]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون وهو عملهم وطريقهم الذي دأبوا فيه أي داموا عليه. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل آل فرعون. كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ تفسير لدأبهم. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ كما أخذ هؤلاء. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ لا يغلبه في دفعه شيء.(3/63)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
ذلِكَ إشارة إلى ما حل بهم. بِأَنَّ اللَّهَ بسبب أن الله. لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ مبدلاً إياها بالنقمة. حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ يبدلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ، كتغيير قريش حالهم في صلة الرحم والكف عن تعرض الآيات والرسل بمعاداة الرسول عليه السلام ومن تبعه منهم، والسعي في إراقة دمائهم والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد المبعث، وليس السبب عدم تغيير الله ما أنعم عليهم حتى يغيروا حالهم بل ما هو المفهوم له وهو جري عادته على تغييره متى يغيروا حالهم، وأصل يك يكون فحذفت الحركة للجزم ثم الواو لالتقاء الساكنين ثم النون لشبهه بالحروف اللينة تخفيفاً.
وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقولون. عَلِيمٌ بما يفعلون.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ تكرير للتأكيد ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله: بِآياتِ رَبِّهِمْ وبيان ما أخذ به آل فرعون. وقيل الأول لتشبيه الكفر والأخذ به والثاني لتشبيه التغيير في النعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم. وَكُلٌّ من الفرق المكذبة، أو من غرقى القبط وقتلى قريش. كانُوا ظالِمِينَ أنفسهم بالكفر والمعاصي.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 56]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أصروا على الكفر ورسخوا فيه. فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ فلا يتوقع منهم إيمان، ولعله إخبار عن قوم مطبوعين على الكفر بأنهم لا يؤمنون، والفاء للعطف والتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف، وقوله: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بدل من الذين كفروا بدل البعض للبيان والتخصيص، وهم يهود قريظة عاهدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا يمالئوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح وقالوا: نسينا ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم. ومن لتضمين المعاهدة معنى الأخذ والمراد بالمرة مرة المعاهدة أو المحاربة.
وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ سبة الغدر ومغبته، أو لا يتقون الله فيه أو نصره للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 57 الى 58]
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فإما تصادفنهم وتظفرن بهم، فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ ففرق عن مناصبتك ونكل عنها بقتلهم والنكاية فيهم مَنْ خَلْفَهُمْ من وراءهم من الكفرة والتشريد تفريق على اضطراب. وقرئ «فشرذ» بالذال المعجمة وكأنه مقلوب شذر ومَنْ خَلْفَهُمْ، والمعنى واحد فإنه إذا شرد من وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لعل المشردين يتعظون.
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين. خِيانَةً نقض عهد بأمارات تلوح لك. فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إلَيْهِمْ عهدهم. عَلى سَواءٍ على عدل وطريق قصد في العداوة ولا تناجزهم الحرب فإنه يكون خيانة منك، أو على سواء في الخوف أو العلم بنقض العهد وهو في موضع الحال من النابذ على الوجه الأول أي ثابتاً على طريق سوي أو منه أو من المنبوذ إليهم أو منهما على غيره، وقوله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخائِنِينَ تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال على طريقة الاستئناف.
[سورة الأنفال (8) : آية 59]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)
وَلاَ تَحْسَبَنَّ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا مفعولاه وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص(3/64)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
بالياء على أن الفاعل ضمير أحد أو مَنْ خَلْفَهُمْ، أو الَّذِينَ كَفَرُوا والمفعول الأول أنفسهم فحذف للتكرار، أو على تقدير أن سَبَقُوا وهو ضعيف لأن أن المصدرية كالموصول فلا تحذف أو على إيقاع الفعل على إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ بالفتح على قراءة ابن عامر وأن لا صلة وسَبَقُوا حال بمعنى سابقين أي مفلتين، والأظهر أنه تعليل للنهي أي: لاَ تحسبنهم سبقوا فأفلتوا لأنهم لا يفوتون الله، أو لا يجدون طالبهم عاجزاً. عن إدراكهم وكذا إن كسرت إن إلا أنه تعليل على سبيل الاستئناف، ولعل الآية إزاحة لما يحذر به من نبذ العهد وإيقاظ العدو، وقيل نزلت فيمن أفلت من فل المشركين.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 60 الى 61]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
وَأَعِدُّوا أيها المؤمنون لَهُمْ لناقضي العهد أو الكفار. مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ من كل ما يتقوى به في الحرب.
وعن عقبة بن عامر سمعته عليه الصلاة والسلام يقول على المنبر «ألا إن القوة الرمي قالها ثلاثا»
ولعله عليه الصلاة والسلام خصه بالذكر لأنه أقواه. وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، فعال بمعنى مفعول أو مصدر سمي به يقال ربط ربطاً ورباطاً ورابط مرابطة ورباطاً، أو جمع ربيط كفصيل وفصال. وقرئ «ربط الخيل» بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطفها على القوة كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة. تُرْهِبُونَ بِهِ تخوفون به، وعن يعقوب تُرْهِبُونَ بالتشديد والضمير ل مَا اسْتَطَعْتُمْ أو للإِعداد.
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ يعني كفار مكة. وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ من غيرهم من الكفرة. قيل هم اليهود وقيل المنافقون وقيل الفرس. لاَ تَعْلَمُونَهُمُ لا تعرفونهم بأعيانهم. اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ يعرفهم. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه. وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ بتضييع العمل أو نقص الثواب.
وَإِنْ جَنَحُوا مالوا ومنه الجناح. وقد يعدى باللام وإلى. لِلسَّلْمِ للصلح أو الاستسلام. وقرأ أبو بكر بالكسر. فَاجْنَحْ لَها وعاهد معهم وتأنيث الضمير لحمل السلم على نقيضها فيه. قال:
السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع
وقرئ «فاجْنُحْ» بالضم. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ولا تخف من إبطانهم خداعاً فيه، فإن الله يعصمك من مكرهم ويحيقه. بهم. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم. الْعَلِيمُ بنياتهم. والآية مخصوصة بأهل الكتاب لاتصالها بقصتهم وقيل عامة نسختها آية السيف.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 62 الى 63]
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ فإن محسبك الله وكافيك قال جرير:
إِنِّي وَجَدْتُ مِنَ المَكَارِمْ حَسْبَكُم ... أَنْ تَلْبِسُوا حرَّ الثِيَابِ وَتَشْبَعُوا
هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ جميعاً.
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مع ما فيهم من العصبية والضغينة في أدنى شيء، والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا كنفس واحدة، وهذا من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم، وبيانه: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أي تناهي عداوتهم إلى حد لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما فى الأرض(3/65)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
من الأموال لم يقدر على الألفة والإِصلاح. وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بقدرته البالغة، فإنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء. إِنَّهُ عَزِيزٌ تام القدرة والغلبة لا يعصى عليه ما يريده. حَكِيمٌ يعلم أنه كيف ينبغي أن يفعل ما يريده، وقيل الآية في الأوس والخزرج كان بينهم محن لا أمد لها ووقائع هلكت فيها ساداتهم، فأنساهم الله ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافوا وصاروا أنصارا.
[سورة الأنفال (8) : آية 64]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ كافيك. وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أما في محل النصب على المفعول معه كقوله:
إِذَا كَانت الهَيْجَاء وَاشْتَجَرَ القَنَا ... فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّد
أو الجر عطفاً على المكني عند الكوفيين، أو الرفع عطفاً على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنون.
والآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر، وقيل أسلم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة، ثم أسلم عمر رضي الله عنه فنزلت. ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في إسلامه.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 65 الى 66]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ بالغ في حثهم عليه، وأصله الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفي على الموت وقرئ «حرص» من الحرص. إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد للعشرة، والوعد بأنهم إن صبروا غلبوا بعون الله وتأييده. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «تكن» بالتاء في الآيتين ووافقهم البصريان في وَإِنْ تَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بسبب أنهم جهلة بالله واليوم الآخر لا يثبتون ثياب المؤمنين رجاء الثواب وعوالي الدرجات قَتَلُوا أو قُتِلُوا ولا يستحقون من الله إلا الهوان والخذلان.
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ لما أوجب على الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم وثقل ذلك عليهم خفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين، وقيل كان فيهم قلة فأمروا بذلك ثم لما كثروا خفف عنهم، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد والضعف ضعف البدن. وقيل ضعف البصيرة وكانوا متفاوتين فيها، وفيه لغتان الفتح وهو قراءة عاصم وحمزة والضم وهو قراءة الباقين. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون.
[سورة الأنفال (8) : آية 67]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
ما كانَ لِنَبِيٍّ وقرئ «للنبي» على العهد. أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى وقرأ البصريان بالتاء. حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز الإِسلام ويستولي أهله، من أثخنه المرض إذا(3/66)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
أثقله وأصله الثخانة، وقرئ «يُثْخِنَ» بالتشديد للمبالغة. تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا حطامها بأخذكم الفداء.
وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يريد لكم ثواب الآخرة أو سبب نيل ثواب الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه. وقرئ بجر الْآخِرَةَ على إضمار المضاف كقوله:
أكلّ امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بِاللَّيْلِ نَاراً
وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياءه على أعدائه. حَكِيمٌ يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها، كما أمر بالإِثخان ومنع عن الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين وخير بينه وبين المن لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين.
روي أنه عليه السلام أتى يوم بدر بسبعين أسيراً فيهم العباس وعقيل بن أبي طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء، مكني من فلان- لنسيب له- ومكن علياً وحمزة من أخويهما فلنضرب أعناقهم، فلم يهو ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومثلك يا عمر مثل نوح قال: رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً فخير أصحابه فأخذوا الفداء، فنزلت فدخل عمر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال: «يا رسول الله أخبرني فإن أجد بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال: ابك على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة، لشجرة قريبة» .
والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يقرون عليه.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 68 الى 69]
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ، وهو أن لا يعاقب المخطئ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهل بدر أو قوماً بما لم يصرح لهم بالنهي عنه، أو أن الفدية التي أخذوها ستحل لهم. لَمَسَّكُمْ لنالكم. فِيما أَخَذْتُمْ من الفداء. عَذابٌ عَظِيمٌ
روي أنه عليه السلام قال: «لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ» .
وذلك لأنه أيضاً أشار بالإثخان.
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ من الفدية فإنها من جملة الغنائم. وقيل أمسكوا عن الغنائم فنزلت. والفاء للتسبب والسبب محذوف تقديره: أبحت لكم الغنائم فكلوا، وبنحوه تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة. حَلالًا حال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلاً حلالاً، وفائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة، أو حرمتها على الأولين ولذلك وصفه بقوله: طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ غفر لكم ذنبكم رَحِيمٌ أباح لكم ما أخذتم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى وقرأ أبو عمرو «من الأسارى» . إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً إيماناً وإخلاصاً. يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء.
روي (أنها نزلت في العباس رضي الله عنه(3/67)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
كلفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفدي نفسه وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال: يا محمد تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت فقال: أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك وقلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم، فقال العباس:
وما يدريك، قال: أخبرني به ربي تعالى، قال: فأشهد أنك صادق وَأَن لاَّ إله إِلاَّ الله وأنك رسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل، قال العباس فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربكم)
يعني الموعود بقوله: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَإِنْ يُرِيدُوا يعني الأسرى. خِيانَتَكَ نقض ما عاهدوك. فَقَدْ خانُوا اللَّهَ بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ بالعقل. مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي فأمكنك منهم كما فعل يوم بدر فإن أعادوا الخيانة فسيمكنك منهم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا هم المهاجرون هاجروا أوطانهم حباً لله ولرسوله. وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ فصرفوها في الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج. وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمباشرة القتال. وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا هم الأنصار آووا المهاجرين إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم. أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نسخ بقوله:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ أو بالنصرة والمظاهرة. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا أي من توليهم في الميراث، وقرأ حمزة وَلايَتِهِمْ بالكسر تشبيهاً لها بالعمل والصناعة كالكتابة والإمارة كأنه بتوليه صاحبه يزاول عملاً. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين. إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ عهد فإنه لا ينقض عهدهم لنصرهم عليهم. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في الميراث أو المؤازرة، وهو بمفهومه يدل على منع التوارث أو المؤازرة بينهم وبين المسلمين. إِلَّا تَفْعَلُوهُ إلا تفعلوا ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولى بعضكم لبعض حتى في التوارث وقطع العلائق بينكم وبين الكفار. تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ تحصل فتنة فيها عظيمة، وهي ضعف الإيمان وظهور الكفر. وَفَسادٌ كَبِيرٌ في الدين وقرئ «كثير» .
[سورة الأنفال (8) : الآيات 74 الى 75]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لما قسم المؤمنين ثلاثة أقسام بين أن الكاملين في الإيمان منهم هم الذين حققوا إيمانهم بتحصيل مقتضاه من الهجرة والجهاد(3/68)
وبذل المال ونصرة الحق، ووعد لهم الموعد الكريم فقال. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لا تبعة له ولا منة فيه، ثم ألحق بهم في الأمرين من سيلحق بهم ويتسم بسمتهم فقال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في التوارث من الأجانب. فِي كِتابِ اللَّهِ في حكمه، أو في اللوح أو في القرآن واستدل به على توريث ذوي الأرحام. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من المواريث والحكمة في إناطتها بنسبة الإِسلام والمظاهرة، أولاً واعتبار القرابة ثانياً.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة، وشاهد أنه بريء من النفاق، وأعطي عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة، وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته» .(3/69)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
(9) سورة براءة
مدنية وقيل إلا آيتين من قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وهي آخر ما نزل ولها أسماء أخر، «التوبة» و «المقشقشة» و «البحوث» و «المبعثرة» و «المنقرة» و «المثيرة» و «الحافرة» و «المخزية» و «الفاضحة» و «المنكلة» و «المشردة» و «المدمدمة» و «سورة العذاب» لما فيها من التوبة للمؤمنين والقشقشة من النفاق وهي التبري منه، والبحث عن حال المنافقين وإثارتها، والحفر عنها وما يخزيهم ويفضحهم وينكلهم ويشردهم ويدمدم عليهم.
وأيها مائة وثلاثون وقيل تسع وعشرون، وإنما تركت التسمية فيها لأنها نزلت لرفع الأمان وبسم الله أمان. وقيل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا نزلت عليه سورة أو آية بين موضعها، وتوفي ولم يبين موضعها وكانت قصتها تشابه قصة الأنفال وتناسبها لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذها فضمت إليها. وقيل لما اختلفت الصحابة في أنهما سورة واحدة هي سابعة السبع الطوال أو سورتان تركت بينهما فرجة ولم تكتب بسم الله.
[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 2]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي هذه براءة، ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف تقديره وأصله مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ويجوز أن تكون بَراءَةٌ مبتدأ لتخصصها بصفتها والخبر إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وقرئ بنصبها على اسمعوا براءة، والمعنى: أن الله ورسوله برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وإنما علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم وإن كانت صادرة بإذن الله تعالى واتفاق الرسول فإنهما برئا منها، وذلك أنهم عاهدوا مشركي العرب فنكثوا إلا أناساً منهم بنو ضمرة وبنو كنانة فأمرهم بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهل المشركين أربعة أشهر ليسيروا أين شاؤوا فقال:
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ شوال وذي القعدة وذي الحجة والمحرم لأنها نزلت في شوال. وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر لأن التبليغ كان يوم النحر لما
روي (أنها لما نزلت أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم، وكان قد بعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه أميراً على الموسم فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال: لا يؤدي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي رضي الله تعالى عنه سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما لحقه قال: أمير أو مأمور قال مأمور، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم، فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده) .
ولعل
قوله صلّى الله عليه وسلّم «لا يؤدي عني إلا رجل مني»
ليس على العموم، فإنه صلّى الله عليه وسلّم بعث لأن يؤدي عنه كثير لم يكونوا من عترته، بل هو مخصوص بالعهود فإن عادة العرب أن لا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل(3/70)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
منها، ويدل عليه أنه
في بعض الروايات «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي» .
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تفوتونه وإن أمهلكم. وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ بالقتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 3 الى 4]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ أي إعلام فعال بمعنى الإِفعال كالأمان والعطاء، ورفعه كرفع بَراءَةٌ على الوجهين. يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يوم العيد لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله، ولأن الإِعلام كان فيه ولما
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال «هذا يوم الحج الأكبر»
وقيل يوم عرفة
لقوله صلّى الله عليه وسلّم «الحج عرفة» .
ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر، أو لأن المراد بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال، أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب، أو لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين. أَنَّ اللَّهَ أي بأن الله. بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي من عهودهم. وَرَسُولِهِ عطف على المستكن في بَرِيءٌ، أو على محل أَنَّ واسمها في قراءة من كسرها إجراء للأذان مجرى القول، وقرئ بالنصب عطفاً على اسم أَن أو لأن الواو بمعنى مع ولا تكرير فيه، فإن قوله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ إخبار بثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإِعلام بذلك ولذلك علقه بالناس ولم يخصه بالمعاهدين. فَإِنْ تُبْتُمْ من الكفر والغدر. فَهُوَ فالتوب خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن التوبة أو ثبتم على التولي عن الإسلام والوفاء. فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تفوتونه طلباً ولا تعجزونه هرباً في الدنيا. وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ في الآخرة.
إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ استثناء من المشركين، أو استدراك فكأنه قيل لهم بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين ولكن الذين عاهدوا منهم. ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من شروط العهد ولم ينكثوه أو لم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط. وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إلى تمام مدتهم ولا تجروهم مجرى الناكثين. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى.
[سورة التوبة (9) : الآيات 5 الى 6]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6)
فَإِذَا انْسَلَخَ انقضى، وأصل الانسلاخ خروج الشيء مما لابسه من سلخ الشاة. الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها. وقيل هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهذا مخل بالنظم مخالف للإِجماع فإنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم إذ ليس فيما نزل بعد ما ينسخها. فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الناكثين.
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من حل أو حرم. وَخُذُوهُمْ وأسروهم، والأخيذ الأسير. وَاحْصُرُوهُمْ واحبسوهم أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام. وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ كل ممر لئلا يتبسطوا في البلاد، وانتصابه على الظرف. فَإِنْ تابُوا عن الشرك بالإِيمان. وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم.(3/71)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك، وفيه دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر أي فخلوهم لأن الله غفور رحيم غفر لهم ما قد سلف وعدلهم الثواب بالتوبة.
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ المأمور بالتعرض لهم. اسْتَجارَكَ استأمنك وطلب منك جوارك.
فَأَجِرْهُ فأمنه. حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر. ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ موضع أمنه إن لم يسلم، وأحدٌ رفع بفعل يفسره ما بعده لا بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل. ذلِكَ الأمن أو الأمر.
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه فلا بد من أمانهم ريثما يسمعون ويتدبرون.
[سورة التوبة (9) : آية 7]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ استفهام بمعنى الإِنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد ولا ينكثوه مع وغرة صدورهم، أو لأن يفي الله ورسوله بالعهد وهم نكثوه، وخبر يكون كيف وقدم للاستفهام أو للمشركين أو عند الله وهو على الأولين صفة لل عَهْدٌ أو ظرف له أو ل يَكُونُ، وكَيْفَ على الأخيرين حال من ال عَهْدٌ ولِلْمُشْرِكِينَ إن لم يكن خبراً فتبيين. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ هم المستثنون قبل ومحله النصب على الاستثناء أو الجر على البدل أو الرفع على أن الاستثناء منقطع أي: ولكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام. فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي فتربصوا أمرهم فإن استقاموا على العهد فاستقيموا على الوفاء وهو كقوله فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ غير أنه مطلق وهذا مقيد وما تحتمل الشرطية والمصدرية إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ سبق بيانه.
[سورة التوبة (9) : آية 8]
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)
كَيْفَ تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أو بقاء حكمه مع التنبيه على العلة وحذف الفعل للعلم به كما في قوله:
وَخَبَّرتماني أَنَّما الموْتُ بِالقُرَى ... فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَةٌ وَقَلِيبُ
أي فكيف مات. وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي وحالهم أنهم إن يظفروا بكم. لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ لا يراعوا فيكم. إِلًّا حلفاً وقيل قرابة قال حسان:
لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْش ... كَإِلَّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ
وقيل ربوبية ولعله اشتق للحلف من الإِل وهو الجؤار لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه، ثم استعير للقرابة لأنها تعقد بين الأقارب ما لا يعقده الحلف، ثم للربوبية والتربية. وقيل اشتقاقه من ألل الشيء إذا حدده أو من آل البرق إذا لمع. وقيل إنه عبري بمعنى الإِله لأنه قرئ إيلا كجبرئل وجبرئيل. وَلا ذِمَّةً عهداً أو حقاً يعاب على إغفاله. يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ استئناف لبيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد المؤدية إلى عدم مراقبتهم عند الظفر، ولا يجوز جعله حالاً من فاعل لا يرقبوا فإنهم بعد ظهورهم لا يرضون ولأن المراد إثبات إرضائهم المؤمنين بوعد الإِيمان والطاعة والوفاء بالعهد في الحال، واستبطان الكفر والمعاداة بحيث إن ظفروا لم يبقوا عليهم والحالية تنافيه وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ ما تتفوه به أفواههم. وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردعهم، وتخصيص الأكثر لما في بعض(3/72)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
الكفرة من التفادي عن الغدر والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء.
[سورة التوبة (9) : الآيات 9 الى 10]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ استبدلوا بالقرآن. ثَمَناً قَلِيلًا عرضاً يسيراً وهو اتباع الأهواء والشهوات. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ دينه الموصل إليه، أو سبيل بيته بحصر الحجاج والعمار، والفاء للدلالة على أن اشتراءهم أداهم إلى الصد. إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ عملهم هذا أو ما دل عليه قوله: لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً فهو تفسير لا تكرير. وقيل الأول عام في الناقضين وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود، أو الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ في الشرارة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 11 الى 12]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
فَإِنْ تابُوا عن الكفر. وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ فهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين أو خصال التائبين.
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وإن نكثوا ما بايعوا عليه من الإِيمان أو الوفاء بالعهود. وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام. فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل. وقيل المراد بالأئمة رؤساء المشركين فالتخصيص إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به أو للمنع من مراقبتهم. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وروح عن يعقوب أئمة بتحقيق الهمزتين على الأصل والتصريح بالياء لحن. إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي لا أيمان لهم على الحقيقة وإلا لما طعنوا ولم ينكثوا، وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإِسلام فقد نكث عهده، واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر ليست يميناً وهو ضعيف لأن المراد نفي الوثوق عليها لا أنها ليست بأيمان لقوله تعالى وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وقرأ ابن عامر لا أيمان لهم بمعنى لا أمان أو لا إسلام، وتشبث به من لم يقبل توبة المرتد وهو ضعيف لجواز أن يكون بمعنى لا يؤمنون على الإِخبار عن قوم معينين أو ليس لهم إيمان فيراقبوا لأجله. لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ متعلق ب «بقاتلوا» أي ليكن غرضكم في المقاتلة أن ينتهوا عما هم عليه لا إيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين.
[سورة التوبة (9) : آية 13]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً تحريض على القتال لأن الهمزة دخلت على النفي للإنكار فأفادت المبالغة في الفعل. نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ التي حلفوها مع الرسول عليه السلام والمؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم فعاونوا بني بكر على خزاعة. وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ حين تشاوروا في أمره بدار الندوة على ما مر ذكره في قوله:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وقيل هم اليهود نكثوا عهد الرسول وهموا بإخراجه من المدينة. وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بالمعاداة والمقاتلة لأنه عليه الصلاة والسلام بدأهم بالدعوة وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي(3/73)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
به، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم. أَتَخْشَوْنَهُمْ أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم. فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فقاتلوا أعداءه ولا تتركوا أمره. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإِن قضية الإِيمان أن لا يخشى إلا منه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 14 الى 15]
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
قاتِلُوهُمْ أمر بالقتال بعد بيان موجبه والتوبيخ على تركه والتوعد عليه. يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وعد لهم إن قاتلوهم بالنصر عليهم والتمكن من قتلهم وإذلالهم. وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ يعني بني خزاعة.
وقيل بطوناً من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديداً فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أبشروا فإن الفرج قريب» .
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ لما لقوا منهم وقد أوفى الله بما وعدهم والآية من المعجزات. وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ابتداء إخبار بأن بعضهم يتوب عن كفره وقد كان ذلك أيضا، وقرئ «وَيَتُوبَ» بالنصب على إضمار أن على أنه من جملة ما أجيب به الأمر فإن القتال كما تسبب لتعذيب قوم تسبب لتوبة قوم آخرين.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما كان وما سيكون. حَكِيمٌ لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق الحكمة.
[سورة التوبة (9) : آية 16]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)
أَمْ حَسِبْتُمْ خطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال. وقيل للمنافقين وأَمْ منقطعة ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على الحسبان. أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ولم يتبين الخلص منكم وهم الذين جاهدوا من غيرهم، نفى العلم وأراد نفي المعلوم للمبالغة فإنه كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه. وَلَمْ يَتَّخِذُوا عطف على جاهَدُوا داخل في الصلة. مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً بطانة يوالونهم ويَفشون إليهم أسرارهم. وما في لَمَّا من معنى التوقع منبه على أن تبين ذلك متوقع. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعلم غرضكم منه وهو كالمزيج لما يتوهم من ظاهر قوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ.
[سورة التوبة (9) : آية 17]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17)
مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ ما صح لهم. أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شيئاً من المساجد فضلاً عن المسجد الحرام وقيل هو المراد وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع ويدل عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب بالتوحيد. شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بإظهار الشرك وتكذيب الرسول، وهو حال من الواو والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت الله وعبادة غيره.
روي (أنه لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحم وأغلظ له علي رضي الله تعالى عنه في القول فقال: ما بالكم تذكرون «مساوينا» وتكتمون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني) فنزلت.
أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك. وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ لأجله.
[سورة التوبة (9) : آية 18]
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)(3/74)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ أي إنما تستقيم عَمَارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية ومن عمارتها تزيينها بالفرش وتنويرها بالسرج وإدامة العبادة والذكر ودرس العلم فيها وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا،
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «قال الله تعالى إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره» .
وإنما لم يذكر الإِيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم لما علم أن الإِيمان بالله قرينة وتمامه الإِيمان به ولدلالة قوله وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ عليه. وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ أي في أبواب الدين فإن الخشية عن المحاذير جبلية لا يكاد العاقل يتمالك عنها. فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ذكره بصيغة التوقع قطعاً لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم وتوبيخاً لهم بالقطع بأنهم مهتدون، فإن هؤلاء مع كمالهم إذا كان اهتداؤهم دائراً بين عسى ولعل فما ظنك بأضدادهم، ومنعاً للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم ويتكلوا عليها.
[سورة التوبة (9) : آية 19]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ السقاية والعمارة مصدر أسقى وعمر فلا يشبهان بالجثث بل لا بد من إضمار تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن، أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن. ويؤيد الأول قراءة من قرأ «سقاة الحاج وعمرة المسجد» والمعنى إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة ثم قرر ذلك بقوله: لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وبين عدم تساويهم بقوله: وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة الرسول عليه الصلاة والسلام منهمكون في الضلالة فكيف يساوون الذين هداهم الله ووفقهم للحق والصواب، وقيل المراد بالظالمين الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين.
[سورة التوبة (9) : الآيات 20 الى 22]
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم تستجمع فيه هذه الصفات أو من أهل السقاية والعمارة عندكم. وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ بالثواب ونيل الحسنى عند الله دونكم.
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها في الجنات. نَعِيمٌ مُقِيمٌ دائم، وقرأ حمزة يُبَشِّرُهُمْ بالتخفيف، وتنكير المبشر به إشعار بأنه وراء التعيين والتعريف.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً أكد الخلود بالتأبيد لأنه قد يستعمل للمكث الطويل. إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يستحقر دونه ما استوجبوه لأجله أو نعيم الدنيا.
[سورة التوبة (9) : آية 23]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ نزلت في المهاجرين فإنهم لما أمروا بالهجرة(3/75)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
قالوا: إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبنائنا وعشائرنا وذهبت تجاراتنا وبقينا ضائعين. وقيل نزلت نهياً عن موالاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، والمعنى لا تتخذوهم أولياء يمنعونكم عن الإِيمان ويصدونكم عن الطاعة لقوله: إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ إن اختاروه وحرصوا عليه. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضعهم الموالاة في غير موضعها.
[سورة التوبة (9) : آية 24]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ أقرباؤكم مأخوذ من العشرة. وقيل من العشرة فإن العشيرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة. وقرأ أبو بكر «وعشيراتكم» وقرئ «وعشائركم» .
وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اكتسبتموها. وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها فوات وقت نفاقها. وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ الحب الاختياري دون الطبيعي فإنه لا يدخل تحت التكليف في التحفظ عنه. فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ جواب ووعيد والأمر عقوبة عاجلة أو آجلة. وقيل فتح مكة.
وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لا يرشدهم، وفي الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص منه.
[سورة التوبة (9) : آية 25]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ يعني مواطن الحرب وهي مواقفها. وَيَوْمَ حُنَيْنٍ وموطن يوم حنين ويجوز أن يقدر في أيام مواطن أو يفسر الموطن بالوقت كمقتل الحسين ولا يمنع إبدال قوله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ منه أن يعطف على موضع في مَواطِنَ فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جمع المواطن. وحُنَيْنٍ واد بين مكة والطائف حارب فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون- وكانوا اثني عشر ألفاً، العشرة الذين حضروا فتح مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء- هوازن وثقيفاً وكانوا أربعة آلاف فلما التقوا
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة، إعجاباً بكثرتهم واقتتلوا قتالاً شديداً فأدرك المسلمين إعجابهم واعتمادهم على كثرتهم فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجامه وابن عمه أبو سفيان بن الحرث، وناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته فقال للعباس- وكان صيّتا- «صيح بالناس» ، فنادى: يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقاً واحداً يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال صلّى الله عليه وسلّم «هذا حين حمي الوطيس» ، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم ثم قال: «انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا.
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ أي الكثرة. شَيْئاً من الإِغناء أو من أمر العدو. وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ برحبها أي بسعتها لا تجدون فيها مفراً تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه. ثُمَّ وَلَّيْتُمْ الكفار ظهوركم. مُدْبِرِينَ منهزمين والإِدبار الذهاب إلى خلف خلاف الإقبال.
[سورة التوبة (9) : الآيات 26 الى 27]
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)(3/76)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ رحمته التي سكنوا بها وأمنوا. عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين انهزموا وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حاليهما. وقيل هم الذين ثبتوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يفروا.
وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها بأعينكم أي الملائكة وكانوا خمسة آلاف أو ثمانية أو ستة عشر على اختلاف الأقوال. وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر والسبي. وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أي ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا.
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ منهم بالتوفيق للإسلام. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم.
روي (أن ناسا منهم جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأسلموا وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. وقد سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الابل والغنم ما لا يحصى. فقال صلّى الله عليه وسلّم: اختاروا إما سباياكم وإما أموالكم؟ فقالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إن هؤلاء جاءوا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه فقالوا:
رضينا وسلمنا فقال: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا إلينا فرفعوا أنهم قد رضوا) .
[سورة التوبة (9) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ لخبث باطنهم أو لأنه يجب أن يجتنب عنهم كما يجتنب عن الأنجاس، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يتجنبون عن النجاسات فهم ملابسون لها غالباً. وفيه دليل على أن ما الغالب نجاسته نجس. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب. وقرئ «نَجْسٌ» بالسكون وكسر النون وهو ككبد في كبد وأكثر ما جاء تابعاً لرجس. فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ لنجاستهم، وإنما نهى عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع عن دخول الحرم. وقيل المراد به النهي عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقاً وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع. بَعْدَ عامِهِمْ هذا يعني سنة بَرَاءة وهي التاسعة.
وقيل سنة حجة الوداع. وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فقراً بسبب منعهم من الحرم وانقطاع ما كان لكم من قدومهم من المكاسب والأرفاق. فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من عطائه أو تفضله بوجه آخر وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدراراً ووفق أهل تبالة وجرش فأسلموا وامتاروا لهم، ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار الأرض. وقرئ «عائلة» على أنها مصدر كالعافية أو حال. إِنْ شاءَ قيده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى الله تعالى ولينبه على أنه تعالى متفضل في ذلك وأن الغني الموعود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم. حَكِيمٌ فيما يعطي ويمنع.
[سورة التوبة (9) : آية 29]
قاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)
قاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي لا يؤمنون بهما على ما ينبغي كما بيناه في أول «البقرة» فإن إيمانهم كلا إيمان. وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وقيل رسوله هو الذي يزعمون اتباعه والمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقاداً وعملاً. وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ الثابت الذي هو ناسخ سائر الأديان ومبطلها. مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بيان للذين لا يؤمنون. حَتَّى(3/77)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
ما تقرر عليهم أن يعطوه مشتق من جزى دينه إذا قضاه. عَنْ يَدٍ حال من الضمير أي عن يد مؤاتية بمعنى منقادين، أو عن يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه، أو عن غنى ولذلك قيل: لا تؤخذ من الفقير، أو عن يد قاهرة عليهم بمعنى عاجزين أذلاء أو من الجزية بمعنى نقداً مسلمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم فإن إبقاءهم بالجزية نعمة عظيمة. وَهُمْ صاغِرُونَ أذلاء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: تؤخذ الجزية من الذمي وتوجأ عنقه. ومفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ويؤيده
أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، أنه صلّى الله عليه وسلّم أخذها من مجوس هجر. وأنه قال: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»
وذلك لأنهم لهم شبهة كتاب فألحقوا بالكتابيين، وأما سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تؤخذ منهم إلا مشركي العرب لما
روى الزهري أنه صلّى الله عليه وسلّم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب،
وعند مالك رحمه الله تعالى تؤخذ من كل كافر إلا المرتد، وأقلها في كل سنة دينار سواء فيه الغني والفقير، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى على الغني ثمانية وأربعون درهماً وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على الفقير غير الكسوب.
[سورة التوبة (9) : آية 30]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ إنما قاله بعضهم من متقدميهم أو ممن كانوا بالمدينة، وإنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة، وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظاً فتعجبوا من ذلك وقالوا: ما هذا إلا أنه ابن الله. والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب. وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب عُزَيْرٌ بالتنوين على أنه عربي مخبر عنه بابن غير موصوف به وحذفه في القراءة الأخرى إما لمنع صرفه للعجمة والتعريف، أو لالتقاء الساكنين تشبيهاً للنون بحروف اللين أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا وهو مزيف لأنه يؤدي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر. وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ هو أيضاً قول بعضهم، وإنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب أو لأن يفعل ما فعله من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى من لم يكن إلهاً. ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي للتجوز عنها، أو إشعار بأنه قول مجرد عن برهان وتحقيق مماثل للمهمل الذي يوجد في الأفواه ولا يوجد مفهومه في الأعيان. يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يضاهي قولهم قول الذين كفروا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. مِنْ قَبْلُ أي من قبلهم والمراد قدماؤهم على معنى أن الكفر قديم فيهم، أو المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله، أو اليهود على أن الضمير للنصارى، والمضاهاة المشابهة والهمز لغة فيه. وقرأ به عاصم ومنه قولهم امرأة ضهياء على فعيل للتي شابهت الرجال في أنها لا تحيض. قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بالإِهلاك فإن من قاتله الله هلك، أو تعجب من شناعة قولهم. أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.
[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 32]
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32)
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله أو بالسجود لهم. وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ بأن جعلوه ابناً لله. وَما أُمِرُوا أي وما أمر المتخذون أو المتخذون(3/78)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
أرباباً فيكون كالدليل على بطلان الاتخاذ. إِلَّا لِيَعْبُدُوا ليطيعوا. إِلهاً واحِداً وهو الله تعالى وأما طاعة الرسول وسائر من أمر الله بطاعته فهو في الحقيقة طاعة الله. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية أو استئناف مقرر للتوحيد. سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه له عن أن يكون له شريك.
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا يخمدوا. نُورَ اللَّهِ حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه عن الولد، أو القرآن أو نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. بِأَفْواهِهِمْ بشركهم أو بتكذيبهم. وَيَأْبَى اللَّهُ أي لا يرضى. إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بإعلاء التوحيد وإعزاز الإِسلام. وقيل إنه تمثيل لحالهم في طلبهم إبطال نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالتكذيب بحال من يطلب إطفاء نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده بنفخه، وإنما صح الاستثناء المفرغ والفعل موجب لأنه في معنى النفي. وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه.
[سورة التوبة (9) : آية 33]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كالبيان لقوله: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ولذلك كرر وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ غير أنه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الشرك بالله، والضمير في لِيُظْهِرَهُ للدين الحق، أو للرسول عليه الصلاة والسلام واللام في الدِّينِ للجنس أي على سائر الأديان فينسخها، أو على أهلها فيخذلهم.
[سورة التوبة (9) : آية 34]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ يأخذونها بالرشا في الأحكام سمي أخذ المال أكلاً لأنه الغرض الأعظم منه. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه. وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ يجوز أن يراد به الكثير من الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال والضن به وأن يراد المسلمون الذين يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدون حقه ويكون اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب للتغليظ، ويدل عليه أنه
لما نزل كبر على المسلمين فذكر عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم»
،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أدى زكاته فليس بكنز»
أي بكنز أوعد عليه، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإِنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه، وأما
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها»
ونحوه فالمراد منها ما لم يؤد حقها
لقوله عليه الصلاة والسلام فيما أورده الشيخان مروياً عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره»
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ هو الكي بهما.
[سورة التوبة (9) : آية 35]
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ أي يوم توقد النار ذات حمى شديد عليها، وأصله تحمى بالنار فجعل الإِحماء للنار مبالغة ثم حذفت النار وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيهاً على المقصود فانتقل من صيغة(3/79)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
التأنيث إلى صيغة التذكير، وإنما قال عَلَيْها والمذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة كما
قال علي رضي الله تعالى عنه: أربعة آلاف وما دونها نفقة وما فوقها كنز.
وكذا قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَها وقيل الضمير فيهما للكنوز أو للأموال فطن الحكم عام وتخصيصهما بالذكر لأنهما قانون التمول، أو للفضة وتخصيصها لقربها ودلالة حكمها على أن الذهب أولى بهذا الحكم. فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ لأن جمعهم وإمساكهم إياه كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية، أو لأنهم ازوروا عن السائل وأعرضوا عنه وولوه ظهورهم، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هى مقاديم البدن ومآخيره وجنباه. هذا مَا كَنَزْتُمْ على إرادة القول. لِأَنْفُسِكُمْ لمنفعتها وكان عين مضرتها وسبب تعذيبها.
فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي وبال كنزكم أو ما تكنزونه وقرئ «تكنزون» بضم النون.
[سورة التوبة (9) : آية 36]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ أي مبلغ عددها. عِنْدَ اللَّهِ معمول عدة لأنها مصدر. اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ في اللوح المحفوظ، أو في حكمه وهو صفة لاثني عشر، وقوله: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ متعلق بما فيه من معنى الثبوت أو بالكتاب إن جعل مصدراً والمعنى: أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر مذ خلق الله الأجرام والأزمنة. مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام والعرب ورثوه منهما. فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بهتك حرمتها وارتكاب حرامها والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة، وأولوا الظلم بارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزراً كارتكابها في الحرم وحال الإِحرام، وعن عطاء أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم وفي الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأول ما
روى (أنه عليه الصلاة والسلام حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة) .
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً جميعاً وهو مصدر كف عن الشيء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة وقع موقع الحال. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم.
[سورة التوبة (9) : آية 37]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
إِنَّمَا النَّسِيءُ أي تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهراً آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد، وعن نافع برواية ورش إِنَّمَا النسي بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها. وقرئ «النسي» بحذفها و «النسء» و «النساء» وثلاثتها مصادر نسأه إذا أخره. زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم. يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ضلالاً زائداً. وقرأ حمزة والكسائي وحفص يُضَلُّ على البناء للمفعول، وعن يعقوب يُضَلُّ على أن الفعل لله تعالى. يُحِلُّونَهُ عَامًا يحلون المنسي من الأشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهراً آخر. وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا فيتركونه على حرمته. قيل: أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل في الموسم فينادي:
إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم ينادي في القبائل إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه.
والجملتان تفسير للضلال أو حال. لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ أي ليوافقوا عدة الأربعة المحرمة، واللام متعلقة(3/80)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
بيحرمونه أو بما دل عليه مجموع الفعلين فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ بمواطأة العدة وحدها من غير مراعاة الوقت.
زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وقرئ على البناء للفاعل وهو الله تعالى، والمعنى خذلهم وأضلهم حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسناً. وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ هداية موصلة إلى الاهتداء.
[سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 39]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ تباطأتم، وقرئ «تثاقلتم» على الأصل واثَّاقَلْتُمْ على الاستفهام للتوبيخ. إِلَى الْأَرْضِ متعلق به كأنه ضمن معنى الإِخلاد والميل فعدى بإلى، وكان ذلك في غزوة تبوك أمروا بها بعد رجوعهم من الطائف في وقت عسرة وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم. أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا وغرورها. مِنَ الْآخِرَةِ بدل الآخرة ونعيمها. فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فما التمتع بها. فِي الْآخِرَةِ في جنب الآخرة. إِلَّا قَلِيلٌ مستحقر.
إِلَّا تَنْفِرُوا إن لا تنفروا إلى ما استنفرتم إليه. يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً بالإهلاك بسبب فظيع كقحط وظهور عدو. وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ويستبدل بكم آخرين مطيعين كأهل اليمن وأبناء فارس. وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً إذ لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئاً فإنه الغني عن كل شيء وفي كل أمر. وقيل الضمير للرسول صلّى الله عليه وسلّم أي ولا تضروه فإن الله سبحانه وتعالى وعد له بالعصمة والنصر ووعده حق. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مددكما قال.
[سورة التوبة (9) : آية 40]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ أي إن لم تنصره فسينصره الله كما نصره. إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ ولم يكن معه إلا رجل واحد، فحذف الجزاء وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه، أو إن لم تنصروه فقد أوجب الله له النصر حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره، وإسناد الإِخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله تسبب لإذن الله له بالخروج. وقرئ «ثَانِيَ اثنين» بالسكون على لغة من يجري المنقوص مجرى المقصور في الإعراب ونصبه على الحال. إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع، والغار نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثاً. إِذْ يَقُولُ بدل ثان أو ظرف لثاني. لِصاحِبِهِ وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بالعصمة والمعونة.
روي (أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ، فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه) .
وقيل لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أمنته التي تسكن عندها القلوب. عَلَيْهِ على النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو على صاحبه وهو الأظهر لأنه كان منزعجاً. وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين، فتكون الجملة معطوفة على قوله نَصَرَهُ اللَّهُ. وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى يعني الشرك أو دعوة الكفر. وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا يعني التوحيد أو دعوة الإِسلام، والمعنى وجعل ذلك بتخليص(3/81)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن أيدي الكفار إلى المدينة فإنه المبدأ له، أو بتأييده إياه بالملائكة في هذه المواطن أو بحفظه ونصره له حيث حضر. وقرأ يعقوب وَكَلِمَةُ اللَّهِ بالنصب عطفاً على كلمة الَّذِينَ، والرفع أبلغ لما فيه من الإِشعار بأن كَلِمَةُ اللَّهِ عالية في نفسها وإن فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولا اعتبار ولذلك وسط الفصل. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ في أمره وتدبيره.
[سورة التوبة (9) : آية 41]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
انْفِرُوا خِفافاً لنشاطكم له. وَثِقالًا عنه لمشقته عليكم، أو لقلة عيالكم ولكثرتها أو ركباناً ومشاة، أو خفافاً وثقالاً من السلاح، أو صحاحاً ومراضاً ولذلك
لما قال ابن أم مكتوم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعلي أن أنفر قال «نعم» . حتى نزل لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.
وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من تركه. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير علمتم أنه خير، أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ إخبار الله تعالى به صدق فبادروا إليه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 43]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)
لَوْ كانَ عَرَضاً أي لو كان ما دعوا إليه نفعاً دنيوياً. قَرِيباً سهل المأخذ. وَسَفَراً قاصِداً متوسطاً. لَاتَّبَعُوكَ لوافقوك. وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي المسافة التي تقطع بمشقة. وقرئ بكسر العين والشين. وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي المتخلفون إذا رجعت من تبوك معتذرين. لَوِ اسْتَطَعْنا يقولون لو كان لنا استطاعة العدة أو البدن. وقرئ «لَوِ استطعنا» بضم الواو تشبيهاً لها بواو الضمير في قوله: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ. لَخَرَجْنا مَعَكُمْ ساد مسد جوابي القسم والشرط، وهذا من المعجزات لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بإيقاعها في العذاب، وهو بدل من سيحلفون لأن الحلف الكاذب إيقاع للنفس في الهلاك أو حال من فاعله. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في ذاك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج.
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ كناية لا عن خطئه في الإِذن فإن العفو من روادفه. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بيان لما كني عنه بالعفو ومعاتبة عليه، والمعنى لأي شيء أذنت لهم في القعود حين استأذنوك واعتلوا بأكاذيب وهلا توقفت.
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في الاعتذار. وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ فيه. قيل إنما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئين لم يؤمر بهما، أخذه للفداء وإذنه للمنافقين فعاتبه الله عليهما.
[سورة التوبة (9) : الآيات 44 الى 45]
لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي ليس من عادة المؤمنون: أن يستأذنوك في أن يجاهدوا فإن الخلص منهم يبادرون إليه ولا يتوقفون على الاذن فيه فضلاً أن يستأذنوك في التخلف عنه، أو أن يستأذنوك في التخلف كراهة أن يجاهدوا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ شهادة لهم بالتقوى وعده لهم بثوابه.
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ في التخلف. الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تخصيص الإيمان بالله عز وجل(3/82)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
واليوم الآخر في الموضعين للإِشعار بأن الباعث على الجهاد والوازع عنه الإِيمان وعدم الإِيمان بهما.
وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ يتحيرون.
[سورة التوبة (9) : آية 46]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ للخروج. عُدَّةً أهبة وقرئ «عده» بحذف التاء عند الإضافة كقوله:
إِنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فَانْجَرَدُوا ... وَأَخْلَفُوكَ عَدَّا الأمر الّذي وعدوا
و «عده» بكسر العين بالإضافة و «عدة» بغيرها. وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ استدرك عن مفهوم قوله:
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ كأنه قال ما خرجوا ولكن تثبطوا لأنه تعالى كره انبعاثهم أي نهوضهم للخروج.
فَثَبَّطَهُمْ فحبسهم بالجبن والكسل. وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ تمثيل لإِلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو حكاية قول بعضهم لبعض، أو إذن الرسول عليه السلام لهم والقاعدين يحتمل المعذورين وغيرهم وعلى الوجهين لا يخلو عن ذم.
[سورة التوبة (9) : آية 47]
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَّا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَّا زادُوكُمْ بخروجهم شيئاً. إِلَّا خَبالًا فساداً وشراً ولا يستلزم ذلك أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء، ولأجل هذا التوهم جعل الاستثناء منقطعاً وليس كذلك لأنه لا يكون مفرغاً. وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ ولأسرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة والتضريب، أو الهزيمة والتخذيل من وضع البعير وضعاً إذا أسرع. يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم أو الرعب في قلوبكم، والجملة حال من الضمير في «أوضعوا» . وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم، أو نمامون يسمعون حديثكم للنقل إليهم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فيعلم ضمائرهم وما يتأتى منهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 48 الى 49]
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ تشتيت أمرك وتفريق أصحابك. مِنْ قَبْلُ يعني يوم أحد فطن ابن أبي وأصحابه كما تخلفوا عن تبوك بعد ما خرجوا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى ذي جدة أسفل من ثنية الوداع انصرفوا يوم أحد. وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ ودبروا لك المكايد والحيل ودوروا الآراء في إبطال أمرك. حَتَّى جاءَ الْحَقُّ بالنصر والتأييد الإلهي. وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وعلا دينه. وَهُمْ كارِهُونَ أي على رغم منهم، والآيتان لتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين على تخلفهم وبيان ما ثبطهم الله لأجله وكره انبعاثهم له وهتك أستارهم وكشف أسرارهم وإزاحة اعتذارهم تداركاً لما فوت الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالمبادرة إلى الأذن ولذلك عوتب عليه. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي في القعود. وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة أي في العصيان والمخالفة بأن لا تأذن لي، وفيه إشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له أم لم يأذن، أو في الفتنة بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لهم بعدي. أو في الفتنة لنساء الروم لما
روي: أن جد بن قيس قال: قد علمت الأنصار أني مولع بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر(3/83)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
ولكني أعينك بمالي فاتركني.
أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف أو ظهور النفاق لا ما احترزوا عنه. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ جامعاً لهم يوم القيامة، أو الآن لأن إحاطة أسبابها بهم كوجودها.
[سورة التوبة (9) : الآيات 50 الى 51]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
إِنْ تُصِبْكَ في بعض غزواتك. حَسَنَةٌ ظفر وغنيمة. تَسُؤْهُمْ لفرط حسدهم. وَإِنْ تُصِبْكَ في بعضها. مُصِيبَةٌ كسر أو شدة كما أصاب يوم أحد. يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ تبجحوا بانصرافهم واستحمدوا رأيهم في التخلف. وَيَتَوَلَّوْا عن متحدثهم بذلك ومجتمعهم له، أو عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وَهُمْ فَرِحُونَ مسرورون.
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا إلا ما اختصنا بإثباته وإيجابه من النصرة، أو الشهادة أو ما كتب لأجلنا في اللوح المحفوظ لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم. وقرئ «هل يصيبنا» و «هل يصيبنا» وهو من فيعل لا من فعل لأنه من بنات الواو لقولهم صاب السهم يصوب واشتقاقه من الصواب لأنه وقوع الشيء فيما قصد به. وقيل من الصوب. هُوَ مَوْلانا ناصرنا ومتولي أمورنا. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لأن حقهم أن لا يتوكلوا على غيره.
[سورة التوبة (9) : الآيات 52 الى 53]
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا تنتظرون بنا. إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى العواقب: النصرة والشهادة. وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أيضاً إحدى السوأيين أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ بقارعة من السماء. أَوْ بِأَيْدِينا أو بعذاب بأيدينا وهو القتل على الكفر. فَتَرَبَّصُوا ما هو عاقبتنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ما هو عاقبتكم.
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أمر في معنى الخبر، أي لن يتقبل منكم نفقاتكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً. وفائدته المبالغة في تساوي الانفاقين في عدم القبول كأنهم أمروا بأن يمتحنوا فينفقوا وينظروا هل يتقبل منهم. وهو جواب قول جد بن قيس وأعينك بمالي. ونفي التقبل يحتمل أمرين أن لا يؤخذ منهم وأن لا يثابوا عليه وقوله: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ تعليل له على سبيل الاستئناف وما بعده بيان وتقرير له.
[سورة التوبة (9) : الآيات 54 الى 55]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55)
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم.
وقرأ حمزة والكسائي «أن يقبل» بالياء لأن تأنيث النفقات غير حقيقي. وقرئ «يقبل» على أن الفعل لله. وَلا(3/84)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى
متثاقلين. وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ لأنهم لا يرجون بهما ثواباً ولا يخافون على تركهما عقاباً.
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فإن ذلك استدراج ووبال لهم كما قال. إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب.
وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك استدراجاً لهم. وأصل الزهوق الخروج بصعوبة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ إنهم لمن جملة المسلمين. وَما هُمْ مِنْكُمْ لكفر قلوبهم. وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين فيظهرون الإِسلام تقية.
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً حصنا يلجئون إليه أَوْ مَغاراتٍ غيراناً. أَوْ مُدَّخَلًا نفقاً ينجحرون فيه مفتعل من الدخول وقرأ يعقوب مُدَّخَلًا من مدخل. وقرئ «مُّدْخَلاً» أي مكاناً يدخلون فيه أنفسهم و «متدخلاً» و «مندخلاً» من تدخل واندخل لَوَلَّوْا إِلَيْهِ لأقبلوا نحوه. وَهُمْ يَجْمَحُونَ يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء كالفرس الجموح. وقرئ «يجمزون» ومنه الجمازة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 59]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ يعيبك. وقرأ يعقوب يَلْمِزُكَ بالضم وابن كثير «يلامزك» . فِي الصَّدَقاتِ في قسمها. فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ قيل إنها نزلت في أبي الجواظ المنافق قال: ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل.
وقيل في ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم غنائم حنين فاستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال:
اعدل يا رسول الله فقال: «ويلك إن لم أعدلْ فمن يعدل» .
وإِذا للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائية.
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ما أعطاهم الرسول من الغنيمة أو الصدقة، وذكر الله للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كان بأمره. وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
كفانا فضله سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ صدقة أو غنيمة أخرى. وَرَسُولُهُ فيؤتينا أكثر مما آتانا. إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ في أن يغنينا من فضله، والآية بأسرها في حيز الشرط، والجواب محذوف تقديره خَيْراً لَّهُمْ. ثم بين مصارف الصدقات تصويباً وتحقيقاً لما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال:
[سورة التوبة (9) : آية 60]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ أي الزكوات لهؤلاء المعدودين دون غيرهم، وهو دليل على أن المراد باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم. والفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعاً من حاجته من الفقار كأنه أصيب فقاره. والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه، ويدل عليه(3/85)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ وأنه صلّى الله عليه وسلّم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر. وقيل بالعكس لقوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ. وَالْعامِلِينَ عَلَيْها الساعين في تحصيلها وجمعها. وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد يترتب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم، وقد أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس لذلك. وقيل أشراف يستألفون على أن يسلموا فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعطيهم والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله وقد عد منهم من يؤلف قلبه بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة. وقيل كان سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وأكثر أهله سقط. وَفِي الرِّقابِ وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشيء منها على أداء النجوم. وقيل بأن تبتاع الرقاب فتعتق وبه قال مالك وأحمد أو بأن يفدي الأسارى. والعدول عن اللام إلى فِي للدلالة على أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب. وقيل للايذان بأنهم أحق بها.
وَالْغارِمِينَ والمديونين لأنفسهم في غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء، أو لإِصلاح ذات البين وإن كانوا أغنياء
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغازٍ في سبيل الله أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني أو لعامل عليها»
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وللصرف في الجهاد بالإِنفاق على المتطوعة وابتياع الكراع والسلاح. وقيل وفي بناء القناطر والمصانع. وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر المنقطع عن ماله. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر لما دل عليه الآية الكريمة أي فرض لهم الله الصدقات فريضة، أو حال من الضمير المستكن في لِلْفُقَراءِ. وقرئ بالرفع على تلك فَرِيضَةً. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يضع الأشياء في مواضعها، وظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم قضية للاشتراك وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال الأئمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا، وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما الله تعالى على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم لا إيجاب قسمها عليهم.
[سورة التوبة (9) : آية 61]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ يسمع كل ما يقال له ويصدقه، سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع كما سمي الجاسوس عيناً لذلك، أو اشتق له فعل من أذن أذناً إذا استمع كأنف وشلل. روي أنهم قالوا محمد أذن سامعه نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول. قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ تصديق لهم بأنه أذن ولكن لا على الوجه الذي ذموا به بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله، ثم فسر ذلك بقوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يصدق به لما قام عنده من الأدلة. وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ويصدقهم لما علم من خلوصهم، واللام مزيدة للتفرقة بين إيمان التصديق فإنه بمعنى التسليم وإيمان الأمان. وَرَحْمَةٌ أي وهو رحمة. لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ لمن أظهر الإِيمان حيث يقبله ولا يكشف سره، وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلاً بحالكم بل رفقاً بكم وترحماً عليكم. وقرأ حمزة وَرَحْمَةٌ بالجر عطفاً على خَيْرٍ. وقرئ بالنصب على أنها علة فعل دل عليه أُذُنُ خَيْرٍ أي يأذن لكم رحمة. وقرأ نافع أُذُنٌ بالتخفيف فيهما.
وقرئ «أُذُنُ خَيْرٍ» على أن خَيْرٍ صفة له أو خبر ثان وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بإيذائه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 62 الى 63]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)(3/86)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ على معاذيرهم فيما قالوا أو تخلفوا. لِيُرْضُوكُمْ لترضوا عنهم والخطاب للمؤمنين. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أحق بالإِرضاء بالطاعة والوفاق، وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين أو لأن الكلام في إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإرضائه، أو لأن التقدير والله أحق أن يرضوه والرسول كذلك. إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ صدقاً.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ أن الشأن وقرئ بالتاء. مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يشاقق مفاعلة من الحد. فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها على حذف الخبر أي فحق أن له أو على تكرير أن للتأكيد ويحتمل أن يكون معطوفاً على أنه ويكون الجواب محذوفاً تقديره من يحادد الله ورسوله يهلك، وقرئ «فَإن» بالكسر. ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ يعني الهلاك الدائم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 64 الى 65]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65)
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ على المؤمنين. سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ وتهتك عليهم أستارهم، ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين فإن النازل فيهم كالنازل عليهم من حيث إنه مقروء ومحتج به عليهم، وذلك يدل على ترددهم أيضاً في كفرهم وأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بشيء. وقيل إنه خبر في معنى الأمر. وقيل كانوا يقولونه فيما بينهم استهزاء لقوله: قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مبرز أو مظهر. مَّا تَحْذَرُونَ أي ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم، أو ما تحذرون إظهاره من مساويكم.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ
روي: أن ركب المنافقين مروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات، فأخبر الله تعالى به نبيه فدعاهم فقال: «قلتم كذا وكذا» فقالوا لا والله ما كنا في شيء من أمرك وأمر أصحابك ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر.
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ توبيخاً على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء به، وإلزاماً للحجة عليهم ولا تعبأ باعتذارهم الكاذب.
[سورة التوبة (9) : آية 66]
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)
لاَ تَعْتَذِرُوا لا تشتغلوا باعتذارتكم فإنها معلومة الكذب. قَدْ كَفَرْتُمْ قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم والطعن فيه. بَعْدَ إِيمانِكُمْ بعد إظهاركم الإيمان. إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ لتوبتهم وإخلاصهم، أو لتجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء. تعذّب طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ مصرين على النفاق أو مقدمين على الإِيذاء والاستهزاء. وقرأ عاصم بالنون فيهما. وقرئ بالياء وبناء الفاعل فيهما وهو الله «وإن تعف» بالتاء والبناء على المفعول ذهاباً إلى المعنى كأنه قال: أن ترحم طائفة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 68]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68)
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي متشابهة في النفاق والبعد عن الإِيمان كأبعاض الشيء(3/87)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
الواحد. وقيل إنه تكذيب لهم في حلفهم بالله إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وتقرير لقولهم وَما هُمْ مِنْكُمْ وما بعده كالدليل عليه، فإنه يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين وهو قوله: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بالكفر والمعاصي.
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ عن الإِيمان والطاعة. وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن المبار، وقبض اليد كناية عن الشح.
نَسُوا اللَّهَ أغفلوا ذكر الله وتركوا طاعته. فَنَسِيَهُمْ فتركهم من لطفه وفضله. إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها مقدرين الخلود. هِيَ حَسْبُهُمْ عقابًا وجزاء وفيه دليل على عظم عذابها. وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته وأهانهم. وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ لا ينقطع والمراد به ما وعدوه أو ما يقاسونه من تعب النفاق.
[سورة التوبة (9) : آية 69]
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أنتم مثل الذين، أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم. كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً بيان لتشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم. فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ نصيبهم من ملاذ الدنيا، واشتقاقه من الخلق بمعنى التقدير فإنه ما قدر لصاحبه. فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المخدجة من الشهوات الفانية والتهائهم بها عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم. وَخُضْتُمْ ودخلتم في الباطل. كَالَّذِي خاضُوا كالذين خاضوا، أو كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوه.
أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين. وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا الدنيا والآخرة.
[سورة التوبة (9) : آية 70]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ أغرقوا بالطوفان. وَعادٍ أهلكوا بالريح. وَثَمُودَ أهلكوا بالرجفة. وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ أهلك نمروذ ببعوض وأهلك أصحابه. وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وأهل مدين وهم قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة. وَالْمُؤْتَفِكاتِ قريات قوم لوط ائتفكت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل، وقيل قريات المكذبين المتمردين وائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر. أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ يعني الكل. بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي لم يك من عادته ما يشابه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب.
[سورة التوبة (9) : آية 71]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في مقابلة قوله الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر الأمور.
أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ لا محالة فإن السين مؤكدة للوقوع. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على كل شيء لا يمتنع(3/88)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
عليه ما يريده. حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها.
[سورة التوبة (9) : آية 72]
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً تستطيبها النفس أو يطيب فيها العيش
وفي الحديث أنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر.
فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ إقامة وخلود.
وعنه عليه الصلاة والسلام عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك.
ومرجع العطف فيها يحتمل أن يكون إلى تعدد الموعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع، أو إلى تغاير وصفه فكأنه وصفه أولاً بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار عليين لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء،
وعنه صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأي شيء من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً.
ذلِكَ أي الرضوان أو جميع ما تقدم. هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها.
[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف. وَالْمُنافِقِينَ بإلزام الحجة وإقامة الحدود. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ في ذلك ولا تحابهم. وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سويد: لئن كان ما يقول محمد لإخواننا حقاً لنحن شر من الحمير، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستحضره فحلف بالله ما قاله فنزلت فتاب الجلاس وحسنت توبته.
وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وأظهروا الكفر بعد إظهار الإِسلام. وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من فتك الرسول، وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا، أو إخراجه وإخراج المؤمنين من المدينة أو بأن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَما نَقَمُوا وما أنكروا أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم. إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فإن أكثر أهل المدينة كانوا محاويج في ضنك من العيش، فلما قدمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى. والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أو العلل. فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وهو الذي حمل الجلاس على التوبة والضمير في يَكُ(3/89)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
للتوب. وَإِنْ يَتَوَلَّوْا بالإِصرار على النفاق. يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بالقتل والنار. وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ فينجيهم من العذاب.
[سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 76]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
نزلت في ثعلبة بن حاطب أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ادع الله أن يرزقني مالا فقال عليه الصلاة والسلام: يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقيل كثر ماله حتى لا يسعه واد فقال: يا ويح ثعلبة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه الكتاب الذي فيه الفرائض فقال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية فارجعا حتى أرى رأيي فنزلت، فجاء ثعلبة بالصدقة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله منعني أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني، فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها، ثم جاء إلى عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في زمان عثمان رضي الله تعالى عنه.
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ منعوا حق الله منه. وَتَوَلَّوْا عن طاعة الله. وَهُمْ مُعْرِضُونَ وهم قوم عادتهم الإعراض عنها.
[سورة التوبة (9) : الآيات 77 الى 78]
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ أي فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك نفاقاً وسوء اعتقاد في قلوبهم، ويجوز أن يكون الضمير للبخل والمعنى فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم. إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يلقون الله بالموت أو يلقون عملهم أي جزاءه وهو يوم القيامة بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح. وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ وبكونهم كاذبين فيه فإن خلف الوعد متضمن للكذب مستقبح من الوجهين أو المقال مطلقا وقرئ «يَكْذِبُونَ» بالتشديد.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أي المنافقون أو من عاهد الله وقرئ بالتاء على الالتفات. أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ما أسروه في أنفسهم من النفاق أو العزم على الإخلاف. وَنَجْواهُمْ وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن، أو تسمية الزكاة جزية. وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فلا يخفى عليه ذلك.
[سورة التوبة (9) : آية 79]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ذم مرفوع أو منصوب أو بدل من الضمير في سرهم. وقرئ «يُلْمِزُونَ» بالضم.
الْمُطَّوِّعِينَ المتطوعين. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ
روي: أنه صلّى الله عليه وسلّم حث على الصدقة، فجاء عبد الرحمن ابن عوف بأربعة آلاف درهم وقال كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت لعيالي أربعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت» فبارك الله له حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم، وتصدق عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع(3/90)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
تمر فقال بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعاً لعيالي وجئت بصاع، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينثره على الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء ولقد كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات. فنزلت
: وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ إلا طاقتهم. وقرئ بالفتح وهو مصدر جهد في الأمر إذا بالغ فيه. فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ يستهزئون بهم. سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ جازاهم على سخريتهم كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على كفرهم.
[سورة التوبة (9) : آية 80]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم كما نص عليه بقوله:
إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.
روي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من المخلصين سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرض أبيه أن يستغفر له، ففعل عليه الصلاة والسلام فنزلت، فقال عليه الصلاة والسلام: لأزيدن على السبعين فنزلت: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.
وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل فجوز أن يكون ذلك حداً يخالفه حكم ما وراءه، فبين له أن المراد به التكثير دون التحديد، وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة ونحوها في التكثير، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد فكأنّه العدد بأسره. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منا ولا قصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها. وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ المتمردين في كفرهم، وهو كالدليل على الحكم السابق فإن مغفرة الكافر بالإِقلاع عن الكفر والإِرشاد إلى الحق، والمنهمك في كفره المطبوع عليه لا ينقلع ولا يهتدي، والتنبيه على عذر الرسول في استغفاره وهو عدم يأسه من إيمانهم ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم لقوله تعالى: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 82]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ بقعودهم عن الغزو خلفه يقال أقام خلاف الحي أي بعدهم، ويجوز أن يكون بمعنى المخالفة فيكون انتصابه على العلة أو الحال. وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إيثاراً للدعة والخفض على طاعة الله، وفيه تعريض بالمؤمنين الذين آثروا عليها تحصيل رضاه ببذل الأموال والمهج. وَقالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ أي قال بعضهم لبعض أو قالوه للمؤمنين تثبيطاً. قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا وقد آثرتموها بهذه المخالفة. لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أن مآبهم إليها، أو أنها كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة.
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ إخبار عما يؤول إليه حالهم في الدنيا والآخرة أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب، ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن السرور والغم والمراد من القلة العدم.(3/91)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
[سورة التوبة (9) : آية 83]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فإن ردك إلى المدينة وفيها طائفة من المتخلفين يعني منافقيهم فإن كلهم لم يكونوا منافقين، أو من بقي منهم وكان المتخلفون اثني عشر رجلاً. فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ إلى غزوة أخرى بعد تبوك فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إخبار في معنى النهي للمبالغة. إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ تعليل له وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم وأَوَّلَ مَرَّةٍ هي الخرجة إلى غزوة تبوك. فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي المتخلفين لعدم لياقتهم للجهاد كالنساء والصبيان.
وقرئ مع «الخلفين» على قصر الْخالِفِينَ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 84 الى 85]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً
روي: (أن عبد الله بن أبي دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه، فلما دخل عليه سأله أن يستغفر له ويكفنه في شعاره الذي يلي جسده ويصلي عليه فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه وذهب ليصلي عليه) فنزلت. وقيل صلى عليه ثم نزلت
، وإنما لم ينه عن التكفين في قميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضن بالقميص كان مخلاً بالكرم ولأنه كان مكافأة لإلباسه العباس قميصه حين أسر ببدر، والمراد من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له وهو ممنوع في حق الكافر ولذلك رتب النهي على قوله:
ماتَ أَبَداً يعني الموت على الكفر فإن إحياء الكافر للتعذيب دون التمتع فكأنه لم يحيَ. وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ولا تقف عند قبره للدفن أو الزيارة. إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ تعليل للنهي أو لتأبيد الموت.
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ تكرير للتأكيد والأمر حقيق به فإن الأبصار طامحة إلى الأموال والأولاد والنفوس مغتبطة عليها. ويجوز أن تكون هذه في طريق غير الأول.
[سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 87]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87)
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن ويجوز أن يراد بها بعضها. أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ بأن آمنوا بالله ويجوز أن تكون أن المفسرة. وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ ذوو الفضل والسعة. وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ الذين قعدوا لعذر.
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ مع النساء جمع خالفه وقد يقال الخالفة للذي لا خير فيه. وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ما في الجهاد وموافقة الرسول من السعادة وما في التخلف عنه من الشقاوة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 88 الى 89]
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)(3/92)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم. وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ منافع الدارين النصر والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في الآخرة. وقيل الحور لقوله تعالى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ وهي جمع خيرة تخفيف خيرة. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالمطالب.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ بيان لما لهم من الخيرات الأخروية.
[سورة التوبة (9) : آية 90]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ يعني أسداً وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال. وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت طيئ على أهالينا ومواشينا.
والمعذر إما من عذر في الأمر إذا قصر فيه موهماً أن له عذراً ولا عذر له، أو من اعتذر إذا مهد العذر بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين، ويجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع لكن لم يقرأ بهما.
وقرأ يعقوب الْمُعَذِّرُونَ من أعذر إذا اجتهد في العذر. وقرئ «المعذرون» بتشديد العين والذال على أنه من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحن إذ التاء لا تدغم في العين، وقد اختلف في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع أو بالصحة فيكون قوله: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في غيرهم وهم منافقو الأعراب كذبوا الله ورسوله في إدعاء الإِيمان وإن كانوا هم الأولين فكذبهم بالاعتذار. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره عَذابٌ أَلِيمٌ بالقتل والنار.
[سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 92]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى كالهرمى والزمنى. وَلا عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ لفقرهم كجهينة ومزينة وبني عذرة. حَرَجٌ إثمٌ في التأخر. إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بالإِيمان والطاعة في السر والعلانية كما يفعل الموالي الناصح، أو بما قدروا عليه فعلاً أو قولاً يعود على الإِسلام والمسلمين بالصلاح مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي ليس عليهم جناح ولا إلى معاتبتهم سبيل وإنما وضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على أنهم منخرطون في سلك المحسنين غير معاتبين لذلك. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهم أو للمسيء فكيف للمحسن.
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ عطف على الضُّعَفاءِ أو على الْمُحْسِنِينَ،
وهم البكاؤون سبعة من الأنصار: معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مغفل وعلية بن زيد، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: قد نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك، فقال عليه السلام: «لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وهم يبكون.
وقيل هم بنو مقرن: معقل وسويد والنعمان. وقيل أبو موسى وأصحابه. قُلْتَ لاَ أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ حال من الكاف في أَتَوْكَ بإضمار قد. تَوَلَّوْا جواب إذا. وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ تسيل. مِنَ الدَّمْعِ أي دمعاً فإن من(3/93)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
للبيان وهي مع المجرور في محل النصب على التمييز وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأنه يدل على أن العين صارت دمعاً فياضاً. حَزَناً نصب على العلة أو الحال أو المصدر لفعل دل عليه ما قبله. أَلَّا يَجِدُوا لئلا يجدوا متعلق ب حَزَناً أو ب تَفِيضُ. مَا يُنْفِقُونَ في مغزاهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 94]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
إِنَّمَا السَّبِيلُ بالمعاتبة. عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ واجدون الأهبة. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر وهو رضاهم بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف إيثاراً للدعة. وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ حتى غفلوا عن وخامة العاقبة. فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مغبته.
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ في التخلف. إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من هذه السفرة. قُلْ لاَّ تَعْتَذِرُوا بالمعاذير الكاذبة لأنه: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدقكم لأنه: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ أعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد. وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ أتتوبون عن الكفر أم تثبتون عليه فكأنه استتابة وإمهال للتوبة. ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي إليه فوضع الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعلنهم لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالتوبيخ والعقاب عليه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 95 الى 96]
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فلا تعاتبوهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ولا توبخوهم.
إِنَّهُمْ رِجْسٌ لا ينفع فيهم التأنيب فإن المقصود منه التطهير بالحمل على الإنابة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير فهو علة لإعراض وترك المعاتبة. وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ من تمام التعليل وكأنه قال: إنهم أرجاس من أهل النار لا ينفع فيهم التوبيخ فِى الدنيا والآخرة، أَوْ تعليل ثان والمعنى: أن النار كفتهم عتاباً فلا تتكلفوا عتابهم.
جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يجوز أن يكون مصدراً وأن يكون علة.
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بحلفهم فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم. فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي فإن رضاكم لا يستلزم رضا الله ورضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط الله وبصدد عقابه، وإن أمكنهم أن يلبسوا عليكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله فلا يهتك سترهم ولا ينزل الهوان بهم، والمقصود من الآية النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم بعد الأمر بالإعراض وعدم الالتفات نحوهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 97 الى 98]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)(3/94)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
الْأَعْرابُ أهل البدو. أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل الحضر لتوحشهم وقساوتهم وعدم مخالطتهم لأهل العلم وقلة استماعهم للكتاب والسنة. وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا وأحق بأن لا يعلموا. حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ الشرائع فرائضها وسنتها. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر. حَكِيمٌ فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم عقاباً وثواباً.
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ يعْدُّ مَا يُنْفِقُ يصرفه في سبيل الله ويتصدق به. مَغْرَماً غرامة وخسراناً إذ لا يحتسبه قربة عند الله ولا يرجو عليه ثواباً وإنما ينفق رياء أو تقية. وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ دوائر الزمان ونوبه لينقلب الأمر عليكم فيتخلص من الانفاق. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصون أو الإِخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم، والدائرة في الأصل مصدر أو اسم فاعل من دار يدور وسمي به عقبة الزمان، والسَّوْءِ بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة كقولك رجل صدق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو السَّوْءِ هنا. وفي الفتح بضم السين. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما يقولون عند الانفاق. عَلِيمٌ بما يضمرون.
[سورة التوبة (9) : آية 99]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ سبب قُرُباتٍ وهي ثاني مفعولي يَتَّخِذُ، وعِنْدَ اللَّهِ صفتها أو ظرف ل يَتَّخِذُ. وَصَلَواتِ الرَّسُولِ وسبب صلواته لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم، ولذلك سن للمصدق عليه أن يدعو للمصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما
قال صلّى الله عليه وسلّم «اللهم صل على آل أبي أوفى»
، لأنه منصبه فله أن يتفضل به على غيره. أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ شهادة من الله بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستئناف مع حرف التنبيه وإن المحققة للنسبة والضمير لنفقتهم وقرأ ورش قُرْبَةٌ بضم الراء. سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وعد لهم بإحاطة الرحمة عليهم والسين لتحقيقه وقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لتقريره. وقيل الأولى في أسد وغطفان وبني تميم والثانية في عبد الله ذي البجادين وقومه.
[سورة التوبة (9) : آية 100]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ هم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدراً أو الذين أسلموا قبل الهجرة. وَالْأَنْصارِ أهل بيعة العقبة الأولى. وكانوا سبعة وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة صعب بن عمير. وقرئ بالرفع عطفاً على وَالسَّابِقُونَ. وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ اللاحقون بالسابقين من القبيلتين، أو من اتبعوهم بالإِيمان والطاعة إلى يوم القيامة. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم. وَرَضُوا عَنْهُ بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية. وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ وقرأ ابن كثير «من تحتها الأنهار» كما في سائر المواضع. خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
[سورة التوبة (9) : آية 101]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)(3/95)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ أي وممن حول بلدتكم يعني المدينة. مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ هم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها. وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عطف على مِمَّنْ حَوْلَكُمْ أو خبر لمحذوف صفته. مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ ونظيره في حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه قوله:
أَنَا ابنُ جَلا وَطَلاَّع الثنَايَا وعلى الأول صفة للمنافقين فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخبر أو كلام مبتدأ لبيان تمرنهم وتمهرهم في النفاق. لاَ تَعْلَمُهُمْ لا تعرفهم بأعيانهم وهو تقرير لمهارتهم فيه وتنوقهم في تحامي مواقع التهم إلى حد أخفى عليك حالهم مع كمال فطنتك وصدق فراستك. نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ونطلع على أسرارهم إن قدروا أن يلبسوا عليك لم يقدروا أن يلبسوا علينا. سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ بالفضيحة والقتل أو بأحدهما وعذاب القبر، أو بأخذ الزكاة ونهك الأبدان. ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ إلى عذاب النار.
[سورة التوبة (9) : آية 102]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة، وهم طائفة من المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سَوَاري المسجد لما بلغهم ما نزل في المتخلفين،
فقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل المسجد على عادته فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم فقال: وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت فأطلقهم.
خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً خلطوا العمل الصالح الذي هو إظهار الندم والاعتراف بالذنب بآخر سيئ هو التخلف وموافقة أهل النفاق، والواو إما بمعنى الباء كما في قولهم: بعت الشاء شاة ودرهماً. أو للدلالة على أن كل واحد منهما مخلوط بالآخر. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أن يقبل توبتهم وهي مدلول عليها بقوله اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 103 الى 104]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً
روي: أنهم لما أُطْلِقُوا قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا فتصدق بها وطهرنا فقال: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» فنزلت.
تُطَهِّرُهُمْ من الذنوب أو حب المال المؤدي بهم إلى مثله. وقرئ «تُطَهّرُهُمْ» من أطهره بمعنى طهره و «تُطَهّرُهُمْ» بالجزم جواباً للأمر. وَتُزَكِّيهِمْ بِها وتنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل المخلصين. وَصَلِّ عَلَيْهِمْ واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم.
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم، وجمعها لتعدد المدعو لهم وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتوحيد. وَاللَّهُ سَمِيعٌ باعترافهم. عَلِيمٌ بندامتهم.
أَلَمْ يَعْلَمُوا الضمير إما للمتوب عليهم والمراد أن يمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتداد بصدقاتهم، أو لغيرهم والمراد به التحضيض عليهما. أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ إذا صحت وتعديته ب عَنْ لتضمنه معنى التجاوز. وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ يقبلها قبول من يأخذ شيئاً ليؤدي بدله. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وأن من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 105 الى 106]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)(3/96)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
وَقُلِ اعْمَلُوا ما شئتم. فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فإنه لا يخفى عليه خيراً كان أو شراً. وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ فإنه تعالى لا يخفى عنهم كما رأيتم وتبين لكم. وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بالموت.
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمجازاة عليه.
وَآخَرُونَ من المتخلفين. مُرْجَوْنَ مؤخرون أي موقوف أمرهم من أرجأته إذا أخرته. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص مُرْجَوْنَ بالواو وهما لغتان. لِأَمْرِ اللَّهِ في شأنهم. إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ إن أصروا على النفاق. وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إن تابوا والترديد للعباد، وفيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادة الله تعالى.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم. حَكِيمٌ فيما يفعل بهم. وقرئ «والله غفور رحيم» ، والمراد بهؤلاء كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم، فلما رأوا ذلك أخلصوا نياتهم وفوضوا أمرهم إلى الله فرحمهم الله تعالى.
[سورة التوبة (9) : آية 107]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً عطف على وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ، أو مبتدأ خبره محذوف أي وفيمن وصفنا الذين اتخذوا أو منصوب على الاختصاص. وقرأ نافع وابن عامر بغير الواو ضِراراً مضارة للمؤمنين.
وروي: (أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف، فبنوا مسجداً على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام فلما أتموه أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا قد بنينا مسجداً لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة والشاتية فصل فيه حتى نتخذه مصلى فأخذ ثوبه ليقوم معهم فنزلت، فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعل واتخذ مكانه كناسة) .
وَكُفْراً وتقوية للكفر الذي يضمرونه. وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يريد الذي كانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قباء. وَإِرْصاداً ترقباً. لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ يعني الراهب فإنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين حتى انهزم مع هوازن وهرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات بقنسرين وحيداً، وقيل كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب فلما انهزموا خرج إلى الشام. ومِنْ قَبْلُ متعلق ب حارَبَ أو ب اتَّخَذُوا أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف، لما
روي أنه بني قبيل غزوة تبوك فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيه فقال: أنا على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه فلما قفل كرر عليه. فنزلت
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ما أردنا ببنائه إلا الخصلة الحسنى أو الإرادة الحسنى وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المصلين وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم.
[سورة التوبة (9) : آية 108]
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً للصلاة. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى يعني مسجد قباء أسسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة لأنه أوفق للقصة، أو مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
لقول أبي سعيد رضي الله عنه: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه فقال هو مسجدكم هذا مسجد المدينة» .
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أيام وجوده ومن يعم الزمان والمكان كقوله:
لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنةِ الحَجَر ... أَقَوَيْنَ مِنْ حجَجِ وَمِنْ دَهرٍ(3/97)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أولى بأن تصلي فيه. فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من المعاصي والخصال المذمومة طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وقيل من الجنابة فلا ينامون عليها. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحب حبيبه.
قيل لما نزلت مشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال عليه الصلاة والسلام: «أمؤمنون أنتم» ؟ فسكتوا..
فأعادها فقال عمر: إنهم مؤمنون وأنا معهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «أترضون بالقضاء» ؟ قالوا: نعم. قال عليه الصلاة والسلام: «أتصبرون على البلاء» ؟ قالوا: نعم، قال: «أتشكرون في الرخاء» ؟ قالوا: نعم. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنتم مؤمنون ورب الكعبة» . فجلس ثم قال: «يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط» ؟ فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.
[سورة التوبة (9) : آية 109]
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ بنيان دينه. عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ على قاعدة محكمة هي التقوى من الله وطلب مرضاته بالطاعة. أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها. فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ فأدى به لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار، وإنما وضع شفا الجرف وهو ما جرفه الوادي الهائر في مقابلة التقوى تمثيلاً لما بنوا عليه أمر دينهم في البطلان وسرعة الانطماس، ثم رشحه بانهياره به في النار ووضعه في مقابلة الرضوان تنبيهاً على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه من النار ويوصله إلى رضوان الله ومقتضياته التي الجنة أدناها، وتأسيس هذا على ما هم بسببه على صدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم إن مصيرهم إلى النار لا محالة. وقرأ نافع وابن عامر أُسِّسَ على البناء للمفعول. وقرئ «أساس بنيانه» و «أَسَّسَ بُنْيَانَهُ» على الإِضافة و «أَسَّسَ» و «آساس» بالفتح والمد و «إساس» بالكسر وثلاثتها جمع أس، و «تَقْوَى» بالتنوين على أن الألف للإِلحاق لا للتأنيث كتترى، وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر جُرُفٍ بالتخفيف. وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى ما فيه صلاحهم ونجاتهم.
[سورة التوبة (9) : آية 110]
لاَ يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
لاَ يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا بناؤهم الذي بنوه مصدر أريد به المفعول وليس بجمع ولذلك قد تدخله التاء ووصف بالمفرد وأخبر عنه بقوله: رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي شكا ونفاقاً، والمعنى أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم وتزايد نفاقهم فإنه حملهم على ذلك ثم لما هدمه الرسول صلّى الله عليه وسلّم رسخ ذلك في قلوبهم وازداد بحيث لا يزول وسمه عن قلوبهم. إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قطعاً بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك والإضمار وهو في غاية المبالغة والاستثناء. من أعم الأزمنة. وقيل المراد بالتقطع ما هو كائن بالقتل أو في القبر أو في النار. وقيل التقطع بالتوبة ندماً وأسفاً. وقرأ يعقوب «إلى» بحرف الانتهاء وتَقَطَّعَ بمعنى تتقطع وهو قراءة ابن عامر وحمزة وحفص. وقرئ «يقطع» بالياء و «تُقَطَّعَ» بالتخفيف و «تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ» على خطاب الرسول، أو كل مخاطب ولو قطعت ولو قطعت على البناء للفاعل والمفعول. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بنياتهم. حَكِيمٌ فيما أمر بهدم بنيانهم.
[سورة التوبة (9) : آية 111]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)(3/98)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ تمثيل لإثابة الله إياهم الجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله. يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ استئناف ببيان ما لأجله الشراء. وقيل يقاتلون في معنى الأمر. وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول وقد عرفت أن الواو لا توجب الترتيب وأن فعل البعض قد يسند إلى الكل. وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدر مؤكد لما دل عليه الشراء فإنه في معنى الوعد. فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ مذكوراً فيهما كما أثبت في القرآن. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ مبالغة في الإِنجاز وتقرير لكونه حقاً. فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ فافرحوا به غاية الفرح فإنه أوجب لكم عظائم المطالب كما قال: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
[سورة التوبة (9) : آية 112]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
التَّائِبُونَ رفع على المدح أي هم التائبون، والمراد بهم المؤمنون المذكورون ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا لقوله: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أو خبره ما بعده أي التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. وقرئ بالياء نصباً على المدح أو جراً صفة للمؤمنين. الْعابِدُونَ الذين عبدوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين. الْحامِدُونَ لنعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء. السَّائِحُونَ الصائمون
لقوله صلّى الله عليه وسلّم «سياحة أمتي الصوم»
شبه بها لأنه يعوق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على حفايا الملك والملكوت، أو السائحون للجهاد أو لطلب العلم.
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ في الصلاة. الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالإِيمان والطاعة. وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عن الشرك والمعاصي، والعاطف فيه للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة كأنه قال: الجامعون بين الوصفين، وفي قوله تعالى: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها. وقيل إنه للايذان بأن التعداد قد تم بالسابع من حيث أن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك سمي واو الثمانية. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يعني به هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل، ووضع الْمُؤْمِنِينَ موضع ضميرهم للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل: وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام.
[سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 114]
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
روي: أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي طالب لما حضرته الوفاة:
«قل كلمة أحاج لك بها عند الله» فأبى فقال عليه الصلاة والسلام: «لا أزال استغفر لك ما لم أنه عنه» فنزلت وقيل لما افتتح مكة خرج إلى الأبواء فزار قبر أمه ثم قام مستعبراً فقال: «إني استأذنت رب في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل علي الآيتين» .
وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ بأن ماتوا على الكفر، وفيه دليل على جواز الاستغفار لاحيائهم فإنه طلب توفيقهم للإِيمان وبه دفع النقض باستغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه الكافر فقال:(3/99)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ وعدها إبراهيم أباه بقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ أي لأطلبن مغفرتك بالتوفيق للإيمان فإنه يجب ما قبله، ويدل عليه قراءة من قرأ «أباه» ، أو «وعدها إبراهيم أبوه» وهي الوعد بالإِيمان فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ بأن مات على الكفر، أو أوحي إليه بأنه لن يؤمن تَبَرَّأَ مِنْهُ قطع استغفاره. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ لكثير التأوه وهو كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه. حَلِيمٌ صبور على الأذى، والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع شكاسته عليه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 115 الى 116]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أي ليسميهم ضُلاَّلاً ويؤاخذهم مؤاخذتهم بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للإِسلام. حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَّا يَتَّقُونَ حتى يبين لهم حظر ما يجب اتقاؤه، وكأنه بيان عذر الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله لعمه أو لمن استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع. وقيل إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر ونحو ذلك، وفي الجملة دليل على أن الغافل غير مكلف. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيعلم أمرهم في الحالين.
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ لما منعهم عن الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وتضمن ذلك وجوب التبرؤ عنهم رأساً، بين لهم أن الله مالك كل موجود ومتولي أمره والغالب عليه ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه، ليتوجهوا بشراشرهم إليه ويتبرؤوا مما عداه حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه.
[سورة التوبة (9) : آية 117]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ من إذن المنافقين في التخلف أو برأهم عن علقة الذنوب كقوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وقيل: هو بعث على التوبة والمعنى: ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً إذ ما من أحد إلا وله مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده. الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ في وقتها هي حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة الظهر تعتقب العشرة على بعير واحد والزاد حتى قيل إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة والماء حتى شربوا الفظ. مِن بَعْدِ مَا كَادَ تزيغ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ عن الثبات على الإيمان أو اتباع الرسول عليه السلام وفي كادَ ضمير الشأن أو ضمير القوم والعائد إليه الضمير في مِنْهُمْ. وقرأ حمزة وحفص يَزِيغُ بالياء لأن تأنيث القلوب غير حقيقي. وقرئ «من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم» يعني المتخلفين. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة، أو المراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم.
إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 118 الى 119]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)(3/100)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
وَعَلَى الثَّلاثَةِ وتاب على الثلاثة كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع. الَّذِينَ خُلِّفُوا تخلفوا عن الغزو أو خلف أمرهم فإنهم المرجؤون. حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي برحبها لإِعراض الناس عنهم بالكلية وهو مثل لشدة الحيرة. وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ قلوبهم من فرط الوحشة والغم بحيث لا يسعها أنس ولا سرور. وَظَنُّوا وعلموا. أَنْ لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ من سخطه. إِلَّا إِلَيْهِ إلا إلى استغفاره. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بالتوفيق للتوبة. لِيَتُوبُوا أو أنزل قبول توبتهم ليعدوا من جملة التائبين، أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم. إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة. الرَّحِيمُ المتفضل عليهم بالنعم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ فيما لا يرضاه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في إيمانهم وعهودهم، أو في دين الله نية وقولا وعملا. وقرئ «من الصادقين» أي في توبتهم وإنابتهم فيكون المراد به هؤلاء الثلاثة وأضرابهم.
[سورة التوبة (9) : آية 120]
مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ نهي عبر عنه بصيغة النفي للمبالغة. وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ولا يصونوا أنفسهم عما لم يصن نفسه عنه ويكابدوا معه ما يكابده من الأهوال.
روي: (أن أبا خيثمة بلغ بستانه، وكانت له زوجة حسناء فرشت له في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الضح والريح ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح، فمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال: كن أبا خيثمة فكانه ففرح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستغفر له)
وفي لا يَرْغَبُوا يجوز النصب والجزم. ذلِكَ إشارة إلى ما دل عليه قوله ما كان من النهي عن التخلف أو وجوب المشايعة. بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم. لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ شيء من العطش. وَلا نَصَبٌ تعب. وَلا مَخْمَصَةٌ مجاعة. فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ ولا يدوسون. مَوْطِئاً مكاناً. يَغِيظُ الْكُفَّارَ يغضبهم وطؤه. وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا كالقتل والأسر والنهب. إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إلا استوجبوا به الثواب وذلك مما يوجب المشايعة. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم، وهو تعليل ل كُتِبَ وتنبيه على أن الجهاد إحسان، أما في حق الكفار فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن كضرب المداوي للمجنون، وأما في حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم.
[سورة التوبة (9) : آية 121]
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (121)
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولو علاَّقة. وَلا كَبِيرَةً مثل ما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة. وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً في مسيرهم وهو كل منعرج ينفذ فيه السيل اسم فاعل من ودي إذا سال فشاع بمعنى الأرض. إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أثبت لهم ذلك. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بذلك. أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ جزاء أحسن أعمالهم أو أحسن جزاء أعمالهم.(3/101)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
[سورة التوبة (9) : آية 122]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً وما استقام لهم أن ينفروا جميعاً لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعاً فإنه يخل بأمر المعاش. فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة. لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا مشاق تحصيلها. وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم، وتخصيصه بالذكر لأنه أهم وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد. لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إرادة أن يحذروا عما ينذرون منه، واستدل به على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا ويحذروا، فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك، وقد أشبعت القول فيه تقريراً واعتراضاً في كتابي «المرصاد» . وقد قيل للآية معنى آخر وهو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنون إلى النفير وانقطعوا عن التفقه، فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو، وفي رجعوا للطوائف أي ولينذروا البواقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم.
[سورة التوبة (9) : آية 123]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولاً بإنذار عشيرته الأقربين، فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح. وقيل هم يهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر. وقيل الروم فإنهم كانوا يسكنون الشأم وهو قريب من المدينة. وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً شدة وصبراً على القتال. وقرئ بفتح الغين وضمها وهما لغتان فيها. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالحراسة والإعانة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 125]
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125)
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ فمن المنافقين مَنْ يَقُولُ انكار واستهزاء. أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة.
إِيماناً وقرئ «أَيُّكُمْ» بالنصب على إضمار فعل يفسره زادَتْهُ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً بزيادة العلم الحاصل من تدبر السورة وانضمام الإِيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم. وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بنزولها لأنه سبب لزيادة كمالهم وارتفاع درجاتهم.
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر. فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفراً بها مضموماً إلى الكفر بغيرها. وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا عليه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 126 الى 127]
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (127)(3/102)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
أَوَلا يَرَوْنَ يعني المنافقين وقرئ بالتاء. أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ يبتلون بأصناف البليات، أو بالجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات. فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم. وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ولا يعتبرون.
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ تغامزوا بالعيون إنكاراً لها وسخرية، أو غيظاً لما فيها من عيوبهم. هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أي يقولون هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإن لم يرهم أحد قاموا وإن يرهم أحد أقاموا. ثُمَّ انْصَرَفُوا عن حضرته مخافة الفضيحة. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإِيمان وهو يحتمل الإخبار والدعاء. بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم. قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم عربي مثلكم. وقرئ «من أَنفُسِكُمْ» أي من أشرفكم.
عَزِيزٌ عَلَيْهِ شديد شاق. مَا عَنِتُّمْ عنتكم ولقاؤكم المكروه. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على إيمانكم وصلاح شأنكم. بِالْمُؤْمِنِينَ منكم ومن غيركم. رَؤُفٌ رَحِيمٌ قدم الأبلغ منهما وهو الرؤوف لأن الرأفة شدة الرحمة محافظة على الفواصل.
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإِيمان بك. فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ كالدليل عليه. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فلا أرجو ولا أخاف إلا منه. وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الملك العظيم، أو الجسم العظيم المحيط الذي تنزل منه الأحكام والمقادير. وقرئ «العظيم» بالرفع. وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: أن آخر ما نزل هاتان الآيتان
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما نزل القرآن علي إلا آية آية وحرفاً حرفاً ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد، فإنهما أنزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة»
والله أعلم.(3/103)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
(10) سورة يونس
مكية وهي مائة وتسع آيات
[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)
الر فخمها ابن كثير ونافع برواية قالون وحفص وقرأ ورش بين اللفظين، وأمالها الباقون إجراء لألف الراء مجرى المنقلبة من الياء. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ إشارة إلى ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي والمراد من الكتاب أحدهما، ووصفه بالحكيم لاشتماله على الحكم أو لأنه كلام حكيم، أو محكم آياته لم ينسخ شيء منها. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً استفهام إنكار للتعجب وعَجَباً خبر كان واسمه: أَنْ أَوْحَيْنا وقرئ بالرفع على أن الأمر بالعكس أو على «أن كان» تامة وأَنْ أَوْحَيْنا بدل من عَجَباً، واللام للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم يوجهون نحوه إنكارهم واستهزاءهم. إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم. قيل كانوا يقولون العجب أن الله تعالى لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة. هذا وإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلا في المال وخفة الحال أعون شيء في هذا الباب، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك. وقيل تعجبوا من أنه بعث بشراً رسولاً كما سبق ذكره في سورة «الأنعام» . أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أن هي المفسرة أو المخففة من الثقيلة فتكون في موقع مفعول أوحينا. وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا عمم الإنذار إذ قلما من أحد ليس فيه ما ينبغي أن ينذر منه، وخصص البشارة بالمؤمنين إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به حقيقة أَنَّ لَهُمْ بأن لهم قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ سابقة ومنزلة رفيعة سميت قدما لأن السبق بها كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد، وإضافتها إلى الصدق لتحققها والتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية. قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا يعنون الكتاب وما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام. لَسِحْرٌ مُبِينٌ وقرأ ابن كثير والكوفيون «لساحر» على أن الإِشارة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أموراً خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة. وقرئ «ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ» .
[سورة يونس (10) : آية 3]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ التي هي أصول الممكنات. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته ويهيئ بتحريكه أسبابها وينزلها منه، والتدبير النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة العاقبة. مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ تقرير لعظمته وعز جلاله، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له ذلِكُمُ اللَّهُ أي(3/104)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية. رَبَّكُمُ لا غير إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك.
فَاعْبُدُوهُ وحدوه بالعبادة. أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة لا ما تعبدونه.
[سورة يونس (10) : آية 4]
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً بالموت أو النشور لا إلى غيره فاستعدوا للقائه. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه لأن قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وعد من الله. حَقًّا مصدر آخر مؤكد لغيره وهو ما دل عليه وَعْدَ اللَّهِ. إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد بدئه وإهلاكه. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ أي بعدله أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم أو بإيمانهم لأنه العدل القويم كما أن الشرك ظلم عظيم وهو الأوجه لمقابلة قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ فإن معناه ليجزي الذين كفروا بشراب مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بسبب كفرهم، لكنه غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإِبداء والإعادة هو الإثابة والعقاب واقع بالعرض، وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ولذلك لم يعينه، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشؤم أفعالهم. والآية كالتعليل لقوله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فإنه لما كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة الله المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع إليه لا محالة، ويؤيده قراءة من قرأ إِنَّهُ يَبْدَؤُا بالفتح أي لأنه ويجوز أن يكون منصوباً أو مرفوعاً بما نصب وَعْدَ اللَّهِ أو بما نصب حَقًّا.
[سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 6]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً أي ذات ضياء وهو مصدر كقيام أو جمع ضوء كسياط وسوط والياء فيه منقلبة عن الواو. وقرأ ابن كثير برواية قنبل هنا وفي «الأنبياء» وفي «القصص» : «ضئاء» بهمزتين على القلب بتقديم اللام على العين. وَالْقَمَرَ نُوراً أي ذا نور أو سمي نوراً للمبالغة وهو أعم من الضوء كما عرفت، وقيل ما بالذات ضوء وما بالعرض نور، وقد نبه سبحانه وتعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها والقمر نيراً بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها. وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ الضمير لكل واحد أي قدر مسير كل واحد منهما منازل، أو قدره ذا منازل أو للقمر وتخصيصه بالذكر لسرعة سيره ومعاينة منازله وإناطة أحكام الشرع به ولذلك علله بقوله: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم. مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ إلا ملتبساً بالحق مراعياً فيه مقتضى الحكمة البالغة.
نُفَصِلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها وقرأ ابن كثير والبصريان وحفص يُفَصِّلُ بالياء.
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من أنواع الكائنات. لَآياتٍ على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته. لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ العواقب فإنه يحملهم على التفكر والتدبر.
[سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8)(3/105)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يتوقعونه لإنكارهم البعث وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها. وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا من الآخرة لغفلتهم عنها. وَاطْمَأَنُّوا بِها وسكنوا إليها مقصرين هممهم على لذائذها وزخارفها، أو سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها. وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ لا يتفكرون فيها لانهماكهم فيما يضادها والعطف إما لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأساً والانهماك في الشهوات بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلاً، وإما لتغاير الفريقين والمراد بالأولين من أنكر البعث ولم ير إلاَّ الحياة الدنيا وبالآخرين من أَلهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والاعداد له.
أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي.
[سورة يونس (10) : الآيات 9 الى 10]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أو لإدراك الحقائق كما
قال عليه الصلاة والسلام «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم» .
أو لما يريدونه في الجنة، ومفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية هو الإِيمان والعمل الصالح لكن دل منطوق قوله: بِإِيمانِهِمْ على استقلال الإِيمان بالسببية وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف له. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ استئناف أو خبر ثان أو حال من الضمير المنصوب على المعنى الأخير، وقوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خبر أو حال أخرى منه، أو من الْأَنْهارُ أو متعلق ب تَجْرِي أو بيهدي.
دَعْواهُمْ فِيها أي دعاؤهم. سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ اللهم إنا نسبحك تسبيحاً. وَتَحِيَّتُهُمْ ما يحيي به بعضهم بعضاً، أو تحية الملائكة إياهم. فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ وآخر دعائهم. أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي أن يقولوا ذلك، ولعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال، ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعالى فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام، وأَنِ هي المخففة من الثقيلة وقد قرئ بها وينصب «الحمد» .
[سورة يونس (10) : آية 11]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ ولو يسرعه إليهم. اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم في الخير حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم أو بأن المراد شر استعجلوه كقولهم فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ وتقدير الكلام، ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالاً كاستعجالهم بالخير، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه. لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ لأميتوا وأهلكوا وقرأ ابن عامر ويعقوب لَقضى على البناء للفاعل وهو الله تعالى وقرئ «لقضينا» . فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية كأنه قيل: ولكن لا نعجل ولا نقضي فنذرهم إمهالا لهم واستدراجا.
[سورة يونس (10) : آية 12]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (12)(3/106)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لإزالته مخلصاً فيه. لِجَنْبِهِ ملقى لجنبه أي مضطجعاً. أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً وفائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ يعني مضى على طريقته واستمر على كفره أو مر عن موقف الدعاء لا يرجع إليه. كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن كما قال:
وَنَحْرٌ مُشْرِقُ اللَّوْن ... كَأْن ثَدْيَاهُ حُقَّان
إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ إلى كشف ضر. كَذلِكَ مثل ذلك التزيين. زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ من الانهماك في الشهوات والإِعراض عن العبادات.
[سورة يونس (10) : الآيات 13 الى 14]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يا أهل مكة. لَمَّا ظَلَمُوا حين ظلموا بالتكذيب واستعمال القوى والجوارح لا على ما ينبغي وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الدالة على صدقهم وهو حال من الواو بإضمار قد أو عطف على ظلموا. وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله لهم وعلمه بأنهم يموتون على كفرهم، واللام لتأكيد النفي. كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل وإصرارهم عليه بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ نجزي كل مجرم أو نجزيكم فوضع المظهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم وأنهم أعلام فيه.
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر. لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أتعملون خيراً أو شراً فنعاملكم على مقتضى أعمالكم، وكيف معمول تعملون فإن معنى الاستفهام يحجب أن يعمل فيه ما قبله، وفائدته الدلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأفعال وكيفياتها لا هي من حيث ذاتها ولذلك يحسن الفعل تارة ويقبح أخرى.
[سورة يونس (10) : آية 15]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنَا يعني المشركين. ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والثواب والعقاب بعد الموت، أو ما نكرهه من معايب آلهتنا. أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى ولعلهم سألوا ذلك كي يسعفهم إليه فيلزموه. قُلْ مَا يَكُونُ لِي ما يصح لي. أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من قبل نفسي وهو مصدر استعمل ظرفاً، وإنما اكتفي بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ تعليل لما يكون فإن المتبع لغيره في أمر لا يستبد بالتصرف فيه، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعه ولذلك قيد التبديل في الجواب وسماه عصياناً فقال: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أي بالتبديل. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.
[سورة يونس (10) : آية 16]
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16)(3/107)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ غير ذلك. مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ ولا أعلمكم به على لساني، وعن ابن كثير «ولأدراكم» بلام التأكيد أي لَوْ شَاء الله مَا تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري. والمعنى أنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به لأرسل به غيري. وقرئ «ولا أدرأكم» «ولا أدرأتكم» بالهمز فيهما على لغة من يقلب الألف المبدلة من الياء همزة، أو على أنه من الدرء بمعنى الدفع أي ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال، والمعنى أن الأمر بمشيئة الله تعالى لا بمشيئتي حتى اجعله على نحو ما تشتهونه ثم قرر ذلك بقوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مقداراً عمر أربعين سنة. مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن لا أتلوه ولا أعلمه، فإنه إشارة إلى أن القرآن معجز خارق للعادة فإن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علماً ولم يشاهد عالما ولم ينشئ قريضاً ولا خطبة، ثم قرأ عليهم كتاباً بزت فصاحته فصاحة كل منطيق وعلا من كل منثور ومنظوم، واحتوى على قواعد علمي الأصول والفروع وأعرب عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هي عليه علم أنه معلوم به من الله تعالى. أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تستعملون عقلوكم بالتدبر والتفكر فيه لتعلموا أنه ليس إلا من الله.
[سورة يونس (10) : الآيات 17 الى 18]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لاَ يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً تفاد مما أضافوه إليه كناية، أو تظليم للمشركين بافترائهم على الله تعالى في قولهم إنه لذو شريك وذو ولد. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ فكفر بها. إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ فإنه جماد لا يقدر على نفع ولا ضر، والمعبود ينبغي أن يكون مثيباً ومعاقباً حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضر. وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ الأوثان. شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا أو في الآخرة إن يكن بعث، وكأنهم كانوا شاكين فيه وهذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة الموجد الضار النافع إلى عبادة ما يعلم قطعاً أنه لا يضر ولا ينفع على توهم أنه ربما يشفع لهم عنده. قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ أتخبرونه. بِما لاَ يَعْلَمُ وهو أن له شريكا أو هؤلاء شفعاء عنده وما لا يعلمه العالم بجميع المعلومات لا يكون له تحقق ما وفيه تقريع وتهكم بهم. فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ حال من العائد المحذوف مؤكدة للنفي منبهة على أن ما يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله إما سماوي وإما أرضي، ولا شيء من الموجودات فيهما إلا وهو حادث مقهور مثلهم لا يليق أن يشرك به. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به. وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الموضعين في أول «النحل» و «الروم» بالتاء.
[سورة يونس (10) : الآيات 19 الى 20]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً موحدين على الفطرة أو متفقين على الحق، وذلك في عهد آدم عليه السلام إلى أن قتل قابيلُ هابيلَ أو بعد الطوفان، أو على الضلال في فترة من الرسل. فَاخْتَلَفُوا باتباع الهوى والأباطيل، أو ببعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام فتبعتهم طائفة وأصرت أخرى. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحكم بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزاء. لَقُضِيَ(3/108)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
بَيْنَهُمْ
عاجلاً. فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بإهلاك المبطل وإبقاء المحق.
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي من الآيات التي اقترحوها. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ هو المختص بعلمه فلعله يعلم في إنزال الآيات المقترحة من مفاسد تصرف عن إنزالها. فَانْتَظِرُوا لنزول ما اقترحتموه. إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لما يفعل الله بكم بجحودكم ما نزل علي من الآيات العظام واقتراحكم غيره.
[سورة يونس (10) : آية 21]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً صحة وسعة. مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ كقحط ومرض. إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا بالطعن فيها والاحتيال في دفعها. قيل قحط أهل مكة سبع سنين حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم الله بالحيا فطفقوا يقدحون في آيات الله ويكيدون رسوله. قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً منكم قد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدكم، وإنما دل على سرعتهم المفضل عليها كلمة المفاجأة الواقعة جواباً لإذا الشرطية والمكر اخفاء الكيد، وهو من الله تعالى إما الاستدراج أو الجزاء على المكر. إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ تحقيق للانتقام وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه لم يخف على الحفظة فضلاً أن يخفى على الله تعالى، وعن يعقوب يمكرون بالياء ليوافق ما قبله.
[سورة يونس (10) : الآيات 22 الى 23]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ يحملكم على السير ويمكنكم منه. وقرأ ابن عامر «ينشركم» بالنون والشين من النشر. فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ في السفن، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بمن فيها، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم وينكر عليهم. بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لينة الهبوب. وَفَرِحُوا بِها بتلك الريح. جاءَتْها جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة، بمعنى تلقتها. رِيحٌ عاصِفٌ ذات عصف شديدة الهبوب. وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ يجيء الموج منه. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أهلكوا وسدت عليهم مسالك الخلاص كمن أحاط به العدو. دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من غير إشراك لتراجع الفطرة وزوال المعارض من شدة الخوف، وهو بدل من ظَنُّوا بدل اشتمال لأن دعاءهم من لوازم ظنهم.
لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ على إرادة القول أو مفعول دَعَوُا لأنه من جملة القول.
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إجابة لدعائهم. إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ فاجؤوا الفساد فيها وسارعوا إلى ما كانوا عليه. بِغَيْرِ الْحَقِّ مبطلين فيه وهو احتراز عن تخريب المسلمين ديار الكفرة وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم فإنها إفساد بحق. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فإن وباله عليكم أو أنه على أمثالكم أبناء جنسكم. مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا منفعة الحياة الدنيا لا تبقى ويبقى عقابها، ورفعه على أنه خبر بَغْيُكُمْ وعَلى أَنْفُسِكُمْ صلته، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك متاع الحياة الدنيا وعَلى أَنْفُسِكُمْ خبر بَغْيُكُمْ، ونصبه حفص على أنه مصدر مؤكد أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا أو مفعول البغي لأنه بمعنى الطلب فيكون الجار من صلته والخبر محذوف تقديره بغيكم متاع الحياة الدنيا محذور أو ضلال، أو مفعول(3/109)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
فعل دل عليه البغي وعلى أنفسكم خبره. ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ في القِيامة. فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأجزاء عليه.
[سورة يونس (10) : آية 24]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا حالها العجيبة في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها.
كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً. مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ من الزروع والبقول والحشيش. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها حسنها وبهجتها. وَازَّيَّنَتْ تزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة كعروس أخذت من ألوان الثياب والزين فتزينت بها، وَازَّيَّنَتْ أصله تزينت فأدغم وقد قرئ على الأصل «وازينت» على أفعلت من غير اعلال كاغيلت، والمعنى صارت ذات زينة «وازيانت» كابياضت. وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها متمكنون من حصدها ورفع غلتها.
أَتاها أَمْرُنا ضرب زرعها ما يجتاحه. لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها فجعلنا زرعها. حَصِيداً شبيهاً بما حصد من أصله. كَأَنْ لَمْ تَغْنَ كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث، والمضاف محذوف في الموضعين للمبالغة وقرئ بالياء على الأصل. بِالْأَمْسِ فيما قبيله وهو مثل في الوقت القريب والممثل به مضمون الحكاية وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما بعد ما كان غضاً والتف، وزين الأرض حتى طمع فيه أهله وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن وليه حرف التشبيه لأنه من التشبيه المركب. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإنهم المنتفعون به.
[سورة يونس (10) : الآيات 25 الى 26]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26)
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ دار السلامة من التقضي والآفة، أو دار الله وتخصيص هذا الاسم أيضاً للتنبيه على ذلك، أو دار يسلم الله والملائكة فيها على من يدخلها والمراد الجنة. وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق. إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو طريقها وذلك الإسلام والتدرع بلباس التقوى، وفي تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة وأن المصر على الضلالة لم يرد الله رشده.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى المثوبة الحسنى. وَزِيادَةٌ وما يزيد على المثوبة تفضلاً لقوله: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وقيل الحسنى مثل حسناتهم والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وأكثر، وقيل الزيادة مغفرة من الله ورضوان، وقيل الحسنى الجنة والزيادة هي اللقاء. وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ لا يغشاها. قَتَرٌ غبرة فيها سواد. وَلا ذِلَّةٌ هوان، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من حزن وسوء حال. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها.
[سورة يونس (10) : الآيات 27 الى 28]
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَّا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28)(3/110)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها عطف على قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى على مذهب من يجوز: في الدار زيد والحجرة عمرو، أو الَّذِينَ مبتدأ، والخبر جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها على تقدير: وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، أي أن تجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، وفيه تنبيه على أن الزيادة هي الفضل أو التضعيف أو كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ، أو أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ وما بينهما اعتراض ف جَزاءُ سَيِّئَةٍ مبتدأ خبره محذوف أي فجزاء سيئة بمثلها واقع، أو بمثلها على زيادة الباء أو تقدير مقدر بمثلها. وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وقرئ بالياء. مَّا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ما من أحد يعصمهم من سخط الله، أو من جهة الله ومن عنده كما يكون للمؤمنين. كَأَنَّما أُغْشِيَتْ غطيت. وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً لفرط سوادها وظلمتها ومظلماً حال من الليل والعامل فيه أُغْشِيَتْ لأنه العامل في قِطَعاً وهو موصوف بالجار والمجرور، والعامل في الموصوف عامل في الصفة أو معنى الفعل في مِنَ اللَّيْلِ. وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب قِطَعاً بالسكون فعلى هذا يصح أن يكون مُظْلِماً صفة له أو حالاً منه. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مما يحتج به الوعيدية. والجواب أن الآية في الكفار لاشتمال السيئات على الكفر والشرك ولأن الذين أحسنوا يتناول أصحاب الكبيرة من أهل القبلة فلا يتناولهم قسيمة.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني الفريقين جميعاً. ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ ألزموا مكانكم حتى تنظروا ما يفعل بكم. أَنْتُمْ تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله. وَشُرَكاؤُكُمْ عطف عليه وقرئ بالنصب على المفعول معه. فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم. وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَّا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم فإنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم لأنها الآمرة بالإِشراك لا ما أشركوا به. وقيل ينطق الله الأصنام فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي يتوقعون منها. وقيل المراد بالشركاء الملائكة والمسيح وقيل الشياطين.
[سورة يونس (10) : الآيات 29 الى 30]
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (30)
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ فإنه العالم بكنه الحال. إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ إِنْ هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة. هُنالِكَ في ذلك المقام. تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ تختبر مَّا قَدَّمَتْ من عمل فتعاين نفعه وضره. وقرأ حمزة والكسائي «تتلو» من التلاوة أي تقرأ ذكر ما قدمت، أو من التلو أي تتبع عملها فيقودها إلى الجنة أو إلى النار. وقرئ «نبلو» بالنون ونصب كُلُّ وإبدال مَا منه والمعنى نختبرها أي نفعل بها فعل المختبر لحالها المتعرف لسعادتها وشقاوتها بتعرف ما أسلفت من أعمالها، ويجوز أن يراد به نصيب بالبلاء أي بالعذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون مَا منصوبة بنزع الخافض. وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى جزائه إياهم بما أسلفوا. مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة لا ما اتخذوه مولى، وقرئ «الحق» بالنصب على المدح أو المصدر المؤكد. وَضَلَّ عَنْهُمْ وضاع عَنْهُمْ. مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آلهتهم تشفع لهم، أو ما كانوا يدعون أنها آلهة.
[سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 32]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي منهما جميعاً فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد أرضية أو مَنْ كل واحد منهما توسعة عليكم. وقيل من لبيان من على حذف المضاف أي من أهل السماء(3/111)
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
والأرض. أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ أم من يستطيع خلقهما وتسويتهما، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالها من أدنى شيء. وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ومن يحيي ويميت، أو من ينشئ الحيوان من النطفة والنطفة منه. وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ومن يلي تدبير أمر العالم وهو تعميم بعد تخصيص. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك لفرط وضوحه. فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ أنفسكم عقابه بإشراككم إياه ما لا يشاركه في شيء من ذلك.
فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ أي المتولي لهذه الأمور المستحق للعبادة هو ربكم الثابت ربوبيته لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم. فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ استفهام إنكار أي ليس بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحق إلى الضلال.
[سورة يونس (10) : الآيات 33 الى 34]
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي كما حقت الربوبية لله أو إن الحق بعده الضلال، أو أنهم مصروفون عن الحق كذلك حقت كلمة الله وحكمه. وقرأ نافع وابن عامر «كلمات» هنا وفي آخر السورة وفي «غافر» عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا تمردوا في كفرهم وخرجوا عن حد الاستصلاح. أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة، أو تعليل لحقيتها والمراد بها العدة بالعذاب.
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ جعل الإعادة كالإبداء في الإلزام بها لظهور برهانها وإن لم يساعدوا عليها، ولذلك أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن ينوب عنهم في الجواب فقال قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لأن لجاجهم لا يدعهم أن يعترفوا بها. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عن قصد السبيل.
[سورة يونس (10) : الآيات 35 الى 36]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ بنصب الحجج وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام والتوفيق للنظر والتدبر، وهدى كما يعدى بإلى لتضمنه معنى الانتهاء يعدى باللام للدلالة على أن المنتهي غاية الهداية وأنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق ولذلك عدى بها ما أسند إلى الله تعالى. قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَّ يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى أم الذي لا يهتدي إلا أن يهدى من قولهم:
هدي بنفسه إذا اهتدى، أو لا يهدي غيره إلا أن يهديه الله وهذا حال أشراف شركائهم كالملائكة والمسيح وعزير، وقرأ ابن كثير وورش عن نافع وابن عامر يهدِّى بفتح الهاء وتشديد الدال. ويعقوب وحفص بالكسر والتشديد والأصل يهتدي فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين. وروى أبو بكر يهدي بإتباع الياء الهاء. وقرأ أبو عمرو بالإدغام المجرد ولم يبال بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك. وعن نافع برواية قالون مثله وقرئ «إِلا أَنْ يَهْدِى» للمبالغة فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بما يقتضي صريح العقل بطلانه. وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فيما يعتقدونه. إِلَّا ظَنًّا مستنداً إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة، والمراد بالأكثر الجميع أو من ينتمي منهم إلى تمييز ونظر ولا يرضى بالتقليد الصرف. إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ من العلم والاعتقاد(3/112)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
الحق. شَيْئاً من الإِغناء ويجوز أن يكون مفعولاً به ومِنَ الْحَقِّ حالاً منه، وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وعيد على اتباعهم للظن وإعراضهم عن البرهان.
[سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 38]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ افتراء من الخلق. وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مطابقاً لما تقدمه من الكتب الإلهية المشهود على صدقها ولا يكون كذباً كيف وهو لكونه معجزاً دونها عيَّارٌ عليها شاهد على صحتها، ونصبه بأنه خبر لكان مقدراً أو علة لفعل محذوف تقديره: ولكن أنزله الله تصديق الذي.
وقرئ بالرفع على تقدير ولكن هو تصديق. وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ وتفصيل ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع. لاَ رَيْبَ فِيهِ منتفياً عنه الريب وهو خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك، ويجوز أن يكون حالاً من الكتاب فإنه مفعول في المعنى وأن يكون استئنافاً. مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر آخر تقديره كائناً من رب العالمين أو متعلق بتصديق أو تفصيل، ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراض أو بالفعل المعلل بهما ويجوز أن يكون حالاً من الكتاب أو من الضمير في فِيهِ، ومساق الآية بعد المنع عن اتباع الظن لبيان ما يجب اتباعه والبرهان عليه.
أَمْ يَقُولُونَ بل أيقولون. افْتَراهُ محمد صلّى الله عليه وسلّم ومعنى الهمزة فيه للإنكار. قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ في البلاغة وحسن النظم وقوة المعنى على وجه الافتراء فإنكم مثلي في العربية والفصاحة وأشد تمرناً في النظم والعبارة. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ومع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به. مِنْ دُونِ اللَّهِ سوى الله تعالى فإنه وحده قادر على ذلك. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه اختلقه.
[سورة يونس (10) : آية 39]
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
بَلْ كَذَّبُوا بل سارعوا إلى التكذيب. بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ بالقرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه، أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علماً من ذكر البعث والجزاء وسائر ما يخالف دينهم. وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ولم يقفوا بعد على تأويله ولم تبلغ أذهانهم معانيه، أو ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإِخبار بالغيوب حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ صدق أم كذب، والمعنى أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى ثم إنهم فاجؤوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفحصوا معناه ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرر عليهم التحدي فزادوا قواهم في معارضته فتضاءلت دونها، أو لما شاهدوا وقوع ما أخبر به طبقاً لأخباره مراراً فلم يقلعوا عن التكذيب تمرداً وعناداً. كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.
[سورة يونس (10) : الآيات 40 الى 41]
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
وَمِنْهُمْ ومن المكذبين. مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ من يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند، أو من(3/113)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
سيؤمن به ويتوب عن الكفر. وَمِنْهُمْ مَنْ لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره، أو فيما يستقبل بل يموت على الكفر، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ بالمعاندين أو المصرين.
وَإِنْ كَذَّبُوكَ وإن أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة. فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ فتبرأ منهم فقد أعذرت، والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقاً كان أو باطلاً. أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم، ولما فيه من إيهام الإِعراض عنهم وتخلية سبيلهم قيل إنه منسوخ بآية السيف.
[سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 43]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لاَ يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لاَ يُبْصِرُونَ (43)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكن لا يقبلون كالأصم الذي لا يسمع أصلاً. أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ تقدر على إسماعهم. وَلَوْ كانُوا لاَ يَعْقِلُونَ ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم. وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه ولذلك لا توصف به البهائم، وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل السليم في تدبره وعقولهم لما كانت مؤفة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف والتقليد، تعذر إفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ يعاينون دلائل نبوتك ولكن لا يصدقونك. أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ تقدر على هدايتهم. وَلَوْ كانُوا لاَ يُبْصِرُونَ وإن انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الإبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك البصيرة، ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق. والآية كالتعليل للأمر بالتبري والإعراض عنهم.
[سورة يونس (10) : الآيات 44 الى 45]
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بسلب حواسهم وعقولهم. وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإفسادها وتفويت منافعها عليهم، وفيه دليل على أن للعبد كسباً وأنه ليس بمسلوب الاختيار بالكلية كما زعمت المجبرة، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بمعنى أن ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من الله لا يظلمهم به ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه. وقرأ أبو عمرو والكسائي بالتخفيف ورفع الناس.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور لهول ما يرون، والجملة التشبيهية في موضع الحال أي يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة، أو صفة ليوم والعائد محذوف تقديره: كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف، أي: حشراً كأن لم يلبثوا قبله. يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً، وهذا أول ما نشروا ثم ينقطع التعارف لشدة الأمر عليهم وهي حال أخرى مقدرة، أو بيان لقوله: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا أو متعلق الظرف والتقدير يتعارفون يوم يحشرهم.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ استئناف للشهادة على خسرانهم والتعجب منه، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في يتعارفون على إرادة القول. وَما كانُوا مُهْتَدِينَ لطرق استعمال ما منحوا من المعاون في تحصيل المعارف فاستكسبوا بها جهالات أدت بهم إلى الردى والعذاب الدائم.
[سورة يونس (10) : الآيات 46 الى 47]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (47)(3/114)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ نبصرنك. بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب في حياتك كما أراه يوم بدر. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك. فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فنريكه في الآخرة وهو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ وجواب نُرِيَنَّكَ محذوف مثل فذاك. ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ مجاز عليه ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها ولذلك رتبها على الرجوع ب ثُمَّ، أو مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية. رَسُولٌ يبعث إليهم ليدعوهم إلى الحق. فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ بالبينات فكذبوه. قُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الرسول ومكذبيه. بِالْقِسْطِ بالعدل فأنجي الرسول وأهلك المكذبون.
وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وقيل معناه لكل أمة يوم القيامة رسول تنسب إليه فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضى بينهم بإنجاء المؤمنين وعقاب الكفار لقوله: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.
[سورة يونس (10) : الآيات 48 الى 49]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ استبعاداً له واستهزاء به. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ خطاب منهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين.
قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً فكيف أملك لكم فأستعجل في جلب العذاب إليكم. إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ أن أملكه أو ولكن مَا شَاء الله من ذلك كائن. لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مضروب لهلاكهم. إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ لا يتأخرون ولا يتقدمون فلا تستعجلون فسيحين وقتكم وينجز وعدكم.
[سورة يونس (10) : الآيات 50 الى 51]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ الذي تستعجلون به. بَياتاً وقت بيات واشتغال بالنوم. أَوْ نَهاراً حين كنتم مشتغلين بطلب معاشكم. مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أي شيء من العذاب يستعجلونه، وكله مكروه لا يلائم الاستعجال وهو متعلق ب أَرَأَيْتُمْ لأنه بمعنى أخبروني، والمجرمون وضع موضع الضمير للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء العذاب لا أن يستعجلوه، وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا خطأه، ويجوز أن يكون الجواب ماذا كقولك إن أتيتك ماذا تعطيني وتكون الجملة متعلقة ب أَرَأَيْتُمْ أو بقوله:
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ بمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإِيمان، وماذا يستعجل اعتراض ودخول حرف الاستفهام على «ثم» لإنكار التأخير. آلْآنَ على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به. وعن نافع آلْآنَ بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام. وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ تكذيباً واستهزاء.
[سورة يونس (10) : الآيات 52 الى 53]
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عطف على قيل المقدر. ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ المؤلم على الدوام. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.(3/115)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ ويستخبرونك. أَحَقٌّ هُوَ أحق ما تقول من الوعد أو ادعاء النبوة تقوله بجد أم باطل تهزل به قاله حيي بن أخطب لما قدم مكة، والأظهر أن الاستفهام فيه على أصله لقوله: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ وقيل إنه للإنكار ويؤيده أنه قرئ «آلحق هو» فإن فيه تعريضاً بأنه باطل، وأحق مبتدأ والضمير مرتفع به ساد مسد الخبر أو خبر مقدم والجملة في موضع النصب ب يَسْتَنْبِئُونَكَ. قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ إن العذاب لكائن أو ما ادعيته لثابت. وقيل كلا الضميرين للقرآن، وإي بمعنى نعم وهو من لوازم القسم ولذلك يوصل بواوه في التصديق فيقال إي والله ولا يقال إي وحده. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين العذاب.
[سورة يونس (10) : آية 54]
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ بالشرك أو التعدي على الغير مَّا فِي الْأَرْضِ من خزائنها وأموالها.
لَافْتَدَتْ بِهِ لجعلته فدية لها من العذاب، من قولهم افتداه بمعنى فداه. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ لأنهم بهتوا بما عاينوا مما لم يحتسبوه من فظاعة الأمر وهوله فلم يقدروا أن ينطقوا. وقيل أَسَرُّوا النَّدامَةَ أخلصوها لأن إخفاءها إخلاصها، أو لأنه يقال سر الشيء لخالصته من حيث إنها تخفى ويضن بها. وقيل أظهروها من قولهم أسر الشيء وأشره إذا أظهره. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ليس تكريراً لأن الأول قضاء بين الأنبياء ومكذبيهم والثاني مجازاة المشركين على الشرك أو الحكومة بين الظالمين والمظلومين، والضمير إنما يتناولهم لدلالة الظلم عليهم.
[سورة يونس (10) : الآيات 55 الى 56]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب. أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ما وعده من الثواب والعقاب كائن لا خلف فيه. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ لأنهم لا يعلمون لقصور عقولهم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا.
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ في الدنيا فهو يقدر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا تزول قدرته، والمادة القابلة بالذات للحياة والموت لهما أبداً. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالموت أو النشور.
[سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 58]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية الكاشفة عن محاسن الأعمال ومقابحها المرغبة في المحاسن والزاجرة عن المقابح، والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد وهدى إلى الحق واليقين ورحمة للمؤمنين، حيث أنزلت عليهم فنجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإِيمان، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان، والتنكير فيها للتعظيم.
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ بإنزال القرآن، والباء متعلقة بفعل يفسره قوله: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا فإن اسم الإشارة بمنزلة الضمير تقديره بفضل الله وبرحمته فليعتنوا أو فليفرحوا فبذلك فليفرحوا، وفائدة ذلك التكرير التأكيد والبيان بعد الإجمال وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح أو بفعل دل عليه قَدْ جاءَتْكُمْ، وذلك إشارة إلى مصدره أي فبمجيئها فليفرحوا والفاء بمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فيهما فليفرحوا(3/116)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
أو للربط بما قبلها، والدلالة على أن مجيء الكتاب الجامع بين هذه الصفات موجب للفرح وتكريرها للتأكيد كقوله:
وَإِذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِي وعن يعقوب «فلتفرحوا» بالتاء على الأصل المرفوض، وقد روي مرفوعا ويؤيده أنه قرئ «فافرحوا» .
هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا فإنها إلى الزوال قريب وهو ضمير ذلك. وقرأ ابن عامر تجمعون بالتاء على معنى فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعونه أيها المخاطبون.
[سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 60]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (60)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ جعل الرزق منزلاً لأنه مقدر في السماء محصل بأسباب منها، وما في موضع النصب ب أَنْزَلَ أو ب أَرَأَيْتُمْ فإنه بمعنى أخبروني، ولكم دل على أن المراد منه ما حل ولذلك وبخ على التبعيض فقال: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا مثل: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [وعند قوله تعالى] مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في التحريم والتحليل فتقولون ذلك بحكمه. أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ في نسبة ذلك إليه ويجوز أن تكون المنفصلة متصلة ب أَرَأَيْتُمْ وقل مكرر للتأكيد وأن يكون الاستفهام للإنكار، وأَمْ منقطعة ومعنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على الله.
وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي شيء ظنهم. يَوْمَ الْقِيامَةِ أيحسبون أن لا يجازوا عليه، وهو منصوب بالظن ويدل عليه أنه قرئ بلفظ الماضي لأنه كائن، وفي إبهام الوعيد تهديد عظيم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنعم عليهم بالعقل وهداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ هذه النعمة.
[سورة يونس (10) : آية 61]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ولا تكون في أمر، وأصله الهمز من شأنت شأنه إذا قصدت قصده والضمير في وَما تَتْلُوا مِنْهُ له لأن تلاوة القرآن معظم شأن الرسول، أو لأن القراءة تكون لشأن فيكون التقدير من أجله ومفعول تتلو مِنْ قُرْآنٍ على أن مِنْ تبعيضية أو مزيدة لتأكيد النفي أو لل قُرْآنٍ، وإضماره قبل الذكر ثم بيانه تفخيم له أو لله. وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم، ولذلك ذكر حيث خص ما فيه فخامة وذكر حيث عم ما يتناول الجليل والحقير. إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً رقباء مطلعين عليه. إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ تخوضون فيه وتندفعون. وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ ولا يبعد عنه ولا يغيب عن علمه، وقرأ الكسائي بكسر الزاي هنا وفي «سبأ» . مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ موازن نملة صغيرة أو هباء. فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي في الوجود والإمكان فإن العامة لا تعرف ممكناً غيرهما ليس فيهما ولا متعلقاً بهما، وتقديم الأرض لأن الكلام في حال أهلها والمقصود منه البرهان على إحاطة علمه بها. وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كلام برأسه مقرر لما قبله وَلاَ نافية وأَصْغَرَ اسمها وفِي كِتابٍ خبرها. وقرأ(3/117)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
حمزة ويعقوب بالرفع على الابتداء والخبر، ومن عطف على لفظ مِثْقالِ ذَرَّةٍ وجعل الفتح بدل الكسر لامتناع الصرف أو على محله مع الجار جعل الاستثناء منقطعاً، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ.
[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه.
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوات مأمول. والآية كمجمل فسره قوله:
الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ وقيل الذين آمنوا وكانوا يتقون بيان لتوليهم إياه.
ُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وهو ما بشر به المتقين في كتابه وعلى لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم وما يريهم من الرؤيا الصالحة وما يسنح لهم من المكاشفات، وبشرى الملائكة عند النزع. فِي الْآخِرَةِ
بتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة بيان لتوليه لهم، ومحل الَّذِينَ آمَنُوا النصب أو الرفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على الابتداء وخبره هُمُ الْبُشْرى
. تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده. لِكَ
إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين. وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ
هذه الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشر به وتعظيم شأنه، وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتصل بما قبله.
[سورة يونس (10) : آية 65]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إشراكهم وتكذيبهم وتهديدهم. وقرأ نافع يَحْزُنْكَ من أحزنه وكلاهما بمعنى.
إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً استئناف بمعنى التعليل ويدل عليه القراءة بالفتح كأنه قيل لا تحزن بقولهم ولا تبال بهم لأن الغلبة لله جميعاً لا يملك غيره شيئاً منها فهو يقهرهم وينصرك عليهم. هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم. الْعَلِيمُ بعزماتهم فيكافئهم عليها.
[سورة يونس (10) : الآيات 66 الى 67]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الملائكة والثقلين، وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات عبيداً لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له نداً أو شريكاً فهو كالدليل على قوله: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي شركاء على الحقيقة وإن كان يسمونها شركاء، ويجوز أن يكون شُرَكاءَ مفعول يَدْعُونَ ومفعول يَتَّبِعُ محذوف دل عليه. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون يقيناً وإنما يتبعون ظنهم أنها شركاء، ويجوز أن تكون مَا استفهامية منصوبة ب يَتَّبِعُ أو موصولة معطوفة على من وقرئ «تدعون» بالتاء الخطابية والمعنى: أي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، أي أنهم لا يتبعون إلا الله ولا يعبدون غيره فما لكم لا تتبعونهم فيه كقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ فيكون إلزاماً بعد برهان وما بعده مصروف عن خطابه لبيان سندهم ومنشأ رأيهم.
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يكذبون فيما ينسبون إلى الله أو يحزرون ويقدرون أنها شركاء تقديراً باطلاً.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً تنبيه على كمال قدرته وعظم نعمته المتوحد هو(3/118)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
بهما ليدلهم على تفرده باستحقاق العبادة، وإنما قال مُبْصِراً ولم يقل لتبصروا فيه تفرقة بين الظرف المجرد والظرف الذي هو سبب. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبر واعتبار.
[سورة يونس (10) : آية 68]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (68)
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي تبناه. سُبْحانَهُ تنزيه له عن التبني فإنه لا يصح إلا ممن يتصور له الولد وتعجب من كلمتهم الحمقاء. هُوَ الْغَنِيُّ علة لتنزيهه فإن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة. لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تقرير لغناه. إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا نفي لمعارض ما أقامه من البرهان مبالغة في تجهيلهم وتحقيقاً لبطلان قولهم، وبِهذا متعلق ب سُلْطانٍ أو نعت لَهُ أو ب عِنْدَكُمْ كأنه قيل:
إن عندكم في هذا من سلطان. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ توبيخ وتقريع على اختلافهم وجهلهم. وفيه دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من قاطع وأن التقليد فيها غير سائغ.
[سورة يونس (10) : الآيات 69 الى 70]
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ باتخاذ الولد وإضافة الشريك إليه. لاَ يُفْلِحُونَ لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة.
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا خبر مبتدأ محذوف أي افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به رئاستهم في الكفر أو حياتهم أو تقلبهم، مَتاعٌ مبتدأ خبره محذوف أي لهم تمتع في الدنيا. ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بالموت فيلقون الشقاء المؤبد. ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بسبب كفرهم.
[سورة يونس (10) : آية 71]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ خبره مع قومه. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ عظم عليكم وشق.
مَقامِي نفسي كقولك فعلت كذا لمكان فلان، أو كوني وإقامتي بينكم مدة مديدة أو قيامي على الدعوة.
وَتَذْكِيرِي إياكم. بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ وثقت به. فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فأعزموا عليه.
وَشُرَكاءَكُمْ أي مع شركائكم ويؤيده القراءة بالرفع عطفاً على الضمير المتصل، وجاز من غير أن يؤكد للفصل وقيل إنه معطوف على أَمْرَكُمْ بحذف المضاف أي وأمر شركائكم. وقيل إنه منصوب بفعل محذوف تقديره وادعوا شركاءكم وقد قرئ به، وعن نافع فَأَجْمِعُوا من الجمع، والمعنى أمرهم بالعزم أو الاجتماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم ثقة بالله وقلة مبالاة بهم. ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ في قصدي. عَلَيْكُمْ غُمَّةً مستوراً واجعلوه ظاهراً مكشوفاً، من غمه إذا ستره أو ثم لا يكن حالكم عليكم غماً إذا أهلكتموني وتخلصتم من ثقل مقامي وتذكيري. ثُمَّ اقْضُوا أدوا. إِلَيَّ ذلك الأمر الذي تريدون بي، وقرئ «ثم أفضوا إليَّ» بالفاء أي انتهوا إلي بشركم أو ابرزوا إلي، من أفضى إذا خرج إلى الفضاء. وَلا تُنْظِرُونِ ولا تمهلوني.
[سورة يونس (10) : الآيات 72 الى 73]
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)(3/119)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن تذكيري. فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ يوجب توليكم لثقله عليكم واتهامكم إياي لأجله، أو يفوتني لتوليكم. إِنْ أَجْرِيَ ما ثوابي على الدعوة والتذكير. إِلَّا عَلَى اللَّهِ لا تعلق له بكم يثيبني به آمنتم أو توليتم. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه لا أخالف أمره ولا أرجو غيره.
فَكَذَّبُوهُ فأصروا على تكذيبه بعد ما ألزمهم الحجة وبين أن توليهم ليس إلا لعنادهم وتمردهم لا جرم حقت عليهم كلمة العذاب. فَنَجَّيْناهُ من الغرق. وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وكانوا ثمانين. وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ من الهالكين به. وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن كذب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتسلية له.
[سورة يونس (10) : آية 74]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
ثُمَّ بَعَثْنا أرسلنا. مِنْ بَعْدِهِ من بعد نوح. رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ كل رسول إلى قومه. فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحة المثبتة لدعواهم. فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم في الكفر وخذلان الله إياهم. بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام. كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ بخذلانهم لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف، وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد وقد مر تحقيق ذلك.
[سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 76]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد هؤلاء الرسل. مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا بالآيات التسع.
فَاسْتَكْبَرُوا عن اتباعهما. وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ معتادين الإجرام فلذلك تهاونوا برسالة ربهم واجترءوا على ردها.
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا وعرفوه بتظاهر المعجزات الباهرة المزيلة للشك. قالُوا من فرط تمردهم. إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر أنه سحر، أو فائق في فنه واضح فيما بين إخوانه.
[سورة يونس (10) : آية 77]
قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ إنه لسحر فحذف المحكي المقول لدلالة ما قبله عليه، ولا يجوز أن يكون. أَسِحْرٌ هذا لأنهم بتوا القول بل هو استئناف بإنكار ما قالوه اللهم إلا أن يكون الاستفهام فيه للتقرير والمحكي مفهوم قولهم، ويجوز أن يكون معنى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ أتعيبونه من قولهم فلان يخاف القالة كقوله تعالى: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ فيستغني عن المفعول.
وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ من تمام كلام موسى للدلالة على أنه ليس بسحر فإنه لو كان سحراً لاضمحل ولم يبطل سحر السحرة، ولأن العالم بأنه لا يفلح الساحر لا يسحر، أو من تمام قولهم إن جعل أسحر هذا محكياً كأنهم قالوا أجئتنا بالسحر تطلب به الفلاح ولا يفلح الساحرون.(3/120)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
[سورة يونس (10) : الآيات 78 الى 80]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا لتصرفنا واللفت والفتل أخوان. عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام.
وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ الملك فيها سمي بها لاتصاف الملوك بالكبر، أو التكبر على الناس باستتباعهم. وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين فيما جئتما به.
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ وقرأ حمزة والكسائي بكل «سحار» . عَلِيمٍ حاذق فيه. فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ.
[سورة يونس (10) : الآيات 81 الى 82]
فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي الذي جئتم به هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحراً. وقرأ أبو عمرو السِّحْرُ على أن مَا استفهامية مرفوعة بالابتداء وجئتم به خبرها والسِّحْرُ بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف تقديره أهو السحر، أو مبتدأ خبره محذوف أي السحر هو. ويجوز أن ينتصب ما بفعل يفسره ما بعده وتقديره أي شيء أتيتم. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ سيمحقه أو سيظهر بطلانه. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يثبته ولا يقويه وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له.
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ ويثبته. بِكَلِماتِهِ بأوامره وقضاياه وقرئ «بكلمته» . وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.
[سورة يونس (10) : آية 83]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
فَما آمَنَ لِمُوسى أي في مبدأ أمره. إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ إلا أولاد من أولاد قومه بني إسرائيل دعاهم فلم يجيبوه خوفاً من فرعون إلا طائفة من شبانهم، وقيل الضمير ل فِرْعَوْنَ والذرية طائفة من شبانهم آمنوا به، أو مؤمن آل فرعون وامرأته آسية وخازنه وزوجته وماشطته عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أي مع خوف منهم، والضمير ل فِرْعَوْنَ وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء، أو على أن المراد ب فِرْعَوْنَ آله كما يقال: ربيعة ومضر، أو لل ذُرِّيَّةٌ أو للقوم. أَنْ يَفْتِنَهُمْ أن يعذبهم فرعون، وهو بدل منه أو مفعول خوف وإفراده بالضمير للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسببه. وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ لغالب فيها. وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء.
[سورة يونس (10) : الآيات 84 الى 86]
وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)
وَقالَ مُوسى لما رأى تخوف المؤمنين به. يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فثقوا به واعتمدوا عليه. إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مستسلمين لقضاء الله مخلصين له، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين، فإن المعلق بالإيمان وجوب التوكل فإنه المقتضي له، والمشروط بالإسلام حصوله فإنه لا يوجد مع التخليط ونظيره إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت.
فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين ولذلك أجيبت دعوتهم. رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً(3/121)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
موضع فتنة. لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ من كيدهم ومن شؤم مشاهدتهم، وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولا لتجاب دعوته.
[سورة يونس (10) : آية 87]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا أي اتخذا مباءة. لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة. وَاجْعَلُوا أنتما وقومكما. بُيُوتَكُمْ تلك البيوت. قِبْلَةً مصلى وقيل مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة، وكان موسى صلّى الله عليه وسلّم يصلي إليها. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فيها، أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالنصرة في الدنيا والجنة في العقبى، وإنما ثنى الضمير أولاً لأن التبوأ للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور، ثم جمع لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما ينبغي أن يفعله كل أحد، ثم وحد لأن البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشريعة.
[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 89]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ما يتزين به من الملابس والمراكب ونحوهما. وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وأنواعاً من المال. رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ دعاء عليهم بلفظ الأمر بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا يكون غيره كقولك: لعن الله إبليس. وقيل اللام للعاقبة وهي متعلقة ب آتَيْتَ ويحتمل أن تكون للعلة لأن إيتاء النعم على الكفر استدراج وتثبيت على الضلال، ولأنهم لما جعلوها سبباً للضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا فيكون رَبَّنا تكريراً للأول تأكيداً وتنبيهاً على أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة لقوله: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أي أهلكها، والطمس المحق وقرئ اطْمِسْ بالضم. وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي واقسها اطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان. فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ جواب للدعاء أو دعاء بلفظ النهي، أو عطف على لِيُضِلُّوا وما بينهم دعاء معترض.
قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما يعني موسى وهارون لأنه كان يؤمن. فَاسْتَقِيما فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة، ولا تستعجلا فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته.
روي: أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة.
وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ طريق الجهلة في الاستعجال أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى، وعن ابن عامر برواية ابن ذكوان وَلا تَتَّبِعانِّ بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين، وَلا تَتَّبِعانِّ من تبع وَلا تَتَّبِعانِّ أيضا.
[سورة يونس (10) : الآيات 90 الى 91]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي جوزناهم في البحر حتى بلغوا الشط حافظين لهم، وقرئ «جوزنا» وهو من فعل المرادف لفاعل كضعف وضاعف. فَأَتْبَعَهُمْ فأدركهم يقال تبعته حتى أتبعته. فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ(3/122)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
بَغْياً وَعَدْواً
باغين وعادين، أو للبغي والعدو وقرئ «وعدوا» . حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ لحقه. قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ أي بأنه. لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وقرأ حمزة والكسائي أنه بالكسر على إضمار القول أو الاستئناف بدلاً وتفسيراً ل آمَنْتُ فنكب عن الإيمان أوان القبول وبالغ فيه حين لا يقبل.
آلْآنَ أتؤمن الآن وقد أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار. وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ قبل ذلك مدة عمرك. وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ الضالين المضلين عن الإيمان.
[سورة يونس (10) : آية 92]
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ننقذك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافياً، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل. وقرأ يعقوب نُنَجِّيكَ من أنجى، وقرئ «ننحيك» بالحاء أي نلقيك بناحية من الساحل. بِبَدَنِكَ في موضع الحال أي ببدنك عارياً عن الروح، أو كاملاً سوياً أو عرياناً من غير لباس. أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها. وقرئ «بأبدانك» أي بأجزاء البدن كلها كقولهم هوى بإجرامه أو بدروعك كأنه كان مظاهراً بينها. لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك، حتى كذبوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه مطرحاً على ممرهم من الساحل، أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة ونكالاً عن الطغيان، أو حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية. وقرئ «لمن خلقك» أي لخالقك آية أي كسائر الآيات فإن إفراده إياك بالإِلقاء إلى الساحل دليل على أنه تعمد منه لكشف تزويرك وإماطة الشبهة في أمرك. وذلك دليل على كمال قدرته وعلمه وإرادته، وهذا الوجه أيضاً محتمل على المشهور. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.
[سورة يونس (10) : آية 93]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
وَلَقَدْ بَوَّأْنا أنزلنا. بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزلاً صالحاً مرضياً وهو الشأم ومصر. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ. فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ فما اختلفوا في أمر دينهم إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا قرءوا التوراة وعلموا أحكامها، أو في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيميز المحق من المبطل بالإِنجاء والإهلاك.
[سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 95]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من القصص على سبيل الفرض والتقدير. فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فإنه محقق عندهم ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك، والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة وأن القرآن مصدق لما فيها، أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إليه، أو تهييج الرسول صلّى الله عليه وسلّم وزيادة تثبيته لا إمكان وقوع الشك له ولذلك
قال عليه الصلاة والسلام: «لا أشك ولا أسأل» .
وقيل الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها(3/123)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك، وفيه تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ واضحاً أنه لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ بالتزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقين.
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ أيضاً من باب التهييج والتثبيت وقطع الأطماع عنه كقوله فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ.
[سورة يونس (10) : الآيات 96 الى 97]
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ ثبتت عليهم. كَلِمَتُ رَبِّكَ بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في العذاب.
لاَ يُؤْمِنُونَ إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه.
وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فإن السبب الأصلي لإِيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به مفقود. حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وحينئذ لا ينفعهم كما لا ينفع فرعون.
[سورة يونس (10) : آية 98]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها آمنت قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر إليها كما أخر فرعون. فَنَفَعَها إِيمانُها بأن يقبله الله منها ويكشف العذاب عنها. إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لكن قوم يونس عليه السلام. لَمَّا آمَنُوا أول ما رأوا أمارة العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله. كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ويجوز أن تكون الجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه، فيكون الاستثناء متصلاً لأن المراد من القرى أهاليها كأنه قال: ما آمن أهل قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس، ويؤيده قراءة الرفع على البدل. وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ إلى آجالهم.
روي: (أن يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوى من الموصل، فكذبوه وأصروا عليه فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث. وقيل إلى ثلاثين. وقيل إلى أربعين، فلما دنا الموعد أغامت السماء غيماً أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشي مدينتهم، فهابوا فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرقوا بين كل والدة وولدها فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأخلصوا التوبة وأظهروا الإِيمان وتضرعوا إلى الله تعالى، فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة) .
[سورة يونس (10) : آية 99]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ بحيث لا يشذ منهم أحد. جَمِيعاً مجتمعين على الإِيمان لا يختلفون فيه، وهو دليل على القدرية في أنه تعالى لم يشأ إيمانهم أجمعين، وأن من شاء إيمانه يؤمن لا محالة، والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر. أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ بما لم يشأ الله منهم. حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء وإيلاؤها حرف الاستفهام للإنكار، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل فلا يمكن تحصيله بالإكراه عليه فضلاً عن الحث والتحريض عليه إذ
روي أنه كان حريصاً على إيمان قومه شديد الاهتمام به فنزلت.
ولذلك قرره بقوله:(3/124)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
[سورة يونس (10) : الآيات 100 الى 101]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (101)
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ بالله. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إلا بإرادته وألطافه وتوفيقه فلا تجهد نفسك في هداها فإنه إلى الله. وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ العذاب أو الخذلان فإنه سببه. وقرئ بالزاي وقرأ أبو بكر «ونجعل» بالنون.
عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات، أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع ويؤيد الأول قوله:
قُلِ انْظُرُوا أي تفكروا. مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من عجائب صنعه لتدلكم على وحدته وكمال قدرته، وماذا إن جعلت استفهامية علقت انْظُرُوا عن العمل. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ في علم الله وحكمه وَما نافية أو استفهامية في موضع النصب.
[سورة يونس (10) : الآيات 102 الى 103]
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ مثل وقائعهم ونزول بأس الله بهم إذ لا يستحقون غيره من قولهم أيام العرب لوقائعها. قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
لذلك أو فانتظروا هلاكي إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ هلاككم.
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا عطف على محذوف دل عليه إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا كأنه قيل:
نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ومن آمن بهم، على حكاية الحال الماضية. كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ كذلك الإِنجاء أو إنجاء كذلك ننجي محمداً وصحبه حين نهلك المشركين، وحَقًّا عَلَيْنا اعتراض ونصبه بفعله المقدر. وقيل بدل من كذلك. وقرأ حفص والكسائي نُنَجِّي مخففا.
[سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 105]
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لأهل مكة. إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي وصحته. فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ فهذا خلاصة ديني اعتقاداً وعملاً فاعرضوها على العقل الصرف وانظروا فيها بعين الإِنصاف لتعلموا صحتها وهو أني لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه، ولكن أعبد خالقكم الذي هو يوجدكم ويتوفاكم. وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بما دل عليه العقل ونطق به الوحي، وحذف الجار من أن يجوز أن يكون من المطرد مع أن وأن يكون من غيره كقوله:
أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِه ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَسَبِ
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ عطف على أَنْ أَكُونَ غير أَنْ صلة أَنْ محكية بصيغة الأمر، ولا فرق بينهما في الغرض لأن المقصود وصلها بما يتضمن معنى المصدر لتدل معه عليه، وصيغ الأفعال كلها كذلك سواء الخبر منها والطلب، والمعنى وأمرت بالاستقامة في الدين والاستبداد فيه بأداء الفرائض، والانتهاء عن القبائح، أو في الصلاة باستقبال القبلة. حَنِيفاً حال من الدين أو الوجه. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
[سورة يونس (10) : الآيات 106 الى 107]
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)(3/125)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ بنفسه إن دعوته أو خذلته. فَإِنْ فَعَلْتَ فإن دعوته فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر عن تبعة الدعاء.
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ وإن يصبك به. فَلا كاشِفَ لَهُ يرفعه. إِلَّا هُوَ إلا الله. وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ فلا دافع. لِفَضْلِهِ الذي أرادك به ولعله ذكر الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين للتنبيه على أن الخير مراد بالذات وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول، ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا استحقاق لهم عليه، ولم يستثن لأن مراد الله لا يمكن رده.
يُصِيبُ بِهِ بالخير. مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فتعرضوا لرحمته بالطاعة ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية.
[سورة يونس (10) : الآيات 108 الى 109]
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ رسوله أو القرآن ولم يبق لكم عذر. فَمَنِ اهْتَدى بالإِيمان والمتابعة. فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأن نفعه لها. وَمَنْ ضَلَّ بالكفر بهما. فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأن وبال الضلال عليها. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ موكول إلى أمركم، وإنما أنا بشير ونذير.
وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ بالامتثال والتبليغ. وَاصْبِرْ على دعوتهم وتحمل أذيتهم. حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بالنصرة أو بالأمر بالقتال. وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا يمكن الخطأ في حكمه لاطلاعه على السرائر اطلاعه على الظواهر.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به وبعدد من غرق مع فرعون» .(3/126)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
(11) سورة هود
مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية
[سورة هود (11) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
الر كِتابٌ مبتدأ وخبر أو كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف. أُحْكِمَتْ آياتُهُ نظمت نظماً محكماً لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ والمعنى، أو منعت من الفساد والنسخ فإن المراد آيات السورة وليس فيها منسوخ، أو أحكمت بالحجج والدلائل أو جعلت حكيمة منقول من حكم بالضم إذا صار حكيماً لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية. ثُمَّ فُصِّلَتْ بالفوائد من العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار، أو بجعلها سوراً أو بالانزال نجماً نجماً، أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه. وقرئ «ثُمَّ فُصّلَتْ» أي فرقت بين الحق والباطل وأحكمت آياته ثُمَّ فُصِّلَتْ على البناء للمتكلم، وثُمَّ للتفاوت في الحكم أو للتراخي في الأخبار. مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة أخرى ل كِتابٌ، أو خبر بعد خبر أو صلة ل أُحْكِمَتْ أو فُصِّلَتْ، وهو تقرير لأحكامها وتفصيلها على أكمل ما ينبغي باعتبار ما ظهر أمره وما خفي.
[سورة هود (11) : الآيات 2 الى 3]
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ لأن لا تعبدوا. وقيل أن مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول، ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ للاغراء على التوحيد أو الأمر بالتبري من عبادة الغير كأنه قيل: ترك عبادة غير الله بمعنى الزموه أو اتركوها تركاً. إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ من الله. نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ بالعقاب على الشرك والثواب على التوحيد.
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عطف على ألا تعبدوا. ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ثم توسلوا إلى مطلوبكم بالتوبة فإن المعرض عن طريق الحق لا بد له من الرجوع. وقيل استغفروا من الشرك ثم توبوا إلى الله بالطاعة، ويجوز أن يكون ثم لتفاوت ما بين الأمرين. يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً يعيشكم في أمن ودعة. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو آخر أعماركم المقدرة، أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال والأرزاق والآجال، وإن كانت متعلقة بالأعمار لكنها مسماة بالإِضافة إلى كل أحد فلا تتغير. وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ويعط كل ذي فضل في دينه جزاء فضله في الدنيا والآخرة، وهو وعد للموحد التائب بخير الدارين. وَإِنْ تَوَلَّوْا وإن تتولوا. فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ يوم القيامة، وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بالقحط حتى أكلوا الجيف. وقرئ وَإِنْ تَوَلَّوْا من ولي.
[سورة هود (11) : الآيات 4 الى 5]
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم في ذلك اليوم وهو شاذ عن القياس. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر(3/127)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
على تعذيبكم أشد عذاب وكأنه تقدير لكبر اليوم.
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يثنونها عن الحق وينحرفون عنه، أو يعطفونها على الكفر وعداوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو يولون ظهورهم. وقرئ «يثنوني» بالياء والتاء من اثنوني، وهو بناء مبالغة. و «تثنون» ، وأصله تثنونن من الثن وهو الكلأ الضعيف أراد به ضعف قلوبهم أو مطاوعة صدورهم للثني، و «يثنئن» من اثنأن كأبياض بالهمزة و «تثنوي» . لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ من الله بسرهم فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه. قيل إنها نزلت في طائفة من المشركين قالوا: إذا أرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وطوينا صدورنا على عداوة محمد كيف يعلم.
وقيل نزلت في المنافقين وفيه نظر إذ الآية مكية والنفاق حدث بالمدينة. أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ ألا حين يأوون إلى فراشهم ويتغطون بثيابهم. يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ في قلوبهم. وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم يستوي في علمه سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بالأسرار ذات الصدور أو بالقلوب وأحوالها.
[سورة هود (11) : آية 6]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها غذاؤها ومعاشها لتكفله إياه تفضلاً ورحمة، وإنما أتى بلفظ الوجوب تحقيقاً لوصوله وحملاً على التوكل فيه. وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها أماكنها في الحياة والممات، أو الأصلاب والأرحام أو مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة. كُلٌّ كل واحد من الدواب وأحوالها. فِي كِتابٍ مُبِينٍ مذكور في اللوح المحفوظ، وكأنه أريد بالآية بيان كونه عالماً بالمعلومات كلها وبما بعدها بيان كونه قادراً على الممكنات بأسرها تقريراً للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد.
[سورة هود (11) : آية 7]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي خلقهما وما فيهما كما مر بيانه في «الأعراف» ، أو ما في جهتي العلو والسفل وجمع السموات دون الأرض لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات.
وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قبل خلقهما لم يكن حائل بينهما لا أنه كان موضوعاً على متن الماء، واستدل به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. وقيل كان الماء على متن الريح والله أعلم بذلك. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا متعلق ب خَلَقَ أي خلق ذلك كخلق من خلق ليعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم كيف تعملون، فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم وما تحتاج إليه أعمالكم ودلائل وأمارات تستدلون بها وتستنبطون منها، وإنما جاز تعليق فعل البلوى لما فيه من معنى العلم من حيث إنه طريق إليه كالنظر والاستماع، وإنما ذكر صيغة التفضيل والاختبار شامل لفرق المكلفين باعتبار الحسن والقبح للتحريض على أحاسن المحاسن، والتحضيض على الترقي دائماً في مراتب العلم والعمل فإن المراد بالعمل ما يعم عمل القلب والجوارح ولذلك
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله» .
والمعنى أيكم أكمل علماً وعملاً. وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ما البعث أو القول به أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان. وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» على أن الإِشارة إلى القائل. وقرئ إِنَّكُمْ بالفتح على تضمن قلت معنى ذكرت أو أن يكون أن بمعنى على أي ولئن قلت علَّكم مبعوثون، بمعنى توقعوا بعثكم ولا تبتوا بإنكاره لعدوه من قبيل ما لا حقيقة له مبالغة في إنكاره.(3/128)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
[سورة هود (11) : آية 8]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الموعود. إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ إلى جماعة من الأوقات قليلة. لَيَقُولُنَّ استهزاء. مَا يَحْبِسُهُ ما يمنعه من الوقوع. أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ كيوم بدر. لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ليس العذاب مدفوعاً عنهم، ويَوْمَ منصوب بخبر لَيْسَ مقدم عليه وهو دليل على جواز تقديم خبرها عليها. وَحاقَ بِهِمْ وأحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقاً ومبالغة في التهديد. ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي العذاب الذي كانوا به يستعجلون، فوضع يَسْتَهْزِؤُنَ موضع يستعجلون لأن استعجالهم كان استهزاء.
[سورة هود (11) : الآيات 9 الى 11]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ولئن أعطيناه نعمة بحيث يجد لذتها. ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ ثم سلبنا تلك النعمة منه. إِنَّهُ لَيَؤُسٌ قطوع رجاءه من فضل الله تعالى لقلة صبره وعدم ثقته به. كَفُورٌ مبالغ في كفران ما سلف له من النعمة.
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم، وفي اختلاف الفعلين نكتة لا تخفى. لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أي المصائب التي ساءتني. إِنَّهُ لَفَرِحٌ بطر بالنعم مغتر بها. فَخُورٌ على الناس مشغول عن الشكر والقيام بحقها، وفي لفظ الاذاقة والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة، وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء لأن الذوق إدراك الطعم والمس مبتدأ الوصول.
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على الضراء إيماناً بالله تعالى واستسلاماً لقضائه. وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ شكراً لآلائه سابقها ولاحقها. أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم. وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أقله الجنة والاستثناء من الإنسان لأن المراد به الجنس فإذا كان محلى باللام أفاد الاستغراق ومن حمله على الكافر لسبق ذكرهم جعل الاستثناء منقطعاً.
[سورة هود (11) : آية 12]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به، ولا يلزم من توقع الشيء لوجود ما يدعو إليه وقوعه لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرسل عن الخيانة في الوحي والثقة في التبليغ ها هنا. وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ وعارض لك أحياناً ضيق صدرك بأن تتلوه عليهم مخافة. أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ ينفقه في الاستتباع كالملوك. أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه وقيل الضمير في بِهِ مبهم يفسره أَنْ يَقُولُوا. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ليس عليك إلا الإِنذار بما أوحي إليك ولا عليك ردوا أو اقترحوا فما بالك يضيق به صدرك. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فتوكل عليه فإنه عالم بحالهم وفاعل بهم جزاء أقوالهم وأفعالهم.
[سورة هود (11) : الآيات 13 الى 14]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لاَّ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)(3/129)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أَمْ منقطعة والهاء ل ما يُوحى. قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في البيان وحسن النظم تحداهم أولاً بعشر سور ثم لما عجزوا عنها سهل الأمر عليهم وتحداهم بسورة، وتوحيد المثل باعتبار كل واحدة. مُفْتَرَياتٍ مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء مثلي تقدرون على مثل ما أقدر عليه بل أنتم أقدر لتعلمكم القصص والأشعار وتعودكم القريض والنظم.
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى المعاونة على المعارضة. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه مفترى فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ بإتيان ما دعوتم إليه، وجمع الضمير إما لتعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو لأن المؤمنين كانوا أيضاً يتحدونهم، وكان أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم متناولاً لهم من حيث إنه يجب أتباعه عليهم في كل أمر إلا ما خصه الدليل، وللتنبيه على أن التحدي مما يوجب رسوخ إيمانهم وقوة يقينهم فلا يغفلون عنه ولذلك رتب عليه قوله: فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله ولا يقدر عليه سواه. وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ واعلموا أن لا إله إلا الله لأنه العالم القادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره، ولظهور عجز آلهتهم ولتنصيص هذا الكلام الثابت صدقة بإعجازه عليه، وفيه تهديد وإقناط من أن يجيرهم من بأس الله آلهتهم. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون إذا تحقق عندكم إعجازه مطلقاً، ويجوز أن يكون الكل خطاباً للمشركين والضمير في فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لمن استطعتم أي فإن لم يستجيبوا لكم إلى المظاهرة لعجزهم وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة فاعلموا أنه نظم لا يعلمه إلا الله، وأنه منزل من عنده وأن ما دعاكم إليه من التوحيد حق فهل أنتم داخلون في الإِسلام بعد قيام الحجة القاطعة، وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر.
[سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (16)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها بإحسانه وبره. نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا من الصحة والرئاسة وسعة الرزق وكثرة الأولاد. وقرئ «يوف» بالياء أي يوف الله و «توف» على البناء للمفعول و «نُوَفّ» بالتخفيف والرفع لأن الشرط ماض كقوله:
وَإِنْ أَتَاهُ كَرِيمٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ ... يقول لا غائب مالي وَلاَ حَرَمُ
وَهُمْ فِيها لاَ يُبْخَسُونَ لا ينقصون شيئاً من أجورهم. والآية في أهل الرياء. وقيل في المنافقين. وقيل في الكفرة وغرضهم وبرهم.
أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ مطلقاً في مقابلة ما عملوا لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها لأنه لم يبق لهم ثواب في الآخرة، أو لم يكن لأنهم لم يريدوا به وجه الله والعمدة في اقتضاء ثوابها هو الإِخلاص، ويجوز تعليق الظرف ب صَنَعُوا على أن الضمير ل الدُّنْيا. وَباطِلٌ في نفسه. مَا كانُوا يَعْمَلُونَ لأنه لم يعمل على ما ينبغي، وكأن كل واحدة من الجملتين علة لما قبلها. وقرئ «باطلاً» على أنه مفعول يعملون وما إبهامية أو في معنى المصدر كقوله:
وَلاَ خَارِجاً مِنْ فيَّ زُور كَلاَمِ وبطل على الفعل.(3/130)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
[سورة هود (11) : آية 17]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (17)
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، والهمزة لإنكار أن يعقب من هذا شأنه هؤلاء المقصرين هممهم وأفكارهم على الدنيا وأن يقارب بينهم في المنزلة، وهو الذي أغنى عن ذكر الخبر وتقديره أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ كمن كان يريد الحياة الدنيا، وهو حكم يعم كل مؤمن مخلص. وقيل المراد به النبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل مؤمنو أهل الكتاب. وَيَتْلُوهُ ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل. شاهِدٌ مِنْهُ شاهد من الله يشهد بصحته وهو القرآن. وَمِنْ قَبْلِهِ وَمَن قَبل القرآن. كِتابُ مُوسى يعني التوراة فإنها أيضاً تتلوه في التصديق، أو البينة هو القرآن وَيَتْلُوهُ من التلاوة والشاهد جبريل، أو لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أن الضمير له أو من التلو والشاهد ملك يحفظه. والضمير في يَتْلُوهُ إما لمن أو للبينة باعتبار المعنى وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى جملة مبتدأة. وقرئ كِتَابٌ بالنصب عطفاً على الضمير في يَتْلُوهُ أي يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة دالة على أنه حق كقوله: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ويقرأ من قبل القرآن التوراة. إِماماً كتاباً مؤتماً به في الدين. وَرَحْمَةً على المنزل عليهم لأنه الوصلة إلى الفوز بخير الدارين. أُولئِكَ إشارة إلى من كان على بينة. يُؤْمِنُونَ بِهِ بالقرآن. وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يردها لا محالة. فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ من الموعد، أو القرآن وقرئ مِرْيَةٍ بالضم وهما الشك. إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ لقلة نظرهم واختلال فكرهم.
[سورة هود (11) : الآيات 18 الى 19]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كأن أسند إليه ما لم ينزله أو نفى عنه ما أنزله. أُولئِكَ أي الكاذبون. يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ في الموقف بأن يحبسوا وتعرض أعمالهم. وَيَقُولُ الْأَشْهادُ من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم، وهو جمع شاهد كأصحاب أو شهيد كأشراف جمع شريف. هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ لظلمهم بالكذب على الله.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دينه. وَيَبْغُونَها عِوَجاً يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ والحال أنهم كافرون بالآخرة وتكريرهم لتأكيد كفرهم واختصاصهم به.
[سورة هود (11) : الآيات 20 الى 22]
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي ما كانوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يمنعونهم من العقاب ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشد وأدوم.(3/131)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ استئناف وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يُضَّعف بالتشديد. مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ لتصامهم عن الحق وبغضهم له. وَما كانُوا يُبْصِرُونَ لتعاميهم عن آيات الله، وكأنه العلة لمضاعفة العذاب.
وقيل هو بيان ما نفاه من ولاية الآلهة بقوله: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ فإن ما لا يسمع ولا يبصر لا يصلح للولاية وقوله: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ اعتراض.
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ
من الآلهة وشفاعتها، أو خسروا بما بدلوا وضاع عنهم ما حصلوا فلم يبق معهم سوى الحسرة والندامة. لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ لا أحد أبين وأكثر خسراناً منهم.
[سورة هود (11) : الآيات 23 الى 24]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ اطمأنوا إليه وخشعوا له من الخبت وهو الأرض المطمئنة. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون.
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ الكافر والمؤمن. كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لتصامه عن إسماع كلام الله تعالى وتأبيه عن تدبر معانيه، وتشبيه المؤمن بالسميع والبصير لأن أمره بالضد فيكون كل واحد منهما مشبهاً باثنين باعتبار وصفين، أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضديهما والعاطف لعطف الصفة على الصفة كقوله:
الصّائح فالغانم فالآئب وهذا من باب اللف والطباق. هَلْ يَسْتَوِيانِ هل يستوي الفريقان. مَثَلًا أي تمثيلاً أو صفة أو حالاً. أَفَلا تَذَكَّرُونَ بضرب الأمثال والتأمل فيها.
[سورة هود (11) : الآيات 25 الى 26]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ بأني لكم. قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة بالكسر على إرادة القول. نَذِيرٌ مُبِينٌ أبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص.
أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بدل من إِنِّي لَكُمْ، أو مفعول مبين، ويجوز أن تكون أن مفسرة متعلقة ب أَرْسَلْنا أو ب نَذِيرٌ. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم وهو في الحقيقة صفة المعذب لكن يوصف به العذاب وزمانه على طريقة جد جده ونهاره صائم للمبالغة.
[سورة هود (11) : آية 27]
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ووجوب الطاعة. وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أخساؤنا جمع أرذل فإنه بالغلبة صار مثل الاسم كالأكبر، أو أرذل جمع رذل. بادِيَ الرَّأْيِ ظاهر الرأي من غير تعمق من البدو، أو أول الرأي من البدء، والياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها. وقرأ أبو عمرو بالهمزة وانتصابه بالظرف على حذف المضاف أي: وقت حدوث بادي الرأي، والعامل فيه اتَّبَعَكَ. وإنما استرذلوهم لذلك أو لفقرهم فإنهم لما لم يعلموا إلا ظاهراً من(3/132)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
الحياة الدنيا كان الأحظ بها أشرف عندهم والمحروم منها أرذل. وَما نَرى لَكُمْ لك ولمتبعيك. عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة. بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ إياك في دعوى النبوة وإياهم في دعوى العلم بصدقك فغلب المخاطب على الغائبين.
[سورة هود (11) : الآيات 28 الى 29]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أخبروني. إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي حجة شاهدة بصحة دعواي. وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ بإيتاء البينة أو النبوة. فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ فخفيت عليكم فلم تهدكم وتوحيد الضمير لأن البينة في نفسها هي الرحمة، أو لأن خفاءها يوجب خفاء النبوة، أو على تقدير فعميت بعد البينة وحذفها للاختصار أو لأنه لكل واحدة منهما. وقرأ حمزة والكسائي وحفص فَعُمِّيَتْ أي أخفيت. وقرئ «فعماها» على أن الفعل لله. أَنُلْزِمُكُمُوها أنكرهكم على الاهتداء بها. وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تختارونها ولا تتأملون فيها، وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعاً وقدم الأعرف منهما جاز في الثاني الفصل والوصل.
وَيا قَوْمِ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على التبليغ وهو وإن لم يذكر فمعلوم مما ذكر. مَالاً جعلا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فإنه المأمول منه. وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا جواب لهم حين سألوا طردهم. إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيخاصمون طاردهم عنده، أو أنهم يلاقونه ويفوزون بقربه فكيف أطردهم. وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ بلقاء ربكم أو بأقدارهم أو في التماس طردهم، أو تتسفهون عليهم بأن تدعوهم أراذل.
[سورة هود (11) : الآيات 30 الى 31]
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ بدفع انتقامه. إِنْ طَرَدْتُهُمْ وهم بتلك الصفة والمثابة. أَفَلا تَذَكَّرُونَ لتعرفوا أن التماس طردهم وتوقيف الإيمان عليه ليس بصواب.
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ رزقه وأمواله حتى جحدتم فضلي. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أي: ولا أقول لكم أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني استبعاداً، أو حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة وعقد قلب، وعلى الثاني يجوز عطفه على أقول. وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ حتى تقولوا ما أنت إلا بشر مثلنا. وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ ولا أقول في شأن من استرذلتموهم لفقرهم. لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً فإن ما أعده الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا. اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إن قلت شيئاً من ذلك، والازدراء به افتعال من زرى عليه إذا عابه قلبت تاؤه دالاً لتجانس الراء في الجهر وإسناده إلى الأعين للمبالغة، والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادي الرؤية من غير روية بما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم.
[سورة هود (11) : الآيات 32 الى 33]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا خاصمتنا. فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فأطلته أو أتيت بأنواعه. فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من(3/133)
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
العذاب. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في الدعوى والوعيد فإن مناظرتك لا تؤثر فينا.
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ عاجلاً أو آجلاً. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بدفع العذاب أو الهرب منه.
[سورة هود (11) : الآيات 34 الى 35]
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ شرط ودليل جواب والجملة دليل جواب قوله: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وتقدير الكلام إن كان الله يريد أن يغويكم، فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، ولذلك نقول لو قال الرجل أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيداً فدخلت ثم كلمت لم تطلق، وهو جواب لما أوهموا من جداله كلام بلا طائل. وهو دليل على أن إرادة الله تعالى يصح تعلقها بالإِغواء وأن خلاف مراده محال. وقيل أَنْ يُغْوِيَكُمْ أن يهلككم من غوى الفصيل غوى إذا بشم فهلك. هُوَ رَبُّكُمْ هو خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فَيجازيكم على أعمالكم.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وباله وقرئ «أَجْرامي» على الجمع. وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي.
[سورة هود (11) : الآيات 36 إلي 37]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ فلا تحزن ولا تتأسف. بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أقنطه الله تعالى من إيمانهم ونهاه أن يغتم بما فعلوه من التكذيب والإِيذاء.
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا ملتبساً بأعيننا، عبر بكثرة آلة الحس الذي يحفظ به الشيء ويراعى عن الاختلال والزيغ عن المبالغة في الحفظ والرعاية على طريق التمثيل. وَوَحْيِنا إليك كيف تصنعها. وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ولا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم. إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ محكوم عليهم بالإِغراق فلا سبيل إلى كفه.
[سورة هود (11) : الآيات 38 الى 39]
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية. وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ استهزءوا به لعمله السفينة فإنه كان يعملها في برية بعيدة من الماء أوان عزته، وكانوا يضحكون منه ويقولون له: صرت نجاراً بعد ما كنت نبياً. قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. وقيل المراد بالسخرية الاستجهال.
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يعني به إياهم وبالعذاب الغرق. وَيَحِلُّ عَلَيْهِ وينزل عليه، أو يحل عليه حلول الدين الذي لا انفكاك عنه. عَذابٌ مُقِيمٌ دائم وهو عذاب النار.
[سورة هود (11) : آية 40]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا غاية لقوله وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ(3/134)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
بعدها الكلام. وَفارَ التَّنُّورُ نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور، والتَّنُّورُ تنور الخبز ابتدأ منه النبوع على خرق العادة وكان في الكوفة في موضع مسجدها، أو في الهند أو بعين وردة من أرض الجزيرة وقيل التنور وجه الأرض أو أشرف موضع فيها. قُلْنَا احْمِلْ فِيها في السفينة. مِنْ كُلٍّ من كل نوع من الحيوانات المنتفع بها. زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذكراً وأنثى هذا على قراءة حفص والباقون أضافوا على معنى احمل اثنين من كل صنف ذكر وصنف أنثى. وَأَهْلَكَ عطف على زَوْجَيْنِ أو اثْنَيْنِ، والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم.
إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بأنه من المغرقين يريد ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين. وَمَنْ آمَنَ والمؤمنين من غيرهم. وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قيل كانوا تسعة وسبعين زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونساؤهم واثنان وسبعون رجلاً وامرأة من غيرهم.
روي أنه عليه الصلاة والسلام اتخذ السفينة في سنتين من الساج وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين وسمكها ثلاثين، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحش وفي أوسطها الإِنس وفي أعلاها الطير.
[سورة هود (11) : آية 41]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها أي صيروا فيها وجعل ذلك ركوباً لأنها في الماء كالمركوب في الأرض. بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها متصل ب ارْكَبُوا حال من الواو أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين باسم الله وقت إجرائها وإرسائها، أو مكانهما على أن المجرى والمرسى للوقت أو المكان أو المصدر، والمضاف محذوف كقولهم: آتيك خفوق النجم، وانتصابهما بما قدرناه حالاً ويجوز رفعهما ب بِسْمِ اللَّهِ على أن المراد بهما المصدر أو جملة مِنْ مبتدأ وخبر، أي إجراؤها بِسْمِ اللَّهِ على أن بِسْمِ اللَّهِ خبر أو صلة والخبر محذوف وهي إما جملة مقتضية لا تعلق لها بما قبلها أو حال مقدرة من الواو أو الهاء.
وروي أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست.
ويجوز أن يكون الاسم مقحماً كقوله:
ثُم اسمُ السلامِ عليكُما. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية حفص مَجْراها بالفتح من جرى وقرئ «مرساها» أيضاً من رسا وكلاهما يحتمل الثلاثة و «مجريها ومرسيها» بلفظ الفاعل صفتين لله. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي لولا مغفرته لفرطاتكم ورحمته إياكم لما نجاكم.
[سورة هود (11) : آية 42]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ متصل بمحذوف دل عليه ارْكَبُوا فركبوا مسمين وهي تجري وهم فيها. فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ في موج من الطوفان، وهو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه كل موجة منها كجبل في تراكمها وارتفاعها، وما قيل من أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه ليس بثابت، والمشهور أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعاً وإن صح فلعل ذلك قبل التطبيق. وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان، وقرئ «ابنها» و «ابنه» بحذف الألف على أن الضمير لامرأته، وكان ربيبه وقيل كان لغير رشدة لقوله تعالى: فَخانَتاهُما وهو خطأ إذ الأنبياء عصمن من ذلك والمراد بالخيانة الخيانة في الدين، وقرئ «ابناه» على الندبة ولكونها حكاية سوغ حذف الحرف. وَكانَ فِي مَعْزِلٍ عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه مفعل للمكان من عزله عنه إذا أبعده. يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا في السفينة، والجمهور كسروا الياء ليدل على ياء الإِضافة المحذوفة في جميع القرآن، غير ابن كثير فإنه وقف عليها في «لقمان» في الموضع الأول باتفاق الرواة وفي الثالث في رواية قنبل وعاصم فإنه فتح ها هنا اقتصاراً على الفتح من الألف المبدلة من ياء الإِضافة، واختلفت الرواية عنه في سائر المواضع وقد أدغم الباء في الميم أبو عمرو والكسائي وحفص لتقاربهما. وَلا(3/135)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ
في الدين والانعزال.
[سورة هود (11) : الآيات 43 الى 44]
قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لاَ عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ أن يغرقني قالَ لاَ عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ إلا الراحم وهو الله تعالى أَوْ إلّا مكان من رحمهم الله وهم المؤمنون، رد بذلك أن يكون اليوم معتصم من جبل ونحوه يعصم اللائذ به إلا معتصم المؤمنين وهو السفينة. وقيل لا عاصم بمعنى لا ذا عصمة كقوله: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وقيل الاستثناء منقطع أي لكن من رحمه الله يعصمه. وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ بين نوح وابنه أو بين ابنه والجبل. فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ فصار من المهلكين بالماء.
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي نوديا بما ينادي به أولو العلم وأمرا بما يؤمرون به، تمثيلاً لكمال قدرته وانقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما بالأمر المطاع الذي يأمر المنقاد لحكمه المبادر إلى امتثال أمره، مهابة من عظمته وخشية من أليم عقابه، والبلع النشف والإقلاع الإمساك. وَغِيضَ الْماءُ نقص. وَقُضِيَ الْأَمْرُ وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين. وَاسْتَوَتْ واستقرت السفينة. عَلَى الْجُودِيِّ جبل بالموصل وقيل بالشام وقيل بآمل.
روي أنه ركب السفينة عاشر رجب ونزل عنها عاشر المحرم فصام ذلك اليوم فصار ذلك سنة.
وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ هلاكاً لهم، يقال: بعد بعدا وبعدا، إذا بعد بعداً بعيداً بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء، والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحسن نظمها والدلالة على كنه الحال مع الإِيجاز الخالي عن الإِخلال، وفي إيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه مستغن عن ذكره، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره للعلم بأن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار.
[سورة هود (11) : الآيات 45 الى 46]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ وأراد نداءه بدليل عطف قوله: فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي فإنه النداء. وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وإن كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه الخلف، وقد وعدت أن تنجي أهلي فما حاله، أو فما له لم ينج، ويجوز أن يكون هذا النداء قبل غرقه. وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ لأنك أعلمهم وأعدلهم، أو لأنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكمة كالدارع من الدرع.
قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ لقطع الولاية بين المؤمن والكافر وأشار إليه بقوله: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فإنه تعليل لنفي كونه من أهله، وأصله إنه ذو عمل فاسد فجعل ذاته ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة:
ترتع مَا رتعت حَتى إِذَا ادْكَّرَت ... فإِنَّمَا هي إقبالٌ وإِدْبَارٌ
ثم بدل الفاسد بغير الصالح تصريحاً بالمناقضة بين وصفيهما وانتفاء ما أوجب النجاة لمن نجا من أهله عنه. وقرأ الكسائي ويعقوب إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أي عمل عملاً غير صالح. فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ما لا تعلم أصواب هو أم ليس كذلك، وإنما سمي نداءه سؤالاً لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله استنجازه(3/136)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
في شأن ولده أو استفسار المانع للانجاز في حقه، وإنما سماه جهلاً وزجر عنه بقوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال وأغناه عن السؤال، لكن أشغله حب الولد عنه حتى اشتبه عليه الأمر. وقرأ ابن كثير بفتح اللام والنون الشديدة وكذلك نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة وعن نافع برواية رويس إثباتها في الوصل.
[سورة هود (11) : الآيات 47 الى 48]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48)
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ فيما يستقبل. مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ما لا علم لي بصحته. وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وإن لم تغفر لي ما فرط مني في السؤال. وَتَرْحَمْنِي بالتوبة والتفضل علي. أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالاً.
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا انزل من السفينة مسلماً من المكاره من جهتنا أو مسلماً عليك. وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ ومباركاً عليك أو زيادات في نسلك حتى تصير آدما ثانيا. وقرئ «اهبط» بالضم «وبركة» على التوحيد وهو الخير النامي. وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وعلى أمم هم الذين معك، سموا أمماً لتحزبهم أو لتشعب الأمم منهم، أو وعلى أمم ناشئة ممن معك والمراد بهم المؤمنون لقوله: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أي وممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا. ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة والمراد بهم الكفار من ذرية من معه. وقيل هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب، والعذاب ما نزل بهم.
[سورة هود (11) : آية 49]
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
تِلْكَ إشارة إلى قصة نوح ومحلها الرفع بالابتداء وخبرها: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي بعضها. نُوحِيها إِلَيْكَ خبر ثان والضمير لها أي موحاة إليك، أو حال من ال أَنْباءِ أو هو الخبر ومِنْ أَنْباءِ متعلق به أو حال من الهاء في نُوحِيها. مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك من قبل ايحائنا إليك، أو حال من الهاء في نوحيها أو الكاف في إِلَيْكَ أي: جاهلاً أنت وقومك بها، وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها إذ لم يخالط غيرهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يسمعوها فكيف بواحد منهم. فَاصْبِرْ على مشاق الرسالة وأذية القوم كما صبر نوح. إِنَّ الْعاقِبَةَ في الدنيا بالظفر وفي الآخرة بالفوز. لِلْمُتَّقِينَ عن الشرك والمعاصي.
[سورة هود (11) : الآيات 50 الى 51]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51)
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً عطف على قوله نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهُوداً عطف بيان قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده. ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وقرئ بالجر حملاً على المجرور وحده. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ على الله باتخاذ الأوثان شركاء وجعلها شفعاء.
يا قَوْمِ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي خاطب كل رسول به قومه إزاحة للتهمة(3/137)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
وتمحيضاً للنصيحة فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع. أَفَلا تَعْقِلُونَ أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل والصواب من الخطأ.
[سورة هود (11) : الآيات 52 الى 53]
وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ اطلبوا مغفرة الله بالإِيمان ثم توسلوا إليها بالتوبة وأيضاً التبري من الغير إنما يكون بعد الإِيمان بالله والرغبة فيما عنده. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً كثير الدر. وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ويضاعف قوتكم، وإنما رغبهم بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وعمارات. وقيل حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاثين سنة فوعدهم هود عليه السلام على الإِيمان والتوبة بكثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل. وَلا تَتَوَلَّوْا ولا تعرضوا عما أدعوكم إليه. مُجْرِمِينَ مصرين على إجرامكم.
قالُوا يا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ بحجة تدل على صحة دعواك وهو لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا بتاركي عبادتهم. عَنْ قَوْلِكَ صادرين عن قولك حال من الضمير في تاركي. وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إقناط له من الإِجابة والتصديق.
[سورة هود (11) : الآيات 54 الى 56]
إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ ما نقول إلا قولنا اعْتَراكَ أي أصابك من عراه يعروه إذا أصابه. بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ بجنون لسبك إياها وصدك عنها ومن ذلك تهذي وتتكلم لخرافات، والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ. قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ أجاب به عن مقالتهم الحمقاء بأن أشهد الله تعالى على براءته من آلهتهم وفراغه عن إضرارهم تأكيداً لذلك وتثبيتاً له، وأمرهم بأن يشهدوا عليه استهانة بهم، وأن يجتمعوا على الكيد في إهلاكه من غير إنظار حتى إذا اجتهدوا فيه ورأوا أنهم عجزوا عن آخرهم وهم الأقوياء الأشداء أن يضروه لم يبق لهم شبهة أن آلهتهم التي هي جماد لا يضر ولا ينفع لا تتمكن من إضراره انتقاماً منه، وهذا من جملة معجزاته فإن مواجهة الواحد الجم الغفير من الجبابرة الفتاك العطاش إلى إراقة دمه بهذا الكلام ليس إلا لثقته بالله وتثبطهم عن إضراره ليس إلا بعصمته إياه ولذلك عقبه بقوله:
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ تقريراً له والمعنى أنكم وإن بذلتم غاية وسعكم لن تضروني فإني متوكل على الله واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يحيق بي ما لم يرده، ولا تقدرون على ما لم يقدره ثم برهن عليه بقوله: مَّا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي إلا وهو مالك لها قادر عليها يصرفها على ما يريد بها والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك. إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي أنه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم.
[سورة هود (11) : الآيات 57 الى 58]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58)(3/138)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فإن تتولوا. فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ فقد أديت ما علي من الإبلاغ وإلزام الحجة فلا تفريط مني ولا عذر لكم فقد أبلغتكم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إليكم. وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ استئناف بالوعيد لهم بأن الله يهلكهم ويستخلف قوماً آخرين في ديارهم وأموالهم، أو عطف على الجواب بالفاء ويؤيده القراءة بالجزم على الموضع كأنه قيل: وإن تتولوا يعذرني ربي ويستخلف. وَلا تَضُرُّونَهُ بتوليكم. شَيْئاً من الضرر ومن جزم يستخلف أسقط النون منه. إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ رقيب فلا تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مجازاتكم، أو حافظ مستول عليه فلا يمكن أن يضره شيء.
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا أو أمرنا العذاب. نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وكانوا أربعة آلاف. وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ تكرير لبيان ما نجاهم منه وهو السموم، كانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أعضاءهم، أو المراد به تنجيتهم من عذاب الآخرة أيضاً، والتعريض بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ.
[سورة هود (11) : الآيات 59 الى 60]
وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
وَتِلْكَ عادٌ أنث اسم الإِشارة باعتبار القبيلة أو لأن الإِشارة إلى قبورهم وآثارهم. جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ كفروا بها. وَعَصَوْا رُسُلَهُ لأنهم عصوا رسولهم ومن عصى رسولاً فكأنما عصي الكل لأنهم أمروا بطاعة كل رسول. وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يعني كبراءهم الطاغين وعَنِيدٍ من عند عنداً وعنداً وعنوداً إذا طغى، والمعنى عصوا من دعاهم إلى الإِيمان وما ينجيهم وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم في العذاب.
أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ جحدوه أو كفروا نعمه أو كفروا به فحذف الجار. أَلا بُعْداً لِعادٍ دعاء عليهم بالهلاك، والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكي عنهم، وإنما كرر ألا وأعاد ذكرهم تفظيعاً لأمرهم وحثاً على الاعتبار بحالهم. قَوْمِ هُودٍ عطف بيان لعاد، وفائدته تمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم، والإِيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بما جرى بينهم وبين هود.
[سورة هود (11) : آية 61]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ هو كونكم منها لا غيره فإنه خلق آدم ومواد النطف التي خلق نسله منها من التراب. وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها عمركم فيها واستبقاكم من العمر، أو أقدركم على عمارتها وأمركم بها، وقيل هو من العمري بمعنى أعمركم فيها دياركم ويرثها منكم بعد انصرام أعماركم، أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها لغيركم.
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ قريب الرحمة. مُجِيبٌ لداعيه.
[سورة هود (11) : الآيات 62 الى 63]
قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)(3/139)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد أن تكون لنا سيداً ومستشاراً في الأمور، أو أن توافقنا في الدين فلما سمعنا هذا القول منك انقطع رجاؤنا عنك. أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا على حكاية الحال الماضية. وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد والتبري عن الأوثان. مُرِيبٍ موقع في الريبة من أرابه، أو ذي ريبة على الإِسناد المجازي من أراب في الأمر.
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي بيان وبصيرة وحرف الشك باعتبار المخاطبين. وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً نبوة. فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ فمن يمنعني من عذابه إِنْ عَصَيْتُهُ في تبليغ رسالته والمنبع عن الإِشراك به. فَما تَزِيدُونَنِي إذن باستتباعكم إياي. غَيْرَ تَخْسِيرٍ غير أن تخسروني بإبطال ما منحني الله به والتعرض لعذابه، أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير أن أنسبكم إلى الخسران.
[سورة هود (11) : الآيات 64 الى 65]
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً انتصب آية على الحال وعاملها معنى الإِشارة، ولكم حال منها تقدمت عليها لتنكيرها. فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ترع نباتها وتشرب ماءها. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يتراخى عن مسكم لها بالسوء إلا يسيراً وهو ثلاثة أيام.
فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ عيشوا في منازلكم أو في داركم الدنيا. ثَلاثَةَ أَيَّامٍ الأربعاء والخميس والجمعة ثم تهلكون. ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي غير مكذوب فيه فاتسع فيه بإجرائه مجرى المفعول به كقوله:
وَيَوْمَ شَهِدْنَاهُ سُلِيمَاً وَعَامِراً أو غير مكذوب على المجاز، وكأن الواعد قال له أفي بك فإن وفى به صدقة وإلا كذبه، أو وعد غير كذب على أنه مصدر كالمجلود والمعقول.
[سورة هود (11) : الآيات 66 الى 68]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة أو ذلهم وفضيحتهم يوم القيامة. وعن نافع يَوْمِئِذٍ بالفتح على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه هنا وفي «المعارج» في قوله: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ القادر على كل شيء والغالب عليه.
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ قد سبق تفسير ذلك في سورة «الأعراف» .
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ نَوَنَّهُ أبو بكر ها هنا وفي «النجم» والكسائي في جميع القرآن وابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو في قوله: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ ذهاباً إلى الحي أو الأب الأكبر.
[سورة هود (11) : آية 69]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)(3/140)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ يعني الملائكة، قيل: كانوا تسعة، وقيل ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل.
بِالْبُشْرى ببشارة الولد. وقيل بهلاك قوم لوط. قالُوا سَلاماً سلمنا عليك سلاماً ويجوز نصبه ب قالُوا على معنى ذكروا سلاماً. قالَ سَلامٌ أي أمركم أو جوابي سلام أو وعليكم سلام، رفعه إجابة بأحسن من تحيتهم. وقرأ حمزة والكسائي «سلم» وكذلك في «الذاريات» وهما لغتان كحرم وحرام وقيل المراد به الصلح.
فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فما أبطأ مجيئه به، أو فما أبطأ في المجيء به، أو فما تأخر عنه والجار في أَنْ مقدر أو محذوف والحنيذ المشوي بالرضف. وقيل الذي يقطر ودكه من حنذت الفرس إذا عرفته بالجلال لقوله: بِعِجْلٍ سَمِينٍ.
[سورة هود (11) : الآيات 70 الى 71]
فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71)
فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ لا يمدون إليه أيديهم. نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أنكر ذلك منهم وخاف أن يريدوا به مكروهاً، ونكر وأنكر واستنكر بمعنى والإِيجاس الإِدراك وقيل الإِضمار قالُوا له لما أحسوا منه أثر الخوف. لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ إنا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب، وإنما لم نمد إليه أيدينا لأنا لا نأكل.
وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وراء الستر تسمع محاورتهم أو على رؤوسهم للخدمة. فَضَحِكَتْ سروراً بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الفساد أو بإصابة رأيها فإنها كانت تقول لإِبراهيم: اضمم إليك لوطاً فإني أعلم أن العذاب ينزل بهؤلاء القوم. وقيل فضحكت فحاضت قال الشاعر:
وَعَهْدِي بِسَلْمَى ضَاحِكَاً فِي لُبَابَة ... وَلَمْ يَعْدُ حُقَاً ثَدْيُهَا أَنْ تَحَلَّمَا
ومنه ضحكت السمرة إذا سال صمغها وقرئ بفتح الحاء. فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ نصبه ابن عامر وحمزة وحفص بفعل يفسره ما دل عليه الكلام وتقديره: ووهبناها من وراء إسحاق يعقوب. وقيل إنه معطوف على موضع بِإِسْحاقَ أو على لفظ إِسْحاقَ، وفتحته للجر فإنه غير مصروف ورد للفصل بينه وبين ما عطف عليه بالظرف. وقرأ الباقون بالرفع على أنه مبتدأ.
وخبره الظرف أي ويَعْقُوبَ مولود من بعده. وقيل الوراء ولد الولد ولعله سمي به لأنه بعد الولد وعلى هذا تكون إضافته إلى إِسْحاقَ ليس من حيث أن يعقوب عليه الصلاة والسلام وراءه، بل من حيث إنه وراء إبراهيم من جهته وفيه نظر. والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كيحيى، ويحتمل وقوعهما في الحكاية بعد أن ولدا فسميا به، وتوجيه البشارة إليها للدلالة على أن الولد المبشر به يكون منها لا من هاجر ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد.
[سورة هود (11) : الآيات 72 الى 73]
قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
قالَتْ يَا وَيْلَتى يا عجباً، وأصله في الشر فأطلق على كل أمر فظيع. وقرئ بالياء على الأصل.
أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ابنة تسعين أو تسع وتسعين. وَهذا بَعْلِي زوجي وأصله القائم بالأمر. شَيْخاً ابن مائة أو مائة وعشرين، ونصبه على الحال والعامل فيها معنى اسم الإشارة. وقرئ بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ، أو خبر بعد خبر أو هو الخبر وبَعْلِي بدل. إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ يعني الولد من هرمين، وهو استعجاب من حيث العادة دون القدرة ولذلك:(3/141)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ منكرين عليها فإِن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ومهبط المعجزات، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع ولا حقيق بأن يستغربه عاقل فضلاً عمن نشأت وشابت في ملاحظة الآيات، وأهل البيت نصب على المدح أو النداء لقصد التخصيص كقولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. إِنَّهُ حَمِيدٌ فاعل ما يستوجب به الحمد. مَجِيدٌ كثير الخير والإحسان.
[سورة هود (11) : الآيات 74 الى 76]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ أي ما أوجس من الخيفة واطمأن قلبه بعرفانهم. وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بدل الورع. يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ يجادل رسلنا في شأنهم ومجادلته إياهم قوله: إِنَّ فِيها لُوطاً وهو إما جواب لما جيء به مضارعاً على حكاية الحال أو لأنه في سياق الجواب بمعنى الماضي كجواب لو، أو دليل جوابه المحذوف مثل اجترأ على خطابنا أو شرع في جدالنا، أو متعلق به أقيم مقامه مثل أخذ أو أقبل يجادلنا.
إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام من المسيء إليه. أَوَّاهٌ كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس. مُنِيبٌ راجع إلى الله، والمقصود من ذلك بيان الحامل له على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط ترحمه.
يَا إِبْراهِيمُ على إرادة القول أي قالت الملائكة يَا إِبْراهِيمُ. أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ قدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم. وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ مصروف بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك.
[سورة هود (11) : الآيات 77 الى 78]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ ساءه مجيئهم لأنهم جاءوه في صورة غلمان فظن أنهم أناس فخاف عليهم أن يقصدهم قومه فيعجز عن مدافعتهم. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وضاق بمكانهم صدره، وهو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه. وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ شديد من عصبه إذا شده.
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ يسرعون إليه كأنهم يدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه. وَمِنْ قَبْلُ أي ومن قبل ذلك الوقت. كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الفواحش فتمرنوا بها ولم يستحيوا منها حتى جاءوا يهرعون لها مجاهرين. قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي فدى بهن أضيافه كرماً وحمية، والمعنى هؤلاء بناتي فتزوجوهن، وكانوا يطلبونهن قبل فلا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لحرمة المسلمات على الكفار فإنه شرع طارئ أو مبالغة في تناهي خبث ما يرومونه حتى إن ذلك أهون منه، أو إظهاراً لشدة امتعاضه من ذلك كي يرقوا له. وقيل المراد بالبنات نساؤهم فإن كل نبي أبو أمته من حيث الشفقة والتربية وفي حرف ابن مسعود وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو أب لهم هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أنظف فعلاً وأقل فحشاً كقولك: الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه. وقرئ أَطْهَرُ بالنصب على الحال على أن هُنَّ خبر بَناتِي كقولك: هذا أخي هو لا فصل فإنه لا يقع بين الحال وصاحبها. فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم. وَلا تُخْزُونِ ولا تفضحوني من الخزي، أو ولا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء. فِي ضَيْفِي في شأنهم فإن(3/142)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
إخزاء ضيف الرجل إخزاؤه. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح.
[سورة هود (11) : الآيات 79 الى 80]
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ من حاجة وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ وهو إتيان الذكران.
قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً لو قويت بنفسي على دفعكم. أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ إلى قوي أتمنع به عنكم. شبهه بركن الجبل في شدته.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد» .
وقرئ «أَوْ آوِى» بالنصب بإضمار أن كأنه قال: لو أن لى بكم قوة أو أوياً وجواب لَوْ محذوف تقديره لدفعتكم
روي أنه أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب.
[سورة هود (11) : آية 81]
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا فهون عليك ودعنا وإياهم، فخلاهم أن يدخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم، فخرجوا يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط سحرة. فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بالقطع من الإِسراء، وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث وقع في القرآن من السرى. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ بطائفة منه. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ولا يتخلف أو لا ينظر إلى ورائه والنهي في اللفظ لأحد وفي المعنى للوط. إِلَّا امْرَأَتَكَ استثناء من قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ويدل عليه أنه قرئ فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك، وهذا إنما يصح على تأويل الالتفات بالتخلف فإنه إن فسر بالنظر إلى الوراء في الذهاب ناقض ذلك قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالرفع على البدل من أحد، ولا يجوز حمل القراءتين على الروايتين في أنه خلفها مع قومها أو أخرجها فلما سمعت صوت العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها، لأن القواطع لا يصح حملها على المعاني المتناقضة، والأولى جعل الاستثناء في القراءتين من قوله: وَلا يَلْتَفِتْ مثله في قوله تعالى: مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ ولا يبعد أن يكون أكثر القراء على غير الأفصح، ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه استصلاحاً ولذلك علل على طريقة الاستئناف بقوله: إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعاً على قراءة الرفع. إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ كأنه علة الأمر بالإِسراء. أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب.
[سورة هود (11) : الآيات 82 الى 83]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا أو أمرنا به، ويؤيده الأصل وجعل التعذيب مسبباً عنه بقوله: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها فإنه جواب لما وكان حقه: جعلوا عاليها سافلها أي الملائكة المأمورون به، فأسند إلى نفسه من حيث إنه المسبب تعظيماً للأمر فإنه
روي: (أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائنهم ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم) .
وَأَمْطَرْنا عَلَيْها على المدن أو على شذاذها. حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجر لقوله: حِجارَةً مِنْ طِينٍ وأصله سنك كل فعرب.
وقيل إنه من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته، والمعنى من مثل الشيء المرسل أو من مثل العطية في الإِدرار،(3/143)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
أو من السجل أي مما كتب الله أن يعذبهم به وقيل أصله من سجين أي من جهنم فأبدلت نونه لاماً.
مَنْضُودٍ نضد معداً لعذابهم، أو نضد في الإِرسال بتتابع بعضه بعضاً كقطار الأمطار، أو نضد بعضه على بعض وألصق به.
مُسَوَّمَةً معلمة للعذاب. وقيل معلمة ببياض وحمرةً. أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض، أو باسم من يرمى بها. عِنْدَ رَبِّكَ في خزائنه. وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ فإنهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم، وفيه وعيد لكل ظالم.
وعنه عليه الصلاة والسلام «أنه سأل جبريل عليه السلام فقال: يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة» .
وقيل الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في أسفارهم إلى الشام، وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان.
[سورة هود (11) : آية 84]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أو أهل مدين وهو بلد بناه فسمي باسمه. قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أمرهم بالتوحيد أولاً فإنه ملاك الأمر ثم نهاهم عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ بسعة تغنيكم عن البخس، أو بنعمة حقها أن تتفضلوا على الناس شكراً عليها لا أن تنقصوا حقوقهم، أو بسعة فلا تزيلوها بما أنتم عليه وهو في الجملة علة للنهي. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ لا يشذ منه أحد منكم. وقيل عذاب مهلك من قوله: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ. والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال، ووصف اليوم بالإِحاطة وهي صفة العذاب لاشتماله عليه.
[سورة هود (11) : آية 85]
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ صرح بالأمر بالإِيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيهاً على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمدهم التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإِيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها. بِالْقِسْطِ بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقصان، فإن الازدياد إيفاء وهو مندوب غير مأمور به وقد يكون محظوراً.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار، أو في غيره وكذا قوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. وقيل المراد بالبخس المكس كأخذ العشور في المعاملات، والعثو السرقة وقطع الطريق والغارة. وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإِصلاح كما فعله الخضر عليه السلام. وقيل معناه ولا تعثوا في الأرض مفسدين في أمر دينكم ومصالح آخرتكم.
[سورة هود (11) : آية 86]
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
بَقِيَّتُ اللَّهِ ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم. خَيْرٌ لَكُمْ مما تجمعون بالتطفيف. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة وذلك مشروط بالإِيمان. أو إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم. وقيل البقية الطاعة كقوله: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ وقرئ «تقية الله» بالتاء وهي تقواه التي تكف عن المعاصي.
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظكم عن القبائح، أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها وإنما أنا(3/144)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
ناصح مبلغ وقد أعذرت حين أنذرت، أو لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم.
[سورة هود (11) : آية 87]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، أجابوا به آمرهم بالتوحيد على الاستهزاء به والتهكم بصلواته والإِشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه. وكان شعيب كثير الصلاة فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر. وقرأ حمزة والكسائي وحفص على الإفراد والمعنى: أصلواتك تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأن الرجل لا يؤمر بفعل غيره. أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا عطف على ما أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا.
وقرئ بالتاء فيهما على أن العطف على أَنْ نَتْرُكَ وهو جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإِيفاء. وقيل كان ينهاهم عن تقطيع الدراهم والدنانير فأرادوا به ذلك. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ تهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك، أو عللوا إنكار ما سمعوا منه واستبعاده بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك.
[سورة هود (11) : آية 88]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة. وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال، وجواب الشرط محذوف تقديره فهل يسع مع هذا الإِنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه، وأخالفه في أمره ونهيه. وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء، والضمير في مِنْهُ لله أي من عنده وبإعانته بلا كد مني في تحصيله. وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه لأستبد به دونكم، فلو كان صواباً لآثرته ولم أعرض عنه فضلاً عن أن أنهى عنه، يقال خالفت زيداً إلى كذا إذا قصدته وهو مول عنه، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر ما دمت أستطيع الإِصلاح، فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه، ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن: وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة أهمها وأعلاها حق الله تعالى، وثانيها حق النفس، وثالثها حق الناس. وكل ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به وأنهاكم عما نهيتكم عنه. وما مصدرية واقعة موقع الظرف وقيل خبرية بدل من الْإِصْلاحَ أي المقدار الذي استطعته، أو إصلاح ما استطعته فحذف المضاف. وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فإنه القادر المتمكن من كل شيء وما عداه عاجز في حد ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ. وَإِلَيْهِ أُنِيبُ إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضاً يفيد الحصر بتقديم الصلة على الفعل. وفي هذه الكلمات طلب التوفيق لإِصابة الحق فيما يأتيه ويذره من الله تعالى، والاستعانة به في مجامع أمره والإِقبال عليه بشراشره، وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم وتهديدهم بالرجوع إلى الله للجزاء.
[سورة هود (11) : الآيات 89 الى 90]
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)(3/145)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
وَيا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ لا يكسبنكم. شِقاقِي معاداتي. أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق. أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح. أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة وأَنْ بصلتها ثاني مفعولي جرم، فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب. وعن ابن كثير يَجْرِمَنَّكُمْ بالضم وهو منقول من المتعدي إلى مفعول واحد، والأول أفصح فإن أجرم أقل دوراناً على ألسنة الفصحاء. وقرئ مَثَلُ بالفتح لإِضافته إلى المبنى كقوله:
لَمْ يُمْنع الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَت ... حَمَامَةٌ فِي غُصُون ذات ارْقَالِ
وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ زماناً أو مكاناً فإن لم تعتبروا بمن قبلهم فاعتبروا بهم، أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي فلا يبعد عنكم ما أصابهم، وإفراد البعيد لأن المراد وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد، ولا يبعد أن يسوي في أمثاله بين المذكر والمؤنث لأنها على زنة المصادر كالصهيل والشهيق.
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عما أنتم عليه. إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة للتائبين. وَدُودٌ فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ المودة بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.
[سورة هود (11) : آية 91]
قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91)
قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ ما نفهم. كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ كوجوب التوحيد وحرمة البخس وما ذكرت دليلاً عليهما، وذلك لقصور عقولهم وعدم تفكرهم. وقيل قالوا ذلك استهانة بكلامه، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم عنه. وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً لا قوة لك فتمتنع منا إن أردنا بك سوءاً، أو مهيناً لا عزّ لك، وقيل أعمى بلغة حمير وهو مع عدم مناسبته يرده التقييد بالظرف، ومنع بعض المعتزلة استنباء الأعمى قياساً على القضاء والشهادة والفرق بين. وَلَوْلا رَهْطُكَ قومك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم، فإن الرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى التسعة. لَرَجَمْناكَ لقتلناك برمي الأحجار أو بأصعب وجه. وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ فتمنعنا عزتك عن الرجم، وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسب، والتهديد وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة، وأن المانع لهم عن إيذائه عزة قومه ولذلك.
[سورة هود (11) : الآيات 92 الى 93]
قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به والإِهانة برسوله فلا تبقون علي لله وتبقون علي لرهطي، وهو يحتمل الإِنكار والتوبيخ والرد والتكذيب، وظِهْرِيًّا منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب. إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فلا يخفى عليه شيء منها فيجازي عليها.
وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ سبق مثله في سورة «الأنعام» والفاء في ف سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثمة للتصريح بأن الإِصرار والتمكن فيما هم عليه سبب لذلك، وحذفها ها هنا لأنه جواب سائل قال: فماذا يكون بعد ذلك؟ فهو أبلغ في التهويل. وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ عطف على من يأتيه لا لأنه قسيم له كقولك: ستعلم الكاذب والصادق، بل لأنهم لما أو عدوه وكذبوه قال: سوف تعلمون من المعذب والكاذب مني ومنكم. وقيل كان قياسه ومن هو صادق لينصرف الأول إليهم والثاني إليه لكنهم(3/146)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
لما كانوا يدعونه كاذباً قال: ومن هو كاذب على زعمهم. وَارْتَقِبُوا وانتظروا ما أقول لكم. إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم، أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع.
[سورة هود (11) : الآيات 94 الى 95]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا إنما ذكره بالواو كما في قصة عاد إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنه ذكر بعد الوعد وذلك قوله: وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ وقوله: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ فلذلك جاء بفاء السببية. وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ قيل صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا. فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ميتين، وأصل الجثوم اللزوم في المكان.
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كأن لم يقيموا فيها. أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضاً بالصيحة، غير أن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم. وقرئ «بَعُدَتْ» بالضم على الأصل فإن الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك، والبعد مصدر لهما والبعد مصدر المكسور.
[سورة هود (11) : الآيات 96 الى 97]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا بالتوراة أو المعجزات. وَسُلْطانٍ مُبِينٍ وهو المعجزات القاهرة أو العصا، وإفرادها بالذكر لأنها أبهرها، ويجوز أن يراد بهما واحد أي: ولقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وسلطاناً له على نبوته واضحاً في نفسه أو موضحاً إياها، فإن أبان جاء لازماً ومتعدياً، والفرق بينهما أن الآية تعم الأمارة، والدليل القاطع والسلطان يخص بالقاطع والمبين يخص بما فيه جلاء.
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ فاتبعوا أمره بالكفر بموسى أو فما تبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة، واتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ مرشد أو ذي رشد، وإنما هو غي محض وضلال صريح.
[سورة هود (11) : الآيات 98 الى 99]
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال يقال قدم بمعنى تقدم.
فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ونزل النار لهم منزلة الماء فسمى إتيانها مورداً ثم قال:
وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي بئس المورد الذي وردوه فإنه يراد لتبريد الأكباد وتسكين العطش والنار بالضد، والآية كالدليل على قوله: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فإن من كان هذه عاقبته لم يكن في أمره رشد، أو تفسير له على أن المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي يلعنون في الدنيا والآخرة. بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ بئس العون المعان أو العطاء المعطى، وأصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده، والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم وهو اللعنة في الدارين.(3/147)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
[سورة هود (11) : الآيات 100 الى 101]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
ذلِكَ أي ذلك النبأ. مِنْ أَنْباءِ الْقُرى المهلكة. نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مقصوص عليك. مِنْها قائِمٌ من تلك القرى باق كالزرع القائم. وَحَصِيدٌ ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود، والجملة مستأنفة وقيل حال من الهاء في نقصه وليس بصحيح إذ لا واو ولا ضمير.
وَما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكنا إياهم. وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن عرضوها له بارتكاب ما يوجبه. فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ فما نفعتهم ولا قدرت أن تدفع عنهم بل ضرتهم. آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ حين جاءهم عذابه ونقمته. وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ هلاك أو تخسير.
[سورة هود (11) : الآيات 102 الى 103]
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
وَكَذلِكَ ومثل ذلك الأخذ. أَخْذُ رَبِّكَ وقرئ «أَخْذُ رَبّكَ» بالفعل وعلى هذا يكون محل الكاف النصب على المصدر. إِذا أَخَذَ الْقُرى أي أهلكها وقرئ «إِذ» لأن المعنى على المضي. وَهِيَ ظالِمَةٌ حال من الْقُرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامه أجريت عليها، وفائدتها الإِشعار بأنهم أخذوا بظلمهم وإنذار كل ظالم ظلم نفسه، أو غيره من وخامة العاقبة. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وجيع غير مرجو الخلاص منه، وهو مبالغة في التهديد والتحذير.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما نزل بالأمم الهالكة أو فيما قصه الله تعالى من قصصهم. لَآيَةً لعبرة. لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ يعتبر به عظمته لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة، أو ينزجر به عن موجباته لعلمه بأنها من إله مختار يعذب من يشاء ويرحم من يشاء. فإن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم لم يقل بالفاعل المختار، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين بها. ذلِكَ إشارة إلى يوم القيامة وعذاب الآخرة دل عليه. يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمع له الناس، والتغيير للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه من شأنه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ومعنى الجمع له الجمع لما فيه من المحاسبة والمجازاة. وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي مشهود فيه أهل السموات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به كقوله: في مَحفَلِ مِنْ نَوَاصِي النَّاس مَشْهُود، أي كثير شاهدوه، ولو جعل اليوم مشهوداً في نفسه لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك.
[سورة هود (11) : الآيات 104 الى 105]
وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
وَما نُؤَخِّرُهُ أي اليوم. إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية على حذف المضاف وإرادة مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فإنه غير معدود.
يَوْمَ يَأْتِ أي الجزاء أو اليوم كقوله: أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ على أن يَوْمَ بمعنى حين أو الله عز وجل كقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ ونحوه. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة يَأْتِ(3/148)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسر. لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة، وهو الناصب للظرف ويحتمل نصبه بإضمار اذكر أو بالانتهاء المحذوف. إِلَّا بِإِذْنِهِ إلا بإذن الله كقوله: لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وهذا في موقف وقوله: هذا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ في موقف آخر أو المأذون فيه هي الجوابات الحقة والممنوع عنه هي الأعذار الباطلة. فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وجبت له النار بمقتضى الوعيد. وَسَعِيدٌ وجبت له الجنة بموجب الوعد والضمير لأهل الموقف وإن لم يذكر لأنه معلوم مدلول عليه بقوله: لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ أو للناس.
[سورة هود (11) : الآيات 106 الى 107]
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ الزفير إخراج النفس والشهيق رده، واستعمالهما في أول النهيق وآخره والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه، أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير وقرئ شَقُوا بالضم.
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ليس لارتباط دوامهم في النار بدوامهما فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم وانقطاع دوامهما. بل التعبير عن التأبيد والمبالغة بما كانت العرب يعبرون به عنه على سبيل التمثيل، ولو كان للارتباط لم يلزم أيضاً من زوال السموات والأرض زوال عذابهم ولا من دوامه دوامهما إلا من قبيل المفهوم، لأن دوامهما كالملزوم لدوامه، وقد عرفت أن المفهوم لا يقاوم المنطوق. وقيل المراد سموات الآخرة وأرضها ويدل عليه قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وإن أهل الآخرة لا بد لهم من مظل ومقل، وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه، ومن عرفه فإنما يعرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه. إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فساق الموحدين يخرجون منها، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض، وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم، فإن التأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ تقسيماً صحيحاً لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه، لأن ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع وها هنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين، وأن حالهم لا يخلو عن السعادة والشقاوة وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين، أو لأن أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحياناً، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله ولقائه، أو من أصل الحكم والمستثنى زمان توقفهم في الموقف للحساب لأن ظاهره يقتضي أن يكونوا في النار حين يأتي اليوم، أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ إن كان الحكم مطلقاً غير مقيد باليوم، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت. وقيل هو من قوله: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ وقيل إلا ها هنا بمعنى سوى كقولك على ألف إلا الألفان القديمان والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض. إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ من غير اعتراض.
[سورة هود (11) : آية 108]
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ(3/149)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
مَجْذُوذٍ
غير مقطوع، وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع وتنبيه على أن المراد من الاستثناء في الثواب ليس الانقطاع، ولأجله فرق بين الثواب والعقاب بالتأبيد. وقرأ حمزة والكسائي وحفص سُعِدُوا على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده، وعَطاءً نصب على المصدر المؤكد أي أعطوا عطاء أو الحال من الجنة.
[سورة هود (11) : آية 109]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ شك بعد ما أنزل عليك من مآل أمر الناس. مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم، أو من حال ما يعبدونه في أنه يضر ولا ينفع. مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ استئناف معناه تعليل النهي عن المرية أي هم وآباؤهم سواء في الشرك، أي ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم أو ما يعبدون شيئاً إلا مثل ما عبدوه من الأوثان، وقد بلغك ما لحق آباءهم من ذلك فسيلحقهم مثله، لأن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، ومعنى كَما يَعْبُدُ كما كان يعبد فحذف للدلالة من قبل عليه. وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ حظهم من العذاب كآبائهم، أو من الرزق فيكون عذراً لتأخير العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه.
غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال من النصيب لتقييد التوفية فإنك تقول: وفيته حقه وتريد به وفاء بعضه ولو مجازا.
[سورة هود (11) : الآيات 110 الى 111]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فآمن به قوم وكفر به قوم كما اختلف هؤلاء في القرآن. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني كلمة الإِنظار إلى يوم القيامة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به عن المحق. وَإِنَّهُمْ وإن كفار قومك. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من القرآن. مُرِيبٍ موقع في الريبة.
وَإِنَّ كُلًّا وإن كل المختلفين المؤمنين منهم والكافرين، والتنوين بدل من المضاف إليه. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف مع الإِعمال اعتباراً للأصل. لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ اللام الأولى موطئة لقسم والثانية للتأكيد أو بالعكس وما مزيدة بينهما للفصل. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة لَمَّا بالتشديد على أن أصله لمن ما فقلبت النون ميماً للادغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن، والمعنى لمن الذين يوفينهم ربك جزاء أعمالهم. وقرئ لما بالتنوين أي جميعاً كقوله: أَكْلًا لَمًّا وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا على إن إِنْ نافية ولَمَّا بمعنى إلا وقد قرئ به. إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا يفوته شيء منه وإن خفي.
[سورة هود (11) : آية 112]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة، وأطنب في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالاستقامة مثل ما أمر بها وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل بحيث يبقى العقل مصوناً من الطرفين، والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها وهي في غاية العسر ولذلك
قال عليه الصلاة والسلام «شيبتني هود» .
وَمَنْ تابَ مَعَكَ أي تاب من الشرك والكفر وآمن معك، وهو عطف على المستكن في استقم وإن لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه. وَلا تَطْغَوْا ولا تخرجوا عما حد لكم. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فهو(3/150)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
مجازيكم عليه، وهو في معنى التعليل للأمر والنهي. وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف وانحراف بنحو قياس واستحسان.
[سورة هود (11) : آية 113]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ولا تميلوا إليهم أدنى ميل فإن الركون هو الميل اليسير كالتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم واستدامته. فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بركونكم إليهم وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلماً كذلك فما ظنك بالركون إلى الظالمين أي الموسومين بالظلم، ثم بالميل إليهم كل الميل، ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه، ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه، وخطاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل، فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط فإنه ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم في نفسه. وقرئ «تِرْكَنُواْ» «فَتِمَسَّكُمُ» بكسر التاء على لغة تميم و «تَرْكَنُواْ» على البناء للمفعول من أركنه. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ من أنصار يمنعون العذاب عنكم والواو للحال. ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ أي ثم لا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم، وثم لاستبعاد نصره إياهم وقد أوعدهم بالعذاب عليه وأوجبه لهم، ويجوز أن يكون منزلاً منزلة الفاء لمعنى الاستبعاد، فإنه لما بين أن الله معذبهم وأن غيره لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا.
[سورة هود (11) : الآيات 114 الى 115]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ غدوة وعشية وانتصابه على الظرف لأنه مضاف إليه. وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وساعات منه قريبة من النهار، فإنه من أزلفه إذا قربه وهو جمع زلفة، وصلاة الغداة صلاة الصبح لأنها أقرب الصلاة من أول النهار، وصلاة العشية صلاة العصر، وقيل الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي وصلاة الزلف المغرب والعشاء. وقرئ «زُلُفا» بضمتين وضمة وسكون كبسر وبسر في بسرة و «زلفى» بمعنى زلفة كقربي وقربة. إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يكفرنها.
وفي الحديث «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر»
وفي سبب النزول
«أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال إني قد أصبت من امرأة غير أني لم آتها فنزلت» .
ذلِكَ إشارة إلى قوله فَاسْتَقِمْ وما بعده وقيل إلى القرآن. ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عظة للمتعظين.
وَاصْبِرْ على الطاعات وعن المعاصي. فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ عدول عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلاً على أن الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص.
[سورة هود (11) : الآيات 116 الى 117]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)
فَلَوْلا كانَ فهلا كان. مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ من الرأي والعقل، أو أولو فضل وإنما سمي بَقِيَّةٍ لأن الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه، ومنه يقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم، ويجوز أن يكون مصدراً كالتقية أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب، ويؤيده أنه قرئ «بقية» وهي المرة(3/151)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه. يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ لكن قليلاً منهم أنجيناهم لأنهم كانوا كذلك، ولا يصح اتصاله إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض. وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ ما أنعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك. وَكانُوا مُجْرِمِينَ كافرين كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة، وهو فشو الظلم فيهم واتباعهم للهوى وترك النهي عن المنكرات مع الكفر، وقوله واتبع على معطوف مضمر دل عليه الكلام إذا المعنى: فلم ينهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا وكانوا مجرمين عطف على اتَّبَعَ أو اعترض. وقرئ «واتبع» أي وأتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون الواو للحال، ويجوز أن تفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإِنجاء.
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ بشرك. وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فساداً وتباغياً، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد. وقيل الملك يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.
[سورة هود (11) : الآيات 118 الى 119]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً مسلمين كلهم، وهو دليل ظاهر على أن الأمر غير الإِرادة وأنه تعالى لم يرد الإِيمان من كل أحد وأن ما أراده يجب وقوعه. وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل لا تكاد تجد اثنين يتفقان مطلقاً.
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ إلا ناساً هداهم الله من فضله فاتفقوا على ما هو أصول دين الحق والعمدة فيه.
وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ إن كان الضمير ل النَّاسِ فالإِشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة أو إليه وإلى الرحمة، وإن كان لمن فإلى الرحمة. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وعيد أو قوله للملائكة. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أي من عصاتهما أَجْمَعِينَ أو منهما أجمعين لا من أحدهما.
[سورة هود (11) : آية 120]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
وَكُلًّا وكل نبأ. نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ نخبرك به. مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بيان لكلا أو بدل منه، وفائدته التنبيه على المقصود من الاقتصاص وهو زيادة يقينه وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار، أو مفعول وَكُلًّا منصوب على المصدر بمعنى كل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك ما نثبت به فؤادك من أنباء الرسل. وَجاءَكَ فِي هذِهِ السورة أو الأنباء المقتصة عليك. الْحَقُّ ما هو حق. وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى سائر فوائده العامة.
[سورة هود (11) : الآيات 121 الى 122]
وَقُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على حالكم. إِنَّا عامِلُونَ على حالنا.
وَانْتَظِرُوا بنا الدوائر. إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أن ينزل بكم نحو ما نزل على أمثالكم.
[سورة هود (11) : آية 123]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)(3/152)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خاصة لا يخفى عليه خافية مما فيهما. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه. وقرأ نافع وحفص يُرْجَعُ على البناء للمفعول. فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنه كافيك. وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع العابد. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت وهم فيجازي كلاً ما يستحقه. وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالياء هنا وفي آخر «النمل» .
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح ومن كذب به وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء إن شاء الله تعالى» .(3/153)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
(12) سورة يوسف
مكية وآيها مائة وإحدى عشرة آية
[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة وهي المراد ب الْكِتابِ، أي تلك الآيات آيات السورة الظاهر أمرها في الإِعجاز أو الواضحة معانيها، أو المبينة لمن تدبرها أنها من عند الله، أو لليهود ما سألوا إذ
روي أن علماءهم قالوا لكبراء المشركين سلوا محمداً لم أنتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف عليه السلام فنزلت
: إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي الكتاب. قُرْآناً عَرَبِيًّا سمى البعض قُرْآناً لأنه في الأصل اسم جنس يقع على الكل والبعض وصار علماً للكل بالغلبة، ونصبه على الحال وهو في نفسه إما توطئة للحال التي هي عَرَبِيًّا أو حال لأنه مصدر بمعنى مفعول، وعَرَبِيًّا صفة له أو حال من الضمير فيه أو حال بعد حال وفي كل ذلك خلاف. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ علة لإنزاله بهذه الصفة أي أنزلناه مجموعاً أو مقروءاً بلغتكم كي تفهموه وتحيطوا بمعانيه، أو تستعملوا فيه عقولكم فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ممن لم يتعلم القصص معجز لا يتصور إلا بالإِيحاء.
[سورة يوسف (12) : آية 3]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ أحسن الاقتصاص لأن اقتص على أبدع الأساليب، أو أحسن ما يقص لاشتماله على العجائب والحكم والآيات والعبر فعل بمعنى مفعول كالنقض والسلب، واشتقاقه من قص أثره إذا تبعه بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي بإيحائنا. هذَا الْقُرْآنَ يعني السورة، ويجوز أن يجعل هذا مفعول نقص على أن أحسن نصب على المصدر. وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط، وهو تعليل لكونه موحى وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة.
[سورة يوسف (12) : آية 4]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)
إِذْ قالَ يُوسُفُ بدل من أَحْسَنَ الْقَصَصِ إن جعل مفعولاً بدل الاشتمال، أو منصوب باضمار اذكر ويُوسُفُ عبري ولو كان عربياً لصرف. وقرئ بفتح السين وكسرها على التلعب به لا على أنه مضارع بني للمفعول أو الفاعل من آسف لأن المشهورة شهدت بعجمته. لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام
وعنه عليه الصلاة السلام «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» .
يَا أَبَتِ أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة ولذلك قلبها هاء في الوقف ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وكسرها لأنها عوض حرف يناسبها، وفتحها ابن عامر في كل القرآن(3/154)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
لأنها حركة أصلها أو لأنه كان يا أبتا فحذف الألف وبقي الفتحة، وإنما جاز يا أبتا ولم يجز يا أبتي لأنه جمع بين العوض والمعوض. وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض، وإنما لم تسكن كأصلها لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب. إِنِّي رَأَيْتُ من الرؤيا لا من الرؤية لقوله: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ ولقوله: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.
روي عن جابر رضي الله تعالى عنه (أن يهودياً جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف، فسكت فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال إذا أخبرتك هل تسلم قال نعم، قال جريان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له فقال اليهودي إي والله إنها لأسماؤها)
رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها فلا تكرير وإنما أجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم.
[سورة يوسف (12) : آية 5]
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
قالَ يَا بُنَيَّ تصغير ابن، صغرهَ للشفقة أو لصغر السن، لأنه كان ابن اثنتي عشرة سنة. وقرأ حفص هنا وفي «الصافات» بفتح الياء. لاَ تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً فيحتالوا لإِهلاكك حيلة، فهم يعقوب عليه السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته ويفوقه على إخوته، فخاف عليه حسدهم وبغيهم والرؤيا كالرؤية غير أنها مختصة بما يكون في النوم، فرق بينهما بحرفي التأنيث كالقربة والقربى وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه، وإنما عدى كاد باللام وهو متعد بنفسه لتضمنه معنى فعل يعدى به تأكيداً ولذلك أكد بالمصدر وعلله بقوله: إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة لما فعل بآدم عليه السلام وحواء فلا يألوا جهداً في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على الكيد.
[سورة يوسف (12) : آية 6]
وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
وَكَذلِكَ أي وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالة على شرف وعز وكمال نفس. يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ للنبوة والملك أو لأمور عظام، والاجتباء من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك. وَيُعَلِّمُكَ كلام مبتدأ خارج عن التشبيه كأنه قيل وهو يعلمك. مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ من تعبير الرؤيا لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقة، وأحاديث النفس أو الشيطان إن كانت كاذبة. أو من تأويل غوامض كتب الله تعالى وسنن الأنبياء وكلمات الحكماء، وهو اسم جمع للحديث كأباطيل اسم جمع للباطل. وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوة أو بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة. وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ يريد به سائر بنيه، ولعله استدل على نبوتهم بضوء الكواكب أو نسله. كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ بالرسالة وقيل على إبراهيم بالخلة والإِنجاء من النار وعلى إسحاق بانقاذه من الذبح وفدائه بذبح عظيم. مِنْ قَبْلُ أي من قبلك أو من قبل هذا الوقت. إِبْراهِيمَ(3/155)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
وَإِسْحاقَ
عطف بيان لأبويك. إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يستحق الاجتباء. حَكِيمٌ يفعل الأشياء على ما ينبغي.
[سورة يوسف (12) : آية 7]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي في قصتهم. آياتٌ دلائل قدرة الله تعالى وحكمته، أو علامات نبوتك وقرأ ابن كثير «آية» . لِلسَّائِلِينَ لمن سأل عن قصتهم، والمراد بإخوته بنو علاته العشرة وهم: يهوذا وروبيل وشمعون ولاوى وزبالون ويشخر ودينة من بنت خالته ليا تزوجها يعقوب أولاً فلما توفيت تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف. وقيل جمع بينهما ولم يكن الجمع محرماً حينئذ وأربعة آخرون: دان ونفتالي وجاد وأشر من سريتين زلفة وبلهة.
[سورة يوسف (12) : آية 8]
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين وتخصيصه بالإِضافة لاختصاصه بالاخوة من الطرفين. أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وحده لأن أفعل من لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه، والمذكر وما يقابله بخلاف أخويه فإن الفرق واجب في المحلي جائز في المضاف. وَنَحْنُ عُصْبَةٌ والحال أنا جماعة أقوياء أحق بالمحبة من صغيرين لا كفاية فيهما، والعصبة والعصابة العشرة فصاعداً سمواً بذلك لأن الأمور تعصب بهم. إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ لتفضيله المفضول أو لترك التعديل في المحبة.
روي أنه كان أحب إليه لما يرى فيه من المخايل وكان إخوته يحسدونه، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة بحيث لم يصبر عنه، فتبالغ حسدهم حتى حملهم على التعرض له.
[سورة يوسف (12) : الآيات 9 الى 10]
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)
اقْتُلُوا يُوسُفَ من جملة المحكي بعد قوله إذ قالوا كأنهم اتفقوا على ذلك الأمر إِلاَّ مِن قال (لا تقتلوا يوسف) . وقيل إنما قاله شمعون أو دان ورضي به الآخرون.
أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً منكورة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإبهامها ولذلك نصبت كالظروف المبهمة. يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ جواب الأمر. والمعنى يصف لكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا ينازعكم في محبته أحد. وَتَكُونُوا جزم بالعطف على يَخْلُ أو نصب بإضمار أن. مِنْ بَعْدِهِ من بعد يوسف أو الفراغ من أمره أو قتله أو طرحه. قَوْماً صالِحِينَ تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم أو صالحين مع أبيكم بصلح ما بينكم وبينه بعذر تمهدونه، أو صالحين في أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده بخلو وجه أبيكم.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ يعني يهوذا وكان أحسنهم فيه رأياً. وقيل روبيل. لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإن القتل عظيم. وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ في قعره، سمي بها لغيبوبته عن أعين الناظرين. وقرأ نافع في «غيابات» في الموضعين على الجمع كأنه لتلك الجب غيابات. وقرئ «غيبة» و «غيابات» بالتشديد. يَلْتَقِطْهُ يأخذه.
بَعْضُ السَّيَّارَةِ بعض الذين يسيرون في الأَرض. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ بمشورتي أو إن كنتم على أن تفعلوا ما يفرق بينه وبين أبيه.(3/156)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
[سورة يوسف (12) : الآيات 11 الى 12]
قالُوا يا أَبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12)
قالُوا يا أَبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ لم تخافنا عليه. وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ونحن نشفق عليه ونريد له الخير، أرادوا به استنزاله عن رأيه في حفظه منهم لما تنسم من حسدهم، والمشهور تَأْمَنَّا بالإدغام بإشمام. وعن نافع بترك الإِشمام ومن الشواذ ترك الإِدغام لأنهما من كلمتين و «تيمنا» بكسر التاء.
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى الصحراء. نرتع نتسع في أكل الفواكه ونحوها من الرتعة وهي الخصب.
ونلعب بالاستباق والانتضال. وقرأ ابن كثير نرتع بكسر العين على أنه من ارتعى يرتعي ونافع بالكسر والياء فيه وفي يَلْعَبْ. وقرأ الكوفيون ويعقوب بالياء والسكون على إسناد الفعل إلى يوسف. وقرئ «يَرْتَعْ» من أرتع ماشيته و «يَرْتَعِ» بكسر العين ويَلْعَبْ بالرفع على الابتداء. وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يناله مكروه.
[سورة يوسف (12) : الآيات 13 الى 14]
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ لشدة مفارقته علي وقلة صبري عنه. وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لأن الأرض كانت مذأبة. وقيل رأى في المنام أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره عليه، وقد همزها على الأصل ابن كثير ونافع في رواية قالون، وفي رواية اليزيدي وأبو عمرو وقفاً وعاصم وابن عامر وحمزة درجاً واشتقاقه من تذاءبت الريح إذا هبت من كل جهة. وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه.
قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ اللام موطئة للقسم وجوابه: إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ضعفاء مغبونون، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسار والواو في وَنَحْنُ عُصْبَةٌ للحال.
[سورة يوسف (12) : آية 15]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وعزموا على إلقائه فيها، والبئر بئر بيت المقدس أو بئر بأرض الأردن أو بين مصر ومدين، أو على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب وجواب لما محذوف مثل فعلوا به ما فعلوا من الأذى.
فقد روي (أنهم لما برزوا به إلى الصحراء أخذوا يؤذونه ويضربونه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح ويستغيث فقال يهوذا: أما عاهدتموني أن لا تقتلوه فأتوا به إلى البئر، فدلوه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم، فقال: يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به فقالوا: ادع الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر يلبسوك ويؤنسوك، فلما بلغ نصفها ألقوه وكان فيها ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة كانت فيها فقام عليها يبكي فجاءه جبريل بالوحي)
كما قال: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ وكان ابن سبع عشرة سنة. وقيل كان مراهقاً أوحي إليه في صغره كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام.
وفي القصص: أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله في تميمة علقها بيوسف فأخرجه جبريل عليه السلام وألبسه إياه
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا لتحدثنهم بما فعلوا بك وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ أنك يوسف لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير للحلى والهيئات، وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر حين دخلوا عليه ممتارين فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. بشره بما يؤول إليه أمره إيناساً له(3/157)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
وتطييباً لقلبه. وقيل وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ متصل ب أَوْحَيْنا أي آنسناه بالوحي وهم لا يشعرون ذلك.
[سورة يوسف (12) : الآيات 16 الى 17]
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17)
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً أي آخر النهار. وقرئ «عشياً» وهو تصغير عشي و «عشى» بالضم والقصر جمع أعشى أي عشوا من البكاء. يَبْكُونَ متباكين.
روي أنه لما سمع بكاءهم فزع وقال ما لكم يا بني وأين يوسف.
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ نتسابق في العدو أو في الرمي، وقد يشترك الافتعال والتفاعل كالانتضال والتناضل. وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا بمصدق لنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ لسوء ظنك بنا وفرط محبتك ليوسف.
[سورة يوسف (12) : آية 18]
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (18)
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ أي ذي كذب بمعنى مكذوب فيه، ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة وقرئ بالنصب على الحال من الواو أي جاءوا كاذبين و «كدب» بالدال غير المعجمة أي كدر أو طري. وقيل: أصله البياض الخارج على أظفار الأحداث فشبه به الدم اللاصق على القميص، وعلى قميصه في موضع النصب على الظرف أي فوق قميصه أو على الحال من الدم إن جوز تقديمها على المجرور.
روي: أنه لما سمع بخبر يوسف صاح وسأل عن قميصه فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه.
ولذلك قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي سهلت لكم أنفسكم وهونت في أعينكم أمراً عظيماً من السول وهو الاسترخاء.
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل،
وفي الحديث «الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» .
وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ على احتمال ما تصفونه من إهلاك يوسف وهذه الجريمة كانت قبل استنبائهم إن صح.
[سورة يوسف (12) : آية 19]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يَا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19)
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريباً من الجب وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه. فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي. فَأَدْلى دَلْوَهُ فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه. قالَ يَا بُشْرى هذا غُلامٌ نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعالى فهذا أوانك. وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه. وقرأ غير الكوفيين «يا بشراي» بالإِضافة، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي. وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ «يَا بُشْرى» بالإِدغام وهو لغة و «بشراي» بالسكون على قصد الوقف. وَأَسَرُّوهُ أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة. وقيل أخفوا أمره وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبره إخوته فأتوا الرفقة وقالوا: هذا غلامنا أبق منا فاشتروه، فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. بِضاعَةً نصب على الحال أي أخفوه متاعاً للتجارة، واشتقاقه من البضع فإنه ما(3/158)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
بضع من المال للتجارة. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم.
[سورة يوسف (12) : آية 20]
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
وَشَرَوْهُ وباعوه، وفي مرجع الضمير الوجهان أو اشتروه من اخوته. بِثَمَنٍ بَخْسٍ مبخوس لزيفه أو نقصانه. دَراهِمَ بدل من الثمن. مَعْدُودَةٍ قليلة فإنهم يزنون ما بلغ الأوقية ويعدون ما دونها. قيل كان عشرين درهماً وقيل كان اثنين وعشرين درهماً. وَكانُوا فِيهِ في يوسف. مِنَ الزَّاهِدِينَ الراغبين عنه والضمير في وَكانُوا إن كان للإِخوة فظاهر وإن كان للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم فيه، لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه مستعجل في بيعه، وإن كانوا مبتاعين فلأنهم اعتقدوا أنه آبق وفيه متعلق بالزاهدين إن جعل اللام للتعريف، وإن جعل بمعنى الذي فهو متعلق بمحذوف يبينه الزَّاهِدِينَ لأن متعلق الصلة لا يتقدم على الموصول.
[سورة يوسف (12) : آية 21]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر واسمه قطفير أو إطفير، وكان الملك يومئذ ريان بن الوليد العمليقي وقد آمن بيوسف عليه السلام ومات في حياته. وقيل كان فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ. والمشهور أنه من أولاد فرعون يوسف. والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء.
روي: أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره الريان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة.
واختلف فيما اشتراه به من جعل شراءه به غير الأول: عشرون ديناراً وزوجا نعل وثوبان أبيضان. وقيل ملؤه فضة وقيل ذهباً. لِامْرَأَتِهِ راعيل أو زليخا. أَكْرِمِي مَثْواهُ اجعلي مقامه عندنا كريماً أي حسناً والمعنى أحسني تعهده. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا في ضياعنا وأموالنا ونستظهر به في مصالحنا. أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً نتبناه وكان عقيماً لما تفرس فيه من الرشد، ولذلك قيل: أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر، وابنة شعيب التي قالت يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وكما مكنا محبته في قلب العزيز أو كما مكناه في منزله أو كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز مكنا له فيها. وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ عطف على مضمر تقديره ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه أي كان القصد في إنجائه وتمكينه إلى أن يقيم العدل ويدبر أمور الناس، ويعلم معاني كتب الله تعالى وأحكامه فينفذها، أو تعبير المنامات المنبهة على الحوادث الكائنة ليستعد لها ويشتغل بتدبيرها قبل أن تحل كما فعل لسنيه. وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ لا يرده شيء ولا ينازعه فيما يشاء أو على أمر يوسف أراد به إخوته شيئاً وأراد الله غيره فلم يكن إلا ما أراده. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أن الأمر كله بيده، أو لطائف صنعه وخفايا لطفه.
[سورة يوسف (12) : آية 22]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ منتهى اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف ما بين الثلاثين والأربعين، وقيل سن الشباب ومبدؤه بلوغ الحلم. آتَيْناهُ حُكْماً حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل، أو حكماً بين الناس.
وَعِلْماً يعني علم تأويل الأحاديث. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء(3/159)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
على إحسانه في عمله وإتقانه في عنفوان أمره.
[سورة يوسف (12) : آية 23]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ طلبت منه وتمحلت أن يواقعها، من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء ومنه الرائد. وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ قيل كانت سبعة والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الإِيثاق.
وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ أي أقبل وبادر، أو تهيأت والكلمة على الوجهين اسم فعل بني على الفتح كأين واللام للتبيين كالتي في سقيا لك. وقرأ ابن كثير بالضم وفتح الهاء تشبيهاً له بحيث، ونافع وابن عامر بالفتح وكسر الهاء كعيط. وقرأ هشام كذلك إلا أنه يهمز. وقد روي عنه ضم التاء وهو لغة فيه. وقرئ «هَيْتَ» كجير و «هئت» كجئت من هاء يهئ إذا تهيأ وقرئ «هيئت» وعلى هذا فاللام من صلته. قالَ مَعاذَ اللَّهِ أعوذ بالله معاذاً. إِنَّهُ إن الشأن. رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ سيدي قطفير أحسن تعهدي إذ قال لك في أَكْرِمِي مَثْواهُ فما جزاؤه أن أخونه في أهله. وقيل الضمير لله تعالى أي إنه خالقي أحسن منزلتي بأن عطف على قلبه فلا أعصيه. إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ المجازون الحسن بالسيئ. وقيل الزناة فإن الزنا ظلم على الزاني والمزني بأهله.
[سورة يوسف (12) : آية 24]
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها وقصدت مخالطته وقصد مخالطتها، والهم بالشيء قصده والعزم عليه ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه، والمراد بهمه عليه السلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم، أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم أخف الله. لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ في قبح الزنا وسوء مغبته لخالطها لشبق الغلمة وكثرة المبالغة، ولا يجوز أن يجعل وَهَمَّ بِها جواب لَوْلا فإنها في حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها، بل الجواب محذوف يدل عليه. وقيل رأى جبريل عليه الصلاة والسلام. وقيل تمثل له يعقوب عاضاً على أنامله. وقيل قطفير. وقيل نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء.
كَذلِكَ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه، أو الأمر مثل ذلك. لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ خيانة السيد. وَالْفَحْشاءَ الزنا. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم الله لطاعته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالكسر في كل القرآن إذا كان في أوله الألف واللام أي الذين أخلصوا دينهم لله.
[سورة يوسف (12) : آية 25]
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25)
وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي تسابقا إلى الباب، فحذف الجار أو ضمن الفعل معنى الابتدار. وذلك أن يوسف فرَّ منها ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج. وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ اجتذبته من ورائه فانقد قميصه والقد الشق طولاً والقط الشق عرضاً. وَأَلْفَيا سَيِّدَها وصادفا زوجها. لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ إيهاماً بأنها فرت منه تبرئة لساحتها عند زوجها وتغييره على يوسف وإغراءه به انتقاماً منه، وَمَا نافية أو استفهامية بمعنى أي شيء جزاءه إلا السجن.(3/160)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
[سورة يوسف (12) : الآيات 26 الى 27]
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي طالبتني بالمؤاتاة، وإنما قال ذلك دفعاً لما عرضته له من السجن أو العذاب الأليم، ولو لم تكذب عليه لما قاله. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل ابن عم لها. وقيل ابن خال لها صبياً في المهد.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «تكلم أربعة صغاراً ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم عليه السلام»
وإنما ألقى الله الشهادة على لسان أهلها لتكون ألزم عليها. إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قدامه بالدفع عن نفسها، أو أنه أسرع خلفها فتعثر بذيله فانقد جيبه.
وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ لأنه يدل على أنها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدته.
والشرطية محكية على إرادة القول أو على أن فعل الشهادة من القول، وتسميتها شهادة لأنها أدت مؤداها والجمع بين إن وكان على تأويل أن يعلم أنه كان ونحوه ونظيره قولك: إن أحسنت إلى اليوم فقد أحسنت إليك من قبل، فإن معناه أن تمنن علي بإحسانك أمنن عليك بإحساني لك السابق. وقرئ «مِن قَبْلُ» «وَمِنْ دُبُرٍ» بالضم لأنهما قطعا عن الإِضافة كقبل وبعد، وبالفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرف وبسكون العين.
[سورة يوسف (12) : الآيات 28 الى 29]
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ إن قولك مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً أو إن السوء أو إن هذا الأمر. مِنْ كَيْدِكُنَّ من حيلتكن والخطاب لها ولأمثالها أو لسائر النساء. إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ فإن كيد النساء ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيراً في النفس ولأنهن يواجهن به الرجال والشيطان يوسوس به مسارقة.
يُوسُفُ حذف منه حرف النداء لقربه وتفطنه للحديث. أَعْرِضْ عَنْ هذا اكتمه ولا تذكره.
وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ يا راعيل. إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ من القوم المذنبين من خطئ إذا أذنب متعمداً والتذكير للتغليب.
[سورة يوسف (12) : آية 30]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)
وَقالَ نِسْوَةٌ هي اسم لجمع امرأة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي ولذلك جرد فعله وضم النون لغة فيها. فِي الْمَدِينَةِ ظرف لقال أي أشعن الحكاية في مصر، أو صفة نسوة وكن خمساً زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب. امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ تطلب مواقعة غلامها إياها.
والْعَزِيزِ بلسان العرب الملك وأصل فتى فتي لقولهم فتيان والفتوة شاذة. قَدْ شَغَفَها حُبًّا شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها حباً، ونصبه على التمييز لصرف الفعل عنه. وقرئ «شعفها» من شعف البعير إذا هنأه بالقطران فأحرقه. إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في ضلال عن الرشد وبعد عن الصواب.
[سورة يوسف (12) : آية 31]
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)(3/161)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ باغتيابهن، وإنما سماه مكراً لأنهن أخفينه كما يخفي الماكر مكره، أو قلن ذلك لتريهن يوسف أو لأنها استكتمتهن سرها فأفشينه عليها. أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ تدعوهن قيل دعت أربعين امرأة فيهن الخمس المذكورات. وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ما يتكئن عليه من الوسائد. وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً حتى يتكئن والسكاكين بأيديهن فإذا خرج عليهن يبهتن ويشغلن عن نفوسهن فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فيبكتن بالحجة، أو يهاب يوسف مكرها إذا خرج وحده على أربعين امرأة في أيديهن الخناجر. وقيل متكأ طعاماً أو مجلس طعام فإنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب ترفاً ولذلك نهى عنه. قال جميل:
فَظَللنا بِنِعْمَةٍ وَاتَكَأْنَا ... وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُللِهْ
وقيل المتكأ طعام يحز حزاً كأن القاطع يتكئ عليه بالسكين. وقرئ «متكأ» بحذف الهمزة و «متكاء» بإشباع الفتحة كمنتزاح و «متكا» وهو الأترج أو ما يقطع من متك الشيء إذا بتكه و «متكأ» من تكئ يتكأ إذا اتكأ. وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ عظمنه وهبن حسنه الفائق.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر»
وقيل كان يرى تلألؤ وجهه على الجدران. وقيل أكبرن بمعنى حضن من أكبرت المرأة إذا حاضت لأنها تدخل الكبر بالحيض، والهاء ضمير للمصدر أو ليوسف عليه الصلاة والسلام على حذف اللام أي حضن له من شدة الشبق كما قال المتنبي:
خَفِ اللهَ وَاسْتُرْ ذَا الجَمَالَ بِبرقع ... فَإِنَ لحتَ حَاضَتْ فِي الخُدُورِ العَواتِقُ
وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ جرحنها بالسكاكين من فرط الدهشة. وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيهاً له من صفات العجز وتعجباً من قدرته على خلق مثله، وأصله «حاشا» كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفاً وهو حرف يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء، فوضع موضع التنزيه واللام للبيان كما في قولك سقيا لك.
وقرئ «حاش الله» بغير لام بمعنى براءة الله، و «حاشا لله» بالتنوين على تنزيله منزلة المصدر. وقيل «حاشا» فاعل من الحشا الذي هو الناحية وفاعله ضمير يوسف أي صار في ناحية الله مما يتوهم فيه. مَا هذا بَشَراً لأن هذا الجمال غير معهود للبشر، وهو على لغة الحجاز في إعمال ما عمل ليس لمشاركتها في نفي الحال.
وقرئ «بَشَرٌ» بالرفع على لغة تميم و «بشرى» أي بعبد مشترى لئيم. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فإن الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة، أو لأن جماله فوق جمال البشر ولا يفوقه فيه إلا الملك.
[سورة يوسف (12) : آية 32]
قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في الافتنان به قبل أن تتصورنه حق تصوره، ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني أو فهذا هو الذي لمتنني فيه فوضع ذلك موضع هذا رفعاً لمنزلة المشار إليه. وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ فامتنع طلباً للعصمة، أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها كي يعاونها على إلانة عريكته. وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ أي ما آمر به، فحذف الجار أو أمري إياه بمعنى موجب أمري فيكون الضمير ليوسف. لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ من الإذلاء وهو من صغر بالكسر يصغر صغراً وصغاراً والصغير من صغر بالضم صغرا. وقرئ «لَّيَكُونُنَّ» وهو يخالف خط المصحف لأن النون كتبت فيه بالألف «كنسفعا» على حكم الوقف وذلك في الخفيفة لشبهها بالتنوين.
[سورة يوسف (12) : الآيات 33 الى 34]
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)(3/162)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
قالَ رَبِّ السِّجْنُ وقرأ يعقوب بالفتح على المصدر. أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ أي آثر عندي من مؤاتاتها زناً نظراً إلى العاقبة وإن كان هذا مما تشتهيه النفس وذلك مما تكرهه، وإسناد الدعوة إليهن جميعاً لأنهن خوفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها. أو دعونه إلى أنفسهن، وقيل إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا وإنما كان الأولى به أن يسأل الله العافية ولذلك رد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على من كان يسأل الصبر. وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي وإن لم تصرف عني. كَيْدَهُنَّ في تحبيب ذلك إلي وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة. أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أمل إلى جانبهن أو إلى أنفسهن بطبعي ومقتضى شهوتي، والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تستطيبها وتميل إليها. وقرئ أَصْبُ من الصبابة وهي الشوق. وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه فإن الحكيم لا يفعل القبيح، أو من الذين لا يعملون بما يعلمون فإنهم والجهال سواء.
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فأجاب الله دعاءه الذي تضمنه قوله: وَإِلَّا تَصْرِفْ. فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء الملتجئين إليه. الْعَلِيمُ بأحوالهم وما يصلحهم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 35 الى 36]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ ثم ظهر للعزيز وأهله من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على براءة يوسف كشهادة الصبي وقد القميص وقطع النساء أيديهن واستعصامه عنهن وفاعل بَدا مضمر يفسره.
لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ وذلك لأنها خدعت زوجها وحملته على سجنه زماناً حتى تبصر ما يكون منه، أو يحسب الناس أنه المجرم فلبث في السجن سبع سنين. وقرئ بالتاء على أن بعضهم خاطب به العزيز على التعظيم أو العزيز ومن يليه، و «عتى» بلغة هذيل.
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ أي أدخل يوسف السجن واتفق أنه أدخل حينئذ آخران من عبيد الملك شرابيه وخبازه للاتهام بأنهما يريدان أن يسماه. قالَ أَحَدُهُما يعني الشرابي. إِنِّي أَرانِي أي في المنام وهي حكاية حال ماضية. أَعْصِرُ خَمْراً أي عنباً وسماه خمراً باعتبارِ ما يؤول إليه. وَقالَ الْآخَرُ أي الخباز. إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ تنهش منه. نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، أو من العالمين وإنما قالا ذلك لأنهما رأياه في السجن يذكر الناس ويعبر رؤياهم، أو من المحسنين إلى أهل السجن فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.
[سورة يوسف (12) : الآيات 37 الى 38]
قالَ لاَ يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)
قالَ لاَ يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ أي بتأويل ما قصصتما علي، أو بتأويل الطعام يعني بيان ماهيته وكيفيته فإنه يشبه تفسير المشكل، كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الطريق القويم قبل أن يسعف إلى ما سألاه منه كما هو طريقة الأنبياء والنازلين منازلهم من العلماء في الهداية والإرشاد، فقدم ما يكون معجزة له من الإِخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير. قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما أي(3/163)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
ذلك التأويل. مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالإلهام والوحي وليس من قبيل التكهن أو التنجيم. إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ تعليل لما قبله أي علمني ذلك لأني تركت ملة أولئك.
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة وإظهار أنه من بيت النبوة لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق عليه، ولذلك جوز للحامل أن يصف نفسه حتى يعرف فيقتبس منه، وتكرير الضمير للدلالة على اختصاصهم وتأكيد كفرهم بالآخرة. مَا كانَ لَنا ما صح لنا معشر الأنبياء. أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي شيء كان. ذلِكَ أي التوحيد. مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا بالوحي. وَعَلَى النَّاسِ وعلى سائر الناس يبعثنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المبعوث إليهم. لاَ يَشْكُرُونَ هذا الفضل فيعرضون عنه ولا يتنبهون، أو من فضل الله علينا وعليهم بنصب الدلائل وإنزال الآيات ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ولا يستدلون بها فيلغونها كمن يكفر النعمة ولا يشكرها.
[سورة يوسف (12) : الآيات 39 الى 40]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَّآ أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي يا ساكنيه، أو يا صاحبي فيه فأضافهما إليه على الاتساع كقوله:
يَا سَارِقَ اللَّيْلَةَ أَهْلَ الدَّارِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ شتى متعددة متساوية الأقدام. خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ المتوحد بالألوهية. الْقَهَّارُ الغالب الذي لا يعادله ولا يقاومه غيره.
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر. إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَّآ أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي إلا أشياء باعتبار أسام أطلقتم عليها من غير حجة تدل على تحقق مسمياتها فيها فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة. والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة، ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها. إِنِ الْحُكْمُ ما الحكم في أمر العبادة. إِلَّا لِلَّهِ لأنه المستحق لها بالذات من حيث إنه الواجب لذاته الموجد للكل والمالك لأمره. أَمَرَ على لسان أنبيائه.
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ الذي دلت عليه الحجج. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الحق وأنتم لا تميزون المعوج عن القويم، وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة، بين لهم أولاً رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الالهية فإن استحقاق العبادة إما بالذات وإما بالغير وكلا القسمين منتف عنها، ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دونه. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ فيخبطون في جهالاتهم.
[سورة يوسف (12) : آية 41]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما يعني الشرابي. فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً كما كان يسقيه قبل ويعود إلى ما كان عليه. وَأَمَّا الْآخَرُ يريد به الخباز. فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ فقالا كذبنا فقال قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي قطع الأمر الذي تستفتيان فيه، وهو ما يؤول إليه أمركما ولذلك وحده، فإنهما وإن استفتيا في أمرين لكنهما أرادا استبانة عاقبة ما نزل بهما.(3/164)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
[سورة يوسف (12) : آية 42]
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا الظان يوسف إن ذكر ذلك عن اجتهاد وإن ذكره عن وحي فهو الناجي إلا أن يؤول الظن باليقين. اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ اذكر حالي عند الملك كي يخلصني. فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فأنسى الشرابي أن يذكره لربه، فأضاف إليه المصدر لملابسته له أو على تقدير ذكر أخبار ربه، أو أنسي يوسف ذكر الله حتى استعان بغيره، ويؤيده
قوله عليه الصلاة والسلام «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لما لبث في السجن سبعاً بعد الخمس» .
والاستعانة بالعباد في كشف الشدائد وإن كانت محمودة في الجملة لكنها لا تليق بمنصب الأنبياء. فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث إلى التسع من البضع وهو القطع.
[سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 44]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ لما دنا فَرَجه رأى الملك سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات مهازيل فابتلعت المهازيل السمان. وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ قد انعقد حبها. وَأُخَرَ يابِساتٍ وسبعاً أخر يابسات قد أدركت فالْتَوَتِ اليابسات على الخضر حتى غلبت عليها، وإنما استغنى عن بيان حالها بما قص من حال البقرات، وأجرى السمان على المميز دون المميز لأن التمييز بها ووصف السبع الثاني بالعجاف لتعذر التمييز بها مجرداً عن الموصوف فإنه لبيان الجنس، وقياسه عجف لأنه جمع عجفاء لكنه حمل على سِمانٍ لأنه نقيضه. يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ عبروها. إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا وهي الانتقال من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها من العبور وهي المجاوزة، وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها تعبيراً واللام للبيان أو لتقوية العامل فإن الفعل لما أخر عن مفعوله ضعف فقوي باللام كاسم الفاعل، أو لتضمن تَعْبُرُونَ معنى فعل يعدى باللام كأنه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا.
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي هذه أضغاث أحلام وهي تخاليطها جمع ضغث وأصله ما جمع من أخلاط النبات وحزم فاستعير للرؤيا الكاذبة، وإنما جمعوا للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان كقولهم: فلان يركب الخيل، أو لتضمنه أشياء مختلفة. وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة أي ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للمنامات الصادقة فهو كأنه مقدمة ثانية للعذر في جهلهم بتأويله.
[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 46]
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما من صاحبي السجن وهو الشرابي. وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة أي مدة طويلة. وقرئ «إمة» بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة، و «أمه» أي نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي، والجملة اعتراض ومقول القول. أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ أي إلى من عنده علمه أو إلى السجن.(3/165)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أي فأرسل إلى يوسف فجاءه فقال يا يوسف، وإنما وصفه بالصديق وهو المبالغ في الصدق لأنه جرب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه. أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ أي في رؤيا ذلك. لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أعود إلى الملك ومن عنده، أو إلى أهل البلد إذ قيل إن السجن لم يكن فيه. لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تأويلها أو فضلك ومكانك، وإنما لم يبت الكلام فيهما لأنه لم يكن جازماً بالرجوع فربما اخترم دونه ولا يعلمهم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 47 الى 49]
قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي على عادتكم المستمرة وانتصابه على الحال بمعنى دائبين، أو المصدر بإضمار فعله أي تدأبون دأباً وتكون الجملة حالاً. وقرأ حفص دَأَباً بفتح الهمزة وكلاهما مصدر دأب في العمل. وقيل تَزْرَعُونَ أمر أخرجه في صورة الخبر مبالغة لقوله: فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ لئلا يأكله السوس، وهو على الأول نصيحة خارجة عن العبارة. إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ في تلك السنين.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن فأسند إليهن على المجاز تطبيقاً بين المعبر والمعبر به. إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ تحرزون لبذور الزراعة.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ يمطرون من الغيث أو يغاثون من القحط من الغوث.
وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ما يعصر كالعنب والزيتون لكثرة الثمار. وقيل يحلبون الضروع. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على تغليب المستفتي، وقرئ على بناء المفعول من عصره إذا أنجاه ويحتمل أن يكون المبني للفاعل منه أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضاً، أو من أعصرت السحابة عليهم فعدي بنزع الخافض أو بتضمينه معنى المطر.
وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب، أو بأن السنة الإِلهية على أن يوسع على عباده بعد ما ضيق عليهم.
[سورة يوسف (12) : آية 50]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ بعد ما جاءه الرسول بالتعبير فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ليخرجه. قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنما تأنى في الخروج وقدم سؤال النسوة وفحص حالهن لتظهر براءة ساحته ويعلم أنه سجن ظلماً فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره. وفيه دليل على أنه ينبغي أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «لو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإِجابة»
وإنما قال فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ ولم يقل فاسأله أن يفتش عن حالهن تهييجاً له على البحث وتحقيق الحال، وإنما لم يتعرض لسيدته مع ما صنعت به كرما ومراعاة للأدب وقرئ «النسوة» بضم النون. إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ حين قلن لي أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهن والاستشهاد بعلم الله عليه وعلى أنه بريء مما قذف به والوعيد لهن على كيدهن.
[سورة يوسف (12) : الآيات 51 الى 52]
قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)(3/166)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
قالَ مَا خَطْبُكُنَّ قال الملك لهن ما شأنكن والخطب أمر يحق أن يخاطب فيه صاحبه. إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيه له وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله. مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ من ذنب. قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ثبت واستقر من حصحص البعير إذا ألقى مباركهُ ليناخ قال:
فَحَصْحَصَ فِي صُمَ الصفَا ثَفَنَاتِه ... وَنَاءَ بِسَلْمَى نَوأَة ثُمَّ صَمَّمَا
أو ظهر من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه. وقرئ على البناء للمفعول. أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قولهِ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ذلِكَ لِيَعْلَمَ قاله يوسف لما عاد إليه الرسول وأخبره بكلامهن أي ذلك التثبت ليعلم العزيز. أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بظهر الغيب وهو حال من الفاعل أو المفعول أي لم أخنه وأنا غائب عنه، أو وهو غائب عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة. وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ لا ينفذه ولا يسدده، أو لا يهدي الخائنين بكيدهم فأوقع الفعل على الكيد مبالغة. وفيه تعريض براعيل في خيانتها زوجها وتوكيد لأمانته ولذلك عقبه بقوله:
[سورة يوسف (12) : آية 53]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي أي لا أنزهها تنبيهاً على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه والعجب بحاله، بل إظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتوفيق. وعن ابن عباس أنه لما قال: لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبريل ولا حين هممت فقال ذلك. إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ من حيث إنها بالطبع مائلة إلى الشهوات فتهم بها، وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات. إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إلا وقت رحمة ربي، أو إلا ما رحمه الله من النفوس فعصمه من ذلك. وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإِساءة. وقيل الآية حكاية قول راعيل والمستثنى نفس يوسف وأضرابه. وعن ابن كثير ونافع بِالسُّوءِ على قلب الهمزة واواً ثم الادغام. إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر هَمَّ النفس ويرحم من يشاء بالعصمة أو يغفر للمستغفر لذنبه المعترف على نفسه ويرحمه ما استغفره واسترحمه مما ارتكبه.
[سورة يوسف (12) : آية 54]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أجعله خالصاً لنفسي. فَلَمَّا كَلَّمَهُ أي فلما أتوا به فكلمه وشاهد منه الرشد والدهاء. قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ ذو مكانة ومنزلة. أَمِينٌ
مؤتمن على كل شيء.
روي أنه لما خرج من السجن اغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرية فقال الملك: ما هذا اللسان قال:
لسان آبائي، وكان الملك يعرف سبعين لساناً فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه فقال: أحب أن أسمع رؤياي منك، فحكاها ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوض إليه أمره.
وقيل توفي قطفير في تلك الليالي فنصبه منصبه وزوج منه راعيل فوجدها عذراء وولد له منها أفرائيم وميشا.
[سورة يوسف (12) : الآيات 55 الى 57]
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)(3/167)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ولني أمرها والأرض أرض مصر. إِنِّي حَفِيظٌ لها ممن لا يستحقها. عَلِيمٌ بوجوه التصرف فيه، ولعله عليه السلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة آثر ما تعم فوائده وتجل عوائده، وفيه دليل على جواز طلب التولية وإظهار أنه مستعد لها والتولي من يد الكافر إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به. وعن مجاهد أن الملك أسلم على يده.
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ في أرض مصر. يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ينزل من بلادها حيث يهوى وقرأ ابن كثير «نشاء» بالنون. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ في الدنيا والآخرة. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل نوفي أَجورهم عاجلاً وآجلاً. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ الشرك والفواحش لعظمه ودوامه.
[سورة يوسف (12) : آية 58]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ
روي: أنه لما استوزره الملك أقام العدل واجتهد في تكثير الزراعات وضبط الغلات، حتى دخلت السنون المجدبة وعم القحط مصر والشأم ونواحيهما، وتوجه إليه الناس فباعها أولاً بالدراهم والدنانير حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعاً ثم عرض الأمر على الملك فقال: الرأي رأيك فأعتقهم ورد عليهم أموالهم، وكان قد أصاب كنعان ما أصاب سائر البلاد فأرسل يعقوب بنيه- غير بنيامين- إليه للميرة.
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي عرفهم يوسف ولم يعرفوه لطول العهد ومفارقتهم إياه في سن الحداثة ونسيانهم إياه، وتوهمهم أنه هلك وبعد حاله التي رأوه عليها من حاله حين فارقوه وقلة تأملهم في حلاه من التهيب والاستعظام.
[سورة يوسف (12) : الآيات 59 الى 61]
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله، والجهاز ما يعد من الأمتعة للنقلة كعدد السفر وما يحمل من بلدة إلى أخرى وما تزف به المرأة إلى زوجها وقرئ «بِجَهَازِهِمْ» بالكسر.
قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ
روي: أنهم لما دخلوا عليه قال: من أنتم وما أمركم لعلكم عيون؟ قالوا:
معاذ الله إنما نحن بنو أب واحد وهو شيخ كبير صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب، قال كم أنتم؟ قالوا كنا اثني عشر فذهب أحدنا إلى البرية فهلك، قال: فكم أنتم ها هنا قالوا عشرة، قال: فأين الحادي عشر؟ قالوا:
عند أبينا يتسلى به عن الهالك، قال: فمن يشهد لكم. قالوا: لا يعرفنا أحد ها هنا فيشهد لنا قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا فأصابت شمعون. وقيل كان يوسف يعطي لكل نفر حملاً فسألوه حملاً زائداً لأخ لهم من أبيهم فأعطاهم وشرط عليهم أن يأتوه به ليعلم صدقهم.
أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أتمه. وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ للضيف والمضيفين لهم وكان أحسن إنزالهم وضيافتهم.
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ أي ولا تقربوني ولا تدخلوا دياري، وهو إما نهي أو(3/168)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
نفي معطوف على الجزاء.
قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنجتهد في طلبه من أبيه. وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ذلك لا نتوانى فيه.
[سورة يوسف (12) : آية 62]
وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
وَقالَ لِفِتْيانِهِ لغلمانه الكيالين جمع فتى. وقرأ حمزة والكسائي وحفص لِفِتْيانِهِ على أنه جمع الكثرة ليوافق قوله: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ فإنه وكل بكل رحل واحدا يعبي فيه بضاعتهم التي شروا بها الطعام، وكانت نعالاً وأدماً وإنما فعل ذلك توسيعاً وتفضلاً عليهم وترفعاً من أن يأخذ ثمن الطعام منهم، وخوفاً من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به. لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها لعلهم يعرفون حق ردها. أو لكي يعرفوها. إِذَا انْقَلَبُوا انصرفوا ورجعوا. إِلى أَهْلِهِمْ وفتحوا أوعيتهم. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع.
[سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 64]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ حكم بمنعه بعد هذا إن لم نذهب ببنيامين. فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ نرفع المانع من الكيل ونكتل ما نحتاج إليه. وقرأ حمزة والكسائي بالياء على إسناده إلى الأخ أي يكتل لنفسه فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يناله مكروه.
قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ وقد قلتم في يوسف: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً فأتوكل عليه وأفوض أمري إليه، وانتصاب «حفظا» على التمييز وحافِظاً على قراءة حمزة والكسائي وحفص يحتمله والحال كقوله: لله دره فارسا، وقرئ «خير حافظ» و «خير الحافظين» .
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمع علي مصيبتين.
[سورة يوسف (12) : آية 65]
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ وقرئ «رُدَّتْ» بنقل كسرة الدال المدغمة إلى الراء نقلها في بيع وقيل. قالُوا يا أَبانا مَا نَبْغِي ماذا نطلب هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع منا ورد علينا متاعنا. أو لا نطلب وراء ذلك إحساناً أو لا نبغي في القول ولا نزيد فيما حكينا لك من إحسانه.
وقرئ «ما تبغي» على الخطاب أي: أي شيء تطلب وراء هذا من الإِحسان، أو من الدليل على صدقنا؟
هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا استئناف موضح لقوله مَا نَبْغِي. وَنَمِيرُ أَهْلَنا معطوف على محذوف أي ردت إلينا فنستظهر بها ونمير أهلنا بالرجوع إلى الملك. وَنَحْفَظُ أَخانا عن المخاوف في ذهابنا وإيابنا. وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ وسق بعير باستصحاب أخينا، هذا إذا كانت مَا استفهامية فأما إذا كانت نافية احتمل ذلك واحتمل أن أن تكون الجمل معطوفة على مَا نَبْغِي، أي لا نبغي فيما نقول وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا.
ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أي مكيل قليل لا يكفينا، استقلوا ما كيل لهم فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم، ويجوز أن تكون الإِشارة إلى كيل بعير أي ذلك شيء قليل لا يضايقنا فيه(3/169)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
الملك ولا يتعاظمه، وقيل إنه من كلام يعقوب ومعناه، إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد.
[سورة يوسف (12) : آية 66]
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ إذ رأيت منكم ما رأيت. حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ حتى تعطوني ما أتوثق به مِنْ عِندِ الله أي عهداً مؤكداً بذكر الله. لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جواب القسم إذ المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به. إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو إلا أن تهلكوا جميعاً وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال والتقدير: لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم، أو من أعم العلل على أن قوله لتأتنني به، في تأويل النفي أي لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم كقولهم: أقسمت بالله إلا فعلت، أي ما أطلب إلا فعلك. فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ عهدهم. قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ من طلب الموثق وإتيانه. وَكِيلٌ رقيب مطلع.
[سورة يوسف (12) : الآيات 67 الى 68]
وَقالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَّا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68)
وَقالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ لأنهم كانوا ذوي جمال وأبهة مشتهرين في مصر بالقربة والكرامة عند الملك، فخاف عليهم أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا، ولعله لم يوصهم بذلك في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين حينئذ، أو كان الداعي إليها خوفه على بنيامين. وللنفس آثار منها العين والذي يدل عليه
قوله عليه الصلاة والسلام في عوذته «اللهم إني أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» .
وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ مما قضى عليكم بما أشرت به إليكم فإن الحذر لا يمنع القدر. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يصيبكم لا محالة إن قضي عليكم سوءا ولا ينفعكم ذلك. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ جمع بين الحرفين في عطف الجملة على الجملة لتقدم الصلة للاختصاص كأن الواو للعطف والفاء لإفادة التسبب، فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم.
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي من أبواب متفرقة في البلد. مَّا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ رأي يعقوب واتباعهم له. مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ مما قضاه عليهم كما قال يعقوب عليه السلام. فسُرِقُوا وَأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله وتضاعفت المصيبة على يعقوب. إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ استثناء منقطع أي ولكن حاجة في نفسه، يعني شفقته عليهم وحرازته من أن يعانوا. قَضاها أظهرها ووصى بها. وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ بالوحي ونصب الحجج، ولذلك قال وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ولم يغتر بتدبيره.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ سر القدر وأنه لا يغني عنه الحذر.
[سورة يوسف (12) : آية 69]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ ضم إليه بنيامين على الطعام أو في المنزل
روي: (أنه أضافهم(3/170)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
فأجلسهم مثنى مثنى فبقي بنيامين وحيداً فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حياً لجلس معي، فأجلسه معه على مائدته ثم قال: لينزل كل اثنين منكم بيتاً وهذا لا ثاني له فيكون معي فبات عنده وقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك، قال: من يجد أخاً مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ فلا تحزن افتعال من البؤس. بِما كانُوا يَعْمَلُونَ في حقنا فيما مضى.
[سورة يوسف (12) : الآيات 70 الى 71]
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ المشربة. فِي رَحْلِ أَخِيهِ قيل كانت مشربة جعلت صاعاً يكال به وقيل. كانت تسقى الدواب بها ويكال بها وكانت من فضة. وقيل من ذهب وقرئ «وجعل» على حذف جواب فلما تقديره أمهلهم حتى انطلقوا. ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد. أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ لعله لم يقله بأمر يوسف عليه الصلاة والسلام أو كان تعبية السقاية والنداء عليها برضا بنيامين. وقيل معناه إنكم لسارقون يوسف من أبيه أو أإنكم لسارقون، والعير القافلة وهو اسم الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تتردد، فقيل لأصحابها
كقوله عليه الصلاة والسلام «يا خيل الله اركبي» .
وقيل جمع عير وأصله فعل كسقف فعل به ما فعل ببيض تجوز به لقافلة الحمير، ثم استعير لكل قافلة.
قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ أي شيء ضاع منكم؟ والفقد: غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه، وقرئ «تَفْقِدُونَ» من أفقدته إذا وجدته فقيدا.
[سورة يوسف (12) : الآيات 72 الى 73]
قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73)
قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وقرئ «صاع» و «صوع» بالفتح والضم والعين والغين و «صواغ» من الصياغة. وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام جعلاً له. وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ كفيل أؤديه إلى من رده. وفيه دليل على جواز الجعالة وضمان الجعل قبل تمام العمل.
قالُوا تَاللَّهِ قسم فيه معنى التعجب، التاء بدل من الباء مختصة باسم الله تعالى: لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم في كرتي مجيئهم ومداخلتهم للملك مما يدل على فرط أمانتهم كرد البضاعة التي جعلت في رحالهم وكعم الدواب لئلا تتناول زرعاً أو طعاما لأحد.
[سورة يوسف (12) : الآيات 74 الى 75]
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ فما جزاء السارق أو السرق أو ال صُواعَ على حذف المضاف. إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في ادعاء البراءة.
قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ أي جزاء سرقته أخذ من وجد فى رحله واسترقاقه، هكذا كان شرع يعقوب عليه الصلاة والسلام. وقوله فَهُوَ جَزاؤُهُ تقرير للحكم وإلزام له، أو خبر مَنْ والفاء لتضمنها معنى الشرط أو جواب لها على أنها شرطية. والجملة كما هي خبر جَزاؤُهُ على إقامة الظاهر فيها(3/171)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
مقام الضمير كأنه قيل: جزاؤه من وجد فى رحله فهو هو. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ بالسرقة.
[سورة يوسف (12) : آية 76]
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ فبدأ المؤذن. وقيل يوسف لأنهم ردوا إلى مصر. قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين نفيا للتهمة. ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث. مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ وقرئ بضم الواو وبقلبها همزة. كَذلِكَ مثل ذلك الكيد. كِدْنا لِيُوسُفَ بأن علمناه إياه وأوحينا به إليه. ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ملك مصر لأن دينه الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق وهو بيان للكيد.
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك، فالاستثناء من أعم الأحوال ويجوز أن يكون منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه. نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالعلم كما رفعنا درجته. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أرفع درجة منه، واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه. والجواب أن المراد كل ذي علم من الخلق لأن الكلام فيهم ولأن العليم هو الله سبحانه وتعالى، ومعناه الذي له العلم البالغ لغة ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا فوق كل العلماء عليم وهو مخصوص.
[سورة يوسف (12) : آية 77]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77)
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ بنيامين. فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يعنون يوسف. قيل ورثت عمته من أبيها منطقة إبراهيم عليه السلام وكانت تحضن يوسف وتحبه، فلما شب أراد يعقوب انتزاعه منها فشدت المنطقة على وسطه، ثم أظهرت ضياعها فتفحصُ عنها فوجدت محزومة عليه فصارت أحق به في حكمهم. وقيل كان لأبي أمه صنم فسرقه وكسره وألقاه في الجيف. وقيل كان في البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل. وقيل دخل كنيسة وأخذ تمثالاً صغيراً من الذهب. فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ أكنها ولم يظهرها لهم، والضمير للإجابة أو المقالة أو نسبة السرقة إليه وقيل إنها كناية بشريطة التفسير يفسرها قوله: قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً فإنه بدل من أسرها. والمعنى قال في نفسه أنتم شر مكاناً أي منزلة في السرقة لسرقتكم أخاكم، أو في سوء الصنيع مما كنتم عليه، وتأنيثها باعتبار الكلمة أو الجملة، وفيه نظر إذ المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ وهو يعلم أن الأمر ليس كما تصفون.
[سورة يوسف (12) : الآيات 78 الى 79]
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79)
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً أي في السن أو القدر، ذكروا له حاله استعطافاً له عليه.
فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ بدله فإن أباه ثكلان على أخيه الهالك مستأنس به. إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلينا فأتمم إحسانك، أو من المتعودين بالإِحسان فلا تغير عادتك.
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ فإن أخذ غيره ظلم على فتواكم فلو أخذنا أحدكم مكانه. إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ في مذهبكم هذا، وإن مراده إن الله أذن في أخذ من وجدنا الصاع في رحله لمصلحته ورضاه عليه فلو أخذت غيره كنت ظالما.
[سورة يوسف (12) : آية 80]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80)(3/172)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ يئسوا من يوسف وإجابته إياهم، وزيادة السين والتاء للمبالغة. خَلَصُوا انفردوا واعتزلوا. نَجِيًّا متناجين، وإنما وحده لأنه مصدر أو بزنته كما قيل هو صديق، وجمعه أنجيه كندي وأندية. قالَ كَبِيرُهُمْ في السن وهو روبيل، أو في الرأي وهو شمعون وقيل يهوذا. أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ عهداً وثيقاً، وأنما جعل حلفهم بالله موثقاً منه لأنه بإذن منه وتأكيد من جهته.
وَمِنْ قَبْلُ ومن قبل هذا. مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ قصرتم في شأنه، وما مزيدة ويجوز أن تكون مصدرية في موضع النصب بالعطف على مفعول تعلموا، ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف، أو على اسم أَنَّ وخبره في يُوسُفَ أو مِنْ قَبْلُ أو الرفع بالابتداء والخبر مِنْ قَبْلُ وفيه نظر، لأن قَبْلُ إذا كان خبراً أو صلة لا يقطع عن الإِضافة حتى لا ينقص وأن تكون موصولة أي: ما فرطتموه بمعنى ما قدمتموه في حقه من الجناية ومحله ما تقدم. فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ فلن أفارق أرض مصر. حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الرجوع. أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي أو يقضي لي بالخروج منها، أو بخلاص أخي منهم أو بالمقاتلة معهم لتخليصه.
روي: أنهم كلموا العزيز في إطلاقه فقال روبيل: أيها الملك والله لتتركنا أو لأصيحن صيحة تضع منها الحوامل، ووقفت شعور جسده فخرجت من ثيابه فقال يوسف عليه السلام لابنه: قم إلى جنبه فمسه، وكان بنو يعقوب عليه السلام إذا غضب أحدهم فمسه الآخر ذهب غضبه. فقال روبيل من هذا إن في هذا البلد لبزراً من بزر يعقوب.
وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأن حكمه لا يكون إلا بالحق.
[سورة يوسف (12) : الآيات 81 الى 82]
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82)
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ على ما شاهدناه من ظاهر الأمر. وقرئ «سَرَقَ» أي نسب إلى السرقة. وَما شَهِدْنا عليه. إِلَّا بِما عَلِمْنا بأن رأينا أن الصواع استخرج من وعائه. وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ لباطن الحال. حافِظِينَ فلا ندري أنه سرق أو سرق ودس الصواع في رحله، أو وما كنا للعواقب عالمين فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنه سيسرق، أو أنك تصاب به كما أصبت بيوسف.
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعنون مصر أو قرية بقربها لحقهم المنادي فيها، والمعنى أرسل إلى أهلها واسألهم عن القصة. وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وأصحاب العير التي توجهنا فيهم وكنا معهم. وَإِنَّا لَصادِقُونَ تأكيد في محل القسم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 83 الى 84]
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ أي فلما رجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال لهم أخوهم قال: بَلْ سَوَّلَتْ أي سولت وسهلت. لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أردتموه فقدرتموه، وإلا فما أدرى الملك أن السارق يؤخذ بسرقته. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً بيوسف وبنيامين وأخيهما الذي توقف بمصر. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي وحالهم. الْحَكِيمُ في تدبيرهما.
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وأعرض عنهم كراهة لما صادف منهم. وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ أي يا أسفا تعال فهذا أوانك، والأسف أشد الحزن والحسرة، والألف بدل من ياء المتكلم، وإنما تأسف على يوسف دون(3/173)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
أخويه والحادث رزؤهما لأن رزأه كان قاعدة المصيبات وكان غضاً آخذاً بمجامع قلبه، ولأنه كان واثقاً بحياتهما دون حياته،
وفي الحديث: «لم تعط أمة من الأمم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ عند المصيبة إلا أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم» .
ألا ترى إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال يَا أَسَفى.
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ لكثرة بكائه من الحزن كأن العبرة محقت سوادهما. وقيل ضعف بصره. وقيل عمي، وقرئ «مِنَ الحزن» وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع، ولعل أمثال ذلك لا تدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد،
ولقد بكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ولده إبراهيم وقال:
«القلب يجزع والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنما عليك يا إبراهيم لمحزونون» .
فَهُوَ كَظِيمٌ مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره، فعيل بمعنى مفعول كقوله تعالى: وَهُوَ مَكْظُومٌ من كظم السقاء إذا شده على ملئه، أو بمعنى فاعل كقوله: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ من كظم الغيظ إذا اجترعه، وأصله كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه.
[سورة يوسف (12) : آية 85]
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85)
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ أي لا تفتأ ولا تزال تذكره تفجعاً عليه، فحذف لا كما في قوله:
فَقُلْتُ يَمينَ الله أَبْرَح قَاعِداً لأنه لا يلتبس بالإثبات، فإن القسم إذا لم يكن معه علامات الإثبات كان على النفي. حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضاً مشفياً على الهلاك. وقيل الحرض الذي أذا به هم أو مرض، وهو في الأصل مصدر ولذلك لا يؤنث ولا يجمع والنعت بالكسر كدنف ودنف. وقد قرئ به وبضمتين كجنب. أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ من الميتين.
[سورة يوسف (12) : الآيات 86 الى 87]
قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)
لَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي
همي الذي لا أقدر الصبر عليه من البث بمعنى النشر. لَى اللَّهِ
لا إلى أحد منكم ومن غيركم، فخلوني وشكايتي. أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ
من صنعه ورحمته فإنه لا يخيب داعيه ولا يدع الملتجئ إليه، أو من الله بنوع من الإلهام. الا تَعْلَمُونَ
من حياة يوسف. قيل رأى ملك الموت في المنام فسأله عنه فقال هو حي. وقيل علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى يخر له إخوته سجداً.
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ فتعرفوا منهما وتفحصوا عن حالهما والتحسس تطلب الإحساس: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ولا تقنطوا من فرجه وتنفيسه. وقرئ «مِن رَّوْحِ الله» أي من رحمته التي يحيي بها العباد. إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ بالله وصفاته فإن العارف المؤمن لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال.
[سورة يوسف (12) : آية 88]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ بعد ما رجعوا إلى مصر رجعة ثانية. مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ شدة الجوع. وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ رديئة أو قليلة ترد وتدفع رغبة عنها، من أزجيته إذا دفعته ومنه تزجية الزمان.(3/174)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قيل كانت دراهم زيوفاً وقيل صوفاً وسمناً. وقيل الصنوبر والحبة الخضراء. وقيل الأقط وسويق المقل.
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ فأتمم لنا الكيل. وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا برد أخينا أو بالمسامحة وقبول المزجاة، أو بالزيادة على ما يساويها. واختلف في أن حرمة الصدقة تعم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو تختص بنبينا صلّى الله عليه وسلّم. إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ أحسن الجزاء والتصدق التفضل مطلقا، ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام في القصر «هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» .
لكنه اختص عرفاً بما يبتغي به ثواب من الله تعالى.
[سورة يوسف (12) : آية 89]
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89)
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ أي هل علمتم قبحه فتبتم عنه وفعلهم بأخيه إفراده عن يوسف وإذلاله حتى لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة. إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قبحه فلذلك أقدمتم عليه أو عاقبته، وإنما قال ذلك تنصيحاً لهم وتحريضاً على التوبة، وشفقة عليهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم لا معاتبة وتثريباً. وقيل أعطوه كتاب يعقوب في تخليص بنيامين وذكروا له ما هو فيه من الحزن على فقد يوسف وأخيه فقال لهم ذلك، وإنما جهلهم لأن فعلهم كان فعل الجهال، أو لأنهم كانوا حينئذ صبيانا طياشين.
[سورة يوسف (12) : الآيات 90 الى 91]
قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91)
قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ استفهام تقرير ولذلك حقق بأن ودخول اللام عليه. وقرأ ابن كثير على الإِيجاب. قيل عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به، وقيل تبسم فعرفوه بثناياه. وقيل رفع التاج عن رأسه فرأوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء وكانت لسارة ويعقوب مثلها. قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي من أبي وأمي ذكره تعريفاً لنفسه به، وتفخيماً لشأنه وإدخالاً له في قوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بالسلامة والكرامة. إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ أي يتق الله. وَيَصْبِرْ على البليات أو على الطاعات وعن المعاصي. فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر.
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا اختارك علينا بحسن الصورة وكمال السيرة. وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ والحال أن شأننا إنا كنا مذنبين بما فعلنا معك.
[سورة يوسف (12) : الآيات 92 الى 93]
قالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا تأنيب عليكم تفعيل من الثرب وهو الشحم الذي يغشى الكرش للإِزالة كالتجليد، فاستعير للتقريع الذي يمزق العرض ويذهب ماء الوجه. الْيَوْمَ متعلق بال تَثْرِيبَ أو بالمقدر للجار الواقع خبرا ل لاَ تَثْرِيبَ والمعنى لا أثربكم اليوم الذي هو مظنته فما ظنكم بسائر الأيام أو بقوله:
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ لأنه صفح عن جريمتهم حينئذ واعترفوا بها. وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإنه يغفر الصغائر والكبائر ويتفضل على التائب، ومن كرم يوسف عليه السلام أنهم لما عرفوه أرسلوا إليه وقالوا: إنك تدعونا بالبكرة والعشي إلى الطعام ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك، فقال إن أهل مصر كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى ويقولون: سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت بكم وعظمت في عيونهم حيث علموا أنكم اخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام.(3/175)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا القميص الذي كان عليه. وقيل القميص المتوارث الذي كان في التعويذ.
فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً أي يرجع بصيراً أي ذا بصر. وَأْتُونِي أنتم وأبي. بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ بنسائكم وذراريكم ومواليكم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 95]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ من مصر وخرجت من عمرانها. قالَ أَبُوهُمْ لمن حضره. إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أوجده الله ريح ما عبق بقميصه من ريحه حين أقبل به إليه يهوذا من ثمانين فرسخاً. لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ تنسبوني إلى الفند وهو نقصان عقل يحدث من هرم، ولذلك لا يقال عجوز مفندة لأن نقصان عقلها ذاتي. وجواب لَوْلا محذوف تقديره لصدقتموني أو لقلت إنه قريب.
قالُوا أي الحاضرون. تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ لفي ذهابك عن الصواب قدماً بالإِفراط في محبة يوسف وإكثار ذكره والتوقع للقائه.
[سورة يوسف (12) : آية 96]
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96)
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ يهوذا
. روي: أنه قال كما أحزنته بحمل قميصه الملطخ بالدم إليه فأفرحه بحمل هذا إليه.
أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ طرح البشير القميص على وجه يعقوب عليه السلام أو يعقوب نفسه. فَارْتَدَّ بَصِيراً عاد بصيراً لما انتعش فيه من القوة. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ من حياة يوسف عليه السلام، وإنزال الفرح. وقيل إني أعلم كلام مبتدأ والمقول لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، أو إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ.
[سورة يوسف (12) : الآيات 97 الى 98]
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويسأله المغفرة.
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ اخره إلى السحر أو إلى صلاة الليل أو إلى ليلة الجمعة تحرياً لوقت الإِجابة، أو إلى أن يستحل لهم من يوسف أو يعلم أنه عفا عنهم فإن عفو المظلوم شرط المغفرة. ويؤيده ما
روي: أنه استقبل القبلة قائما يدعو وقام يوسف خلفه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين حتى نزل جبريل وقال: إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة، وهو إن صح فدليل على نبوتهم، وأن ما صدر عنهم كان قبل استنبائهم.
[سورة يوسف (12) : آية 99]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ
روي أنه وجه إليه رواحل وأموالاً ليتجهز إليه بمن معه، واستقبله يوسف والملك بأهل مصر وكان أولاده الذين دخلوا معه مصر اثنين وسبعين رجلاً وامرأة، وكانوا حين خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعين رجلاً سوى الذرية والهرمى.
آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ضم إليه أباه وخالته واعتنقهما نزلها منزلة الأم تنزيل العم منزلة الأب في قوله: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ(3/176)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
أو لأن يعقوب عليه السلام تزوجها بعد أمه والرابة تدعى أماً وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ من القحط وأصناف المكاره، والمشيئة متعلقة بالدخول المكيف بالأمن والدخول الأول كان في موضع خارج البلد حين استقبلهم.
[سورة يوسف (12) : آية 100]
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً تحية وتكرمة له فإن السجود كان عندهم يجري مجراها.
وقيل معناه خروا لأجله سجداً لله شكراً. وقيل الضمير لله تعالى والواو لأبويه وإخوته والرفع مؤخر عن الخرور وإن قدم لفظاً للاهتمام بتعظيمه لهما. وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ التى رأيتها أيام الصبا.
قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا صدقاً. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ولم يذكر الجب لئلا يكون تثريباً عليهم. وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ من البادية لأنهم كانوا أصحاب المواشي وأهل البدو. مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أفسد بيننا وحرش، من نزغ الرائض الدابة إذا نخسها وحملها على الجري. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته ويتسهل دونها. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بوجود المصالح والتدابير. الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شيء في وقته وعلى وجه يقتضي الحكمة.
روي: أن يوسف طاف بأبيه عليهما الصلاة والسلام في خزائنه فلما أدخله خزانة القراطيس قال: يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال: أمرني جبريل عليه السلام قال: أو ما تسأله قال: أنت أبسط مني إليه فاسأله فقال جبريل: الله أمرني بذلك. لقولك: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ قال فهلا خفتني.
[سورة يوسف (12) : آية 101]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ بعض الملك وهو ملك مصر. وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ الكتب أو الرؤيا، ومن أيضاً للتبعيض لأنه لم يؤت كل التأويل. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعهما وانتصابه على أنه صفة المنادى أو منادى برأسه. أَنْتَ وَلِيِّي ناصري ومتولي أمري. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أَوْ الذي يتولاني بالنعمة فيهما. تَوَفَّنِي مُسْلِماً اقبضني. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة.
روي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه، فذهب به ودفنه ثمة ثم عاد وعاش بعده ثلاثاً وعشرين سنة، ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله طيباً طاهراً، فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى هموا بالقتال، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء، ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعاً فيه، ثم نقله موسى عليه الصلاة والسلام إلى مدفن آبائه وكان عمره مائة وعشرين سنة، وقد ولد له من راعيل افرائيم وميشا وهو جد يوشع بن نون، ورحمة امرأة أيوب عليه السلام.
[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 103]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من نبأ يوسف عليه السلام، والخطاب فيه للرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو مبتدأ. مِنْ(3/177)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ
خبران له. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ كالدليل عليهما والمعنى: أن هذا النبأ غيب لم تعرفه إلا بالوحي لأنك لم تحضر إخوة يوسف حين عزموا على ما هموا به من أن يجعلوه في غيابة الجب، وهم يمكرون به وبأبيه ليرسله معهم، ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحداً سمع ذلك فتعلمته منه، وإنما حذف هذا الشق استغناء بذكره في غير هذه القصة كقوله: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا.
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات عليهم. بِمُؤْمِنِينَ لعنادهم وتصميمهم على الكفر.
[سورة يوسف (12) : الآيات 104 الى 105]
وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105)
وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ على الإنباء أو القرآن. مِنْ أَجْرٍ من جعل كما يفعله حملة الأخبار. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة من الله تعالى. لِلْعالَمِينَ عامة.
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ وكم من آية. والمعنى وكأي عدد شئت من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته وكمال قدرته وتوحيده. فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها على الآيات ويشاهدونها. وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وقرئ وَالْأَرْضِ بالرفع على أنه مبتدأ خبره يَمُرُّونَ، فيكون لها الضمير في عَلَيْها وبالنصب على ويطئون الأرض. وقرئ و «الأرض يمشون عليها» أي يترددون فيها فيرون آثار الأمم الهالكة.
[سورة يوسف (12) : الآيات 106 الى 108]
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ في إقرارهم بوجوده وخالقيته. إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ بعبادة غيره أو باتخاذ الأحبار أرباباً. ونسبة التبني إليه تعالى، أو القول بالنور والظلمة أو النظر إلى الأسباب ونحو ذلك. وقيل الآية في مشركي مكة، وقيل في المنافقين. وقيل في أهل الكتاب.
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ عقوبة تغشاهم وتشملهم. أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فجأة من غير سابقة علامة. وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بإتيانها غير مستعدين لها.
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي يعني الدعوة إلى التوحيد والإِعداد للمعاد ولذلك فسر السبيل بقوله: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ وقيل هو حال من الياء. عَلى بَصِيرَةٍ بيان وحجة واضحة غير عمياء. أَنَا تأكيد للمستتر في أَدْعُوا أو عَلى بَصِيرَةٍ لأنه حال منه أو مبتدأ خبره عَلى بَصِيرَةٍ. وَمَنِ اتَّبَعَنِي عطف عليه. وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وأنزهه تنزيهاً من الشركاء.
[سورة يوسف (12) : آية 109]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا رد لقولهم لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً وقيل معناه نفي استنباء النساء يُوحِي إِلَيْهِمُ كما يوحي إليك ويميزون بذلك عن غيرهم. وقرأ حفص نُوحِي في كل القرآن ووافقه(3/178)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
حمزة والكسائي في سورة «الأنبياء» . مِنْ أَهْلِ الْقُرى لأن أهلها أعلم وأحلم من أهل البدو. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مّن المكذبين بالرسل والآيات فيحذروا تكذيبك، أو من من المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها فيقلعوا عن حبها. وَلَدارُ الْآخِرَةِ ولدار الحال أو الساعة أو الحياة الآخرة. خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي. أَفَلا يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم ليعرفوا أنها خير. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالتاء حملاً على قوله: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أي قل لهم أفلا تعقلون.
[سورة يوسف (12) : آية 110]
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ غاية محذوف دل عليه الكلام أي لا يغررهم تمادي أيامهم فإن من قبلهم أمهلوا حتى أى الرسل عن النصر عليهم في الدنيا، أو عن إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفهين متمادين فيه من غير وازع. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون، أو كذبهم القوم بوعد الإِيمان. وقيل الضمير للمرسل إليهم أي وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم بالدعوة والوعيد. وقيل الأول للمرسل إليهم والثاني للرسل أي وظنوا أن الرسل قد كذبوا وأخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم. وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الرسل ظنوا أنهم أخلفوا ما وعدهم الله من النصر، إن صح فقد أراد بالظن ما يهجس في القلب على طريق الوسوسة. هذا وأن المراد به المبالغة في التراخي والإِمهال على سبيل التمثيل. وقرأ غير الكوفيين بالتشديد أي وظن الرسل أن القوم قد كذبوهم فيما أوعدوهم. وقرئ «كَذَّبُواْ» بالتخفيف وبناء الفاعل أي وظنوا أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به عند قومهم لما تراخى عنهم ولم يروا له أثراً. جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ النبي والمؤمنين وإنما لم يعينهم للدلالة على أنهم الذين يستأهلون إن يشاء نجاتهم لا يشاركهم فيه غيرهم. وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب على لفظ الماضي المبني للمفعول وقرئ «فنجا» وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إذا نزل بهم وفيه بيان للمشيئين.
[سورة يوسف (12) : آية 111]
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ في قصص الأنبياء وأممهم أو في قصة يوسف وإخوته. عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول. المبرأة من شوائب الإِلف والركون إلى الحس. مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ما كان القرآن حديثاً يفترى. وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب الإِلهية. وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج اليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط. وَهُدىً من الضلال. وَرَحْمَةً ينال بها خير الدارين. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقونه.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «علموا أرقاءكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلماً» .(3/179)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
(13) سورة الرعد
مدنية وقيل مكية إلا قوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية وهي ثلاث وأربعون آية.
[سورة الرعد (13) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1)
المر قيل معناه أنا الله أعلم وأرى. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يعني بالكتاب السورة وتِلْكَ إشارة إلى آياتها أي: تلك الآيات آيات السورة الكاملة أو القرآن. وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو القرآن كله ومحله الجر بالعطف على الْكِتابِ عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى، أو الرفع بالابتداء وخبره الْحَقُّ والجملة كالحجة على الجملة الأولى، وتعريف الخبر وإن دل على اختصاص المنزل بكونه حقاً فهو أعم من المنزل صريحاً أو ضمناً، كالمثبت بالقياس وغيره مما نطق المنزل بحسن اتباعه. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ لإِخلالهم بالنظر والتأمل فيه.
[سورة الرعد (13) : آية 2]
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ مبتدأ وخبر ويجوز أن يكون الموصول صفة والخبر يُدَبِّرُ الْأَمْرَ. بِغَيْرِ عَمَدٍ أساطين جمع عماد كإهاب وأهب، أو عمود كأديم وأدم وقرئ «عَمَدٍ» كرسل. تَرَوْنَها صفة ل عَمَدٍ أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم السموات كذلك، وهو دليل على وجود الصانع الحكيم فإن ارتفاعها على سائر الأجسام السماوية لها في حقيقة الجرمية، واختصاصها بما يقتضي ذلك لا بد وأن يكون بمخصص ليس بجسم ولا جسماني يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بالحفظ والتدبير. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذللهما لما أراد منهما كالحركة المستمرة على حد من السرعة ينفع في حدوث الكائنات وبقائها. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى لمدة معينة يتم فيها أدواره، أو لغاية مضروبة ينقطع دونها سيره وهي إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أمر ملكوته من الايجاد والإِعدام والإِحياء والإِماتة وغير ذلك. يُفَصِّلُ الْآياتِ ينزلها ويبينها مفصلة أو يحدث الدلائل واحداً بعد واحد. لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ لكي تتفكروا فيها وتتحققوا كمال قدرته فتعلموا أن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قدر على الإعادة والجزاء.
[سورة الرعد (13) : الآيات 3 الى 4]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)(3/180)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ بسطها طولاً وعرضاً لتثبت عليها الأقدام وينقلب عليها الحيوان. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالاً ثوابت من رسا الشيء إذا ثبت، جمع راسيه والتاء للتأنيث على أنها صفة أجبل أو للمبالغة.
وَأَنْهاراً ضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلاً واحداً من حيث إن الجبال أسباب لتولدها. وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلق بقوله: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي وجعل فيها من جميع أنواع الثمرات صنفين اثنين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض والصغير والكبير. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئاً، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر يُغْشِي بالتشديد. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيها فإن تكونها وتخصصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع حكيم دبر أمرها وهيأ أسبابها.
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ بعضها طيبة وبعضها سبخة، وبعضها رخوة وبعضها صلبة، وبعضها تصلح للزرع دون الشجر وبعضها بالعكس. ولولا تخصيص قادر موقع لأفعاله على وجه دون وجه لم تكن كذلك، لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضية وما يلزمها ويعرض لها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية، من حيث أنها متضامة متشاركة في النسب والأوضاع. وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ وبساتين فيها أنواع الأشجار والزروع، وتوحيد الزرع لأنه مصدر في أصله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ بالرفع عطفاً على وَجَنَّاتٌ. صِنْوانٌ نخلات أصلها واحد. وَغَيْرُ صِنْوانٍ متفرقات مختلفات الأصول. وقرأ حفص بالضم وهو لغة بني تميم ك قِنْوانٌ في جمع قنو. تُسْقَى بِمَاء واحد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل في الثمر شكلاً وقدراً ورائحة وطعماً، وذلك أيضاً مما يدل على الصانع الحكيم، فإن اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار. وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب يُسْقى بالتذكير على تأويل ما ذكر، وحمزة والكسائي يفضل بالياء ليطابق قوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالتفكر.
[سورة الرعد (13) : آية 5]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5)
وَإِنْ تَعْجَبْ يا محمد من إنكارهم البعث. فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ حقيق بأن يتعجب منه فإن من قدر على إنشاء ما قص عليك كانت الإِعادة أيسر شيء عليه، والآيات المعدودة كما هي دالة على وجود المبدأ فهي دالة على إمكان الإِعادة من حيث إنها تدل على كمال علمه وقدرته وقبول المواد لأنواع تصرفاته. أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بدل من قولهم أو مفعول له، والعامل في إذا محذوف دل عليه: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لأنهم كفروا بقدرته على البعث. وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ مقيدون بالضلال لا يرجى خلاصهم أو يغلون يوم القيامة. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا ينفكون عنها، وتوسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفار.
[سورة الرعد (13) : آية 6]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بالعقوبة قبل العافية، وذلك لأنهم استعجلوا ما هددوا به من عذاب الدنيا استهزاء. وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لم يعتبروا بها ولم يجوزوا حلول مثلها عليهم، والمثلة بفتح الثاء وضمها كالصَدُقَة والصُدْقَة، العقوبة لأنها مثل المعاقب عليه، ومنه المثال للقصاص وأمثلت الرجل من صاحبه إذا اقتصصته منه. وقرئ «المثلات» بالتخفيف و «المثلات» بإتباع الفاء العين و «المثلات» بالتخفيف بعد الاتباع، و «المثلات» بفتح الثاء على أنها جمع مثلة كركبة(3/181)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
وركبات. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ مع ظلمهم أنفسهم، ومحله النصب على الحال والعامل فيه المغفرة والتقييد به دليل على جواز العفو قبل التوبة، فإن التائب ليس على ظلمه، ومن منع ذلك خص الظلم بالصغائر المكفرة لمجتنب الكبائر، أو أول المغفرة بالستر والإِمهال. وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ للكفار أو لمن شاء،
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لولا عفو الله وتجاوزه لما هنأ أحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» .
[سورة الرعد (13) : آية 7]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ لعدم اعتدادهم بالآيات المنزلة عليه واقتراحاً لنحو ما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مرسل للإنذار كغيرك من الرسل وما عليك إلا الإِتيان بما تصح به نبوتك من جنس المعجزات لا بما يقترح عليك. وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ نبي مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم يهديهم إلى الحق ويدعوهم إلى الصواب، أو قادر على هدايتهم وهو الله تعالى لكن لا يهدي إلا من يشاء هدايته بما ينزل عليك من الآيات. ثم أردف ذلك بما يدل على كمال علمه وقدرته وشمول قضائه وقدره، تنبيهاً على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه وإنما لم ينزل لعلمه بأن اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد، وأنه قادر على هدايتهم وإنما لم يهدهم لسبق قضائه بالكفر فقال:
[سورة الرعد (13) : آية 8]
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي حملها أو ما تحمله على أي حال هو من الأحوال الحاضرة والمترقبة. وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وما تنقصه وما تزداده في الجنة والمدة والعدد، وأقصى مدة الحمل أربع سنين عندنا وخمس عند مالك وسنتان عند أبي حنيفة.
روي أن الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان لأربع سنين وأعلى عدده لا حد له.
وقيل نهاية ما عرف به أربعة وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله عنه، وقال الشافعي رحمه الله أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطوناً في كل بطن خمسة. وقيل المراد نقصان دم الحيض وازدياده، وغاض جاء متعدياً ولازماً وكذا ازداد قال تعالى: وَازْدَادُوا تِسْعاً فإن جعلتهما لازمين تعين إما أن تكون مصدرية. وإسنادهما إلى الأرحام على المجاز فإنهما لله تعالى أو لما فيها. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ فإنه تعالى خص كل حادث بوقت وحال معينين، وهيأ له أسبابا مسوقة إليه تقتضي ذلك. وقرأ ابن كثير هادٍ ووالٍ وو واقٍ
وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ بالتنوين في الوصل فإذا وقف وقف بالياء في هذه الأحرف الأربعة حيث وقعت لا غير، والباقون يصلون بالتنوين ويقفون بغير ياء.
[سورة الرعد (13) : الآيات 9 إلى 10]
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10)
عالِمُ الْغَيْبِ الغائب عن الحس. وَالشَّهادَةِ الحاضر له. الْكَبِيرُ العظيم الشأن الذي لا يخرج عن علمه شيء. الْمُتَعالِ المستعلي على كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عن نعت المخلوقين وتعالى عنه.
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في نفسه. وَمَنْ جَهَرَ بِهِ لغيره. وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ طالب للخفاء في مختبأ بالليل. وَسارِبٌ بارز. بِالنَّهارِ يراه كل أحد من سرب سروباً إذا برز، وهو عطف على من أو مستخف على أَن من في معنى الإثنين كقوله:
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان(3/182)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
كأنه قال سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار، والآية متصلة بما قبلها مقررة لكمال علمه وشموله.
[سورة الرعد (13) : آية 11]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)
لَهُ لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب. مُعَقِّباتٌ ملائكة تعتقب في حفظه، جمع معقبة من عقبه مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه كأن بعضهم يعقب بعضاً، أو لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونها، أو اعتقب فأدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة، أو لأن المراد بالمعقبات جماعات. وقرئ «مَعَاقِيبُ» جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من حذف إحدى القافين. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ من جوانبه أو من الأعمال ما قدم وأخر. يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ من بأسه متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له، أو يحفظونه من المضار أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله تعالى. وقد قرئ به وقيل من بمعنى الباء. وقيل من أمر الله صفة ثانية ل مُعَقِّباتٌ. وقيل المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان يحفظونه في توهمه من قضاء الله تعالى. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ من العافية والنعمة. حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ فلا راد له فالعامل في إِذا ما دل عليه الجواب.
وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ممن يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء، وفيه دليل على أن خلاف مراد الله تعالى محال.
[سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 13]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من أذاه. وَطَمَعاً في الغيث وانتصابهما على العلة بتقدير المضاف، أي إرادة خوف وطمع أو التأويل بالإِخافة والإِطماع، أو الحال من الْبَرْقَ أو المخاطبين على إضمار ذو، أو إطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة. وقيل يخاف المطر من يضره ويطمع فيه من ينفعه.
وَيُنْشِئُ السَّحابَ الغيم المنسحب في الهواء. الثِّقالَ وهو جمع ثقيلة وإنما وصف به السحاب لأنه اسم جنس في معنى الجمع.
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ ويسبح سامعوه. بِحَمْدِهِ ملتبسين به فيضجون بسبحان الله والحمد لله، أو يدل الرعد بنفسه على وحدانية الله وكمال قدرته ملتبساً بالدلالة على فضله ونزول رحمته.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرعد فقال: «ملك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب» .
وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ من خوف الله تعالى وإجلاله وقيل الضمير ل الرَّعْدُ. وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيهلكه. وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ حيث يكذبون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس ومجازاتهم، والجدال التشدد في الخصومة من الجدل وهو الفتل، والواو إما لعطف الجملة على الجملة أو للحال فإنه
روي أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاصدين لقتله، فأخذه عامر بالمجادلة ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف، فتنبه له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، ورمى عامراً بغدة فمات في بيت سلولية، وكان يقول غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية، فنزلت.
وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ المماحلة المكايدة لأعدائه، من محل فلان بفلان إذا كايده وعرضه للهلاك، ومنه تمحل إذا تكلف استعمال الحيلة،(3/183)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
ولعل أصله المحل بمعنى القحط. وقيل فعال من المحل بمعنى القوة. وقيل مفعل من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس ويعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال، ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلاً في القوة والقدرة كقولهم: فساعد الله أشد وموساه أحد.
[سورة الرعد (13) : آية 14]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ الدعاء الحق فإنه الذي يحق أن يعبد ويدعى إلى عبادته دون غيره، أو له الدعوة المجابة فإن من دعاه أجابه، ويؤيده ما بعده والْحَقِّ على الوجهين ما يناقض الباطل وإضافة ال دَعْوَةُ لما بينهما من الملابسة، أو على تأويل دعوة المدعو الحق. وقيل الْحَقِّ هو الله تعالى وكل دعاء إليه دعوة الحق، والمراد بالجملتين إن كانت الآية في أربد وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله إجابة لدعوة رسوله صلّى الله عليه وسلّم أو دلالة على أنه على الحق، وإن كانت عامة فالمراد وعيد الكفرة على مجادلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم عليهم، أو بيان ضلالهم وفساد رأيهم. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ أي والأصنام الذين يدعوهم المشركون، فحذف الراجع أو والمشركون الذين يدعون الأصنام فحذف المفعول لدلالة مِنْ دُونِهِ عليه. لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ من الطلبات. إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه. إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ يطلب منه أن يبلغه. وَما هُوَ بِبالِغِهِ لأنه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على إجابته والإِتيان بغير ما جبل عليه وكذلك آلهتهم. وقيل شبهوا في قلة جدوى دعائهم لها بمن أراد أن يغترف الماء ليشربه فبسط كفيه ليشربه. وقرئ «تدعون» بالتاء وباسط بالتنوين. وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع وخسار وباطل.
[سورة الرعد (13) : آية 15]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً يحتمل أن يكون السجود على حقيقته فإنه يسجد له الملائكة والمؤمنون من الثقلين، طوعاً حالتي الشدة والرخاء والكفرة كرهاً حال الشدة والضرورة.
وَظِلالُهُمْ بالعرض وأن يراد به انقيادهم لإِحداث ما أراده منهم شاؤوا أو كرهوا، وانقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد والتقليص وانتصاب طَوْعاً وَكَرْهاً بالحال أو العلة وقوله: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ظرف ل يَسْجُدُ والمراد بهما الدوام أو حال من الظلال، وتخصيص الوقتين لأن الظلال إنما تعظم وتكثر فيهما، والغدو جمع غداة كقنى جمع قناة، والْآصالِ جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب. وقيل الغدو مصدر ويؤيده أنه قد قرئ و «الإِيصال» وهو الدخول في الأصيل.
[سورة الرعد (13) : آية 16]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومتولي أمرهما. قُلِ اللَّهُ أجب عنهم بذلك إذ لا جواب لهم سواه، ولأنه البين الذي لا يمكن المراء فيه أو لقنهم الجواب به. قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ ثم ألزمهم بذلك لأن اتخاذهم منكر بعيد عن مقتضى العقل. أَوْلِياءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا لا يقدرون على أن يجلبوا إليها نفعاً أو يدفعوا عنها ضراً فكيف يستطيعون إنفاع الغير ودفع الضر عنه، وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن يشفعوا لهم. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ المشرك(3/184)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
الجاهل بحقيقة العبادة والموجب لها والموحد العالم بذلك. وقيل المعبود الغافل عنكم والمعبود المطلع على أحوالكم. أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ الشرك والتوحيد. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالياء. أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ بل أجعلوا والهمزة للإنكار وقوله: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صفة لشركاء داخلة في حكم الإِنكار.
فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ خلق الله وخلقهم، والمعنى أنهم ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلاً عما يقدر عليه الخالق. قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي لا خالق غيره فيشاركه في العبادة، جعل الخلق موجب العبادة ولازم استحقاقها ثم نفاه عمن سواه ليدل على قوله: وَهُوَ الْواحِدُ المتوحد بالألوهية. الْقَهَّارُ الغالب على كل شيء.
[سورة الرعد (13) : آية 17]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17)
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء من السحاب أو من جانب السماء أو من السماء نفسها فإن المبادئ منها.
فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ أنهار جمع واد وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه، واستعمل للماء الجاري فيه وتنكيرها لأن المطر يأتي على تناوب بين البقاع. بِقَدَرِها بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضار أو بمقدارها في الصغر والكبر. فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رفعه والزبد وضر الغليان. رابِياً عالياً. وَمِمَّا توقدون عَلَيْهِ فِى النار يعم الفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس على وجه التهاون بها إظهاراً لكبريائه.
ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أي طلب حلى. أَوْ مَتاعٍ كالأواني وآلات الحرب والحرث، والمقصود من ذلك بيان منافعها. زَبَدٌ مِثْلُهُ أي ومما يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء وهو خبثه، ومِنَ للابتداء أو للتبعيض وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء على أن الضمير للناس وإضماره للعلم به. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ مثل الحق والباطل فإنه مثل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة فينتفع به أنواع المنافع، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار، وبالفلز الذي ينتفع به في صوغ الحلى واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة، والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وبين ذلك بقوله: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يجفأ به أي يرمي به السبيل والفلز المذاب وانتصابه على الحال وقرئ جفالاً والمعنى واحد. وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ كالماء وخلاصة الفلز. فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ينتفع به أهلها. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لا لايضاح المشتبهات.
[سورة الرعد (13) : آية 18]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا للمؤمنين الذين استجابوا. لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى الإستجابة الحسنى. وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وهم الكفرة واللام متعلقة بيضرب على أنه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما.
وقيل للذين استجابوا خبر الحسنى وهي المثوبة أو الجنة والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره. لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ وهو على الأول كلام مبتدأ لبيان مآل غير المستجيبين. أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وهو المناقشة فيه بأن يحاسب الرجل بذنبه لا يغفر منه شيء. وَمَأْواهُمْ مرجعهم. جَهَنَّمُ وَبِئْسَ(3/185)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
الْمِهادُ
المستقر والمخصوص بالذم محذوف.
[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 20]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ فيستجيب. كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب لا يستبصر فيستجيب، والهمزة لإِنكار أن تقع شبهة في تشابههما بعد ما ضرب من المثل. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ذوو العقول المبرأة عن مشايعة الألف ومعارضة الوهم.
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا بلى، أو ما عهد الله تعالى عليهم في كتبه. وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ما وثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد وهو تعميم بعد تخصيص.
[سورة الرعد (13) : الآيات 21 الى 22]
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الرحم وموالاة المؤمنين والإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويندرج في ذلك مراعاة جميع حقوق الناس. وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وعيده عموماً. وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ خصوصاً فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
وَالَّذِينَ صَبَرُوا على ما تكرهه النفس ويخالفه الهوى. ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ طلباً لرضاه لا لجزاء وسمعة ونحوهما. وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة. وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ بعضه الذي وجب عليهم إنفاقه.
سِرًّا لمن لم يعرف بالمال. وَعَلانِيَةً لمن عرف به. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ويدفعونها بها فيجازون الإِساءة بالإِحسان، أو يتبعون السيئة الحسنة فتمحوها. أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أهلها وهي الجنة، والجملة خبر الموصولات إن رفعت بالابتداء وإن جعلت صفات لأولي الألباب فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات.
[سورة الرعد (13) : الآيات 23 الى 24]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عُقْبَى الدَّارِ أو مبتدأ خبره يَدْخُلُونَها والعدن الإِقامة أي جنات يقيمون فيها، وقيل هو بطنان الجنة. وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على المرفوع في يدخلون، وإنما ساغ للفصل بالضمير الآخر أو مفعول معه والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعاً لهم وتعظيماً لشأنهم، وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة أو أن الموصوفين بتلك الصفات يقرن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في أنسهم، وفي التقييد بالصلاح دلالة على أن مجرد الأنساب لا تنفع. وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوح والتحف قائلين.
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بشارة بدوام السلامة. بِما صَبَرْتُمْ متعلق ب عَلَيْكُمْ أو بمحذوف أي هذا بما صبرتم لا ب سَلامٌ، فإن الخبر فاصل والباء للسببية أو للبدلية. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وقرئ «فَنِعْمَ» بفتح(3/186)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
النون والأصل نعم فسكن العين بنقل كسرتها إلى الفاء وبغيره.
[سورة الرعد (13) : آية 25]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ يعني مقابلي الأولين. مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ من بعد ما أوثقوه به من الإقرار والقبول. وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالظلم وتهييج الفتن. أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ عذاب جهنم أو سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة عُقْبَى الدَّارِ.
[سورة الرعد (13) : آية 26]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يوسعه ويضيقه. وَفَرِحُوا أي أهل مكة. بِالْحَياةِ الدُّنْيا بما بسط لهم في الدنيا. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ أي في جنب الآخرة. إِلَّا مَتاعٌ إلا متعة لا تدوم كعجالة الراكب وزاد الراعي، والمعنى أنهم أشروا بما نالوا من الدنيا ولم يصرفوه فيما يستوجبون به نعيم الآخرة واغتروا بما هو في جنبه نزر قليل النفع سريع الزوال.
[سورة الرعد (13) : الآيات 27 الى 29]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات. وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أقبل إلى الحق ورجَع عن العناد، وهو جواب يجري مجرى التعجب من قولهم كأنه قال قل لهم ما أعظم عنادكم إن الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ ممن كان على صفتكم، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية، ويهدي إليه من أناب بما جئت به بل بأدنى منه من الآيات.
الَّذِينَ آمَنُوا بدل من مِنْ أو خبر مبتدأ محذوف. وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أنساً به واعتماداً عليه ورجاء منه، أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته، أو بذكر دلائله الدالة على وجوده ووحدانيته أو بكلامه يعني القرآن الذي هو أقوى المعجزات. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ تسكن إليه.
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مبتدأ خبره طُوبى لَهُمْ وهو فعلى من الطيب قلبت ياؤه واواً لضمة ما قبلها مصدر لطاب كبشرى وزلفى، ويجوز فيه الرفع والنصب ولذلك قرئ وَحُسْنُ مَآبٍ بالنصب.
[سورة الرعد (13) : آية 30]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30)
كَذلِكَ مثل ذلك يعني إرسال الرسل قبلك. أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها تقدمتها. أُمَمٌ أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إليهم. لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لتقرأ عليهم الكتاب الذي أوحيناه إليك. وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ وحالهم أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته ووسعت كل شيء رحمته، فلم يشكروا نعمه وخصوصاً ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم، وإنزال القرآن الذي هو مناط المنافع الدينية والدنياوية عليهم. وقيل نزلت في مشركي أهل مكة حين قيل لهم اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ. قُلْ هُوَ رَبِّي أي الرحمن خالقي ومتولي أمري. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ لا مستحق للعبادة سواه.(3/187)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي عليكم. وَإِلَيْهِ مَتابِ مرجعي ومرجعكم.
[سورة الرعد (13) : آية 31]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ شرط حذف جوابه والمراد منه تعظيم شأن القرآن، أو المبالغة في عناد الكفرة وتصميمهم أي: ولو أن كتاباً زعزعت به الجبال عن مقارها. أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ تصدعت من خشية الله عند قراءته أو شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً. أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتسمع فتقرؤه، أو فتسمع وتجيب عند قراءته لكان هذا القرآن لأنه الغاية في الإِعجاز والنهاية في التذكير والإِنذار، أو لما آمنوا به كقوله: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الآية. وقيل أن قريشاً قالوا يا محمد إن سرك أن نتبعك فسير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها بساتين وقطائع، أو سخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام، أو ابعث لنا به قصي ابن كلاب وغيره من آبائنا ليكلمونا فيك، فنزلت. وعلى هذا فتقطيع الأرض قطعها بالسير. وقيل الجواب مقدم وهو قوله: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ وما بينهما اعتراض وتذكير كُلِّمَ خاصة لاشتمال الموتى على المذكر الحقيقي. بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً بل لله القدرة على كل شيءٍ وهو إضراب عما تضمنته لَوْ من معنى النفي أي: بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك، لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم ويؤيد ذلك قوله: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم، وذهب أكثرهم إلى أن معناه أفلم يعلم لما
روي أن علياً وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين قرءوا «أفلم يتبين» ،
وهو تفسيره وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم لأنه مسبب عن العلم، فإن الميئوس عنه لا يكون إلا معلوماً ولذلك علقه بقوله: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً فإن معناه نفي هدى بعض الناس لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم، وهو على الأول متعلق بمحذوف تقديره أفلم ييأس الذين آمنوا عن إيمانهم علماً منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا أو ب آمَنُوا. وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من الكفر وسوء الأعمال. قارِعَةٌ داهية تقرعهم وتقلقلهم. أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها. وقيل الآية في كفار مكة فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا يزال يبعث السرايا عليهم فتغير حواليهم وتختطف مواشيهم، وعلى هذا يجوز أن يكون تحل خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام فإنه حل بجيشه قريباً من دارهم عام الحديبية. حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ الموت أو القيامة أو فتح مكة. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ لامتناع الكذب في كلامه.
[سورة الرعد (13) : آية 32]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ووعيد للمستهزئين به والمقترحين عليه، والإملاء أن يترك ملاوة من الزمان في دعة وأمن. ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي إياهم.
[سورة الرعد (13) : الآيات 33 الى 34]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لاَ يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)(3/188)