مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
في الآية فهم الذين صدقوا، ولا يدل ذلك على وجوب اتباع إجماعهم، إلا إذا بان بالدليل صدقهم فيه.
قوله تعالى: (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ) ، الآية/ 120.
بيّن في هذه الآية وجوب الخروج على أهل المدينة مع رسول الله في غزواته، إلا المعذورين ومن أرخص له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القعود.
وقال الله عز وجل: (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) ، الآية/ 120.
أي لا يطلبون المنفعة بتوقية أنفسهم دون نفسه، بل كان الواجب عليهم أن يوقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأنفسهم، وقد كان من المهاجرين والأنصار من يفدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، ويبذل نفسه للقتل، ليبقى بذلك رسول الله.
وقال تعالى: (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) ، الآية/ 120.
استدل به قوم على أن وطء ديارهم إذا جعل بمنزلة النيل من الكفار، وأخذ أموالهم، وإخراجهم من ديارهم- وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم- فهو بمنزلة نيل الغنيمة، ولذلك قال علي: ما وطئ قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا.
قوله تعالى: (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، الآية/ 122.
روي عن ابن عباس أنه نسخ بقوله تعالى: (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا)(4/220)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
فقال تعالى: مالهم أن يتفرقوا في السرايا ويتركوا النبي عليه السلام في المدينة وحده ولكن تبقى بقية لتنفعه، ثم ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
وقال الحسن: لتتفقه الطائفة النافرة، ثم تنذر إذا رجعت إلى قومها.
وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية.
قال الله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ، الآية/ 122.
فظاهر الكلام يقتضي أن تكون الطائفة النافرة هي التي تتفقه وتنذر قومها.
وفي الآية دلالة على وجوب طلب العلم، وأنه من فروض الكفاية في بعض المعلومات، وفرض عين في بعض.
وفيه دلالة على لزوم قبول خبر الواحد في أمور الديانات التي لا يجب على الكل معرفتها، ولا تعم الحاجة إليها.
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) ، الآية/ 123.
وقال في موضع آخر.
(قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) «1» .
وأوجب قتال جميع الكفار في وقت واحد، وإن الممكن فيه قتال طائفة، وكان من قرب منهم أولى وأقرب إلى الجرم، وليس ذلك نافيا لقوله:
(قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) فإنه إذا قال: (الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) ، فإذا فرغ منهم وصارت الديار للإسلام فالذي يليهم بمثابته، حتى يستوعب الكفار.
فهذا تمام ما أردنا بيانه في هذه السورة.
__________
(1) سورة التوبة آية 36.(4/221)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة يونس
قوله تعالى: (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) ، الآية/ 15.
يستدل به في منع نسخ الكتاب بالسنة «1» ، لأنه تعالى قال: (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) ، الآية/ 15.
وهذا بعيد، فإن الآية وردت في طلب المشركين مثل القرآن نظما، ولم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام قادرا عليه، ولم يسألوه تبديل الحكم دون اللفظ، ولأن الذي يقوله الرسول عليه الصلاة والسلام، إذا كان وحيا لم يكن من تلقاء نفسه، بل كان من الله تعالى.
قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) ، الآية/ 59.
يستدل به في القياس وهو بعيد، فإن القياس دليل الله تعالى، فيكون التحريم والتحليل من الله، عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم،
__________
(1) أنظر السيوطي في الإكليل.(4/223)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
فإن خالف في أن القياس دليل الله تعالى، فهو خروج عن هذا الغرض ورجوع إلى غيره.
قوله تعالى: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) ، الآية/ 87.
قال ابن عباس: كانوا خائفين من الظهور، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبلة، فيصلوا في بيوتهم، وفيه دليل على أن الصلاة في المسجد أفضل إلا لعذر.(4/224)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة هود
قوله تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) ، الآية/ 15.
معناه معنى قوله: إنما الأعمال بالنيات، الحديث «1» .
ويدل ذلك على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، ويدل على أن من توضأ للتبرد والتنظف لا يقع قربة عن جهة الصلاة.
وقوله تعالى: (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ، الآية/ 45.
سمى ابنه من أهله، وهذا يدل على أن من أوصى لأهله دخل تحته ابنه، ومن تضمنه منزله وهو في عياله، فدل قول نوح على ذلك، وقال تعالى في آية أخرى:
(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ، وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) «2» .
__________
(1) أخرجه الامام البخاري والامام مسلم في صحيحيهما.
(2) سورة الصافات آية 75- 76.(4/225)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
فسمى جميع من تضمنه منزله من أهله.
وقوله عليه السلام ان ابني من أهلي: الذين وعدتني أن تنجيهم، فأخبر الله تعالى أنه ليس من أهلك الذي وعدت أن أنجيهم.
وقد قيل: إنه لم يكن ابنه حقيقة، وظاهر القرآن يدل على خلافه «1» .
وفيه دليل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من النسب.
قوله تعالى: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) ، الآية/ 61.
يدل على وجوب عمارة الأرض، فإن الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى للوجوب.
قوله: (قالُوا سَلاماً) ، الآية/ 69.
يدل على أن السلام الذي هو تحية الإسلام، كان تحية الملائكة «2» .
قوله تعالى: (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) ، الآية/ 70.
ثم ساق الكلام، إلى أن قال: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) ، الآية/ 74- حين قالوا: (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) ، الآية 70، لنهلكهم.
وقوله: (قالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً- قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) «3» :
وذلك يحتج به من يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، لأن الملائكة أخبرت إبراهيم أنها تهلك قوم لوط، ولم تبين المنجين منهم، ومع ذلك إبراهيم عليه السلام جادلهم وقال: أتهلكونهم وفيهم كذا وكذا من المسلمين،
__________
(1) أنظر ما ذكره الامام الفخر الرازي حول هذه المسألة.
(2) أنظر تفسير الفخر، وابن كثير، والطبري لسورة هود آية 69
(3) سورة العنكبوت آية 32.(4/226)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
وتعرف منهم أمر العذاب، وأنه عذاب واقع بهم لا محالة، أم يعفى عنهم إذا رجعوا؟ وهذا دلالة لا محالة على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وهو بين حسن.
قوله تعالى: (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) ، الآية/ 87.
يستدل به على أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد قيل: الصلاة هاهنا الدين، فيستدل به على أن الصلاة تطلق بمعنى الدين «1» .
قوله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) ، الآية/ 113.
يدل على النهي عن مجالس الظالمين ومؤانستهم، والإنصات إليهم، وهو مثل قوله تعالى: (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) «2» .
قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) ، الآية/ 114.
عنى بطرفي النهار على قول ابن عباس: الفجر، والعصر، وعنى بقوله: زلفا من الليل المغرب والعشاء.
__________
(1) أنظر تفصيل هذا في تفسير الفخر الرازي ج 18 ص 43.
(2) سورة الأنعام آية 68.(4/227)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة يوسف
قوله تعالى: (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) ، الآية/ 5.
وذلك يدل على جواز ترك إظهار النعمة، عند من يخشى غائلته حسدا وكيدا.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: استعينوا على حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود «1» .
قوله تعالى: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) الآية/ 18.
يدل صدر الآية:
على جواز الحكم بالعلامة، فإنه لما رأى القميص صحيحا قال: يا بني، ما عهدت والله الذئب حليما.
وقوله: فصبر جميل، يدل على أن من أدب الدين حسن الصبر والعزاء، وترك الشكوى، وهو مثل قوله تعالى:
__________
(1) أخرجه الطبراني وذكره ابن الجوزي في الموضوعات.(4/229)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) «1» .
قوله تعالى: (وَأَسَرُّوهُ «2» بِضاعَةً) ، الآية/ 19.
قال ابن عباس: أسرّه إخوته وكتموا أنه أخوهم، وبايعهم يوسف على ذلك الكتمان لئلا يقتلوه.
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما، أنه قضى في اللقيط أنه حر،
وقرأ:
(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) ، الآية/ 20.
وروى الزهري عن سفيان بن أبي جميل قال: وجدت منبوذا على عهد عمر، فقال رحمه الله: عسى الغوير أبؤسا، فقيل إنه لا يتهم، فقال: هو ذاك ولاه أبي ولايته إذ هو حر الأصل في الظاهر.
ومعنى قوله لعل الغوير أبؤسا: الغوير تصغير غار، وهو مثل:- معناه: عسى أن يكون البائس جاء من قبل الغار، فإنهم غمزوا الرجل.
وقال: عسى أن يكون الأمر جاء من قبلك في هذا الصبي اللقيط، وأن يكون من مغالك، فلما شهد وآله بالستر، أمره بإمساكه، وقال ولاؤه لك، أي إمساكه والولاية عليه.
قوله تعالى: (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) ، الآية/ 20:
قيل إن إخوته كانوا في الثمن من الزاهدين، فإن ما كان من أبيهم ألا يغيبوه عن وجه أبيه.
__________
(1) سورة البقرة آية 156
(2) أسروه: أخفوه. [.....](4/230)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
وقوله تعالى: (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) ، الآية/ 21.
روى ابن عباس أنه صبي في المهد.
وروى أيضا أنه رجل، ومن الناس من يحتج بذلك في الحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع، حتى قال مالك في اللصوص:
إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها وليست لهم بينة، أن السلطان يتلوم في ذلك، فإن جاء غيرهم يطلبها، وإلا دفعها إليهم.
وقال أبو حنيفة ومحمد في متاع البيت: إذا اختلف فيه الرجل والمرأة فهو للرجل.
ولا يحكم في كثير من المواضع بمثله، فإنه لو تنازع عطار وسقاء قربة وهما متعلقان بها، فهي بينهما، ولأن الأشبه في حديث يوسف، والعلامة أن ذلك كان آية من جهة الله تعالى، وإلا فما يدريهم أن امرأة ورجلا إذا تداعيا أمرا بينهما، فيكون قد قدّ قميص أحدهما أو قميصها، أو من الممكن أن يقال إن الرجل هم بها فطلبته ممتعضة وقدت قميصه من دبر، وليس في ذلك دلالة إلا من جهة خرق الله عز وجل العادة، بانطلاق الصبي في المهد.
وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في حكومات، وأصل ذلك على هذه الآية، ولعل ذلك فيما طريقه التهمة، لا على سبيل بت الحكم، وقد يستحي الإنسان إذا ظهر مثل هذا منه للإقامة على الدعوى فيقر، فيحكم عليه بالإقرار.
قوله تعالى: (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ، الآية/ 44.
وقد كانت الرؤيا صحيحة، ولم تكن أضغاث أحلام، فإن يوسف عليه السلام عبرها على سني الخصب والجدب.(4/231)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
وهذا يبطل قول من يقول: إن الرؤيا على أول ما تعبر، فإن الأقوام قالوا أضغاث أحلام، ولم تقع كذلك.
ويدل على فساد الرواية: أن الرؤيا على رجل طائر، فإذا عبرت وقعت.
قوله تعالى: (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) ، الآية/ 50.
يدل على ثبات النفس والصبر، وطلب براءة الساحة، ليكون أجل في صدره عند حضوره، وأقرب إلى أن يقبل منه ما دعاه إليه من التوحيد.
الأمّارة: الكثيرة الأمر بالشيء، والنفس بهذه الصفة، لكثرة ما يشتبه، وتنازع إليه مما يقع الفعل من أجله.
قوله تعالى: (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ، الآية/ 55:
وصف نفسه بالعلم والحفظ، فدل ذلك أنه جائز أن يصف الإنسان نفسه بالفضل عند من لا يعرفه، وأنه ليس من المحظور تزكية النفس لقوله: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) «1» .
قوله تعالى: (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) ، الآية/ 67:
ذهب به إلى حرف العين «2» .
قوله تعالى: (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) ، الآية/ 72:
أصل في الجعالة، مثل أن يقول: من ردّ إليّ عبدي الآبق فله كذا.
__________
(1) سورة النجم آية 32.
(2) أنظر تفسير القاسمي.(4/232)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
فقوله تعالى: (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) ، ظن ظانون أن ذلك كفالة، وليس بكفالة إنسان عن إنسان، وإنما كفل بذلك عن نفسه، وضمنه نعم هو جعاله.
قوله تعالى: (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) ، الآية/ 76.
دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه من العظة والصلاح، واستخراج الحقوق، ومثله قوله تعالى:
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) «1» .
وحديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر والذي أهداه من التمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما قاله في ذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام لهند: «خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك ووهدك بالمعروف» «2» .
وكان إذا أراد سفرا ورّى بغيره.
وأرسلت بنو قريظة إلى أبي سفيان، أن ائتونا فإنا نستعين على بيضة المسلمين من ورائهم، فسمع ذلك نعيم بن مسعود، وكان موادعا للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان عند عينيه حين أرسلت بذلك بنو قريظة إلى الأحزاب، أبي سفيان بن حرب وأصحابه، فأقبل نعيم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبره خبرها وما أرسلت به بنو قريظة إلى الأحزاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلنا أمرناهم بذلك، فقام نعيم بكلمة رسول الله من عند رسول الله، وكان نعيم رجلا لا يكتم الحديث، قال: فلما ولى من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذاهبا إلى غطفان، فقال عمر: يا رسول الله، ما هذا الذي
__________
(1) سورة ص آية 44.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده، والطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في الشعب.(4/233)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
قلت؟ إن كان أمر من الله تعالى فامضه، وإن كان هذا رأيا رأيته من قبل نفسك، فإن شأن بني قريظة أهون من أن تقول شيء يؤثر عنك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:
إن هذا رأي، إن الحرب خدعة.
وعن عمر أنه قال: إن لفي معاريض الكلام لمندوحة عن الكذب.
وقال ابن عباس: ما سرني بمعاريض الكلام حمر النعم.
وقال إبراهيم حين سئل عن سارة من هي؟ فقال هي أختي، لئلا يأخذوها، وإنما أراد به أختي في الدين «1» .
وقال إبراهيم حين تخلف ليكسر آلهتهم: إني سقيم، معناه إني سأسقم يعني أموت، كما قال تعالى إنك ميت، فعارض عن كلام مبهم سألوه عنه إلى غيره على وجه لا يلحقه في ذلك كذب «2» .
قوله تعالى: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) ، الآية/ 88.
وقال: ألا ترون أني أوف الكيل.
هذا مما يحتج به في أجرة الكيال والوزن أنها على البائع، فإنه إذا كان عليه أن يوف الكيل فيتعين عليه أن يقوم بمئونة ما يجب عليه «3» .
__________
(1) أنظر قصص الأنبياء لابن كثير، ودلائل النبوة للبيهقي.
(2) أنظر محاسن التأويل في توضيح ذلك.
(3) أنظر أيضا محاسن التأويل للقاسمي.(4/234)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الرعد
قوله تعالى: (اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) ، الآية/ 8.
قال قائلون: فيه دلالة على ظهور الحيض في أيام الحمل، وهو المراد بقوله:
(وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) ، فلا جرم قال قائلون: إن الحامل تحيض، تعلقا بهذا الظاهر.
وقال بعضهم: لا تحيض.
وقال آخرون: المراد به السقط، فإنه من غيض الأرحام حقيقة.
وقال بعضهم: هو نقصان مدة الحمل، حتى يقابله قوله: (وَما تَزْدادُ) ، يعني في مدة الوضع، فجعلوا الغيض في ستة أشهر، وما تزداد: ما يزيد على ذلك.
ويحتمل أن يكون معناه أن الله تعالى يعلم حمل كل أنثى، ويعلم ما تغيض الأرحام، وفي الدم والحيض في غير حال الحمل، وما تزداد بعد(4/235)
غيضها من ذلك، حتى يجتمع في رحمها الدم، وذلك لا يعلمه إلا الله تعالى، فعلى هذا لا يدل ظاهر الآية على أن الحامل تحيض، إلا أن يقال إنه عام، فإذا بين الله تعالى في الأرحام أنها تغيض بالدم، فيجب أن يكون حيضا، لأن الحيض هو الذي تساقط عن الرحم، والاستحاضة دم عرق لا من الرحم «1» .
__________
(1) أنظر الفخر الرازي في توضيح هذه الآية.(4/236)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة ابراهيم
قوله تعالى: (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) ، الآية/ 25.
روي عن ابن عباس أنه قال: غدوة وعشية، ولعله أخذ ذلك من قوله تعالى: (فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) «1» .
وعن ابن عباس رواية أخرى أنه قال: هي النخلة تطعم في كل ستة أشهر «2» .
وعن علي أنه قال: الحين سنة.
وقال ابن المسيب «3» : الحين شهران من حين تصرم النخل إلى حين تطلع.
وروي عنه أنه قال: النخلة لا يكون فيها أكلها إلا شهران.
وقال تعالى: (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) «4» ، وعنى به ثلاث عشرة سنة.
__________
(1) سورة الروم آية 17
(2) أنظر تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، وتفسير الطبري، وتفسير ابن كثير.
(3) هو سعيد بن المسيب، سيد التابعين.
(4) سورة يوسف آية 35.(4/237)
وقال تعالى: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) «1» : يوم القيامة.
وعن عكرمة أن رجلا قال: إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر، فأتى إلى عمر بن عبد العزيز فسأله عن ذلك، فسألني عنها فقلت:
إن من الحين حين لا يدرك.
قوله تعالى: (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) «2» .
فأرى أن يمسك ما بين صرام النخل إلى حملها، فأعجبه ذلك.
وبالجملة: للحين مصارف، ولم ير للشافعي تعيين مصرف من هذه المصارف، لأنه لم يوضع في اللغة لمعنى معين، والذي ذكره أبو حنيفه من تقييد الحين في الحلف بستة أشهر اتباعا لعكرمة تحكم، وتخصيصه بإدراك النخل لا مأخذ له فلا معنى لاعتباره.
__________
(1) سورة ص آية 88.
(2) سورة الأنبياء آية 111 [.....](4/238)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الحجر
قوله تعالى: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) ، الآية/ 72.
قال المفسرون: معناه: حياتك، فقوله: لعمرك: لغة.
وكره قوم أن يحلفوا بغير الله تعالى، وورد فيه خبر، وإن لم يقو إسناده «1» وكرهوا أيضا أن يقول: وحق الكعبة، وحق الرسول صلّى الله عليه وسلم، فهذا ما فيه من الحكم «2» .
__________
(1) والخبر الذي ورد في هذا المعنى، هو قوله صلى الله عليه وسلم:
«من كان منكم حالفا، فليحلف بالله أو ليذر» .
(2) أنظر تفسير القرطبي.(4/239)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة النحل
قوله تعالى: (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ) ، الآية/ 5.
قال ابن عباس: الدفء اللباس.
وقال الحسن: الدفء ما استدفئ به من أصوافها، وأوبارها وأشعارها.
واستدل به قوم على جواز الانتفاع بها في حالة حياة الحيوان وموته.
وليس ذلك بصحيح، فإنه تعالى قال: (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ) .
فبين أن منها ما أكلنا «1» ، فدل ذلك على إباحة هذه الثلاثة بشرط الزكاة «2» .
ثم بين تعالى بقوله: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) ، الآية/ 8، عظيم منة علينا.
__________
(1) في نسخة: مأكلنا.
(2) أي الذبح وذكر أسم الله عليها.(4/241)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
وذكر ذاكرون من أصحاب أبي حنيفة، أن في الآية دليل على تحريم لحومها، فيقولون:
في الأنعام ذكر الله تعالى في الكتاب، أنها للأكل، وفي البغال والحمير أنها للركوب والزينة، وذكروا في تحقيق ذلك أن الله تعالى ذكر في الأنعام منافع الركوب، وحمل الأثقال إلى البلاد، وذكر الجمال بها حين تريحون وحين تسرحون، فنبه على المنافع الأصلية، والنادرة، كالأكل والركوب على الأنعام، فلو كانت الخيل مأكولة لذكره.
ويجاب عنه، بأن الله تعالى لم يذكر ذلك، لأنه لا يعد للأكل عرفا، وإنما يؤكل إذا أصابته زمانه، ونقصت قيمته، فلم يذكر الأكل بما فيه من نقصان وخسران. بخلاف الأنعام التي منها الأكل، وأن حمل الأثقال عليها هو المقصود.
قوله تعالى: (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) ، الآية/ 14.
يحتج به أبو يوسف «1» ومحمد والشافعي، فيمن حلف لا يلبس حليا فلبس لؤلؤا، أنه يحنث لتسمية الله تعالى إياه حليا «2» .
وأبو حنيفة لا يرى ذلك، لأن الحلي إذا أطلق لا يفهم منه اللؤلؤ، وذلك مكابرة منه.
قوله تعالى: (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) ، الآية/ 67.
يدل على أن ذلك من الآيات التي يجب الإعتبار بها، لأنه عطف على ما تقدم.
__________
(1) من أصحاب الامام أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين
(2) أنظر السيوطي في الإكليل.(4/242)
وفيه بيان عظيم نعم الله تعالى لهذين الجنسين، والأمر ظاهر في مزيتهما، لكثرة وجوه الانتفاع بهما، بخلاف سائر الثمرات، فلذلك خصهما بالذكر.
فأمّا السكر ففيه أقوال:
قال الحسن: هو المسكر من الشراب.
وقال الأصم: أن السّكر، كل ما حرمه الله تعالى من ثمرهما، والرزق الحسن ما أحله الله.
وقال الحسن: هو الشراب المستلذ وإن لم يسكر، والرزق الحسن:
الرطب والعنب وما يتفرع عنهما.
والأقرب إلى الظاهر، هو ما يتخذ من الرطب والعنب، وما يتخذ من التين غيره، ويدخل فيما يتخذ منها السكر، وهو الشراب الذي يسكر، لأن ذلك هو مقتضى الآية، ويدخل في قوله رزقا حسنا، ما يتخذ منهما من خل وزبيب وغيره، مما يؤكل في الطعام الطيب وكل ذلك نعمة منه.
والأقرب أن تحريم الخمر بعد ذلك.
ووجب الاعتبار بثمرات النخيل والأعناب، فأظهر ما ذكره في اللبن في قوله: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) «1» ، لأن ظهور الرطب والعنب من ذلك الرطب اليابس على اختلاف طعومهما، وذلك من أدل الدلائل على توحيد الله تعالى، ولذلك قال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) «2» ، الآية/ 6.
__________
(1) سورة النحل آية 66.
(2) أنظر محاسن التأويل.(4/243)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) الآية/ 75.
ذكر إسماعيل بن اسحق، أن المراد به عبد نفسه، وليس المراد عبدا للعباد، ويجوز أن يكون عبد الله.
وهذا بعيد، والظاهر أنه أي عبد كان.
واحتج به قوم في أنه لا يملك بالتمليك، فإنه لو ملك لقدر على شيء، وقد قال تعالى: (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) .
ويمكن أن يجاب عنه، أن المراد به أنه إذا تصرف لا يمكنه أن يتصرف إلا بإذن غيره، كما يقال ذلك فيمن لا يملك أصلا، وإلا فهذا اللفظ لا يدل على نفي ملك الطلاق، ونفي ملك النكاح، فهذا ما يدل عليه الظاهر دون ما سواه، ولذلك عقبه بقوله: (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ) ، فأبان بذلك أن نقيض هذا المعنى في العبد، عدم استقلاله بالإنفاق سرا وجهرا.
وقال الأصم: المراد به، المملوك الذي ربما يكون أشد من مولاه «1» أسرا وأنضر وجها، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه، فقال الله تعالى ضربا للمثل: فإذا كان هذا شأنكم وشأن عبيدكم، فكيف جعلتم أحجارا أمواتا شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته، وهي لا تسمع ولا تعقل؟
وهذا القول أولى بالظاهر، لأن العبد المملوك لا يكون جمادا، ولا يقال في الجماد لا يقدر على شيء، وهو بالصفة التي معها لا يجوز أن يقدر، فار حاجة والحالة هذه إلى صرفه عن ظاهره، فبين تعالى أن هذا العبد إذا لم يساوي من رزقناه رزقا حسنا، فهو ينفق منه سرا وجهرا مع اشتراكهما
__________
(1) أنظر تفسير الدر المنثور للسيوطي.(4/244)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
في الحيوانية والقدرة والآلة، فكيف يجوز التسوية بين الأصنام التي لا يتأتى منها ضرر ولا نفع، وبين مالك الأمر والخلق.
وإسماعيل بن اسحق روى عن ابن عباس، أن الآية واردة في رجل من قريش وعبده أسلما، وإنه كان مولى لعثمان يكفله وينفق عليه، ولذلك ذكر في الأبكم أنه لا يقدر على شيء كما ذكره في العبد، ثم لا يدل ذلك على أنه لا يملك «1» .
قوله تعالى: (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) ، الآية/ 98.
وقد روى جبير بن مطعم عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين افتتح الصلاة قال:
«اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفثه ونفخه» «2» .
وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة.
وقال مالك: لا يتعوذ في المكتوبة قبل القراءة، ويتعوذ في قيام رمضان إذا قرأ.
ونقل عن بعض السلف، التعوذ بعد القراءة مطلقا، احتجاجا بقوله تعالى: (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) .
ولا شك في أن ظاهر ذلك، يقتضى أن تكون الاستعاذة بعد القراءة كقوله تعالى: (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً) «3» ،
__________
(1) أنظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة، والبيهقي في سننه، عن جبير بن مطعم.. الحديث
(3) سورة النساء آية 103.(4/245)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
إلا أن غيره محتمل مثل قوله: (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)
«1» .
وقوله: (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) «2» .
ليس المراد به أن يسألا من وراء حجاب بعد سؤال متقدم، ومثله قول القائل:
فإذا قلت فأصدق وإذا أحرمت فاغتسل.
يعني فاغتسل قبل الإحرام.
والمعنى في جميع ذلك: إذا أردت ذلك، كذلك، والاستعاذة قبل القراءة لنفي وساوس الشيطان لعنه الله قبل القراءة.
قال الله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ) «3» .
قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، الآية/ 106.
وذلك يدل على أن حكم الردة لا يلزمه، غير أنه إن أمكنه أن يوري فيجب عليه أن يفعل وإلا كفر، ولو صبر حتى قتل شهيدا كان أعظم لأجره، وذلك يدل على أنه عند الإكراه قبيح أيضا، غير أن المشرع غفر له لما يدفع به عن نفسه من الضرر، ولو لم يكن قبيحا في نفسه، لوجب عليه أن يأتي به.
واستدل به أصحاب الشافعي على نفي وقوع طلاق المكره وعتاقه،
__________
(1) سورة الأنعام آية 152
(2) سورة الأحزاب آية 53. [.....]
(3) سورة الحج آية 52.(4/246)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
وكل قول حمل عليه بباطل، نظرا لما فيه من حفظ حقه عليه، كما امتنع الحكم بنفوذ ردته حفظا على دينه، وإذا أكره على الزنا فلا يباح له الزنا، ولا يباح له القتل بالإكراه، فلولا الرخصة أمكن في الردة مثله، فكأن الذي يتلفظ بكلمة الردة مراده دفع الضرر، فليس يطلق على ما يأتي به الكفر، وما أراد الكفر لمعناه، وإنما أراد به دفع الضرر «1» .
قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) ، الآية/ 123.
إيجاب إتباع ملته، وقد بينا ذلك في أصول الفقه «2» .
قوله تعالى: (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) ، الآية/ 126.
وذلك يدل على المماثلة في القصاص، وعلى وجوب المثل في المثليات، والقيم العادية في المقومات، وقد وردت الآية في الكفار يوم أحد، حيث مثلوا ببعض القتلى، كحمزة بن عبد المطلب وغيره، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يمثل بسبعين من المشركين بدله، فنزل قوله تعالى:
(وَإِنْ عاقَبْتُمْ) الآية، وأبان أن الصبر أولى، ودل به على أن للولي الحق على غيره، وهو أن يعفو «3» .
__________
(1) أنظر تفسير القاسمي.
(2) أنظر تفسير القاسمي.
(3) أنظر ابن عربي.(4/247)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الإسراء
قوله عز وجل: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) ، الآية/ 15.
يدل على صحة قول أهل الحق في أنه لا تكليف قبل السمع، وأنه لا وجوب قبل إرسال الرسل، ولا يقبح ولا يحسن بالعقل، خلافا لمن عدا أهل الحق، في كون العقل طريقا إلى معرفة وجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإباحة المباحات، ثم الأكثرون منهم على أنه يجوز أن يقتصر ببعض المكلفين على دليل العقل دون السمع، إذا كانت مصلحته فيما دل عليه العقل، وأنه يقع في علم الله أنه ينهض بما كلفه دليل العقل، والغرض بالشرائع المصلحة، وإذا كان المعلوم من حال بعضهم نهوضه بالتكاليف العقلية تلقيا من دليل العقل، لم يكن لإرسال الرسل إليهم فائدة، وإنما يرسل الله تعالى عندهم الرسول إلى من وقع في المعلوم أن تمسك المتمسك بالشريعة داعي إلى المصلحة في التكاليف العقلية، فيرسل الرسول إليه بأمور سمعية يعلم الله تعالى كونها داعية إلى المستحسنات العقلية، ويحرم عليه من السمعيات ما يعلم كونه داعيا إلى المستقبحات العقلية.(4/249)
فإذا لم يقع في المعلوم كون فعل من الأفعال داعيا إلى الواجب العقلي، ولا ناهيا عن القبيح العقلي، لم يكن للإرسال فائدة، وليس يجب أن يعلم الله تعالى ذلك من أحوال المكلفين جملة، وربما علم من أحوال بعضهم، فيجب إرسال الرسول إليه، وربما لا يعلم ذلك، فلا يجب إرسال الرسول إليه.
وفيهم من يقول: يجب على الله تعالى إرسال الرسل، لأن ذلك أقرب إلى مظاهرة الحجة وأقوى في معنى اللطف.
وهذا الإخفاء ببطلانه، إذ يلزم منه إبقاء الرسول أبدا أو توالي الرسل، لأن ذلك أقرب إلى اللطف، ولا شك أن إبقاء إبليس في الدنيا مع أعوانه أبعد عن اللطف من توالي الرسل، ومظاهرة الحجة بهم.
وربما قالوا: العبد لا يعرى من مصالح في دينه لا يعلمها إلا بالسمع، كما لا يعرى عن مصالح في الدنيا لا تعلم إلا بالخبر.
وهذا تحكم، ومن أين وجد ذلك؟
وإذا ثبت أن الأصح من قول المعتزلة المذهب الأول، فقال للمعتزلة:
فما معنى قوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) ؟
وعندكم يجوز في المعلوم أن ينهض العبد بالمصالح العقلية، من غير افتقار إلى أفعال تكون لطفا في تلك المصالح وتعلم بالسمع، وقد قال تعالى:
(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) ، وعندكم في تلك الحال يجب أن لا يبعث رسولا ويعذب دون الرسول، فتقدير الكلام: وما كنا نفعل ما يجب علينا فعله، دون أن نبعث رسولا لا يجوز لنا بعثه في بعض الأحوال.
وهم اختلفوا في الجواب عن الآية، فقال قائلون: المراد به عذاب(4/250)
الاستئصال في الدنيا، كقوله: (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا) «1» .
وهذا بعيد، فإن عذاب الاستئصال على حسب ما يقع في المعلوم كونه مصلحة، وإن كان الاستئصال مصلحة دون ابتعاث الرسل، وجب عندهم ذلك، فإن عذاب الاستئصال إنما استحقه من استحقه لمخالفة التكاليف، فإذا حصلت المخالفة قبل الرسل، فأي معنى لترك ذلك؟ وإن لم يكونوا مستحقين، فلا استئصال، لا بعد الرسل ولا قبلهم، وهذا بين حسن.
وأجابوا من وجه آخر فقالوا: وما كنا معذبين فيما طريقه السمع، حتى نبعث رسولا، فأما ما كان طريقه العقل فلا، وهذا بعيد، فإن التكاليف إذا كانت منقسمة، وأقوى القسمين التكاليف العقلية، والسمعية مبنية عليها، لكونها داعية إليها ولطفا بها، فلا يجوز أن يقول: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.
وعندهم أنه يجب العذاب على ترك التكاليف العقلية، فتقدير الكلام:
وما كنا نفعل ما يجب علينا فعله حتى نبعث رسولا، ولا شك أن ذلك من الله تعالى إبانة عن وجه العدل في أفعاله، أو القهر وإنفاذ المشيئة، وذلك عندهم على إطلاق قبيح، وهو على أصلهم مثل قول القائل: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا، ويعني بذلك بعض السمعيات دون بعض، مع أن ذلك وغيره بمثابة.
واستدل به المعتزلة على رد قول بعض أصحابنا في أن الله سبحانه لا يعذب أطفال المشركين، لأنه إذا كان لا يعذب قبل إرسال الرسل، فهؤلاء الأطفال لم يعلموا الرسل ولا لهم مكنة في معرفتهم، فكيف يعذبون بذنوب آبائهم؟
__________
(1) سورة القصص آية 59(4/251)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
وهذا من المحتج به جهل، وذلك أن الله تعالى إنما عنى بقوله:
(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) ، من يجوز إنفاذ الرسل إليهم، فيعذب على ترك ما كلف، فأما الأطفال فلا يعذبون عندنا على ترك ما كلفوا، وإنما جعل الله تعالى ذلك العذاب حكما منه نافذا، وقضاء ماضيا، كما يؤلم الأطفال والبهائم في الدنيا، فسقط ما قالوه جملة.
واستدل قوم بهذا في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام فآمنوا، فلا تكليف عليهم فيما مضى، وهذا صحيح. ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق العذاب من جهة العقل عندنا. وهو مضمون على قائله عندنا.
ولأبي حنيفة في ذلك خلاف، وله مأخذ فيه يستقيم على نظر الفقهاء من غير استمداد من أقوال المعتزلة، حتى لا يتوهم متوهم أن أبا حنيفة بنى تلك المسألة على أصول المعتزلة، فإنه بعيد منها، وذكرنا ذلك المأخذ في مسائل الخلاف في الكتاب الذي أفردناه للروايا.
ثم أبان الله تعالى أنه إن لم يهلك القرى قبل انبعاث الرسل، فليس لأنه يقبح ذلك منه إن فعل، ولكنه وعيد منه ولا خلف في وعده، فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده، كان على ما قاله تعالى:
(أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)
«1» .
ليعلم أن من هلك إنما هلك بإرادته، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها، ليحق القول السابق من الله تعالى:
قوله تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ- إلى قوله- فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) الآية/ 18، 19.
__________
(1) سورة الإسراء آية 16.(4/252)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
فيه دلالة على أمور، منها أن من يريد بما يتكلفه من الطاعات أحوال الدنيا، أو يريد تحصيل العاجلة بغير الطاعة فهو متوعد، مثل أن يتزهد مراءاة للناس، أو لاعتمادهم على أقواله وائتمانهم له على أموالهم، فهو متوعد بالنار، وأن من يريد الله تعالى بمساعيه فله الثواب بحكم وعد الله تعالى.
قوله تعالى: (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، الآية/ 23.
قرن ذكر الوالدين بعبادة الله سبحانه، فنبه به على عظيم إنعام الله تعالى المقتضي للشكر، ونبه بعد ذلك على عظيم نعم الوالدين، وبين إختلاف الوالدين، ليكون بره بهما وإحسانه إليهما على قدر حاجاتهما فقال:
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) «1» ، فخص هذه الحالة بالذكر، وهي حالة حاجتهما إلى بره لتغيير الحال عليهما بالضعف النازل والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزم من قبل، لأنهما قد صارا في هذه الحالة كلا عليه، فيحتاجان إلى أن يلي من أمرهما للضعف النازل منهما «2» ، ما كان يحتاجه هو في صغره أن يليان منه، فذلك معنى تخصيص هذه الحالة بالذكر، ليبين ما يلزم من مزيد البر والتعاهد، وما يتصل بخدمة وإنفاق.
ودل قوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) ، على وجوب صبره عليهما حتى لا يتبرم ولا يضجر، فإن العادة جارية في المتضجر عند الأمر أن يقول أف أو تف في الأمور، فبين الله سبحانه تحريم هذا القدر من
__________
(1) تابع للآية 23 من سورة الإسراء.
(2) الأصح (بهما) .(4/253)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
التبرم على الولد عند ضعف الوالدين وحاجتهما إلى بره، ولم يقتصر تعالى على هذا القدر في بيان حقهما حتى قال: (وَلا تَنْهَرْهُما) ، مؤكدا لما تقدم ودالا به على أن الواجب في بره لهما سلوك طريقة اللين في القول:
ثم قال: (وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً) ، والكريم من القول ما يوافق مسرة النفس، ولا ينفر عنه الطبع.
ثم أمر بمزيد التواضع فقال: (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) «1» ، وهذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحة والتعبير عن المقصود بلفظ المجاز، لأن الذل ليس له جناح، ولا يوصف بذلك، ولكنه أراد المبالغة في التذلل والتواضع، وهو كقول امرئ القيس في وصف الليل:
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
يصف الليل المتقدم على هذا البيت في قوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
وليس لليل صلب ولا إعجاز ولا كلكل فهو مجاز، وأراد به تكامله واستواءه.
ثم بين الله تعالى أن الذي يلزمه لهما ليس مقصورا على منافع الدنيا، بل يلزمه مع ذلك ما يمكن في باب الآخرة من الدعاء، لأنه لا يقدر منهما على ما سواه، فقال: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) «2» .
بين العلة في لزوم الدعاء لهما، وبين أنه يلزم الولد من الدعاء للوالدين، أكثر مما يلزمه في غيرهما.
__________
(1) سورة الإسراء آية 24.
(2) تابع الآية 24 من سورة الإسراء(4/254)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) ، الآية/ 26.
أبان الله تعالى أن على كل واحد منا مراعاة مراتب مستحقي الحقوق، فبدأ بحق الله تعالى فقال: (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقرنه بذكر الوالدين، وعقب ذلك بقوله: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) ، وظاهر العطف أنه قريب الإنسان.
وقد قيل: عنى به قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
والأمر بالإحسان إلى الوالدين عام في جميع الناس، وكذلك ما عطف عليه من إيتاء ذي القربى.
قوله تعالى: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) .
والتبذير عند الشافعي إنفاق المال في غير حقه، فلا تبذير في عمل الخير.
وقال مجاهد: لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا.
وقد ثبت في سورة البقرة الحجر على المبذر، وما يتعلق به من الأحكام.
ثم أبان الله تعالى تحريم التبذير بقوله تعالى:
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) ، الآية/ 27.
ثم قال تعالى في تخصيص نبيه صلّى الله عليه وسلم:
(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) ، الآية/ 28.
وهو تأديب عجيب، وقول لطيف بديع، فإنه تعالى قال: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) : أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنا والقدرة فتحرمهم، وإنما يجوز له أن يعرض عنهم عند عجز يعرض، وعند عائق يعرض، وأنت عند ذلك ترجو من(4/255)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
الله فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل، فإن قعد بك الحال عن المواساة (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) ، يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة فتقول: الله يرزق، والله يفتح بالخير.
قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) ، الآية/ 29:
هو مجاز عن البخل والجود ومراعاة الإقتصاد فيهما جميعا، فقال:
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) : فلا تعطي من مالك شيئا.
ولما كان العطاء في الأكثر باليد غير غل اليد عن الإمساك، فالذي لا يعطي شيئا جعله بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه، والعرب تصف البخيل بضيق اليد، فيقولون: فلان ضيق الكفين إذا كان بخيلا، وقصير الباع، وفي ضده رحب الذراع طويل الباع طويل اليدين.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام لنسائه:
«أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا» «1» .
وإنما أراد به كثرة الصدقة، فكانت زينب بنت جحش، لأنها كانت أكثرهن صدقة.
وقال الشاعر:
وما كان أكثرهم سواما ... ولكن كان أرحبهم ذراعا
قوله تعالى: (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ، فلا تخرج جميع ما في يدك مع حاجتك وحاجة عيالك.
(فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) ، يعني ذا حسرة على ما خرج من يدك.
__________
(1) أخرجه مسلم بن الحجاج بسنده عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.(4/256)
وهذا الخطاب لغير النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه.
وقد كان كثير من فضلاء أصحابه ينفقون في سبيل الله جميع أملاكهم، فلم يعنفهم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم.
وإنما نهى الله تعالى عن الأفراط في الإنفاق، وإخراج جميع ما احتوت عليه يده من المال، من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود الله تعالى وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية.
وقد روي أن رجلا أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فسلم إليه مثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله، أصبت هذه من معدن والله ما أملك غيرها، فأعرض عنه، فعاد ثانيا فأعرض عنه، فعاد ثالثا فأخذها النبي عليه الصلاة والسلام ورماه بها لو أصابته لعقرته، وقال: «يأتيني أحدكم بجميع ما يملكه ثم يقعد ويتكفف وجوه الناس» «1» .
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذا مال كثير، فأنفق جميع ماله على النبي عليه الصلاة والسلام، وفي سبيل الله، حتى بقي في عباءة، فلم يعنفه النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه.
فكل ذلك يدل على أن ذلك ليس بمخاطبة للنبي عليه الصلاة والسلام، وإنما خوطب به غيره مثل قوله تعالى:
(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) «2» .
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) «3» .
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده والبيهقي في الشطب.
(2) سورة الزمر آية 65.
(3) سورة يونس آية 94. [.....](4/257)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
فاقتضت هذه الآيات من قوله: (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، الأمر بالتوحيد، والإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والنهي عن تبذير المال وإنفاقه في معصية الله تعالى، والأمر بالاقتصاد في الإنفاق والنهي عن الإفراط.
قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) ، الآية 31.
وهو كلام يتضمن ذكر السبب الخارج عليه، فإنه كان من العرب من يقتل بناته خشية الفقر، لئلا يحتاج إلى الإنفاق عليهن، ويتوفر ما يريد إنفاقه عليهن على نفسه وعلى بيته، فكان ذلك شائعا فيهم وهي «الموعودة سئلت» ، والموعودة هي المدفونة حية؟ وكانوا يدفنون بناتهم أحياء.
وقال ابن مسعود: سئل النبي عليه الصلاة والسلام فقيل: «ما أعظم الذنوب؟ فقال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك خيفة أن يأكل معك، وأن تزني بحليلة جارك» «1» .
قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) ، الآية/ 32.
يدل على تحريم الزنا، وهو الذي تعرى عن نكاح وعن شبهة نكاح.
ووصف الله تعالى نكاح امرأة الأب بما وصف الزنا به، فقال تعالى:
(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا) «2» .
وذلك يدل على مساواته في التحريم، وبينا ما يعترض به عليه.
واختلف العلماء في اللواط، وأنه هل يدخل تحت الزنا؟ والشروع فيه ليس من غرضنا «3» .
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده
(2) سورة النساء آية 22.
(3) أنظر تفسير القرطبي، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير الطبري لتفصيل القول في هذه المسألة.(4/258)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) الآية/ 33.
السلطان مجمل يحتمل: الحجة والدية والقود، ويحتمل الجمع لا جرم، الشافعي يخير بين القتل وغيره، لأن الكل بالإضافة إلى اللفظ سواء.
قوله تعالى: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) .
قال الحسن ومجاهد وسعيد بن هبير والضحاك.
لا يقتل غير قاتله، ولا يمثل به «1» ، وذلك أن العرب كانت تتعدى إلى غير القليل من الحميم والغريب، فلما جعل الله تعالى له سلطانا نهاه عن التعدي، وعلى هذا المعنى قوله تعالى:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) «2» .
فإن كان لبعض القبائل طول على الأخرى، فكان إذا قتل منهم العبد لا يرضون إلا بأن يقتل الحر منهم، وهذا في هذه الآية: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) بأن يتعدى إلى غير القاتل.
ذكر إسماعيل بن اسحق المالكي، في قوله: لوليه، ما يدل على خروج المرأة عن مطلق الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق القصاص، كذلك قال، ولا أثر لعفوها وليس لها الاستبقاء.
ولم يعلم أن المراد بالولي هاهنا الوارث، وقد قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ
__________
(1) أنظر تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي.
(2) سورة البقرة آية 178.(4/259)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) «1» .
وقال:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) «2» ، الآية.
وقال تعالى: (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ) «3» :
فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة.
احتج إسماعيل في ذلك بوجوه ركيكة منها:
أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، ولم يعلم أن ما كان بمعنى الجنس استوى فيه المذكر والمؤنث.
ومما ذكره أن المرأة لا تستحق كل القصاص، والقصاص لا بعض له، فلزمه من ذلك إخراج الزوج من جملة الأولياء في القصاص، وعلى أنه لم يمتنع أن تكون المرأة بنفسها لا تستحق، ولكنها مع غيرها كالورثة، واعتذر عن ذلك بأن سبب الورثة واحد، وقد اختلف السبب هاهنا، فلزمه ألا يثبت القصاص بين الزوج والأخ ولا الأخ من الأم.
وذكر فيما ذكر أن المقصود من القصاص تقليل القتل، والمقصود بكثرة القتل الرجال دون النساء.
ولزم على هذا ألا يجب القصاص على المرأة بقتل الرجل، ولا على الرجل بقتل المرأة.
قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، الآية/ 34.
__________
(1) سورة التوبة آية 71
(2) سورة الأنفال آية 72.
(3) سورة الأنفال آية 75.(4/260)
قال مجاهد: التي هي أحسن التجارة، خص اليتيم بذلك، لأنه إليه أحوج، وعن الاستقلال أبعد، وإلى المرحمة والشفقة أقرب.
ذكر الرازي «1» أن الله تعالى لما قال حتى يبلغ أشده، علم أن إيناس الرشد عند بلوغ الأشد لا يعتبر، ولو اعتبر لذكر كما قال:
(حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) «2» .
والأشد مذكور على وجوه مختلفة في القرآن، قال تعالى في موضع آخر:
(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) «3» .
وقال في موضع آخر:
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) «4» ، الآية.
وذكروا أنه بلوغ الحلم.
وذكروا أنه بلوغ أربعين سنة.
فليس للأشد مرد معلوم.
ويجوز أن يكون المراد ببلوغ الأشد قبل الأربعين سنة، وتختلف أحوال الناس فيه، والذي ذكره من أن إيناس الرشد ليس معتبرا مع الأشد فبعيد، فإن الله تعالى قال: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
__________
(1) أنظر أحكام القرآن للجصاص.
(2) سورة النساء آية 6.
(3) سورة الأحقاف آية 15
(4) سورة القصص آية 14.(4/261)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) «1» ، فاقتضى ذلك جواز التصرف إلى بلوغ الأشد مطلقا، ولا يتحقق ذلك إلا عند جعل الأشد بمعنى البلوغ.
والولي لا يتصرف في مال اليتيم بعد البلوغ، ولا أنه يسمى يتيما إلى أربعين سنة.
قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) الآية/ 78:
قيل: دلوكها: زوالها، وقيل: غروبها، وقد وردت فيها آيات.
فإن كان الدلوك الزوال، وقد دلت الآية على صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، لقوله: لدلوك الشمس إلى غسق الليل.
قال ابن عباس: غسق الليل اجتماع الليل وظلمته، وقيل غسق الليل انتصابه، ووقت الإختيار للعشاء يمتد إلى ذلك الوقت.
قوله تعالى: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) ، مرتب على قوله: (أَقِمِ) ، فتقديره، أقم قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا.
وفيه دلالة على وجوب القراءة في صلاة الفجر.
وقال قائلون: المراد بقوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) : صلاة الفجر، فإنه يبعد تخصيص صلاة الفجر بالقراءة فيها، والصلاة كما تشتمل على القراءة تشتمل على ما عداها من الأذكار.
والأولون استدلوا على ذلك بقوله تعالى في آخر الآية: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) ، والتهجد بالقراءة لا بصلاة الفجر.
ويجاب عنه، بأن المراد به التهجد بالصلاة، مرتبا على قوله: أقم الصلاة «2» .
__________
(1) سورة الأنعام آية 152.
(2) أنظر القاسمي في تفسيره ج 20 ص 3959. [.....](4/262)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
قوله تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) ، الآية/ 110.
روي أن أبا بكر كان يخافت، وكان عمر يجهر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: لم لا تجهر؟ فقال: أناجي ربي وهو أعلم بحاجتي.
وقال لعمر: كيف تجهر؟ قال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أحسنتما، ثم نزلت هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر: أرفع شيئا، وقال لعمر: اخفض شيئا «1» .
وقالت عائشة في هذه الآية: أراد بها الدعاء والمسألة.
وروت عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى فقال:
«لقد أوتي أبو موسى من مزامر آل داود صلى الله عليه وسلّم» «2» .
__________
(1) أنظر تفسير الطبري، وأسباب النزول للواحدي
(2) أخرجه الامام أحمد وأبو داود في سننه.(4/263)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
سورة الكهف
قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ، الآية/ 7.
وذلك يدل على أن ما جعله على وجه الأرض، جعله لطفا لعباده، الذين أراد بهم الخير في إختيار الطاعات.
قوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) ، الآية/ 19.
يدل ذلك على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها، والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة، وإن كان فيهم من يأكل أكثر ومن يأكل أقل، وهو الذي يسميه الناس المناهدة، ويفعلونه في الأسفار، وذلك أنه قال: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) فأضاف الورق إلى الجميع.
ومثله قوله تعالى: (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) «1» .
__________
(1) سورة البقرة آية 220.(4/265)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
وفي الآية دليل على جواز الوكالة بالشراء، لأن الذي بعثوا به كان وكيلا.
قوله تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) ، الآية/ 23.
لأن المقصود بذلك ألا يكون محققا لحكم المخبر عنه، فإنه إذا قال لأفعلن ذلك فلم يفعل كان كاذبا، وإن قال لأفعلن ذلك إن شاء الله، خرج عن كونه محققا للمخبر عنه.
فإن قال قائل: أي معنى في ذلك، ولا يتصور أن يفعل فاعل فعلا إلا أن يشاء الله، هل ذكر ذلك وعدم ذكره إلا بمثابة واحدة، وهل هذا إلا بمثابة من يقول لأفعلن ذلك إن كنت فاعلا وإن كنت قادرا وإن شئت، وأي أثر لذكر شرط للفعل لا محالة في العقل. والجواب: أن الأمر وإن كان على ما ذكرتم، غير أنه إذا قال القائل لأفعلن في وقت كذا، فقد أوهم أنه يفعل لا محالة، وأبان أن شرط الفعل يوجد، فإذا لم يفعل لعدم الشرط وهو مشيئة الله تعالى، أو عائق آخر، كان كاذبا في قوله عرفا، وإذا قال لأفعلن كذا إن شاء الله، أو إن شاء زيد، فلم يقطع بأنه يفعل، بل ردد وميل القول، فكأنه قال: لا أدري هل أفعل أم لا، فهذا هو المعنى فيه. وكأن الله سبحانه أدب رسوله صلّى الله عليه وسلم فقال: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) .
أي كن متذكرا للعوائق، وناظرا في العواقب، ولعل عائقا يعترض دون مرامك، فردد القول فيما لا يعلمه، لئلا يجري ما ينسب فيه إلى خلف في القول عرفا.
ومن أجله قال علماؤنا: إذا حلف واستثنى لم يحنث إذا كان موصولا، وإن انفصل يؤثر الاستثناء.(4/266)
وروي عن معاذ بن جبل، عن رسول الله أنه قال: «إذا قال الرجل لعبده: أنت حر إن شاء الله، فهو حر، وإذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله فليس بطالق» «1» .
وهذا حديث ضعيف، واهي السند مخالف للإجماع.
وقيل للمعتزلة: عندكم أن فعل الفاعل لا يتعلق بمشيئة الله تعالى، فما معنى قوله عندكم لأفعلن إن شاء الله تعالى، وهو يفعل وإن لم يشأ الله.
فأجابوا بأن معناه: إلا أن يشاء الله ألا يلجئني إليه، أو يقطعني عنه باخترام أو موت، فيخرج عن كونه قاطعا على الخبر، فيحسن منه الخبر «2» .
وقال آخرون منهم: الغرض بالاستثناء، إخراج الخبر عن أن يكون قطعا وخبرا تاما من غير إرادة ما يجرى مجرى الشرط، فكأنه وضع في اللغة لهذه الطريقة التي تقتضي التوقف في الخبر، وهذا أقرب، لأن الاستثناء يؤثر في هذا الخبر، سواء وقع ممن له قصد إلى ما ذكرناه أو من لا قصد له. فحمله على هذا الوجه الثاني أولى.
ومما قيل للمعتزلة: إذا قال القائل عبدي حر إن شاء الله فلا يعتق، وقياس قولكم أنه يعتق، لأن الله تعالى قد شاء ذلك تعبدا، وجوابهم عنه على ما قاله أبو علي الجبائي، أنه لم يخصص المتثنى المشيئة بطريق التعبد، ولو خصصه بذلك لصار حرا بأن ينوي بالاستثناء، مشيئة التعبد فقط.
نعم إذا أطلق الاستثناء فلا حرية، فأما إذا قيد الاستثناء، صار كأنه قال للمملوك: أنت حر إن أراد الله مني إعتاقك، وقد علم أن الله تعالى أراد ذلك مع سلامة الأحوال، وإنما تصح هذه الطريقة متى قيل لا بد في
__________
(1) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير.
(2) انظر تفسير الفخر الرازي، وتفسير القرطبي والدر المنثور للسيوطي(4/267)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
الاستثناء من تقييد، حتى يصير كالشرط، ويجري مجرى قول القائل:
أنت حر إن دخل زيد الدار، وإن شاء زيد، فيمكن عند ذلك ادعاء مخالفة الإجماع على المعتزلة، فأما إذا قيل بالوجه الآخر، وهو أن الاستثناء يخرج الخبر عن كونه خبرا، إلى أن يكون مشكوكا فيه موقوفا فليس فيه دلالة «1» .
قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ، الآية/ 24.
قال ابن عباس: إنه إن نسي الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة، لم يحنث إن كان حالفا.
وذكر إسماعيل بن اسحق ذلك عن أبي العالية في قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ، قال يستثنى إذا ذكر.
والأصح أن قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ابتداء كلام.
قوله تعالى: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا) ، الآية/ 103.
فيه دليل على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن فيه، وقد حبط سعيه، الذي يوجب إحباط السعي إما فساد الإعتقاد أو المراءاة.
والمراد به هاهنا الكفر، فإن الله تعالى قال بعد ذكر هؤلاء:
(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) .
أبان عن كفرهم وأنه سبب ضياع أعمالهم.
قوله تعالى: (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ، الآية/ 110.
دل على أن من عمل لغير الله تعالى مراءاة ومباهاة وطلبا للنجاة، فلا نصيب له في الآخرة، وقد مضى شرحه غير مرة.
__________
(1) أنظر سبب نزول الآية في أسباب النزول للواحدي النيسابوري.(4/268)
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة مريم
قوله تعالى: (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) ، الآية/ 3.
يدل على أن أفضل الدعاء ما هذه حاله، لأنه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص.
قوله تعالى: (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ، الآية/ 4.
يدل على أنه يستحيى للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه، وما يليق بالخضوع، لأن قوله: (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ، إظهار للخضوع، وقوله: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) ، إظهارا لعادات تفضله في إجابة أدعيته،
ثم عقب ذلك بالمسألة فقال:
(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) ، الآية/ 5:
يدل على أن رفع الحاجة إليه، إنما يستحب عند مخافة الضرر في الدين، فإنه خاف من أقاربه الفساد والشر، فطلب من الله تعالى ولدا يقوم بالدين بعده، فيرثه النبوة، ويرث من آل يعقوب، ولا يجوز أن يهتم بالدعاء هذا الاهتمام، ومراده أن يورثه المال، فإن ذلك مباين لطريقة الأنبياء،(4/269)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
ولأنه جمع وراثته إلى وراثة آل يعقوب، ومعلوم أن ولد زكريا لا يرثهم.
فإن قيل: كيف أقدم على مسألة ما يخرق العادة من غير إذن!؟
الجواب: أن ذلك جائز، في زمان الأنبياء، وفي القرآن ما كشف عن هذا المعنى، فإنه قال تعالى:
(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) «1» .
فلما رأى خارق العادة استحكم طمعه في إجابة دعوته، فقال تعالى:
(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) «2» .
قوله تعالى: (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) ، الآية/ 58.
فيه دلالة على أن لتلاوة آيات الرحمن تأثيرا، فقال الحسن: إذ تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا: في الصلاة.
وقال الأصم: المراد بآيات الله كتبه المتضمنة لتوحيده وحجته، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها، ويبكون عند ذكرها.
والمروي عن ابن عباس، أن المراد به القرآن، خاصة وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوته ويبكون، ففي ذلك دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الأنبياء، ولو كان كذلك لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مختصا بإنزاله عليه.
__________
(1) سورة آل عمران آية 37.
(2) سورة آل عمران آية 38.(4/270)
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
واحتج الرازي به على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارئ، وهذا بعيد، فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى، وضم إلى السجود البكاء، وأبان به عن طريقه الأنبياء في تعظيمهم الله تعالى وآياته، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند سماع آيات مخصوصة.
قوله تعالى:
(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) ، الآية/ 92، 93.
فيه دلالة على أن الولد لا يكون مملوكا لأبيه خلافا لمن قال: إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق إلا إذا أعتقه، وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الولادة والملك.
واستدل إسماعيل بن إسماعيل بن اسحق بدليل آخر، ونقله الرازي في كتابه عنه فقال:
وقد اتفق أهل العلم على أن أمة الرجل إذا حملت منه، فإن الولد يتحرر في بطن أمه، مع أن العبرة في رق الولد برق الأم، وحرية الوالد لا تقتضي حرية الولد، فلم يكن عتق الولد من جهة كون الأب حرا، وإنما كان من جهة أن الولد لو علق رقيقا، لكان ملكا للوالد، ولا يثبت الملك للوالد على الولد أصلا.
إلا أن الولد تم حر الأصل، لأنه لا حاجة إلى إثبات الرق والملك للولد، فعلق الولد حرا هنالك، حتى لا يثبت للوالد على الولد ملك.
وإذا اشترى، فلا يمكن أن يقال إن الملك لا يثبت، فإن الملك لو لم يثبت لم يصح الشراء، ولا بد من تصحيح الشراء.
وقال مالك: ينقل المالك الملك إلى المشتري، فيثبت له الملك بقدر ما يحصل به الانتقال ضرورة تصحيح الشراء، وامتنع بعد ذلك ثبوت ملك الوالد عليه.(4/271)
وقال بعض العلماء: إن شراء الولد لا يثبت له ملكا أصلا، وإنما هو عقد عتاق، فإما أن يقال إن الملك يثبت حقيقة في زمان، وحصل العتق بعده في زمان آخر فلا، ولكن العتق ثبت مقارنا للشراء، وجعل الشراء عقد عتاق وإسقاط لملك المالك، لا على حقيقة شراء فيما سواه، ولم يجعل الشراء سبب الملك، لوجود الأبوة المنافية له، كما لم يجعل ملك المحل سببا لملك الولد لوجود سبب ما ينافيه، فيقال حدث حرا، وكذلك يقال حصل الشراء مع الحرية.
فهذا قول فيه تأمل.
وعلى كل حال تبين به أنه لا يدوم ملك الوالد على ولده «1» .
__________
(1) أنظر أبو بكر الجصاص في هذه المسألة.(4/272)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة طه
قوله تعالى: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) ، الآية/ 12.
يحتمل أن يكون الأمر به تعبدا تبركا بالموضع ليمسه قدمه حافيا.
وقد قيل: كان ذلك من جلد حمار ميت غير مدبوغ، فأمره بخلعه، لأنه لم يكن مدبوغا، أو كان نجسا مدبوغا مع الدبغ في شريعة موسى، ونسخ في شرعنا «1» .
قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ، الآية/ 14.
صح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نام عن صلاة الصبح فصلاها بعد طلوع الشمس وقال: «إن الله تعالى يقول: أقم الصلاة لذكري» «2» .
__________
(1) والمعنى: أنت الآن في واد مقدس، يجب فيه رعاية الأدب، بتعظيمه واحتراما لتجلى الحق فيه، كما يراعى أدب القيام عند الملوك، وطوى: اسم للوادي.
(2) أخرجه الحسن ومجاهد والزهري عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه.(4/273)
وقال عليه الصلاة والسلام: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة له إلا ذلك» .
وفي السلف من خالف ذلك وقال: يصبر إلى مثل وقته ويصلي، وإذا فاتت الصبح يصليها من الغد، وهذا قول شاذ بعيد «1» .
__________
(1) أنظر أحكام القرآن للجصاص.(4/274)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الأنبياء
قوله تعالى في سورة الأنبياء «1» :
(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) ، الآية/ 78.
حكم داود بأن الشياء تسلم إلى صاحب الزرع ويقضى بها له.
وقال سليمان: تدفع إليه الغنم ليصيب من ألبانها وأصوافها حتى يعود الزرع كما كان.
وصار الحسن إلى مثل ذلك في شرعنا، إذ لم ير في شرعنا ناسخا مقطوعا به عنده.
وقال قائلون: سليمان أوحى إليه بذلك، فكان ناسخا لما قضى به داود، وهذا على قول من منع اجتهاد الأنبياء في الوقائع.
وقال آخرون: بل اجتهد داود فلم يصب الأشبه وأصابه سليمان.
وقال آخرون: بل أخطأ خطأ مغفورا له.
__________
(1) سميت بذلك لاشتمالها على فضائل جليلة، لجماعة منهم عليهم الصلاة والسلام.(4/275)
وقال آخرون: لا يجوز أن يكون ما حكما به مستدركا بالاجتهاد، فإن الاجتهاد مبني على أصول، وذلك لا يستدرك إلا توقيفا.
وهذا يحتمل الخلاف، فإن النظر في المصالح يجوز أن يقود إلى هذا:
وأن داود أراد جبر حق صاحب الزرع، وسليمان أراد الجمع بين الحقين.
وأبو حنيفة لا يرى الضمان أصلا على صاحب البهيمة، والشافعي يفصل بين الليل والنهار، وهو قول مالك.
والمسألة مستقصاة في أصول الفقه، ومتعلقنا منها بالآية ما ذكرناه فقط «1» .
__________
(1) أنظر أحكام القرآن للجصاص الجزء الخامس، والتفسير للقرطبي سورة الأنبياء. [.....](4/276)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الحج
قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) ، الآية/ 5.
قوله: (مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ) ، يقتضي أن لا تكون المضغة إنسانا كما اقتضى ذلك في العلقة والنطفة والتراب، وإنما نبهنا الله تعالى على كمال قدرته، بأن خلق الإنسان من غير إنسان، وهي المضغة والنطفة التي لا تخطيط فيها ولا تركيب، وإذا لم يكن إنسانا يجوز أن يقال إنه ليس يحمل مثل النطفة «1» .
ويحتمل أن يقال: إنه أصل الإنسان الذي ينعقد ويشتمل عليه الرحم وصار حملا، وليس كالنطفة المجردة التي لا ندري ما يكون منها.
وزعم إسماعيل بن اسحق أن قوما ذهبوا إلى أن السقط لا تنقضي به العدة، ولا تصير به أم ولد، وزعم أن هذا غلط، لأن الله تعالى أعلمنا
__________
(1) أنظر أحكام القرآن للجصاص.(4/277)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
أن المضغة التي هي غير مخلقة قد دخل فيما ذكر من خلق الناس كما ذكرت المخلقة، ودل على أن كل ما يكون من ذلك إلى خروج الولد من بطن أم فهو حمل، وقد قال تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) «1» .
وهذا لا حجة فيه، فإن الله تعالى لم يذكر أنه حمل، وإنما نبه على قدرته بأن خلقنا من المضغة والعلقة والتراب والنطفة، وليس الولد نطفة ولا مضغة، بل خلق منه الولد، وما دخلت العلقة في اسم الإنسان، ولا النطفة ولا المضغة التي ليست مخلقة.
وقوله تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ، فالمراد به ما يسمى ولدا.
واستدل إسماعيل بن إسحاق أنه يرث بهذا وهو غلط «2» ، فإنه يرث عند الولادة حيا مستندا إلى حالة كونه نطفة، ولا كلام فيه حتى لو طلقها من أربع سنين وأتت بولد، يعلم أنه في تلك الحالة كان نطفة يرث أيضا، ولو انفصل ميتا وقد تكامل خلقه لم يرث، وانقضت به العدة، فهما بابان متباينان.
قوله تعالى: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) ، الآية/ 25:
احتج به قوم على منع بيع دور مكة، فإنها مخلاة للساكنين، لا يتخصص سكانها بها، وهذا في غاية البعد، ولا شك أن أبنيتها لملاكها لا يزاحمون فيها دون إذنهم، إلا ما كان وقفا على الصادر والوارد، وأكثر
__________
(1) سورة الطلاق آية 4.
(2) أنظر أحكام القرآن للجصاص(4/278)
دور مكة كذلك «1» .
وقوله تعالى: (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) ، الآية/ 25.
يظهر حمله على المسجد الذي لا يتخصص به قوم عن قوم، وأنه يشترك في الانتفاع به قعودا وصلاة كافة الناس.
وذكر إسماعيل بن إسحاق عن علقمة بن فضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن لم يحتج لم يسكن «2» .
وروي أن عمر كان يمنع أن تغلق دور مكة في زمن الحج، وكانوا ينزلون حيث وجدوا، حتى كانوا يضربون الفسطاط في جوف الدور «3» .
ونهى عمر أهل مكة أن يجعلوا لبيوتهم أبوابا «4» .
وروي عن عمر أنه اشترى دارا بأربعة آلاف.
وبينا بعد قول من يقول لا اختصاص لأهل مكة بدورهم المعروفة بهم، الموروثة عن آبائهم وأسلافهم، وأن من شاء أزعجهم، وما زالوا يتصرفون فيها هدما وبناء وبيعا وإجارة وإعارة من غير نكير، ولعل عمر إنما فعل ذلك عند ازدحام الناس وضيق المنازل، فأباح ذلك لا أنه أزال ملك الرباع، وإلا فقد روي عنه أنه اشترى بها دارا بأربعة آلاف، ولا يمكن الجمع بينهما إلا على هذا الوجه.
__________
(1) أنظر توضيح المسألة في أحكام القرآن للجصاص- 5 ص 57، 58، 59.
(2) رواه ابن أبي شيبة وابن ماجة عن علقمة بن نضلة.
(3) أخرجه عبد بن حميد.
(4) رواه عبد الرزاق وفيه: لينزل البادي حيث شاء.(4/279)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) ، الآية: معنى الإلحاد من المتعارف: الميل إلى الكفر، والظلم لفظ عام.
أبان الله تعالى أن الظلم فيه أعظم من الظلم فيما سواه.
قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) ، الآية/ 27:
ظاهره أنه خطاب لإبراهيم، لأنه مسوق على مخاطبته، بقوله تعالى:
(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) ، الآية/ 26.
وروي عن ابن عباس في ذلك، أن ابراهيم عند هذا الأمر نادى:
يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا وقد أمركم أن تحجوه، فلم يبق إنس ولا جن إلا قالوا: لبيك اللهم لبيك «1» .
وعن علي نضر الله وجهه مثل ذلك.
وعلى هذا يقولون إن رسول الله كان قد حج قبل الهجرة مرتين، فسقط الفرض عنه بذلك.
وهذا بعيد، فإنه إذا ورد في شرعه:
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) «2» ، فلا بد من وجوب عليه، بحكم الخطاب في شرعه.
ولئن قيل: إنما خاطب من لم يحج، كان تحكما وتخصيصا بلا دليل، ويلزم عليه أن لا يجب بهذا الخطاب على من يحج على دين إبراهيم، وهذا في غاية البعد.
وقد أبان الله تعالى أنهم يأتون ركبانا ومشاة لا لنفس السفر، بل ليشهدوا منافع الدين والدنيا أيضا من التجارة وغيرها.
__________
(1) أنظر تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور.
(2) سورة آل عمران آية 97.(4/280)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
والمقصود أن الاتعاب لغرض جائز.
قوله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) ، الآية/ 28.
ذكرنا من قبل معنى المعلومات والمعدودات والاختلاف فيه.
قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) ، الآية/ 28.
وذلك في دماء النسك، وليس الأكل واجبا بالاتفاق، وإنما يؤكل من دماء النسك، وأما دماء الجنايات، فلا خلاف أن الناسك لا يأكل منها، ودم المتعة والقرآن دم جبر عند الشافعي، فلا يأكل منه، ويأكل منها عند أبي حنيفة، لأنه رأى الدين دم نسك، فليقع الكلام في ذلك الأصل.
قوله تعالى: (لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ، الآية/ 29.
معناه: أنهم عند النحر ينتفون ويحلقون ويقلمون الأظافر، لأن الإحرام إذا منع من ذلك فعل عند التحلل، ويزيل ما به من التفث.
قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا) :
يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه، ولا التصدق بجميعه.
قوله: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) : يدل على وجوب إخراج النذر، وإن كان دما أو هديا أو عمرة، ويدل على ذلك أن النذر لا يجوز أن يؤكل منه وفاء بالنذر.
وقد رتبه الله تعالى هذا الترتيب، فبين حكم النحر، ثم عطف عليه بأمور ثلاثة منها: قضاء التفث، والوفاء بالنذر، والطواف، فيجب حمل الطواف على ما يفعل بعد النحر، وهو طواف الزيارة، فإذا أتى به مع ما تقدم حل له النساء والطيب.(4/281)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
ثم عظم الأمر في قول الزور، ومنه أن قرنه بقوله تعالى:
(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ، الآية/ 30.
قوله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ، الآية/ 32.
فيه إشارة لطيفة، وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه، فلا يدل على الإخلاص، فإن عظمهما مع حصول الإجزاء بما دونه فلا يظهر له محمل إلا تعظيم الشرع، وهو من تقوى القلوب.
وقوله تعالى: (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، الآية/ 33.
قال ابن عباس وابن عمر: لكم فيها منافع من ألبانها وأصوافها وظهورها، إلى أن تسمى بدنا، ثم محلها إلى البيت العتيق.
قوله تعالى: (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) ، الآية/ 36:
القانع: هو الراضي بما رزق، والمعتر: هو الذي يسأل.
ويمكن أن يفهم منه تجزئة المذبوح ثلاثة أجزاء: للأكل، وإطعام القانع، والمعتر.
قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ، الآية/ 39:
أبان الله تعالى أن الغرض من قتالهم دفع ظلمهم، وأنهم إن مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.(4/282)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
والخلفاء الراشدون كانوا بهذه المثابة، ففيه دلالة على صحة إمامتهم.
قوله: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ، الآية/ 52.
ذكروا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبق لفظه، إلى تلك الغرانيق العلا، وبينا فساد ذلك، وبينا وجه الرواية الصحيحة في الأصول.(4/283)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة المؤمنون
قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) ، الآية/ 2:
والمراد به عند المفسرين أن لا يتجاوز بصره مصلاه، ولا يلتفت ولا يحرك يديه، وقال عليه الصلاة والسلام: «اسكنوا في الصلاة، وكفوا أيديكم في الصلاة» .
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) ، الآية/ 3:
اللغو: الباطل، وجعل قتادة ذلك وصفا للمصلين، أي إن المؤمن في الصلاة معرض عن اللغو والرفث.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ، الآية/ 5، 6:
يقتضي تحريم المتعة، إذ ليست بزوجة ولا ملك يمين.
قوله: (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) .
لا بد أن يكون خطابا للرجال، فإن المرأة لا تستحل بملك اليمين شيئا من أمر البضع.(4/285)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) ، الآية/ 9:
المحافظة عليها في الوقت، ويحتمل أنهم يحافظون على مواقيتها وركوعها، ومراعاة حدودها وشروطها.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) ، الآية/ 60.
وروي عن عائشة أنها قالت: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم:
(الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الرجل يشرب الخمر ويسرق؟ فقال: «لا يا عائشة، ولكنه، الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه» «1» .
وقال الحسن: لقد أدركت أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها.
قوله تعالى: (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) ، الآية/ 61.
مدح المسارعين.
قوله تعالى: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) ، الآية 67.
اختلفوا في السمر، فروى شعبة عن ابن المنهال بن أبي برزة عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه كان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها.
__________
(1) أخرجه الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الأيمان.(4/286)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة النور
قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ، الآية/ 2:
اعلم أن الزنا كان معروفا في اللغة قبل الشرع، مثل اسم السرقة والقتل، وكان موضوعا للفعل الخاص القبيح، وأطلق على فعل خاص حقيقة، وجعل وطء رجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة، نكاح بمطاوعتها زنا، وذلك إنما علم بالسمع، ولولا السمع لحسن ذلك، لأن استمتاعه بها وهي راضية، بمنزلة استخدامه لا فيما ينتفعان به فلا مضرة ولا ظلم.
والأصل أن النفع العاجل لا يحرم إلا بالسمع، وقد اختلفت الأمم في استقباح هذا الجنس:
فقوم من العرب كانوا يسيبون الإماء، ويطلبون النسل.
ومنهم من كان يرضى بأن يكون نساؤهم بغايا.
ومنهم من كان يرضى بنكاح الزانيات.
ومتى قيل إن في الزنا اختلاط الأنساب والجهل بتمييزها، والعقل يشهد بقبح ما يرفع الأنساب ويبطله.(4/287)
فالجواب، أن ثبوت النسب إنما يجب أن نعرفه، لما يتعلق به من الأحكام الشرعية، فأما من جهة العقل فلا يلزم ذلك، فإن عرف المرء بالظاهر أن الابن مخلوق من مائه سرّ به، وإلا لم يجب أن يعرف ذلك، وإذا كانت الأنساب لا يجب معرفتها عقلا، ولا حكم يجب أن يتعلق بها من جهة العقل، لولا العلم بها لما تم، فمن أين أن العقل المؤدي إلى الجهل بالأنساب يقبح.
ولئن قيل: إذا لم يتخصص الولد بوالد، فمن يربي الولد وينهض بكفايته؟
فيقال: وحيث قيل هذا أب، لم يجب عقلا أن يقوم بكفايته، وتولده من مائه من أين أوجب عليه عقلا أن يقوم بمئونته وكفايته وتربيته؟
نعم إن ذلك تلقى من السمع.
وحيث لا يكون كذلك، فيجب على الناس عقلا السعي فيما فيه صلاحهم وبقاء جنسهم، وهذا بين.
وإذا ثبت ذلك، فقد اختلف العلماء في مسائل، وأن اسم الزنا هل يتناولها؟ وليس نعني به أن يتعرف ذلك من جهة اللغة، ولكن الزنا صار في الشرع اسما لمحظور خاص، فهل نقول إن ذلك المحظور هل وجد، فنرجع الخلاف إليه؟ مثل قولنا: المجامع في الدبر هل يكون زانيا؟ وواطئا أمه وأخته وابنته باسم النكاح؟ هل يكون تحريم فعله كتحريم فعل من زنا بأجنبية أو زنا بها قبل النكاح حتى يسمى زنا «1» ؟
واختلفوا في أحكام شرعية لاختلاف عقائدهم في أنها متعلقة باسم الوطء، أو بمعنى يختص به الحلال، مثل تحريم المصاهرة.
__________
(1) أنظر تفسير القرطبي لهذه الآية من سورة النور، وأحكام القرآن للجصاص.(4/288)
واختلفوا في تحريم المصاهرة.
واختلفوا في تحريم المخلوقة من ماء الزنا، فإنهم اختلفوا في أن تحريم بنته إنما كان لمكان النسب، أو لمكان أنها تولدت من مائه مطلقا.
وإذا وطئها في دبرها أو لاط بغلام، فقد اختلفوا فيه على حسب اختلافهم في أن الزنا أوجب الحد، لكونه مستنكرا في النفوس والطباع، وهو مؤذن بالهتكة والفضيحة، فإذا كان كذلك، فاللواط أعظم وأشنع في هذا الباب.
ومنهم من يرى أن السبب في تعظيم تحريمه، ما يتولد من فساد النسل واختلاط الأنساب.
وظن ظانون أن كتاب الله تعالى لا ينبئ عن دخول اللواط تحت اسم الزنا، لأن الله سبحانه قال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) .
فقيل لهم: لم يذكر في الظاهر الزاني بها والزانية به، بل أطلق ذلك، فانطلق على اللواط.
فأجابوا بأن المفهوم من الظاهر، أن الفعل منهما لا من أحدهما «1» .
ومتى قيل: إذا لم يفهم ذلك من قوله والسارق والسارقة، بل دخل فيها السارق من غيرها، فكذلك هاهنا.
فأجابوا بأن الزنا لا يكون إلا بينهما، ومن فعلهما، والسرقة ينفرد بها أحدهما فافترقا.
وهذا ركيك عندنا، وأول ما فيه أن لا يدخل في عمومه الزاني بالمجنونة والصغيرة والمكرهة على الزنا والحربية، إذا لم تعرف أحكام
__________
(1) أنظر أحكام القرآن للجصاص الجزء الخامس ص 94 حتى 99.(4/289)
الإسلام، إلى غير ذلك من المسائل التي لا خلاف في تناول عموم اسم الزنا لها.
ولأنه تعالى إذ قال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ، فليس يعني به شخصين فقط، وإنما ذلك للجنس، وإذ كانت الألف واللام لإبانة الجنس، فكأنه ذكر الرجل الزاني مطلقا، وذكر جنس الزانيات، فلا يجب أن يفهم منه زناه بها حتى يخرج منه اللواط، وعلى أن الذي ذكروه لا فرج فيه، فإنه إذا لاط بها مطاوعة، فهي زانية وهو زاني.
نعم: نقول إنه لا يتناول لواط الرجل بالرجل، وهو لا يقدح في المقصود، بعد أن ثبت كون اللواط في الجملة داخلا تحت اسم الزنا، فبطل ما توهموه.
نعم الوطء دون الفرج لا يعد زنا، لا حقيقة لغة ولا شرعا: أما اللغة، فاسم الزنا أطلق حقيقة على الكامل في جنسه، وله مقدمات ووسائل لا يعد زنا حقيقة، وإنما هو مجاورة للزنا أو موصلة إليه.
فإذا ثبت الكلام في الإسم، فقد اختلف الناس في الداخلين تحت هذا الاسم، فقالت الخوارج: الكل داخلون فلا رجم عندهم.
وأثبت غيرهم الرجم ثم اختلفوا، فمنهم من يعمل بالآية عموما ويضم الرجم إلى المحصن بعد الجلد، وأكثر الفقهاء لا يرون ذلك.
فإذا المراد بالآية البكران، فأما الثيبان المحصنان فحدهما الرجم، وقد رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما عزا ولم يجلده، ولذلك تخصصت الآية بخبر عبادة حيث روى: «والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .(4/290)
ويجوز به استخراج جنس المحصنين من عموم اللفظ، مع أنهم شطر الزناة وأكبر، ومع أن المبالغة في الزجر في اقتضاء ذكر الرجم أولى منها باقتضاء ذكر الجلد، الذي لا يظهر له وقع، بالإضافة إلى الرجم «1» .
قوله تعالى: (فَاجْلِدُوا) .
قصد به بيان المبالغة في الزجر، وعقبه بقوله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، الآية/ 2.
فكيف ينتظم مع هذا أن يكون الرجم مشروعا في ذلك الوقت في حق الثيب، وهم كثر الناس أو شطرهم، ولا يتعرض له أصلا ولا يذكره؟
فلا بد أن يقال: إن في ذلك الوقت ما كان الرجم مشروعا، ثم شرع الله تعالى الرجم بعده، فصار ناسخا للجلد في حق الثيب، وليس يجوز إطلاق لفظ التخصيص في كل موضع، بل للكلام قرائن أحوال، يعلم بها مقصود المتكلم ضرورة، وهذا مما لا يمكن فيه إغفال الرجم وإرادة الجلد في حق الأبكار، فإنه يتضمن ما ذكرناه، فلا يجوز أن يقال: إن الرجم قد كان في حق المحصن، لكنه لم يذكر في هذه الآية.
واختلف الناس في العبد، هل يدخل فيه، وكذلك الأمة؟ والصحيح أنهم دخلوا فيه، ولكن خصصوا بقوله تعالى: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) «2» .
__________
(1) راجع أحكام القرآن للجصاص والصابوني.
(2) سورة النساء آية 25. [.....](4/291)
ويجوز أن يطلق قوله تعالى: (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، الآية/ 2. ولا يراد به العبيد والإماء، لأن المقصود به المبالغة في الزجر، وذلك يقتضي بيان الأكثر الأعظم من الزاجر.
واختلفوا في الذمي هل يدخل فيه؟ ومذهب مالك، أن الذميين لا يحدان إذا زنيا، والظاهر ينفي الفرق بين المسلم والكافر.
إذا ثبت هذا، فقد قال الله تعالى: (فَاجْلِدُوا) ، وهذا عام، إلا أن العلماء اتفقوا على أن الإمام هو الذي يتولى ذلك في حق الرعايا، والسيد في حق مملوكه عند الشافعي، وإذا لم يكن إمام، فإن أفضى استيفاء الحدود من جهة صلحاء الناس إلى هرج وفتنة لم يجز، وإن لم يفض إليه جاز.
ثم لم يختلف السلف في أنه كان جلد الزانيين في ابتداء الإسلام ما قاله الله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) «1» ، (فَآذُوهُما) فكان حد المرأة بالحبس، والأذى بالتعيير، وكان حد الرجل، بالتعيير، ثم نسخ في غير المحصن بقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) ، مع ما بينا فيه من الكلام، وفي المحصن الرجم، وكأن حديث عبادة بعد قوله تعالى:
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) «2» . وقد قال عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا» . وبين النبي عليه الصلاة والسلام بحديث عبادة المراد بالسبيل.
إذا ثبت هذا، فقد اختلف العلماء في المحصن وغير المحصن كما
__________
(1) سورة النساء آية 15
(2) سورة النساء آية 15(4/292)
قدمناه من قبل، والشافعي يضم النفي إلى الجلد في حق البكر، وليس في الآية ما ينفيه، فإن النفي يجوز أن لا يذكر عند ذكر مائة جلدة وإشهار المجلود به، وهذا مما شرحناه في مسائل الفقه، وليس في الظاهر ما ينفي الحد ولا ما يثبته، فهو مأخوذ من السنة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وأوجب الشافعي الرجم على الذميين، كما أوجب على المسلمين، تلقيا من الخبر النص في حق الذميين من عموم قوله عليه الصلاة والسلام:
«الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» «1» .
ومالك يقول: إنما رجمهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حيث لم يكن لليهود من ذمة، وتحاكموا إليه فحكم بينهما بحكم التوراة، فلم يكن في قتله نقض ذمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا بعد في إجراء أحكامهم عليهم، وهذا بعيد، فإن قتل الكافر إن جاز، فإنما يجوز بغير وجه الرجم، والرجم لم يكن مشروعا، فيحرم بحكم شرعنا، فكيف يجوز إجراؤه عليهم على موجب دينهم؟
وإذا ثبت ذلك، فقد قال تعالى: (فَاجْلِدُوا) ، فالظاهر يقتضي فعل أول ما يسمى جلدا، فإذا فعله واستوفى العدد، فقد وفي الظاهر حقه، وما زاد على ذلك على أصل التحريم.
ولا يجوز أن يتخير الجلاد بين التخفيف والتشديد، فإنه لا يجوز أن يتخير الإنسان بين عقوبة مسلم وتركها.
والمفسرون والفقهاء، حملوا ظاهر الآية على ما جرت به العادة من فعل الضرب أو التأديب «2» .
__________
(1) أخرجه الطبري في معجمه الكبير والامام أحمد في مسنده.
(2) أنظر تفسير القرطبي، سورة النور.(4/293)
وروى علي بن موسى القمي أنه صلّى الله عليه وسلّم أوتي برجل قد أصاب حدا، وأوتي بسوط شديد، فقال: دون هذا، وأوتي بسوط دونه فقال:
هذا «1» .
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أمر برجل يضرب الحد فقال: لا ترفع إبطك.
وعنه أنه اختار سوطا بين السوطين.
فيجب إتباع السنة في ذلك وهو المتعارف في الضرب، ولم يختلفوا في أن هذا الجلد يفرق على جسمه، لأنه المتعارف المتعالم، فإنه إن جمع في مكان واحد خيف عليه القتل، وخرج عن طريقة الضرب.
ولا خلاف أنه يتقي في باب الضرب مواضع المقاتل، والمواضع التي يشين الأثر فيها كالوجه والمذاكر.. وكل ذلك ليس مأخوذا من اسم الجلد، وإنما هو مأخوذ من معنى الحد، والمقصود به.
وظن ظانون أن معنى قوله تعالى: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) ، تشديد الضرب. وروي ذلك عن قتادة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: التعزير أشد الضرب.
وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب.
وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف.. وقال الثوري: ضرب الزنا أشد من ضرب القاذف.
وضرب القذف أشد من ضرب الشرب، والظاهر يقتضي التسوية، وهو مذهب مالك والشافعي.
وقوله تعالى: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) ، يحتمل أن يكون
__________
(1) أخرجه الحافظ جلال الدين السيوطي في الدر المنثور سورة النور.(4/294)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
في ترك الحد وتضييعه، وقد يكون في نقصانه، فلا معنى لتخصيصه ببعض هذه المحامل.
قوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، الآية/ 2: اختلف في المراد بالطائفة، فحملها بعضهم على العشرة، وقالوا أقلها عشرة ولا نهاية للأكثر، وقال آخرون: أقله رجل إلى ألف، والأظهر أنه ثلاثة.. ومما احتجوا به من أن حد الزنا ينبغي أن يكون أشد من حد القذف والشرب، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بضرب الشارب بالجريد والنعال، وضرب الزاني إنما يكون بالسوط، وهذا فيه نظر، فإن ضرب الشارب ما كان مقدرا، والكلام فيما تقدر منه بمبلغ معلوم، وحين أمر بضرب الشارب بالنعال، كان حد الشرب كالتعزير.
ومما قالوه أن القاذف يجوز أن يكون صادقا، فلم يقطع بجريمته، والزنا بخلافه، فكيف يسوي بين الضربين، وهذا هوس، فإن الشرع ما أوجب الحد إلا عند القطع بكذبه وبقوله شرعا، فلا حاصل لما قالوه، ولذلك ردت شهادته، وقال تعالى: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) ، الآية/ 13. وعلى أنا أظهرنا مزية الزنا بزيادة الجلدات، فمن أين يجب ظهور المزية ووصف الضرب من جهة الشدة «1» .
قوله تعالى: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ) ، الآية/ 3.
روى إسماعيل بن إسحاق عن ابن مسعود أنه قال في الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها: إنهما زانيان ما عاشا.
__________
(1) أنظر الإكليل للسيوطي في شرح هذه الآية.(4/295)
وروي مثله عن عائشة وعن علي.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا تاب الرجل حل له أن يتزوجها.
وروي عن ابن عمرو بن عباس فيمن زنى بها ثم تزوجها، أن أوله سفاح وآخره نكاح، فأما المروي في سبب نزول الآية، فهو أن رجلا كان يقال له مرثد كان يحمل الأسرى وله صديقة بمكة يقال لها عنان من البغايا، قال: فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: أنكحني عنانا، فأمسك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يرد علي شيئا حتى نزلت هذه الآية، فقال لي: يا مرثد، إن الزاني لا ينكح إلا زانية.
ونقل عن سعيد بن المسيب أن الآية منسوخة بقوله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) «1» ، ودليل النسخ، أنه جوز للزاني أن ينكح مشركة، وذلك غير جائز، فإنه منسوخ بقوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) «2» .
وقال بعضهم: هو وارد في نفس الوطء لا في عقد النكاح، فكأنه قال: وطء الزنا لا يقع إلا من زان أو مشرك، فأما من المؤمن فلا يقع.
وهذا بعيد، فإن قوله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ) ، يقتضي تقدير كونه زانيا، وإن النكاح ممتنع إما نهيا وإما خبرا، فلا يجوز حمله على الوطء.
ووطئ الزانية محرم على غير الزاني، كتحريمه على الزاني، فأقوى التأويلات أن الآية نزلت في بغايا الجاهلية، والمسلم ممنوع من التزوج بهن، فإذا تبن وأسلمن صح النكاح، وإذا ثبت ذلك، فلا يجب كونه منسوخا.
وذهب بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي إلى أن المجلود في الزنا
__________
(1) سورة النور آية 32.
(2) سورة البقرة آية 221.(4/296)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
لا يتزوج إلا مجلودة مثله، فإن تزوج غير زانية، فرق بينهما بظاهر هذه الآية عملا بالظاهر.
ولكن يلزمه عليه أنه يجوز للزاني أن يتزوج بالمشركة، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك.
وهذا في غاية البعد، وخروج عن الإسلام بالكلية، بما قال هؤلاء، إن الآية منسوخة في المشركة خاصة دون الزانية، وهؤلاء يروون عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي بن كعب وابن عمر مثل مذهبهم. ورووا عن المقبري عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله، واستدلوا عليه بقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ- إلى قوله- مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) «1» ، فإنه تعالى لم يبح عند الضرورة وخوف العنت إلا بشرط الإحصان، ففي حال الضرورة لأن يحرم أولى.
واستدلوا عليه أيضا بما ثبت من وقوع الفرقة باللعان، لأنه قد أقر بأنها زنت، فإذا صح الزنا ببينة، فالمنع من تزوجها أولى.
وأما الكلام في الآية فعلى ما تقدم، وأما الأخبار فمتعارضة والقياس لا وجه له بإقرار نفسه فيما يوجب الفرقة، فلما ثبت بالإجماع أن لا فرقة في هذه الحالة، ثبت أن عند اللعان إنما تجب الفرقة لأمر آخر، إذ لو وجب لكونها زانية، لكان اعترافه بذلك فيها، كاعترافه بأنها أخته من نسب أو رضاع، في ألا ينتظر في تحريمها عليه أمر سواه.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) ، الآية/ 4.
__________
(1) سورة النساء آية 25.(4/297)
والإحصان يختلف معناه باختلاف مواضعه على ما شرحه الفقهاء.
والمعتبر هاهنا في إحصان المقذوف: البلوغ، والعقل، والإسلام، والحرية، والعفة من الزنا، وكثير من ذلك لا يدل عليه اللفظ.
وليس في نفس اللفظ من طريق اللغة، إلا دلالة تخصيص الرمي بالزنا، إلا أن يشبه أن يكون المراد به ذلك، مع ما ذكرنا من الإحصان، ثم لما اجتمعت الأمة في حق المحصنة على أن معنى الرمي بالزنا، جعلوا المحصن في معنى المحصنة.
وقوله: (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) : يدل على أن شهادة الأربعة شرط في إثبات الزنا، وليست لصفات الأربع ذكورة وعدالة وحرية ذكر، لكن الإجماع منعقد عليه، وليس في الآية رمي المرأة الرجل، ولكنها في معناه شرعا.
واختلف الناس في التعريض بالقذف، فمالك يوجب به الحد، والشافعي وكافة العلماء على خلافه، ولا شك أن الشرع إذا علق الحد على الصريح، فالمحتمل دونه، فلا يلحق به، سيما في الحدود التي تدرأ بالشبهات.
ومن أقوى ما يتعلق به في ذلك ما قاله الشافعي، من أن التعريض بالخطبة لم يلحق بالصريح مع القرائن الدالة على مقصود المتعرض، فليكن في القذف كذلك، فإنه أولى بالسقوط بالشبهة.
وإذا ثبت ذلك، فقد اختلف العلماء في حد العبد، فقال أكثر العلماء عليه إذا قذف أربعون.
وقال الأوزاعي: بجلد ثمانين.
وعن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، أنه قال في عبد قذف حرا أن يجلد ثمانين.(4/298)
وقال أبو الزناد: جلد عمر بن عبد العزيز عبدا في الفرية ثمانين.
وقال الله تعالى:
(فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) «1» ، وفهمنا من ذلك أن حد الزنا حق الله تعالى، وأنه ربما كان أخف ممن قبلت نعم الله عليه، فحسن ممن عظمت نعم الله تعالى عليه، وأما حد القذف فحق الآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية. وربما قالوا: لو كانت تختلف لذكرها كما ذكرنا في الزنا؟ وغاية ما يقال أن العبد منزجر عن قذف الحر أكثر من انزجار الحر، واختلف في حد القاذف دون مطالبة المقذوف، فقال ابن أبي ليلى:
يحده الإمام وإن لم يطالبه المقذوف.
وقال مالك: لا يحده الإمام قبل طلبه، إلا أن يكون الإمام قد سمعه فيحده، إذا كان مع الإمام شهود عدول.
وهذا مشكل على أبي حنيفة، إذا جعله حقا لله تعالى، فإن حق الله تعالى كيف يتوقف على طلب الآدمي، وإذا لم يسقط بإسقاطه، كيف يتوقف على طلبه؟ فهو مناقضة منهم.
واعلم أن قول الله تعالى: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) ، الآية/ 4: حكم من الله تعالى في القاذف بأربعة شهداء، فعلق الشرع على القذف عند إظهار العجز عن إقامة الشهادة ثلاثة أحكام:
أحدها: جلد ثمانين.
والثاني: بطلان الشهادة.
__________
(1) سورة النساء آية 25.(4/299)
والثالث: الحكم بتفسيقه إلى أن يتوب.
فقال قائلون: بطلت شهادته ولزمه سمة الفسق قبل إقامة الحد، وهو قول الشافعي والليث بن سعد «1» .
وقال أبو حنيفة: شهادته قبل الحد مقبولة.
والذي ذكره الشافعي ظاهر جدا، فإن الحد لا يقام عليه إلا بعد الحكم بفسقه، فأما أن يتقدم إقامة الحد الحكم بفسقه فكلا، ولا يبتدأ بإقامة الحد عليه إلا بعد ظهور عجزه، لا أن بإقامة الحد يظهر عجزه.
وبالجملة: الامتناع من إقامة الحد مع تردد الخبر بين الصدق والكذب أمثل من الحكم بفسقه والتردد في شهادته، فإن الشهادة ترد بالتهمة والشبهة، فكيف يتأتى لعاقل أن يقول ذلك.
ونقرر ذلك على وجه آخر فنقول: الموجب لرد الشهادة لا يجوز أن يكون هذا الحد، فإن إقامة الحد من فعل غيره فيه، فلا يجوز أن يؤثر، ولأنه إلى التكفير أقرب، فالحدود كفارات لأهلها.
فهذه المسألة مقتبسة من الآية.
المسألة الأخرى: أن شهادة القاذف تقبل بعد التوبة، خلافا لأبي حنيفة «2» .
وظن ظانون أن هذه المسألة مبنية على أن الاستثناء إذا تعقب جملا، هل ترجع إلى الجميع أم إلى الجملة الأخيرة؟ ومن يرده إلى الجملة الأخيرة يحتج برجوعه إليه في مثل قوله تعالى: (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ
__________
(1) أنظر كتاب الأم للإمام الشافعي، وتفسير الدر المنثور للسيوطي.
(2) أنظر شرح الهداية لابن عابدين باب الحدود.(4/300)
أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ) «1» ، فكانت المرأة مستثناة من المنجين لأنها تليهم، ولو قال: لفلان علي عشرة إلا ثلاثة إلا درهم، فقوله إلا درهم يرجع إلى الثلاثة.
وهذه جهالة، فإن فيما قالوه إذا كان الاستثناء من الاستثناء، والاستثناء من النفي اثبات، ومن الإثبات نفي، وقد تعذر الرد إليهما على اختلافهما فيرجع إلى الأقرب، ولا خلاف في أن الاستثناء في قوله تعالى:
(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ- إلى قوله- إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) «2» يرجع إلى الجميع ويتعلق بالكل، وكذلك في قوله:
(وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ- إلى قوله- فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) «3» . والتيمم راجع إلى الجميع.
وكل ذلك مستغنى عنه، فإنا على القولين جميعا نرى قبول شهادته بعد التوبة، فإن علة رد شهادته رميه وفسقه لا إقامة الحد عليه، لما بينا من أن إقامة الحد عليه من فعل غيره فيه، فلا يؤثر في شهادته، فهو أقرب إلى التفكير كما روى في الحدود، والتوبة إذا رفعت علة رد الشهادة وهو الفسق، دار القول. فإن المعلول لا يثبت دون العلة فاعلمه، هذا تمام ما أردنا بيانه من ذلك.
وعندهم أن الله تعالى قال: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ- إلى قوله-
__________
(1) سورة الحجر آية 59- 60.
(2) سورة المائدة آية 33- 34. [.....]
(3) سورة النساء آية 43.(4/301)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ) وعندهم: إن رمى قبلت شهادته، فقد خالفوا ظاهر الآية وما خالفنا.
وظن بعض أصحاب أبي حنيفة أنه تعالى لما قال: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) ، فإذا أتى بأربعة شهداء فساق فلا حد عليه، فإنه أتى بأربعة شهداء وذلك بالفساق، فلو جاء بأربعة من المحدودين والكافرين، فلا يسقط الحد عنه، وكذلك العبيد، ولا شك أن لفظ الشهداء ليس فيه هذا التفصيل فهو به متحكم، ولأنه تعالى لما قال: «فإن يأتوا بالشهداء» ، يعني: إذا لم يأت بالشهداء الذين يحصل منهم الصدق، ويقبل قولهم، فأولئك كاذبون، فأما أن يجيء بأربعة لا يصدقهم الشرع في إثبات الزنا، فكيف يمكن أن يدرأ الحد عنه؟ فهذا مقطوع به، وربما بنى ذلك على أن الفاسق من أهل الشهادة، وذلك مجرد لفظ، فلا معنى إذا تبين أن الفاسق لا يجوز أن تقبل شهادته في الحدود، وإن ظهر عند القاضي بالقرائن صدقه، ولا يجوز إقامة الحد على المشهود عليه بشهادتهم، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين.
وعند الشافعي يجب الحد على الشهود وعلى القاذف جميعا.
ومن أعجب الأمور أنهم قالوا: العدول إذا شهدوا على الزنا متفرقين، فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد يحدون.
وقال الشافعي: لا يحدون وتقبل شهادتهم، مع أنه جاء بأربعة شهداء.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) ، الآية/ 6.
دل به على أن الأول لم يتناول الزوجات، أعني قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) .
ويحتمل أن يقال إنه تناول، ولكن جعل هذا محلفا، وأقيم لعانه مقام الشهادة، فإنه تعالى استثناه عن الشهادة.(4/302)
قوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) : وترتب على ذلك اللعان متى كان حجة دامغة، فمتى لم يدفع الزوج بلعانه، كان بمثابة الأجنبي الذي لا يدفع الحد بالشهادة، وإذا لم يجعل الشرع اللعان حجة، فلا فرق بين أن يقذف حرة أو أمة، أو يكون القاذف حرا أو عبدا، فإنه حجة خاصة لمكان حاجة الزوجية.
وأبو حنيفة يرى اللعان شهادة من وجه، حتى لا يصح من العبد، مع أن حقيقة الشهادة لا تعتبر، فإن الشهادة في الأصل تصديق الغير، والملاعن يصدق نفسه، فحيث لا تعتبر حقيقة الشهادة ومعناها، كيف تعتبر صفتها الزائدة على معناها، فإن الشرائط تابعة للحقيقة، وهذا لا مخلص منه.
وربما قال:
إن اللعان شهادة في هذا المعنى، ثم لم يوفر عليها مقتضاها، فإن شهادة الحر على الأمة الكافرة مقبولة، ثم لا يلاعن المسلم والحر زوجته الكافرة والأمة، وعند ذلك نرجع إلى أصل آخر فنقول: في اللعان معنى العقوبة، فاللعان شرع قائما مقام الحد، ولا حد على الرجل المسلم يقذف زوجة، الأمة والكافرة، ومن قبل كان يرى اللعان شهادة، والشهادة تمتنع من الرقيق تعظيما لرتبة الشهادة، فإذا جعلهما حدا، كان شرعها باعتبار تحقيق من يلاعن، فمن عد بزنا ممن يجمع بين المتناقضين فنقول: اللعان شهادة، فلا يصح ممن لا يدلي بمنصب الحرية، ثم يحط اللعان إلى رتبة الحد المشروع إهانة للحدود، ويقال سبحان الله، عد اللعان مخلصا وتخفيفا من الله تعالى، فكيف يعد إهانة، وقد شرع إكراما وإعظاما؟
فهذه المناقضات كيف يمكن تلفيقها، ثم يرى اللعان شهادة ويقول:
إنه إذا لاعن فلا حد عليها، فإن بمجرد قوله لا يمكن إثبات حد على المرأة، ثم يقول: إذا لاعن الزوج فقد حد، فإذا أكذب نفسه كيف(4/303)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)
يرجع بعد ذلك إلى إيجاب الحد عليه ثانيا، أفترى أنا نوجب الحد مرة ومرة أخرى؟ فكيف يطمع الفقيه في الجواب عن ذلك؟
ومما قاله: إن اللعان حد، وإذا قذف الزوج وامتنع من اللعان لا يحد، بل يحبس حتى يلاعن، وإذا لاعن حبست المرأة، ولا حد عليها، فإنه لو لزمها الحد كان ذلك إيجاب الحد عليها بمجرد قوله، ثم قال:
واللعان حد، وقد وجب اللعان عليها بمجرد قوله، فسبحان الله، كيف تلفقت لهم هذه الخرافات والمتناقضات؟
ثم قال الله تعالى: (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ) ، الآية/ 8:
فجعل لعانها دارئا للعذاب عنها.
وعندهم أن اللعان حد، والحد يدرأ العذاب، وهي لا عذاب عليها، وهي لا تحبس لعين الحبس، وإنما تحبس للعان، فلعانها يدرأ لعانها على هذا التقدير.
فانظر كيف توالت غلطات الخصم في فهم معنى «1» هذه الآية. وقال:
لو أتى بمعظم كلمات اللعان، قام مقام الكل، وهو خلاف القرآن، وخلاف قياس الحد أيضا، فإنه لا يكتفي فيه بالأكثر، وإذا ثبت فساد نظر من يخالف، فنذكر ما رآه الشافعي، قال رحمه الله:
إن الله تعالى شرع اللعان، وعلمنا يقينا أن شرع اللعان رخصة لمكان الحاجة، فلما تأملنا الحاجة، قلنا يجوز أن يكون الأصل في تلك الحاجة هي والنسب الذي يتعرض للثبوت، ولا طريق إلى نفيه إلا باللعان، فكان اللعان موضوعا أصليا لهذا المعنى، وإنما جوز اللعان في النكاح، مع إمكان
__________
(1) انظر تفسير القرطبي سورة النور آية 6- 10.(4/304)
قطع النكاح بطريق آخر، لأن الزوج لما أراد أن يعيرها ويفضحها بما صدر منها. فجعل الشرع اللعان مشروعا في النكاح دون النسب، وهذا المقصود قريب، بالإضافة إلى مقصود رفع النسب.
وإذا ثبت ذلك وجب شرع اللعان دون النكاح لأجل الولد، حتى إذا طلق امرأته ثلاثا وادعت حملا، فللزوج أن يلاعن، وعلى هذا اللعان في النكاح والوطء بالشبهة، فإنه رضي الله عنه فهم أمرا آخر فقال: إذا قذف امرأته بأجنبي وسماه في اللعان، فلا حد عليه للأجنبي، فإنه صار مصدقا شرعا في تلك الواقعة، فصار ذلك شبهه في درء الحد عنه، فهذا نوع من القياس فهمه في موضع الرخصة لفهم خصوص الحاجة.
وأبو حنيفة، رأى أن اللعان حجة خاصة شرعت في النكاح، فلا يثبت إلا في النكاح، ولا شك أن الذي قاله إعراض عن المعنى الخاص المفهوم من وضع اللعان، على أنه ناقص من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى قال: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) «1» .
وقال: (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) «2» .
فحكم بطلاق النساء، ثم إنه صار إلى طلاق البائنة المختلفة من غير نكاح، مع أن الطلاق من خاصة النكاح، فهلا كان كذلك، بل هذا إلى ترجيح، وذلك أنه ليس في إيقاع الطلاق على المختلفة حاجة معقولة شرع الطلاق لأجلها في الأصل، بل الحاجة التي شرع الطلاق لأجلها معدومة في
__________
(1) سورة الطلاق آية 1.
(2) سورة البقرة آية 231.(4/305)
حق المختلفة، فأما هاهنا، فالحاجة التي شرع اللعان لأجلها، التي لا تدفع لها إلا باللعان متحققة في النكاح الفاسد، وبعد الطلاق، فأولى بصحة اللعان.
والوجه الآخر في الترجيح، هو أنا إذا شرعنا اللعان في حق المطلقة، لم يخصص ولم يناقض، وقلنا الولد بنفي اللعان دون النكاح مطلقا. وأبو حنيفة إذا أوقع الطلاق بعد البينونة، لم يمكنه إخراج الطلاق عن كونه متعلقا بالنكاح، فإنه لا يقع الطلاق في النكاح الفاسد خلافا لأحمد، ولا بعد البينونة وانقضاء العدة، وإن بقيت له طلقتان عليها، واعتقد في ذلك أنا لو نفذنا الطلاق عليها، صار المحل ينقاد تصرفه فيه مبتذلا من غير ولاية له عليه، وذلك في غاية البعد، إذا لم يكن المحل بالتصرف متأثرا، ولا يزول بالتصرف عن المحل حكم وصفه، وإذا جوزوا تصرف الأجنبي موقوفا من حيث إن المحل لا يتأثر به، والطلاق إذا لم يكن له حكم ظاهر في المحل، فيجب أن يقع على الأجنبية، وإن هم زعموا أنه يفوت حل المحل، وذلك تأثيرا يظهر في المحل، فيقتضي هذا أن يكون حكم الطلاق الذي هو خاصية النكاح تفويت ما يستفاد بأصل الولادة، غير متعلق بالنكاح، وذلك جهل مفرط.. وعلى أن الذي ذكر من جواز الابتذال في مدة العدة، إنما يفعل إذا كان جنس العدة مقتضى ولانية، فأما إذا كان حكما شرعيا يثبت حيث لا نكاح كالنكاح الفاسد، فلا ينبغي أن يقع به الطلاق أصلا، وهذا كلام معترض غير متعلق بمقصودنا ولا محيص لهم عنه.
وناقضوا أيضا وقالوا: لو قذف امرأته وماتت بعد القذف بطلاق أو غيره، فلا حد عليه ولا لعان، وقالوا: لا ينتفي الحمل باللعان، مع أن الخبر إنما ورد في الحمل وحده.(4/306)
ولما رأى الشافعي اللعان حجة خاصة قال: قذف الزوجة مثل قذف الأجنبية، لأنها محصنة عفيفة مثل الأجنبية، ويجب على غيره الحد بقذفها، ويجب عليه الحد بقذف مثلها، إلا أن الشرع جعل اللعان مخلصا، فإذا امتنع من اللعان، كان على قياس الأجنبي يقذف الأجنبية، وهذا بين معلوم من القرآن. وإذا كان اللعان خاصا في حق الأزواج، فالشافعي يقول:
جعله الشرع حجة وصدقه فيها، وجعل لها طريقا إلى مدافعة حجته فقال:
(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ) ، فلا بد من إثبات عذاب، ولا يجوز أن يكون ذلك العذاب سجنا، فإن الحبس لا يراد لعينه، وإنما يراد لغيره، فلا بد أن يكون الحبس لطلب أمر وراء الحبس يحبس لأجله، ولا يجوز أن يكون الأمر هو اللعان، فإنها ربما كانت كاذبة في لعانها، فكيف يجوز إجبارها على اللعان، وقد قال كثير من العلماء:
إن العذاب في عرف الشرع عبارة عن الحد، سيما إذا عرف بالألف واللام، وذلك ينصرف إلى المعهود، وهذا لا بأس به، وإن كان يرد عليه بأن العذاب قد لا يختص بالحد، قال الله تعالى:
(إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) «1» ولم يرد الحد.
وقال تعالى: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) «2» ، ولم يرد به الحد.
ويهون الجواب عن كل ذلك، وليس في التقصي عنه كبير فائدة، فإن الغرض يحصل دونه.
__________
(1) سورة يوسف الآية 25.
(2) سورة النمل آية 21.(4/307)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
إذا ثبت ذلك، فقد قال عثمان البتي: لا أرى ملاعبة الزوج امرأته ينقص شيئا، وأحب أن يطلق. والذي ذكره قوي من حيث المعنى والتوقيف، إذ ليس في كتاب الله أنه إذا لاعن ولاعنت يجب وقوع الفرقة، وورد في الأخبار الصحاح، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرّق بين المتلاعنين، وألحق الولد بالابن «1» .. وقال عليه الصلاة والسلام:
«المتلاعنان لا يجتمعان» «2» .
«ولو بقي النكاح إلى رقت التفريق فهما مجتمعان» «3» .
قوله تعالى: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) ، الآية/ 12.
أي بإخوانهم خيرا، وفيه دليل على أنه لا يحكم بالظن في مثل ذلك، وأن من عرف بطريقة الصلاح لا يعدل عن هذا الظن فيه الخبر محتمل.
قوله تعالى: (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) ، الآية/ 13:
دليل على أن الأربع حد في هذا الباب، لا يجوز أن ينقضي منه شيء.
ودليل على أن القاذف مكذب شرعا، إذا لم يأت بأربعة شهداء، فإن كان في أمر عائشة يقطع بتكذيبهم في الغيب، وقال علماؤنا: من صدق قذفه عائشة فهو كافر، لأنه راد لخير الله تعالى الدال على كذبهم.
وعلى هذا قال أصحابنا فيمن وجد رجلا مع امرأة فاعترفا بالنكاح، أنه لا يجب تكذيبهما، بل يجب تصديقهما.
__________
(1) أنظر أحكام القرآن للجصاص ج 5 ص 136- 139.
(2) أخرجه أبو داود في سننه.
(3) أخرجه الامام البخاري في صحيحه.(4/308)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
وقال مالك: إنهما يحدان ما لم يقيما بينة على النكاح، وهذا يخالف ظاهر هذه الآية، وعلى هذا بنى أبو حنيفة جواز بيع درهم ودينار بدرهمين ودينارين أنا تخالف بينهما تحسينا للظن بالمؤمنين.
وقال الشافعي قريبا من هذا فيمن وصى بطبل وله طبلان: طبل لهو، وطبل حرب، أنه يحمل على طبل الحرب تحسينا للظن بالمؤمنين، وحمل أمورهم على ما يجوز.
إلا أن أبا حنيفة كدر صفو هذا المعنى بإيجاب الحد على المشهود عليه بشهادة شهود الزوايا، بناء على بعد في إثبات الزنا،
وهذه الآيات إلى خاتمة الآيات في قوله:
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) :
تدل على وجوب حسن الإعتقاد في المؤمنين، ومحبة الخير والصلاح، والزجر عن إشهار الفاحشة واستنباطها بدقائق الحيل والحكم بالظن والحسبان.
وعلى قريب منه يدل قوله عليه الصلاة والسلام: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» «1» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله» «2» .
«ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن يأتوا إليه» .. رواه ابن عمر.
وعن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود والنسائي.
(2) أخرجه الامام أحمد وأبو داود، والطبراني في المعجم الكبير.(4/309)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
«لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير» «1» .
قوله تعال: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) ، الآية/ 22.
نزلت هذه الآية في شأن أبي بكر، فإنه حلف أن لا ينفق على مسطح الذي تكلم في إفك عائشة «2» ، وذلك يدل على أن الأولى بالإنسان إذا حلف على أمر فرأى غيره خيرا منه، أن يحنث ولا يستمر على اليمين.
وفيه دليل على بطلان قول أبي حنيفة في أن الأيمان تحرم، وإن الكفارة وجبت لكون المحلوف عليه محرما بحكم يمينه، وهذا أمر ليس في هذا المعنى، وقد قال قوم: إذا حنث فلا كفارة، وكفارته أن يفعل ما هو خير، وهذا بعيد، فإن صحيح الخبر يخالفه، فإن عليه السلام قال:
«فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» .
قوله تعالى: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) ، الآية/ 27.
نقل عن ابن عباس أنه قال: قوله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) غلط من الكاتب.
ولا ينبغي أن يصح هذا عنه «3» ، فإن القرآن ثبت جميعه بحروفه
__________
(1) أخرجه الامام أحمد، والبخاري ومسلم والنسائي، وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه.
(2) أنظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري، وتفسير ابن كثير، والفخر الرازي وبقية كتب التفسير المعتمدة مثل الطبري، والدر المنثور للحافظ للسيوطي وقد توسع في شرح هذه الآية صاحب محاسن التأويل ج 12 ص 4470 ص 4482.
(3) أي لا يصح أن يكون ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. [.....](4/310)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
وكلماته بطريق اليقين، ولا يجوز أن يضيع منه شيء بأمثال هذه الأسباب فإن الله تعالى ضمن حفظه.
إذا ثبت ذلك، قال أبو أيوب الأنصاري، قلنا: يا رسول الله، عرفنا السلام في الاستئناس.
قال: يتكلم الرجل بتسبيح أو تكبير ويتنحنح، يؤذن به أهل البيت.
وفي قراءة ابن مسعود: حتى تستأذنوا.
وقال ابن عباس: تستأذن على أمك وعلى أختك، وكل من لا يجوز أن ترى منها عورة.
وما نرى الأمر في السلام يبلغ مبلغ الوجوب، إلا أن الاستئذان لا بد منه، وهذا الاستئذان ليس له حد عرفا، ولكن ورد في بعض الأخبار أن الاستئذان ثلاث، فإن أذنوا وإلا فارجع.
رواه أبو موسى وأبو سعيد عن رسول الله، وفيه قصة مع عمر ذكرناها في أصول الفقه.
قوله: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) ، الآية/ 28.
معناه أنه ليس يجوز أن يقول ليس فيها أحد يمنع، فالدخول مباح، بل الحظر أصل، إلى أن يرد الإذن، لأنه تصرف في ملك الغير.
وقوله: (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) ، أي حتى تجدوا من يأذن لكم، وإن كان الآذن صبيا أو رسولا فيجوز الدخول.
قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ، الآية/ 30.
فلم يذكر تعالى ما يغض البصر منه ويحفظ الفرج، غير أن ذلك معلوم بالعادة، أن المراد به المحرم غير المحل:(4/311)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
فإن قيل: فهذا الخطاب خاصة للمؤمنين، أو يدخل معهم سائر المكلفين؟
فالجواب أن ظاهره للمؤمنين، ولكن المراد به كل الناس، من حيث علم أن ما يحل من ذلك وما يحرم لا تختلف أحوالهم فيه، وغض البصر قد يجب على كل حال في أمور، وقد يجب في حال دون حال في غيرها، فما ثبت أنه عورة، فغض البصر عنه واجب، وما ليس بعورة، فيجب أيضا كذلك، إلا لغرض صحيح، فإنه يباح عند ذلك «1» .
قوله تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) .
الآية/ 31.
يعني إلا ما لا بد من النظر إليه، مثل ما يظهر من الثياب والدملج والخلخال والخاتم، والذي يتعلق بالمناظر، وما يباح منها وما لا يباح منها، يستقصى في كتب الفقه.
والمراد بما ملكت أيمانكم على المذهب الصحيح الأطفال. فأما الرجال فلا، إلا أن يكون محرما، والظاهر يقتضي خلاف ذلك، ولكن قياس الشرع يأبى مقتضى ذلك الظاهر.
وقيل المراد بقوله: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) الإماء. حتى لا يتوهم متوهم أنهن لسن من نسائهن في قوله تعالى: (أَوْ نِسائِهِنَّ) :
واختلفوا في قوله: (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) ، فقال قوم: هو العنين، وقال آخرون: هو الأبله، وقال آخرون: هو الأحمق الذي لا إرب له.
__________
(1) أنظر تفصيل القول في الفخر الرازي تفسير سورة النور آية 30 وتفسير القاسمي ج 12 ص 4504 وما بعدها.(4/312)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
قوله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ) ، الآية/ 32.
ظاهره الأمر من الله تعالى بالنكاح الأيامى «1» .
واختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: المأمورون هم الأولياء، وهو مذهب الشافعي.
وفيه دليل على عدم استقلالهم.
ومنهم من قال: كل أحد إذا كان وليا أو مأذونا له.
والمقصود أنه إذا حصلت الرغبة منها وجب الإنكاح، وأنه لا يجوز العضل والمنع، وذلك يقتضي الاختصاص بالأولياء والحاكم، فإن هؤلاء الذين يجب عليهم التزويج دون الأجانب.
واستدل أصحاب الشافعي بما تعقبه من قوله: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) ، وأن ذلك لما دل على سبب ولايتها، فكذلك في حق غيرها، وهذا تلقي الظاهر من اقتران المسلمين ذكرا، وذلك يدل على تساويهما حكما من وجه آخر، وهو أن الإنكاح قد يجب في حق الأيم والبكر البالغة، إذا طلب، وليس يجب في حق العبد والأمة.
فليس قوله: (وَأَنْكِحُوا) ، مما يمكن إجراؤه في الجميع على حد واحد، لأن منه ما يجب ومنه ما لا يجب، وهذا مما لا خفاء به، فاعلمه.
قوله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، الآية/ 33.
أمرهم بالتعفف- عند تعذر النكاح- عما حرمه الله تعالى، وذلك على الوجوب.
__________
(1) الأيامى: جمع أيم، وهو من لا زوجة له، أو لا زوج لها.(4/313)
وفيه دليل على أن إباحة الاستمتاع موقوفة على النكاح. ولذلك يحرم ما عداه، ولا يفهم منه التحريم بملك اليمين، لأن من لا يقدر على النكاح لعدم المال لا يقدر على شراء الحارية غالبا.
وفيه دليل على بطلان نكاح المتعة، ودليل على تحريم الاستمناء «1» .
قوله تعالى: (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) :
روي عن عطاء أنه قال: ما أراه إلا واجبا، وهو قول عمرو بن دينار.
واعلم أن إيجاب ذلك لا محمل له إلا التوقيف، وإلا فإجبار المالك على إزالة ملكه لا وجه له، ولا يقتضيه أصل الشرع وقياسه، لأن الكتابة بعيدة عن قياس الأصول، وتقتضي الأصول بطلانها، فيشبه أن يكون قوله:
(فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) ، رخصة في الكتابة رفعا للحرج المتوهم، مثل قوله تعالى:
(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) «2» .
ومثل قوله: (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) «3» .
وكل ذلك رفع للحرج.
وكذلك، إذا قلنا الأصل امتناع الكتابة، إلا أن الشرع أرخص فيها وجوزها بطريق الرخصة، فمطلق الأمر فيه لا يظهر منه الوجوب.
__________
(1) الاستمناء بالكف، وقد ذكر ذلك القرطبي في تفسيره والفخر الرازي وصاحب محاسن التأويل في تفسير سورة المؤمنون.
(2) سورة المائدة آية 2.
(3) سورة الجمعة آية 10.(4/314)
ولأن تعليقها بابتغاء العبد مما يدل على أنها غير واجبة، ولو وجبت لوجبت حقا للشرع، غير متعلقة بابتغاء العبد.
والذي يخالف في ذلك وينصر مذهب عطاء يقول: إنما احتمل الشرع مخالفة قياس القواعد ابتغاء تحصيل العتق الذي هو حق الله تعالى «1» ، والمقصود به تفريغ العبد بحريته لطاعة الله تعالى، بعد أن كان كثيرا من أوقاته لغير حق الله عز وجل.
وإذا ثبت أن الأمر كذلك، فقد وضع الله تعالى ذريعة لتحصيل هذه المكرمة شرعا بلفظ الوجوب.
فمخالفة قياس الأصول كانت لتعظيم أمر الحرية، فمن أين مبعث الوجوب؟
نعم في قوله تعالى: (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) ، و (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا) . كل ذلك لغرض غير غرض الشهادة وغير مقصود الشرع، وهاهنا هذا فيه تحصيل الحرية، فاحتمل فيه ما احتمل من مخالفة قياس الأصول لهذا المعنى، حتى جعل له في الزكاة قسط، ولم يجعل ذلك إلا ليتوصل به إلى الحرية، وأوجب كثير من العلماء فيه التأجيل إرفاقا بالعبد، فكان هذا الإرفاق مقصود الشرع بلفظ الأمر الدال على الوجوب، فما الذي منع من وجوبه؟
يبقى أن يقال: ولو كان واجبا لما توقف على ابتغاء العبد.
قالوا: إذا لم يتمكن العبد، فإجباره على الإضرار بنفسه لا وجه له، وإن كان العبد قادرا على الاكتساب، فلا شك في أنه لا يقصر في حق نفسه في سعي الكتابة، فبنى الشرع على الغالب، ونظيره أن الشرع أوجب الطهارة
__________
(1) أنظر أحكام القرآن للجصاص في تفسير سورة النور(4/315)
لدخولها في محاسن الأخلاق، وتحقيقا لمقصود النظافة والوضاءة وإحياء لمراسم العبادة، وعلم الشرع أن إيجابها عند تغيير الأكوان يجر حرجا، فوضع مراسم تفي بالمقصود.. كذلك هاهنا.
وهذا الذي ذكروه لا وجه له، فإن الترغيب فيه ليزيل عن القلوب ما فيها من منافاة قياس الأصول، ولو وجبت الكتابة لوجبت لمقصودها، وهو العتق، كالطهارة لما وجبت وجبت للصلاة، والعتق لا يجب بالإجماع.
ولا يتحتم بالاتفاق.
وقولهم إنها أوجبت ذريعة فضرب من الهذيان. فإن السيد قادر على استكساب العبد دون الكتابة، فليس يتجدد له بالكتابة حق «1» .
وفيه إزالة ملكه من غير أن يحصل على مقابل له، فهذا تمام ما يستدل به على نفس الوجوب.
ثم قال تعالى: (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) ، الآية/ 33.
قال الشافعي: ثم أمر من يكاتب بالإيتاء، ولا يتصور هذا الإيتاء إلا من جهة حط شيء، ولا يمكن حمله على الزكاة، فإن السيد لا يجب عليه أن يفرق الزكاة إلى عبده إجماعا.
ولا شك أن ظاهر اللفظ لا يقتضي الحط، لأنه ليس بإيتاء للمال، وإنما يدل عليه من حيث المعنى، لأن قوله: (مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) .
لا بد أن يحمل على ملك تجدد بعد الكتابة، وصار مالا مستحقا للسيد، فمن هذا الوجه حسن إطلاق هذا اللفظ عليه.
__________
(1) أنظر أحكام القرآن للجصاص وتفسير القرطبي.(4/316)
وقال إسماعيل بن إسحاق في الرد على الشافعي: كيف تكون الكتابة ندبا والإيتاء واجبا؟ وإذا تبرع به لزمه أحكامه وتوابعه والقضايا المتعلقة به؟ ومعلوم أن النكاح غير واجب، وإذا نكح وجب فيه أحكام لها، وإذا طلق فلها المتعة واجبة على الزوج.
ومما ذكر أن إطلاق مال الله تعالى لا يقتضي إلا الزكاة، ومال الله تعالى في عرف الشرع لا يفهم منه إلا الزكاة، وما عداه لا يضاف إلى الله تعالى بحكم الإطلاق، وقد قسم الله تعالى الحقوق إلى ما يضاف إلى الله عز وجل، وإلى ما يضاف إلى الآدمي، وإن كان الكل حقا لله تعالى.
والجواب أن هذا لما وجب بحق الله تعالى، ولغرض الحرية، حسن أن يقال: مال الله تعالى، لأنه قصد به وجه الله عز وجل وتحصيل ثوابه.
وربما قالوا: إن السيد لا يستحق على المكاتب مالا، حتى يصح أن يقال في الحط، إنه مال آتاه السيد، إنما كان مستحقا له، فأما ما ليس مستحقا له فلا يقال فيه توهم ما يملكه ويستحقه، فإذا لم يكن دين المكاتب مستحقا عليه، فمن أي وجه يوصف السيد بأنه آتاه مالا، وما آتاه شيئا ملكه، ولا شيئا استحقه.
ويجاب عنه بأنه يجوز أن يطلق ذلك، إذا كان المال ينساق إليه، فكأنه آتاه ماله من حيث إنه ينساق إليه وبالجملة، قوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) ، مجاز في الحط من وجوه بينة وحقيقة في الزكاة، وقوله: (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ) ، حقيقة أنه خطاب للسادة الذين يكاتبون، مع أنه يجوز أن يحمل على وجه آخر بطريق المجاز، فلم يسلم كل واحد من المحملين على مجاز، فإن كان كذلك، فلا يظهر مذهب الشافعي من حيث التعلق بالظاهر، ويتجه للشافعي أن يقول: إيتاء المكاتب(4/317)
الصدقات فهم من قوله تعالى: (وَفِي الرِّقابِ) ، فهذا لا بد أن يكون له فائدة زائدة، تشهد له أن ما آتاه الواحد منا، يجب أن يكون على وجه إذا حصل عند المعطى يتصرف فيه، ولم يحصل للسيد عليه بدلا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه إياه، ولو كان الإيتاء واجبا، لكان وجوبه متعلقا بالعبد، ويكون العبد هو الموجب وهو المسقط وذلك مستحيل، لأنه إذا كان العبد يوجبه وهو بعينه يسقطه، استحال وجوبه، لتنافي الإيجاب والإسقاط «1» .
وبالجملة، ما صار مستحق الإسقاط فحكمه أن يسقط، ولا نعرف في مسائل الشرع مسألة أعوص على أصحاب الشافعي من مسألة الإيتاء، ولا معتمد لهم فيها إلا آثار الصحابة، وهي معتمدة قوية ذكرناها في كتاب المصنف في الروايات «2» .
واعلم أن الكتابة من الأسماء الشرعية، فإنها على الوجه الذي ثبت في الشريعة لم تكن معلومة، فحل ذلك محل الصلاة والصيام.
ثم اختلفوا بعد ذلك، فمنهم من قال: يعقل من ظاهرها التأجيل: إذا لم يكن شرطا فيها لم تكن كتابة.
وقال بعضهم: بل لا يعقل ذلك من الظاهر، وهذا أظهر، فإن الشيء قد يكتب ولا تأجيل فيه، كما قد يكتب وهناك تأجيل، فالظاهر لا يدل على ذلك، وقول من يقول إنها تجوز حالة، وقول من يقول لا تجوز إلا مؤجلة أو منجمة موقوف على الدليل، لأن الظاهر لا يشهد بأحد هذه الوجوه.
__________
(1) أنظر أحكام القرآن للجصاص، وتفسير القرطبي.
(2) وكتاب المصنف في الروايات، هو من الكتب الهامة جدا في فن الفقه والحديث قام بتأليفه مصنف هذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن.(4/318)
واختلفوا في صورة الكتابة، فقال بعضهم: يكفي أن يكاتبه على دراهم معدودة فيعتق بالآداء في وقته.
وقال بعضهم: بل لا بد أن يقول: فإذا أديته إلي فأنت حر، ليجمع بين العقد وبين تعليق الحرية بالصفة، لأن عنده أن العقد بينه وبين السيد لا يصح، فتحريره له تعلق بصفة تصح، فلا بد من ضم ذلك إليه.
ولم يختلفوا في أن ذلك رخصة، لأنا لو خلينا العقل، لكان يبطل، لأنه أزال ملكه بملكه، إذ الذي تحصل في يده ملك للمولى، لكنه بعقد الكتابة جعل لما يحتوي عليه حكم مخصوص، لم يبلغ حد الملك، ولا وقف على الحد الذي كان وهو رقيق خالص.
وأحكام الكتابة مبينة في مسائل الفقه.
قوله تعالى: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ، الآية/ 33.
روي عن جابر في سبب نزول الآية، أن عبد الله بن أبي بن سلول كانت له جارية يكرهها على الزنا «1» .
والعبرة بمطلق اللفظ، فتدل الآية بمطلقها على تحريم الإكراه على الزنا، وعلى تحريم أخذ البدل، وهو المراد بنهيه صلّى الله عليه وسلّم عن مهر البغي، وتدل على أن الإكراه يصح في الزنا فيما يحصنها، لأنه مفعول فيها، فعلى كل الأقاويل يجوز أن تكره عليه، ويدل على أنها إذا أكرهت فلا إثم عليها، فإن الله تعالى قال: (فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، الآية/ 33.
__________
(1) كما ذكر ذلك الواحدي في أسباب النزول، والسيوطي أيضا، والطبري في تفسيره.(4/319)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
فإن قيل: فإذا لم يكن عليها إثم لمكان الإكراه، فما الذي يغفر؟
فجوابها أن يقول:
لما كان لولا الإكراه لكان عليها إثم في ذلك، زال الإثم لمكان الإكراه، وبين أن دخول الإكراه فيه هو الذي أزال عقابه، ولذلك ألحقه بباب ما يغفر، وهذا كما قال الله سبحانه في تناول الميتة بلا إثم للمضطر: (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
(إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) :
إنما ذكر تصوير الإكراه، لأن الإكراه لا يتصور إلا مع بذلها نفسها، فذكر إرادة التحصن تصوير الإكراه.
قوله تعالى: (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) ، الآية/ 48.
فيه دليل على أن من ادعى على غيره حقا ودعاه إلى الحاكم، وجبت عليه إجابته والمسير معه إليه، وعلى الحاكم أن يعد به عليه.
قوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) ، الآية/ 58.
قال المفسرون: هذا في الإماء، فأما في العبيد فلا، لأنه ذكر بلفظ مذكر، بناء على لفظ المماليك المتناول للرجال والنساء، ولو حملناه على العبد البالغ، استوى في وجوب الاستئذان هذه الأوقات وغيرها، من حيث يحرم عليه أن ينظر إلى عورة سيده وبدن سيدته، ولو حمل على ما دون البلوغ، حصلت فائدته في قوله: (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) ، إلا أنه يقال بين اتفاق حال الفريقين في ذلك، ودل على صحة ذلك بقوله:(4/320)
(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، الآية/ 59.
ذكر إسماعيل بن إسحاق أن ابن عباس كان يقول: «ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم» ، وذلك يوافق ما قلناه.
وروى أن نفرا سألوا ابن عباس عن هذه الآية فقال: إن الله غفور رحيم، رفيق بالمؤمنين، يحب السترة، وكان الناس لا سترة لبيوتهم، فربما دخل الخادم «1» أو اليتيمة، والرجل مع أهله في الخلوة، فأمرهم الله تعالى بالاستئذان في تلك العورات.
وإنما خص الله تعالى هذه الأوقات، لأنها في الغالب يخلو فيها المرء بأهله. ولذلك قال: (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) ، فنبه به على أنها أوقات تكشف العورة فيها وفي مثلها، لا يجوز لمن ليس ببالغ أن يدخل ويهجم.
فأما في سائر الأوقات، فالعادة أن يكون المرء مستترا عادلا عن التكشف، فجائز للخدم والصغار أن يدخلوا بلا إذن، لأنه كالمحتاج إليهم من حيث لا يستغني عنهم في خدمة الدار، ولذلك وصفهم الله تعالى بأنهم:
(طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) ، كما قال عليه السلام في الهرة: «إنها من الطوافين عليكم» لما صعب التحرز منها «2» .
ولو جرت عادة قوم بالتكشف في غيرها من الأوقات، فذلك الوقت كهذه الأوقات في منع من لم يبلغ الحلم من الدخول بلا إذن، ولو جرت عادة قوم في الأوقات الثلاثة بالتستر، فالأوقات الثلاثة كغيرها.
__________
(1) أنظر تفسير الدر المنثور للحافظ السيوطي سورة النور.
(2) أنظر أحكام القرآن للجصاص- سورة النور.(4/321)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
قوله تعالى: (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) الآية/ 60.
وعنى به الكبيرة السن، وجوز لها أن تضع الرداء أو اللحاف أو الخمار، قال ابن عباس:
المراد به الجلباب من فوق الخمار «1» ، ومعلوم أنه غير مجوز لها أن تكشف من بدنها عورة، لأنه إن كان حالة الخلوة بنفسها، فالعجوز والشابة سواء، وإن كان بين الناس، فالواجب حمله على الجلباب وما فوق الخمار لا نفس الخمار، لأن من شأن الجلباب أن يبلغ مع الستر النهاية، ومع الخمار قد ينكشف من رؤوسهن وأعناقهن بعض التكشف، فأبان الله تعالى أن هذا التحرز ليس وجوبه عليهن كوجوبه على الشابات، لأنه ليس في النظر إليهن من خوف الافتتان كما في النظر إلى الشابة، فلذلك قال في آخره: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) .
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) ، الآية/ 61.
روى إسماعيل بن إسحاق عن سعيد بن المسيب، أن هذه الآية نزلت في ناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضعوا مفاتيحهم مع الأعمى والأعرج وعند الأقارب، وكانوا يأمرونهم بأن يأكلوا من بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وكانوا يتقون الأكل خشية أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية «2» .
__________
(1) أنظر الدر المنثور للسيوطي.
(2) أنظر تفسير الطبري لسورة النور، وأسباب النزول للواحدي النيسابوري وتفسير الفخر الرازي. [.....](4/322)
وروى أيضا، أنهم كانوا إذا اجتمعوا للأكل، عزلوا الأعمى والأعرج والمريض كراهة أن يصيبوا من الطعام ما يصيبون، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وذكر الحسن أن المراد به رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في باب الجهاد، وأن قوله: (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) ، الآية/ 61. كلام مستأنف، فقد كان أحدهم لا يحلب ناقة إلا أن يجد من يشرب من لبنها، ولا يأكل في بيت أحد تكرما، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهو الذي اختاره الأكثرون، ويحمل قوله:
(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) على أن ذلك كان رخصة في الأول، وأباح تعالى الأكل من مال من ذكره، وأباح أن يأكلوا من البيوت التي مفاتيحها في أيديهم، وبيوت أصدقائهم دون إذن، حضروا أم غابوا، ثم نسخ ذلك بما ظهر في الشرع، من أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه، ودل على ذلك بقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) «1» ، وقد كان في أزواج النبي عليه الصلاة والسلام من كان لهن الآباء والإخوان، فلما عم بالنهي علم به النسخ.
فإن قيل: فما الذي يليق بالظاهر؟ فجوابنا أنه يبعد أن يكون المراد به: ليس على الأعمى حرج، إلا ما يتصل بالأداء، لأنه رفع الحرج والجناح عنه، ثم إنه ذكر بعد ذلك أمرا مخصوصا، فوجب حمله على ذلك الأمر، فأما قوله تعالى: (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) ،
__________
(1) سورة الأحزاب آية 53.(4/323)
فلعل الأولى من الأقوال، أنه ورد فيمن كان يأذن ويشح من هذه الطائفة، وكان القوم يتوقون لبعض هذه الوجوه التي رويناها، فبين الله تعالى أن إباحة ذلك إن كان واردا مع طيبة النفس، لا وجه للنسخ فيه.
فإذا قيل: فإن كان كذلك، فلم إذا خصصهم بالذكر، وعند الإذن وطيب النفس الكل سواء؟
فالجواب أنهم خصوا بالذكر، لأنهم كانوا يتقدمون عند السفر والغزوات إلى أقربائهم، وإلى من خلفوهم من الزمنى والعرجي والعميان، أن يأكلوا من منازلهم، فنزلت الآية على هذا السبب. فلذلك خصوا بالذكر.. فأما حمله على أن ذلك يحل بلا إذن فبعيد.
ودل بقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) على أمور:
منها أنه يحل للجماعة أن يجتمعوا على طعامها، وإن كان أكلها من ذلك الطعام يتفاضل، وقد كان يجوز أن يظن أن ذلك محرم، من حيث إنهم لا يستوون في قدر ما ظهر من الطعام، ثم يتفاضلون في الأكل، فأباح الله تعالى ذلك.
ومنها: أن مؤاكلة من يقصر أكله عن أكل الباقين، لأن الأعمى إذا لم يبصر، فلا يمكنه أن يأكل أكل البصير، فأباح الله تعالى ذلك، وأباح انفراد المرء عن الجماعة في الأكل، ويجوز أن يظن ذلك مستقبحا في الشرع كما يستقبحه أهل المروءة.
قوله تعالى: (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) ، الآية/ 61.(4/324)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
حمله الحسن على سلام البعض على البعض، لما فيه من البركة والدعاء الصالح وتآلف القلوب.
وذكر إسماعيل بن إسحاق عن جماعة، أن المراد به أن يسلم المرء على نفسه إذا لم يكن هناك غيره يسلم عليهم، ومن السنة أن يقول:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وهذا أليق بالظاهر.
ولا خلاف في أنه لو كان في الدار غيره، صرف السلام إليه، وليس في الظاهر تخصيص، وذلك يقوي قول الحسن.
وفيه وجه آخر: وهو أن السلام بالشرع صار كالمخاطبة.
وقال الفقهاء في تسليم الرجل في الصلاة: أنه يجب أن ينوي من خلفه إن كان إماما أو ينوي الملائكة أو الحفظة، ومعلوم أن المرء قبل دخول البيت هو مندوب إلى أن يسلم على نفسه فيقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لأنه كالدعاء، مما يجرى فيه الخطاب.
قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ- إلى قوله- وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) ، الآية/ 62.
يدل على أن من الايمان أن يستأذنوا الرسول في الانصراف عنه في كل أمر يجتمعون معه فيه، وقد روى مجاهد، أن المراد به الجمعة والغزو.
وقال الحسن: الجمعة والأعياد وكل ما فيه خطبة.
ثم خير الله تعالى رسوله في اختيار من يغزو معه، وبين أن الذي ينعته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس له أن يتخلف ويحيل على غيره.
والذي يشهد به الظاهر، أن كل أمر جامع للرسول عليه السلام فيه غرض، فليس لهم أن ينصرفوا عنه ما دام الغرض قائما، ويدخل فيه(4/325)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
الغزو والجماعات، ولكن هذا الأمر هو أخص بالغزو، فإنهم قد كانوا يتفرقون عنه من غير إذنه، فيؤثر ذلك في الغرض المطلوب، فمنع الله تعالى من ذلك، وبين أن الأمر في انصرافه موقوف على إذنه بقوله:
(لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) ، على أنه لا يجوز لهم أن يستأذنوا، إلا إذا عرضت لهم حاجة تقتضي ذلك، لأنه إذا لم يكن لهم حاجة، فملازمة الرسول أولى.
وفيه دلالة على ما يلزم من أدب الدين، وأدب النفس، فمن هذا الوجه قال الحسن:
لا فرق بين الرسول والإمام فيما يلزمهم من ذلك، ولا يمنع من حيث تضمن هذا الظاهر أدب النفس أن يكون الأولى بالمراد:
إذا اجتمع جمع لخير أن لا يتفرق عنهم إلا بإذن، لما في تفرقته من اختلال ذلك الأمر المطلوب، والاجتماع عليه أقرب إلى التعاون على التقوى..
وقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ) ، يدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحل له أن يستغفر إلا لمن تكامل إيمانه، لأنه شرط فيه تقدم فيما ذكرناه.
ويحتمل أن يراد به أن من أذن له في مفارقة الجهاد لبعض شأنه، يكون في الظاهر مقصرا أو متأخرا في الفضل عن غيره، فأمر الله تعالى نبيه أن يستغفر لهم، ليكون استغفاره جبرا لهذا النقص، فلا ينكسر عند ذلك قلب هذا المتأخر عن الجمع.
قوله تعالى: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) ، الآية/ 63.
فالمروي عن ابن عباس أنهم كانوا يقولون:(4/326)
يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله تعالى عن ذلك وقال:
قولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، وهو المروي عن عكرمة والضحاك، وحمله مجاهد على خفض الصوت والتواضع، وهو معنى قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ) «1» ...
قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ، الآية/ 63:
أراد به ذكر ما تقدم من تسللهم، وذلك يدل على وجوب امتثال مطلق أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما بيناه في أصول الفقه «2» .
__________
(1) سورة الحجرات آية 3.
(2) أنظر تفسير الفخر الرازي، والدر المنثور للسيوطي، وابن كثير، والقرطبي.(4/327)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الفرقان
قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) ، الآية/ 48.
قال قائلون: وصف الماء بأنه طهور، يفيد أنه يصلح للتطهير، وأنه يقع به هذا الحكم، كقولهم فطور وسحور إذا صلح لذلك.
وقال آخرون: إنه يفيد المبالغة في التطهير، والمعنى بيّن.
ولا اختلاف أن للماء هذا الحكم، إذا كان على خلقته وهو ينزل من السماء، فما دام على نعت المنزل من السماء وفي قرار الأرض، فهو طهور ومطلق.
وإذا خالفه غيره، انقسم المخالط أقساما: فمنه ما يكون نجسا، ومنه ما يكون طاهرا.
وإذا كان المخالط نجسا، فمالك لا يحكم بنجاسة الماء، ويبقيه على حكم وصفه الأصلي.
وأبو حنيفة يقول: ما دام يتوهم خلوص النجاسة إلى الماء الذي يغترف منه، فلا يجوز التوضؤ به.(4/329)
والشافعي يقول: يعول على القلتين، وبعد ذلك لا يؤخذ من الظاهر، وإنما يؤخذ من المعنى.. وبعضه مأخوذ من الظاهر «1» .
والماء المستعمل مختلف فيه بين العلماء، فالظاهر يقتضي جواز التوضؤ به، والقليل من النجاسة لا يمنع من إطلاق اسم الماء عليه لغة، ولكن امتناع التوضؤ به لدليل آخر.
ومتى قيل: فالماء إذا جعل طهورا، فهو يطهر ماذا؟
قيل: إنه يطهر على وجهين:
أحدهما: طهارة الأحداث «2» .
والثانية: الجنب «3» .
فأما طهارة الحدث، فصريان غسل ووضوء، ولكل واحد منهما سبب، فسبب الغسل الجنابة والحيض والنفاس، ويتبع الجنابة التقاء الختانين وإن لم ينزل.
وأسباب الوضوء مستقصاة في كتب الفقه مع ما فيها من إختلاف العلماء.
واختلف الناس في الماء، هل خص بالتطهير في الأنجاس كلها؟
فمنهم من قال ذلك.
ومنهم من قال غير قوله.. وشرح ذلك في كتب الفقه.
والذي يجوز إزالة النجاسة بغير الماء، ليس يجوزه بطريق القياس على الماء فقط، فإن من الممكن أن يقال إن التعبد بإزالة النجاسة، فإن لم تكن
__________
(1) راجع كتاب الطهارة من كتاب الأم للإمام الشافعي رضي الله عنه
(2) ويسمى ذلك بالحدث الأصغر.
(3) ويسمى ذلك بالحدث الأكبر.(4/330)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
نجاسة زال محل التعبد، ولأجل ذلك صار داود مع نفي القياس إلى إزالة النجاسة بغير الماء، لا قياسا لغير على الماء، لكن لزوال محل التعبد، فهذا تمام هذا الفن.
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) ، الآية/ 54.
يدل على أن الله سبحانه جعل الماء سبب الاجتماع والتآلف والرضاع والخقونة «1» .
وفيه إشارة إلى المحرمات بالسبب والنسب، وأن كل ذلك تولد من الماء.
وفيه دليل على أن حرمة المصاهرة تثبت بطريق الكرامة لا بطريق النقمة والعقوبة، ولذلك قال الشافعي: لا يتعلق بالزنا وتحريم المصاهرة.
__________
(1) وفي نسخة أخرى الختونة.(4/331)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم) «1»
سورة الشعراء
قوله تعالى: (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) ، الآية/ 84.
فنبه على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل «2» .
قوله عز وجل في حق الشعراء:
(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) ، الآية/ 224.
فيه دليل على كراهة اللهج بالشعر في مدح أو قدح، من غير أن يحقق معناه لاكتساب مال.
__________
(1) سميت هذه السورة بهذا الاسم: لاختصاصها بتمييز الرسل عن الشعراء، لأن الشاعر، أن كان كاذبا، فهو رئيس الغواة لا يتصور منه الهداية، وأن كان صادقا، لا يتصور منه الافتراء على الله تعالى، وهذا من أعظم مقاصد القرآن.
(2) ويقول القتيبي: «وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به، وقد تكنى العرب به عن الكلمة، وجوز أن يكون المعنى: واجعل لي صادقا من ذريتي، يجدد أصل ديني، ويدعو الناس الي ما كنت أدعوهم اليه من التوحيد، وهو النبي صلّى الله عليه وسلم» .(4/333)
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة القصص
قوله تعالى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) ، الآية/ 27.
فيه دليل على جواز جعل منافع الحر صداقا شرعا.
قوله تعالى:
(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ- إلى قوله- سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ، الآية/ 55.
هو سلام متاركة، وليس بتحية، ومثله قوله:
(وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) «1» .
وقوله تعالى: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) «2» .
قال إبراهيم: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) «3» .
__________
(1) سورة الفرقان آية 63.
(2) سورة مريم آية 46.
(3) سورة مريم آية 47.(4/335)
ومن الناس من اقتبس منه جواز مفاتحة الكفار بالسلام، وليس كذلك، لما وصفنا من أن السلام يتصرف إلى معنيين.
والمراد به هاهنا، معنى المتاركة.
وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في الكفار:
«لا تبدؤوهم بالسلام، فإن بدءوكم فابدؤوهم، وأنه إذا سلّم عليكم أهل كتاب فقولوا: وعليكم» .(4/336)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة العنكبوت
قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) ، الآية/ 8.
قد ذكرنا من قبل ما يتعلق ببر الوالدين.
قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) :
الآية/ 45.
روى ابن عباس وابن مسعود: تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وقال ابن مسعود: الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها.
وإنما قيل: تنهى عن الفحشاء والمنكر، لاشتمالها على أفعال وأذكار لا يتخللها شيء من أمور الدنيا، ولا فرض هو بهذه المنزلة، فهي تنهى عن المنكر وتدعو إلى المعروف، بمعنى أن ذلك مقتضاها.
قوله تعالى: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) ، الآية/ 45.
قال مجاهد: لذكر الله لكم برحمته أكبر من ذكركم له بطاعته.
قوله تعالى: (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية/ 46.(4/337)
قال قتادة: نسخها قوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) «1» ، وقوله: (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) «2» :
قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ، الآية/ 46:
يعني إلا الذين ظلموكم في جدالهم أو غيره مما يقتضي الإغلاظ لهم، وهو نحو قوله تعالى: (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) «3» .
وقال مجاهد: إلا الذين ظلموا منهم: مانعي الجزية.
وقيل إلا الذين ظلموا منهم: بالثبات على كفرهم بعد إقامة الحجة.
__________
(1) سورة التوبة آية 5.
(2) سورة التوبة آية 36. [.....]
(3) سورة البقرة آية 191.(4/338)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الروم
قوله تعالى: (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) :
الآية/ 39.
في معناه: أن تهب الشيء تريد أن تثاب عليه بما هو أفضل منه، فذلك الذي لا يربو عند الله تعالى، ولا يؤجر صاحبه عليه ولا إثم فيه «1» .
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ) ، وهو الرجل يعطي ليثاب عليه.
وعن عكرمة، قوله تعالى: (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ) .
الربا ربوان: ربا حلال وربا حرام، فأما الربا الحلال: فهو أن تهدي هدية تلتمس بها ما هو خير منها.
وروى زكريا عن الشعبي في قوله تعالى:
__________
(1) والمعنى: وما آتيتم من مال ترابون فيه ليزيد في أموالكم إذ تأخذون فيه أكثر منه.(4/339)
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) ، قال: كان الرجل يسافر مع الرجل، فيجعل له من ربح ماله ليتجر له بذلك «1» .
وعن الضحاك في هذه الآية: أن الربا الحلال كالرجل، يهدي ليثاب بأفضل منه، فذلك لا له ولا عليه، ليس فيه أجر ولا عليه فيه إثم.
وروى منصور عن إبراهيم في قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) «2» ، قال: لا تعطى لتزداد «3» .
__________
(1) أنظر تفسير الطبري، وتفسير الدر المنثور للسيوطي لتفسير سورة الروم.
(2) سورة المدثر آية 6.
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور، والطوسي في تفسيره لسورة الروم(4/340)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة لقمان
قوله تعالى: (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) ، الآية/ 14.
وفي آية أخرى: (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) «1» .
فنحصل من مجموع الآيتين أن الحمل أقله ستة أشهر.
فاستدل به ابن عباس على مدة الحمل، واتفق أهل العلم عليه.
قوله تعالى: (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) ، الآية/ 17، من الناس في الأمر بالمعروف، فظاهره يقتضي وجوب الصبر.
قوله تعالى: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) ، الآية/ 18، نهي عن التكبر.
قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) ، الآية/ 14.
بيناه في مواضع.
قوله تعالى: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) ، الآية/ 15. مثل
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 15.(4/341)
قوله: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) «1» . إلا أن دلالة هذا على الإجماع أبعد لأن وصية لقمان لابنه لا تقتضي الاحتجاج بالإجماع.
قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) ، الآية/ 6.
قال ابن عباس: هو الغناء، والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث، ومثله عن مجاهد وزاد فيه: هو الغناء والاستماع إليه.
وقال الحسن: هم الكفر والشرك، وأنهم يضلون عن سبيل الله بغير علم.
وتأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى بها أهل الباطل واللعب، وذلك أن المعنيّ بذلك، النضر بن الحارث، الذي قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه قد كان يشتري كتبا فيها أحاديث الفرس، فكان يتلهى بها في مجالسهم ويجعلها كالمعارضة للقرآن.
وهذه الأقوال أليق بالظاهر، لأن الغناء لا يطلق عليه الوصف بأنه حديث ولا إضلال، وإنما يطلق ذلك على الأحاديث الكاذبة الجارية مجرى القدح في القرآن، على ما روي فيما كان يتعاطاه النضر بن الحارث، فمن هذا الوجه يدل على أن الاقدام على كل قوم بغير علم لا يحسن، لأن الله تعالى قبح ذلك من حيث إنه كان إقداما بغير علم «2» .
__________
(1) سورة النساء آية 115.
(2) لم يراع المؤلف في هذه السورة- سورة لقمان- ترتيب الآيات على نسق السورة، ورأينا ترك ما وضعه المؤلف على وضعه، ولم نتصرف فيه لمقتضى الأمانة، واكتفينا بهذا التنبيه.(4/342)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الأحزاب
قوله تعالى: (اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) ، الآية/ 4:
أبان الله تعالى أنها لا تصير أمه بمجرد قوله، وألزمه تحريما غايته الكفارة.
قوله تعالى: (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ، الآية/ 4.
قيل: نزلت في زيد بن حارثة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد تبناه، فكان يقال له: زيد بن محمد، وهذا يدل على نسخ السنة بالقرآن، لأن الحكم الأول ثابت بغير القرآن ونسخه بالقرآن.
قوله تعالى: (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) ، الآية/ 4.
يعني أنه لا حكم له، وإنما هو قول لا معنى له ولا حقيقة.
وقوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) ، الآية/ 5.
فيه إباحة اطلاق الأخوة، وحظر اطلاق اسم الأبوة من غير جهة النسب.(4/343)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
قوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) ، الآية/ 5:
قال قتادة: معناه أنك لو دعيت رجلا لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه، ليس عليك بأس.
وسمع عمر رجلا يقول:
اللهم اغفر لي خطاياي، فقال استغفر الله في العمد، فأما في الخطأ فقد تجوز عنك.
وكان يقول: ما أخاف عليكم الخطأ، وإنما أخاف عليكم العمد.
قوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، الآية/ 6.
معناه ما قاله عليه الصلاة والسلام: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، وأيما رجل مات وترك دينا فإلي، وإن ترك مالا فهو لورثته» .
وقيل في معنى: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) ، أنه أحق أن يختار ما دعاه النبي عليه الصلاة والسلام إليه من غيره، وما تدعوه أنفسهم «1» إليه، وهو أحق بأن يحكم على الإنسان في نفسه، لوجوب طاعته المقرونة بطاعة الله عز وجل.
وقوله تعالى: (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ، الآية/ 5:
يحتمل أن يكون بمعنى الإجلال والتعظيم، والثاني: في تحريمه نكاحهن.
وليس لأنهن كالأمهات في القضايا كلها، ولا يجعلن أخوات للنساء، ولا إرث لهن منا ولا محرمية.
وقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) ، الآية/ 6.
__________
(1) كذا بالأصل، والأولى نفسه.(4/344)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
أنزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني.
وعن الحسن قال: أن تصلوا أرحامكم.
قوله تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، الآية/ 21.
يحتج به بعض الناس في وجوب التأسي بأفعال رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) ، الآية/ 28.
ظاهر الآية التخيير بين الدنيا والآخرة والله ورسوله، وليس فيه ذكر الطلاق.
وقد قال قوم: إنه كناية عن التخيير للطلاق على شرائطه، ولذلك قالت عائشة لما سئلت عن الرجل يخير امرأته قالت: خيرنا رسول الله وكان طلاقا.
وفي بعض الأخبار: ما خيرناه فلم يعد طلاقا.
ولم يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا التخيير المأمور به، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها: أنا ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، فقالت: إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار الدنيا على الآخرة، فثبت أن الاستئمار إنما وقع في الفرقة وفي النكاح.
واعلم أن اختيارهن للدنيا وزينتها وإرادتهن الطلاق، لا يجوز أن يكون صريحا في الطلاق، ولا كناية، وإنما ذلك إرادة المفارقة، فكان القياس أن الزوج يطلقها إن شاء، غير أن الطلاق لا بد أن يكون مستحقا واجبا،(4/345)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
إذ لو لم يكن مستحقا واجبا ما كان للتخير معنى، فإذا تبين أن ذلك طريق خلاصهن، فوجوب الفراق لا محالة يقتضي بتخييره، فإن النكاح صار مستحق الرفع وهذا بين «1» .
قوله تعالى: (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ، الآية/ 30.
فيه وجهان، أحدهما: أن تضعيف عذابهن لتضاعف نعم الله تعالى عليهن، ولذلك قال:
(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) ، الآية/ 34.
وهذا لا نقطع به، فإن مصاحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، يجوز أن تكون سببا في تخفيف العقوبة عنهن والتجاوز عن سيئاتهن، فالحق هو الوجه الثاني، وهو عظم الضرر في جرأتهن بإيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) «2» .
قوله تعالى: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ) ، الآية/ 32.
يريد تليينا للقول يطمع أهل الريب.
وفيه دليل على أن الأحسن بالمرأة أن لا ترفع صوتها بحيث يسمعها الرجال.
وقوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) ، الآية/ 33.
__________
(1) أنظر محاسن التأويل.
(2) سورة الأحزاب آية 57.(4/346)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
قيل لسودة بن زمعة: لم لا تخرجين كما تخرج أخواتك؟ فقالت:
والله لقد حججت واعتمرت، ثم أمرني الله تعالى أن أقر في بيتي، فو الله ما أخرج من بيتي، فما خرجت حتى أخرجوا جنازتها.
قوله تعالى: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) ، الآية/ 33.
أي المشي على تكسر وتغنج وإظهار المحاسن للرجال.
قوله تعالى: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ، الآية/ 36.
وذلك يدل على أن أوامر الله تعالى ورسوله على الوجوب.
وقال الله تعالى بعد ذلك: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ، وذلك يؤكد ما تقدم.
قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) ، الآية/ 37.
دلت الآية على أحكام عدة منها:
الإبانة عن علة الحكم في إباحة ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، وأن ذلك قد اقتضى إباحته للمؤمنين، فدل ذلك على إثبات القياس في الأحكام، واعتبار المعاني في إيجابها.
والثاني: أن النبوة من جهة النبي عليه الصلاة والسلام لا تمنع جواز النكاح.
والثالث: أن الأمة مساوية للنبي عليه الصلاة والسلام في الحكم، إلا ما خصه الله تعالى، أخبر أنه أجاز ذلك للنبي ليكون المؤمنون مساوين له فيه:(4/347)
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
قوله تعالى: (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) ، الآية/ 42:
يعني صلاة الصبح والعصر.
وقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) ، الآية/ 49:
يدل على أن لا طلاق قبل النكاح، فإنه رتب عليه بكلمة ثم.
وقوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) ، الآية/ 50.
فيه دليل على إباحة الأزواج لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطلقا، وتخصيص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا مهر أو بلفظ الهبة، إلا أن التعري عن المهر أظهر من لفظ الهبة، لأنه فسوق على قوله: (آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) ، وذلك المهر، ثم قال: (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) .
وقوله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) ، الآية/ 51.
قال أبو رزين: في هذه الآية المرجئات: ميمونة، وصفية وسودة، وجويرية، وأم حبيبة.
وكانت عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب سواء في القسم.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يسوي بينهن.
وقد قيل: ما أرجأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واحدة منهن، ولكن وهب نسوة منهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصصهن، فظاهر الآية يقتضي تخيير النبي عليه الصلاة والسلام في إرجاء من شاء منهن وإيواء من شاء منهن، وليس يمتنع أن يختار إيواء الجميع إلا سودة، فإنها رضيت بأن تجعل يومها لعائشة.(4/348)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
وقوله تعالى: (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) ، الآية/ 51.
يعني إيواء من أرجأ منهن.
وفيه دليل على أن القسم لم يكن واجبا على النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه كان مخيرا في القسم لمن شاء منهن وترك من شاء.
قوله تعالى: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) ، الآية/ 52.
قال مجاهد، من بعد ما سمى له من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة.
وقال ناس: له أن يشتري اليهودية والنصرانية، فهو معنى قوله (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) .
ولا شك أن ظاهر الآية يقتضي تحريم سائر النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سوى من كن عنده حتى حل له النساء، وهذا يوجب نسخ الآية، وليس في القرآن ما يوجب نسخها فهي منسوخة بالسنة..
ويحتج به على جواز نسخ القرآن بالسنة.
قوله تعالى: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ) ، الآية/ 53:
كان ذلك بعد نزول الحجاب، ودل عليه قوله تعالى: (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) .
قوله تعالى: (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ) ، الآية/ 55:
فيه بيان زوال حكم الحجاب في حق ذوي الأرحام، وعنى بما ملكت أيمانهن الإماء.(4/349)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) ، الآية/ 59:
الجلباب: الرداء، فأمرهن بتغطية وجوههن ورؤوسهن، ولم يوجب على الإماء ذلك.
وقوله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، الآية/ 60. فيه دليل على تحريم الإيذاء بالإرجاف.(4/350)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة سبأ
قوله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) ، الآية/ 13.
قال عليه الصلاة والسلام: «ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي أهل داود، قيل: وما هن يا رسول الله قال:
العدل في الغضب والرضا، والقصد في الغنا والفقر، وخشية الله في السر والعلانية» «1» .
قوله تعالى: (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) ، الآية/ 13.
يدل على جواز اتخاذ الصور في ذلك، وأنه نسخ في ديننا.
__________
(1) أخرجه المنذر عن عطاء بن يسار رضي الله عنه، وأخرجه الحكيم الترمذي، وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه.(4/351)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة فاطر
قوله تعالى: (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) ، الآية/ 12.
فيه دليل على أن من حلف لا يلبس الحلي، حنث بلبس اللؤلؤ.
وقوله تعالى: (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) ، الآية/ 37.
يجوز أن يكون هو النبي صلّى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون الدلائل على التوحيد، وصفات الله تعالى وصدق الرسل.(4/353)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة يس
قوله تعالى: (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، الآية/ 78، 79.
فيه دليل على استعمال القياس والاعتبار والتعلق بطريق الأولى، فإن الابتداء أصعب من الإعادة، والإعادة أيسر من الابتداء، والقادر على الأعظم قادر على الأهون الأدون لا محالة.
فاستدل قوم من أصحاب الشافعي بذلك على أن العظام فيها حياة، وقد بينا ضعف ذلك في الفقه، وبينا أن الحياة تطلق بمعنى حياة النمو وذلك حقيقة في العظم والشعر، والأخرى الحس ولا يتحقق ذلك في العظام.(4/355)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الصافات
قوله تعالى: (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) ، الآية/ 102، ظاهره أنه كان مأمورا بذبح الولد، ويجوز أن لا يكون في المأمور به سوى التل للجبين، ولكن ظن إبراهيم عليه السلام أنه يتعقبه الأمر بالذبح فقال: (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) .
أي ما يدل على أني أذبحك.
ويحتمل أن يكون قد أمر بذبحه حقيقة «1» ، ولكنه لو قدر ذلك، فلا يصح نسخه عند من لا يجوز النسخ، قبل إمكان الأمر، لأن الذبح متى كان حسنا في وقت، فلا يجوز أن يصير في ذلك الوقت قبيحا عندهم، فيصعب عليهم الخروج عند ذلك.
ويحتمل أن يكون قد ذبح ولكنه كان يلتئم ويبرأ، وهذا أبعد الاحتمالات، لأنه لو كان جرى ذلك، لكان قد نبه الله تعالى عليه تعظيما لرتبة إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهما، وكان أولى بالشأن من هذا، ولو حصل الفراغ من امتثال الأمر الأول ما تحقق الفداء.
__________
(1) أنظر تفسير الفخر الرازي وتفسير الطبري لسورة الصافات وكتب التفسير الأخرى.(4/357)
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)
إذا ثبت ذلك، فقد احتج قوم من أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في مصيرهم، إلى من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة عندهم، وقالوا: إن الله تعالى جعل الأمر بذبح الولد، في حالة حرم ذبح الولد سببا لوجوب ذبح شاة، فيجوز أن يكون إيجاب الواحد منا ذبح ولده على نفسه سببا لذبح شاة، ويجعل اللفظ عبارة عن ذبح شاة «1» .
وهذا إغفال منهم، فإنه إن ثبت أن إبراهيم كان مأمورا بذبح الولد، فقد ارتفع الأمر إلى بدل جعل فداء، فكان الأمر متقررا في الأصل، ثم أزيل ونسخ إلى بدل، وفيما نحن فيه لا أمر بذبح الولد، بل هو معصية قطعا، فلم يكن للأمر تعلق بذبح الولد بحال، فإذا لم يتعلق به بحال، فلا يجوز أن يجعل له فداء وخلفا، وقد استقصينا هذا في كتب الفقه وهو مقطوع به.
قوله تعالى: (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)
، الآية/ 141.
يحتج به من يرى للقرعة أثرا في تعيين المستحق بعد تردد الحق في أعيان لا سبيل إلى نفيه عنها، ولا إثباته في جميعها، فتدعو الحاجة إلى القرعة، وهذا بين.
نعم في مثل واقعة يونس لا تجرى القرعة، لأن إلقاء مسلم في البحر لا يجوز، وفي ذلك الزمان جاز، فرجع الإختلاف إلى نفس الحق.
وأما قولنا الحق تردد في محال وأعيان فلا يجوز إخراجه منها، فذلك شيء ثابت، وهو موضع احتجاجنا.
__________
(1) أنظر أحكام القرآن للجصاص ج 5 [.....](4/358)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة ص
قوله تعالى: (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) ، الآية/ 18.
عن ابن عباس أنه قال:
لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى قرأت: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) .
وعلى صلاة الضحى تأول ابن عباس قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) «1» .
قوله تعالى: (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) ، الآية/ 21.
ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الكبائر، أن داود عليه السلام كان قد أقدم على خطبة امرأة كان قد خطبها غيره، ويقال: هي أوريا، فمال القوم إلى تزويجها من داود راغبين فيه «2» ،
__________
(1) سورة النور آية 36.
(2) أنظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري.(4/359)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
وزاهدين في الخاطب الأول، ولم يكن لذلك عارفا، وقد كان يمكنه أن يعرف فيعدل عن هذه الرغبة وعن الخطبة لها، فلم يفعل ذلك من حيث أعجب بها. إما وصفا أو مشاهدة على غير تعمد، وقد كان لداود من النساء العدد الكثير، وذلك الخاطب لا امرأة له، فنبهه الله تعالى على ما فعل، بما كان من تسور الملكين، وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض، لكي يفهم من ذلك موضع العتب، فيعدل عن هذه الطريقة، ويستغفر ربه من هذه الصغيرة.
ومتى قيل: فكيف يجوز أن يقول الملكان خصمان بغى بعضنا على بعض، وهو كذب، والملائكة لا تكذب وهي منزهة عن ذلك؟
فالجواب عنه: أنه لا بد في الكلام من مقدمة، فكأنهما قالا: قدرنا كأنا خصمان بغى بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحق، وعلى هذا يحمل قولهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، لأن ذلك وإن كان بصورة الخبر، فالمراد به إيراده على سبيل التقدير لينبه داود على ما فعل.
والقول في هذا مستقصى في تبرئة الأنبياء صلوات الله عليهم «1» .
قوله تعالى: (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) ، الآية/ 24:
لا يرى فيه الشافعي سجدة لها، لأنه لا يرى التعلق بشريعة من قبلنا، ولأنها توبة، فليس فيه دلالة على الأمر بالسجود لنا، وإنما يعلم السجود عند ذلك توقيفا.
قوله تعالى: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) ، الآية/ 26.
__________
(1) أنظر تفسير محاسن التأويل ج 14 في تفسيره لسورة ص.(4/360)
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
فيه بيان وجوب الحكم بالحق، وأن لا يميل إلى أحد الخصمين، لقرابة أو لجاهه، أو سبب يقتضى الميل.
وقوله تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) ، الآية/ 44.
فروى عن ابن عباس أن امرأة أيوب قال لها إبليس:
إذا داويته وشفيته تقولين لي: أنت داويته، فأخبرت بذلك أيوب، فغضب وقال: ذلك الشيطان، وحلف أنه إن شفاني الله تعالى لأضربنك مائة سوط، فأخذ شماريخ فيها قدر مائة، فضربها ضربة واحدة «1» .
وذلك خلاف قياس الأصول، والضغث هو ملء الكف من الخشب والعود والشماريخ، ونحو ذلك. فأخبر الله تعالى أنه إذا فعل ذلك، فقد بر في يمينه، لقوله تعالى: (وَلا تَحْنَثْ) . وهو قول الشافعي ومذهب أبي حنيفة ومحمد وزفر.. وقال مالك: لا يبر. ورأى أن ذلك مختصا بأيوب، وقال لا يحنث.
وإذا قال افعل ذلك، ولا تحنث، علم أنه جعله بارا إذ لا واسطة.
وفي الآية دليل على أن للزوج أن يضرب زوجته، وأن للرجل أن يحلف ولا يستثني، فهذا تمام القول في المعنى.
__________
(1) أنظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري.(4/361)
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة حم السجدة
قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، الآية/ 34.
كان ذلك قبل فرض القتال.
قوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) ، الآية/ 44.
فيه دليل على أن القرآن بلغة العرب، وأنه ليس أعجميا ... وإذا نقل عن اللسان العربي إلى غيره لم يكن قرآنا.(4/363)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة حم عسق
قوله تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) ، الآية/ 20، هو معنى قوله صلّى الله عليه وسلم: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» «1» .
فيه دليل على أن من حج عن غيره، لا يقع الحج عن الحاج، ومن توضأ للتبرد والتنظيف لا يكون متوضئا للصلاة، ولا يصح وضوءه عن جهة القربة شرعا.
قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، الآية/ 23.
قال قائلون في معناه: محبة الأقارب.
وقال قائلون: معناه إلا المودة في القربى إلى الله تعالى، أي التقرب إلى الله عز وجل، والمودة بالعمل الصالح، ويدل عليه ما بعده: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) .
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.(4/365)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
وقد قيل في معناه: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوه مع القرابة التي بينكم وبينه «1» ، وخاطب بذلك قريشا، لأن كل قريش كانت بينها وبين رسول الله عليه السلام رحم ماسة وقرابة.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ، الآية/ 39.
قال إبراهيم النخعي في معنى الآية: يكره للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق.
وقال السدي: هم ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا.
وقد ندبنا الله تعالى في مواضع من كتابه إلى العفو عن حقوقنا قبل الناس، فمنها قوله تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) «2» .
وقوله في شأن القصاص: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) «3» . وأحكام هذه الآي غير منسوخة.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) :
يدل ظاهره على أن الإنتصار في هذه المواضع أفضل، ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله تعالى، وإقام الصلاة، وهو محمول على ما ذكره إبراهيم النخعي، أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق، وهذا فيمن تعدى وأصر على ذلك.
والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادما.
__________
(1) أنظر تفسير الطبري وتفسير الفخر الرازي، والدر المنثور للسيوطي.
(2) سورة البقرة آية 237.
(3) سورة النور آية 22.(4/366)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
وقد قال عقيب هذه الآية: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) ، الآية/ 41.
يقتضي ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به،
وقد عقبه بقوله تعالى:
(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ، الآية 43:
وذلك محمول على الغفران عن غير المصر، فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الإنتصار منه بدلالة ما قبله.(4/367)
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الزخرف
قوله تعالى: (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) ، الآية/ 18، فيه دليل على إباحة الحلي للنساء والإجماع منعقد عليه، والأخبار في ذلك لا تحصى «1» .
قوله تعالى: (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ- إلى قوله- أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) ، الآية/ 22 و 24:
فيه دلالة على إبطال التقليد، لذمه إياهم على تقليد آبائهم، وتركهم النظر فيما دعاهم الرسول عليه الصلاة والسلام إليه.
قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الآية/ 86:
يدل على معنيين:
أحدهما: أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم، فإن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة.
والثاني: أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها، أن يكون الشاهد عالما بها، ونحوه ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:
«إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» «2» .
__________
(1) أنظر كتاب الهداية لأبي حنيفة، والأم للشافعي، لتوضيح هذه المسألة.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده، وابن حميد، والطبراني في المعجم الأوسط.(4/369)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الجاثية
قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) ، الآية/ 14.
قال: نسخها قوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) «1» .
ومن سورة الأحقاف:
قوله تعالى: (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) «2» :
فيه بيان مسالك الأدلة بأسرها:
فأولها: المعقول، وهو قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) «3» .
وهو احتجاج بدليل العقل أن الجماد لا يجوز أن يدعى من دون الله، وأنه لا يضر ولا ينفع، ثم قال: (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) .
فيه بيان أدلة السمع.
أو أثارة من علم.
__________
(1) وقد سبق القول في هذه المسألة في سورة التوبة آية 5.
(2) سورة الأحقاف آية 4
(3) سورة الأحقاف آية 4(4/371)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة محمد
قوله تعالى: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ- إلى قوله- فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) الآية/ 4.
فيه بيان كيفية الجهاد، وما يجب التمسك به في محاربتهم، فبيّن أولا ما يجب عند لقاء الكفار، والمنعة قائمة، وهو ضرب الرقاب، لأن عند ذلك تجب هذه الطريقة، ثم بين الحكم إذا نحن أثخناهم وبنّنّا امتناعهم «1» ، فأمر أن نشدهم في الوثاق فإما أن نمن أو نفادى، وهذا لأنه تعالى كان قد حرم الأسر بقوله: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) «2» :
فأباح بهذه الآية أسرهم إذا أثخناهم بالجراح وغيره، وبين أن أمرهم إلى الإمام، فإن شاء منّ عليهم بإطلاق من غير فداء، وإن شاء فادى، وإن شاء قتل، على ما يراد الأصلح للإسلام والمسلمين.
ودل بقوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) : أن ذلك غاية فيما
__________
(1) أي حجزنا امتناعهم وأوقفناه، قال في القاموس: وبنن ارتبط الشاة ليسمنها. [.....]
(2) سورة الأنفال آية 67.(4/373)
تقدم ذكره، ولا يجوز أن يكون غاية في حكم الأسرى، فإذا يجب أن يكون غاية في حكم، ما كان يجب أن يكون غاية في المقاتلة، فكأنه بين أن أثقال الحرب من قبلهم إذا زالت، فللمؤمنين مفارقة السلاح، ويدعوا الحرب إلى حال أخرى.
قال الحسن: في الآية تقديم وتأخير، فكأنه قال: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، ثم قال: حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق.
وزعموا أنه ليس للإمام إذا حصل الأسير في يده أن يقتله بل هو بالخيار في ثلاثة مراتب: إما أن يمن أو يفادى أو يسترق.
وقال السدي فيما رواه إسماعيل بن إسحاق: إن ذلك منسوخ بقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) «1» .
وقال قتادة مثله، وجعل ناسخه قوله تعالى: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) «2» .
وقال إسماعيل بن إسحاق: المن والفداء حقه في الأسير إذا تمكن منه «3» ، ولا يمنع ذلك من القتل الذي سنه الله تعالى في الكفار، فكأن الله تعالى حرم المن والفداء قبل التمكن، وأذن فيهما بعد التمكن، والقتل في الحالتين من حيث الكفر سائغ.
وروى في قوله تعالى: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أقوال:
روي عن الحسن: حتى يعبد الله ولا يشرك به، وعن مجاهد: حتى لا يكون دين إلا الإسلام.
__________
(1) سورة التوبة آية 5.
(2) سورة الأنفال آية 57.
(3) أنظر تفسير الدر المنثور للسيوطي.(4/374)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
وعن سعيد بن جبير ومجاهد في رواية أخرى:
حتى يخرج عيسى بن مريم فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب.
قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) ، الآية/ 33.
احتج به قوم في أن التحلل من التطوع، صلاة كان أو صوما بعد التلبس به لا يجوز، لأن فيه إبطال العمل، وقد نهى الله تعالى عنه.
والجواب عنه: أن المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض، وذلك العمل المفروض ينهى الرجل عن إحباط ثوابه، فأما ما كان فعلا فلا، فإنه ليس واجبا عليه.
فإن زعموا أن اللفظ عام.
قلنا: العام يجوز تخصيصه ووجه تخصيصه أن الفعل تطوع والتطور يقتضي تخيرا، وهذا مستقصى في كتب الفقه «1» .
قوله تعالى: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الآية/ 35.
فيه دليل على منع مهادنة الكفار إلا عند الضرورة، وتحريم ترك الجهاد إلا عند العجز عن مقابلتهم، لضعف يكون بالمسلمين والعياذ بالله.
وهذا إتمام ما أردناه في هذه السورة.
__________
(1) أنظر أحكام القرآن للجصاص، وأحكام القرآن للقرطبي(4/375)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الفتح
قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ، الآية/ 16.
المراد به: فارس والروم «1» .
وقيل: المراد به بني حنيفة.
وفيه دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال فارس والروم، ولزمهم بذلك إتباع طاعة من يدعوهم إليه.
قوله تعالى: (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) ، الآية/ 16.
أوعدهم على التخلف عن دعاء من دعاهم إلى قتال هؤلاء، فدل ذلك على صحة إمامتهما، إذ كان المتولى عن طاعتهما مستحقا للعذاب، ولا يجوز أن يكون الداعي لهم هوازن وثقيف يوم حنين، لأنه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول عليه الصلاة والسلام، لأنه قال:
(فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) «2»
__________
(1) وقد بسط صاحب محاسن التأويل القول في هذه الآية في تفسيره ج 15.
(2) سورة التوبة آية 83.(4/377)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
فدل أن المراد بالدعاء غير الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي عليه الصلاة والسلام إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
قوله تعالى: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) ، الآية/ 25.
ولو كان بلغ الحرم وذبح فيه لم يكن ممنوعا عن بلوغ الحرم، ثم لما وقع الصلح زال المنع، فبلغ محله في الحرم، وذلك أنه إذا حصل المنع في أدنى وقت، فجائز أن يقال قد منع كما قال تعالى: (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) «1» .
وإنما منع في وقت وأطلق في وقت آخر.. فالأول احتجاج أصحاب الشافعي، والثاني تأويل أصحاب أبي حنيفة، والأول أظهر، فإنه لو ذبح في الحرم لم يطلق على الشيء الواحد أنه منع عن بلوغه محله، وقد وصل محله، وليس كما احتجوا به في الآية، فإن الكيل منع في وقت وقيل:
(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ) «2» مطلقا، وإن أحضرتموه فلكم الكيل، وهاهنا بخلافه، فإن الهدي بعد الصلح إن بلغ محله لم يجز أن يقال إنه بعينه منع عن محله، وهذا ظاهر بين «3» .
وأصحاب أبي حنيفة يحتجون بقوله: (يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) ، وذلك يدل على أن المحل هو الحرم.. وقال: (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى
__________
(1) سورة يوسف آية 63.
(2) سورة يوسف آية 60.
(3) أنظر أحكام القرآن للجصاص ج 5، وتفسير القرطبي سورة الفتح(4/378)
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) «1» وهو الحرم.
قوله تعالى: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ، الآية/ 25.
فيه دلالة على ما قاله الشافعي ومالك، إنه لا يحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين، ولو تزيل المؤمنون لعذب الكفار.. وكذلك في إحراق الحصون إذا كان فيها أسارى المسلمين «2» .
وأبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري جوزوا رمي حصون الكافرين، وإن اشتملت على الأسارى والأطفال من المسلمين، وزادوا فقالوا:
لو تترس الكفار بأطفال المسلمين رمى المشركون، وإن أصابوا أحدا من المسلمين في ذلك فلا دية ولا كفارة.. «3» وقال الثوري: فيه الكفارة ولا دية فيه.
نعم، لا يمنع نصب المجانق على الحصون مع اشتمالها على أطفال المشركين مع أنه لا عصمة للأطفال تحقيقا للحكم بكفرهم، ولأطفال المسلمين عصمة وحرمة.
ويحتج الشافعي أيضا بقوله تعالى: (وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) ، الآية/ 25، وفيه دلالة على منع رمي الكفار لأجل
__________
(1) سورة البقرة آية 196.
(2) باب الجهاد في كتاب الاختيار في فقه الامام أبي حنيفة.
(3) أنظر فتح القدير لابن الهمام.(4/379)
من فيهم من المسلمين «1» ، وتمام الاحتجاج بقوله تعالى: (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، الآية/ 25. فلولا الحظر ما أصابتهم معرة من قتلهم بإصابتهم إياهم.
__________
(1) راجع ج 3 من أحكام القرآن للإمام الشافعي، وكتاب الأم. [.....](4/380)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الحجرات
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، الآية/ 1:
قيل: إنها نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي، فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي دونه «1» .
ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل ورد وصدر.
وربما احتج به نفاة القياس، وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقدم بين يديه.. وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس إذا تقدم بين يديه.
قوله تعالى: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) ، الآية/ 6:
فيه دليل على أن خبر الفاسق لا يعمل به.
قيل: وقد استثنى الإجماع من جملة ذلك ما لا يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير، مثل قوله: هذا عبدي، فإنه
__________
(1) ذكر ذلك السيوطي في لباب النقول، والواحدي النيسابوري في أسباب النزول.(4/381)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
يقبل قوله.. وكذلك قوله: وقد أنفذ فلان هذا إليك هدية، فإنه يقبل ذلك.. كذلك يقبل خبر الكافر في مثله.
قوله تعالى: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ) ، الآية/ 9.
فيه دلالة على جواز قتال البغاة، وأن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه أخذ علي رضي الله عنه قتال الفئة الباغية بالسيف، وكان معه كبار الصحابة:
وقال صلّى الله عليه وسلّم لعمار: «ستقتلك الفئة الباغية» «1» .
والذي ورد في الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«ستكون فتنة القائم فيها خير من الماشي والقاعد خير من القائم» .
وإنما أراد به الفئة التي يقتل الناس فيها من جهة الدنيا والعصبية والحمية، من غير إمام تجب طاعته.
قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) ، الآية/ 10.
يعني أنهم إخوة في الدين.
وقوله: (فَأَصْلِحُوا) : يدل على وجوب الإصلاح عند التنازع بين المسلمين.
قوله تعالى: (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) ، الآية/ 11.
نهى الله تعالى بهذه الآية عن عيب من لا يستحق أن يعاب تحقيرا له، لأن ذلك هو معنى السخرية به، فأخبر أنه وإن كان أرفع حالا منه في الدنيا، فعسى أن يكون المسخور منه خيرا في الآخرة، وخيرا عند الله تعالى.
__________
(1) أخرجه الامام أحمد، والترمذي، والطبراني(4/382)
وقوله تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) ، الآية/ 11.
قال أبو بكر رحمه الله: هو كقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) «1» أي لا يقتل بعضكم بعضا ولا يلمز بعضكم بعضا لأن المؤمنين كنفس واحدة فكأنه بقتله أخيه قاتل نفسه، وكقوله: (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) «2» أي يسلم بعضكم على بعض.
واللمز: العيب، يقال لمزه إذا عابه، ومنه قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) «3» .
فأما من كان معنيا بالفجور فتعينه بما فيه جائز، قال الحسن في الحجاج: اللهم إنك أنت أمته فاقطع عنا سنته، وفي رواية شينه، فإنه أتانا أخفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله تعالى، برجل جمثه، ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوت الصلاة، لا من الله يتقى، ولا من الناس يستحي، فرقه الله تعالى وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل.. ثم قال الحسن: هيهات والله، حال دون ذلك السوط والسيف.
قوله تعالى: (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) ، الآية/ 11.
ذكر عن الحسن أنه كان أبو ذر عند النبي عليه الصلاة والسلام، وكان بينه وبين رجل منازعة، فقال له أبو ذر: «يا ابن اليهودية، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أما ترى هاهنا بين أحمر وأسود ما أنت
__________
(1) سورة النساء آية 29.
(2) سورة النور آية 61.
(3) سورة التوبة آية 58.(4/383)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
أفضل منه إلا بالتقوى» «1» ، قال فنزلت هذه الآية: (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) «2» .
قال قتادة: ذلك لأن لا تقول لأخيك المسلم يا فاسق يا منافق.
والنهي يختص بما يكرهه الإنسان، فأما الأوصاف الجارية غير هذا المجرى فغير مكروهة، وقد سمى النبي عليه الصلاة والسلام عليا أبا تراب «3» وقال لأنس: يا أبا الأذنين، وغير النبي عليه الصلاة والسلام أسماء قوم فسمى العاص عبد الله، وسمى شهابا هشاما، وسمى حزنا سهلا.
قوله تعالى: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) ، الآية/ 12.
يدل على أنه لم ينه عن جميعه.
ففي الظنون ما هو محظور، مثل سوء الظن بالله تعالى، وسوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة.
وكل ظن استند العلم به إلى دليل يقيني، فالعمل به واجب، كالشهادات وقبولها وقيم المتلفات والأقيسة.
وقد يكون الظن مباحا، كقول أبي بكر لعائشة رضي الله عنها: ألقى في روعي أن ذا بطن خارجة جارية، فاستجاز هذا الظن لما وقع في قلبه.
وأما الظن المندوب إليه، فهو حسن الظن بالأخ المسلم.
ويجوز أن لا يظن الخير ولا الشر.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم، والامام أحمد في مسنده.
(2) أنظر أسباب النزول للواحدي، وتفسير ابن كثير سورة الحجرات ج 4.
(3) كما جاء في الحديث الذي أخرجه الامام أحمد في مسنده، وابن عساكر في تاريخه والطبراني في معجمه الكبير(4/384)
قوله تعالى: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، الآية/ 12.
روى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الغيبة فقال: هي ذكرك أخاك بما يكره. قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته «1» .
وروى أبو هريرة أن الأسلمي جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهد على نفسه بالزنا، فرجمه رسول الله، فسمع صلّى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر: أنظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلاب، فسكت عنهما ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شار «2» شائل برجله فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا:
نحن ذا يا رسول الله، فقال: انزلا وكلا من جيفة هذا الحمار. فقالا:
يا رسول الله، من يأكل من هذا؟ فقال: ما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها «3» .
__________
(1) أخرجه الحافظ ابن كثير في تفسير عن الامام أحمد في مسنده، وعن ابن حميد أيضا.
(2) مستخرج من مكانه وهذه اللفظة غير موجودة في كثير من الكتب التي نقلت هذا الحديث، والحديث أخرجه عبد الرزاق والبخاري في الأدب وأبو يعلى وابن المنذر والبيهقي في شعب الايمان بسند صحيح.
(3) أنظر تفسير القرطبي، وأسباب النزول للواحدي، وتفسير ابن كثير ج 4.(4/385)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة ق
قوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) ، الآية/ 39.
اختلف في معناها، فقال قائلون: عنى به صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وروي ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) «1» .
وقال ابن عباس وقتادة: المراد به صلاة العصر.
قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) ، الآية/ 40.
قال مجاهد: هي صلاة الليل، ويجوز أن يراد به صلاة المغرب والعتمة.
وأدبار السجود على قول أكثر المفسرين: ركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم ركعتان قبل الفجر.
وعن ابن عباس مثله.
وعن مجاهد عن ابن عباس: وأدبار السجود: إذا وضعت جبهتك على الأرض فسبح ثلاثا «2» .
__________
(1) أخرجه الترمذي، والبيهقي في الشعب، والامام أحمد في مسنده.
(2) أنظر تفسير الدر المنثور للسيوطي.(4/387)
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الذاريات
قوله تعالى: (كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) ، الآية/ 17.
ورد في صلاة الليل، وأنهم كانوا لا يزورون.
قوله تعالى: (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، الآية/ 18.
قال: مدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار.
قوله تعالى: (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ، الآية/ 19.
هو الزكاة، إذ لا فرض في المال سواها، ووراء ذلك ربما وجبت حقوق مثل النفقات وضروب المواساة:
قوله تعالى: (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) :
الذي يطلب فلا يرزق، ويكون مجازفا.(4/389)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الطور
قوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) ، الآية/ 48:
قال ابن مسعود: حين تقوم من كل مكان تقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك» .
وهذا فيه بعد، فإن قوله حين تقوم، لا يدل على التسبيح بعد التكبير، فإن التكبير هو الذي يكون بعد القيام، والتسبيح يكون وراء ذلك، فدل أن المراد به حين تقوم من كل مكان فتقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك» .(4/391)
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة النجم
قوله تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ، الآية/ 3 و 4:
يحتج به من لا يجوز لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاجتهاد في الحوادث.
قوله: (إِلَّا اللَّمَمَ) ، الآية/ 32:
يجوز أن يراد به الصغائر المغفورة عند اجتناب الكبائر.
وقيل: هو أن يصيب الذنب ثم يتوب.
وقيل: اللمم مقارفة الشيء، من غير أن يدخل فيه.
قوله تعالى: (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، الآية/ 38، كقوله: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ)
«1» ، وقوله: (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) «2» ، وقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ، الآية/ 39.
__________
(1) سورة النساء آية 111. [.....]
(2) سورة الأنعام آية 164.(4/393)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة القمر
قوله تعالى: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) ، الآية/ 28.
يدل على جواز المهايأة «1» على الماء.
__________
(1) والمهايأة: الأمر المتوافق عليه وهو قسمة المنافع.(4/395)
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الرحمن
قوله تعالى: (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ، الآية/ 68.
يحتج به من يخرج الرمان والنخل من مطلق اسم الفاكهة، لأن الشيء لا يعطف على نفسه، وإنما يعطف على غيره، هذا ظاهر الكلام.
والشافعي يقول: هو كقوله تعالى: (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) «1» .
__________
(1) سورة البقرة آية 98.(4/397)
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الواقعة
قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) ، الآية/ 77- 79.
يدل على منع مس المصحف من غير وضوء «1» .
__________
(1) لأن هذه الآية الكريمة نص صريح في الموضوع، لا تحتاج الى تأويل. وعليه فمن تهاون في ذلك فهو يعد بحق مخالف لكتاب الله تعالى.(4/399)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الحديد
قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) ، الآية/ 10.
عنى به فتح الحديبية، ودل به على أن فضيلة العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين، أو لكثرة المحنة به لقلة المسلمين وكثرة الكفار، وهو مثل قوله تعالى: (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) «1» .
__________
(1) سورة التوبة آية 117.(4/401)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة المجادلة
قوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) ، الآية/ 1.
وهي مفتتحة بذكر الظهار، وكان طلاقا جاهليا، فجعله الشرع على حكم آخر.
وروى أصحاب الأخبار: جاءت خولة بنت ثعلبة إلى النبي وزوجها أوس بن الصامت فقالت:
إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:
ما أراك إلا حرمت عليه، وهو حينئذ يغسل رأسه فقالت: أنظر جعلني الله فداك يا رسول الله، فقال: ما أراك إلا حرمت عليه، فكرر ذلك مرارا، فأنزل الله تعالى:
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) «1» .
وقوله عليه الصلاة والسلام: «حرمت عليه» ، ظاهره يعني به تحريم الطلاق، وإلا فحكم الظهار بينه الله تعالى من بعد، وهذا يحتج به من يجوز
__________
(1) أخرجه الحافظ ابن كثير في تفسيره، والواحدي النيسابوري في أسباب النزول، والسيوطي في الدر المنثور ج 6.(4/403)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
رفع الحكم بعد ثبوته في الشيء الواحد في الوقت الواحد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لها: «حرمت عليه» ، ثم حكم فيها بعينها بالظهار بعد حكمه بالطلاق، وذلك القول بعينه في شخص واحد بعينه، والنسخ عند من يخالف هؤلاء، يوجب الحكم في المستقبل بخلاف الأول في الماضي.
وغاية جواب المخالف، أن من الممكن أن الله تعالى وعد رسوله بذلك، فلم يحكم بالطلاق جزما، وإنما ذكره معلقا.
قوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) ، الآية/ 2.
يدل على أن ذلك منكرا لأنه كذب.
قوله تعالى: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) ، الآية/ 3.
اعتبر العود، وقد اختلف الناس فيه، وأبو حنيفة، يقول: هو استباحة الوطء، فعليه الكفارة قبل الاستباحة، ومعنى الاستباحة العزم على الوطء «1» .
والشافعي يقول: هو أن يمسكها بعد الظهار مدة يمكنه أن يطلقها فيه فلا تطلق.
ورأى الشافعي أن ذلك أشبه بالعود، لأنه إذا رآها، كالأم فلم يمسكها، فإن الأم لا تمسك بالنكاح، وأما العزم على الفعل، فهو عزم على محرم، فلا أثر له قبل مواقعة المحرم «2» .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص ج 5.
(2) راجع أحكام القرآن للقرطبي تفسير سورة المجادلة.(4/404)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الحشر
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ) ، الآية/ 2.
وعنى به جلاء بني النضير من اليهود، فمنهم من خرج إلى خيبر، ومنهم من خرج إلى الشام.
ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي لا تجوز الآن، وإنما جاز في أول الإسلام ثم نسخ، والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم «1» .
قوله تعالى: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها) ، الآية/ 5.
قال مجاهد: كل نخلة لينة.
وقيل: اللينة كرام النخيل.
وقيل: إنه نهى بعض المهاجرين عن القطع، وقال: إنما هي مغانم للمسلمين، فنزل القرآن بتصديق من نهى وتحليل من قطعها عن الإثم،
__________
(1) أنظر تفسير الطبري، والفخر، والدر المنثور للسيوطي، وأسباب النزول للواحدي.(4/405)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
وهو يدل على أن كل مجتهد مصيب، وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود الرسول عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم.
ولا شك أنّ النبي عليه الصلاة والسلام رأى ذلك فسكت، فيؤخذ الحكم من تقريره فقط، ويجوز لنا إحراق زرعهم إذا لم يمكنا نقله، والمواشي تذبح وتحرق على هذا الوجه «1» .
قوله تعالى: (وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) ، الآية/ 6.
كانت لرسول الله عليه الصلاة والسلام خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله، ولم يكن لأحد فيه حق إلا لمن جعله النبي عليه الصلاة والسلام.
ولما ذكر ما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، ذكر ما أوجف عليه المسلمون «2» .
فقال تعالى: (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) ، الآية/ 7.
وذلك يمنع تنزيها للغانمين، ثم نسخ ذلك بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) «3» .
ولما فتح عمر العراق، سأل قوم من الصحابة قسمتها بينهم، فقال:
إن قسمتها بينهم بقي آخر الناس لا شيء لهم، واحتج عليهم بهذه الآية
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص ج 5، وابن عربي ج 4.
(2) أنظر تفسير القرطبي سورة الحشر.
(3) سورة الأنفال آية 41(4/406)
إلى قوله: (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) «1» ، الآية/ 10، وشاور عليا في ذلك، فأشار عليه بترك القسمة، وأن يقر أهلها عليها، وأن يضع الخراج عليها، ففعل، فقال أصحاب أبي حنيفة: فالآية غير منسوخة إذا، فإنها غير مضمومة إلى آية الغنيمة في الأراضي المفتتحة، فإن رأى قسمتها أصلح وأعود على المسلمين فعل، ثم قال: وتقدير الآيتين: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه في الأموال سوى الأرضين، وفي الأرضين إذا اختار الإمام ذلك.
والذي ذكروه بعيد جدا، فإن قوله: (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ، ليس لهم حقا في الغنيمة، وأن غير من شهد الوقعة يستحق، والعجب أن الذين هم في الحياة لا يستحقون إذا لم يشهدوا الوقعة، فكيف يستحق من جاء بعدهم، فدل أن معنى الآية ظاهرها وهو قوله: (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) ، الآية/ 10، وهو ندب الآخرين إلى الثناء على الأولين، فدل أن الحق ما قاله الشافعي، إن ما كان غنموه من الأراضي وغيرها فخمسها لأهله وأربعة أخماسها للغانمين، فمن طابت نفسه عن حقه فللإمام أن يجعلها وقفا عليهم، ومن لم تطب نفسه فهو أحق بما له، وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتراها منهم «2» .
قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ
__________
(1) أنظر تفسير الطبري، وابن كثير، والدر المنثور للسيوطي.
(2) راجع تفسير القرطبي تفسير سورة الحشر. [.....](4/407)
خَصاصَةٌ) . الآية/ 9 «1» .
والخصاصة الحاجة، فأثنى الله تعالى عليهم بإيثارهم المهاجرين على أنفسهم فيما ينفقون عليهم، وإن كانوا هم محتاجين إليه، ووردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه الإنسان، ولكن إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه بالصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، ألا ترى أنه قال: يأتيني أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد يتكفف وجوه الناس، فإنما كره الإيثار لمن كانت هذه صفته، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم فلم يكونوا على هذه الصفة، بل كانوا كما قال تعالى: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) «2» .
فكان الإيثار منهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.
__________
(1) والمؤلف لم يراع هنا ترتيب الآيات كما جاء في السورة، وتركنا ذلك على ما هو عليه للأمانة واكتفينا بهذا التنبيه.
(2) سورة البقرة آية 177.(4/408)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الممتحنة
قوله تعالى: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) ، الآية/ 1.
فيه دلالة على أن خوف الجائحة على المال والولد لا يبيح التقية في دين الله تعالى، وأن العذر الذي أبرزه حاطب بن أبي بلتعه لا أثر له «1» .
ويحتمل أن يقال إن ذلك لم يكن إكراما، وإنما كان توددا إليهم، لما كان يأمل من نفع من جهتهم.
قوله تعالى: (لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) ، الآية/ 8.
فيه دليل على جواز التصدق على أهل الذمة دون أهل الحرب، ووجوب النفقة للأب الكافر الذمي، وأما الحربي فيجب قتله.
قوله تعالى: (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) ، الآية/ 10.
كان الشرط في صلح الحديبية أن يرد على المشركين من هاجر إلى المدينة، ممن كان مسلما «2» ، ونزلت سورة الممتحنة عن الصلح فكان من
__________
(1) أنظر تفسير ابن جرير الطبري ج 28 طبعة الحلبي.
(2) أي من أسلم من أهل مكة بعد الصلح وهاجر الى المدينة.(4/409)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
أسلم من نسائهن تسأل: ما أخرجك؟ فإن كانت خرجت هربا من زوجها ردت عليه، وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت وردت على زوجها ما أنفق عليها.
وقوله تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) ، الآية/ 10، أو بظاهر قولها.
وفيه دليل على ارتفاع النكاح، فإنه تعالى منع ردها إلى زوجها، وأوجب عليها رد ما أنفق عليها.
وفيه تنبيه على أن المنع من الرد لمكان الإسلام، فإنه تعالى قال:
(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) ، فلم يجعل الفرقة لاختلاف الدارين على ما قاله أبو حنيفة، وإنما جعل للإسلام.
قوله تعالى: (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) ، الآية/ 12.
قال ابن عباس: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم.
قوله تعالى: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) ، الآية/ 12.
هو عموم في جميع طاعات الله تعالى، وقد علم الله تعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بمعروف، إلا أنه شرط في النهي عن عصيانه إذا أمرهن بالمعروف، لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين إذا لم تكن طاعة لله تعالى، إذ شرط في طاعة خير العالمين أن يأمر بالمعروف، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.(4/410)
وكذلك لا يجب طاعة أئمة العلم فيما يتعلق بالأغراض المتأولة، ولا يسوغ لمسلم اتباعهم.
وقال عليه الصلاة والسلام: «من اتبع مخلوقا في معصية الخالق سلط الله عليه ذلك المخلوق» . وفي لفظ آخر: «عاد حامده من الناس ذاما» «1» .
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده والطبراني في معجمه الكبير.(4/411)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الصف
قوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) ، الآية/ 2.
يحتج به في وجوب الوفاء بالنذر، في نذر اللجاج، على أحد قولي الشافعي.(4/413)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الجمعة
قوله تعالى: (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) ، الآية/ 9:
وليس في الآية تعيين الصّلاة، إلا أن الاتفاق منعقد على أن المراد به الجمعة، والمراد بالنداء الأذان.
قال تعالى: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) ، الآية/ 9.
قرأ عمرو بن مسعود: فامضوا، قال عبد الله: لو قرأت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي.
ويجوز أن يكون ذلك تفسيرا كما قال: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) «1» .
وقيل: السعى بمعنى العمل، كما قيل: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) «2» .
قوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) ، الآية/ 9: يحتمل أن يريد به الصلاة، ويحتمل الخطبة، وهو عموم فيهما، وإنما ثبت وجوبهما بدليل آخر غير هذا اللفظ.
__________
(1) سورة الدخان آية 43- 44.
(2) سورة النجم آية 39.(4/415)
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
نعم في هذا اللفظ دليل على أن هناك ذكر يجب السعي إليه، فأما عين الذكر فلا دليل عليه.
قال مالك، قوله: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) : يدل على فساد البيع، ورآه أخص من العمومات الواردة في البيع، ورأى أن البيع لما حرم دل على فساده، وهذا مما بينا فساده في أصول الفقه.
قوله تعالى: (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) ، الآية 10.
بالتصرف في التجارة وغيرها، فهو إباحة.
قوله تعالى: (وَتَرَكُوكَ قائِماً) ، الآية/ 11: يدل على أن الإمام يخطب قائما، فإنهم كانوا انفضوا من الخطبة «1» .
__________
(1) أنظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري.(4/416)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة المنافقون
قوله تعالى: (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ- إلى قوله- اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) ، الآية/ 1، 2.
فمنه قال الشافعي: إذا قال أشهد بالله ونوى به اليمين كان يمينا.
وأبو حنيفة يجعلها دون الله يمينا، لأن الله تعالى أخبر عن الكفار أنهم يقولون نشهد إنك لرسول الله ولم يقولوا: نشهد بالله، وقال تعالى:
(فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ) «1» .
والشافعي يقول: أشهد، ينبئ عن مبالغة ما، ولكن إذا لم يقرنه بذكر الله لم يدل على معنى اليمين، فإن خاصية اليمين في ذكر اسم الله تعالى، أو صفة من صفاته «2» .
قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ، الآية/ 10.
فيه دلالة على أنه يجب تعجيل الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلا.
__________
(1) سورة النور آية 6.
(2) أنظر أحكام القرآن للجصاص ج 5 وتفسير القرطبي سورة المنافقون(4/417)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الطلاق
قوله تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) ، الآية/ 1.
شرحنا معناه في سورة البقرة.
وزمان الطلاق المشروع المعلوم من هذه الآية زمان الطهر لا غير، لا جرم قال الشعبي: يجوز أن يطلقها في طهر مسها فيه.
وقوله تعالى: (لِعِدَّتِهِنَّ) .
يدل على أن الطهر إن جعل وقت الطلاق، فالثاني والأول والثالث سواء، وأن اللفظ عموم فيه.
وقد ظن قوم أنه لما قال: (لِعِدَّتِهِنَّ) ، فينبغي أن ينتظم الكلام على العدة.
وهذا باطل، فإن فعل الطلاق من الزوج، إنما يتصور في سماعه، وإنما الشامل الحاوي وقت العدة والعدة وقت الطلاق.
قوله تعالى: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) ، الآية/ 1.
فيه دليل على وجوب السكنى لها ما دامت في العدة، فإن بيوتهن التي نهى الله تعالى عن إخراجهن منها، هي البيوت التي كانت تسكنها قبل(4/419)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
الطلاق، فأمره بإقرارها في بيتها، ونسبه إليها بالسكنى كما قال: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) «1» .
قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ، الآية/ 1.
فالفاحشة تحتمل البذاء، وتحتمل الزنا وتحتمل النشوز «2» .
قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، الآية/ 2.
يدل على الإشهاد، إلا أن الإشهاد لا يظهر انصرافه إلى الطلاق الذي يستحق الزوج به أبدا من غير حاجة إلى فترة، والرجعة هي التي إذا تأخرت إلى انقضاء العدة امتنعت.
فالظاهر رجوع قوله: (وَأَشْهِدُوا) إلى الرجعة لا إلى الطلاق.
قوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) ، الآية/ 4.
فدلت الآية على إثبات الإياس بعد ارتياب، فلا يجوز أن يكون قوله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) إثبات حكم الإياس في أول الآية، فلا جرم اختلف أهل العلم في الريبة المذكورة في الآية «3» ، فروي أن أبي بن كعب قال: يا رسول الله، إن عددا من عدد النساء لم يذكر في الكتاب الصغار والكبار وذوات الأحمال أجلهن، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأبان أن سبب نزول هذه الآية كان ارتيابهن في عددهن، صغير أو
__________
(1) سورة الأحزاب آية 33.
(2) وقد استفاض صاحب محاسن التأويل في شرح هذه المسألة في ج 16 ص 5837 فارجع اليه.
(3) أنظر تفصيل القول في كتاب أحكام القرآن للجصاص وتفسير القرطبي.(4/420)
كبير من الصغار «1» والكبار، فتقدير الكلام (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) ، الآية/ 4.
واختلف السلف في التي ترتفع حيضتها، فروى سعيد بن المسيب عن عمر أنه قال:
أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها، فإنه ينتظر بها تسعة أشهر، فإن استبان بها حمل فذاك، وإلا اعتدت بعد ستة أشهر بثلاثة أشهر «2» .
وأمر ابن عباس بالتربص بستة أشهر وقال: تلك الريبة.
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه:
التي ترتفع حيضتها تبقى إلى سن اليأس، ثم تعتد بثلاثة أشهر، وهو الحق، فإن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر، والمرتابة ليست بآيسة.
قوله تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ، الآية/ 4.
ولم يختلف السلف والخلف في أن عدة المطلقة الحامل في أن تضع حملها..
واختلف السلف في عدة المتوفى عنها زوجها، وأنها تعتد بأقصى الأجلين أو بوضع الحمل:
فقال علي رضي الله عنه بأقصى الأجلين.
وقال عمر رضي الله عنه في نفر من الصحابة: إنها تعتد بوضع الحمل.
__________
(1) أنظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري. [.....]
(2) أنظر تفسير الطبري والدر المنثور، وأسباب النزول للواحدي.(4/421)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
ولا شك أن قوله تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) ، معطوف على ذكر المطلقات، غير أنه عموم، وقد نزل بعد قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) «1» على ما قال ابن مسعود، وأنه قال: من شاء لاعنته، ما نزلت: (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ) ، إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها.. فكان قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) عام في كل من يتوفى عنها زوجها، وقوله: (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) ، عموم ورد بعده.. ولا دليل من الأول على تخصيص الثاني، فوجب اعتبار المتأخر.
قوله تعالى: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ، الآية/ 6.
يدل على أنه لا نفقة للحامل.
نعم قوله: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) ، وإن عم الرجعية والبائنة، وللرجعية النفقة في عموم الأحوال، فذلك خرج بدليل الإجماع، وبقي ما عداه على موجب المفهوم من الآية، ويزيده تأكيد أنه أطلق السكنى، وقيد النفقة، فلو كان الحكم فيها سواء لم يكن لذلك معنى.
قوله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ، الآية/ 6.
دلت الآية على أحكام:
منها إذا أرضعت بأن ترضعه بأجر مثلها، لم يكن للأب أن يسترضع غيرها بمثل ذلك الأجر.
__________
(1) سورة البقرة آية 234. أنظر تفسير سورة البقرة لابن جرير الطبري.(4/422)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
ويدل على أن الأم أحق بحضانة الولد.
ويدل على أن الأجرة إنما تستحق بالفراغ من العمل، وإن احتمل أن يراد به غير ذلك «1» .
قوله تعالى: (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) .
وقوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) ، الآية/ 7.
يدل على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الزوج في يساره وإعساره، وأن نفقة المعسر أقل من نفقة الموسر خلافا لأبي حنيفة، فإنه اعتبر كفايتها.
قوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) ، الآية/ 7.
فيه دليل على أنه لا يجوز التفريق بين الزوج والمرأة، لعجزه عن نفقتها، لأن الله تعالى لم يوجب النفقة في هذه الحالة.
والذي يخالف هذا من أصحاب الشافعي يقول: إنما فرقنا بينهما لا لأنه ترك واجبا عليه في هذه الحالة من النفقة، ولكنه عجز عن الإمساك بالمعروف، فعليه التسريح بالإحسان، فإنه إذا صار لا بد من أحدهما فمتى فات أحدهما تعين الثاني، ولا شك أن العاجز عن نفقة عبده أو أمته أو بهيمته لا يجب عليه نفقتها، لكن يجبر على بيع المملوك، كذلك هاهنا.
ولأجله ارتفع الحبس عنها في الدار، وإن لم تجب النفقة على ما ذكروه «2» .
__________
(1) راجع تفسير محاسن التأويل ج 16 سورة الطلاق.
(2) أنظر أحكام القرآن للجصاص الجزء الخامس.(4/423)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة التحريم
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) ، الآية/ 1.
قيل: إن الآية وردت في تحريم العسل «1» .
وقيل: وردت في تحريم مارية لما أصابها في بيت حفصة، فعلمت به، فخرجت منه فقال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟ فقالت: بلى.
فحرمها فنزلت الآية.
والأشبه هذا، فإنه تعالى قال: (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) ؟ وفي حديث العسل، روي أنه حلف، وروي أنه حلف في الجارية أيضا،
واحتجوا عليه بقوله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) ، الآية/ 2.
ولا أيمان في مجرد التحريم «2» .
قوله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) ، الآية/ 6.
قال علي رضي الله عنه في تفسيره: علموا أنفسكم وأهليكم الخير.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير، وأسباب النزول للواحدي النيسابوري.
(2) أنظر تفسير محاسن التأويل ج 16.(4/425)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
وقال الحسن: نعلمهم ونأمرهم وننهاهم.
وهذا يدل على أن علينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب، وهو معنى قوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) «1» ، ونحو قوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) «2» .
وفي الحديث «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» «3» .
قوله تعالى: (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) ، الآية/ 9:
وفيه دليل على التشدد في دين الله تعالى.
__________
(1) سورة طه آية 132.
(2) سورة الشعراء آية 214.
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والحاكم في المستدرك.(4/426)
قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة المزمل
قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) ، الآية/ 2.
روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قام هو وأصحابه حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا، ثم أنزل الله تعالى التخفيف في آخر السورة، فكان قيام الليل تطوعا بعد كونه فريضة «1» .
قوله تعالى: (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، الآية/ 20.
فنسخ به قيام الليل المفروض فكان ندبا.
ودلت الآية على لزوم فرض القراءة في الصلاة، بقوله تعالى:
(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) .
ومن سورة المدثر:
قوله تعالى: (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) ، الآية/ 4.
يدل على وجوب تطهير الثياب من النجاسات للصلاة.
وقال عكرمة: أمره أن لا يلبس ثيابه على عذرة، وذلك محتمل.
قوله تعالى: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) ، الآية/ 6.
__________
(1) ذكره الطبري في تفسيره والواحدي النيسابوري في أسباب النزول والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي.(4/427)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
أي لا تمنن حسناتك عند الله تعالى مستكثرا، فينقصك ذلك عند الله تعالى.
ومن سورة القيامة:
قوله تعالى: (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)
، الآية/ 14.
يدل على قبول شهادة الإنسان على نفسه «1» .
ومن سورة الإنسان:
قوله تعالى: (وَأَسِيراً) ، الآية/ 8.
يدل على أن إطعام المشرك يتقرب به إلى الله تعالى، غير أنه صدقة التطوع، وأما المفروض فلا دليل عليه «2» .
ومن سورة المرسلات:
قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً) ، الآية/ 25، 26.
وعنى بالكفات الضمام، فأراد به تعالى أنها تضمهم في الحالتين جميعا «3» .
وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه ودفن شعره وسائر ما يزايله.
ومن سورة الأعلى:
قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ، الآية/ 14 و 15.
يدل على زكاة الفطر وزكاة المال.
__________
(1) أنظر محاسن التأويل.
(2) وأسيرا: أي مأسورا من حرب أو مصلحة
(3) أي حالتي الحياة والموت.(4/428)
وذكر اسم ربه، يدل على ذكر يناسب الزكاة، وذلك تكبيرات العيد.
ومن سورة الانشقاق «1» :
قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) ، الآية/ 16.
قال مجاهد: الشفق النهار، ألا تراه قال: (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) ، الآية/ 17.
وقال قائلون: الشفق البياض.
وقال آخرون: الحمرة، وعلى كل واحد من اللفظين أمارات، واللفظ يحتملهما جميعا.
قوله تعالى: (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) ، الآية/ 21:
لا يظهر في سجود التلاوة، لأن ذلك يبعد أن يكون مرادا من بين الواجبات كلها، فدل أن المراد به أنهم لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بموجباته:
ومن سورة الضحى:
قوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) ، الآية/ 9:
يحتمل أن يكون نهيا عن قهره وظلمه وأخذ ماله، وخص اليتيم بالذكر، لأنه لا ناصر له إلا الله، فغلظ في أمره بتغليظ العقوبة على ظالمه.
وأما قوله: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) ، الآية/ 10.
__________
(1) والمؤلف لم يراع هنا ترتيب السور أيضا فقدم سورة الأعلى على سورة الانشقاق. [.....](4/429)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
فيه نهي عن إغلاظ القول له، لأن الانتهار هو الزجر وإغلاظ القول.
ومن سورة الشرح:
قوله تعالى: (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) ، الآية/ 7، 8:
في العبادة والدعاء.(4/430)
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة القدر
قوله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، الآية/ 3:
ليس فيها ليلة القدر، وإنما فضيلة الزمان بكثرة ما يقع فيه من الفضائل، وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر.
واختلفت الروايات عن النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة القدر، ولا دليل في الآية على التعيين، وليس في الشرع قاطع على التعيين، ولذلك إذا قال لامرأته أنت طالق ليلة القدر لا تطلق حتى يمضي حول، لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت اختصاصها بوقت، فلا يتيقن وقوع الطلاق إلا بمضي حول:
ومن سورة البينة:
قوله تعالى: (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ، الآية/ 5:
يدل على وجوب النية في العبادات، لأن الإخلاص عمل القلب، وهو أن يريد وجه الله تعالى بالعمل، ولا يراد غيره به أصلا.
ومن سورة الماعون:
قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ، الآية/ 5.
أي مؤخرون لها عن ميقاتها.(4/431)
قوله: (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) ، الآية/ 7: كل ما فيه منفعة.
ومن سورة الكوثر:
قوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) ، الآية/ 2.
قال الحسن: صلاة يوم النحر والبدن.
قال مجاهد وعطاء: صل الصبح بجمع، وانحر البدن بمنى.
ومن سورة النصر:
قوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ، الآية/ 3.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي عليه الصلاة والسلام فيما يكثر أن يقول قبل أن يموت: سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك «1» .
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده والبيهقي في الدلائل.(4/432)
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الفلق
عن عقبة بن عامر قال: بينما أنا أسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الجحفة والأبواء، إذ غشيتنا ريح شديدة مظلمة فجعل رسول الله يتعوذ بأعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس ويقول:
«يا عقبة، تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما» «1» .
و (النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) ، الآية/ 4: السواحر ينفثن على العليل، ويرقونه بكلام هو كفر وتعظيم للكوكب، ويطعمن العليل الأدوية الحارة الضارة والسموم القاتلة، ويحتلن في التوصل إلى ذلك، ويزعمن أن ذلك من رقاهن، ومن أردن نفعه نفثن عليه، وأوهمن أنهن نفعنه بذلك، وربما أضفن إلى ذلك بعض الأدوية النافعة.
وروت عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
«العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين، فإذا استعنتم فاغتسلوا» «2» .
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور، وأبن كثير في تفسيره.
(2) أخرجه أبن حميد في مسنده والطبراني في المعجم الكبير والامام أحمد في مسنده(4/433)
وقال قوم من الفلاسفة: إن ضرر العين، إنما هو من جهة شيء ينفصل من العين ويتصل بالمعاين.
والحق في ذلك إذا اتفق ضرر فهو من فعل الله تعالى، وإنما يفعل ذلك عند إعجاب الإنسان بما يراه، تذكيرا له لأن لا يركن إلى الدنيا ولا يعجب بشيء منها.
وعن أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
«من رأى شيئا يعجبه فقال: بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره شيء» «1» .
تم الكتاب بحمد الله ومنه، وقد أتينا على جمل ما يحتاج إليه من أحكام الفقه اشتمل القرآن عليها، وأوضحنا قدر مقصودنا من اختلاف العلماء، وبيان أقرب الأقوال إلى معاني القرآن، ولم نغادر جهدا في تلخيص ما أردناه وحذف الحشو المستغنى عنه.
ونسأل الله تعالى أن يجعل سعينا مصروفا إلى ابتغاء مرضاته، وابتغاء الزلفى لديه، فإنه رؤوف رحيم بعباده، وصلّى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وسلّم تسليما «2» .
__________
(1) أخرجه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، والدر المنثور للسيوطي والبيهقي في الشعب.
(2) تمت النسخة وبها تم كتاب أحكام القرآن ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعل عملنا فيه خالصا لوجهه وأن يجزي مؤلفه عنا وعن المسلمين والفقهاء خير الجزاء وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(4/434)