مقدمة
تعريف بالإمام الجصّاص الحنفي المتوفى 370 سنة هجرية الإمام أحمد بن على أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص نسبة إلى عمله بالجص هو إمام الحنفية في عصره ومن المجتهدين المبرزين في المذهب.
ولد في بغداد سنة خمس وثلاثمائة هجرية، وتفقه على أبى سهل الزجاج وعلى أبى الحسن الكرخي عن أبى سعيد البردعي عن موسى بن نصير الرازي عن محمد.
وروى الحديث عن عبد الباقي بن قانع.
خرج إلى الأهواز ثم عاد إلى بغداد ثم خرج إلى نيسابور مع الحاكم النيسابوري برأى شيخه أبى الحسن الكرخي ومشورته فمات الكرخي وهو بنيسابور.
عاد الإمام إلى بغداد سنة أربعة وأربعون وثلاثمائة واستقر للتدريس بها وخوطب في أن يلي القضاء فامتنع وأعيد عليه الخطاب فلم يفعل.
انتهت للإمام الزاهد رئاسة الأصحاب وأخذ عنه وتفقه عليه الكثيرون ومنهم أبو عبد الله محمد بن يحيى الجرجانى شيخ القدورى وأبو الحسن محمد بن أحمد الزعفراني.
ومن مصنفات الإمام كتاب أحكام القرآن وشرح مختصر الكرخي وشرح مختصر الطحاوي وشرح الجامع لمحمد بن الحسن وشرح الأسماء الحسنى وكتاب في أدب القضاء وآخر في أصول الفقه هو بمثابة المقدمة لكتابه في أحكام القرآن وله جوابات على مسائل وردت عليه.
توفى الإمام في السابع من ذي الحجة سنة سبعين وثلاثمائة هجرية وقد لخصنا هذا التعريف بالإمام مما ذكر عنه وعن مؤلفاته في كتاب الفوائد البهية في تراجم الحنفية لعبد الحي اللكنوى الهندي وفي كتاب كشف الظنون وفي كتاب طبقات(1/3)
القارئ وفي كتاب شرح المواهب اللدنية لمحمد بن عبد الباقي الزرقانى وكذلك مما أورده صاحب القاموس في طبقاته للحنفية.
تغمد الله الإمام بواسع رحماته وأفاض علينا من خيراته وبركاته وصلّى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(1/4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
سورة الفاتحة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ مُقَدِّمَةً «1» تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ جُمَلٍ مِمَّا لَا يَسَعُ جَهْلُهُ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَتَوْطِئَةً لِمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ طُرُقِ اسْتِنْبَاطِ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِهِ وَأَحْكَامِ أَلْفَاظِهِ وَمَا تَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ أَنْحَاءُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْأَسْمَاءُ اللُّغَوِيَّةُ وَالْعِبَارَاتُ الشَّرْعِيَّةُ إذْ كَانَ أَوْلَى الْعُلُومِ بِالتَّقْدِيمِ مَعْرِفَةَ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ شِبْهِ خَلْقِهِ وَعَمَّا نَحَلَهُ الْمُفْتَرُونَ مِنْ ظُلْمِ عَبِيدِهِ وَالْآنَ حَتَّى انْتَهَى بِنَا الْقَوْلُ إلَى ذِكْرِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَدَلَائِلِهِ وَاَللَّهَ نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ لِمَا يُقَرِّبُنَا إلَيْهِ وَيُزَلِّفُنَا لديه إنه ولى ذلك والقادر عليه.
بَابٌ الْقَوْلُ فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكَلَامُ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا مَعْنَى الضَّمِيرِ الَّذِي فِيهَا وَالثَّانِي هَلْ هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي افْتِتَاحِهِ وَالثَّالِثُ هَلْ هِيَ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَمْ لَا وَالرَّابِعُ هَلْ هِيَ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَالْخَامِسُ هَلْ هِيَ آيَة تَامَّةٌ أَمْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ وَالسَّادِسُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ وَالسَّابِعُ تَكْرَارُهَا فِي أَوَائِل السُّوَرِ فِي الصَّلَاةِ وَالثَّامِن الْجَهْرُ بِهَا وَالتَّاسِع ذِكْرُ مَا فِي مُضْمَرِهَا مِنْ الْفَوَائِدِ وَكَثْرَةِ الْمَعَانِي فَنَقُولُ إنَّ فِيهَا ضَمِيرَ فِعْلٍ لَا يَسْتَغْنِي الْكَلَامُ عَنْهُ لِأَنَّ الْبَاءَ مَعَ سَائِرِ حُرُوفِ الْجَرِّ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِلَ بِفِعْلٍ إمَّا مُظْهَرٍ مَذْكُورٍ وَإِمَّا مُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ وَالضَّمِيرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَنْقَسِمُ إلَى مَعْنَيَيْنِ خَبَرٍ وَأَمْرٍ فَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ خَبَرًا كَانَ مَعْنَاهُ أَبْدَأُ بِسْمِ اللَّهِ فَحُذِفَ هَذَا الْخَبَرُ وَأُضْمِرَ لِأَنَّ الْقَارِئَ مُبْتَدِئٌ فَالْحَالُ الْمُشَاهَدَةُ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ ومغنية عَنْ ذِكْرِهِ وَإِذَا كَانَ أَمْرًا كَانَ مَعْنَاهُ ابْدَءُوا بِسْمِ اللَّهِ وَاحْتِمَالُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَفِي نَسَقِ تِلَاوَةِ السُّورَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ وَهُوَ قَوْله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] وَمَعْنَاهُ قُولُوا إيَّاكَ كَذَلِكَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ فِي معنى قوله بسم الله وقد ورد الأمر بذلك في مواضع
__________
(1) المراد بهذه المقدمة الكتاب الذي ألفه في أصول الفقه.(1/5)
مِنْ الْقُرْآنِ مُصَرَّحًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] فَأُمِرَ فِي افْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِالتَّسْمِيَةِ كَمَا أُمِرَ أَمَامَ الْقِرَاءَةِ بِتَقْدِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ وَهُوَ إذَا كَانَ خَبَرًا فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْأَمْرِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ بِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِاسْمِ اللَّهِ فَفِيهِ أَمْرٌ لَنَا بِالِابْتِدَاءِ بِهِ وَالتَّبَرُّكِ بِافْتِتَاحِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَنَا بِهِ لِنَفْعَلَ مِثْلَهُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لَهُمَا جَمِيعًا فَيَكُونَ الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ جَمِيعًا مُرَادَيْنِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَوْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْخَبَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الضَّمِيرِ فِي انْتِفَاءِ إرَادَةِ الْأَمْرَيْنِ قِيلَ لَهُ إذَا أَظْهَرَ صِيغَةَ الْخَبَرِ امْتَنَعَ أَنْ يُرِيدَهُمَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ لَفْظٍ وَاحِدٍ أَمْرًا وَخَبَرًا فِي حَالٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ بِالْخَبَرِ الْأَمْرَ كَانَ اللَّفْظُ مَجَازًا وَإِذَا أَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الْخَبَرِ كَانَ حَقِيقَةً وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مَجَازًا حَقِيقَةً لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمَجَازُ مَا عُدِلَ بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ إلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ وَمَعْدُولًا بِهِ عَنْهُ فِي حَالٍ وَاحِدٍ فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ إرَادَةُ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا الضَّمِيرُ فَغَيْرُ مَذْكُورٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِرَادَةِ وَلَا يَسْتَحِيلُ إرَادَتُهُمَا مَعًا عِنْدَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِإِضْمَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ أَبْدَأُ بِسْمِ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ وَابْدَءُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِي وَتَبَرُّكًا بِهِ غَيْرَ أَنَّ جَوَازَ إرَادَتِهِمَا لَا يُوجِبُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إثْبَاتَهُمَا إلَّا بِدَلَالَةٍ إذْ لَيْسَ هُوَ عُمُومَ لَفْظٍ مُسْتَعْمَلٍ عَلَى مُقْتَضَاهُ وَمُوجَبِهِ وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ حُكْمَ اللَّفْظِ إثْبَاتُ ضَمِيرٍ مُحْتَمَلٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَتَعْيِينُهُ فِي أَحَدِهِمَا مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلَالَةِ كَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي نَظَائِرِهِ نَحْوَ
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)
لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا تَعَلَّقَ بِضَمِيرِ يَحْتَمِلُ رَفْعَ الْحُكْمِ رَأْسًا وَيَحْتَمِلُ الْمَأْثَمَ لَمْ يَمْتَنِعْ إرَادَةُ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَلَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا وَجَوَازِ إرَادَتِهِمَا إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِعُمُومِ لَفْظٍ فَيَنْتَظِمُهُمَا فَاحْتَجْنَا فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَةِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ أَوْ إرَادَتِهِمَا جَمِيعًا وَقَدْ يَجِيءُ مِنْ الضَّمِيرِ الْمُحْتَمِلِ لِأَمْرَيْنِ مَا لَا يَصِحُّ إرَادَتُهُمَا مَعًا نَحْوَ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)
مَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَهُ مُتَعَلِّقٌ بِضَمِيرِ يَحْتَمِلُ جَوَازَ الْعَمَلِ وَيَحْتَمِلُ أَفْضَلِيَّتَهُ فَمَتَى أَرَادَ الْجَوَازَ امْتَنَعَتْ(1/6)
إرَادَةُ الْأَفْضَلِيَّةِ لِأَنَّ إرَادَةَ الْجَوَازِ تَنْفِي ثُبُوتَ حُكْمِهِ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ وَإِرَادَةَ الْأَفْضَلِيَّةِ تَقْتَضِي إثْبَاتَ حُكْمِ شَيْءٍ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ مَعَ إثْبَاتِ النُّقْصَانِ فِيهِ وَنَفْيِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُرِيدَ نَفْيَ الْأَصْلِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ الْمُوجِبِ لِلنُّقْصَانِ فِي حَالٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهِ إرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ نَفْيِ الْأَصْلِ وَإِثْبَاتِ النَّقْصِ وَلَا يَصِحُّ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَتِهِمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَإِذَا ثَبَتَ اقْتِضَاؤُهُ لِمَعْنَى الْأَمْرِ انْقَسَمَ ذَلِكَ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ فَالْفَرْضُ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فِي قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى] فَجَعَلَهُ مُصَلِّيًا عَقِيبَ الذِّكْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ ذِكْرَ التَّحْرِيمَةِ وَقَالَ تَعَالَى [وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا] قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذِكْرُ الِافْتِتَاحِ
رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى [وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى] قال هي بسم الله الرحمن الرحيم
وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الذَّبِيحَةِ فَرْضٌ وَقَدْ أَكَّدَهُ بقوله [فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَ] وَقَوْلِهِ [وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ] وَهُوَ فِي الطَّهَارَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَابْتِدَاءِ الْأُمُور نفل فإن قال قائل هل لا أَوْجَبْتُمْ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْوُضُوءِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى خُصُوصِهِ مَعَ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)
قِيلَ لَهُ الضَّمِيرُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فَيُعْتَبَرُ عُمُومُهُ وَإِنَّمَا ثَبَتَ مِنْهُ مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ
وَقَوْلُهُ (لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)
عَلَى جِهَةِ نَفْيِ الْفَضِيلَةِ لِدَلَائِلَ قَامَتْ عَلَيْهِ.
بَابُ الْقَوْل فِي أَنَّ البسملة مِنْ الْقُرْآنِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ في أن بسم الله الرحمن الرحيم مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ]
وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ مَا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ قَالَ لَهُ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ لَهُ [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]
وروى أبو قطن عن المسعودي عن الحرث الْعُكْلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ بِاسْمِك اللَّهُمَّ حَتَّى نَزَلَ [بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها] فَكَتَبَ بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى [قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ] فَكَتَبَ فَوْقَهُ الرَّحْمَنَ فَنَزَلَتْ قِصَّةُ سُلَيْمَانَ فَكَتَبَهَا حِينَئِذٍ
وَمِمَّا سَمِعْنَا
فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد قَالَ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَقَتَادَةُ وَثَابِتٌ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتُبْ بسم الله الرحمن الرحيم حتى(1/7)
نَزَلَتْ سُورَةُ النَّمْلِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ بينه وبين سهيل ابن عمر وكتاب الْهُدْنَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اُكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم فَقَالَ لَهُ سُهَيْلٌ بِاسْمِك اللَّهُمَّ فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ
إلَى أَنْ سُمِحَ بِهَا بَعْدُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم لم تكن مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ.
الْقَوْلُ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَة مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَمْ لَا فَعَدَّهَا قُرَّاءُ الْكُوفِيِّينَ آيَةً مِنْهَا وَلَمْ يَعُدَّهَا قُرَّاءُ الْبَصْرِيِّينَ وَلَيْسَ عَنْ أَصْحَابِنَا رِوَايَةٌ مَنْصُوصَةٌ فِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا إلَّا أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ حَكَى مَذْهَبَهُمْ فِي تَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا عِنْدَهُمْ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ آيَةً مِنْهَا عِنْدَهُمْ لَجُهِرَ بِهَا كَمَا جُهِرَ بِسَائِرِ آيِ السور وقال الشَّافِعِيُّ هِيَ آيَةٌ مِنْهَا وَإِنْ تَرَكَهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ وَتَصْحِيحُ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلَى الجهل وَالْإِخْفَاءِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شاء الله تعالى.
القول في البسملة هَلْ هِيَ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ثَمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ لِتَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَكَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي غَيْرِهَا إذْ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأَنَّهَا مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وَمَا سَبَقَهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ أَحَدٌ لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا وَلَمْ يَعُدَّهَا أَحَدٌ آيَةً مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
حَدِيثُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (قَالَ الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرحيم قَالَ مَجَّدَنِي عَبْدِي أَوْ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وإذا قال مالك يوم الدين قَالَ فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ إِيَّاكَ نعبد وإياك نستعين قَالَ هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سأل فيقول عبدى اهدنا الصراط المستقيم إلَى آخِرِهَا قَالَ لِعَبْدِي مَا سَأَلَ)
فَلَوْ كَانَتْ مِنْ فَاتِحَةِ(1/8)
الْكِتَابِ لَذَكَرهَا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ آيِ السُّورَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا عَبَّرَ بِالصَّلَاةِ عَنْ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَعَلَهَا نِصْفَيْنِ فَانْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم آيَةً مِنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْقِسْمَةِ الثَّانِي أَنَّهَا لَوْ صَارَتْ فِي الْقِسْمَةِ لَمَا كَانَتْ نِصْفَيْنِ بَلْ كَانَ يَكُونُ مَا لِلَّهِ فِيهَا أَكْثَرِ مِمَّا لِلْعَبْدِ لأن بسم الله الرحمن الرحيم ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا شَيْءَ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ فِي أَضْعَافِ السُّورَةِ قِيلَ لَهُ هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ آيَةً غَيْرَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا وَلَوْ جَازَ مَا ذَكَرْت لَجَازَ الِاقْتِصَارُ بِالْقُرْآنِ عَلَى مَا فِي السُّورَةِ مِنْهَا دُونَهَا وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ بِسْمِ اللَّهِ فِيهِ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ فَالْوَاجِبُ لَا مَحَالَةَ أَنْ يَكُون مَذْكُورًا فِي الْقِسْمَةِ إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِيمَا قَسَمَ مِنْ آيِ السُّورَةِ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ
مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال حدثنا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ يَقُولُ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (قَالَ اللَّهُ قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي فَيَقُولُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ مالك يوم الدين يَقُولُ اللَّهُ مَجَّدَنِي عَبْدِي وَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نستعين فَهَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)
فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَالِكِ يَوْمِ الدين أَنَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ هَذَا غَلَطٌ مِنْ رَاوِيهِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى مَالِكِ يَوْمِ الدين ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَا شَيْءَ لِلْعَبْدِ فيه كقوله الحمد لله رب العالمين وَإِنَّمَا جَعَلَ قَوْلَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ لِمَا انْتَظَمَ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْآيِ بَعْدَهَا مِنْ قَوْله تعالى اهدنا الصراط المستقيم جَعَلَهَا لِلْعَبْدِ خَاصَّةً إذْ لَيْسَ فِيهِ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةٌ مِنْ الْعَبْدِ لما ذكروا من جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ قَوْلَهُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إياك نعبد وإياك نستعين لَمَّا كَانَ نِصْفَيْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَعُدُّ بسم الله الرحمن الرحيم آيَةً بَلْ كَانَ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى أَرْبَعٌ وَلِلْعَبْدِ ثَلَاثٌ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهَا مَا حَدَّثَنَا(1/9)
مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا هُشَيْمٌ عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ يَزِيدَ الْقَارِي قَالَ سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قُلْت لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنْ الْمَئِينِ وَإِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ الْمَثَانِي فَجَعَلْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ وَلَمْ تَكْتُبُوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ عُثْمَانُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ فَيَقُولُ ضَعْ هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ فَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ
وَكَانَتْ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا فَظَنَنْت أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ هُنَاكَ وَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم فَأَخْبَرَ عُثْمَانُ أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنْ مِنْ السُّورَةِ وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَكْتُبُهَا فِي فَصْلِ السُّورَةِ بَيْنَهَا وَبَيْن غَيْرِهَا لَا غَيْرُ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ مِنْ السُّوَرِ وَمِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَعَرَفَتْهُ الْكَافَّةُ بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا مِنْهَا كَمَا عَرَفَتْ مَوَاضِعَ سَائِرِ الْآيِ مِنْ سُورِهَا وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيهَا وَذَلِكَ أَنَّ سَبِيلَ الْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْآيِ كَهُوَ بِالْآيِ نَفْسِهَا فَلَمَّا كَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِ الْقُرْآنِ نَقْلَ الْكَافَّةِ دُونَ نَقْلِ الْآحَادِ وَجَبَ أن يكون كَذَلِكَ حُكْمُ مَوَاضِعِهِ وَتَرْتِيبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إزَالَةُ تَرْتِيبِ آيِ الْقُرْآنِ ولا نقل شيء منه عن مواضعه إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَامَ إزَالَتَهُ وَرَفْعَهُ فَلَوْ كَانَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ لَعَرَفَتْ الْكَافَّةُ مَوْضِعَهَا مِنْهَا كَسَائِرِ الْآيِ وَكَمَوْضِعِهَا مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ فَلَمَّا لَمْ نَرَهُمْ نَقَلُوا ذَلِكَ إلَيْنَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ نَقَلُوا إلَيْنَا جَمِيعَ مَا فِي الْمُصْحَفِ عَلَى أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَذَلِكَ كَافٍ فِي إثْبَاتِهَا مِنْ السُّوَرِ فِي مَوَاضِعَهَا الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُصْحَفِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا نَقَلُوا إلَيْنَا كَتْبَهَا فِي أَوَائِلهَا وَلَمْ يَنْقُلُوا إلَيْنَا أَنَّهَا مِنْهَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي أَنَّهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي أَوَائِلَهَا وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ أُثْبِتَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا عَلَى أَنَّهَا مِنْ السُّوَرِ وَلَيْسَ إيصَالُهَا بِالسُّورَةِ فِي الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَتُهَا مَعَهَا مُوجِبَيْنِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بَعْضُهُ مُتَّصِلٌ ببعض وما قيل بسم الله الرحمن الرحيم مُتَّصِلٌ بِهَا وَلَا يَجِبُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ سُورَةً وَاحِدَةً فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَمَّا نُقِلَ إلَيْنَا الْمُصْحَفُ وَذَكَرُوا أَنَّ مَا فِيهِ هُوَ الْقُرْآنُ عَلَى نِظَامِهِ وَتَرْتِيبِهِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ مَعَ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ لَبَيَّنُوا ذَلِكَ(1/10)
وَذَكَرُوا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَوَائِلِهَا لِئَلَّا تَشْتَبِهَ قِيلِ لَهُ هَذَا يَلْزَمُ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى الْقَوْلَ بِأَنَّهَا مِنْهُ فَهَذَا السُّؤَالُ سَاقِطٌ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْهَا لَعَرَفَتْهُ الْكَافَّةُ حَسَبَ مَا أَلْزَمْتَ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا مِنْهَا قيل له لا يجب ذلك لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ نَقْلُ كُلِّ مَا لَيْسَ مِنْ السُّورَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِمْ نَقْلُ مَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ نَقْلُ مَا هُوَ مِنْ السُّورَة أَنَّهُ مِنْهَا كَمَا عَلَيْهِمْ نَقْلُ مَا هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يَرِدْ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ بِكَوْنِهَا مِنْ السُّوَرِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُهَا كَإِثْبَاتِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبَانَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبَّاسٍ الْجُشَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ له تبارك الذي بيده الملك)
وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً سوى بسم الله الرحمن الرحيم فَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا كَانَتْ إحْدَى وَثَلَاثِينَ آيَةً وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا اتِّفَاقُ جَمِيعِ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ وَفُقَهَائِهِمْ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَسُورَةَ الْإِخْلَاصِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَكَانَتْ أَكْثَرَ مِمَّا عَدُّوا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا عَدُّوا سِوَاهَا لِأَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِيهَا عِنْدَهُمْ قِيلَ لَهُ فَكَانَ لَا يَجُوزُ لهم أن يقول سُورَةُ الْإِخْلَاصِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَسُورَةُ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَالثَّلَاثُ وَالْأَرْبَعُ إنَّمَا هِيَ بَعْضُ السُّورَةِ ولو كان كذلك لَوَجَبَ أَنْ يَقُولُوا فِي الْفَاتِحَةِ إنَّهَا سِتُّ آيَاتٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَقَدْ روى عبد الحميد ابن جَعْفَرٍ عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي جَلَالٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ (الحمد لله رب العالمين سَبْعُ آيَاتٍ إحْدَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
وَشَكَّ بَعْضُهُمْ فِي ذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْإِسْنَادِ
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ عَبْدِ الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي جَلَالٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ (إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحْدَى آيَاتِهَا)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ لَقِيت نُوحًا فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي السَّنَدِ وَالرَّفْعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فِي الْأَصْلِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَوْقِيفٌ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَإِنَّهَا إحْدَى آيَاتِهَا مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يُدْرِجُ كَلَامَهُ فِي(1/11)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا لِعِلْمِ السَّامِعِ الَّذِي حَضَرَهُ بِمَعْنَاهُ وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي الْأَخْبَارِ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ أَنْ يُعْزَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاحْتِمَالِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجْهَرُ بِهَا وَظَنَّهَا مِنْ السُّورَةِ لِأَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ رَوَى الْجَهْرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَيْضًا لَوْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ عَارِيًّا مِنْ الِاضْطِرَابِ فِي السَّنَدِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الرَّفْعِ وَزَوَالِ الِاحْتِمَالِ فِي كَوْنِهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَا جَازَ لَنَا إثْبَاتُهَا مِنْ السُّورَةِ إذْ كَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا نَقْلَ الْأُمَّةِ عَلَى مَا بين آنفا.
فَصْلٌ وَأَمَّا الْقَوْلُ فِي أَنَّهَا آيَةٌ أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ وَأَنَّهَا هُنَاكَ بَعْضُ آيَةٍ وَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْآيَةِ مِنْ قَوْله تعالى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ] وَمَعَ ذَلِكَ فَكَوْنُهَا لَيْسَتْ آيَةً تَامَّةً فِي سُورَةِ النَّمْلِ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُون آيَةً في غيرها لوجودها مِثْلَهَا فِي الْقُرْآنِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ [الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ] فِي أَضْعَافِ الْفَاتِحَةِ هُوَ آيَةٌ تَامَّةٌ وَلَيْسَتْ بآية تامة من قوله [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ] عِنْدَ الْجَمِيعِ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ] هُوَ آيَةٌ تَامَّةٌ فِي الْفَاتِحَةِ وَهِيَ بَعْضُ آيَةٍ فِي قَوْله تَعَالَى [وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اُحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ بَعْضَ آيَةٍ فِي فُصُولِ السُّوَرِ وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ آيَةً عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ فَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ أَيَّة تَامَّةً مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ لِأَنَّ الَّتِي فِي سُورَةِ النَّمْلِ لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ تَامَّةٌ
حَدِيثُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سلمة رضى الله تعالى عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ فَعَدَّهَا آيَةً
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ
أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يعد بسم الله الرحمن الرحيم آيَةً فَاصِلَةً رَوَاهُ الْهَيْثَمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عِكْرِمَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ هَارُونَ عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَرَوَى أَيْضًا أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يعد بسم الله الرحمن الرحيم آيَةً
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ
وَرَوَى عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْبَصْرِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَك بِآيَةٍ أَوْ سُورَةٍ لم تنزل على نبي بعد سليمان عليه السلام غَيْرِي فَمَشَى وَاتَّبَعْته حَتَّى انْتَهَى إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَأَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ أُسْكُفَّةِ الْبَابِ وَبَقِيَتْ الرِّجْلُ الْأُخْرَى ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِهِ فقال بأى شيء تفتح القرآن(1/12)
إذا افتتحت الصلاة فقلت ببسم الله الرحمن الرحيم قَالَ ثُمَّ خَرَجَ)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا آيَةٌ إذْ لَمْ تُعَارِضْ هَذِهِ الْأَخْبَارَ أَخْبَارٌ غَيْرُهَا فِي نَفْيِ كَوْنِهَا آيَةً فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ يَلْزَمُك عَلَى مَا أَصَّلْت أَنْ لَا تُثْبِتَهَا آيَةً بِأَخْبَارِ الْآحَادِ حَسَبَ مَا قُلْته فِي نَفْيِ كَوْنِهَا آيَةً مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم توقيف الأمة على مقاطع الآية وَمَقَادِيرِهَا وَلَمْ يُتَعَبَّدْ بِمَعْرِفَتِهَا فَجَائِزٌ إثْبَاتُهَا آيَةً بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَمَّا مَوْضِعُهَا مِنْ السُّوَرِ فَهُوَ كَإِثْبَاتِهَا مِنْ الْقُرْآنِ سَبِيلُهُ النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَا بِالنَّظَرِ وَالْمَقَايِيسِ كَسَائِرِ السُّوَرِ وَكَمَوْضِعِهَا مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ أَلَا ترى أنه قد كأنه يكون مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ عَلَى مَوْضِعِ الْآيِ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ وَلَمْ يُوجَدْ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْقِيفٌ في سائر الآي على مباديها وَمَقَاطِعِهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَفْرُوضٍ عَلَيْنَا مَقَادِيرُ الْآيِ فَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا آيَةٌ فَلَيْسَتْ تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ آيَةً فِي كُلِّ مَوْضِعٍ هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِيهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ أَوْ أَنْ تَكُونَ آيَةً مُنْفَرِدَةً كُرِّرَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَلَى حَسَبِ مَا يُكْتَبُ فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ آيَةً فِي كُلِّ مَوْضِعٍ هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِيهِ لِنَقْلِ الْأُمَّةِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْمُصْحَفِ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَخُصُّوا شَيْئًا مِنْهُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ وُجُودُهَا مُكَرَّرَةً فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُخْرِجَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْقُرْآنِ لِوُجُودِنَا كَثِيرًا مِنْهُ مَذْكُورًا عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ كُلُّ آيَةٍ مِنْهَا وَكُلُّ لَفْظَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَذْكُورِ فِيهِ نَحْوَ قَوْلِهِ [الْحَيُّ الْقَيُّومُ] في سورة البقرة مثله فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَنَحْوَ قَوْلِهِ [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ] كُلُّ آيَةٍ مِنْهَا مُفْرَدَةٌ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ الْقُرْآنِ لَا عَلَى مَعْنَى تَكْرَارِ آيَةٍ وَاحِدَةٍ وكذلك بسم الله الرحمن الرحيم وَقَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّهَا آيَةٌ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ آيَةً فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فيه.
فَصْلٌ وَأَمَّا قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيَّ وَالْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ وأبا يوسف ومحمد وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ كَانُوا يَقُولُونَ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَكْرَارِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَعِنْدَ افْتِتَاحِ السُّورَةِ
فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يقرأها فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ ابْتِدَاءِ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَلَا يُعِيدُهَا مَعَ السُّورَةِ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ(1/13)
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَرَأَهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ حَتَّى يُسَلِّمَ وَإِنْ قَرَأَهَا مَعَ كُلِّ سُورَةٍ فَحَسَنٌ قَالَ الْحَسَنُ وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَهَا فِيمَا يَقْضِي لِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ قَرَأَهَا فِي أَوَّلِ صَلَاتِهِ وَقِرَاءَةُ الْإِمَامَ لَهُ قِرَاءَةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم مِنْ الْقُرْآنِ فِي ابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مُفْرَدَةً عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ فَقَطْ حَسَبِ إثْبَاتِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْأُمُورِ وَالْكُتُبِ وَلَا مَنْقُولَةً عَنْ مَوَاضِعِهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ قِرَاءَةِ بسم الله الرحمن الرحيم قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَتَجْدِيدِهَا قَبْلَ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجْزِيهِ قِرَاءَتُهَا قَبْلَ الْحَمْدِ وَقَالَ أَبُو يُوسُف يَقْرَأهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيُعِيدُهَا فِي الْأُخْرَى أَيْضًا قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَبَعْدَهَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً قَالَ مُحَمَّدٌ فَإِنْ قَرَأَ سُوَرًا كَثِيرَةً وَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ يُخْفِيهَا قَرَأَهَا عِنْدَ افْتِتَاحِ كُلِّ سُورَةٍ وَإِنْ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا لَمْ يَقْرَأْهَا لِأَنَّهُ فِي الْجَهْرِ يَفْصِلُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ بِسَكْتَةٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَدُلّ عَلَى أن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم إنَّمَا هِيَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ أَوْ لِابْتِدَاءِ القراءة وأنها ليست من السورة وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَاهَا آيَةً وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هِيَ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ فَيَقْرَأُهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ كُلِّ سُورَةٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ إذَا قَرَأْتَهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ رَكْعَةٍ أَجْزَأَك فِيمَا بَقِيَ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا يقرأها فِي الْمَكْتُوبَةِ سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَفِي النَّافِلَةِ إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَات
حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يُسِرُّونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم
وَقَالَ فِي بَعْضِهَا يُخْفُونَ وَفِي بَعْضِهَا كَانُوا لَا يَجْهَرُونَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَرْضِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ فِي الْفَرَائِضِ لَا فِي التَّطَوُّعِ إذْ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ التَّطَوُّعِ فِعْلُهَا فِي جَمَاعَةٍ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ وَأَنْسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
وَهَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَرْكِهَا رَأْسًا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ
رَوَى أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ(1/14)
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَهَضَ فِي الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين وَلَمْ يَسْكُتْ
قِيلَ لَهُ لَيْسَ لِمَالِكٍ فِيهِ دَلِيلٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهَا فِي الثَّانِيَةِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِهَا رَأْسًا فَلَا
وَقَدْ رُوِيَ قِرَاءَتُهَا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ عَنْ على
وعمر وبن عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ قِرَاءَتُهَا فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْر مُعَارِضٍ لَهُمْ وَعَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ وَلَا فِي النَّفْيِ كَمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي سَائِرِ سُنَنِ الصَّلَاةِ وَأَمَّا وَجْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ دُونَ سَائِرِ الرَّكَعَاتِ وَسُوَرِهَا فَهُوَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَإِنْ كَانَتْ آيَةً فِي مَوْضِعِهَا عَلَى وَجْهِ الْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ أَمَرَنَا بِالِابْتِدَاءِ بِهَا تَبَرُّكًا ثَمَّ ثَبَتَ أَنَّهَا مَقْرُوءَةٌ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ وَكَانَتْ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ حُرْمَةً وَاحِدَةً وَجَمِيعُ أَفْعَالِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى التَّحْرِيمَةِ صَارَ جَمِيعُ الصَّلَاةِ كَالْفِعْلِ الْوَاحِدِ الَّذِي يُكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَائِهِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ وَإِنْ طَالَ كَالِابْتِدَاءِ بِهَا فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ وَكَمَا لَمْ تُعَدْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ حُكْمُهَا مَعَ ابْتِدَاءِ السُّورَةِ وَالرَّكَعَاتِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْفَصْلِ
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أبو دواد قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضُوعَهَا لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّوَرِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَكْرَارِهَا عِنْدَ كُلَّ سُورَةٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إذَا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا بِقِرَاءَتِهَا عَلَى حَسَبِ مَوْضُوعِهَا قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْفَصْلَ قَدْ عُرِفَ بِنُزُولِهَا وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ فِي الِابْتِدَاءَ بِهَا تَبَرُّكًا وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاء الصَّلَاةِ وَلَا صَلَاةَ هُنَاكَ مُبْتَدَأَةٌ فَيُقْرَأُ مِنْ أَجْلِهَا فَلِذَلِكَ جَازَ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى أَوَّلِهَا وَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ لَهَا قِرَاءَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا يَنُوبُ عَنْهَا الْقِرَاءَةُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا فَمِنْ حَيْثُ اُحْتِيجَ إلَى اسْتِئْنَافِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا صَارَتْ كَالرَّكْعَةِ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْمَسْنُونُ فِيهَا قِرَاءَتُهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الثَّانِيَةِ إذْ كَانَ فِيهَا ابْتِدَاءُ قِرَاءَةٍ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا عِنْدَ كُلِّ سُورَةٍ لِأَنَّهَا فَرْضٌ وَاحِدٌ وَكَانَ حُكْمُ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ حُكْمَ(1/15)
مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا دَوَامٌ عَلَى فِعْلٍ قَدْ ابْتَدَأَهُ وَحُكْمُ الدَّوَامِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ كَالرُّكُوعِ إذَا أَطَالَهُ وَكَذَلِكَ السُّجُودُ وَسَائِرُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الدَّوَامُ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِد مِنْهَا حُكْمُهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ حَتَّى إذَا كَانَ الِابْتِدَاءُ فَرْضًا كَانَ مَا بَعْدَهُ فِي حُكْمِهِ وَأَمَّا مَنْ رَأَى إعَادَتَهَا عِنْدَ كُلِّ سُورَةٍ فَإِنَّهُمْ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا مَنْ لَمْ يَجْعَلهَا مِنْ السُّورَةِ وَالْآخَرُ مَنْ جُعَلَهَا مِنْ أَوَائِلِهَا فَأَمَّا مَنْ جَعَلَهَا مِنْ أَوَائِلِهَا فَإِنَّهُ رَأَى إعَادَتَهَا كَمَا يَقْرَأَ سَائِرَ آيِ السُّورَةِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَهَا مِنْ السُّورَةِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ كُلَّ سُورَةٍ كَالصَّلَاةِ الْمُبْتَدَأَةِ فَيَبْتَدِئُ فِيهَا بِقِرَاءَتِهَا كَمَا فَعَلَهَا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا كَذَلِكَ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ قِرَاءَةَ السُّورَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بَدَأَ بِهَا فلذلك إذَا قَرَأَ قَبْلَهَا سُورَةً غَيْرَهَا
وَقَدْ رَوَى أنس ابن مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ آنِفًا ثُمَّ قَرَأَ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ إنا أعطيناك الكوثر)
إلَى آخِرِهَا حَتَّى خَتَمَهَا
وَرَوَى أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ]
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ كَانَ يَبْتَدِئُ قِرَاءَةَ السُّورَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بِهَا وَكَانَ سَبِيلُهَا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَفْتَتِحُ أم القرآن ببسم الله الرحمن الرحيم ويفتتح السورة ببسم الله الرحمن الرحيم وروى جرير عن المغيرة قال أمنا إبْرَاهِيمُ فَقَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ] حَتَّى إذَا خَتَمَهَا وَصَلَ بِخَاتِمَتِهَا [لِإِيلافِ قُرَيْشٍ] ولم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم.
فصل وأما الْجَهْرُ بِهَا فَإِنَّ أَصْحَابَنَا وَالثَّوْرِيَّ قَالُوا يُخْفِيهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ أَخْفَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجْهَرُ بِهَا وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِمَامِ إذَا صَلَّى صَلَاةً يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِيهَا اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فَرَوَى عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَلَّيْت خَلْفَ ابن عمر فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ كَانَ عُمَرُ يُخْفِيهَا ثُمَّ يَجْهَرُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَرَوَى عَنْهُ أَنَسٌ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ إبْرَاهِيمُ كَانَ عَبْدُ الله ابن مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ يُسِرُّونَ قِرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم لَا يَجْهَرُونَ بِهَا وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ أَبَا بكر وعمر كانا يسران ببسم الله الرحمن الرحيم وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ وَرَوَى الْمُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ جَهْرُ الْإِمَامِ ببسم الله الرحمن الرحيم فِي الصَّلَاةِ بِدْعَةٌ وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ عَاصِمٍ الأحول قال ذكر لعكرمة الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في(1/16)
الصَّلَاةِ فَقَالَ أَنَا إذَا أَعْرَابِيٌّ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ بَلَغَنِي عَنْ ابن مسعود قال الجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم أعرابية وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ كَثِيرٍ قَالَ سئل الحسن عن الجهر ببسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ إنَّمَا يفعل ذلك الأعرابى وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابن عباس في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قَالَ ذَلِكَ فِعْلُ الْأَعْرَابِ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ عَدَّهَا آيَةً
وَأَنَّهُ قَالَ هِيَ تَمَامُ السَّبْعِ الْمَثَانِي
وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ الْجَهْرُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قال كان عمر وعلى لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم وَلَا بِالتَّعَوُّذِ وَلَا بِآمِينَ
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ فَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا
وَرَوَى أَنَسٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يُسِرُّونَ وَفِي بَعْضِهَا كَانُوا يُخْفُونَ
وَجَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ حَدَثًا فِي الْإِسْلَامِ
وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَيَخْتِمُهَا بِالتَّسْلِيمِ
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مَا جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةٍ مكتوبة ببسم الله الرحمن الرحيم
وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إذَا كَانَ عِنْدَك أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعِهَا فَالْوَاجِبُ الْجَهْرُ بِهَا كَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقُرْآنِ إذْ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ الْجَهْرُ بِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ دُونَ بَعْضٍ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ قِيلَ لَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ بِهَا تَبَرُّكًا جَازَ أَنْ لَا يَجْهَرَ بِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى [إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ] الْآيَةَ هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَنْ اسْتَفْتَحَ بِهِ الصَّلَاةَ لَا يَجْهَرُ بِهِ مَعَ الْجَهْرِ بِسَائِرِ الْقِرَاءَةِ كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إخْفَائِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ إذْ لَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَجَهَرَ بِهَا كَجَهْرِهِ بِسَائِرِهَا فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا رَوَى نُعَيْمٍ الْمُجَمِّرِ أَنَّهُ صَلَّى وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ لَمَّا سَلَّمَ قَالَ إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً برسول(1/17)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا
رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهَا فَيَقْرَأُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين)
وَبِمَا
رَوَى جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)
قيل له وأما حَدِيثُ نُعَيْمٍ الْمُجَمِّرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْجَهْرِ بِهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا ذكر بها أَنَّهُ قَرَأَهَا وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ جَهَرَ بِهَا وَجَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ جَهَرَ بِهَا وَإِنْ قَرَأَهَا وَكَانَ عِلْمُ الرَّاوِي بِقِرَاءَتِهَا إمَّا مِنْ جِهَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِخْبَارِهِ إيَّاهُ بِذَلِكَ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سَمِعَهَا لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهَا كَمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا
وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَهَضَ فِي الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَمْ يَسْكُتْ)
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَنَّهَا مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا لَمْ يُجْهَرْ بِهَا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَعُدُّهَا آيَةً مِنْهَا لَا يَجْهَرُ بِهَا وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَرَوَى اللَّيْثُ عن عبد الله بن عبيد بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ مُعَلَّى أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعَتَتْ قِرَاءَتَهُ مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا فَفِي هَذَا الْخَبَر أَنَّهَا نَعَتَتْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَهْرٍ وَلَا إخْفَاءٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَرَأَهَا وَنَحْنُ كَذَلِكَ نَقُولُ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ لَا يجهر بها وجائز أن يكون النبي عليه السلام أَخْبَرَهَا بِكَيْفِيَّةِ قِرَاءَتِهِ فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سَمِعَتْهُ يَقْرَأُ غَيْرَ جَاهِرٍ بِهَا فَسَمِعَتْهُ لِقُرْبِهَا مِنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهَا وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ صَلَاةَ فَرْضٍ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا يُصَلِّي الْفَرْضَ مُنْفَرِدًا بَلْ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي جَمَاعَةٍ وَجَائِزٌ عِنْدَنَا لِلْمُنْفَرِدِ وَالْمُتَنَفِّلِ أَنْ يَقْرَأَ كَيْفَ شَاءَ مِنْ جَهْرٍ أَوْ إخْفَاءٍ وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ فَإِنَّ جَابِرًا مِمَّنْ لَا تَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ لِأُمُورٍ حُكِيَتْ عَنْهُ تُسْقِطُ رِوَايَتَهُ مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالرَّجْعَةِ عَلَى مَا حُكِيَ وَكَانَ يَكْذِبُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَرْوِيهِ وَقَدْ كَذَّبَهُ قَوْمٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْهَرُ بِهَا
وَلَوْ كَانَ الْجَهْرُ ثَابِتًا عِنْدَهُ لَمَا خَالَفَهُ إلَى غَيْرِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ تَسَاوَتْ الْأَخْبَارُ فِي الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْإِخْفَاءُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ظُهُورُ عَمَلِ السَّلَفِ بِالْإِخْفَاءِ دُونَ(1/18)
الْجَهْرِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الْمُغَفَّلِ وَأُنْسُ بْنُ مَالِكٍ وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ الْجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ إذْ كَانَ مَتَى رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَظَهَرَ عَمَلُ السَّلَفِ بِأَحَدِهِمَا كَانَ الَّذِي ظَهَرَ عَمَلُ السَّلَفِ بِهِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أن الجهر بها لو كان ثابتا ورد النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا كَوُرُودِهِ فِي سَائِرِ الْقِرَاءَةِ فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ النَّقْلُ بِهِ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ إذا الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ مَسْنُونِ الْجَهْرِ بِهَا كَهِيَ إلَى مَعْرِفَةِ مَسْنُونِ الْجَهْرِ فِي سَائِرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّ اُحْتُجَّ بِمَا حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ محمد ابن يعقوب الأصم قال حدثنا ربيع بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن عثمان بن حنتم عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَصَلَّى بِهِمْ ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وَلَمْ يُكَبِّرْ إذَا خَفَضَ وَإِذَا رَفَعَ فَنَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ سَلَّمَ وَالْأَنْصَارُ أَيْ مُعَاوِيَةُ سَرَقْتَ الصلاة أين بسم الله الرحمن الرحيم وَأَيْنَ التَّكْبِيرُ إذَا خَفَضْت وَإِذَا رَفَعْت فَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةً أُخْرَى فَقَالَ فِيهَا ذَلِكَ الَّذِي عَابُوا عَلَيْهِ قَالَ فَقَدْ عَرَفَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارِ الْجَهْرَ بِهَا قِيلَ لَهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْت لَعَرَفَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الْمُغَفَّلِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ الْإِخْفَاءَ دُونَ الْجَهْرِ وَلَكَانَ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِعِلْمِهِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لِيَلِيَنِّي منكم أولوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى)
وَكَانَ هَؤُلَاءِ أَقْرَبَ إلَيْهِ فِي حال الصلاة من غيرهم من القول الْمَجْهُولِينَ الَّذِينَ ذَكَرْت وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِفَاضَةٍ لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرْت مِنْ قَوْلِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إنَّمَا رَوَيْته مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْجَهْرِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَنَحْنُ أَيْضًا نُنْكِرُ تَرْكَ قِرَاءَتِهَا وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ أَيُّهُمَا أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ وَالْأَحْكَامُ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا قَوْلُهُ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الْأَمْرُ بِاسْتِفْتَاحِ الْأُمُورِ لِلتَّبَرُّكِ بِذَلِكَ وَالتَّعْظِيمُ لِلَّهِ عز وجل به وذكرها على الذبيحة وشعار وعلم من علام الدِّينِ وَطَرْدِ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (إذَا سَمَّى اللَّهَ الْعَبْدُ عَلَى طَعَامِهِ لَمْ يَنَلْ منه الشيطان وَإِذَا لَمْ يُسَمِّهِ نَالَ مِنْهُ مَعَهُ)
وَفِيهِ إظْهَارُ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَفْتَتِحُونَ أُمُورَهُمْ بِذِكْرِ الْأَصْنَامِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَهُوَ مَفْزَعٌ لِلْخَائِفِ وَدَلَالَةٌ مِنْ قَائِلِهِ على انقطاعه إلى الله تعالى ولجأه إلَيْهِ وَأُنْسٌ لِلسَّامِعِ(1/19)
وَإِقْرَارٌ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَاعْتِرَافٌ بِالنِّعْمَةِ وَاسْتِعَانَةٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَعِيَاذَةٌ بِهِ وَفِيهِ اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَخْصُوصَةِ بِهِ لَا يُسَمَّى بِهِمَا غَيْرُهُ وَهُمَا اللَّهُ وَالرَّحْمَنُ.
بَابٌ قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ
قَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ الْأُولَيَيْنِ فَإِنْ تَرَكَ قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وقرأ غيرها فقد أساء وتجزيه صَلَاتُهُ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إذَا لَمْ يَقْرَأْ أُمَّ الْقُرْآنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَعَادَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَقَلُّ مَا يُجْزِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَرْفًا وَخَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ أَعَادَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عن عباد ابن رِبْعِيٍّ قَالَ قَالَ عُمَرُ لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ فَصَاعِدًا وَرَوَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ الْجَرِيرِيِّ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ فَصَاعِدًا وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَالَ اقْرَأْ مِنْهُ ما قل أو أكثر وَلَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَلِيلٌ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ مَنْ نَسِيَ قِرَاءَةَ فاتحة الكتاب وقرأ غيرها لم يضره وَتُجْزِيهِ وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ يَحْيَى أَنَّ جَابِرَ بْن زَيْدٍ قَامَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ فَقَرَأَ [مُدْهامَّتانِ] ثُمَّ رَكَعَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي أَنَّهَا لَا تُجْزِي إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى جَوَازِ التَّمَامِ لَا عَلَى نَفْيِ الْأَصْلِ إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِهَا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَحْدَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا مَعَ تَرْكِ الْفَاتِحَةِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا قَوْله تَعَالَى [أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ] ومعناه قراءة الفجر في صلاة الفجر اتفاق الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ فِي الْقِرَاءَةِ وَقْتَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَّا فِي الصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ عَلَى الْإِيجَابِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ النَّدْبِ فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ جَوَازَهَا بِمَا قَرَأَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ إذْ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ لِشَيْءٍ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] وَالْمُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ] إلى قوله [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَنَّ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الصلاة في الليل وقوله تعالى [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] عُمُومٌ عِنْدَنَا فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا مِنْ النَّوَافِلِ وَالْفَرَائِضِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الصَّلَاةِ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ
حديث(1/20)
أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ فِي تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَاةَ حِينَ لَمْ يُحْسِنْهَا فَقَالَ لَهُ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ
عِنْدَنَا إنَّمَا صَدَرَ عَنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّا مَتَى وَجَدْنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا يُوَاطِئُ حُكْمًا مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّهُ إنَّمَا حَكَم بِذَلِكَ عَنْ الْقُرْآنِ كَقَطْعِهِ السَّارِقَ وَجَلْدِهِ الزَّانِيَ وَنَحْوِهَا ثُمَّ لَمْ يُخَصِّصْ نَفْلًا مِنْ فَرْضٍ فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا بِغَيْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فِي جَوَازِهَا بِغَيْرِهَا وَعَلَى أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ فِي شَأْنِ صَلَاةِ اللَّيْلِ لَوْ لَمْ يُعَاضِدْهُ الْخَبَرُ لَمْ يَمْنَعْ لُزُومَ حُكْمِهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْفَرَائِض وَالنَّوَافِلِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَسَائِرُ الصَّلَوَاتِ مِثْلُهَا بِدَلَالَةِ أَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ وَأَنَّ مَا جَازَ فِي النَّفْلِ جَازَ فِي الْفَرْضِ مِثْلُهُ كَمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هُمَا مُخْتَلِفَانِ عِنْدَكَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَك فِي الْفَرْضِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي النَّفْلِ إذَا صَلَّاهَا قِيلَ لَهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَلَ آكد في حكم القراءة من الفرض إذا جَازَ النَّفَلُ مَعَ تَرْكِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَالْفَرْضُ أَحْرَى أَنْ يَجُوزَ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا وَمَنْ أَوْجَبَ فَرْضَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي أَحَدِهِمَا أَوْجَبَهَا فِي الْآخَرِ وَمَنْ أَسْقَطَ فَرْضَهَا فِي أَحَدِهِمَا أَسْقَطَهُ فِي الْآخَرِ فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَنَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ جَوَازُ النَّفْلِ بِغَيْرِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْفَرْضِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِهَا بِالْآيَةِ قِيلَ لَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ اقْرَأْ مَا شِئْت أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِرَجُلِ بِعْ عَبْدِي هَذَا بِمَا تَيَسَّرَ أَنَّهُ مُخَيِّرٌ لَهُ فِي بَيْعِهِ لَهُ بِمَا رَأَى وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ لَمْ يَجُزْ لَنَا إسْقَاطُهُ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ لِأَنَّ فِيهِ نَسْخَ مَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ مِنْ التَّخْيِيرِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هُوَ بمنزلة قوله [فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ] وَوُجُوبُ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مَعَ وُقُوعِ الِاسْمِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ مَا يُهْدَى وَيُتَصَدَّقُ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَسْخُ الْآيَةِ قِيلَ لَهُ إنَّ خِيَارَهُ بَاقٍ فِي ذَبْحِهِ أَيُّهَا شَاءَ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ رَفْعُ حُكْمِهَا مِنْ التَّخْيِيرِ وَلَا نَسْخُهُ وَإِنَّمَا فِيهِ التَّخْصِيصُ وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا لَوْ وَرَدَ أَثَرٌ فِي قِرَاءَةِ آيَةٍ دُونَ مَا هُوَ أَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ نَسْخُ الْآيَةِ لِأَنَّ خِيَارَهُ بَاقٍ فِي أن يقرأ أيما شاء من آي(1/21)
القرآن قال قائل قوله [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] يُسْتَعْمَلُ فِيمَا عَدَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ نَسْخٌ لَهَا قِيلَ لَهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِبَادَةً إلَّا وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا الَّتِي لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا الثَّانِي أَنَّ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ فِي جَمِيعِ مَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَجُوز تَخْصِيصُهُ فِي بَعْضِ مَا يُقْرَأْ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا الثَّالِثُ أَنَّ قوله [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ] أَمْرٌ وَحَقِيقَتُهُ وَمُقْتَضَاهُ الْوَاجِبُ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى النَّدْبِ مِنْ الْقِرَاءَةِ دُونَ الْوَاجِبِ مِنْهَا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسماعيل حدثنا حماد عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طلحة عن على بن يحيى ابن خَلَّادٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَقَالَ لَهُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ يُصَلِّي ثُمَّ جاء إلى النبي عليه السلام فسلم فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّهُ لَا تَتِمُّ صلاة واحد مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ ثُمَّ يُكَبِّرَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ وَيَقْرَأَ بِمَا شَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَقُولَ الله أكبر ثم يركع حتى يطمئن مَفَاصِلُهُ
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ وَذَكَرَ نَحْوَهُ ثُمَّ قَالَ إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ثُمَّ اقْرَأْ مَا شِئْت وَفِي الثَّانِي مَا تَيَسَّرَ فَخَيَّرَهُ فِي الْقِرَاءَةِ بِمَا شَاءَ وَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَرْضًا لَعَلَّمَهُ إيَّاهَا مَعَ عِلْمِهِ بجهل الرَّجُلِ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ فِي تَعْلِيمِ الْجَاهِلِ عَلَى بَعْضِ فُرُوضِ الصَّلَاةِ دُون بَعْضٍ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا لَيْسَتْ بفرض
وحدثنا عبد الباقي بن قانع حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَزَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا عامر ابن سَيَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو شَيْبَةَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ يُقْرَأُ فِيهَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ الْقُرْآنِ)
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بقية عن خلد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ بهذه القصة(1/22)
قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قُمْت فَتَوَجَّهْت إلَى الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ
وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فَذَكَرَ فِيهِ قِرَاءَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ وَغَيْرَهَا وَهَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأَخْبَارِ الأخر لأنه محمول على أنه يقرأ بها إن تَيَسَّرَ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى تَعْيِينِ الْفَرْضِ فِيهَا لِمَا فِيهِ مِنْ نَسْخِ التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِي غَيْرِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ بِالْآخَرِ إذْ كَانَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَمَّا ذَكَرَ فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ التَّخْيِيرَ فِيمَا يُقْرَأُ وَذَكَرَ فِي الْآخَرِ الْأَمْرَ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ وَأَثْبُت التَّخْيِيرَ فِيمَا عَدَاهَا بِقَوْلِهِ وَبِمَا شاء الله أن تقرأ بَعْدَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّخْيِيرَ الْمَذْكُورَ فِي الْأَخْبَارِ الْأُخَرِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا عَدَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَأَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ إنَّمَا هُوَ إغْفَالٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَلِأَنَّ فِي خَبَرِنَا زِيَادَةً وَهُوَ الْأَمْرُ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ بِلَا تَخْيِيرٍ قِيلَ لَهُ غَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُ الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ التَّخْيِيرُ مُطْلَقًا عَلَى الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ فِيهِ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ عَلَى مَا ادَّعَيْت لِإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ نَقُولَ التَّخْيِيرُ الْمَذْكُورُ فِي الْخَبَرِ الْمُطْلَقِ حُكْمُهُ ثَابِتٌ فِي الْخَبَرِ الْمُقَيَّدِ بِذِكْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَيَكُونُ التَّخْيِيرُ عَامًّا فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهَا كَأَنَّهُ قَالَ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ إنْ شِئْت وَبِمَا سِوَاهَا فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ زِيَادَةِ التَّخْيِيرِ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دُونَ تَخْصِيصِهِ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ دُونَ بَعْضٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَيْمُونٍ الْبَصْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اُخْرُجْ فَنَادِ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقُرْآنٍ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ)
وَقَوْلُهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِالْقُرْآنِ
يَقْتَضِي جَوَازَهَا بِمَا قَرَأَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ
وَقَوْلُهُ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ
يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِهَا بِغَيْرِهَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ مُتَعَيِّنًا بِهَا لَمَا
قَالَ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ
وَلَقَالَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيُّمَا صَلَاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ) وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مولى هشام ابن زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاخْتِلَافُهُمَا فِي السَّنَدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُوهِنُهُ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ وَمِنْ أَبِي السَّائِبِ جَمِيعًا فَلَمَّا قَالَ فَهِيَ(1/23)
خِدَاجٌ وَالْخِدَاجُ النَّاقِصَةُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهَا مَعَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ جَائِزَةً لَمَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا اسْمَ النُّقْصَانِ لِأَنَّ إثْبَاتَهَا نَاقِصَةً يَنْفِي بُطْلَانَهَا إذْ لَا يَجُوزُ الْوَصْفُ بِالنُّقْصَانِ لِمَا لَمْ يَثْبُتُ مِنْهُ شَيْءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلنَّاقَةِ إذَا حَالَتْ فَلَمْ تَحْمِلْ إنَّهَا قَدْ أَخَدَجَتْ وَإِنَّمَا يُقَالَ أَخَدَجَتْ وَخَدَجَتْ إذَا أَلْقَتْ وَلَدَهَا نَاقِصَ الْخِلْقَةِ أَوْ وَضَعَتْهُ لِغَيْرِ تَمَامٍ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ فَأَمَّا مَا لَمْ تَحْمِل فَلَا تُوصَفُ بِالْخِدَاجِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ إذْ النُّقْصَانُ غَيْرُ نَافٍ لِلْأَصْلِ بَلْ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْأَصْلِ حَتَّى يَصِحَّ وَصْفُهَا بِالنُّقْصَانِ
وَقَدْ رَوَى أَيْضًا عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ (كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ)
فَأَثْبَتَهَا نَاقِصَةً وَإِثْبَاتُ النُّقْصَانِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْأَصْلِ عَلَى مَا وَصَفْنَا
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ يُكْتَبُ لَهُ نِصْفُهَا خُمُسُهَا عُشْرُهَا)
فَلَمْ يَبْطُلْ جُزْءٌ بِنُقْصَانِهَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ
قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ عِجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ صَلَّى صَلَاةً وَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ فَهِيَ خِدَاجٌ فَهِيَ خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ)
وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعَارِضُ حَدِيثَ مَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ فِي ذِكْرِهِمَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ دُونِ غَيْرِهَا وَإِذَا تَعَارَضَا سَقَطَا فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا نَاقِصَةً إذَا لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قِيلَ لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ مَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ بِمُحَمَّدِ بْنِ عِجْلَانَ بَلْ السَّهْوُ وَالْإِغْفَالُ أَجْوَزُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى رِوَايَتِهِمَا بِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعَارُضٌ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَهُمَا جَمِيعًا قَالَ مَرَّةً وَذَكَرَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَذَكَرَ مَرَّةً أُخْرَى الْقِرَاءَةَ مُطْلَقَةً وَأَيْضًا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بذكر الإطلاق ما قيد فِي خَبَرِ هَذَيْنِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إذَا جَوَّزْت أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ قَالَ الْأَمْرَيْنِ فَحَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عِجْلَانَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ رَأْسًا لِإِثْبَاتِهِ إيَّاهَا نَاقِصَةً مَعَ عَدَمِ الْقِرَاءَةِ رَأْسًا قِيلَ لَهُ نَحْنُ نَقْبَلُ هَذَا السُّؤَالَ وَنَقُولُ كَذَلِكَ يَقْتَضِي ظَاهِرُ الْخَبَرَيْنِ إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْقِرَاءَةِ يُفْسِدُهَا فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ الْآخَرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ رُوِيَتْ أَخْبَارٌ أُخَرُ فِي قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ يَحْتَجُّ بِهَا مِنْ يَرَاهَا فَرْضًا فَمِنْهَا
حَدِيثُ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أبى السائب مولى هشام ابن زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْت الصَّلَاةَ بيني(1/24)
وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي)
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالُوا فَلَمَّا عَبَّرَ بِالصَّلَاةِ عَنْ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضَهَا كَمَا أَنَّهُ لَمَّا عَبَّرَ عَنْ الصَّلَاةِ بِالْقُرْآنِ فِي قوله [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ] وَأَرَادَ قِرَاءَةَ صَلَاةِ الْفَجْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِهَا وَكَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالرُّكُوعِ فَقَالَ [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِهَا قِيلَ لَهُ لَمْ تَكُنْ الْعِبَارَةُ عَنْهُمَا لِمَا ذَكَرْت مُوجِبًا لِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ فِيهَا دُون مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيجَابِ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي أَمْرٌ وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الصَّلَاةُ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُقْتَضٍ لِلْإِيجَابِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى النَّوَافِلِ وَالْفُرُوضِ وَقَدْ أَفَادَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَفْيَ إيجَابِهَا لِأَنَّهُ
قَالَ فِي آخِرِهِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ
فَأَثْبَتَهَا نَاقِصَةً مَعَ عَدَمِ قِرَاءَتِهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَسْخَ أَوَّلِ كَلَامِهِ بِآخِرِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَذِكْرُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قِرَاءَتُهَا فَرْضًا فِيهَا وَهَذَا كَمَا
رَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عن أنس ابن أَبِي أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعِ بن العميان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ الْمُطَّلِبِ ابن أبى وداعة قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى وَتَشَهُّدٌ فِي كُلِّ ركعتين وتبأس وتمكن وَتَقَنُّعٌ لِرَبِّك وَتَقُولُ اللَّهُمَّ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهِيَ خِدَاجٌ)
وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا سَمَّاهُ صَلَاةً مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَرْضًا فيها ومما يحتاج به المخالفون أيضا
حديث عبادة ابن الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)
وَبِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُنَادِيَ أَنْ لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
فَمَا زَادَ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)
يحتمل لنفى الْأَصْل وَنَفْيَ الْكَمَالِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ عِنْدَنَا عَلَى نَفْيِ الْأَصْلِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْكَمَالِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إرَادَةُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ نَفْيَ الْأَصْلِ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِذَا أَرَادَ نَفْيَ الْكَمَالِ وَإِثْبَاتَ النُّقْصَانِ فَلَا مَحَالَةَ بَعْضُهُ ثَابِتٌ وَإِرَادَتُهُمَا مَعًا مُنْتَفِيَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْأَصْلِ أَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ إسْقَاطُ التَّخْيِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] وَذَلِكَ نَسْخٌ وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ الْقُرْآنِ(1/25)
بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا
رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَابْنُ فُضَيْلٍ وَأَبُو سُفْيَانَ عَنْ أَبِي نَضِرَةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا تَجْزِي صَلَاةٌ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي كُلِّ ركعة بالحمد لِلَّهِ وَسُورَةٌ)
فِي الْفَرِيضَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ مَعَهَا غَيْرُهَا وَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَا صَلَاةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ نَفْيُ الْكَمَالِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهَا مُجْزِيَةٌ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ مَعَهَا غَيْرَهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْكَمَالِ وَإِيجَابَ النُّقْصَانِ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْيَ الْأَصْلِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ لِتَضَادِّهِمَا وَاسْتِحَالَةِ إرَادَتِهِمَا جَمِيعًا بِلَفْظِ وَاحِدٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ حَدِيثِ عُبَادَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَرَّةً لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَأَوْجَبَ بِذَلِكَ قِرَاءَتَهَا وَجَعْلَهَا فَرْضًا فِيهَا وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى مَا ذَكَرَهُ سَعِيدٌ مِنْ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَشَيْءٍ مَعَهَا وَأَرَادَ بِهِ نَفْيَ الْكَمَالِ إذَا لَمْ يَقْرَأْ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ غَيْرَهَا قِيلَ لَهُ لَيْسَ مَعَكَ تاريخ الحديثين ولا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالَيْنِ وَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ وَلِمُخَالِفِك أَنْ يَقُولَ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ فِي وَقْتَيْنِ وَقَدْ ثَبَتَ اللَّفْظَانِ جَمِيعًا جَعَلْتهمَا حَدِيثًا وَاحِدًا سَاقَ بَعْضُ الرُّوَاةِ لَفْظَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَأَغْفَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ أَلْفَاظِهِ وَهُوَ ذِكْرُ السُّورَةِ فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ حِينَئِذٍ وَيَثْبُتُ الْخَبَرُ بِزِيَادَةٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَكُونُ لِقَوْلِ خَصْمِك مَزِيَّةٌ عَلَى قَوْلِك وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُعْرَفْ تَارِيخُهُ فَسَبِيلُهُ أَنْ يُحْكَمَ بِوُجُودِهِمَا مَعًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِد بِزِيَادَةِ السُّورَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَعَ ذِكْرِ السُّورَةِ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أَرَادَ إثْبَاتَ النَّقْصِ حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَكُونُ ذَلِكَ
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ وَلَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ)
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى [إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ] فنفاها بدأ وَأَثْبَتَهَا ثَانِيًا لِأَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْكَمَالِ لَا نَفْيَ الْأَصْلِ أَيْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ وَافِيَةً فَيَفُونَ بِهَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَهَلَّا اسْتَعْمَلْت الْأَخْبَارَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَاسْتَعْمَلْت التَّخْيِيرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ فِيمَا عَدَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ قِيلَ لَهُ لَوْ انْفَرَدَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ الْآيَةِ لَمَا كَانَ فِيهَا مَا يُوجِبُ فَرْضَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ فِيهَا مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا إثْبَاتَ الْأَصْلِ مَعَ تَرْكِهَا وَاحْتِمَالُ سَائِرِ الْأَخْبَارِ الْأُخَرِ لِنَفْيِ الْأَصْلِ وَنَفْيِ الْكَمَالَ وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ لَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً(1/26)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
لِتَعْيِينِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا لَمَا جَازَ الِاعْتِرَاضُ بِهَا عَلَى الْآيَةِ وَصَرْفُهَا عَنْ الْوَاجِبِ إلَى النفل فيما عدا فاتحة الْكِتَابَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ فَارْجِعْ إلَيْهِ فَإِنَّك تَجِدُهُ كَافِيًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِهَا تَقْتَضِي أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى إيَّانَا بِفِعْلِ الْحَمْدِ وَتَعْلِيمٌ لَنَا كَيْفَ نَحْمَدُهُ وَكَيْفَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ وَكَيْفَ الدُّعَاء لَهُ وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الدُّعَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِالْإِجَابَةِ لِأَنَّ السُّورَةَ مُفْتَتَحَةٌ
بِذِكْرِ الْحَمْدِ ثُمَّ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ] إلى [مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]
ثُمَّ الِاعْتِرَافِ بِالْعِبَادَةِ لَهُ وَإِفْرَادِهَا لَهُ دُونَ غيره بقوله [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] ثُمَّ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي الْقِيَامِ بِعِبَادَتِهِ فِي سَائِرِ مَا بِنَا الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدنيا والدين وهو قوله [وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]
ثُمَّ الدُّعَاءِ بِالتَّثْبِيتِ عَلَى الْهِدَايَةِ الَّتِي هَدَانَا لَهَا مِنْ وُجُوبِ الْحَمْدِ لَهُ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّنَاءِ والعبادة لأن قوله [اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ] هُوَ دُعَاءٌ لِلْهِدَايَةِ وَالتَّثْبِيتِ عَلَيْهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي وَهُوَ التَّوْفِيقُ عَمَّا ضَلَّ عَنْهُ الْكُفَّارُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَحَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَاسْتَحَقُّوا لِذَلِكَ غَضَبَهُ وَعِقَابَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ] مَعَ أَنَّهُ تَعْلِيمٌ لَنَا الْحَمْدَ هُوَ أَمْرٌ لَنَا بِهِ قَوْلُهُ [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِقَوْلِ الْحَمْدِ مُضْمَرٌ فِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ وَهُوَ مَعَ مَا ذَكَرْنَا رُقْيَةٌ وَعَوْذَةٌ وَشِفَاءٌ لِمَا
حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُعَلَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إيَاسٍ عَنْ أَبِي نَضِرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ كُنَّا فِي سَرِيَّةٍ فَمَرَرْنَا بِحَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ فَقَالُوا سَيِّدٌ لَنَا لَدَغَتْهُ الْعَقْرَبُ فَهَلْ فِيكُمْ رَاقٍ قال قلت أنا ولم أفعله حَتَّى جَعَلُوا لَنَا جَعْلًا جَعَلُوا لَنَا شَاةً قَالَ فَقَرَأْت عَلَيْهِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَبَرَأَ فَأَخَذْت الشَّاةَ ثُمَّ قُلْت حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَتَيْنَاهُ فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا رُقْيَةُ حَقٍّ اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ
وَلِهَذِهِ السُّورَةِ أَسْمَاءٌ مِنْهَا أُمُّ الْكِتَابِ لِأَنَّهَا ابتدءوه قَالَ الشَّاعِرُ الْأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أُمَّنَا فَسَمَّى الْأَرْضَ أُمًّا لَنَا لِأَنَّهُ مِنْهَا ابْتَدَأَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَإِحْدَى الْعِبَارَتَيْنِ تُغْنِي عَنْ الْأُخْرَى لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ أُمُّ الْكِتَابِ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ فَقِيلَ تَارَةً أُمُّ الْقُرْآنِ وَتَارَةً أُمُّ الْكِتَابِ وَقَدْ رُوِيَتْ الْعِبَارَةُ بِاللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَلِكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ السَّبْعُ(1/27)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
الْمَثَانِي قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ السَّبْعِ الْمَثَانِي فَقَالَ السَّبْعُ الْمَثَانِي هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالسَّبْعِ أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ وَمَعْنَى الْمَثَانِي أَنَّهَا تُثْنَى فِي كل ركعة وذلك من سنتها وليس من سنة سائر القرآن إعادته في كل ركعة.
أحكام سُورَةِ الْبَقَرَةِ
قَوْله تَعَالَى [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ] يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُمَا مِنْ صِفَات الْمُتَّقِينَ وَمِنْ شَرَائِط التَّقْوَى كَمَا جَعَلَ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَبِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وسائر ما لزمنا اعتقاده من طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ شَرَائِطِ التَّقْوَى فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْآيَةِ وَقَدْ قِيلَ فِي إقَامَةِ الصَّلَاةِ وُجُوهٌ مِنْهَا إتْمَامُهَا مِنْ تَقْوِيمِ الشَّيْءِ وَتَحْقِيقِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ [وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ] وَقِيلَ يُؤَدُّونَهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ قِيَامٍ وَغَيْرِهِ فَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْقِيَامِ لِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ فُرُوضِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَى فُرُوضٍ غَيْرِهِ كقوله [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] وَالْمُرَادُ الصَّلَاةُ الَّتِي فِيهَا الْقِرَاءَةُ وقَوْله تَعَالَى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ] الْمُرَادُ الْقِرَاءَةُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَكَقَوْلِهِ [وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ] وقوله [ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا] وقوله [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] فَذَكَرَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهَا الَّذِي هُوَ مِنْ فُرُوضِهَا وَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ فِيهَا وَعَلَى إيجَابِ مَا هُوَ مِنْ فُرُوضِهَا فصار قوله [يُقِيمُونَ الصَّلاةَ] مُوجِبًا لِلْقِيَامِ فِيهَا وَمُخْبَرًا بِهِ عَنْ فَرْضِ للصلاة ويحتمل [يُقِيمُونَ الصَّلاةَ] يُدِيمُونَ فُرُوضَهَا فِي أَوْقَاتِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى [إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً] أَيْ فَرْضًا فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ لَهَا وَنَحْوُهُ قوله تعالى [قائِماً بِالْقِسْطِ] يَعْنِي يُقِيمُ الْقِسْطَ وَلَا يَفْعَلُ غَيْرَهُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الشَّيْءِ الرَّاتِبِ الدَّائِمِ قَائِمٌ وَفِي فَاعِلِهِ مُقِيمٌ يُقَالُ فُلَان يُقِيمُ أَرْزَاقَ الْجُنْدِ وَقِيلَ هُوَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ قَامَتْ السُّوقُ إذَا حَضَرَ أَهْلُهَا فَيَكُونُ مَعْنَاهُ الِاشْتِغَالَ بِهَا عَنْ غَيْرِهَا وَمِنْهُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى اخْتِلَافِهَا تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً بالآية وقوله [وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ] فِي فَحْوَى الْخِطَابِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ مِنْ النَّفَقَةِ وَهِيَ الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ وقوله [وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] وَقَوْلُهُ [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ] وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ مِنْهَا أنه قرنها(1/28)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
إلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَإِلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَكِتَابِهِ وَجَعَلَ هَذَا الْإِنْفَاقَ مِنْ شَرَائِط التَّقْوَى وَمِنْ أَوْصَافِهَا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ إذَا أُطْلِقَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ أَوْ شَرْطٍ يَقْتَضِي الصَّلَوَاتِ الْمَعْهُودَةَ الْمَفْرُوضَةَ كَقَوْلِهِ [أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ] و [حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى] وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَرَادَ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ كَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْفَاقِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنْهُ وَلَمَّا مَدَحَ هَؤُلَاءِ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الرِّزْقِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُبَاحَ مِنْهُ دُونَ الْمَحْظُورِ وَأَنَّ مَا اغْتَصَبَهُ وَظَلَمَ فِيهِ غَيْرَهُ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رِزْقًا لَهُ لَجَازَ إنْفَاقُهُ وَإِخْرَاجُهُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْغَاصِبَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِمَا اغْتَصَبَهُ وَكَذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَا تُقْبَلُ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ)
وَالرِّزْقُ الْحَظُّ فِي اللُّغَةِ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى [وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ] أَيْ حَظَّكُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ التَّكْذِيبَ بِهِ وَحَظُّ الرَّجُلِ هُوَ نَصِيبُهُ وَمَا هُوَ خَالِصٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ مَا مَنَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ وَهُوَ الْمُبَاحُ الطَّيِّبُ وَلِلرِّزْقِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَقْوَاتِ الْحَيَوَانِ فَجَائِزٌ إضَافَةُ ذَلِكَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ قُوتًا وَغِذَاءً
وقَوْله تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ وَإِخْبَارُهُ عَنْهُمْ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ عَقِيدَةٍ وَإِظْهَارِ الْكُفْرِ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ فِي قَوْلِهِ [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]
وَقَوْلِهِ [يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ] إلَى قَوْلِهِ
[وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ] يُحْتَجُّ بِهِ فِي اسْتِتَابَةِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي اُطُّلِعَ مِنْهُ عَلَى إسْرَارِ الْكُفْرِ مَتَى أَظْهَرَ الْإِيمَانَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَلَمْ يؤمر بِقَتْلِهِمْ وَأَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَبُولِ ظَاهِرِهِمْ دُونِ مَا عَلِمَهُ هُوَ تَعَالَى مِنْ حَالِهِمْ وَفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْدَ فَرْضِ الْقِتَالِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى فَرَضَ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ بَعْد الْهِجْرَةِ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ نَظَائِرُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَسُورَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِمَا فِي ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَقَبُولِ ظَاهِرِهِمْ دُونَ حَمْلِهِمْ عَلَى أَحْكَام سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ وَإِذَا انْتَهَيْنَا إلَى مَوَاضِعِهَا ذَكَرْنَا أَحْكَامَهَا وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الزِّنْدِيقِ وَاحْتِجَاجَ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَا فِي ذَلِكَ وَهُوَ يَظْهَرُ مِنْ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (أمرت أن(1/29)
أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلا بحقها وحسابهم على الله)
وأنكر عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ قَتَلَ فِي بَعْض السَّرَايَا رَجُلًا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حِين حَمَلَ عَلَيْهِ لِيَطْعَنَهُ
فَقَالَ (هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ)
يَعْنِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِ الظَّاهِرِ دُونَ عَقْدِ الضَّمِيرِ وَلَا سَبِيلَ لَنَا إلَى الْعِلْمِ بِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وقَوْله تَعَالَى [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ الْإِقْرَارَ دُونَ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ إقْرَارِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَنَفَى عَنْهُمْ سَمْتَهُ بِقَوْلِهِ وما هم بمؤمنين وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَانِ فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً فِي نعت المنافقين والنفاق اسم شرعي جعله سِمَةً لِمَنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ خُصُّوا بِهَذَا الِاسْم لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ إذْ كَانُوا مُخَالِفِينَ لِسَائِرِ الْمُبَادِينَ بِالشِّرْكِ فِي أَحْكَامِهِمْ وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ نَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ وَهُوَ الْجُحْرُ الَّذِي يَخْرُج مِنْهُ إذَا طُلِبَ لِأَنَّ لَهُ أَجْحُرَةٌ «1» يَدْخُلُ بَعْضُهَا عِنْدَ الطَّلَبِ ثُمَّ يُرَاوِغُ الَّذِي يُرِيدُ صَيْدَهُ فَيَخْرُجُ مِنْ جُحْرٍ آخَرَ قَدْ أَعَدَّهُ وقَوْله تعالى [يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا] هُوَ مَجَازٌ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّ الْخَدِيعَةَ فِي الْأَصْلِ هِيَ الْإِخْفَاءُ وَكَأَنَّ الْمُنَافِقَ أَخْفَى الْإِشْرَاكَ وَأَظْهَرَ الْإِيمَانَ عَلَى وَجْهِ الْخِدَاعِ وَالتَّمْوِيهِ وَالْغُرُورِ لِمَنْ يُخَادِعُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُخَادَعَ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ يَخْلُو هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونُوا عَارِفِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لا يخدع بتساتر بشيء أَوْ غَيْرَ عَارِفِينَ فَذَلِكَ أَبْعَدُ إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقْصِدَهُ لِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ عَمِلُوا عَمَلَ الْمُخَادِعِ وَوَبَالُ الْخِدَاعِ رَاجِعٌ عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ إنَّمَا يُخَادِعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَقِيلِ إنَّ الْمُرَادَ يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحُذِفَ ذِكْرُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ [إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] وَالْمُرَادُ يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَهُوَ مَجَازٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا خَادَعُوا رَسُولَ اللَّهِ تَقِيَّةً لِتَزُولَ عَنْهُمْ أَحْكَامُ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِقَتْلِهِمْ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيُوَالُوهُمْ كَمَا يُوَالِي الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَوَاصَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا يُظْهِرُونَ لهم الإيمان ليفشوا إليهم أسرارهم
__________
(1) هكذا في النسخ التي بأيدينا وصوابه جحرة.(1/30)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
فَيَنْقُلُوا ذَلِكَ إلَى أَعْدَائِهِمْ
وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] مَجَازٌ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا عَلَى جِهَةِ مُقَابَلَةِ الْكَلَامِ بِمِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها] وَالثَّانِيَةُ لَيْسَتْ بِسَيِّئَةٍ بَلْ حَسَنَةٍ وَلَكِنَّهُ لَمَّا قَابَلَ بِهَا السَّيِّئَةَ أَجْرَى عَلَيْهَا اسْمَهَا وقَوْله تَعَالَى [فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ] وَالثَّانِي لَيْسَ بِاعْتِدَاءٍ وقَوْله تَعَالَى [وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ] وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِعِقَابٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مُقَابَلَةِ اللفظ بمثله ومزاوجته له وَتَقُولُ الْعَرَبُ الْجَزَاءُ بِالْجَزَاءِ وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِجَزَاءٍ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَمْتَدِحْ بِالْجَهْلِ وَلَكِنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ازْدِوَاجِ الْكَلَامِ وَمُقَابَلَتِهِ وَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ أطلقه الله تعالى على التَّشْبِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَبَالُ الِاسْتِهْزَاءِ راجعا عليهم ولا حقا لَهُمْ كَانَ كَأَنَّهُ اسْتَهْزَأَ بِهِمْ وَقِيلَ لَمَّا كَانُوا قَدْ أُمْهِلُوا فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يُعَاجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ وَالْقَتْلِ كَسَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَأَخَّرَ عِقَابَهُمْ فَاغْتَرُّوا بالإمهال كانوا كالمستهزئ بِهِمْ وَلَمَّا كَانَتْ أَجْرَامُ الْمُنَافِقِينَ أَعْظَمَ مِنْ أجرام سائر الكفار المبادين بالكفر لأنه جمعوا الاستهزاء والمخادعة بقوله [يُخادِعُونَ اللَّهَ] وقولهم [إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ] وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ [فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ] وَمَعَ مَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ مِنْ عِقَابِهِمْ وَمَا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي الْآخِرَةِ خَالَفَ بَيْنَ أَحْكَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَحْكَامِ سَائِرِ الْمُظْهِرِينَ لِلشِّرْكِ فِي رَفْعِ الْقَتْلِ عَنْهُمْ بِإِظْهَارِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَجْرَاهُمْ مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي التَّوَارُثِ وَغَيْرِهِ ثَبَتَ أَنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ فِيهَا وَعَلَى هَذَا أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى أَحْكَامَهُ فَأَوْجَبَ رَجْمَ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَلَمْ يُزِلْ عَنْهُ الرَّجْمَ بِالتَّوْبَةِ أَلَا تَرَى إلَى
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ في ما عز بَعْد رَجْمِهِ وَفِي الْغَامِدِيَّةِ بَعْد رَجْمِهَا لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا وَلَوْ كَفَرَ رَجُلٌ ثُمَّ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ
وَقَالَ تَعَالَى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ] وحكم الْقَاذِفِ بِالزِّنَا بِجَلْدِ ثَمَانِينَ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الْقَاذِفِ بِالْكُفْرِ الْحَدَّ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا وَأَوْجَبَ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ الْحَدَّ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى شَارِبِ الدَّمِ وَآكِلِ الْمَيْتَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا غَيْرُ مَوْضُوعَةِ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَائِزًا(1/31)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
فِي الْعَقْلِ أَنْ لَا يُوجِبَ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ حَدًّا رَأْسًا وَيَكِلَ أَمْرَهُمْ إلَى عقوبات جَازَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهَا فَيُوجِبَ فِي بَعْضِهَا أغلظ ما يُوجِبُ فِي بَعْضٍ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَإِنَّمَا طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق وما ذكر اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِقْرَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ لَنَا بِقِتَالِهِمْ أَصْلٌ فِيمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْعُقُوبَاتِ الَّتِي أَوْجَبَهَا مِنْ فِعْلِ الْإِمَامِ وَمَنْ قَامَ بِأُمُورِ الشَّرِيعَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى مَا يَفْعَلُهُ هُوَ تَعَالَى مِنْ الْآلَامِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ فَلَمَّا جَازَ أَنْ لَا يُعَاقِبَ الْمُنَافِقَ فِي الدُّنْيَا بِالْآلَامِ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَالْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ بَلْ يَفْعَلُ بِهِ أَضْدَادَ ذَلِكَ وَيَكُونَ عِقَابُهُ الْمُسْتَحِقَّ بِكُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ مُؤَجَّلًا إلَى الْآخِرَةِ جَازَ أَنْ لَا يَتَعَبَّدَنَا بِقَتْلِهِ فِي الدُّنْيَا وَتَعْجِيلِ عُقُوبَةِ كفره ونفاقه وقد غير النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَكَّةَ بَعْدَ مَا بَعَثَهُ الله تعالى ثلاث عشر سَنَةً يَدْعُو الْمُشْرِكِينَ إلَى اللَّهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ غَيْرَ مُتَعَبِّدٍ بِقِتَالِهِمْ بَلْ كَانَ مَأْمُورًا بِدُعَائِهِمْ في ذلك بلين الْقَوْلِ وَأَلْطَفِهِ فَقَالَ تَعَالَى [ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] وقال [وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً] وَقَالَ [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ ثُمَّ فَرَضَ الْقِتَالَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِالْمَصْلَحَةِ مِنْ كِلَا الْحَالَيْنِ بِمَا تَعَبَّدَ بِهِ فَجَازَ مِنْ أَصْلِ مَا وَصَفْنَا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْقَتْلِ وَالْقِتَالِ خَاصًّا فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ وَهُمْ المجاهرون بالكفر دون ما يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ الْمُنَافِقُ أَعْظَمَ جُرْمًا مِنْ غَيْرِهِ
وقَوْله تَعَالَى [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً] يعنى والله أعلم قرارا وَالْإِطْلَاقُ لَا يَتَنَاوَلُهَا وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ مُقَيَّدًا كقوله تعالى [وَالْجِبالَ أَوْتاداً] وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَوْتَادِ لَا يُفِيدُ الْجِبَالَ وَقَوْلُهُ [الشَّمْسَ سِراجاً] وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ إنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَنَامَ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَحْنَثُ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ فِي سِرَاجٍ فَقَعَدَ فِي الشَّمْسِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُعْتَادِ الْمُتَعَارَفِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَلَيْسَ فِي العادة إطلاق هذا الإسم للأرض والشمس هذا كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْجَاحِدُ لَهُ كَافِرًا وَسَمَّى الزَّارِعَ كَافِرًا وَالشَّاكِّ السِّلَاحَ كَافِرًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُمَا هَذَا الِاسْمُ فِي الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ كَثِيرَةٌ وَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَمَا(1/32)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
كَانَ فِي الْعَادَةِ مُطْلَقًا فُهِمَ عَلَى إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدُ فِيهَا عَلَى تَقْيِيدِهِ وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ مَوْضِعَهُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَهُوَ ارْتِفَاعُ السَّمَاءِ وَوُقُوفُهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ ثُمَّ دَوَامُهَا على طول الدهر غير متزايلة ولا متغير كَمَا قَالَ تَعَالَى [وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً] وَكَذَلِكَ ثَبَات الْأَرْضِ وَوُقُوفُهَا عَلَى غَيْرِ سَنَدٍ فِيهِ أَعْظَمُ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَفِيهَا تَنْبِيهٌ وَحَثٌّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى اللَّهِ وَتَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ وقَوْله تَعَالَى [فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ] نَظِيرُ قَوْلِهِ [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً] وَقَوْلِهِ [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ] وَقَوْلِهِ [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ] يُحْتَجُّ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فِي أَنَّ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْإِبَاحَةِ مِمَّا لَا يَحْظُرُهُ الْعَقْلُ فَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ
وقَوْله تَعَالَى [وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ] فِيهِ أَكْبَرُ دَلَالَةٍ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَقَرَعَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْهُ مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَنَفَةِ وَالْحَمِيَّةِ وَأَنَّهُ كَلَامٌ مَوْصُوفٌ بِلُغَتِهِمْ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ تَعَلَّمَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ وَعَنْهُمْ أَخَذَ فَلَمْ يُعَارِضْهُ مِنْهُمْ خَطِيبٌ وَلَا تَكَلَّفَهُ شَاعِرٌ مَعَ بَذْلِهِمْ الْأَمْوَالَ وَالْأَنْفُسَ فِي تُوهِينِ أَمْرِهِ وَإِبْطَالِ حُجَجِهِ وَكَانَتْ مُعَارَضَتُهُ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهَا أَبْلَغَ الْأَشْيَاءِ فِي إبْطَالِ دَعْوَاهُ وَتَفْرِيقِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ فَلَمَّا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الذي لا يعجز شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْعِبَادِ مِثْلُهُ وَإِنَّمَا أَكْبَرُ مَا اعْتَذَرُوا بِهِ أَنَّهُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَأَنَّهُ سِحْرٌ فَقَالَ تَعَالَى [فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ] وقال [فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ] فَتَحَدَّاهُمْ بِالنَّظْمِ دُونَ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَأَظْهَرَ عَجْزَهُمْ عَنْهُ فَكَانَتْ هَذِهِ مُعْجِزَةً بَاقِيَةً لنبينا صلّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَبَانَ اللَّهُ تعالى بها نبوة نبيه وفضله بها لأن سائر معجزات الأنبياء على سائر الأنبياء نقضت بِانْقِضَائِهِمْ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مُعْجِزَةً مِنْ طَرِيقِ الْأَخْبَارِ وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ بَعْدَهُ كُلُّ مَنْ اعتراض عليها بعده قَرَّعْنَاهُ بِالْعَجْزِ عَنْهُ فَتَبَيَّنَ لَهُ حِينَئِذٍ مَوْضِعُ الدَّلَالَةِ عَلَى تَثْبِيتِ النُّبُوَّةِ كَمَا كَانَ حُكْمُ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ مِنْ لُزُومِ الْحُجَّةِ بِهِ وَقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السلام وعند الجاحدين لنبوته أنه من كَانَ مِنْ أَتَمِّ النَّاسِ عَقْلًا(1/33)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
وَأَكْمَلِهِمْ خُلُقًا وَأَفْضَلِهِمْ رَأْيَا فَمَا طَعَنَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي كَمَالِ عَقْلِهِ وَوُفُورِ حِلْمِهِ وَصِحَّةِ فَهْمِهِ وَجَوْدَةِ رَأْيِهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مَنْ كَانَ هَذَا وَصْفُهُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ قَدْ أَرْسَلَهُ إلَى خَلْقِهِ كَافَّةً ثُمَّ جَعَلَ عَلَامَةَ نُبُوَّتِهِ وَدَلَالَةَ صِدْقِهِ كَلَامًا يُظْهِرُهُ وَيَقْرَعُهُمْ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ فَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ كَذِبُهُ وَبُطْلَانُ دَعْوَاهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يتحدهم بذلك ولم يقرعهم بالعجز عنه إلا هو مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَى مِثْلِهِ الثَّالِثُ
قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يُعَارِضُونَهُ وَلَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَذَلِكَ إخْبَارٌ بِالْغَيْبِ وَوُجِدَ مُخْبِرُهُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ وَلَا تَتَعَلَّقُ هَذِهِ بِإِعْجَازِ النُّظُمُ بَلْ هِيَ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا فِي تَصْحِيحِ نُبُوَّتِهِ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِالْغَيْبِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِي أَنَّكُمْ مَعَ صِحَّةِ أَعْضَائِكُمْ وَسَلَامَةِ جَوَارِحُكُمْ لَا يَقَعُ مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ أَنْ يَمَسَّ رَأْسَهُ وَأَنْ يَقُومَ مِنْ مَوْضِعِهِ فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَعَ سَلَامَةِ أَعْضَائِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ بِهِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ إذْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إلَّا كَوْنُهُ مِنْ قِبَلِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الَّذِي صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ تَحَدَّى اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بِالْعَجْزِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً] فَلَمَّا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ قَالَ [فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ] فَلَمَّا عَجَزُوا قَالَ [فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ] فَتَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ فَلَمَّا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ وَأَعْرَضُوا عَنْ طَرِيق الْمُحَاجَّةِ وَصَمَّمُوا عَلَى الْقِتَالِ وَالْمُغَالَبَةِ أَمَرَ اللَّهِ نَبِيَّهُ بِقِتَالِهِمْ وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى [وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ] إنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَصْنَامَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَقِيلَ إنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ مِنْ يُصَدِّقُكُمْ وَيُوَافِقُكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ وَأَفَادَ بِذَلِكَ عَجْزَ الْجَمِيعِ عَنْهُ فِي حَالِ الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ كَقَوْلِهِ [لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً] فَقَدْ انْتَظَمَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ مِنْ ابْتِدَائِهَا إلَى حَيْثُ انْتَهَيْنَا إلَيْهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْأَمْرُ والتبدئة باسم اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْلِيمُنَا حَمْدَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءَ لَهُ وَالرَّغْبَةَ إلَيْهِ فِي الْهِدَايَةِ إلَى الطَّرِيقِ المؤدى إلى معرفته وإلى جَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ دُونَ طَرِيقِ الْمُسْتَحَقِّينَ لِغَضَبِهِ وَالضَّالِّينَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى نِعْمَتِهِ ثُمَّ ابْتَدَأَ في سورة(1/34)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
الْبَقَرَةِ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَصْفِهِمْ ثُمَّ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ وَصِفَتَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ وَنَعْتَهُمْ وَتَقْرِيبَ أَمْرِهِمْ إلَى قُلُوبِنَا بِالْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ بِاَلَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وَبِالْبَرْقِ الَّذِي يُضِيءُ فِي الظُّلُمَاتِ مِنْ غَيْرِ بَقَاءٍ وَلَا ثَبَاتٍ وَجَعَلَ ذَلِكَ مَثَلًا لِإِظْهَارِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَيْهِ هُوَ الْكُفْرُ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَالْمَطَرِ اللَّذَيْنِ يَعْرِضُ فِي خِلَالِهِمَا بَرْقٌ يُضِيءُ لَهُمْ ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَبْقَوْنَ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ثُمَّ ابْتَدَأَ بَعْد انْقِضَاءِ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ بِمَا لَا يُمْكِنْ أحد دَفْعُهُ مِنْ بَسْطِهِ الْأَرْضَ وَجَعْلِهَا قَرَارًا يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَجَعْلِ مَعَايِشِهِمْ وَسَائِرِ مَنَافِعِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ مِنْهَا وَإِقَامَتِهَا عَلَى غَيْرِ سَنَدٍ إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُون لَهَا نِهَايَةٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حُدُوثِهَا وَأَنَّ مُمْسِكَهَا وَمُقِيمَهَا كَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ خَالِقُهَا وَخَالِقكُمْ الْمُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِمَا جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا مِنْ أَقْوَاتِكُمْ وَسَائِرِ مَا أَخْرَجَ مِنْ ثِمَارِهَا لَكُمْ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ إلَّا الْقَادِرُ الَّذِي لَا يعجزه ولا يشبهه شيء فحثهم عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِدَلَائِلِهِ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى نِعَمِهِ ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ عَجْزِهِمْ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَدَعَاهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ الْمُنْعِمِ عَلَيْنَا بِهَذِهِ النِّعَمِ فَقَالَ [فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا تَدْعُونَهُ آلِهَةً لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ اللَّه هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِهِ دُونَهَا وَهُوَ الْخَالِق لَهَا وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ [وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] إنَّكُمْ تَعْلَمُونَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِ الْوَاجِبِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْعَقْلِ مَا يُمْكِنُكُمْ بِهِ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَوَجَبَ تَكْلِيفُكُمْ ذَلِكَ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَقْلِ إبَاحَةُ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَعَ إزَاحَةِ الْعِلَّةِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ فَلَمَّا قَرَّرَ جَمِيعَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِدَلَائِلِهِ الدَّالَّةِ عليه عقد عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ]
ثُمَّ عَقَّبَ بِذِكْرِ مَا وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ [وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] إلَى آخَرِ مَا ذَكَرَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله وقد تضمنت هذه الآيات مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ الْأَمْرَ بِاسْتِعْمَالِ حُجَجِ الْعُقُولِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِدَلَائِلِهَا وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِمَذْهَبِ مَنْ نَفَى الِاسْتِدْلَالَ بِدَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقْتَصَرَ عَلَى الْخَبَرِ بزعمه في معرفة الله والعلم بصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْتَصِرْ فِيمَا دَعَا النَّاسَ إلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ(1/35)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
عَلَى الْخَبَرِ دُونَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ جِهَةِ عُقُولِنَا وقَوْله تَعَالَى [وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ هِيَ الْخَبَرُ السَّارُّ والإظهار وَالْأَغْلَبُ أَنَّ إطْلَاقَهُ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا يُحْدِثُ عِنْدَهُ الِاسْتِبْشَارَ وَالسُّرُورَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَجْرِي عَلَى غَيْرِهِ مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ [فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ] وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ أَيُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرُوهُ جَمَاعَةً وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ أَنَّ الْأَوَّلَ يَعْتِقُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ حَصَلَتْ بِخَبَرِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ أَيُّ عَبْدِ أَخْبَرَنِي بِوِلَادَتِهَا فَأَخْبَرُوهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ أَنَّهُمْ يَعْتِقُونَ جَمِيعًا لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى خَبَرٍ مُطْلَقٍ فَيَتَنَاوَلُ سَائِرَ الْمُخْبِرِينَ وَفِي الْبِشَارَةِ عَقَدَهَا عَلَى خَبَرٍ مَخْصُوصٍ بِصِفَةٍ وَهُوَ مَا يُحْدِثُ عِنْدَهُ السُّرُورَ وَالِاسْتِبْشَارَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضُوعَ هَذَا الْخَبَرِ مَا وَصَفْنَا قَوْلُهُمْ رَأَيْت الْبِشْرَ فِي وَجْهِهِ يَعْنِي الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ قَالَ اللَّهُ فِي صِفَةِ وُجُوهِ أَهْلِ الجنة [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ] فَأَخْبَرَ عَمَّا ظَهَرَ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ آثَارِ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ بِذِكْرِ الِاسْتِبْشَارِ وَمِنْهُ سَمُّوا الرَّجُلَ بَشِيرًا تَفَاؤُلًا مِنْهُمْ إلَى الْإِخْبَارِ بِالْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ وَسَمُّوا مَا يُعْطَى الْبَشِيرَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ بُشْرَى وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ يتناول الخير الْمُفِيدَ سُرُورًا فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَأَنَّهُ مَتَى أُطْلِقَ فِي الشَّرِّ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْخَبَرُ فَحَسْبُ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى [فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ] مَعْنَاهُ أُخْبِرْهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْبَشِيرَ هُوَ الْمُخْبِرُ الْأَوَّلُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْيَمِينِ قَوْلُهُمْ ظَهَرَتْ لَنَا تَبَاشِيرُ هَذَا الْأَمْرِ يَعْنُونَ أَوَّلَهُ وَلَا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الشَّرِّ وَفِيمَا يَغُمُّ وَإِنَّمَا يَقُولُونَهُ فِيمَا يَسُرُّ وَيُفْرِحُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ أَصْلَهُ فِيمَا يَسُرُّ وَيَغُمُّ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَا يَظْهَرُ أَوَّلًا فِي بَشَرَةِ الْوَجْهِ مِنْ سُرُورٍ أَوْ غَمٍّ إلَّا أَنَّهُ كَثُرَ فِيمَا يَسُرُّ فَصَارَ الْإِطْلَاقُ أَخَصَّ بِهِ مِنْهُ بِالشَّرِّ
وقَوْله تَعَالَى [وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَّمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا لِآدَمَ أَعْنِي الْأَجْنَاسَ بِمَعَانِيهَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي ذِكْرِ الأسماء وقوله [ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ] فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ إلَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يُوجِبُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا قَالَ عرضهم دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَسْمَاءُ مِنْ يَعْقِلُ لِأَنَّ هُمْ إنَّمَا يُطْلَقُ فِيمَا يَعْقِلُ دُونَ مَا لَا يَعْقِلُ قِيلَ لَهُ لَمَّا أَرَادَ مَا يعقل وما لا يعقل جاز تغليب مَا يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى(1/36)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
[خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ] لَمَّا دَخَلَ فِي الْجُمْلَةِ مَنْ يَعْقِلُ أَجْرَى الْجَمِيعَ مَجْرًى وَاحِدًا وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُصُولَ اللُّغَاتِ كُلِّهَا تَوْقِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا وَأَنَّهُ عَلَّمَهُ إيَّاهَا بِمَعَانِيهَا إذْ لَا فَضِيلَةَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ دُونَ الْمَعَانِي وَهِيَ دَلَالَةٌ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَفَضِيلَتِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ إعْلَامَ الْمَلَائِكَةِ فَضِيلَةَ آدَمَ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ بِمَعَانِيهَا حَتَّى أَخْبَرَ الْمَلَائِكَةَ بِهَا وَلَمْ تَكُنْ الْمَلَائِكَةُ عَلِمَتْ مِنْهَا مَا عَلِمَهُ آدَم فَاعْتَرَفَتْ لَهُ بِالْفَضْلِ فِي ذَلِكَ وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُولُ إنَّ لُغَةَ آدَمَ وَوَلَدِهِ كَانَتْ وَاحِدَةً إلَى زَمَانِ الطُّوفَانِ فَلَمَّا أَغْرَقَ اللَّه تَعَالَى أَهْلَ الْأَرْضِ وَبَقِيَ مِنْ نَسْلِ نُوحٍ مَنْ بَقِيَ وَتُوُفِّيَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَوَالَدُوا وَكَثُرُوا أَرَادُوا بِنَاءَ صَرْحٍ بِبَابِلَ يَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنْ طوفان أن كَانَ بَلْبَلَ اللَّهُ أَلْسِنَتَهُمْ فَنَسِيَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ اللِّسَانَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَعَلَّمَهَا اللَّهُ الألسنة التي توارثها بعد ذلك ذريتهم عنهم وَتَفَرَّقُوا فِي الْبُلْدَانِ وَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى ذَلِكَ وَيَقُولُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى إنْسَانٌ كَامِلُ الْعَقْلِ جَمِيعَ لُغَتِهِ الَّتِي كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهَا بِالْأَمْسِ وَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَارِفِينَ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ إلَى أَنْ تَفَرَّقُوا فَاقْتَصَرَ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ عَلَى اللِّسَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَتَرَكُوا سَائِرَ الْأَلْسِنَةِ الَّتِي كَانُوا عَرَفُوهَا وَلَمْ تَأْخُذْهَا عَنْهُمْ أَوْلَادُهُمْ وَنَسْلُهُمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْرِفْ مِنْ نَشَأَ بَعْدَهُمْ سَائِرَ اللغات.
بَابِ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى
قَالَ اللَّه تَعَالَى [وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا] رَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الطَّاعَةَ كَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي السُّجُودِ لِآدَمَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ [وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً] قَالَ كَانَتْ تَحِيَّتُهُمْ السُّجُودَ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يكون ذلك السجود عبادة الله تَعَالَى وَتَكْرِمَةً وَتَحِيَّةً لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَلِكَ سُجُودُ إخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَأَهْلِهِ لَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَجُوزُ لِغَيْرِ اللَّهِ تعالى والتحية والتكرمة جائز ان لِمَنْ يَسْتَحِقُّ ضَرْبًا مِنْ التَّعْظِيمِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ السُّجُودَ كَانَ لِلَّهِ وَآدَمَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقِبْلَةِ لَهُمْ وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِآدَمَ فِي ذَلِكَ حَظٌّ مِنْ التَّفْضِيلِ وَالتَّكْرِمَةِ وَظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آدَم مُفَضَّلًا مُكَرَّمًا فَذَلِكَ كَظَاهِرِ الْحَمْدِ إذَا وَقَعَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يُطْلَقُ مِنْ ذَلِكَ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ أَخْلَاقُ فلان محمودة(1/37)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
وَمَذْمُومَةٌ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى بَابِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ قَدْ كَانَ أَرَادَ بِهِ تَكْرِمَةَ آدَمَ عليه السلام وتفضيله قَوْلِ إبْلِيسَ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ [أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ] فَأَخْبَرَ إبْلِيسُ أَنَّ امْتِنَاعَهُ كَانَ مِنْ السُّجُودِ لِأَجْلِ مَا كَانَ مِنْ تَفْضِيلِ اللَّهِ وَتَكْرِمَتِهِ بِأَمْرِهِ إيَّاهُ بِالسُّجُودِ لَهُ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ نُصِبَ قِبْلَةً لِلسَّاجِدِينَ من غير تكرمة ولا فضيلة له لَمَا كَانَ لِآدَمَ فِي ذَلِكَ حَظٌّ وَلَا فَضِيلَةٌ تُحْسَدُ كَالْكَعْبَةِ الْمَنْصُوبَةِ لِلْقِبْلَةِ وَقَدْ كَانَ السُّجُودُ جَائِزًا فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْمَخْلُوقِينَ وَيُشْبِهْ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ بَاقِيًا إلَى زَمَانِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ ضَرْبًا مِنْ التَّعْظِيمِ وَيُرَادُ إكْرَامُهُ وَتَبْجِيلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبِمَنْزِلَةِ تَقْبِيلِ الْيَدِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إبَاحَةِ تَقْبِيلِ الْيَدِ أَخْبَارٌ وَقَدْ رُوِيَ الْكَرَاهَةُ إلَّا أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّكْرِمَةِ وَالتَّحِيَّةِ مَنْسُوخٌ بِمَا
رَوَتْ عَائِشَةُ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ (مَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ وَلَوْ صَلُحَ لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا)
مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا لَفْظُ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَوْله تَعَالَى [وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ] قِيلَ إنَّ فَائِدَةَ قَوْلِهِ [وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ] وَإِنْ كَانَ الْكُفْرُ قَبِيحًا مِنْ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ مَنْهِيًّا عَنْهُ الْجَمِيعُ أَنَّ السَّابِقَ إلَى الْكُفْرِ يَقْتَدِي بِهِ غَيْرُهُ فَيَكُونُ أَعْظَمَ لِمَأْثَمِهِ وَجُرْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ] وَقَوْلِهِ [مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً]
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْقَاتِلِ كِفْلًا مِنْ الْإِثْمِ فِي كُلِّ قَتِيلٍ ظُلْمًا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
قَوْله تَعَالَى [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى صَلَاةٍ مَعْهُودَةٍ وَزَكَاةٍ مَعْلُومَةٍ وَقَدْ عَرَفَهَا أَوْ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا صَلَاةً مُجْمَلَةً وَزَكَاةً مُجْمَلَةً مَوْقُوفَةً عَلَى الْبَيَانِ إلَّا أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا الْآنَ أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِمَا فِيمَا خُوطِبْنَا به من هذه الصلوات المفروضة والزكاة الواجبة إما لأنه كان مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ فِي حَالِ وُرُودِ الْخِطَابِ أَوْ أَنْ يَكُونَ كَانَ ذَلِكَ مُجْمَلًا وَرَدَ بَعْدَهُ بَيَانُ الْمُرَادِ فَحَصَلَ ذَلِكَ مَعْلُومًا وَأَمَّا قوله [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ](1/38)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
فَإِنَّهُ يُفِيدُ إثْبَاتَ فَرْضِ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَقِيلَ إنَّهُ إنَّمَا خَصَّ الرُّكُوعَ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاتِهِمْ فَنَصَّ عَلَى الرُّكُوعِ فِيهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قوله [وَارْكَعُوا] عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا كَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بالقراءة في قوله [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] وَقَوْلِهِ [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً] وَالْمَعْنَى صَلَاةُ الْفَجْرِ فَيَنْتَظِمُ وَجْهَيْنِ مِنْ الْفَائِدَةِ أَحَدُهُمَا إيجَابُ الرُّكُوعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِالرُّكُوعِ إلَّا وَهُوَ مِنْ فَرْضِهَا وَالثَّانِي الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ مَعَ الْمُصَلِّينَ فَإِنْ قِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ لم ذكر الصلاة في قوله [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ] فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرِيدَ بِعِطْفِ الرُّكُوعِ عَلَيْهَا الصَّلَاةَ بِعَيْنِهَا قِيلَ لَهُ هَذَا جَائِزٌ إذَا أُرِيدَ بِالصَّلَاةِ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهَا الْإِجْمَالُ دُونَ صَلَاةٍ مَعْهُودَةٍ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] إحَالَةً لَهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي بَيَّنَهَا بِرُكُوعِهَا وَسَائِرِ فُرُوضِهَا وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ صَلَاةُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِغَيْرِ رُكُوعٍ وَكَانَ فِي اللَّفْظِ احْتِمَالُ رُجُوعِهِ إلَى تِلْكَ الصَّلَاةِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يرد الصلاة التي تعبد بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ بَلْ الَّتِي فِيهَا الرُّكُوعُ
وقوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ] يَنْصَرِفُ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ وَفِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةُ أَنَّهُمَا مَعُونَتَانِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلُ الصَّلَاةِ لُطْفٌ فِي اجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ كَقَوْلِهِ [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِمَا لَا الْمَفْرُوضَيْنِ وَذَلِكَ نَحْوُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَصَلَاةِ النَّفْلِ إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ المفروض منها لأن ظاهر الأمر للإيجاب وَلَا يُصْرَفُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ وقَوْله تعالى [وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ] فِيهِ رَدُّ الضَّمِيرِ عَلَى وَاحِدٍ مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِ اثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ [وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ] وَقَالَ [وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها] وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
قَوْله تَعَالَى [فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ] يُحْتَجُّ بِهَا فِيمَا وَرَدَ مِنْ التَّوْقِيفِ فِي الْأَذْكَارِ وَالْأَقْوَالِ بِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا إلَى غَيْرِهَا وَرُبَّمَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْنَا الْمُخَالِفُ فِي تَجْوِيزِنَا تَحْرِيمَةَ الصَّلَاةَ بِلَفْظِ التَّعْظِيمِ وَالتَّسْبِيحِ وَفِي تَجْوِيزِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أبى حنفية وفي تجويز النجاح بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ وَهَذَا لَا يَلْزَمُنَا فِيمَا ذَكَرْنَا لأن قوله تعالى [فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا] إنَّمَا هُوَ فِي الْقَوْمِ(1/39)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
الذين قيل لهم [ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ] يَعْنِي حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ قال ابن عباس أمروا أن يستغفروا روى عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْأَمْرُ حَقٌّ كَمَا قِيلَ لَكُمْ وَقَالَ عِكْرِمَةُ أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا لَا إلَهِ إلَّا اللَّهُ فقالوا بدل هذا حطنة حَمْرَاءُ تَجَاهُلًا وَاسْتِهْزَاءً وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَعَنْ الْحَسَنِ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ لَتَبْدِيلِهِمْ الْقَوْلَ إلَى لَفْظٍ فِي ضِدِّ الْمَعْنَى الَّذِي أُمِرُوا بِهِ إذْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فَصَارُوا إلَى الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فَأَمَّا مِنْ غَيْر اللَّفْظُ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى فَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْآيَةُ إذْ كَانَتْ الْآيَةُ إنَّمَا تَضَمَّنَتْ الْحِكَايَةَ عَنْ فِعْلِ قَوْمٍ غَيَّرُوا اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جميعا فالحق بهم الذم بهذا الفعل وَإِنَّمَا يُشَارِكُهُمْ فِي الذَّمِّ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي الْفِعْلِ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَأَمَّا مَنْ غَيَّرَ اللَّفْظَ وَأَتَى بِالْمَعْنَى فَلَمْ تَتَضَمَّنَهُ الْآيَةُ وَإِنَّمَا نَظِيرُ فِعْلِ الْقَوْمِ إجَازَةُ مَنْ يُجِيزُ الْمُتْعَةَ مَعَ قَوْله تَعَالَى [إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ] فَقَصْرَ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَمَنْ اسْتَبَاحَهُ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ مَعَ مُخَالَفَةِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَهَذَا الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ الذَّمُّ بِحُكْمِ الْآيَةِ
وقَوْله تَعَالَى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً- إلَى قَوْلِهِ- وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها] إلَى آخَرِ الْآيَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ قِصَّةِ الْمَقْتُولِ وَذَبْحِ الْبَقَرَةِ ضُرُوبٌ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى الْمَعَانِي الشَّرِيفَةِ فَأَوَّلُهَا أَنَّ
قَوْله تَعَالَى [وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً] وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ شَأْنِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ إنَّمَا كَانَ سَبَبُهُ قَتْلُ النَّفْسِ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي النُّزُولِ وَالْآخَرُ أَنَّ تَرْتِيبَ نُزُولِهَا عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ تِلَاوَتِهَا وَنِظَامِهَا وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ اُذْكُرْ إذْ أَعْطَيْت أَلْفَ دِرْهَمِ زَيْدًا إذْ بَنَى دَارِي وَالْبِنَاءُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَطِيَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْبَقَرَةِ مُقَدَّمٌ فِي النزول
قوله تعالى [فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها]
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَقَرَةَ قَدْ ذُكِرَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ أُضْمِرَتْ وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ذِكْرِ الطُّوفَانِ وَانْقِضَائِهِ [قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ] وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ هَلَاكِهِمْ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْكَلَامِ وَتَأْخِيرَهُ إذَا(1/40)
كَانَ بَعْضُهُ مَعْطُوفًا عَلَى بَعْضِ بِالْوَاوِ غَيْرُ مُوجِبٍ تَرْتِيبَ الْمَعْنَى عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفْظِ وَقَوْلُهُ [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ وُرُودِ الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ بَقَرَةً مَجْهُولَةً غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ وَلَا مَوْصُوفَةٍ وَيَكُونُ الْمَأْمُورُ مُخَيَّرًا فِي ذَبْحِ أَدْنَى مَا يَقَعُ الِاسْمُ عَلَيْهِ وَقَدْ تَنَازَعَ مَعْنَاهُ الْفَرِيقَانِ مِنْ نُفَاةِ الْعُمُومِ وَمَنْ مُثْبِتِيهِ وَاحْتَجَّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ لِمَذْهَبِهِ فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ فَاحْتَجُّوا بِهِ مِنْ جِهَة وُرُودِهِ مُطْلَقًا فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا لَازِمًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعُمُومِ وَأَنَّهُمْ لَمَّا تعنتوا رسول الله عليه السلام فِي الْمُرَاجَعَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى شَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ التَّكْلِيفَ وَذَمَّهُمْ عَلَى مُرَاجَعَتِهِ بِقَوْلِهِ [فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ]
وَرَوَى الْحَسَنُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ اعْتَرَضُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَتْ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُبَيْدَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ بِأَنَّ الله تعالى لم يعنفهم على المراجعة بدأ وَلَوْ كَانَ قَدْ لَزِمَهُمْ تَنْفِيذُ ذَلِكَ عَلَى مَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنْ اقْتِضَاءِ عُمُومِ اللَّفْظِ لَوَرَدَ النَّكِيرُ فِي بَدْءِ الْمُرَاجَعَةِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ النَّكِيرَ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ فِي اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا تَغْلِيظُ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِمْ وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ النَّكِيرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ] والثاني قوله [وَما كادُوا يَفْعَلُونَ] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا تَارِكِينَ لِلْأَمْرِ بدا وأنه كَانَ عَلَيْهِمْ الْمُسَارَعَةُ إلَى فِعْلِهِ فَقَدْ حَصَلَتْ الْآيَةُ عَلَى مَعَانٍ أَحَدِهَا وُجُوبُ اعْتِبَارِ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيمَا يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُ وَالثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ وَأَنَّ عَلَى الْمَأْمُورِ الْمُسَارَعَةَ إلَى فِعْلِهِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ وَالثَّالِثُ جَوَازُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِشَيْءِ مَجْهُولِ الصِّفَةِ مَعَ تَخْيِيرِ الْمَأْمُورِ فِي فِعْلِ مَا يَقَعُ الِاسْمُ عَلَيْهِ مِنْهُ وَالرَّابِعُ وُجُوبُ الْأَمْرِ وَأَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَى النَّدْبِ إلَّا بِدَلَالَةٍ إذْ لَمْ يَلْحَقهُمْ الذَّمُّ إلَّا بِتَرْكِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ وَعِيدٍ وَالْخَامِس جَوَازُ النَّسْخِ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِعْلِ بَعْدَ التمكن منه وذلك أَنَّ زِيَادَةَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الْبَقَرَةِ كُلٌّ مِنْهَا قَدْ نَسَخَ مَا قَبْلَهَا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً اقْتَضَى ذَبْحَ بَقَرَةٍ أَيُّهَا كَانَتْ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءُوا وَقَدْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا قَالُوا [ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ] فَقَالَ [إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ] نَسَخَ التَّخْيِيرَ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ فِي ذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةُ وَذَبْحِ غَيْرِهَا وَقَصَرُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وقيل(1/41)
لهم افعلوا ما تؤمرون فَأَبَانَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَذْبَحُوا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَيُّ لَوْنٍ كَانَتْ وَعَلَى أَيِّ حَالِ كَانَتْ مِنْ ذَلُولٍ أَوْ غَيْرِهَا فَلَمَّا قَالُوا [ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها] نَسَخَ التَّخْيِيرَ الَّذِي كَانَ فِي ذَبْحِ أَيِّ لَوْنٍ شَاءُوا مِنْهَا وَبَقِيَ التَّخْيِيرُ فِي الصِّفَةِ الْأُخْرَى مِنْ أَمْرِهَا فَلَمَّا رَاجَعُوا نُسِخَ ذَلِكَ أَيْضًا وَأُمِرُوا بِذَبْحِهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَ وَاسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَيْهَا بَعْدَ تَغْلِيظِ الْمِحْنَةِ وَتَشْدِيدِ التَّكْلِيفِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَمْرِ النَّسْخِ دل على أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ يُوجِبُ نَسْخَهُ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَوَامِر الْوَارِدَةِ بَعْدَ مُرَاجَعَةِ الْقَوْمِ إنَّمَا كَانَ زِيَادَةً فِي نَصٍّ كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ فَأَوْجَبَ نَسْخَهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْفَرْضِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتَهُ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْفَرْضَ عليهم بدأ قَدْ كَانَ بَقَرَةً مُعَيَّنَةً فَنُسِخَ ذَلِكَ عَنْهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ كُلَّ فَرْضٍ مِنْ ذَلِكَ قَدْ كَانَ وَقْتُ فِعْلِهِ عَقِيبَ وُرُودِ الْأَمْرِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ وَاسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَيْهِمْ وَثَبَتَ ثُمَّ نُسِخَ قَبْلَ الْفِعْلِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذَا عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالسَّادِسُ دَلَالَةُ قَوْلِهِ [لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ] عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِعْمَالِ غَالِبِ الظَّنّ فِي الْأَحْكَامِ إذْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهَا بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْفَارِضِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالسَّابِعُ اسْتِعْمَالُ الظَّاهِرِ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ خلافه بقوله [مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُسَلَّمَةٌ مِنْ الْعُيُوبِ بَرِيئَةٌ مِنْهَا وَذَلِكَ لَا نَعْلَمُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا نَعْلَمُهُ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُون بِهَا عَيْبٌ بَاطِنٌ وَالثَّامِنُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْمُرَاجَعَةِ الْأَخِيرَةِ [وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ] لَمَّا قَرَنُوا الْخَبَرَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وُفِّقُوا لِتَرْكِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَهَا وَلِوُجُودِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَقُولُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمَا اهْتَدَوْا لَهَا أَبَدًا وَلَدَامَ الشَّرُّ بينهم وكذلك قوله [وَما كادُوا يَفْعَلُونَ] فأعلمنا الله ذلك لنطلب نجح الْأُمُورِ عِنْدَ الْإِخْبَارِ عَنْهَا فِي الْمُسْتَقْبِلِ بِذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي هُوَ مَشِيئَةُ اللَّهِ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ فِي قَوْلِهِ [وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ] فَفِيهِ اسْتِعَانَةٌ بِاَللَّهِ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَالِاعْتِرَافُ بِقُدْرَتِهِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ وَأَنَّهُ مَالِكُهُ وَالْمُدَبِّرُ لَهُ وَالتَّاسِعُ دَلَالَةُ قَوْلِهِ [أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ] عَلَى أَنَّ الْمُسْتَهْزِئَ يَسْتَحِقُّ سِمَةَ الْجَهْلِ لِانْتِفَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْل
بِنَفْيِهِ الِاسْتِهْزَاءَ عَنْ نَفْسِهِ(1/42)
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِأَمْرِ الدِّينِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَعَظَائِمِهَا لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَبْلُغْ مَأْثَمُهُ النِّسْبَةَ إلَى الْجَهْلِ وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مِسْعَرٍ أَنَّهُ تَقَدَّمَ إلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ الْقَاضِي قَالَ وَعَلَيَّ جُبَّةُ صُوفٍ وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ كَثِيرَ الْمَزْحِ قَالَ فَقَالَ لَهُ أَصُوفُ نَعْجَةٍ جُبَّتُك أَمْ صُوفُ كَبْشٍ فَقُلْت لَهُ لَا تَجْهَلْ أَبْقَاكَ اللَّهُ قَالَ وَأَنَّى وَجَدْت الْمِزَاحَ جَهْلًا فَتَلَوْت عَلَيْهِ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ من الجاهلين قَالَ فَأَعْرَضِ وَاشْتَغَلَ بِكَلَامٍ آخَرَ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِقَتْلِ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الْكُفْرُ وَإِنَّمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالنَّظَرِ بِالْقَوْلِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لِنَبِيِّ الله أتتخذنا هزوا كُفْرٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ لِمُوسَى [اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ] ويدل عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ هَذَا لَمْ يُوجِبْ فُرْقَةً بين نسائهم وبينهم لأنه لم يأمرهم بِفِرَاقِهِنَّ وَلَا تَقْرِيرِ نِكَاحٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ وقَوْله تعالى [وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَسَّرَهُ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَدَامَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ سيظهره وهو كَمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (إنَّ عَبْدًا لَوْ أَطَاعَ اللَّهَ مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حِجَابًا لَأَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ)
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قُلْ لِبَنِي إسْرَائِيلَ يُخْفُوا لِي أَعْمَالَهُمْ وَعَلَيَّ أَنْ أُظْهِرَهَا وقَوْله تَعَالَى [وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ] عَامٌّ وَالْمُرَادُ خَاصٌّ لِأَنَّ كُلَّهُمْ مَا عَلِمُوا بِالْقَاتِلِ بِعَيْنِهِ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قوله [وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ] عَامًّا فِي سَائِرِ النَّاسِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بنفسه وهو عاما فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا حِرْمَانُ مِيرَاثِ الْمَقْتُولِ رَوَى أَبُو أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ لَهُ ذُو قَرَابَةٍ وَهُوَ وَارِثُهُ فَقَتَلَهُ لِيَرِثَهُ ثُمَّ ذَهَبَ فَأَلْقَاهُ عَلَى بَابِ قَوْمٍ آخَرِينَ وَذَكَرَ قِصَّةَ الْبَقَرَةِ وَذَكَرَ بَعْدَهَا فَلَمْ يُوَرَّثْ بَعْدَهَا قَاتِلٌ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مِيرَاثِ الْقَاتِلِ
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً
وَأَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ وَلَا مِنْ سَائِرِ مَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا إنْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا وَرِثَ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ قَاتِلُ الْخَطَإِ يَرِثُ دُونَ قَاتِلِ الْعَمْدِ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَإِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ عَمْدًا مِنْ دِيَةِ مَنْ قَتَلَ شَيْئًا وَلَا مِنْ مَالِهِ وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً وَرِثَ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَرِثْ مِنْ دِيَتِهِ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ إذَا قَتَلَ الباغي العادل(1/43)
أَوْ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ لَا يَتَوَارَثَانِ لِأَنَّهُمَا قَاتِلَانِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ قَاتِلِ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ إذَا كان بالغا غافلا بِغَيْرِ حَقٍّ وَاخْتُلِفَ فِي قَاتِلِ الْخَطَإِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَنْبَسَةَ بْنِ لَقِيطٍ الضَّبِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْمُثَنَّى وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ)
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا التُّسْتَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عن عمر ابن الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ (لَيْسَ لِلْقَاتِلِ شَيْءٌ)
وَرَوَى اللَّيْثُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ)
وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْقَاتِلُ عَمْدًا لَا يَرِثُ مِنْ أَخِيهِ وَلَا مِنْ ذِي قَرَابَتِهِ شَيْئًا وَيَرِثُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ نَسَبًا بَعْدَ الْقَاتِلِ)
وَرَوَى حِصْنُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ عَنْ عَدِيٍّ الْجُذَامِيِّ قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَتْ لِي امْرَأَتَانِ فَاقْتَتَلَتَا فَرَمَيْت إحْدَاهُمَا فَقَالَ اعْقِلْهَا وَلَا تَرِثْهَا
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ حِرْمَانُ الْقَاتِلِ مِيرَاثَهُ مِنْ سَائِرِ مَالِ الْمَقْتُولِ وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ لِعُمُومِ لَفْظِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ وَقَدْ اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْخَبَرَ وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَجَرَى مَجْرَى التَّوَاتُرِ
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)
وَقَوْلِهِ [لَا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها]
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ أَوْ يَتَرَادَّانِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي مَخْرَجُهَا مِنْ جِهَةِ الْإِفْرَادِ وَصَارَتْ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ لِتَلَقِّي الْفُقَهَاءُ لَهَا بِالْقَبُولِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ إيَّاهَا فَجَازَ تَخْصِيصُ آيَةِ الْمَوَارِيثِ بِهَا
وَيَدُلُّ عَلَى تَسْوِيَةِ حُكْمِ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ
وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ عَلَيْهِمْ وَغَيْرُ جَائِزِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ فِي شُيُوعِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ وَلَمَّا وَافَقَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ سَائِرِ مَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ دِيَتَهُ مَالُهُ وميراث عنه بدليل أنه تقتضي مِنْهَا دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ وَيَرِثُهَا سَائِرُ وَرَثَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَرِثُونَ سَائِرَ أَمْوَالِهِ فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ كَانَ ذَلِكَ(1/44)
حُكْمَ سَائِرِ مَالِهِ فِي الْحِرْمَانِ كَمَا أَنَّهُ إذَا وَرِثَ مِنْ سَائِرِ مَالِهِ وَرِثَ مِنْ دِيَتِهِ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ حُكْمُ سَائِرِ مَالِهِ حُكْمَ دِيَتِهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ سَائِرِ مَالِهِ حُكْمَ دِيَتِهِ فِي الْحِرْمَانِ إذا كَانَ الْجَمِيعُ مُسْتَحَقًّا عَلَى سِهَامِ وَرَثَتِهِ وَأَنَّهُ مَبْدُوءٌ بِهِ فِي الدَّيْنِ عَلَى الْمِيرَاثِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ لِمَا اقْتَضَاهُ الْأَثَرُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ سَائِرِ مَالِهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَثَرَ لَمْ يَفْصِلْ فِي وُرُودِهِ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ مَالِكٌ إنَّمَا وَرِثَ قَاتِلُ الْخَطَإِ مِنْ سَائِرِ مَالِهِ سِوَى الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي دِيَتِهِ لِأَنَّهَا مِنْ التُّهْمَةِ أَبْعَدُ فَوَاجِبٌ عَلَى مُقْتَضَى عِلَّتِهِ أَنْ يَرِثَ مِنْ دِيَتِهِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي قَاتِلِ الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ سَائِرَ مَالِهِ كَمَا لَا يَرِثُ من دينه إذَا وَجَبَتْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ قَاتِلِ الْخَطَإِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ مِنْ دِيَتِهِ وَأَيْضًا إذَا كَانَ قَتْلُ الْعَمْدِ وَشِبْهُ الْعَمْدِ إنَّمَا حَرَّمَا الْمِيرَاثَ لِلتُّهْمَةِ فِي إحْرَازِ الْمِيرَاثِ بِقَتْلِهِ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَظْهَرَ رَمْيَ غَيْرِهِ وَهُوَ قَاصِدٌ بِهِ قَتْلَهُ لِئَلَّا يُقَادَ مِنْهُ وَلَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثَ فَلَمَّا كَانَتْ التُّهْمَةُ مَوْجُودَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْعَمْدِ وَشِبْهِهِ وَأَيْضًا تَوْرِيثُهُ بَعْضَ الْمِيرَاثِ دُونَ بَعْضٍ خَارِجٌ مِنْ الْأُصُولِ لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ مَنْ وَرِثَ بَعْضَ تَرِكَةٍ وَرِثَ جَمِيعَهَا وَمَنْ حُرِمَ بَعْضُهَا حُرِمَ جَمِيعُهَا وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا يُحْرَمَانِ الْمِيرَاثَ بِالْقَتْلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمَا غَيْرُ مُكَلَّفَيْنِ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ فِي الأموال فَأُجْرِيَ قَاتِلُ الْخَطَإِ مَجْرَاهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِقَابَ بِقَتْلِ الْخَطَإِ تَغْلِيظًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَصَدَ الْقَتْلَ بِرَمْيِهِ أَوْ بِضَرْبِهِ وَأَنَّهُ أَوْهَمَ أَنَّهُ قَاصِدٌ لِغَيْرِهِ فَأُجْرِيَ فِي ذَلِكَ مَجْرَى مَنْ عَلِمَ مِنْهُ ذَلِكَ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْهُمَا ذَلِكَ لَا يَسْتَحِقَّانِ الدَّمَ
قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي سُقُوطَ حُكْمِ قَتْلِهِ رَأْسًا مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ لَمَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ أَيْضًا فَإِنْ قِيلَ فَإِنَّهُ يُحْرَمُ النَّائِمُ الْمِيرَاثَ إذَا انْقَلَبَ عَلَى صَبِيِّ فَقَتَلَهُ قِيلَ لَهُ هُوَ مِثْلُ قَاتِلِ الْخَطَإِ يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ أَظْهَرَ أَنَّهُ نَائِمٌ ولم يكن نائما في الحقيقة أما قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَادِلِ إذَا قَتَلَ الْبَاغِيَ حُرِمَ الْمِيرَاثَ فَلَا وَجْه لَهُ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِحَقٍّ وَقَدْ كَانَ الْبَاغِي مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحْرَمَ الْمِيرَاثَ وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقَوَدُ عَلَى(1/45)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ قَوَدًا أَنَّهُ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ قَتْلُ الْعَادِلِ الْبَاغِيَ يُحْرِمُهُ الْمِيرَاثَ لَوَجَبَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُحَارِبًا فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ حَدًّا أَنْ لَا يَكُونَ مِيرَاثُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْإِمَامَ قَامَ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ فِي إجراء الحكم عليه فكأنه قَتَلُوهُ فَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ هُمْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِمِيرَاثِ مَنْ ذَكَرْنَا أَمْرَهُ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَامَ مَقَامَهُمْ فِي قَتْلِهِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ بِحَقِّ لَا يُحْرِمُ قَاتِلُهُ مِيرَاثَهُ وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي حَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ إذَا عَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ إنَّهُ لَا يُحْرَمَ الْمِيرَاثَ لِأَنَّهُ غَيْرَ قَاتِلٍ فِي الْحَقِيقَةِ إذْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لِلْقَتْلِ وَلَا لِسَبَبٍ اتَّصَلَ بِالْمَقْتُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ على ثلاثة أوجه عمدا وَخَطَأٌ وَشِبْهُ الْعَمْدِ وَحَافِرُ الْبِئْرِ وَوَاضِعُ الْحَجَرِ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ حَفْرُ الْبِئْرِ وَوَضْعُ الْحَجَرِ سَبَبٌ لِلْقَتْلِ كَالرَّامِي وَالْجَارِحِ أَنَّهُمَا قَاتِلَانِ لِفِعْلِهِمَا السَّبَبَ قِيلَ لَهُ الرَّمْيُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنْ مُرُورِ السَّهْمِ هُوَ فِعْلُهُ وَبِهِ حَصَلَ الْقَتْلُ وَكَذَلِكَ الْجُرْحُ فَعَلَهُ فَصَارَ قاتلا به لاتصال فعله للمقتول وَعِثَارُ الرَّجُلِ بِالْحَجَرِ وَوُقُوعُهُ فِي الْبِئْرِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِهِ قَاتِلًا
وقَوْله تَعَالَى [أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ الْمُعَانِدَ فِيهِ أَبْعَدُ مِنْ الرُّشْدِ وَأَقْرَبُ إلَى الْيَأْسِ مِنْ الصَّلَاحِ مِنْ الْجَاهِلِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى [أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ] يُفِيدُ زَوَالَ الطَّمَعِ فِي رُشْدِهِمْ لِمُكَابَرَتِهِمْ الْحَقَّ بَعْد الْعِلْمِ بِهِ
وقَوْله تَعَالَى [وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً] قِيلَ فِي مَعْنَى مَعْدُودَةً إنَّهَا قَلِيلَةٌ كَقَوْلِهِ [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ] أَيْ قَلِيلَةٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ فِي قوله أياما معدودة إنَّهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا مِقْدَارُ مَا عَبَدُوا الْعِجْلَ وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ سَبْعَةُ أَيَّامٍ وَقَالَ تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ] فَسَمَّى أَيَّامَ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْدُودَاتٍ وَأَيَّامُ الشَّهْرِ كُلِّهِ وَقَدْ احْتَجَّ شُيُوخُنَا لِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ وَعَشْرَةٌ
بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا)
وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ
(دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ حَيْضِك)
وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَيْض تُسَمَّى أَيَّامًا وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُهَا عَشَرَةٌ لِأَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ يُقَالُ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ يُقَالُ فِيهِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا الِاسْمَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مِقْدَارِ أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ فَمِنْ النَّاسِ من يعترض على هذا الاستدلال بقوله [أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ] وَهِيَ أَيَّامُ الشَّهْرِ وَقَوْلِهِ [إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً] وقد قيل(1/46)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
فِيهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَقْدَحُ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَيَّامًا قَلِيلَةً كَقَوْلِهِ [دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ] يَعْنِي قَلِيلَةً وَلَمْ يُرِدْ بِهِ تَحْدِيدَ الْعَدَدِ وَتَوْقِيتَ مِقْدَارِهِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّوْمِ مَا يَشْتَدُّ وَيَصْعُبُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَقْتًا مُبْهَمًا كَقَوْلِهِمْ أَيَّامَ بَنِي أُمَيَّةَ وَأَيَّامَ الْحَجَّاجِ وَلَا يُرَادُ بِهِ تَحْدِيدُ الْأَيَّامِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ زَمَانُ مُلْكِهِمْ
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك)
قَدْ أُرِيدَ بِهِ لَا مَحَالَةَ تَحْدِيدُ الْأَيَّامِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَيْضِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ مَخْصُوصٌ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْهُ فَمَتَى أُضِيفَ ذِكْرُ الْأَيَّامِ إلَى عدد مخصوص يتناول إما بين الثلاثة إلى العشرة
وقوله تَعَالَى [بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ] قَدْ عُقِلَ مِنْهُ اسْتِحْقَاقُ النَّارِ بِمَا يَكْسِبُ من السيئة وإحاطتها به فَكَانَ الْجَزَاءُ مُسْتَحَقًّا بِوُجُودِ الشَّرْطَيْنِ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى شَرْطَيْنِ فِي عَتَاقٍ أَوْ طلاق أو غيرهما أنه لا يَحْنَثُ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ وُجُودِ الْآخَرِ
قَوْله تَعَالَى [وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً] يَدُلّ عَلَى تَأْكِيدِ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَوُجُوبِ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا كَافِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُؤْمِنَيْنِ لِأَنَّهُ قَرَنَهُ إلَى الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ [وَذِي الْقُرْبى] يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إلَى اليتامى والمساكين [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً]
رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا كُلُّهُمْ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَعَبِّدِينَ بِذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى قَوْله تَعَالَى [ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] وَالْإِحْسَانُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ الدُّعَاءُ إلَيْهِ وَالنُّصْحُ فِيهِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى [لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ] وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِلَعْنِ الْكُفَّارِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ وَالْإِنْكَارِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفْ فِيهِ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ الْقَوْلِ الْحَسَنِ أَحَدُ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ذلك خَاصًّا فِي الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ وَالنَّكِيرَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَهُوَ الدُّعَاءُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ كُلُّهُ حَسَنٌ وَأَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا ذكر والميثاق وهو الْعَقْدُ الْمُؤَكَّدُ إمَّا بِوَعِيدٍ أَوْ بِيَمِينٍ وَهُوَ نحو أمر الله الصحابة بمبايعة النبي صلّى الله عليه وسلم على(1/47)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
شَرَائِطِهَا الْمَذْكُورَةِ
وقَوْله تَعَالَى [وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ] يحتمل وجهين أحدهما لَا يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى [وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ] وكذلك أخراهم من ديارهم وكقوله [وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا] وَالْآخَرُ أَنْ لَا يَقْتُلَ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ إمَّا بِأَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ الْهِنْدُ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْيَأْسُ مِنْ الْخَلَاصِ عند شِدَّةٍ هُوَ فِيهَا أَوْ بِأَنْ يَقْتُلَ غَيْرَهُ فَيُقْتَلَ بِهِ فَيَكُونَ فِي مَعْنَى قَتْلِ نَفْسِهِ واحتمال اللفظ الْمَعْنَيَيْنِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حُكْمِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مِمَّا كَانَ يَكْتُمُهُ الْيَهُودُ لِمَا عَلَيْهِمْ في ذلك الْوَكْسِ وَيَلْزَمُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الذَّمِّ فَأَطْلَعَ اللَّه نَبِيَّهُ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ دَلَالَةً وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي جَحْدِهِمْ نُبُوَّتَهُ إذْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّنْ قَرَأَ الْكُتُبَ وَلَا عَرَفَ مَا فِيهَا إلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ وَكَذَلِكَ جميع ما حكى الله بعد هذه الآية عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِ [وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا] وَسَائِرُ مَا ذَمَّهُمْ هُوَ تَوْقِيفٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى مَا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَقْرِيعٌ لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَإِظْهَارِ قَبَائِحِهِمْ وَجَمِيعُهُ دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وقَوْله تَعَالَى [وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ] دَالٌّ عَلَى أَنَّ فِدَاءَ أُسَارَاهُمْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ وَكَانَ إخْرَاجُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ فَإِذَا أَسَرَ بَعْضَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُفَادُوهُمْ فَكَانُوا فِي إخْرَاجِهِمْ كَافِرِينَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ لِفِعْلِهِمْ مَا حَظَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي مُفَادَاتِهِمْ مُؤْمِنِينَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ بِقِيَامِهِمْ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ وُجُوبِ مُفَادَاةِ الْأُسَارَى ثَابِتٌ عَلَيْنَا
رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُمْ وَيَفْدُوا اعانيهم بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَأَفْشُوا السَّلَامَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ)
فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ يَدُلَّانِ عَلَى فِكَاكِ الْأَسِيرِ لِأَنَّ الْعَانِيَ هُوَ الْأَسِيرُ
وَقَدْ رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَى أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُشْرِكِينَ
وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ عَنْ بِشْرِ بْنِ غَالِبٍ قَالَ سُئِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى مَنْ فدى الأسيرى قَالَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يُقَاتِلُ عَنْهَا
قَوْله تَعَالَى [قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ]
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/48)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
قَالَ لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوْا الْمَوْتَ لَمَاتُوا أو لرأوا مَقَاعِدَهُمْ مِنْ النَّار
وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَوْ تَمَنَّوْا الْمَوْتَ لِشُرِّقُوا بِهِ وَلَمَاتُوا وَقِيلَ فِي تَمَنِّي الْمَوْتِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ تَحُدُّوا بِأَنْ يَدْعُوا بِالْمَوْتِ على أن الْفَرِيقَيْنِ كَانَ كَاذِبًا وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةَ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ لَمَّا قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى وَقَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قِيلَ لَهُمْ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا إظْهَارُ كَذِبِهِمْ وَتَبْكِيتِهِمْ بِهِ وَالثَّانِي الدَّلَالَةُ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِذَلِكَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تعالى بتحدى النَّصَارَى بِالْمُبَاهَلَةِ فَلَوْلَا عِلْمُهُمْ بِصِدْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذِبِهِمْ لَسَارَعُوا إلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ ولسارعت النَّصَارَى إلَى الْمُبَاهَلَةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَخْبَرَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَنَزَلَ الْمَوْتُ وَالْعَذَابُ بِهِمْ وَكَانَ يَكُونُ فِي إظْهَارِهِمْ التَّمَنِّي وَالْمُبَاهَلَةِ تَكْذِيبٌ لَهُ وَدَحْضٌ لِحُجَّتِهِ إذَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِمْ مَا أَوْعَدَهُمْ فَلَمَّا أَحْجَمُوا عَنْ ذَلِكَ مَعَ التَّحَدِّي وَالْوَعِيدِ مَعَ سُهُولَةِ هَذَا الْقَوْلِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ بِمَا عَرَفُوهُ مِنْ كُتُبِهِمْ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ كَمَا
قَالَ تَعَالَى [وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ] فيه دَلَالَةٌ أُخْرَى عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَهُوَ إخْبَارُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مَعَ خِفَّةِ التَّمَنِّي وَسُهُولَتِهِ عَلَى الْمُتَلَفِّظِ وَسَلَامَةِ أَلْسِنَتِهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ لَوْ قَالَ لَهُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِي أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَا يَمَسُّ رَأْسَهُ مَعَ صِحَّةِ جَوَارِحِهِ وَأَنَّهُ إنْ مَسَّ أَحَدٌ منكم رأسه فأنا مبطل فلا يمس أحدا مِنْهُمْ رَأْسَهُ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَحِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَمَعَ سَلَامَةِ أَعْضَائِهِمْ وَصِحَّةِ جَوَارِحِهِمْ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَاقِلًا لَا يَتَحَدَّى أعداء بِمِثْلِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِجَوَازِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَالثَّانِي أَنَّهُ إخْبَارٌ بِالْغَيْبِ إذْ لَمْ يَتَمَنَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْمَوْتَ وَكَوْنُ مُخْبِرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ حِين تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ وَقَرَّعَهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ بِقَوْلِهِ [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا] فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَنَّوْا لِأَنَّهُمْ لَوْ تَمَنَّوْا لَكَانَ ذَلِكَ ضَمِيرًا مُغَيَّبًا عِلْمُهُ عَنْ النَّاسِ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ إنَّكُمْ قَدْ تَمَنَّيْتُمْ بِقُلُوبِكُمْ قِيلَ لَهُ هَذَا يَبْطُلُ من وجهين أحدهما أن للمتمنى صِيغَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ لَيْتَ اللَّهَ غَفَرَ لِي وَلَيْتَ زَيْدًا قَدِمَ وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى وَهُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَمَتَى قَالَ ذَلِكَ قَائِلٌ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُتَمَنِّيًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِضَمِيرِهِ وَاعْتِقَادِهِ كَقَوْلِهِمْ فِي الْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَالنِّدَاءِ(1/49)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَالتَّحَدِّي بِتَمَنِّي الْمَوْتَ إنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى الْعِبَارَةِ الَّتِي فِي لُغَتِهِمْ أَنَّهَا تَمَنٍّ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالتَّكْذِيبِ وَالتَّوْقِيفِ عَلَى عِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَبَهْتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ فِي أَمْرِهِ فَيَتَحَدَّاهُمْ بِأَنْ يَتَمَنَّوْا ذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ مَعَ عِلْمِ الْجَمِيعِ بِأَنَّ التَّحَدِّيَ بِالضَّمِيرِ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَحَدٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَقَالِهِ وَلَا فَسَادِهَا وَأَنَّ الْمُتَحَدَّى بِذَلِكَ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقُولَ قد تمنيت بقلبي ذلك ولا يمكن خصمه إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى كَذِبِهِ وَأَيْضًا فَلَوْ انْصَرَفَ ذَلِكَ إلَى التَّمَنِّي بِالْقَلْبِ دُونَ الْعِبَارَةِ بِاللِّسَانِ لَقَالُوا قَدْ تَمَنَّيْنَا ذَلِكَ بِقُلُوبِنَا فَكَانُوا مُسَاوِينَ لَهُ فِيهِ وَيَسْقُطُ بِذَلِكَ دَلَالَتُهُ عَلَى كَذِبِهِمْ وَعَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوهُ لَنُقِلَ كَمَا لَوْ عَارَضُوا القرآن بأى كلام كان لقل فَعُلِمَ أَنَّ التَّحَدِّيَ وَقَعَ بِالتَّمَنِّي بِاللَّفْظِ وَالْعِبَارَةِ دون الضمير والاعتقاد.
باب السجود وَحُكْمُ السَّاحِرِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ] إلَى آخَرِ الْقِصَّةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَاجِبُ أَنْ نُقَدِّمَ الْقَوْلَ فِي السِّحْرِ لِخَفَائِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَضْلًا عَنْ الْعَامَّةِ ثُمَّ نُعَقِّبُهُ بِالْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ فِي مُقْتَضَى الْآيَةِ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ فَنَقُولُ إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَذْكُرُونَ أَنَّ أَصْلَهُ فِي اللُّغَةِ لِمَا لطف وخفى سببه والسحر عندهم بالفتح هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه قال لبيد:
أرنا مَوْضِعَيْنِ لِأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنُسْحِرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ
قِيلِ فِيهِ وَجْهَانِ نُعَلَّلُ وَنُخْدَعُ كَالْمَسْحُورِ وَالْمَخْدُوعِ وَالْآخَرُ نُغَذَّى وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَمَعْنَاهُ الْخَفَاءُ وَقَالَ آخَرُ:
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ
وَهَذَا الْبَيْتُ يَحْتَمِلُ مِنْ الْمَعْنَى مَا احْتَمَلَهُ الْأَوَّلُ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُسَحَّرِ أَنَّهُ ذُو سِحْرٍ وَالسَّحَرُ الرِّئَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُلْقُومِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْخَفَاءِ وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وقَوْله تَعَالَى [إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ] يَعْنِي مِنْ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يُطْعَمُ وَيُسْقَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى [وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى [مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ] وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذُو سِحْرٍ مِثْلُنَا وَإِنَّمَا يُذْكَرُ السِّحْرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِضَعْفِ هَذِهِ الْأَجْسَادِ وَلَطَافَتِهَا وَرِقَّتِهَا وَبِهَا مَعَ ذَلِكَ قَوَامُ(1/50)
الْإِنْسَانِ فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ ضَعِيفٌ مُحْتَاجٌ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ ثُمَّ نُقِلَ هَذَا الِاسْمُ إلَى كُلِّ أَمْرٍ خَفِيَ سَبَبُهُ وَتُخُيِّلَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ وَيَجْرِي مَجْرَى التَّمْوِيهِ وَالْخِدَاعِ وَمَتَى أُطْلِقَ وَلَمْ يُقَيَّدْ أَفَادَ ذَمَّ فَاعِلِهِ وَقَدْ أُجْرِيَ مُقَيَّدًا فِيمَا يمتدح ويحمد
رُوِيَ (إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرَّانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ فَقَالَ لِعَمْرٍو خَبِّرْنِي عَنْ الزِّبْرِقَانَ فَقَالَ مُطَاعٌ فِي نَادِيهِ شَدِيدُ الْعَارِضَةِ مَانِعٌ لِمَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ هُوَ وَاَللَّهُ يَعْلَمْ أَنِّي أَفْضَلُ مِنْهُ فَقَالَ عَمْرٌو إنَّهُ زَمِرُ الْمُرُوءَةِ ضَيِّقُ الْعَطَنِ أَحْمَقُ الْأَبِ لَئِيمُ الْخَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَدَقْت فِيهِمَا أَرْضَانِي فَقُلْت أَحْسَنُ مَا عَلِمْت وَأَسْخَطَنِي فَقُلْت أَسْوَأُ مَا عَلِمْت فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)
وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرَّانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَدِمَ رَجُلَانِ فَخَطَبَ أَحَدُهُمَا فَعَجَبَ النَّاسُ لِذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)
قَالَ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ حَدَّثَنِي صَخْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا)
قَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ صَدَقَ نَبِيُّ اللَّهِ أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا فَالرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَجِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ الْعِلْم جَهْلًا فَيَتَكَلَّفُ العالم إلى علمه ما لا يعلمه فَيُجَهِّلُهُ ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا فَهِيَ هَذِهِ الْأَمْثَالُ وَالْمَوَاعِظُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا فَعَرْضُك كَلَامَكَ وَحَدِيثَكَ عَلَى مِنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا يُرِيدُهُ فَسَمَّى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْضَ الْبَيَانِ سِحْرًا لِأَنَّ صَاحِبَهُ بَيْنَ أَنْ يُنْبِئَ عَنْ حَقٍّ فَيُوضِحَهُ وَيُجَلِّيهِ بِحُسْنِ بَيَانِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَفِيَّا فَهَذَا مِنْ السِّحْرِ الْحَلَالِ الَّذِي أَقَرَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عمر بْنَ الْأَهْتَمِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسْخِطْهُ مِنْهُ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ عُمَرُ هَذَا وَاَللَّهِ السِّحْرُ الْحَلَالُ وَبَيْنَ أَنْ يُصَوِّرَ الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ بِبَيَانِهِ وَيَخْدَعَ السَّامِعِينَ بِتَمْوِيهِهِ وَمَتَى أُطْلِقَ فَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ أَمْرٍ مُمَوَّهٍ بَاطِلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا ثَبَاتَ(1/51)
قال الله تعالى [سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ] يَعْنِي مَوَّهُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى وَقَالَ [يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى] فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا ظَنُّوهُ سَعْيًا مِنْهَا لَمْ يَكُنْ سَعْيًا وَإِنَّمَا كَانَ تَخْيِيلًا وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا كَانَتْ عِصِيًّا مُجَوَّفَةً قَدْ مُلِئَتْ زِئْبَقًا وَكَذَلِكَ الْحِبَالُ كَانَتْ مَعْمُولَةً مِنْ أُدُمٍ مَحْشُوَّةً زِئْبَقًا وَقَدْ حَفَرُوا قَبْلَ ذَلِكَ تَحْتَ الْمَوَاضِعِ أسرابا وجعلوا آزاجا وملؤها نَارًا فَلَمَّا طُرِحَتْ عَلَيْهِ وَحَمِيَ الزِّئْبَقُ حَرَّكَهَا لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الزِّئْبَقِ إذَا أَصَابَتْهُ النَّارُ أَنْ يَطِيرَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مموها على غير حقيقة وَالْعَرَبُ تَقُولُ لَضَرْبٌ مِنْ الْحُلِيِّ مَسْحُورٌ أَيْ مُمَوَّهٌ عَلَى مَنْ رَآهُ مَسْحُورٌ بِهِ عَيْنُهُ فَمَا كَانَ مِنْ الْبَيَانِ عَلَى حَقٍّ وَيُوَضِّحُهُ فَهُوَ مِنْ السِّحْرِ الْحَلَالِ وَمَا كَانَ مِنْهُ مَقْصُودًا بِهِ إلَى تَمْوِيهٍ وَخَدِيعَةٍ وَتَصْوِيرِ بَاطِلٍ فِي صُورَةِ الْحَقِّ فَهُوَ مِنْ السِّحْرِ الْمَذْمُومِ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ مَوْضُوعُ السِّحْرِ التَّمْوِيهَ وَالْإِخْفَاءَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مَا يُوَضِّحُ الْحَقَّ وَيُنْبِئُ عَنْهُ سِحْرًا وَهُوَ إنَّمَا أَظْهَرَ بِذَلِكَ مَا خَفِيَ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ إلَى إخْفَاءِ مَا ظَهَرَ وَإِظْهَارُهُ غَيْرُ حَقِيقَةٍ قِيلَ لَهُ سُمِّيَ ذَلِكَ سِحْرًا مِنْ حَيْثُ كَانَ الْأَغْلَبُ فِي ظَنِّ السَّامِعِ أَنَّهُ لَوْ وَرَدَ عَلَيْهِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ مُسْتَنْكَرٍ غَيْرِ مُبَيَّنٍ لَمَا صَادَفَ مِنْهُ قَبُولًا وَلَا أَصْغَى إلَيْهِ وَمَتَى سَمِعَ الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ مَقْبُولَةٍ عَذْبَةٍ لَا فَسَادَ فِيهَا وَلَا اسْتِنْكَارَ وَقَدْ تَأَتَّى لَهَا بِلَفْظِهِ وَحُسْنِ بَيَانِهِ بِمَا لَا يَتَأَتَّى لَهُ الْغَبِيُّ الَّذِي لَا بَيَانَ لَهُ أَصْغَى إلَيْهِ وَسَمِعَهُ وَقَبِلَهُ فَسَمَّى اسْتِمَالَتَهُ لِلْقُلُوبِ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا كَمَا يَسْتَمِيلُ السَّاحِرُ قُلُوبَ الْحَاضِرِينَ إلَى مَا مَوَّهَ بِهِ وَلَبَّسَهُ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سُمِّيَ الْبَيَانُ سِحْرًا لَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ظَنَنْت وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا سَمَّى الْبَيَانَ سِحْرًا لِأَنَّ الْمُقْتَدِرَ عَلَى الْبَيَانِ رُبَّمَا قبح ببيانه بَعْضَ مَا هُوَ حَسَنٌ وَحَسُنَ عِنْدَهُ بَعْضُ مَا هُوَ قَبِيحٌ فَسَمَّاهُ لِذَلِكَ سِحْرًا كَمَا سَمَّى مَا مَوَّهَ بِهِ صَاحِبُهُ وَأَظْهَرَ عَلَى غَيْر حَقِيقَةٍ سِحْرًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاسْمِ السِّحْرِ إنَّمَا أُطْلِقْ عَلَى الْبَيَانِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَالْحَقِيقَةُ مَا وَصَفْنَا وَلِذَلِكَ صَارَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ أَمْرٍ مُمَوَّهٍ قَدْ قُصِدَ بِهِ الْخَدِيعَةُ وَالتَّلْبِيسُ وَإِظْهَارُ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا ثَبَاتَ وَإِذْ قَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ وَحُكْمَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَلْنَقُلْ فِي مَعْنَاهُ فِي التَّعَارُفِ وَالضُّرُوبِ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْمُ وَمَا يَقْصِدُ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ مُنْتَحِلِيهِ وَالْغَرَضِ الَّذِي يَجْرِي إلَيْهِ مُدَّعُوهُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى أَنْحَاءَ مُخْتَلِفَةٍ فَمِنْهَا سِحْرُ أَهْلِ بَابِلِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ [يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ]
وَكَانُوا قَوْمًا صَابِئِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ(1/52)
السَّبْعَةَ وَيُسَمُّونَهَا آلِهَةً وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ كُلِّهَا مِنْ أَفْعَالِهَا وَهُمْ مُعَطِّلَةٌ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالصَّانِعِ الْوَاحِدِ الْمُبْدِعِ لِلْكَوَاكِبِ وَجَمِيعِ أَجْرَامِ الْعَالَمِ وَهُمْ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّه تَعَالَى إلَيْهِمْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه فَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحَاجَّهُمْ بِالْحِجَاجِ الَّذِي بَهَرَهُمْ بِهِ وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُهُ ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَرْدًا وَسَلَامًا ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ إلَى الشَّامِ وَكَانَ أَهْلُ بَابِلَ وَإِقْلِيمِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالرُّومِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ إلى أيام بيوراسب الذي تسمه
الْعَرَبُ الضَّحَّاكَ وَإِنَّ أَفْرِيدُونَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ دنباوند اسْتَجَاشَ عَلَيْهِ بِلَادَهُ وَكَاتَبَ سَائِرَ مَنْ يُطِيعُهُ وَلَهُ قِصَصٌ طَوِيلَةٌ حَتَّى أَزَالَ مُلْكَهُ وَأَسَرَهُ وَجُهَّالُ الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ عِنْدَنَا يَزْعُمُونَ أَنَّ أَفْرِيدُونَ حَبَسَ بيوراسب فِي جَبَلٍ دنباوند الْعَالِي عَلَى الْجِبَالِ وَأَنَّهُ حَيٌّ هُنَاكَ مُقَيَّدٌ وَأَنَّ السَّحَرَةَ يَأْتُونَهُ هُنَاكَ فَيَأْخُذُونَ عَنْهُ السِّحْرَ وَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ فَيَغْلِبُ عَلَى الْأَرْضِ وَأَنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ الذي أخبر به النبي عليه السلام وحذرنا به وَأَحْسَبُهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْ الْمَجُوسِ وَصَارَتْ مَمْلَكَةُ إقْلِيمِ بَابِلَ لِلْفُرْسِ فَانْتَقَلَ بَعْضُ مُلُوكِهِمْ إلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ فَاسْتَوْطَنُوهَا وَلَمْ يَكُونُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ بَلْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ مُقِرِّينَ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُعَظِّمُونَ الْعَنَاصِرَ الْأَرْبَعَةَ الْمَاءَ وَالنَّارَ وَالْأَرْضَ وَالْهَوَاءَ لِمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعِ الْخَلْقِ وَأَنَّ بِهَا قِوَامُ الْحَيَوَانِ وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْمَجُوسِيَّةَ فِيهِمْ بَعْد ذَلِكَ فِي زَمَانِ كشتاسب حِينَ دَعَاهُ زَرَادُشْتُ فَاسْتَجَابَ لَهُ عَلَى شرائط وأمور يطول شرحها وإنما غرضنا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِبَانَةَ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ سَحَرَةُ بَابِلَ وَلَمَّا ظَهَرَتْ الْفُرْسُ عَلَى هَذَا الْإِقْلِيمِ كَانَتْ تَتَدَيَّنُ بِقَتْلِ السَّحَرَةِ وَإِبَادَتِهَا وَلَمْ يَزُلْ ذَلِكَ فِيهِمْ وَمِنْ دِينِهِمْ بَعْدَ حُدُوثِ الْمَجُوسِيَّةِ فِيهِمْ وَقَبْلَهُ إلَى أَنْ زَالَ عَنْهُمْ الْمُلْكُ وَكَانَتْ عُلُومُ أَهْلِ بَابِل قَبْلَ ظُهُورِ الْفُرْسِ عَلَيْهِمْ الْحِيَلَ والنيرنجيات وَأَحْكَامِ النُّجُومِ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ أَوْثَانًا قَدْ عَمِلُوهَا عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَجَعَلُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا هَيْكَلًا فِيهِ صَنَمُهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهَا بِضُرُوبٍ مِنْ الْأَفْعَالِ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادَاتِهِمْ مِنْ مُوَافَقَةِ ذَلِكَ لِلْكَوْكَبِ الَّذِي يَطْلُبُونَ مِنْهُ بِزَعْمِهِمْ فِعْلَ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَمَنْ أَرَادَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ بِزَعْمِهِ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ الْمُشْتَرَى مِنْ الدَّخَنِ الرقى وَالْعَقْدِ وَالنَّفْثِ عَلَيْهَا وَمَنْ طَلَبِ شَيْئًا مِنْ الشَّرِّ وَالْحَرْبِ وَالْمَوْتِ وَالْبَوَارِ لِغَيْرِهِ تَقَرَّبَ بِزَعْمِهِ إلَى زُحَلَ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ أَرَادَ الْبَرْقَ وَالْحَرْقَ وَالطَّاعُونَ تَقَرَّبَ بِزَعْمِهِ إلَى الْمِرِّيخِ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ ذَبْحِ(1/53)
بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ وَجَمِيعُ تِلْكَ الرُّقَى بِالنَّبَطِيَّةِ تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْظِيمُ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ إلَى مَا يُرِيدُونَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَمَحَبَّةٍ وَبُغْضٍ فَيُعْطِيهِمْ مَا شَاءُوا مِنْ ذَلِكَ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا فِي غَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرٍ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُلَامَسَةٍ سِوَى مَا قَدَّمُوهُ مِنْ الْقُرُبَاتِ لِلْكَوْكَبِ الَّذِي طَلَبُوا ذَلِكَ مِنْهُ فَمِنْ الْعَامَّةِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا أَوْ كَلْبًا ثُمَّ إذَا شَاءَ أَعَادَهُ وَيَرْكَبُ الْبَيْضَةَ وَالْمِكْنَسَةَ وَالْخَابِيَةَ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَيَمْضِي مِنْ الْعِرَاقِ إلَى الْهِنْدِ وَإِلَى مَا شَاءَ مِنْ الْبُلْدَانِ ثُمَّ يَرْجِعُ مِنْ لَيْلَتِهِ وَكَانَتْ عَوَامُّهُمْ تَعْتَقِدُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَكُلُّ مَا دَعَا إلَى تَعْظِيمِهَا اعْتَقَدُوهُ وكانت الساحرة تَحْتَالُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِحِيَلٍ تُمَوِّهُ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ إلَى اعْتِقَاد صِحَّتِهِ بِأَنْ يَزْعُمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يَبْلُغُ مَا يُرِيدُ إلَّا مَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا يَقُولُونَ وَلَمْ تَكُنْ مُلُوكُهُمْ تَعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ بَلْ كَانَتْ السَّحَرَةُ عِنْدَهَا بِالْمَحَلِّ الْأَجَلِ لِمَا كَانَ لَهَا فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ مِنْ مَحِلِّ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَلِأَنَّ الْمُلُوكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ تَعْتَقِدُ مَا تَدَّعِيهِ السَّحَرَةُ لِلْكَوَاكِبِ إلَى أَنْ زَالَتْ تِلْكَ الْمَمَالِكُ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاس فِي زَمَنِ فِرْعَوْنَ كَانُوا يَتَبَارَوْنَ بِالْعِلْمِ وَالسِّحْرِ والحبل والمحاريق وَلِذَلِكَ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَصَا وَالْآيَاتِ الَّتِي عَلِمَتْ السَّحَرَةُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السِّحْرِ فِي شَيْءٍ وَأَنَّهَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا زَالَتْ تِلْكَ الْمَمَالِكُ وَكَانَ مَنْ مُلْكِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ يَطْلُبُونَهُمْ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَتْلِهِمْ وَكَانُوا يَدْعُونَ عَوَامَّ النَّاسِ وَجُهَّالَهُمْ سِرًّا كَمَا يَفْعَلُهُ السَّاعَةَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ مَعَ النِّسَاءِ والأحداث الأغمار وَالْجُهَّالِ الْحَشْوَ وَكَانُوا يَدْعُونَ مَنْ يَعْمَلُونَ لَهُ ذَلِكَ إلَى تَصْدِيقِ قَوْلِهِمْ وَالِاعْتِرَافِ بِصِحَّتِهِ وَالْمُصَدِّقُ لَهُمْ بِذَلِكَ يَكْفُرُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدِهَا التَّصْدِيقُ بوجوب تعظيم الْكَوَاكِبَ وَتَسْمِيَتِهَا آلِهَةً وَالثَّانِي اعْتِرَافُهُ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ تَقْدِرُ عَلَى ضَرِّهِ وَنَفْعِهِ وَالثَّالِثُ أَنَّ السَّحَرَةَ تَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَبَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِمْ مَلَكَيْنِ يُبَيِّنَانِ لِلنَّاسِ حَقِيقَةَ مَا يَدَّعُونَ وَبُطْلَانَ مَا يَذْكُرُونَ وَيَكْشِفَانِ لَهُمْ مَا بِهِ يُمَوِّهُونَ وَيُخْبِرَانِهِمْ بِمَعَانِي تِلْكَ الرُّقَى وَأَنَّهَا شِرْكٌ وَكُفْرٌ وَبِحِيَلِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إلَى التَّمْوِيهِ عَلَى الْعَامَّةِ وَيُظْهِرُونَ لَهُمْ حَقَائِقَهَا وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ قَبُولِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا بِقَوْلِهِ [إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ] فَهَذَا أَصْلُ سِحْرِ بَابِلَ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانُوا
يَسْتَعْمِلُونَ سَائِرَ وُجُوهِ السِّحْرِ وَالْحِيَلِ الَّتِي نَذْكُرُهَا وَيُمَوِّهُونَ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ وَيَعِزُّونَهَا إلَى فِعْلِ الْكَوَاكِبِ لِئَلَّا يَبْحَثَ(1/54)
عَنْهَا وَيُسَلِّمَهَا لَهُمْ فَمِنْ ضُرُوبِ السِّحْرِ كَثِيرٌ مِنْ التَّخْيِيلَاتِ الَّتِي مَظْهَرُهَا عَلَى خِلَافِ حَقَائِقِهَا فَمِنْهَا مَا يَعْرِفهُ النَّاسُ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهَا وَظُهُورِهَا وَمِنْهَا مَا يَخْفَى وَيَلْطُفُ وَلَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَمَعْنَى بَاطِنِهِ إلَّا مَنْ تَعَاطَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ عِلْمٍ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ وَظَاهِرٍ وَغَامِضٍ فَالْجَلِيُّ مِنْهُ يَعْرِفُهُ كُلُّ مَنْ رَآهُ وَسَمِعَهُ مِنْ الْعُقَلَاءِ وَالْغَامِضُ الْخَفِيُّ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَهْلُهُ ومن تعاطى معرفته وتكلف فعله البحث عَنْهُ وَذَلِكَ نَحْوُ مَا يَتَخَيَّلُ رَاكِبُ السَّفِينَةِ إذَا سَارَتْ فِي النَّهْرِ فَيَرَى أَنَّ الشَّطَّ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ النَّخْلِ وَالْبُنْيَانِ سَائِرٌ مَعَهُ وَكَمَا يَرَى الْقَمَرَ فِي مَهَبِّ الشَّمَالِ يَسِيرُ لِلْغَيْمِ فِي مَهَبِّ الْجَنُوبِ وَكَدَوَرَانِ الدَّوَّامَةِ فِيهَا الشَّامَةِ فَيَرَاهَا كَالطَّوْقِ الْمُسْتَدِيرِ فِي أَرْجَائِهَا وَكَذَلِكَ يَرَى هَذَا فِي الرَّحَى إذَا كَانَتْ سَرِيعَةَ الدَّوْرَانِ وَكَالْعُودِ فِي طَرَفِهِ الْجَمْرَةُ إذَا أَدَارَهُ مديره رأى إذا تِلْكَ النَّارَ الَّتِي فِي طَرَفِهِ كَالطَّوْقِ الْمُسْتَدِيرِ وَكَالْعِنَبَةِ الَّتِي يَرَاهَا فِي قَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ كَالْخَوْخَةِ وَالْإِجَّاصَةِ عَظْمًا وَكَالشَّخْصِ الصَّغِيرِ يَرَاهُ فِي الضَّبَابِ عَظِيمًا جَسِيمًا وَكَبُخَارِ الْأَرْضِ الَّذِي يُرِيك قُرْصَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا عَظِيمًا فَإِذَا فَارَقَتْهُ وَارْتَفَعَتْ صَغُرَتْ وَكَمَا يُرَى الْمُرَدَّى فِي الْمَاءِ مُنْكَسِرًا أَوْ مُعْوَجًّا وَكَمَا يُرَى الْخَاتَمُ إذَا قَرَّبْته مِنْ عَيْنِك فِي سَعَةِ حَلْقَةِ السِّوَارِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُتَخَيَّلُ عَلَى غَيْرِ حَقَائِقِهَا فَيَعْرِفُهَا عَامَّةُ النَّاسِ وَمِنْهَا مَا يَلْطُفُ فَلَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ تَعَاطَاهُ وَتَأَمَّلَهُ كَخَيْطِ السَّحَّارَةِ الَّذِي يَخْرُجُ مَرَّةً أَحْمَرَ وَمَرَّةً أَصْفَرَ وَمَرَّةً أَسْوَدَ وَمِنْ لَطِيفِ ذَلِكَ وَدَقِيقِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْوِذُونَ مِنْ جِهَةِ الْحَرَكَات وإظهار التخيلات الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ حَقَائِقِهَا حَتَّى يُرِيك عُصْفُورًا مَعَهُ أَنَّهُ قَدْ ذَبَحَهُ ثُمَّ يُرِيكَهُ وَقَدْ طَارَ بَعْدَ ذَبْحِهِ وَإِبَانَةِ رَأْسِهِ وَذَلِكَ لِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ وَالْمَذْبُوحُ غَيْرُ الَّذِي طَارَ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ اثْنَانِ قَدْ خَبَّأَ أَحَدَهُمَا وَأَظْهَرَ الآخر ويخبأ لِخِفَّةِ الْحَرَكَةِ الْمَذْبُوحَ وَيُظْهِرُ الَّذِي نَظِيرُهُ وَيُظْهِرُ أَنَّهُ قَدْ ذَبَحَ إنْسَانًا وَأَنَّهُ قَدْ بَلَعَ سيفا معه وَأَدْخَلَهُ فِي جَوْفِهِ وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ حَقِيقَةٌ وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحَرَكَات لِلصُّوَرِ الْمَعْمُولَةِ مِنْ صُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيَرَى فَارِسَيْنِ يَقْتَتِلَانِ فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيَنْصَرِفُ بِحِيَلٍ قَدْ أُعِدَّتْ لِذَلِكَ وَكَفَارِسٍ مِنْ صُفْرٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنْ النَّهَارِ ضَرَبَ بِالْبُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ وَلَا يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرَ الْكَلْبِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْجُنْدِ خَرَجَ بِبَعْضِ نَوَاحِي الشَّامِ مُتَصَيِّدًا وَمَعَهُ كَلْبٌ لَهُ وَغُلَامٌ فَرَأَى ثَعْلَبًا فَأَغْرَى بِهِ الْكَلْبَ فَدَخَلَ الثَّعْلَبُ ثُقْبًا فِي تَلٍّ هُنَاكَ وَدَخَلَ الْكَلْبُ خَلْفَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ فَأَمَرَ الْغُلَامَ أَنْ يَدْخُلَ فَدَخَلَ وانتظره(1/55)
صَاحِبُهُ فَلَمْ يَخْرُجْ فَوَقَفَ مُتَهَيِّئًا لِلدُّخُولِ فَمَرَّ بِهِ رَجُل فَأَخْبَرَهُ بِشَأْنِ الثَّعْلَبِ وَالْكَلْبِ وَالْغُلَامِ وَأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَمْ يَخْرُجْ وَأَنَّهُ مُتَأَهِّبٌ لِلدُّخُولِ فَأَخَذَ الرَّجُلُ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ إلَى هُنَاكَ فَمَضَيَا إلَى سِرْبٍ طَوِيلٍ حَتَّى أَفْضَى بِهِمَا إلَى بَيْتٍ قَدْ فُتِحَ لَهُ ضَوْءٌ مِنْ مَوْضِعٍ يُنْزَلُ إلَيْهِ بِمِرْقَاتَيْنِ فَوَقَفَ بِهِ عَلَى الْمِرْقَاةِ الْأُولَى حَتَّى أَضَاءَ الْبَيْتَ حِينًا ثُمَّ قَالَ لَهُ اُنْظُرْ فَنَظَرَ فَإِذَا الْكَلْبُ وَالرَّجُلُ وَالثَّعْلَبُ قَتْلَى وَإِذَا فِي صَدْرِ الْبَيْتِ رَجُلٌ وَاقِفٌ مُقَنَّعٌ فِي الْحَدِيدِ وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ أَتَرَى هَذَا لَوْ دَخَلَ إلَيْهِ هَذَا الْمَدْخَلَ أَلْفُ رِجْلٍ لَقَتَلَهُمْ كُلَّهُمْ فَقَالَ وَكَيْفَ قَالَ لِأَنَّهُ قَدْ رُتِّبَ وَهُنْدِمَ عَلَى هَيْئَةٍ مَتَى وَضَعَ الْإِنْسَانُ رِجْلَهُ عَلَى الْمِرْقَاةِ الثَّانِيَةِ لِلنُّزُولِ تَقَدَّمَ الرَّجُلُ الْمَعْمُولُ فِي الصَّدْرِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ فَإِيَّاكَ أَنْ تَنْزِلْ إلَيْهِ فَقَالَ فَكَيْفَ الْحِيلَةُ فِي هَذَا قَالَ يَنْبَغِي أَنْ تَحْفِرْ مِنْ خَلْفِهِ سَرَبًا يُفْضِي بِك إلَيْهِ فَإِنْ وَصَلَتْ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ لَمْ يَتَحَرَّك فَاسْتَأْجَرَ الْجُنْدِيُّ أُجَرَاءَ وَصُنَّاعًا حَتَّى حَفَرُوا سَرَبًا مِنْ خَلْف التَّلِّ فَأَفْضَوْا إلَيْهِ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ وَإِذَا رَجُل مَعْمُولٌ مِنْ صُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ قَدْ أُلْبِسَ السِّلَاحُ وَأُعْطِيَ السَّيْفُ فَقَلَعَهُ وَرَأَى بَابًا آخَرَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ فَفَتَحَهُ فَإِذَا هُوَ قَبْرٌ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ مَيِّتٍ عَلَى سَرِيرِ هُنَاكَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَمِنْهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُصَوِّرُهَا مصوروا الرُّومِ وَالْهِنْدِ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَهَا وَمَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عِلْمٌ أَنَّهَا صُورَةٌ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهَا إنْسَانٌ وَحَتَّى تَصَوُّرُهَا ضَاحِكَةً أَوْ بَاكِيَةً وَحَتَّى يُفَرَّقَ فِيهَا بَيْنَ الضَّحِكِ مِنْ الْخَجَلِ
وَالسُّرُورِ وَضَحِكِ الشَّامِتِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أُمُورِ التَّخَايِيلِ وَخَفِيِّهَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ جَلِيِّهَا وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْن مِنْ هَذَا الضَّرْبِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ حِيَلِهِمْ فِي الْعِصِيِّ وَالْحِبَالِ وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ بَابِلَ فِي الْقَدِيمِ وَسِحْرِهِمْ وَوُجُوهِ حِيَلِهِمْ بَعْضُهُ سَمِعْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ وَبَعْضُهُ وَجَدْنَاهُ فِي الْكُتُبِ قَدْ نُقِلَتْ حَدِيثًا مِنْ النَّبَطِيَّةِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا كِتَابٌ فِي ذِكْرِ سِحْرِهِمْ وَأَصْنَافِهِ وَوُجُوهِهِ وَكُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ قُرْبَانَاتٍ الْكَوَاكِبِ وَتَعْظِيمِهَا وَخُرَافَاتٍ مَعَهَا لَا تُسَاوِي ذِكْرَهَا وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ السِّحْرِ وَهُوَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ حَدِيثِ الجن والشياطين وطاعتهم لَهُمْ بِالرُّقَى وَالْعَزَائِمِ وَيَتَوَصَّلُونَ إلَى مَا يُرِيدُونَ مِنْ ذَلِكَ بِتَقْدِمَةِ أُمُورٍ وَمُوَاطَأَةِ قَوْمٍ قَدْ أَعَدُّوهُمْ لِذَلِكَ وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ يَجْرِي أَمْرُ الْكُهَّانِ مِنْ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتْ أَكْثَرُ مخارق الحلاج من باب الموطآت وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَا يَحْتَمِلُ اسْتِقْصَاءَ ذَلِكَ لَذَكَرْت مِنْهَا(1/56)
مَا يُوقِفُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَخَارِيقِهِ وَمَخَارِيقِ أَمْثَالِهِ وَضَرَرُ أَصْحَابِ الْعَزَائِمِ وَفِتْنَتِهِمْ عَلَى النَّاسِ غَيْرُ يَسِيرٍ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَى النَّاسِ مِنْ بَابِ أَنَّ الْجِنَّ إنَّمَا تُطِيعُهُمْ بِالرُّقَى الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِذَلِكَ مَنْ شَاءُوا وَيُخْرِجُونَ الْجِنَّ لِمَنْ شَاءُوا فَتُصَدِّقُهُمْ الْعَامَّةُ عَلَى اغْتِرَارٍ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنْ انْقِيَادِ الْجِنِّ لَهُمْ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي كَانَتْ تُطِيعُ بِهَا سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَهُمْ بِالْخَبَايَا وَبِالسُّرُقِ وَقَدْ كَانَ الْمُعْتَضِدُ بِاَللَّهِ مَعَ جَلَالَتِهِ وَشَهَامَتِهِ وَوُفُورِ عَقْلِهِ اغْتَرَّ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ التَّوَارِيخِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي دَارِهِ الَّتِي كَانَ يَخْلُو فِيهَا بِنِسَائِهِ وَأَهْلِهِ شَخْصٌ فِي يَدِهِ سَيْفٌ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَكْثَرُهُ وَقْتُ الظُّهْرِ فَإِذَا طُلِبَ لَمْ يُوجَدْ وَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوقَفْ لَهُ عَلَى أَثَرٍ مَعَ كَثْرَةِ التَّفْتِيشِ وَقَدْ رَآهُ هُوَ بِعَيْنِهِ مِرَارًا فَأَهَمَّتْهُ نَفْسُهُ وَدَعَا بِالْمُعَزِّمِينَ فَحَضَرُوا وَأَحْضَرُوا مَعَهُمْ رِجَالًا وَنِسَاءً وَزَعَمُوا أَنَّ فِيهِمْ مَجَانِينَ وَأَصِحَّاءَ فَأَمَرَ بَعْضَ رُؤَسَائِهِمْ بِالْعَزِيمَةِ فَعَزَّمَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا فَجُنَّ وَتَخَبَّطَ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ هَذَا غَايَةُ الْحِذْقِ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ إذْ أَطَاعَتْهُ الْجِنُّ فِي تَخْبِيطِ الصَّحِيحِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ العزم بِمُوَاطَأَةٍ مِنْهُ لِذَلِكَ الصَّحِيحِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى عَزَّمَ عَلَيْهِ جَنَّنَ نَفْسَهُ وَخَبَّطَ فَجَازَ ذَلِكَ على المتعضد فَقَامَتْ نَفْسُهُ مِنْهُ وَكَرِهَهُ إلَّا أَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِ الشَّخْصِ الَّذِي يَظْهَرُ فِي دَارِهِ فمخرقوا عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ عَلَّقُوا قَلْبَهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلٍ لِشَيْءِ مِنْ أَمْرِ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ فَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ وَأَمَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ حَضَرَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِم ثُمَّ تَحَرَّزَ الْمُعْتَضِدُ بِغَايَةِ مَا أَمْكَنَهُ وَأَمَرَ بِالِاسْتِيثَاقِ مِنْ سُورِ الدَّارِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ حِيلَةٌ مِنْ تَسَلُّقٍ ونحوه وبطحت في أعلى السور خواب لِئَلَّا يَحْتَالَ بِإِلْقَاءِ الْمَعَالِيقِ الَّتِي يَحْتَالُ بِهَا اللُّصُوصُ ثُمَّ لَمْ يُوقَفْ لِذَلِكَ الشَّخْصِ عَلَى خَبَرٍ إلَّا ظُهُورُهُ لَهُ الْوَقْتَ بَعْدَ الْوَقْتَ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ الْمُعْتَضِدُ وَهَذِهِ الْخَوَابِي الْمَبْطُوحَةُ عَلَى السُّورِ وَقَدْ رَأَيْتهَا عَلَى سُوَرِ الثُّرَيَّا الَّتِي بَنَاهَا الْمُعْتَضِدُ فَسَأَلْت صَدِيقًا لِي كَانَ قَدْ حَجَبَ لِلْمُقْتَدِرِ بِاَللَّهِ عَنْ أَمْرِ هَذَا الشَّخْصِ وَهَلْ تَبَيَّنَ أَمْرُهُ فَذَكَرَ لِي أَنَّهُ لَمْ يُوقَفْ عَلَى حَقِيقَةِ هَذَا الْأَمْرِ إلَّا فِي أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ كَانَ خَادِمًا أَبْيَضَ يُسَمَّى يَقِقْ وَكَانَ يَمِيلُ إلَى بَعْضِ الْجَوَارِي اللَّاتِي فِي دَاخِلِ دُورِ الْحَرَمِ وَكَانَ قَدْ اتَّخَذَ لِحًى عَلَى أَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَكَانَ إذَا لَبِسَ بَعْضَ تِلْكَ اللِّحَى لَا يَشُكُّ مَنْ رَآهُ أَنَّهَا لِحْيَتُهُ وَكَانَ يَلْبَسُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ لِحْيَةً مِنْهَا وَيَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَفِي يَدِهِ سَيْف أَوْ غَيْرُهُ مِنْ السِّلَاحِ حَيْثُ يَقَعُ نَظَرُ الْمُعْتَضِدِ فَإِذَا طُلِبَ دَخَلَ بَيْنَ(1/57)
الشَّجَرِ الَّذِي فِي الْبُسْتَانِ أَوْ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَمَرَّاتِ أَوْ الْعَطَفَاتِ فَإِذَا غَابَ عَنْ أَبْصَارِ طَالِبِيهِ نَزَعَ اللِّحْيَةَ وَجَعَلَهَا فِي كُمِّهِ أو حزته وَيَبْقَى السِّلَاحُ مَعَهُ كَأَنَّهُ بَعْضُ الْخَدَمِ الطَّالِبِينَ لِلشَّخْصِ وَلَا يَرْتَابُونَ بِهِ وَيَسْأَلُونَهُ هَلْ رَأَيْت فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ أَحَدًا فَإِنَّا قَدْ رَأَيْنَاهُ صَارَ إلَيْهَا فَيَقُولُ مَا رَأَيْت أَحَدًا وَكَانَ إذَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْفَزَعِ فِي الدَّارِ خَرَجَتْ الْجَوَارِي مِنْ دَاخِلِ الدُّورِ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَيَرَى هُوَ تِلْكَ الْجَارِيَةَ وَيُخَاطِبُهَا بِمَا يريد وإنما كان غرضه مشاهدة الجارية وَكَلَامَهَا فَلَمْ يَزُلْ دَأْبُهُ إلَى أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْبُلْدَانِ وَصَارَ إلَى طَرَسُوسَ وَأَقَامَ بِهَا إلَى أَنْ مَاتَ
وَتَحَدَّثَتْ الْجَارِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَدِيثِهِ وَوُقِفَ عَلَى احْتِيَالِهِ فَهَذَا خَادِمٌ قَدْ احْتَالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَهْتَدِ لَهَا أَحَدٌ مَعَ شِدَّةِ عناية المعتضد به وَأَعْيَاهُ مَعْرِفَتُهَا وَالْوُقُوفُ عَلَيْهَا وَلَمْ تَكُنْ صِنَاعَتُهُ الْحِيَلَ وَالْمَخَارِيقَ فَمَا ظَنُّك بِمَنْ قَدْ جَعَلَ هَذَا صِنَاعَةً وَمَعَاشًا وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ السِّحْرِ وَهُوَ السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ وَالْوِشَايَةِ بِهَا وَالْبَلَاغَاتُ وَالْإِفْسَادِ وَالتَّضْرِيبِ مِنْ وُجُوهٍ خَفِيَّةٍ لَطِيفَةٍ وَذَلِكَ عَامٌّ شَائِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً أَرَادَتْ إفْسَادَ مَا بَيْنَ زَوْجَيْنِ فَصَارَتْ إلَى الزَّوْجَةِ فَقَالَتْ لَهَا إنَّ زَوْجَك مُعْرِضٌ وَقَدْ سُحِرَ وَهُوَ مَأْخُوذٌ عَنْك وَسَأَسْحَرُهُ لَك حَتَّى لَا يُرِيدَ غَيْرَك وَلَا يَنْظُرَ إلَى سِوَاك وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ تَأْخُذِي مِنْ شَعْرٍ حَلَقَهُ بِالْمُوسَى ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ إذَا نَامَ وَتُعْطِينِيهَا فَإِنَّ بِهَا يَتِمُّ الْأَمْرُ فَاغْتَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِقَوْلِهَا وَصَدَّقَتْهَا ثُمَّ ذَهَبَتْ إلَى الرَّجُلِ وَقَالَتْ لَهُ إنَّ امْرَأَتَك قَدْ عَلَّقَتْ رَجُلًا وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى قَتْلِك وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا فَأَشْفَقْت عَلَيْك وَلَزِمَنِي نُصْحُك فَتَيَقَّظْ وَلَا تَغْتَرَّ فَإِنَّهَا عَزَمَتْ عَلَى ذَلِكَ بِالْمُوسَى وَسَتَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهَا فَمَا فِي أَمْرِهَا شَكٌّ فَتَنَاوَمَ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا ظَنَّتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ نَامَ عَمَدَتْ إلَى مُوسَى حَادٍّ وَهَوَتْ بِهِ لِتَحْلِقَ مِنْ حَلْقِهِ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَفَتَحَ الرَّجُلُ عَيْنَهُ فَرَآهَا وَقَدْ أَهْوَتْ بِالْمُوسَى إلَى حَلْقِهِ فَلَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّهَا أَرَادَتْ قَتْلَهُ فَقَامَ إلَيْهَا فَقَتَلَهَا وَقُتِلَ وَهَذَا كَثِيرٌ لَا يُحْصَى وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ السِّحْرِ وَهُوَ الِاحْتِيَالُ فِي إطْعَامِهِ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلِّدَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْعَقْلِ وَالدُّخَنِ الْمُسَدِّرَةِ الْمُسْكِرَةِ نَحْوُ دِمَاغِ الْحِمَار إذَا طَعِمَهُ إنْسَانٌ تَبَلَّدَ عَقْلُهُ وَقَلَّتْ فِطْنَتُهُ مَعَ أَدْوِيَةٍ كَثِيرَةٍ هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الطِّبِّ وَيَتَوَصَّلُونَ إلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي طَعَامٍ حَتَّى يَأْكُلَهُ فَتَذْهَبَ فِطْنَتُهُ وَيَجُوزَ عليه أشياء مما لو كان نام الْفِطْنَةِ لَأَنْكَرَهَا فَيَقُولُ النَّاسُ إنَّهُ مَسْحُورٌ وَحِكْمَةٌ كَافِيَةٌ تُبَيِّنُ لَك أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَخَارِيقُ وَحِيَلٌ لَا حَقِيقَةَ لِمَا يَدَّعُونَ لَهَا أَنَّ(1/58)
الساحر والمعزم لو قدرا على ما أدعيا مِنْ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي يَدَّعُونَ وَأَمْكَنَهُمَا الطَّيَرَانُ وَالْعِلْمُ بِالْغُيُوبِ وَأَخْبَارِ الْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ وَالْخَبِيئَاتِ وَالسُّرُقِ وَالْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ مِنْ غَيْرِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَقَدَرُوا عَلَى إزَالَةِ الْمَمَالِكِ وَاسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ وَالْغَلَبَةِ عَلَى الْبُلْدَانِ بِقَتْلِ الْمُلُوكِ بِحَيْثُ لَا يَبْدَأهُمْ مَكْرُوهٌ وَلَمَا مَسَّهُمْ السُّوءُ وَلَا امْتَنَعُوا عَمَّنْ قَصَدَهُمْ بِمَكْرُوهٍ وَلَاسْتَغْنَوْا عَنْ الطَّلَبِ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَكَانَ الْمُدَّعُونَ لِذَلِكَ أَسْوَأَ النَّاسِ حَالًا وَأَكْثَرَهُمْ طَمَعًا وَاحْتِيَالًا وَتَوَصُّلًا لِأَخْذِ دَرَاهِمِ النَّاسِ وَأَظْهَرَهُمْ فَقْرًا وَإِمْلَاقًا عَلِمْت أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ على شيء من ذلك ورؤساء الحشو وَالْجُهَّالُ مِنْ الْعَامَّةِ مِنْ أَسْرَعِ النَّاسِ إلَى التَّصْدِيقِ بِدَعَاوَى السَّحَرَةِ وَالْمُعَزِّمِينَ وَأَشَدِّهِمْ نَكِيرًا عَلَى مَنْ جَحَدَهَا وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارًا مُفْتَعَلَةً مُتَخَرِّصَةً يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا كَالْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوُونَ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عَائِشَةَ فَقَالَتْ إنِّي سَاحِرَةٌ فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ فَقَالَتْ وَمَا سِحْرُك قَالَتْ سِرْت إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِبَابِلَ لِطَلَبِ عِلْمِ السِّحْرِ فَقَالَا لِي يَا أَمَةَ اللَّهِ لَا تَخْتَارِي عَذَابَ الْآخِرَةِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا فَأَبَيْت فَقَالَا لِي اذْهَبِي فَبُولِي عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ فَذَهَبْت لِأَبُولَ عَلَيْهِ فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَقُلْت لَا فَعَلْت وَجِئْت إلَيْهِمَا فَقُلْت قَدْ فَعَلْت فَقَالَا مَا رَأَيْت فَقُلْت مَا رَأَيْت شيئا فقالا ما فعلت اذْهَبِي فَبُولِي عَلَيْهِ فَذَهَبْت وَفَعَلْت فَرَأَيْت كَأَنَّ فَارِسًا قَدْ خَرَجَ مِنْ فَرْجِي مُقَنَّعًا بِالْحَدِيدِ حَتَّى صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ فَجِئْتهمَا فَأَخْبَرْتهمَا فَقَالَا ذَلِكَ إيمَانُك خَرَجَ عَنْك وَقَدْ أَحْسَنْت السِّحْرَ فَقُلْت وَمَا هُوَ فَقَالَا لَا تُرِيدِينَ شَيْئًا فتصورينه وَهْمِك إلَّا كَانَ فَصَوَّرْت فِي نَفْسِي حَبًّا مِنْ حِنْطَةٍ فَإِذَا أَنَا بِالْحَبِّ فَقُلْت لَهُ انْزَرِعْ فَانْزَرَعَ وَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ سُنْبِلَا فَقُلْت لَهُ انْطَحَنَ وَانْخَبِزْ إلَى آخَرِ الْأَمْرِ حَتَّى صَارَ خُبْزًا وَإِنِّي كُنْت لَا أُصَوِّرُ فِي نَفْسِي شَيْئًا إلَّا كَانَ فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ لَيْسَتْ لَك تَوْبَةٌ فَيَرْوِي الْقُصَّاصُ وَالْمُحَدِّثُونَ الْجُهَّالُ مِثْلَ هَذَا لِلْعَامَّةِ فَتُصَدِّقُهُ وَتَسْتَعِيدُهُ وَتَسْأَلُهُ أَنْ يُحَدِّثَهَا بِحَدِيثِ سَاحِرَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ فَيَقُولُ لَهَا إنَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ أَخَذَ سَاحِرَةً فَأَقَرَّتْ لَهُ بِالسِّحْرِ فَدَعَا الْفُقَهَاءَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ حُكْمِهَا فَقَالُوا الْقَتْلُ فَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ لَسْت أَقْتُلُهَا إلَّا تغريقا قال فأخذ رحى البزر فَشَدَّهَا فِي رِجْلِهَا وَقَذَفَهَا فِي الْفُرَاتِ فَقَامَتْ فَوْقَ الْمَاءِ مَعَ الْحَجَرِ فَجَعَلَتْ تَنْحَدِرُ مَعَ الماء فخافوا أن نفوتهم فَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ مَنْ يُمْسِكُهَا وَلَهُ كَذَا وَكَذَا فَرَغِبَ رَجُلٌ مِنْ السَّحَرَةِ كَانَ حَاضِرًا فِيمَا بِذَلَهُ فَقَالَ
أَعْطَوْنِي قَدَحَ زُجَاجٍ فِيهِ ماء فجاؤه بِهِ فَقَعَدَ عَلَى الْقَدَحِ وَمَضَى إلَى الْحَجَرِ فشق الحجر(1/59)
بِالْقَدَحِ فَتَقَطَّعَ الْحَجَرُ قِطْعَةً قِطْعَةً فَغَرِقَتْ السَّاحِرَةُ فَيُصَدِّقُونَهُ وَمَنْ صَدَّقَ هَذَا فَلَيْسَ يَعْرِفُ النُّبُوَّةَ ولا يأمن أَنْ تَكُونَ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا سَحَرَةً وَقَالَ اللَّهُ تعالى [وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى] وَقَدْ أَجَازُوا مِنْ فِعْلِ السَّاحِرِ مَا هُوَ أَطَمُّ مِنْ هَذَا وَأَفْظَعُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُحِرَ وَأَنَّ السِّحْرَ عَمِلَ فِيهِ حَتَّى قَالَ فِيهِ إنَّهُ يُتَخَيَّلُ لِي أَنِّي أَقُولُ الشَّيْءَ وَأَفْعَلُهُ وَلَمْ أَقُلْهُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ وَأَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً سَحَرْته فِي جُفِّ طَلْعَةٍ وَمُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا سَحَرَتْهُ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ وَهُوَ تَحْتَ رَاعُوفَةِ الْبِئْرِ فَاسْتُخْرِجَ وَزَالَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْعَارِضُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُكَذِّبًا لِلْكُفَّارِ فِيمَا ادَّعَوْهُ من ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ [وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً] ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تعليا بالحشوا الطَّغَامِ وَاسْتِجْرَارًا لَهُمْ إلَى الْقَوْلِ بِإِبْطَالِ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالْقَدْحِ فِيهَا وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُعْجِزَات الْأَنْبِيَاءِ وَفِعْلِ السَّحَرَةِ وَأَنَّ جَمِيعَهُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَجْمَعُ بَيْنَ تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَإِثْبَاتِ مُعْجِزَاتِهِمْ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ فِعْلِ السَّحَرَةِ مَعَ قَوْله تَعَالَى [وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى] فَصَدَّقَ هَؤُلَاءِ مَنْ كَذَّبَهُ اللَّهُ وَأَخْبَرَ بِبُطْلَانِ دَعْوَاهُ وَانْتِحَالِهِ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْيَهُودِيَّةُ بِجَهْلِهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهَا بِأَنَّ ذَلِكَ يَعْمَلُ فِي الْأَجْسَادِ وَقَصَدَتْ بِهِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى مَوْضِعِ سِرِّهَا وَأَظْهَرَ جَهْلَهَا فِيمَا ارْتَكَبَتْ وَظَنَّتْ لِيَكُونَ ذَلِكَ من دلائل نبوته لا أن ذَلِكَ ضَرَّهُ وَخَلَطَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَلَمْ يَقُلْ كُلُّ الرُّوَاةِ إنَّهُ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَإِنَّمَا هَذَا اللَّفْظُ زِيدَ فِي الْحَدِيثِ وَلَا أَصْلَ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ التَّخْيِيلَاتِ أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ هِيَ عَلَى حَقَائِقِهَا وَبَوَاطِنُهَا كَظَوَاهِرِهَا وَكُلَّمَا تَأَمَّلْتهَا ازْدَدْت بَصِيرَةً فِي صِحَّتِهَا وَلَوْ جَهَدَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى مُضَاهَاتِهَا وَمُقَابِلَتِهَا بِأَمْثَالِهَا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْهَا وَمَخَارِيقُ السَّحَرَةِ وَتَخْيِيلَاتُهُمْ إنَّمَا هِيَ ضَرْبٌ مِنْ الْحِيلَةِ وَالتَّلَطُّفِ لِإِظْهَارِ أُمُورٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَمَا يَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ وَالْبَحْثِ وَمَتَى شاء شَاءَ أَنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ بَلَغَ فِيهِ مَبْلَغَ غَيْرِهِ وَيَأْتِي بِمِثْلِ مَا أَظْهَرَهُ سِوَاهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى السِّحْرِ وَحَقِيقَتِهِ مَا يَقِفُ النَّاظِرُ عَلَى جُمْلَتِهِ وَطَرِيقَتِهِ وَلَوْ اسْتَقْصَيْنَا ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ لَطَالَ وَاحْتَجْنَا إلَى اسْتِئْنَافِ كِتَابٍ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ(1/60)
فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَيَانُ مَعْنَى السِّحْرِ وَحُكْمِهِ وَالْآنَ حَيْثُ انْتَهَى بِنَا الْقَوْلُ إلَى ذِكْرِ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ حُكْمِهِ وَمَا يَجْرِي عَلَى مُدَّعِي ذَلِكَ مِنْ الْعُقُوبَات عَلَى حَسَبِ مَنَازِلِهِمْ فِي عِظَمِ الْمَأْثَمِ وكثرة الفساد والله أعلم بالصواب.
بَابُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ وَقَوْلِ السَّلَف فِيهِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ الضَّبِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَجَاءَ قَالَ أَخْبَرَنَا إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ هُبَيْرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا أَوْ سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ الله عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ جَارِيَةً لِحَفْصَةَ سَحَرَتْهَا فَوَجَدُوا سِحْرَهَا وَاعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ فَأَمَرَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ فَقَتَلَهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَأَنْكَرَهُ فَأَتَاهُ ابْنُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ أَمْرَهَا وَكَانَ عُثْمَانُ إنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا قُتِلَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَذَكَرَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بن دينار أنه سمع بحالة يَقُولُ كُنْت كَاتِبًا لِجُزَيِّ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَأَتَى كِتَابُ عُمَرَ أَنْ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ وَرَوَى أَبُو عَاصِمٍ عَنْ الْأَشْعَثِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ يُقْتَلُ السَّاحِرُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَرَوَى الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَ سَاحِرًا فَدَفَنَهُ إلَى صَدْرِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَالِمِ بن أبى الجعد قال كان قيس ابن سَعْدٍ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ فَجَعَلَ يَفْشُو سِرَّهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا الَّذِي يُفْشِي سِرِّي فَقَالُوا ساحر هاهنا فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ إذَا نَشَرْت الْكِتَابَ عَلِمْنَا مَا فِيهِ فَأَمَّا مَا دَامَ مَخْتُومًا فَلَيْسَ نَعْلَمُهُ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ
وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّ هَؤُلَاءِ الْعَرَّافِينَ كُهَّانُ الْعَجَمِ فَمَنْ أَتَى كَاهِنًا يُؤْمِنُ لَهُ بِمَا يَقُولُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَرَوَى مُبَارَكٌ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ جُنْدُبًا قَتَلَ سَاحِرًا وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقْتَلُ سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَحَرَهُ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ أَعْصِمَ وَامْرَأَةٌ مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ فَلَمْ يَقْتُلْهُمَا وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ يُقْتَلُ السَّاحِرُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ السَّاحِرِ وَنَصَّ بَعْضُهُمْ عَلَى كُفْرِهِ وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي حُكْمِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي السَّاحِرِ يُقْتَلُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إنِّي أَتْرُكُ السِّحْرَ وَأَتُوبُ منه(1/61)
فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ وَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَوَصَفُوا ذَلِكَ بِصِفَةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ قُتِلَ وَلَا يُسْتَتَابُ وَإِنَّ أَقَرَّ فَقَالَ كُنْت أَسْحَرُ وَقَدْ تَرَكْت مُنْذُ زَمَانٍ قُبِلَ مِنْهُ وَلَمْ يُقْتَلْ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً سَاحِرًا وَأَنَّهُ تَرَكَ مُنْذُ زَمَانٍ لَمْ يُقْتَلْ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ السَّاعَةَ سَاحِرٌ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ فَيُقْتَلُ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَالْحُرُّ الذِّمِّيُّ مَنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ فَيُقْتَلُ وَلَا يُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ شُهِدَ عَلَى عَبْدٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَوَصَفُوا ذَلِكَ بِصِفَةِ يُعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ لم يقبل تَوْبَتُهُ وَيَقْتُل وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ أَوْ الذِّمِّيُّ أَنَّهُ كَانَ سَاحِرًا وَتَرَكَ ذَلِكَ مُنْذُ زَمَانٍ قبل ذلك منه وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً سَاحِرًا وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ السَّاعَةَ سَاحِرٌ لَمْ يُقْتَلْ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهَا أَنَّهَا سَاحِرَةٌ أَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ لَمْ تُقْتَلْ وَحُبِسَتْ وَضُرِبَتْ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ لَهُمْ تَرْكُهَا لِلسِّحْرِ وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا سَاحِرَةٌ أَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ لَمْ تُقْتَلْ وَحُبِسَتْ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْهَا تَرْكُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ ابْنُ شُجَاعٍ فَحَكَمَ فِي السَّاحِرِ وَالسَّاحِرَةِ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ إلَّا أَنْ يَجِيءَ فَيُقِرَّ بِالسِّحْرِ أَوْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ عَمِلَهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الثَّبَاتِ عَلَى الرِّدَّةِ وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الرَّازِيّ قَالَ سَأَلْت أَبَا يُوسُفَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّاحِرِ يُقْتَلُ ولا يستتاب لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ فَقَالَ السَّاحِرُ قَدْ جَمَعَ مَعَ كُفْرِهِ السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَالسَّاعِي بِالْفَسَادِ إذَا قَتَلَ قُتِلَ قَالَ فَقُلْت لِأَبِي يُوسُفَ مَا السَّاحِرُ قَالَ الَّذِي يُقْتَصُّ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مِثْلُ مَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ إذَا أَصَابَ بِهِ قَتْلًا فَإِذَا لَمْ يُصِبْ بِهِ قَتْلًا لَمْ يُقْتَلْ لِأَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ إذْ كَانَ لَمْ يُصِبْ بِهِ قَتْلًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَ بَيَانُ مَعْنَى السِّحْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْقَتْلَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَقَدَ فِي السِّحْرِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَشْوُ مِنْ إيصَالِهِمْ الضَّرَرَ إلَى الْمَسْحُورِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا سَقْيِ دَوَاءٍ وَجَائِزٌ أن يكون سحر اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلم عَلَى جِهَةِ إرَادَتِهِمْ التَّوَصُّلَ إلَى قَتْلِهِ بِإِطْعَامِهِ وأطلعه الله على ما أردوا كَمَا سَمَّتْهُ زَيْنَبُ الْيَهُودِيَّةُ فِي الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ فَأَخْبَرَتْهُ الشَّاةُ بِذَلِكَ فَقَالَ إنَّ هَذِهِ الشَّاةَ لَتُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُسْلِمِ إذَا تَوَلَّى عَمَلَ السِّحْرِ قُتِلَ وَلَا يُسْتَتَابُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا ارْتَدَّ بَاطِنًا لَمْ تُعْرَفْ تَوْبَتُهُ بِإِظْهَارِهِ الْإِسْلَامَ قَالَ إسماعيل ابن إِسْحَاقَ فَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ مَالِكٍ إلَّا أَنْ يَضُرَّ الْمُسْلِمِينَ فيقتل(1/62)
لِنَقْضِ الْعَهْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا قَالَ السَّاحِرُ أَنَا أَعْمَلُ عَمَلًا لِأَقْتُلَ فَأُخْطِئُ وَأُصِيبُ وَقَدْ مَاتَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ عَمَلِي فَفِيهِ الدِّيَةُ وَإِنْ قَالَ عَمَلِي يَقْتُلُ الْمَعْمُولَ بِهِ وَقَدْ تَعَمَّدْت قَتْلَهُ قُتِلَ بِهِ قَوَدًا وَإِنْ قَالَ مرض منه ولم يمت أقسم أوليائه لَمَاتَ مِنْهُ ثُمَّ تَكُونُ الدِّيَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَجْعَلْ الشَّافِعِيُّ السَّاحِرَ كَافِرًا بِسِحْرِهِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ جَانِيًا كَسَائِرِ الْجُنَاةِ وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ بِاسْتِحْقَاقِ سِمَةِ السِّحْرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ كَافِرًا وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ خارج عن قول جميعهم يَعْتَبِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَتْلَهُ لِغَيْرِهِ بِعَمَلِهِ السِّحْرَ فِي إيجَابِ قَتْلِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مَعَانِي السِّحْرِ وَضُرُوبَهُ وَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ سِحْرِ أَهْلِ بَابِلَ فِي الْقَدِيمِ وَمَذَاهِبِ الصَّابِئِينَ فِيهِ وَهُوَ
الذي ذكر اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ [وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ] فِيمَا يُرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنَّ الْقَائِلَ بِهِ وَالْمُصَدِّقَ بِهِ وَالْعَامِلَ بِهِ كَافِرٌ وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عِنْدِي إنَّهُ لَا يُسْتَتَابُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ السِّحْرِ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا نظير قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ هُوَ السِّحْرُ الَّذِي نَسَبَهُ عَامِلُوهُ إلَى النُّجُومِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ سِحْرِ أَهْلِ بَابِل وَالصَّابِئِينَ لِأَنَّ سَائِرَ ضُرُوبِ السِّحْرِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالنُّجُومِ عِنْدَ أَصْحَابِهَا وَالثَّانِي أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ السِّحْرِ الْمَذْمُومِ يَتَنَاوَلُ هَذَا الضرب منه وهذا يدل على أن التعارف عِنْدَ السَّلَفِ مِنْ السِّحْرِ هُوَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْهُ وَمِمَّا يَدَّعِي فِيهِ أَصْحَابُهَا الْمُعْجِزَاتِ وَإِنْ لَمْ يُعَلِّقُوا ذَلِكَ بِفِعْلِ النُّجُومِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِقَتْلِ فَاعِلِهِ إذْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِيهِ بَيْنَ عَامِلِ السِّحْرِ بِالْأَدْوِيَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالسِّعَايَةِ وَالشَّعْوَذَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّ هَذِهِ الضُّرُوبَ مِنْ السَّحَرِ لَا تُوجِبُ قَتْلَ فَاعِلهَا إذَا لَمْ يَدَّعِ فِيهِ مُعْجِزَةً لَا يُمْكِنُ الْعِبَادَ فِعْلُهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إيجَابَهُمْ قَتْلَ السَّاحِرِ إنَّمَا كَانَ لِمَنْ ادَّعَى بِسِحْرِهِ مُعْجِزَاتٍ لَا يَجُوزُ وُجُودُ مِثْلِهَا إلَّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِمْ وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ مِنْ سِحْرِ أَهْلِ بَابِل وَالْآخَرُ مَا يَدَّعِيهِ الْمُعَزِّمُونَ وَأَصْحَابُ النيرنجيات مِنْ خِدْمَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ وَالْفَرِيقَانِ جَمِيعًا كَافِرَانِ أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ فِي(1/63)
سِحْرِهِ تَعْظِيمَ الْكَوَاكِبِ وَاعْتِقَادَهَا آلِهَةً وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي فَلِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَرِفَةً بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا حَيْثُ أَجَازَتْ أَنْ تُخْبِرَهَا الْجِنُّ بِالْغُيُوبِ وَتَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِ فُنُونِ الْحَيَوَانِ وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فَقَدْ جَوَّزَتْ وُجُودَ مِثْلِ أَعْلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعَ الْكَذَّابِينَ الْمُتَخَرِّصَيْنِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِدْقَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لِتَجْوِيزِهِ كَوْنَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْلَامِ مَعَ غَيْرِهِمْ فَلَا يَأْمَنُ من أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ مُتَخَرِّصًا كَذَّابًا فَإِنَّمَا كُفْرُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ جَهْلُهُ بِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ الَّذِي رَأَتْ الصَّحَابَةُ قَتْلَهُ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ مِنْهُمْ عَنْ حَالِهِ وَلَا بَيَانٍ لِمَعَانِي سِحْرِهِ أَنَّهُ السَّاحِرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى [يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ] وَهُوَ السَّاحِرُ الَّذِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ عِنْدَ ذِكْرِنَا ضُرُوبَ السِّحْرِ وَهُوَ سِحْرُ أَهْلِ بَابِلَ فِي الْقَدِيمِ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَغْلَبَ الْأَعَمَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْ يَتَعَاطَى سَائِرَ ضُرُوبِ السَّحَر الَّذِي ذَكَرْنَا وَكَانُوا يَجْرُونَ فِي دَعْوَاهُمْ الْإِخْبَارَ بِالْغُيُوبِ وَتَغْيِيرِ صُوَرِ الْحَيَوَانِ عَلَى مِنْهَاجِ سَحَرَةِ بَابِلَ وَكَذَلِكَ كُهَّانُ الْعَرَبِ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ اسْمُ الْكُفْرِ لِظُهُورِ هَذِهِ الدَّعَاوَى مِنْهُمْ وَتَجْوِيزِهِمْ مُضَاهَاةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مُعْجِزَاتِهِمْ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مَعْنَى السِّحْرِ عِنْدَ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ إيجَابُ قَتْلِ السَّاحِرِ مِنْ طَرِيقِ الْجِنَايَةِ عَلَى النُّفُوسِ بَلْ إيجَابُ قَتْلِهِ بِاعْتِقَادِهِ عَمَلَ السِّحْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ مِنْهُمْ لِجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْوِذُونَ وَأَصْحَابُ الْحَرَكَاتِ وَالْخِفَّةِ بِالْأَيْدِي وَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِسَقْيِ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلِّدَةِ لِلْعَقْلِ أَوْ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ وَمَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ السَّعْيِ بِالنَّمَائِمِ وَالْوِشَايَةِ وَالتَّضْرِيبِ وَالْإِفْسَادِ فَإِنَّهُمْ إذَا اعْتَرَفُوا بِأَنَّ ذَلِكَ حِيَلٌ وَمَخَارِيقُ حُكْمُ مَنْ يَتَعَاطَى مِثْلَهَا مِنْ النَّاس لَمْ يَكُنْ كَافِرًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدَّبَ وَيُزْجَرَ عَنْ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مُسْتَحِقٌّ لِاسْمِ الكفر قوله تعالى [وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ] أَيْ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ المفسرين وقوله تتلوا مَعْنَاهُ تُخْبِرُ وَتَقْرَأُ ثُمَّ قَوْله تَعَالَى [وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَادَّعَتْهُ مِنْ السِّحْرِ عَلَى سُلَيْمَانَ كَانَ كُفْرًا فَنَفَاهُ اللَّهُ عَنْ سُلَيْمَانَ وَحَكَمَ بِكُفْرِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ تَعَاطَوْهُ وَعَمِلُوهُ ثُمَّ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى [وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ(1/64)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ]
فَأَخْبَرَ عَنْ الْمَلَكَيْنِ أَنَّهُمَا يَقُولَانِ لِمَنْ يُعَلِّمَانِهِ ذَلِكَ لَا تَكْفُرْ بِعَمَلِ هَذَا السِّحْرِ وَاعْتِقَادِهِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ إذَا عُمِلَ بِهِ واعتقده ثُمَّ قَالَ [وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمْ مِنْ اسْتَبْدَلَ السِّحْرَ بِدِينِ الله ماله فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ يَعْنِي مِنْ نَصِيبٍ
ثُمَّ قَالَ [وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ] فَجَعَلَ ضِدَّ هَذَا الْإِيمَانِ فِعْلَ السِّحْرِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِيمَانَ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِ السِّحْرِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ وَإِذَا ثَبَتَ كُفْرُهُ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ قد ظهر منه الإسلام في وقت كفره بِفِعْلِ السِّحْرِ فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)
وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا خَالَفَهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ عَنْهُ إنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي فَرْقِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ السَّاحِرِ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّينَ فَإِنَّ السَّاحِرَ قَدْ جَمَعَ إلَى كُفْرِهِ السَّعْيَ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَإِنْ قَالَ قَائِلُ فَأَنْتَ لَا تَقْتُلُ الْخُنَّاقَ وَالْمُحَارِبِينَ إلَّا إذَا قَتَلُوا فَهَلَّا قُلْتَ مِثْلَهُ فِي السَّاحِرِ قِيلَ لَهُ يَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَنَّاقَ وَالْمُحَارِبَ لَمْ يَكْفُرَا قَبْلَ الْقَتْلِ وَلَا بَعْدَهُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّا الْقَتْلَ إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُمَا سَبَبٌ يَسْتَحِقَّانِ بِهِ الْقَتْلَ وَأَمَّا السَّاحِرُ فَقَدْ كَفَرَ بِسِحْرِهِ قَتَلَ بِهِ أَوْ لَمْ يَقْتُلْ فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ بِكُفْرِهِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَعَ كُفْرِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ كَانَ وُجُوبُ قَتْلِهِ حَدًّا فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ كَالْمُحَارِبِ إذَا اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ لَمْ يَسْقُطْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ مُشْبِهٌ لِلْمُحَارِبِ الَّذِي قَتَلَ فِي أَنَّ قَتْلَهُ حد لَا تُزِيلُهُ عَنْهُ التَّوْبَةُ وَيُفَارِقَ الْمُرْتَدَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ بِإِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَحَسْبُ فَمَتَى انْتَقَلَ عَنْهُ زَالَ عَنْهُ الْكُفْرُ وَالْقَتْلُ وَلِمَا وَصَفْنَا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ السَّاحِرِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُحَارِبِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْإِسْلَامِ فِيمَا يَسْتَحِقُّونَهُ بِالْمُحَارَبَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ تُقْتَلْ الْمَرْأَةُ السَّاحِرَةُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ عِنْدَهُمْ لَا تُقْتَلُ حَدًّا وَإِنَّمَا تُقْتَلُ قَوَدًا وَوَجْهٌ آخَرُ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَرْكِ اسْتِتَابَةِ السَّاحِرِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُف فِي نَوَادِرَ ذَكَرَهَا عَنْهُ أَدْخَلَهَا فِي أَمَالِيهِ عَلَيْهِمْ قَالَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ اُقْتُلُوا الزِّنْدِيقَ سِرًّا فَإِنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُعْرَفُ وَلَمْ يَحْكِ أَبُو يُوسُف خِلَافَهُ وَيَصِحُّ بِنَاءُ مَسْأَلَةِ السَّاحِرِ عَلَيْهِ لِأَنَّ السَّاحِرَ يَكْفُرُ سِرًّا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزِّنْدِيقِ فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَلَ(1/65)
السَّاحِرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّ كُفْرَهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ لِأَجْلِ الْكُفْرِ قِيلَ لَهُ الْكُفْرُ الَّذِي أَقْرَرْنَاهُ عَلَيْهِ هُوَ مَا أَظْهَرَهُ لَنَا وَأَمَّا الْكُفْرُ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ بِسِحْرِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُقَرٍّ عَلَيْهِ وَلَمْ نُعْطِهِ الذِّمَّةَ عَلَى إقْرَارِهِ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَأَلَنَا إقْرَارَهُ عَلَى السِّحْرِ بِالْجِزْيَةِ لَمْ نُجِبْهُ إلَيْهِ وَلَمْ نُجِزْ إقْرَارَهُ عَلَيْهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاحِرِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَأَيْضًا فَلَوْ أَنَّ الذِّمِّيَّ السَّاحِرَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَتْلَ بِكُفْرِهِ لَاسْتَحَقَّهُ بِسَعْيِهِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ كَالْمُحَارِبِينَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَقَوْلُهُمْ فِي تَرْكِ قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ يُوجِبُ أَنْ لَا يُسْتَتَابَ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَسَائِرُ الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ قَدْ عُلِمَ مِنْهُمْ اعْتِقَادُ الْكُفْرِ كَسَائِرِ الزَّنَادِقَةِ وَأَنْ يَقْتُلُوا مَعَ إظْهَارهمْ التَّوْبَةَ وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ السَّاحِرِ مَا
حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ قَانِعٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مسلم عن الحسن ابن جندب أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ)
وَقِصَّةُ جُنْدُبٍ فِي قَتْلِهِ السَّاحِرَ بِالْكُوفَةِ عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ مَشْهُورَةٌ
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ)
قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُ قَتْلِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ حَدٌّ لَا يُزِيلُهُ التَّوْبَةُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ إذَا وَجَبَتْ وَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَتْلِهِ عَلَى وَجْهِ قَتْلِ الْمُحَارِبِ قَالُوا فِيمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ إنَّهُ إذَا قَالَ كنت ساحرا وقد ثبت أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ كَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا وَجَاءَ تَائِبًا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُحَارِبِينَ [إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] فَاسْتَثْنَى التَّائِبَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ وَيُسْتَدَلُّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى [إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً] إلَى آخِرِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ السَّاحِرِ حَدًّا لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ لِعَمَلِهِ السِّحْرَ وَاسْتِدْعَائِهِ النَّاسَ إلَيْهِ وَإِفْسَادِهِ إيَّاهُمْ مَعَ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ أَجْرَى السَّاحِرَ مَجْرَى الزِّنْدِيقِ فَلَمْ يَقْبَلْ تَوْبَتَهُ كَمَا لَا يَقْبَلُ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ وَلَمْ يَقْتُلْ سَاحِرَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ بِكُفْرِهِ وَقَدْ أَقْرَرْنَاهُ عَلَيْهِ فَلَا يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ فَيَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ فَيُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ الْحَرْبِيُّ وَقَدْ بَيَّنَّا مُوَافَقَةَ السَّاحِرِ الذِّمِّيِّ لِلزِّنْدِيقِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ اسْتَحْدَثَ كُفْرًا سِرًّا لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ بِجِزْيَةِ وَلَا غَيْرِهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاحِرِ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُحَارِبِ فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُنْتَحِلِي الذِّمَّةِ وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ(1/66)
بَيَّنَّا خُرُوجَهُ عَنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَعْتَبِرْ قَتْلَهُ بِسِحْرِهِ وَأَوْجَبُوا قَتْلَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِحُصُولِ الِاسْمِ لَهُ وَهُوَ مَعَ ذلك لا يخلوا مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي ذِكْرِهِ قَتْلَ السَّاحِرِ بِغَيْرِهِ إمَّا أَنْ يُجِيزَ عَلَى السَّاحِرِ قَتْلَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ وَلَا اتِّصَالِ سَبَبٍ إلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَدَّعِيهِ السَّحَرَةُ وَذَلِكَ فَظِيعٌ شَنِيعٌ وَلَا يُجِيزُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ فِعْلِ السَّحَرَةِ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ مُضَاهَاتِهِ أَعْلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَوْ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ سَقْيِ الْأَدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ كَانَ هَذَا أَرَادَ فَإِنَّ مِنْ احْتَالَ فِي إيصَالِ دَوَاءٍ إلَى إنْسَانٍ حَتَّى شَرِبَهُ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ دِيَةٌ إذْ كَانَ هُوَ الشَّارِبَ لَهُ وَالْجَانِيَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَنْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ سَيْفًا فقتل به نفسه وإن كان إنما أو جره إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لِشُرْبِهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَقَعُ إلَّا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالنَّوْمِ وَنَحْوِهِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا يَسْتَوِي فِيهِ السَّاحِرُ وَغَيْرُهُ ثُمَّ قَوْلُهُ إذَا قَالَ السَّاحِرُ قَدْ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ وَقَدْ مَاتَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ عَمَلِي فَفِيهِ الدِّيَةُ فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا بِحَدِيدَةِ قَدْ يَمُوتُ الْمَجْرُوحُ مِنْ مِثْلِهِ وَقَدْ لَا يَمُوتُ لَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ الْقِصَاصُ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى قَوْلِهِ إيجَابَ الْقِصَاصِ كَمَا يَجِبُ فِي الْحَدِيدَةِ وَقَوْلُهُ قَدْ يَمُوتُ وَقَدْ لَا يَمُوتُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي زَوَالِ الْقِصَاصِ لِوُجُودِهَا فِي الْجَارِحِ بِحَدِيدَةٍ بَعْدَ أَنْ يُقِرَّ السَّاحِرُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ مِنْ عَمَلِهِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالضَّرْبِ بِالْعَصَا وَاللَّطْمَةِ الَّتِي قَدْ تَقْتُلُ وَقَدْ لَا تَقْتُلُ قِيلَ لَهُ وَلِمَ صَارَ بِالْقَتْلِ بِالْعَصَا وَاللَّطْمَةِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْحَدِيدَةِ فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا سِلَاحٌ وَذَاكَ لَيْسَ بِسِلَاحِ لَزِمَهُ فِي كُلِّ مَا لَيْسَ بِسِلَاحِ أَنْ لَا يُقْتَصَّ مِنْهُ وَيَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ اعْتِبَارُ السِّلَاحِ دُونَ غَيْرِهِ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ قَالَ مَرِضَ مِنْهُ وَلَمْ يَمُتْ أَقْسَمَ أَوْلِيَاؤُهُ لَمَاتَ مِنْهُ مُخَالِفٌ فِي النَّظَرِ لِأَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ لِأَنَّ مَنْ جَرَحَ رَجُلًا فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ لَزِمَهُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ وَكَانَ مَحْكُومًا بِحُدُوثِ الْمَوْتِ عِنْدَ الْجِرَاحَةِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى أَيْمَانِ الْأَوْلِيَاءِ فِي مَوْتِهِ مِنْهَا فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي السَّاحِرِ إذَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَسْحُورَ مَرِضَ مِنْ سِحْرِهِ فَإِنْ قِيلَ كَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْمَرِيضِ مِنْ الْجِرَاحَةِ إذَا لَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ أَنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا لَمْ يُحْكَمْ بِالْقَتْلِ حَتَّى يُقْسِمَ أَوْلِيَاءُ الْمَجْرُوحِ قِيلَ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ مِثْلَهُ لَوْ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ وَوَالَى بَيْنَ الضَّرْبِ حَتَّى قَتَلَهُ مِنْ سَاعَتِهِ فَقَالَ الْجَارِحُ مَاتَ مِنْ عِلَّةٍ كَانَتْ بِهِ قَبْلَ الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ قَالَ اخْتَرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَمُتْ مِنْ ضَرْبَتِي أَنْ تُقْسِمَ الْأَوْلِيَاءُ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ وَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا قال(1/67)
أَبُو بَكْرٍ قَدْ تَكَلَّمْنَا فِي مَعْنَى السِّحْرِ واختلاف الفقهاء بما فيه كفاية فِي حُكْمِ السَّاحِرِ وَنَتَكَلَّمُ الْآنَ فِي مَعَانِي الْآيَةِ وَمُقْتَضَاهَا فَنَقُولُ إنَّ قَوْله تَعَالَى [وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ] فَقَدْ
رُوِيَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ المراد به اليهود الذين كانوا في زمن سليمان ابن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَفِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ جريح وَابْنِ إِسْحَاقَ وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ المراد به اليهود الذين كانوا في زمن سُلَيْمَانَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ الْجَمِيعَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مُتَّبِعِي السِّحْرِ مِنْ الْيَهُودِ لَمْ يَزَالُوا مُنْذُ عَهْدِ سُلَيْمَانَ إلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ نبيه محمّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَصَفَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا الْقُرْآنَ وَنَبَذُوهُ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بأنهم اتبعوا ما تتلوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ يُرِيدُ شَيَاطِينَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَمَعْنَى تَتْلُو تُخْبِرُ وَتَقْرَأُ وَقِيلَ تَتْبَعُ لِأَنَّ التَّالِيَ تَابِعٌ وَقَوْلُهُ [عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ] قِيلَ فِيهِ عَلَى عَهْدِهِ وَقِيلَ فِيهِ عَلَى مُلْكِهِ وَقِيلَ فِيهِ تَكْذِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْخَبَرُ كَذِبًا قِيلَ تَلَا عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ صِدْقًا قِيلَ تَلَا عَنْهُ وَإِذَا أُبْهِمَ جَازَ فِيهِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] وَكَانَتْ الْيَهُودُ تُضِيفُ السِّحْرَ إلَى سُلَيْمَانَ وَتَزْعُمُ أَنَّ مُلْكَهُ كَانَ بِهِ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ بَعْضُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ نَبِيًّا وَاَللَّهِ مَا كَانَ إلَّا سَاحِرًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى [وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ] وَقِيلَ إنَّ الْيَهُودَ إنَّمَا أَضَافَتْ السِّحْرَ إلَى سُلَيْمَانَ تَوَصُّلًا مِنْهُمْ إلَى قَبُولِ النَّاسِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَلِتُجَوِّزهُ عَلَيْهِمْ وَكَذَبُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَقِيلَ إنَّ سُلَيْمَانَ جَمَعَ كُتُبَ السِّحْرِ وَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ أَوْ فِي خِزَانَتِهِ لِئَلَّا يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَلَمَّا مَاتَ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَقَالَتْ الشَّيَاطِينُ بِهَذَا كَانَ يَتِمُّ مُلْكُهُ وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ وَقَبِلَتْهُ وَأَضَافَتْهُ إلَيْهِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الشَّيَاطِينُ دَفَنُوا السِّحْرَ تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ فِي حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ فَلَمَّا مَاتَ وَظَهَرَ نَسَبُوهُ إلَى سُلَيْمَانَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُونَ لِذَلِكَ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ اسْتَخْرَجُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَوْهَمُوا النَّاس أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُوهِمُوهُمْ وَيَخْدَعُوهُمْ بِهِ قَوْله تَعَالَى [وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ] قَدْ قُرِئَ بِنَصْبِ اللَّامِ وَخَفْضِهَا فَمَنْ قَرَأَهَا بِنَصْبِهَا جَعَلَهُمَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ قَرَأَهَا بِخَفْضِهَا جَعَلَهُمَا مِنْ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الضحاك أنهما كان عِلْجَيْنِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ وَالْقِرَاءَتَانِ(1/68)
صَحِيحَتَانِ غَيْرُ مُتَنَافِيَتَيْنِ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْزَلَ مَلَكَيْنِ فِي زَمَنِ هَذَيْنِ الْمَلِكَيْنِ لِاسْتِيلَاءِ السِّحْرِ عَلَيْهِمَا وَاغْتِرَارِهِمَا وَسَائِرِ النَّاسِ بِقَوْلِهِمَا وَقَبُولِهِمْ مِنْهُمَا فَإِذَا كَانَ الْمَلَكَانِ مَأْمُورَيْنِ بِإِبْلَاغِهِمَا وَتَعْرِيفِهِمَا وَسَائِرِ النَّاسِ مَعْنَى السِّحْرِ وَمَخَارِيقِ السَّحَرَةِ وَكُفْرِهَا جَازَ أَنْ نَقُولَ فِي إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ وما أنزل على الملكين اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ بِأَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ وَنَقُولُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ مِنْ النَّاسِ لِأَنَّ الْمَلِكَيْنِ كَانَا مَأْمُورَيْنِ بِإِبْلَاغِهِمَا وَتَعْرِيفِهِمَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي خِطَابِ رَسُولِهِ [وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا] فأضاف الإنزال تارة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم وَتَارَةً إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَلَكَيْنِ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَا مَأْمُورَيْنِ بِتَعْرِيفِ الْكَافَّةِ لِأَنَّ الْعَامَّةَ كَانَتْ تَبَعًا لِلْمَلِكَيْنِ فَكَانَ أَبْلَغُ الْأَشْيَاءِ فِي تَقْرِيرِ مَعَانِي السِّحْرِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى بُطْلَانِهِ تَخْصِيصَ الْمَلِكَيْنِ بِهِ لِيَتْبَعَهُمَا النَّاسُ كَمَا قَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ [اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى] وَقَدْ كَانَا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ رَسُولَيْنِ إلَى رَعَايَاهُ كَمَا أُرْسِلَا إلَيْهِ وَلَكِنَّهُ خَصَّهُ بِالْمُخَاطَبَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ فِي اسْتِدْعَائِهِ وَاسْتِدْعَاءِ رَعِيَّتِهِ إلَى الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ دُونَ رَعَايَاهُمَا وَإِنْ كَانَ رَسُولًا إلَى كَافَّةِ النَّاسِ لِمَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ تَبَعٌ لِلرَّاعِي وكذلك
قال صلّى الله عليه وسلم فِي كِتَابِهِ لِكِسْرَى (أَمَّا بَعْدُ فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ وَإِلَّا فَعَلَيْكَ إثْمُ الْمَجُوسِ)
وَقَالَ لِقَيْصَرَ (أَسْلِمْ تسلم وإلا فعليك إثم الأريسين)
يَعْنِي أَنَّك إذَا آمَنْتَ تَبِعَتْكَ الرَّعِيَّةُ وَإِنْ أَبَيْتَ لَمْ تَسْتَجِبْ الرَّعِيَّةُ إلَى الْإِسْلَامِ خَوْفًا مِنْك فَهُمْ تَبَعٌ لَك فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فَلِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ خَصَّ الْمَلِكَيْنِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ بِإِرْسَالِ الْمَلَكَيْنِ إلَيْهِمَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ] فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَلَائِكَةُ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ وَمُنَزَّلًا عَلَيْهِمْ قِيلَ لَهُ هَذَا جَائِزٌ شَائِعٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُرْسِلُ الْمَلَائِكَةَ بَعْضَهُمْ إلَى بَعْضٍ كَمَا يُرْسِلُهُمْ إلَى الْأَنْبِيَاءِ كَثَّفَ أَجْسَامَهُمْ وَجَعَلَهُمْ كَهَيْئَةِ بَنِي آدَمَ لِئَلَّا يَنْفِرُوا مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا] يَعْنِي هَيْئَةَ الرَّجُلِ وقَوْله تَعَالَى [يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ] مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ الْمَلَكَيْنِ لِيُبَيِّنَا لِلنَّاسِ مَعَانِي السِّحْرِ وَيَعْلَمُوهُمْ أَنَّهُ كُفْرٌ وَكَذِبٌ وَتَمْوِيهٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ حَتَّى يَجْتَنِبُوهُ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ سَائِرَ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ لِيَجْتَنِبُوهُ وَلَا يَأْتُوهُ فَلَمَّا كَانَ السِّحْرُ كُفْرًا وَتَمْوِيهًا وَخِدَاعًا وَكَانَ أَهْلُ ذَلِكَ(1/69)
الزَّمَانِ قَدْ اغْتَرُّوا بِهِ وَصَدَّقُوا السَّحَرَةَ فِيمَا ادَّعَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِهِ بَيَّنَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ عَلَى لِسَانِ هَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ لِيَكْشِفَا عَنْهُمْ غُمَّةَ الْجَهْلِ وَيَزْجُرَاهُمْ عَنْ الِاغْتِرَارِ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى [وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بَيَّنَّا سَبِيلَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِيَجْتَبِيَ الْخَيْرَ وَيَجْتَنِبَ الشَّرَّ وَكَمَا قِيلَ لِعُمَرَ ابن الْخَطَّابِ فُلَانٌ لَا يَعْرِفُ الشَّرَّ قَالَ أَجْدَرُ أَنْ يَقَعْ فِيهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ بَيَانِ مَعَانِي السِّحْرِ وَالزَّجْرِ عَنْهُ وَبَيْنَ بَيَانِ سَائِرِ ضُرُوبِ الْكُفْرِ وَتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَتَحْرِيم الزِّنَا وَالرِّبَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ لِمَا بَيَّنَّا فِي اجْتِنَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ كَهُوَ فِي بَيَانِ الْخَيْرِ إذْ لَا يَصِلْ إلَى فِعْلِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْم بِهِ كَذَلِكَ اجْتِبَاءُ الطَّاعَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ فَمِنْ حَيْثُ وَجَبَتْ وَجَبَ بَيَانُ الشَّرِّ لِيَجْتَنِبَهُ إذْ لَا يَصِلُ إلَى تَرْكِهِ وَاجْتِنَابِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَمِنْ النَّاس مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهُ [وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ] مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَذَبُوا عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ كَمَا كَذَبُوا عَلَى سُلَيْمَانَ وَأَنَّ السِّحْرَ الَّذِي يَتْلُوهُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَنْزِل عَلَيْهِمَا وزعم أن قوله تعالى [فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما] مَعْنَاهُ مِنْ السِّحْرِ وَالْكُفْرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ [وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا] يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ فَرَجَعَ الضَّمِيرُ إلَيْهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى [سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى] أَيْ يَتَجَنَّبُ الْأَشْقَى الذِّكْرَى قَالَ وَقَوْلُهُ [وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ] مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ لَا يُعَلِّمَانِ ذَلِكَ أَحَدًا وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَقْتَصِرَانِ عَلَى أَنْ لَا يُعَلِّمَاهُ حَتَّى يُبَالِغَا فِي نَهْيِهِ فَيَقُولَا [إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ] وَاَلَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ اسْتِنْكَارُهُ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ السِّحْرَ مَعَ ذَمِّهِ السِّحْرِ وَالسَّاحِرِ وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ لَا يُوجَبُ لِأَنَّ الْمَذْمُومَ مَنْ يَعْمَلُ بِالسِّحْرِ لَا من بينه لِلنَّاسِ وَيَزْجُرُهُمْ عَنْهُ كَمَا أَنَّ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ مِنْ النَّاسِ مَعْنَى السِّحْرِ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ وَيَنْهَاهُ عَنْهُ لِيَجْتَنِبَهُ وَهَذَا مِنْ الْفُرُوضِ الَّتِي أَلْزَمَنَا إيَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا رَأَيْنَا مِنْ اُخْتُدِعَ بِهِ وَتَمَوَّهَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ قَوْله تَعَالَى [إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ] فَإِنَّ الْفِتْنَةَ مَا يَظْهَرُ بِهِ حَالُ الشَّيْءِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ تَقُولُ الْعَرَبُ فَتَنْتُ الذَّهَبَ إذَا عَرَضْته عَلَى النَّارِ لِتَعْرِفَ سَلَامَتَهُ أَوْ غِشَّهُ وَالِاخْتِبَارُ كَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَالَ تَظْهَرُ فَتَصِيرُ كَالْمُخْبِرَةِ عَنْ نَفْسِهَا وَالْفِتْنَةُ الْعَذَابُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى [ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ] فَلَمَّا كَانَ الْمَلَكَانِ يُظْهِرَانِ حَقِيقَةَ السِّحْرِ وَمَعْنَاهُ قالا إنما نحن فتنة وقال قتادة إنما نحن فتنة بَلَاءٌ وَهَذَا سَائِغٌ أَيْضًا لِأَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ تعالى ورسله فتنته لِمَنْ أُرْسِلُوا إلَيْهِمْ لِيَبْلُوهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ إنَّا فِتْنَةٌ وَبَلَاءٌ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُمَا يُمْكِنُهُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي الشَّرِّ وَلَا يُؤْمَنُ(1/70)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
وُقُوعُهُ فِيهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِحْنَةً كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وقولهما فلا تكفر يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ السِّحْرِ كُفْرٌ لِأَنَّهُمَا يعلمانه إياه لئلا يعمل به لأنهما علماهما ما السحر وكيف الاحتيال ليجتنبه وَلِئَلَّا يُتِمُّوهُ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَيَبْطُلُ الِاسْتِدْلَال بِهَا وقَوْله تَعَالَى [فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ] يَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْمَلَ بِهِ السَّامِعُ فَيَكْفُرُ فَيَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ إذَا كَانَتْ مُسْلِمَةً بِالرِّدَّةِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَسْعَى بَيْنَهُمَا بِالنَّمِيمَةِ وَالْوِشَايَةِ وَالْبَلَاغَاتِ الْكَاذِبَةِ وَالْإِغْرَاءِ وَالْإِفْسَادِ وَتَمْوِيهِ الْبَاطِلِ حَتَّى يَظُنَّ أنه حق فيفارقها قوله تَعَالَى [وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ] الْإِذْنُ
هُنَا الْعِلْمُ فَيَكُونُ اسْمًا إذَا كَانَ مُخَفَّفًا وَإِذَا كَانَ مُحَرَّكًا كَانَ مَصْدَرًا كَمَا يَقُولُ حَذِرَ الرَّجُلُ حَذَرًا فَهُوَ حَذِرٌ فَالْحَذِرُ الإسم والحذر المصدر ويجوز أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ كَشَبَهٍ وَشِبْهٍ وَمَثَلٍ وَمِثْلٍ وَقِيلَ فِيهِ إِلا بِإِذْنِ الله أى تخليته أيضا وَقَالَ الْحَسَنُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْعَهُ فَلَمْ يَضُرَّهُ السِّحْرُ وَمَنْ شَاءَ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَضَرَّهُ قَوْله تَعَالَى [وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ] قِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ اسْتَبْدَلَ السِّحْرَ بِدِينِ اللَّهِ ماله فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَهُوَ النَّصِيبُ مِنْ الخير وقال الحسن ماله مِنْ دِينٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالسِّحْرِ وَقَبُولَهُ كُفْرٌ وَقَوْلُهُ [وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ] قِيلَ بَاعُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْت هَامَهْ
يَعْنِي بِعْته وَهَذَا أَيْضًا يُؤَكِّدُ أَنَّ قَبُولَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ كُفْرٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ [وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا] يقتضى ذَلِكَ أَيْضًا
قَوْله تَعَالَى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا] قَالَ قُطْرُبٌ هِيَ كَلِمَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ عَلَى وَجْهِ الْهُزْءِ وَقِيلَ إنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ [وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ] وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ عَنْ مُوَاطَأَةٍ بَيْنَهُمْ يُرِيدُونَ الهزء كما قال الله تعالى [وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ] لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ السَّامُّ عَلَيْكَ يُوهِمُونَ بِذَلِكَ أنهم يسلمون عليه فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك من أمرهم ونهى المسلمون أن يقولوا مثله وقوله راعنا وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الْمُرَاعَاةَ وَالِانْتِظَارَ فَإِنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ الْهُزْءَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي كَانَتْ الْيَهُودُ تُطْلِقُهُ نُهُوا عَنْ إطْلَاقِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الْمَعْنَى الْمَحْظُورِ إطْلَاقُهُ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الإطلاق مقتضيا(1/71)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
لِمَعْنَى الْهُزْءِ وَإِنْ احْتَمَلَ الِانْتِظَارَ وَمِثْلُهُ مَوْجُودٌ فِي اللُّغَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْوَعْدِ يُطْلَقُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا] وقال تعالى [ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ] وَمَتَى أُطْلِقَ عُقِلَ بِهِ الْخَيْرُ دُونَ الشَّرِّ فكذلك قوله راعنا فِيهِ احْتِمَالُ الْأَمْرَيْنِ وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَكُونُ بِالْهُزْءِ أَخُصَّ مِنْهُ بِالِانْتِظَارِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ احْتَمَلَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَغَيْرُ جَائِزٍ إطْلَاقُهُ حَتَّى يُقَيَّدَ بِمَا يُفِيدُ الْخَيْرَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهُزْءَ مَحْظُورٌ فِي الدِّينِ وَكَذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ هُوَ مَحْظُورٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَعَانِي كِتَابِهِ.
بَابُ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَذِكْرُ وُجُوهِ النَّسْخِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها] قَالَ قَائِلُونَ النَّسْخُ هُوَ الْإِزَالَةُ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ الْإِبْدَالُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ] أَيْ يُزِيلُهُ وَيُبْطِلُهُ وَيُبَدِّلُ مَكَانَهُ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ وَقِيلَ هُوَ النَّقْلُ مِنْ قَوْلِهِ [إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي مَوْضُوعِهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَمَهْمَا كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ فِي إطْلَاقِ الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ وَالنَّسْخُ قَدْ يَكُونُ فِي التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَيَكُونُ فِي الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ التِّلَاوَةِ دُونَ غَيْرِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي شَرِيعَةِ نَبِيّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ النَّسْخِ فَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ نَسْخُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالسَّبْتِ وَالصَّلَاةِ إلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَالَ لِأَنَّ نَبِيَّنَا صلّى الله عليه وسلم آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرِيعَتَهُ ثَابِتَةٌ بَاقِيَةٌ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ ذَا حَظٍّ مِنْ الْبَلَاغَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ غَيْرَ مَحْظُوظٍ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَكَانَ سَلِيمَ الِاعْتِقَادِ غَيْرَ مَظْنُونٍ بِهِ غَيْرَ ظَاهِرٍ أَمْرُهُ وَلَكِنَّهُ بَعُدَ مِنْ التَّوْفِيقِ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ إذْ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهَا أَحَدٌ بَلْ قَدْ عَقَلَتْ الْأُمَّةُ سَلَفَهَا وَخَلَفَهَا مِنْ دِينِ اللَّهِ وَشَرِيعَتِهِ نَسْخَ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِهِ وَنُقِلَ ذَلِكَ إلَيْنَا نَقْلًا لَا يَرْتَابُونَ بِهِ وَلَا يجيزون فيه التأويل كما عَقَلَتْ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ عَامًّا وَخَاصًّا وَمُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا فَكَانَ دَافِعُ وُجُودِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ كَدَافِعِ خَاصِّهِ وَعَامِّهِ وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ إذْ كَانَ وُرُودُ الْجَمِيعِ وَنَقْلُهُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَارْتَكَبَ هَذَا الرَّجُلُ فِي الْآيِ الْمَنْسُوخَةِ وَالنَّاسِخَةِ وَفِي أَحْكَامِهَا أُمُورًا خَرَجَ بِهَا عَنْ أَقَاوِيلِ الْأُمَّةِ مَعَ تَعَسُّفِ الْمَعَانِي وَاسْتِكْرَاهِهَا وَمَا أَدْرِي مَا الَّذِي أَلْجَأَهُ إلَى ذَلِكَ وَأَكْثَرُ ظَنِّي فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا أَتَى بِهِ مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِنَقْلِ النَّاقِلِينَ لِذَلِكَ وَاسْتِعْمَالِ رَأْيِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُ بِمَا قَدْ قَالَ السلف(1/72)
فِيهِ وَنَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ وَكَانَ مِمَّنْ
رُوِيَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فِي وُجُوهِ النَّسْخِ وَمَا يَجُوزُ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ بِمَا يُغْنِي وَيَكْفِي وأما [أَوْ نُنْسِها] قيل إنه من النسيان وننسأها مِنْ التَّأْخِيرِ يُقَالُ نَسَأَت الشَّيْءَ أَخَّرْته وَالنَّسِيئَةُ الدَّيْنُ الْمُتَأَخِّرُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ] يَعْنِي تَأْخِيرَ الشُّهُورِ فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ النِّسْيَانُ فَإِنَّمَا هُوَ أَنْ يُنْسِيَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى التِّلَاوَةَ حَتَّى لَا يَقْرَءُوا ذَلِكَ وَيَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يُؤْمَرُوا بِتَرْكِ تِلَاوَتِهِ فَيُنْسَوْهُ عَلَى الْأَيَّامِ وَجَائِزٌ أَنْ يَنْسَوْهُ دَفْعَةً وَيَرْفَعَ من أوهامهم ويكون ذلك معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلم وَأَمَّا مَعْنَى قِرَاءَةِ أَوْ نَنْسَأْهَا فَإِنَّمَا هُوَ بِأَنْ يُؤَخِّرَهَا فَلَا يُنَزِّلُهَا وَيُنَزِّلُ بَدَلًا مِنْهَا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْمُصْلِحَةِ أَوْ يَكُونُ أَصْلَحَ لِلْعِبَادِ مِنْهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤَخِّرَ إنْزَالَهَا إلَى وَقْتٍ يَأْتِي فَيَأْتِي بَدَلًا مِنْهَا لَوْ أَنْزَلَهَا فِي الْوَقْتِ الْمُتَقَدِّمِ فَيَقُومَ مَقَامَهَا فِي الْمُصْلِحَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ [نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها] فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ فِي التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ كَالْأَمْرِ بِأَنْ لَا يُوَلَّى وَاحِدٌ مِنْ عَشْرَةٍ فِي الْقِتَالِ ثم قال [الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ] أو مثلها كالأمر بالتوجه إلى الكعبة بعد ما كان إلى البيت الْمَقْدِسِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي الْوَقْتِ فِي كَثْرَةِ الصَّلَاحِ أَوْ مِثْلِهَا فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّ الْمُرَادَ خَيْرٌ لَكُمْ إمَّا فِي التَّخْفِيفِ أَوْ فِي الْمَصْلَحَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَيْرٌ مِنْهَا فِي التِّلَاوَةِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ إنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ فِي مَعْنَى التِّلَاوَة وَالنَّظْمِ إذْ جَمِيعُهُ مُعْجِزٌ كَلَامُ اللَّهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسَّنَةِ لِأَنَّ السَّنَةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَتْ لَا تَكُونُ خَيْرًا مِنْ الْقُرْآنِ وَهَذَا إغْفَالٌ مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ لِاسْتِوَاءِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي إعْجَازِ النَّظْمِ وَالْآخِرُ اتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ النَّظْمَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ إمَّا التَّخْفِيفُ أَوْ الْمَصْلَحَةِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَكُونُ بِالْقُرْآنِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ أَرَادَ التِّلَاوَةَ فَدَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِهِ بِهَا وَأَيْضًا فَإِنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ إنَّمَا تَقْتَضِي نَسْخَ التِّلَاوَةِ وَلَيْسَ لِلْحُكْمِ فِي الآية لأنه ذكر قال تعالى [ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ] وَالْآيَةُ إنَّمَا هِيَ اسْمٌ لِلتِّلَاوَةِ وَلَيْسَ فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ الْحُكْمِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا نَنْسَخْ مِنْ تِلَاوَةِ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ مِنْ مُحْكَمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ أَوْ غَيْرِهَا وَقَدْ(1/73)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَمَنْ أَرَادَهَا فَلْيَطْلُبْهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
قَوْله تَعَالَى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ] رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قال نسختها [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] وَحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قال حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بْنِ الْيَمَانِ قَالَ قُرِئَ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى [لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ] وقوله تعالى [وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ] وقوله تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ] وقَوْله تَعَالَى [قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ] قَالَ نَسَخَ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] وقَوْله تَعَالَى [قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ] الْآيَةُ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى [فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا] وقوله تعالى [وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] وقَوْله تَعَالَى [وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُتَارَكَةً فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا أُنْزِلَتْ قَبْلَ لُزُومِ فَرْضِ الْقِتَالِ وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَإِنَّمَا كَانَ الْغَرَضُ الدُّعَاءَ إلَى الدِّينِ حِينَئِذٍ بِالْحِجَاجِ وَالنَّظَرِ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدِهِ وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُوجَدُ مَعَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى [قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ] وقَوْله تَعَالَى [قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ] وقَوْله تَعَالَى [أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ] [أَفَلا تَعْقِلُونَ] [فَأَنَّى تُصْرَفُونَ] وَنَحْوُهَا مِنْ الْآيِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَظْهَرْهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقِتَالِ بَعْدَ قَطْعِ الْعُذْرِ فِي الْحِجَاجِ وَتَقْرِيرِهِ عِنْدَهُمْ حِينَ اسْتَقَرَّتْ آيَاتُهُ وَمُعْجِزَاتُهُ عِنْدَ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي وَالدَّانِي وَالْقَاصِي بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ الَّتِي لَا يُكَذَّبُ مِثْلُهَا وَسَنَذْكُرُ فَرْضَ الْقِتَالِ عِنْدَ مَصِيرِنَا إلَى الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وقَوْله تَعَالَى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ] روى معمر عن قتادة رضى الله تعالى عنهم قَالَ هُوَ بَخْتُ نَصْر خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَعَانَ عَلَى ذَلِكَ النَّصَارَى وقَوْله تَعَالَى [أُولئِكَ(1/74)
مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ]
قَالَ هُمْ النَّصَارَى لَا يَدْخُلُونَهَا إلَّا مُسَارَقَةً فَإِنْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ عُوقِبُوا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ قَالَ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ في هذه الآية قال هم النصارى خربو بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا رُوِيَ فِي خَبَرِ قَتَادَةَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا مِنْ رَاوِيهِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ أَنَّ عَهْدَ بَخْتَ نَصَّرَ كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَهْرِ طَوِيلٍ وَالنَّصَارَى إنَّمَا كَانُوا بَعْدَ الْمَسِيحِ وَإِلَيْهِ يَنْتَمُونَ فَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَ بَخْتَ نَصَّرَ فِي تخريب بيت المقدس والنصارى إنما استقاض دِينُهُمْ فِي الشَّامِ وَالرُّومِ فِي أَيَّامِ قُسْطَنْطِين الْمَلِكِ وَكَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِمِائَتِي سَنَةٍ وَكُسُورٍ وإنما كانوا قبل ذلك صابئين عبدة أو ثان وَكَانَ مِنْ يَنْتَحِلُ النَّصْرَانِيَّةَ مِنْهُمْ مَغْمُورِينَ مُسْتَخِفِّينَ بِأَدْيَانِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّصَارَى تَعْتَقِدُ مِنْ تَعْظِيمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِثْلَ اعْتِقَادِ الْيَهُودِ فَكَيْفَ أَعَانُوا عَلَى تَخْرِيبِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ فِيهِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْآيَةَ إنَّمَا هِيَ فِي شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ مَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّ سَعْيَهُمْ فِي خَرَابِهِ إنَّمَا هُوَ مَنْعُهُمْ مِنْ عِمَارَتِهِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَنْعِ أَهْلِ الذِّمَّة دُخُولَ الْمَسَاجِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ] وَالْمَنْعُ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَالْآخَرُ الِاعْتِقَادُ وَالدِّيَانَةُ وَالْحُكْمُ لِأَنَّ مِنْ اعْتَقَدَ مِنْ جِهَةِ الدِّيَانَةِ الْمَنْعَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْمَسَاجِد فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ فِيهِ قَدْ مَنَعَ مَسْجِدًا أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ اسْمَهُ فَيَكُونُ الْمَنْعُ هَاهُنَا مَعْنَاهُ الْحَظْرُ كَمَا جَائِز أَنْ يُقَالَ مَنَعَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْعُصَاةَ مِنْ الْمَعَاصِي بِأَنْ حَظَرَهَا عَلَيْهِمْ وَأَوْعَدَهُمْ عَلَى فِعْلِهَا فَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُنْتَظِمًا لِلْأَمْرَيْنِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ وَقَوْلُهُ [أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إخْرَاجَهُمْ مِنْهَا إذَا دَخَلُوهَا لَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانُوا خَائِفِينَ بِدُخُولِهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي قَوْلُهُ [وَسَعى فِي خَرابِها] وَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُخَرِّبَهَا بِيَدِهِ وَالثَّانِي اعْتِقَادُهُ وُجُوبَ تَخْرِيبِهَا لِأَنَّ دِيَانَاتهمْ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَتُوجِبُهُ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ [أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِمْ مِنْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا وَيَدُلُّ عَلَى مِثْلِ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى [مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ] وَعِمَارَتُهَا تَكُون مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِنَاؤُهَا وَإِصْلَاحُهَا وَالثَّانِي حُضُورُهَا وَلُزُومُهَا كَمَا تَقُولُ فُلَانٌ يَعْمُرُ مجلس(1/75)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
فلان يعنى يحضره ويلزمه
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم (إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ)
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ [إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ] فَجَعَلَ حُضُورَهُ الْمَسَاجِدَ عِمَارَةً لَهَا وَأَصْحَابُنَا يُجِيزُونَ لَهُمْ دُخُولَ الْمَسَاجِدِ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَامٌ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَاصَّةً أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَاصَّةً إطْلَاقُهُ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ فَلَا يُخَصُّ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ فَإِنْ قِيلَ جَائِز أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ مَوْضِع مِنْ الْمَسْجِدِ مَسْجِدٌ كَمَا يُقَالُ لِكُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْمَجْلِسِ مَجْلِسٌ فَيَكُونُ الِاسْمُ وَاقِعًا عَلَى جُمْلَتِهِ تَارَةً وَعَلَى كُلِّ مَوْضِعِ سُجُودٍ فِيهِ أُخْرَى قِيلَ لَهُ لَا تَنَازُعَ بَيْن أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ مَسَاجِدُ كَمَا لَا يُقَالُ إنَّهُ مَسْجِدَانِ وَكَمَا لَا يُقَالُ لِلدَّارِ الْوَاحِدَةِ إنَّهَا دُورٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِطْلَاقَ لَا يَتَنَاوَلُهُ وَإِنْ سُمِّيَ مَوْضِعُ السُّجُودِ مَسْجِدًا وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ مُقَيَّدًا غَيْرَ مُطْلَقٍ وَحُكْمُ الْإِطْلَاقِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ مَا وَصَفْنَا وَعَلَى أَنَّك لَا تَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ وَإِنَّمَا تُرِيدُ تَخْصِيصَهُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَك بِغَيْرِ دَلَالَةٍ
قَوْله تَعَالَى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]
رَوَى أَبُو أَشْعَثَ السَّمَّانُ عَنْ عَاصِمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ فَصَلَّى كُلُّ رِجْلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ ثُمَّ أَصْبَحْنَا فذكرنا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى [فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]
وَرَوَى أَيُّوبُ بْنُ عَتَبَة عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ قَوْمًا خَرَجُوا فِي سَفَرٍ فَصَلُّوا فَتَاهُوا عَنْ الْقِبْلَةِ فَلَمَّا فَرَغُوا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَمَّتْ صَلَاتُكُمْ وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ بَكْرِ بْنِ سِوَادَة عَنْ رَجُلٍ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَمَّنْ يُخْطِئُ الْقِبْلَةَ فِي السَّفَرِ وَيُصَلِّي قَالَ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
وَحَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ الْحَافِظِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ قَالَ وَجَدْت فِي كِتَابِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً كُنْت فِيهَا فَأَصَابَتْنَا ظُلْمَةٌ فَلَمْ نَعْرِفْ الْقِبْلَةَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْقِبْلَةَ هَاهُنَا قِبَلَ الشَّمَالِ فَصَلُّوا وَخَطُّوا خُطُوطًا وَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْقِبْلَةُ هَاهُنَا قِبَلَ الْجَنُوبِ وَخَطُّوا خُطُوطًا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا وَطَلَعَتْ الشَّمْسُ وَأَصْبَحَتْ تِلْكَ الْخُطُوطُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةُ فَلَمَّا قَفَلْنَا مِنْ سَفَرِنَا سَأَلْنَا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فَسَكَتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ [فَأَيْنَما(1/76)
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]
أَيْ حَيْثُ كُنْتُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ سَبَب نُزُول الْآيَةِ كَانَ صَلَاةُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَلَّوْا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ اجْتِهَادًا
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ وَفِيهِ أُنْزِلَتْ [فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ [فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] قَالَ هِيَ الْقِبْلَةُ الْأُولَى ثُمَّ نَسَخَتْهَا الصَّلَاةُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقِيلَ فِيهِ إنَّ الْيَهُودَ أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ما كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ وَمِنْ الناس مَنْ يَقُولَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَنْ يُصَلِّيَ إلَى حَيْثُ شَاءَ وَإِنَّمَا كَانَ تَوَجَّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ حَتَّى أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ قَوْلُهُ [فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] فِي وَقْتِ التَّخْيِيرِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ صَلَّى فِي سَفَرٍ مُجْتَهِدًا إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا وَالثَّوْرِيُّ إنْ وَجَدَ مَنْ يَسْأَلُهُ فعرفه جِهَةَ الْقِبْلَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعَرِّفُهُ جِهَتَهَا فَصَلَّاهَا بِاجْتِهَادِهِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ صَلَّاهَا مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشَرِّقًا أَوْ مَغْرِبًا عَنْهَا وَرُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَابْنُ أَبِي سَلَمَةَ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ لَمْ يُعِدْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ وَرَوَى أَبُو مُصْعَبٍ عَنْهُ إنَّمَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ إذَا صَلَّاهَا مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ أَوْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ وَإِنْ تَيَامَنَ قَلِيلًا أَوْ تَيَاسَرَ قَلِيلًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ اجْتَهَدَ فَصَلَّى إلَى الْمَشْرِقِ ثُمَّ رَأَى الْقِبْلَةَ فِي الْمَغْرِبِ اسْتَأْنَفَ فَإِنْ كَانَتْ شَرْقًا ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ مُنْحَرِفٌ فَتِلْكَ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرِفَ وَيُعْتَدُّ بِمَا مَضَى قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلّ عَلَى جَوَازِهَا إلَى أَيِّ جِهَةٍ صَلَّاهَا وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ [فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] مَعْنَاهُ فَثَمَّ رِضْوَانُ اللَّهِ وَهُوَ الْوَجْهَ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ] يَعْنِي لِرِضْوَانِهِ وَلِمَا أَرَادَهُ مِنَّا وَقَوْلُهُ [كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ] يَعْنِي مَا كَانَ لِرِضَاهُ وَإِرَادَتِهِ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَجَابِرٍ اللَّذَيْنِ قَدَّمْنَا أَنَّ الْآيَةَ فِي هَذَا أُنْزِلَتْ فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَيَانِ الْقِبْلَةِ قِيلَ لَهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّفِقَ هَذِهِ الأحوال كلها في وقت واحد ويسئل النبي صلّى الله عليه وسلم عَنْهَا فَيُنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَة وَيُرِيدُ بِهَا بَيَانَ حُكْمِ جَمِيعِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ(1/77)
مِنْهَا بِأَنْ يَقُولَ إذَا كُنْتُمْ عَالِمِينَ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ مُمَكَّنِينَ مِنْ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا فَذَلِكَ وَجْهُ اللَّهِ فَصَلُّوا إلَيْهَا وَإِذَا كُنْتُمْ خَائِفِينَ أَوْ فِي سَفَرٍ فَالْوَجْهُ الَّذِي يُمْكِنُكُمْ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ فَهُوَ وَجْهُ اللَّهِ وَإِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْكُمْ الْجِهَاتُ فَصَلَّيْتُمْ إلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ فَهِيَ وَجْهُ اللَّهِ وَإِذَا لَمْ تَتَنَافَ إرَادَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَى الْوَجْهِ الذي ذكرنا لا سيما وقد نصر حَدِيثُ جَابِرٍ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُجْتَهِدِ إذَا أَخْطَأَ وَأَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَدْبِرَ لِلْقِبْلَةِ وَالْمُتَيَاسِرَ وَالْمُتَيَامِنَ عَنْهَا سَوَاءٌ لِأَنَّ فِيهِ بَعْضَهُمْ صَلَّى إلَى نَاحِيَةِ الشَّمَالِ وَالْآخِرَ إلَى نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ وَهَاتَانِ جِهَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا أَيْضًا
حَدِيثٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُثْمَانَ ابن مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ
وَهَذَا يَقْتَضِي إثْبَاتَ جَمِيعِ الْجِهَاتِ قِبْلَةً إذْ كَانَ قَوْلُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَقَوْلِهِ جَمِيعُ الْآفَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ رَبُّ الْمَشْرِقِ والمغرب أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَعْقُولِ خِطَابِ النَّاسِ مَتَى أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنْ جَمِيعِ الدُّنْيَا ذَكَرَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ فَيَشْمَلُ اللَّفْظُ جَمِيعَهَا وَأَيْضًا مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا لِظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ عَلَيْهِمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ غَابَ عَنْ مَكَّةَ فَإِنَّمَا صَلَاتُهُ إلَى الْكَعْبَةِ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ اجْتِهَادٍ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُوقِنُ بِالْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي إلَيْهَا فِي مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ غَيْرَ مُنْحَرِفٍ عَنْهَا وَصَلَاةُ الْجَمِيعِ جَائِزَةٌ إذْ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَهَا فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي السَّفَرِ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ إذْ لَمْ يُكَلَّفْ غيرها ومن أوجب الإعادة فإنما يلزم فَرْضًا آخَرَ وَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامَهُ فَرْضًا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ فَإِنْ أَلْزَمُونَا عَلَيْهِ بِالثَّوْبِ يُصَلَّى فِيهِ ثُمَّ تُعْلَمُ نَجَاسَتُهُ أَوْ الْمَاءِ يُتَطَهَّرُ بِهِ ثُمَّ يُعْلَمُ أَنَّهُ نَجِسٌ قِيلَ لَهُمْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ وَإِنَّمَا أَلْزَمْنَاهُ بَعْدَ الْعِلْمِ فَرْضًا آخَرَ بِدَلَالَةِ قَامَتْ عَلَيْهِ وَلَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى إلْزَامِ الْمُجْتَهِدِ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَرْضًا آخَرَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَجُوزُ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَهِيَ صَلَاةُ النَّفْلِ على الراحلة ومعلوم أنه لا ضرر بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا فَلَمَّا جَازَتْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَإِذَا صَلَّى الْفَرْضَ إلَى غَيْرِ جِهَتِهَا عَلَى مَا كُلِّفَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّبَيُّنِ غَيْرُهَا وَلَمَّا لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَمْ تَجُزْ الطَّهَارَةُ بِمَاءِ نَجِسٍ بِحَالٍ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ فَلَا يَلْزَمُهُ(1/78)
الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي تَوَجَّهَ إلَيْهَا قَدْ قَامَتْ لَهُ مَقَامَ الْقِبْلَةِ كَالتَّيَمُّمِ قَائِمٌ مَقَامَ الْوُضُوءِ وَلَمْ يُوجَدْ لِلْمُصَلِّي فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ وَالْمُتَطَهِّرِ بِمَاءٍ نَجِسٍ مَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّهَارَةَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَلِّي بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ وَلَا مَاءٍ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ مَسْأَلَتُنَا صَلَاةُ الْخَائِفِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَيُبْنَى عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا جِهَةٌ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَهَا فِي الْحَالِ وَالثَّانِي قِيَامُ هَذِهِ الْجِهَةِ مَقَامَ الْقِبْلَةِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ كَالْمُتَيَمِّمِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى [فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] الصَّلَاةُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مِقْدَارَ مِسَاحَةِ الْكَعْبَةِ لَا يَتَّسِعُ لِصَلَاةِ النَّاسِ الْغَائِبِينَ عَنْهَا حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُصَلِّيًا لِمُحَاذَاتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَامِعَ مِسَاحَتُهُ أَضْعَافُ مِسَاحَةِ الْكَعْبَةِ وَلَيْسَ جَمِيعُ مَنْ يُصَلِّي فِيهِ مُحَاذِيًا لِسَمْتِهَا وَقَدْ أُجِيزَتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ فَثَبَتَ أَنَّهُمْ إنَّمَا كُلِّفُوا التَّوَجُّهَ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهَا مُحَاذِيَةُ الْكَعْبَةِ لَا مُحَاذَاتُهَا بِعَيْنِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ جِهَةٍ قَدْ أُقِيمَتْ مَقَامَ جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي حَالِ الْعُذْرِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا جَازَتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ فِي الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْتُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُحَاذِي لِلْكَعْبَةِ دُونَ مَنْ بَعُدَ مِنْهُ وَلَمْ يَظْهَرْ في الثاني توجه إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ فَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَلَيْسَتْ هَذِهِ نَظِيرَ مَسْأَلَتِنَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِهَا قِيلَ لَهُ لَوْ كَانَ هَذَا الِاعْتِبَارُ سَائِغًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لَوَجَبَ أَنْ لَا تُجِيزَ صَلَاةَ الْجَمِيعِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُحَاذَاةُ الْكَعْبَةِ مِقْدَارَ عِشْرِينَ ذِرَاعًا إذَا كَانَ مُسَامِتَهَا ثُمَّ قَدْ رَأَيْنَا أَهْلَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ قَدْ أَجْزَأَتْهُمْ صَلَاتُهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بأن الذي حاذوهاهم الْقَلِيلُ الَّذِينَ يَقْصُرُ عَدَدُهُمْ عَنْ النِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ لِقِلَّتِهِمْ وَجَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُحَاذِي الْكَعْبَةَ حِينَ لَمْ يغادروها ثُمَّ أَجْزَأَتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ حُكْمُ الْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ مَعَ تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ فِي الْأُصُولِ بِالْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي كُلِّ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ يَتَعَلَّقُ بِالْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ دُونِ الْأَخَصِّ الْأَقَلِّ حَتَّى صَارَ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَحْظُورًا قَتْلُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِيهَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ مِنْ مُرْتَدٍّ وَمُلْحِدٍ وَحَرْبِيٍّ وَمَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُسْتَبَاحُ قَتْلُهُ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ مُسْلِمٍ تَاجِرٍ أَوْ أَسِيرٍ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُصُولِ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ يُجْرَى حُكْمُهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَكْثَرِ الْأَعَمِّ حُكْمٌ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ ثَبَتَ أَنَّ الَّذِي كُلِّفَ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي وَقْتِهِ هُوَ مَا عِنْده أَنَّهُ جِهَةُ الْكَعْبَةِ وَفِي اجْتِهَادِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَأَنْ لَا إعَادَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الثَّانِي فَإِنْ قِيلَ فَأَنْتَ(1/79)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
تُوجِبُ الْإِعَادَةَ عَلَى مِنْ صَلَّى بِاجْتِهَادِهِ مَعَ إمْكَانِ الْمَسْأَلَةِ عَنْهَا
إذَا تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُهَا قِيلَ لَهُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ مَعَ وجود من يسئله عَنْهَا وَإِنَّمَا أَجَزْنَا فِيمَا وَصَفْنَا صَلَاةَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي الْحَالِ الَّتِي يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وإذا وجد من يسئله عَنْ جِهَةِ الْكَعْبَةِ لَمْ يُكَلَّفْ فِعْلُ الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادِهِ وَإِنَّمَا كُلِّفَ الْمَسْأَلَةَ عَنْهَا وَيَدُلُّ عَلَى ما ذكرنا أنه معلوم من غاب عن حضرة النبي صلّى الله عليه وسلم فَإِنَّمَا يُؤَدِّي فَرْضَهُ بِاجْتِهَادِهِ مَعَ تَجْوِيزِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَرْضُ فِيهِ نَسْخٌ وَقَدْ ثَبَتَ أن أهل قبا كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَتَاهُمْ آتٍ فَأُخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَاسْتَدَارُوا فِي صَلَاتِهِمْ إلَى الْكَعْبَةِ وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُسْتَدْبِرِينَ لَهَا لِأَنَّ مَنْ اسْتَقْبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَهُوَ مُسْتَدْبِرٌ لِلْكَعْبَةِ ثُمَّ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ حِينَ فَعَلُوا بَعْضَ الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ وُرُودِ النَّسْخِ إذْ الْأَغْلَبُ أَنَّهُمْ ابْتَدَءُوا الصَّلَاةَ بَعْدَ النَّسْخِ لِأَنَّ النَّسْخَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بالمدينة ثم سار المخبر إلى قبا بَعْدَ النَّسْخِ وَبَيْنَهُمَا نَحْوَ فَرْسَخٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ صَلَاتِهِمْ كَانَ بَعْدَ النَّسْخِ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَطُولَ مُكْثُهُمْ فِي الصَّلَاةِ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَلَوْ كَانَ ابْتِدَاؤُهَا قَبْلَ النَّسْخِ كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا بَعْضَ الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ النَّسْخِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ابْتَدَءُوهَا قَبْلَ النَّسْخِ وَكَانَ ذَلِكَ فَرْضَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فَرْضٌ غَيْرُهُ قِيلَ لَهُ وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فَرْضُهُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضٌ غَيْرُهُ فَإِنْ قِيلَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اجْتَهَدَ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ ثُمَّ وَجَدَ النَّصَّ فِيهِ فَيَبْطُلُ اجْتِهَادُهُ مَعَ النَّصِّ قِيلَ لَهُ لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت لِأَنَّ النَّصَّ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ إنَّمَا هُوَ فِي حَالِ مُعَايَنَتِهَا أَوْ الْعِلْمِ بِهَا وَلَيْسَتْ لِلصَّلَاةِ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا الْمُصَلِّي بَلْ سَائِرُ الْجِهَات لِلْمُصَلِّينَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فَمَنْ شَاهَدَ الْكَعْبَةَ أَوْ عَلِمَ بِهَا وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا فَفَرْضُهُ الْجِهَةُ الَّتِي يُمْكِنُهُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا وَلَيْسَتْ الْكَعْبَةُ جِهَةَ فَرْضِهِ وَمَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْجِهَةُ فَفَرْضُهُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَقَوْلُكَ إنَّهُ صَارَ مِنْ الِاجْتِهَادِ إلَى النَّصِّ خَطَأٌ لِأَنَّ جِهَةَ الْكَعْبَةِ لَمْ تَكُنْ فَرْضَهُ فِي حَالِ الِاجْتِهَادِ وَإِنَّمَا النَّصُّ فِي حَالِ إمْكَانِ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا وَالْعِلْمِ بِهَا وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ لَهُ الِاجْتِهَادُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْكَعْبَةِ وَالْجَهْلِ بِجِهَتِهَا فَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ لَمَا سَاغَ الِاجْتِهَادُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى نَصًّا عَلَى الْحُكْمِ كَمَا لَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى نَصًّا عَلَى الْحُكْمِ فِي حَادِثَةٍ
وقَوْله تَعَالَى [وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يَبْقَى عَلَى وَلَدِهِ لِأَنَّهُ(1/80)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
نَفَى الْوَلَدَ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ] يَعْنِي مُلْكَهُ وَلَيْسَ بِوَلَدِهِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ [وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً] فَاقْتَضَى ذَلِكَ عِتْقَ وَلَدِهِ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثل ذلك في الوالد إذ ملكه ولده
فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ)
فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى عِتْقِ الْوَلَدِ إذَا مَلَكه أَبُوهُ وَاقْتَضَى خَبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِتْقَ الْوَالِدِ إذَا مَلَكَهُ وَلَدُهُ وَقَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ إذَا مَلَكَ أَبَاهُ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْتِقَهُ لِقَوْلِهِ فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ وَهَذَا يَقْتَضِي عِتْقًا مُسْتَأْنَفًا بَعْدَ الْمِلْكِ فَجُهِلَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْهُ فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ بِالشِّرَى إذْ قَدْ أَفَادَ أَنَّ شِرَاهُ مُوجِبٌ لِعِتْقِهِ وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (النَّاسُ غَادِيَانِ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا وَمُشْتَرٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا)
يُرِيدُ أَنَّهُ مُعْتِقُهَا بِالشِّرَى لَا بِاسْتِئْنَافِ عِتْقٍ بَعْدَهُ
قَوْله تَعَالَى [وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ] اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ابْتَلَاهُ بِالْمَنَاسِكِ وَقَالَ الْحَسَنُ ابْتَلَاهُ بِقَتْلِ وَلَدِهِ وَالْكَوَاكِبِ وَرَوَى طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ابْتَلَاهُ بِالطَّهَارَةِ خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ فَالْخَمْسَةُ فِي الرَّأْسِ قَصُّ الشَّارِبِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالسِّوَاكُ وَفَرْقُ الرَّأْسِ وَفِي الْجَسَدِ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَالْخِتَانُ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال عشرة مِنْ الْفِطْرَةِ وَذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ مَكَانَ الْفَرْقِ إعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَأْوِيلَ الْآيَةِ وَرَوَاهُ عَمَّارُ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ
عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَرِهْتُ الْإِطَالَةَ بِذِكْرِ أَسَانِيدِهَا وَسِيَاقَةِ أَلْفَاظِهَا إذْ هِيَ الْمَشْهُورَةُ وَقَدْ نَقَلَهَا النَّاسُ قَوْلًا وَعَمَلًا وَعَرَفُوهَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِيهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَيَكُونُ مُرَادُ الْآيَةِ جَمِيعَهُ وَأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَمَّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَوَفَّى بِهِ وَقَامَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِهِ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ لِأَنَّ ضِدَّ الْإِتْمَامِ النَّقْصُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِإِتْمَامِهِنَّ وَمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَشْرَ الْخِصَالِ فِي الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ مِنْ الْفِطْرَةِ
فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُقْتَدِيًا بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً] وَبِقَوْلِهِ [أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ] وَهَذِهِ الْخِصَالُ قَدْ ثَبَتَتْ مِنْ سُنَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّنْظِيفُ وَنَفْيُ الْأَقْذَارِ(1/81)
وَالْأَوْسَاخِ عَنْ الْأَبَدَانِ وَالثِّيَابِ مَأْمُورًا بِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَظَرَ إزَالَةَ التَّفَثِ وَالشَّعْرِ فِي الْإِحْرَامِ أَمَرَ بِهِ عِنْدَ الإحلال بقوله [ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ] وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَنْ يَسْتَاكَ وَأَنْ يَمَسَّ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ
فَهَذِهِ كُلُّهَا خِصَالٌ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الْعُقُولِ مَحْمُودَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ وَقَدْ أَكَّدَهَا التَّوْقِيفُ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَيَّانِ التَّمَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بن المبارك قال حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ حَيَّانِ الْعِجْلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا سليمان فَرُّوخَ أَبُو وَاصِلٍ قَالَ أَتَيْت أَبَا أَيُّوبَ فَصَافَحَتْهُ فَرَأَى فِي أَظْفَارِي طُولًا فَقَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسئله عن خبر السماء فقال (يجيء أحدكم يسئل عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأَظْفَارُهُ كَأَنَّهَا أَظْفَارُ الطَّيْرِ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْخَبَاثَةُ وَالتَّفَثُ)
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سهل بن أيوب قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَذَّاءُ قَالَ حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ زَيْدٍ الْأَهْوَازِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ تَهِمُ قَالَ (وَمَا لِي لَا أَهِمُ وَرُفْغُ أَحَدِكُمْ بَيْنَ أَظْفَارِهِ وَأَنَامِلِهِ)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه كَانَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَقُصُّ شَارِبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى الْجُمُعَةِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ فَقَالَ (أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ وَرَأَى رَجُلًا آخَرَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ)
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ السَّدُوسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ يَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَمْسٌ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُهُنَّ فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ الْمِرْآةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَالْمُشْطُ وَالْمِدْرَى وَالسِّوَاكِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ وَقَّتَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى عَنْ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ الدَّقِيقِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ وَقَّتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَلْقِ العانة وقص الشارب ونتف الإبط
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَوَّرُ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا إدْرِيسُ الْحَدَّادُ قَالَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا كَامِلُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اطَّلَى وَلِيَ مَغَابِنَهُ بِيَدِهِ
حَدَّثَنَا(1/82)
عَبْدُ الْبَاقِي حَدَّثَنَا مُطَيْرٌ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ اطَّلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَلَاهُ رَجُلٌ فَسَتَرَ عَوْرَتَهُ بِثَوْبٍ وَطَلَى الرَّجُلُ سَائِرَ جَسَدِهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُخْرُجْ عَنِّي ثُمَّ طَلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَوْرَتَهُ بِيَدِهِ
وَقَدْ رَوَى حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٌ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَنَوَّرُ فَإِذَا كَثُرَ شَعْرُهُ حَلَقَهُ
وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ عَادَتَهُ كَانَتْ الْحَلْقَ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ الْأَكْثَرَ الْأَعَمَّ لِيَصِحَّ الْحَدِيثَانِ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ تَوْقِيتِ الْأَرْبَعِينَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ فِي التَّأْخِيرِ مُقَدَّرَةً بِذَلِكَ وَأَنَّ تَأْخِيرهَا إلَى مَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ مَحْظُورٌ يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ اللَّوْمَ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ لَا سِيَّمَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَقَصِّ الْأَظْفَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ وَالشَّارِبِ أَنَّ الْإِحْفَاءَ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَلْقُ بَعْضِ الشَّعْرِ قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْهَيْثَمِ عَنْ مَالِكٍ إحْفَاءُ الشَّارِبِ عِنْدِي مُثْلَةٌ قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إحْفَاءِ الشَّارِبِ الْإِطَارُ وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَعْلَاهُ وَإِنَّمَا كَانَ يُوَسِّعُ فِي الْإِطَارِ مِنْهُ فَقَطْ وَذَكَرَ عَنْهُ أَشْهَبُ قَالَ وَسَأَلْت مَالِكًا عَمَّنْ أَحْفَى شَارِبِهِ قَالَ رأى أَنْ يَوْجَعَ ضَرْبًا لَيْسَ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِحْفَاءِ كَانَ يَقُولُ لَيْسَ يُبْدِي حَرْفَ الشَّفَتَيْنِ الْإِطَارُ ثُمَّ قَالَ يَحْلِقْ شَارِبَهُ هَذِهِ بِدَعٌ تَظْهَرُ فِي النَّاسِ كَانَ عُمَرَ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ نَفَخَ فَجَعَلَ يَفْتِلُ شَارِبَهُ وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِقُ رَأْسَهُ فَقَالَ أَمَّا فِي الْحَضَرِ لَا يُعْرَفُ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ فِي الْعُرْفِ وكان عبدة ابن أَبِي لُبَابَةَ يَذْكُرُ فِيهِ فَضْلًا عَظِيمًا وَقَالَ اللَّيْثُ لَا أُحِبُّ أَنْ يَحْلِقَ أَحَدٌ شَارِبَهُ حَتَّى يَبْدُوَ الْجِلْدُ وَأَكْرَهُهُ وَلَكِنْ يَقُصُّ الَّذِي عَلَى طَرَفِ الشَّارِبِ وَأَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ طَوِيلَ الشارب وقال إسحاق أَبِي إسْرَائِيلَ سَأَلْتُ عَبْدَ الْمَجِيدِ بْنِ عَبْدِ العزيز بن أبى داود عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ فَقَالَ أَمَّا بِمَكَّةَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ بَلَدُ الْحَلْقِ وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْبُلْدَانِ فَلَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَلَمْ نَجِدْ فِي ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ شَيْئًا مَنْصُوصًا وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ الْمُزَنِيّ وَالرَّبِيعُ كَانَا يُحْفِيَانِ شَوَارِبَهُمَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا أَخَذَا ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ
وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِطْرَةُ عَشْرَةٌ مِنْهَا قَصُّ الشَّارِبِ
وَرَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْ شَوَارِبِهِ عَلَى سِوَاكٍ
وَهَذَا جَائِزٌ مُبَاحٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ لِعَدَمِ آلَةِ الْإِحْفَاءِ فِي الْوَقْتِ
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُزُّ شَارِبَهُ
وَهَذَا يَحْتَمِلُ(1/83)
الْإِحْفَاءَ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عمر عن النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أَحْفُوا الشَّارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى)
وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (جزوا الشارب وَأَرْخُوا اللِّحَى)
وَهَذَا يَحْتَمِلُ الْإِحْفَاءَ أَيْضًا
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال (أحفوا الشارب وَأَعْفُوا اللِّحَى)
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ الْإِحْفَاءُ وَالْإِحْفَاءُ يَقْتَضِي ظُهُورَ الْجِلْدِ بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ كَمَا يُقَالُ رِجْلٌ حَافٍ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي رِجْلِهِ شَيْءٌ وَيُقَالُ حَفِيَتْ رِجْلُهُ وَحَفِيَتْ الدَّابَّةُ إذَا أَصَابَ أَسْفَلَ رِجْلِهَا وهن من الحفا قَالَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي أُسَيْدَ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحْفُونَ شَوَارِبَهُمْ وقال إبراهيم ابن مُحَمَّدِ بْنِ خَطَّابٍ رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَحْلِقُ شَارِبَهُ كَأَنَّهُ يَنْتِفُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ الْجِلْدِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمَّا كَانَ التَّقْصِيرُ مَسْنُونًا فِي الشَّارِبِ عِنْدَ الْجَمِيعِ كَانَ الحلق أفضل
قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَدَعَا لِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً
فَجَعَلَ حَلْقَ الرَّأْسِ أَفْضَلَ مِنْ التَّقْصِيرِ وَمَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَفْتِلُ شَارِبَهُ إذَا غَضِبَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ يَتْرُكُهُ حَتَّى يُمْكِنَ فَتْلُهُ ثُمَّ يَحْلِقُهُ كَمَا تَرَى كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَفْعَلُهُ وقَوْله تَعَالَى [إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً] فَإِنَّ الْإِمَامَ مَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ مِنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ أَئِمَّةٌ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لِمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ مِنْ اتِّبَاعِهِمْ وَالِائْتِمَامِ بِهِمْ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ فَالْخُلَفَاءُ أَئِمَّةٌ لِأَنَّهُمْ رُتِّبُوا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَلْزَمُ النَّاسَ اتِّبَاعُهُمْ وَقَبُولُ قَوْلِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَالْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ أَئِمَّةٌ أَيْضًا وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ يُسَمَّى إمَامًا لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ لَزِمَهُ الِاتِّبَاعُ لَهُ وَالِائْتِمَامُ بِهِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إمَامًا لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا)
وَقَالَ (لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى إمَامِكُمْ)
فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمِ الْإِمَامَةِ مُسْتَحَقٌّ لِمَنْ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَقَدْ يُسَمَّى بِذَلِكَ مَنْ يُؤْتَمَّ بِهِ فِي الْبَاطِلِ إلَّا أَنَّ الْإِطْلَاقَ لَا يَتَنَاوَلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ] فَسُمُّوا أَئِمَّةً لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُمْ بِمَنْزِلَةِ مِنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَئِمَّةً يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ] وَقَالَ [وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً] يعنى في زعمك واعتقادك
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي أَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ)
وَالْإِطْلَاقُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ يَجِبُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْحَقِّ(1/84)
وَالْهُدَى أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى [إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً] قد أفاد ذلك من غير تقييد وأنا لَمَّا ذَكَرَ أَئِمَّةَ الضَّلَالِ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ يَدْعُونَ إلى النار وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْمِ الْإِمَامَةِ يَتَنَاوَلُ مَا ذَكَرْنَاهُ فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فِي أَعْلَى رُتْبَةِ الْإِمَامَةِ ثُمَّ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ وَالْقُضَاةُ الْعُدُولُ وَمَنْ أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ ثُمَّ الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ جَاعِلُهُ لِلنَّاسِ إمَامًا وَأَنَّ إبْرَاهِيمَ سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ وَلَدِهِ أئمة بقوله [وَمِنْ ذُرِّيَّتِي] لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْأَوَّلِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةً وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ ومن ذريتي مَسْأَلَتَهُ تَعْرِيفَهُ هَلْ يَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةٌ فَقَالَ تَعَالَى فِي جَوَابِهِ [لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] فَحَوَى ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً إمَّا عَلَى وَجْهِ تَعْرِيفِهِ مَا سَأَلَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ إيَّاهُ وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ إجَابَتِهِ إلَى مَا سَأَلَ لِذُرِّيَّتِهِ إذَا كَانَ قَوْلُهُ ومن ذريتي مَسْأَلَتَهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ مَسْأَلَتُهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً وَأَنْ يُعَرِّفَهُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ إجَابَةٌ إلَى مَسْأَلَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إجَابَةٌ إلَى مَسْأَلَتِهِ لَقَالَ ليس في ذريتك أئمة أو قال لَا يَنَالُ عَهْدِي مِنْ ذُرِّيَّتِك أَحَدٌ فَلَمَّا قال [لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِجَابَةَ قَدْ وَقَعَتْ لَهُ في أن ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً ثُمَّ قَالَ [لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] فَأَخْبَرَ أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ لَا يَكُونُونَ أَئِمَّةً وَلَا يَجْعَلهُمْ مَوْضِعَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْله تَعَالَى [لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] أَنَّهُ النُّبُوَّةَ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الظَّالِمَ لَا يَكُونُ إمَامًا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَهْدِ الظَّالِمِ فَإِذَا عَقَدَ عَلَيْك فِي ظُلْمٍ فَانْقُضْهُ وَقَالَ الْحَسَنُ لَيْسَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ يُعْطِيهِمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فِي الْآخِرَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ جَمِيعُ مَا رُوِيَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي يَحْتَمِلُهُ اللفظ وجائز أن يكون جميعه مراد الله تَعَالَى وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً لِنَبِيٍّ وَلَا قَاضِيًا وَلَا مَنْ يَلْزَمُ النَّاسَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ مِنْ مُفْتٍ أَوْ شَاهِدٍ أَوْ مُخْبِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرًا فَقَدْ أَفَادَتْ الْآيَةُ أَنَّ شَرْطَ جَمِيعِ مَنْ كَانَ فِي مَحَلِّ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ الْعَدَالَةُ وَالصَّلَاحُ وهذا يدل أيضا على أَئِمَّةَ الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا صَالِحِينَ غَيْرَ فُسَّاقٍ وَلَا ظَالِمِينَ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى شَرْطِ الْعَدَالَةِ لِمَنْ نُصِبَ مَنْصِبَ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ لِأَنَّ عَهْدَ اللَّهِ هُوَ أَوَامِرُهُ فَلَمْ يُجْعَلْ قَبُولُهُ عَنْ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ وَهُوَ مَا أَوْدَعَهُمْ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ وَأَجَازَ قَوْلَهُمْ فيه وأمر الناس بقوله مِنْهُمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِيهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا(1/85)
الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]
يَعْنِي أُقَدِّمُ إلَيْكُمْ الْأَمْرَ بِهِ وَقَالَ تَعَالَى [الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا] وَمِنْهُ عَهْدُ الْخُلَفَاءِ إلَى أُمَرَائِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ إنَّمَا هُوَ مَا يَتَقَدَّمُ بِهِ إلَيْهِمْ لِيَحْمِلُوا النَّاسَ عَلَيْهِ وَيَحْكُمُوا بِهِ فِيهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَهْدَ اللَّهِ إذَا كَانَ إنَّمَا هُوَ أَوَامِرُهُ لَمْ يخل قوله [لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الظَّالِمِينَ غَيْرُ مَأْمُورِينَ أَوْ أَنَّ الظَّالِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا بِمَحَلِّ مَنْ يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامُهُ وَلَا يُؤْمَنُونَ عَلَيْهَا فَلَمَّا بَطُلَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى لَازِمَةٌ لِلظَّالِمِينَ كَلُزُومِهَا لِغَيْرِهِمْ وَأَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا سِمَةَ الظُّلْمِ لِتَرْكِهِمْ أَوَامِرَ اللَّهِ ثَبَتَ الْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْتَمَنِينَ عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرُ مُقْتَدًى بِهِمْ فِيهَا فَلَا يَكُونُونَ أَئِمَّةً فِي الدِّينِ فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ بُطْلَانُ إمَامَةِ الْفَاسِقِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ خَلِيفَةً وَأَنَّ مَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ وَهُوَ فَاسِقٌ لَمْ يَلْزَمْ النَّاسَ اتباعه ولا طاعته وَكَذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ)
وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَكُونُ حَاكِمًا وَأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تَنْفُذُ إذَا وَلِيَ الْحُكْمَ وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا خَبَرُهُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فُتْيَاهُ إذَا كَانَ مُفْتِيًا وَأَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ لِلصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ لَوْ قُدِّمَ وَاقْتَدَى بِهِ مُقْتَدٍ كَانَتْ صَلَاتُهُ مَاضِيَةً فَقَدْ حَوَى قوله [لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجْوِيزُ إمَامَةِ الْفَاسِقِ وَخِلَافَتِهِ وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَاكِمِ فَلَا يُجِيزُ حُكْمَهُ وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ الْمُسَمَّى زُرْقَانَ وَقَدْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ بِالْبَاطِلِ وَلَيْسَ هُوَ أَيْضًا مِمَّنْ تُقْبَلُ حِكَايَتُهُ وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ فِي أَنَّ شَرْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَدَالَةُ وَأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَكُونُ خَلِيفَةً وَلَا يَكُونُ حَاكِمًا كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا خَبَرُهُ لَوْ رَوَى خَبَرًا عَنْ النبي صلّى الله عليه وسلم وَكَيْفَ يَكُونُ خَلِيفَةً وَرِوَايَتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَأَحْكَامُهُ غَيْرُ نَافِذَةٍ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى ذَلِكَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ أَكْرَهَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْقَضَاءِ وَضَرَبَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَحُبِسَ فَلَجَّ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ كُلَّ يَوْمٍ أَسْوَاطًا فَلَمَّا خِيفَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الْفُقَهَاءُ فَتَوَلَّ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ حَتَّى يَزُولَ عَنْك هَذَا الضَّرْبُ فَتَوَلَّى لَهُ عَدَّ أَحْمَالِ التِّبْنِ الَّذِي يَدْخُلُ فَخَلَّاهُ ثُمَّ دَعَاهُ الْمَنْصُورُ إلَى مثل ذلك فأبى فحبسه حتى عدله اللَّبِنَ الَّذِي كَانَ يُضْرَبُ لِسُورِ مَدِينَةِ بَغْدَادَ وَكَانَ مَذْهَبُهُ مَشْهُورًا فِي قِتَالِ الظَّلَمَةِ وَأَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَلِذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ احْتَمَلْنَا أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى جَاءَنَا بِالسَّيْفِ يَعْنِي قِتَالَ الظَّلَمَةِ فَلَمْ نَحْتَمِلْهُ وَكَانَ مِنْ(1/86)
قَوْلِهِ وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ بِالْقَوْلِ فَإِنْ لَمْ يُؤْتَمَرْ لَهُ فَبِالسَّيْفِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَهُ إبْرَاهِيمُ الصَّائِغُ وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَرُوَاةِ الْأَخْبَارِ وَنُسَّاكِهِمْ عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَقَالَ هُوَ فَرْضٌ وَحَدَّثَهُ
بِحَدِيثٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ)
فَرَجَعَ إبْرَاهِيمُ إلَى مَرْوَ وَقَامَ إلَى أَبِي مُسْلِمٍ صَاحِبِ الدَّوْلَةِ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَسَفْكَهُ الدِّمَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَاحْتَمَلَهُ مِرَارًا ثُمَّ قَتَلَهُ وَقَضِيَّتُهُ فِي أَمْرِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ مَشْهُورَةٌ وَفِي حَمْلِهِ الْمَالِ إلَيْهِ وَفُتْيَاهُ النَّاسَ سِرًّا فِي وُجُوبِ نُصْرَتِهِ وَالْقِتَالِ مَعَهُ وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ مَعَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ وَقَالَ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ حِينَ قَالَ لَهُ لِمَ أَشَرْت عَلَى أَخِي بِالْخُرُوجِ مَعَ إبْرَاهِيمَ حَتَّى قُتِلَ قَالَ مَخْرَجُ أَخِيك أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ مَخْرَجِك وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ قَدْ خَرَجَ إلَى الْبَصْرَةِ وَهَذَا إنَّمَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَغْمَارُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ بِهِمْ فُقِدَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى تَغَلَّبَ الظَّالِمُونَ عَلَى أُمُورِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ كَانَ هَذَا مَذْهَبَهُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَيْفَ يَرَى إمَامَةَ الْفَاسِقِ فَإِنَّمَا جَاءَ غَلَطُ مَنْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ وَقَوْلِ سَائِرِ مَنْ يَعْرِفُ قَوْلَهُ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَانَ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ فَوَلِي الْقَضَاءَ مِنْ قِبَلِ إمَامٍ جَائِرٍ أَنَّ أَحْكَامَهُ نَافِذَةٌ وَقَضَايَاهُ صَحِيحَةٌ وَأَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ جَائِزَةٌ مَعَ كَوْنِهِمْ فُسَّاقًا وَظَلَمَةً وَهَذَا مَذْهَبٌ صَحِيحٌ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ على أن من مذهبه تجويز إمَامَةَ الْفَاسِقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَانَ عَدْلًا فَإِنَّمَا يَكُونُ قَاضِيًا بِأَنْ يُمْكِنَهُ تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى مَنْ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ أَحْكَامِهِ حَتَّى يُجْبِرَهُ عَلَيْهَا وَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِمَنْ وَلَّاهُ لِأَنَّ الَّذِي وَلَّاهُ إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَعْوَانِهِ وَلَيْسَ شَرْطُ أَعْوَانِ الْقَاضِي أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ لَا سُلْطَانَ عَلَيْهِمْ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى الرِّضَا بِتَوْلِيَةِ رَجُلٍ عَدْلٍ مِنْهُمْ الْقَضَاءَ حَتَّى يَكُونُوا أَعْوَانًا لَهُ عَلَى مَنْ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ أَحْكَامِهِ لَكَانَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ مِنْ جِهَةِ إمَامٍ وَلَا سُلْطَانٍ وَعَلَى هَذَا تَوَلَّى شُرَيْحٌ وَقُضَاةُ التَّابِعِينَ الْقَضَاءَ مِنْ قِبَلِ بَنِي أُمَيَّةَ وَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ إلَى أَيَّامِ الْحَجَّاجِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ وَلَا آلِ مَرْوَانَ أَظْلَمُ وَلَا أَكْفَرُ وَلَا أَفْجَرُ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَلَمْ يَكُنْ فِي عُمَّالِهِ أَكْفَرُ وَلَا أَظْلَمُ وَلَا أَفْجَرُ مِنْ الْحَجَّاجِ وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَوَّلَ مَنْ قَطَعَ أَلْسِنَةَ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ(1/87)
وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ إنِّي وَاَللَّهِ مَا أَنَا بِالْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضْعَفِ يَعْنِي عُثْمَانَ وَلَا بِالْخَلِيفَةِ الْمُصَانِعِ يَعْنِي مُعَاوِيَةَ وَإِنَّكُمْ تَأْمُرُونَنَا بِأَشْيَاءَ تَنْسُونَهَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَاَللَّهِ لَا يَأْمُرُنِي أَحَدٌ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا بِتَقْوَى اللَّهِ إلَّا ضَرَبْت عُنُقَهُ وَكَانُوا يَأْخُذُونَ الْأَرْزَاقَ مِنْ بُيُوتِ أَمْوَالِهِمْ وَقَدْ كَانَ الْمُخْتَارُ الْكَذَّابُ يَبْعَثُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ وَابْنِ عُمَرَ بِأَمْوَالٍ فَيَقْبَلُونَهَا
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ الْقَعْقَاعِ قَالَ كَتَبَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ إلَى ابْنِ عُمَرَ ارْفَعْ إلَيَّ حَوَائِجَك فَكَتَبَ إلَيْهِ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى)
وَأَحْسَبُ أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا يَدُ الْمُعْطِي وَأَنَّ الْيَدَ السُّفْلَى يَدُ الْآخِذِ وَإِنِّي لَسْت سَائِلَك شَيْئًا وَلَا رَادًّا عَلَيْك رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ مِنْك وَالسَّلَامُ وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَسَائِرُ التَّابِعِينَ يَأْخُذُونَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ أَيْدِي هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ لَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَلَا يَرَوْنَ إمَامَتَهُمْ وَإِنَّمَا كَانُوا يَأْخُذُونَهَا عَلَى أَنَّهَا حُقُوقٌ لَهُمْ فِي أَيْدِي قَوْمٍ فَجَرَةٍ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ مُوَالَاتِهِمْ وَقَدْ ضَرَبُوا وَجْهَ الْحَجَّاجِ بِالسَّيْفِ وَخَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرَّاءِ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ هُمْ خِيَارُ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاؤُهُمْ فَقَاتَلُوهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بِالْأَهْوَازِ ثُمَّ بِالْبَصْرَةِ ثُمَّ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرَاتِ بِقُرْبِ الْكُوفَةِ وَهُمْ خَالِعُونَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَاعِنُونَ لَهُمْ مُتَبَرِّئُونَ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ كَانَ سَبِيلُ مَنْ قَبْلَهُمْ مَعَ مُعَاوِيَةَ حِينَ تَغَلَّبَ عَلَى الْأَمْرِ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَأْخُذَانِ الْعَطَاءَ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهُمْ غَيْرُ مُتَوَلِّينَ لَهُ بَلْ مُتَبَرِّئُونَ مِنْهُ عَلَى السَّبِيلِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى جَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ فَلَيْسَ إذًا فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ مِنْ قِبَلِهِمْ وَلَا أَخْذِ الْعَطَاءِ مِنْهُمْ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْلِيَتِهِمْ وَاعْتِقَادِ إمَامَتِهِمْ وَرُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُ أَغْبِيَاءِ الرُّفَضَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] فِي رَدِّ إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُمَا كَانَا ظَالِمَيْنِ حِينَ كَانَا مُشْرِكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهَذَا جَهْلٌ مُفْرِطٌ لِأَنَّ هَذِهِ السِّمَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الظُّلْمِ فَأَمَّا التَّائِبُ مِنْهُ فَهَذِهِ السِّمَةُ زَائِلَةٌ عَنْهُ فَلَا جَائِزَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِصِفَةٍ فَزَالَتْ الصِّفَةُ زَالَ الْحُكْمُ وَصِفَةُ الظُّلْمِ صِفَةُ ذَمٍّ فَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَيْهِ فَإِذَا زَالَ عَنْهُ زَالَتْ الصِّفَةِ عَنْهُ كَذَلِكَ يَزُولُ عَنْهُ الْحُكْمُ الَّذِي عَلِقَ بِهِ مِنْ نَفْيِ نَيْلِ الْعَهْدِ فِي قوله تعالى [لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى [وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا] إنَّمَا هُوَ نَهْيٌ عَنْ الرُّكُونِ إلَيْهِمْ مَا أَقَامُوا عَلَى الظُّلْمِ(1/88)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى [مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ] إنَّمَا هُوَ مَا أَقَامُوا عَلَى الْإِحْسَانِ فَقَوْلُهُ [لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] لَمْ يَنْفِ بِهِ الْعَهْدَ عَمَّنْ تَابَ عَنْ ظُلْمِهِ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُسَمَّى ظالما كما لا يسمى مَنْ تَابَ مِنْ الْكُفْرِ كَافِرًا وَمَنْ تَابَ مِنْ الْفِسْقِ فَاسِقًا وَإِنَّمَا يُقَال كَانَ كَافِرًا وَكَانَ فَاسِقًا وَكَانَ ظَالِمًا وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ لَا يَنَالُ عَهْدِي مَنْ كَانَ ظَالِمًا وَإِنَّمَا نَفَى ذَلِكَ عَمَّنْ كَانَ مَوْسُومًا بِسِمَةِ الظالم والاسم لازم له باق عليه
وقوله تَعَالَى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً] البيت إما فَإِنَّهُ يُرِيدُ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْبَيْتِ مُطْلَقًا لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ إذْ كَانَا يَدْخُلَانِ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ أَوْ الْجِنْسِ وَقَدْ عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْجِنْسَ فَانْصَرَفَ إلَى الْمَعْهُودِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْكَعْبَةُ وَقَوْلُهُ [مَثابَةً لِلنَّاسِ] رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَثُوبُونَ إلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ أَحَدٌ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ قَضَى وَطَرًا مِنْهُ فَهُمْ يَعُودُونَ إلَيْهِ وَقِيلَ فِيهِ إنَّهُمْ يَحُجُّونَ إلَيْهِ فَيُثَابُونَ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَصْلُهُ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ مَثَابَةً وَثَوَابًا إذَا رَجَعَ قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّمَا أَدْخَلَ الْهَاءَ عَلَيْهِ لِلْمُبَالَغَةِ لَمَّا كَثُرَ مَنْ يَثُوبُ إلَيْهِ كَمَا يُقَالُ نَسَّابَةٌ وَعَلَّامَةٌ وَسَيَّارَةٌ وَقَالَ الْفَرَّاءُ هُوَ كَمَا قِيلَ الْمَقَامَةُ وَالْمَقَامُ وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لَمَا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ مِنْ رُجُوعِ النَّاسِ إلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ وَمِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ أَحَدٌ إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ الْعَوْدَ إلَيْهِ وَمِنْ أَنَّهُمْ يَحُجُّونَ إلَيْهِ فَيُثَابُونَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَشْهَدُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُمْ يُحِبُّونَ الْعَوْدَ إلَيْهِ بَعْدَ الِانْصِرَافِ قَوْله تَعَالَى [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ] وَقَدْ نَصَّ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى فِعْلِ الطَّوَافِ إذْ كَانَ الْبَيْتُ مَقْصُودًا وَمَثَابَةً لِلطَّوَافِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُوبِهِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِفِعْلِهِ وَرُبَّمَا احْتَجَّ مُوجِبُو الْعُمْرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا إذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ يَعُودُونَ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَدْ اقْتَضَى الْعَوْدَ إلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلِيلُ الْإِيجَابِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ الْعَوْدَ إلَيْهِ وَوَعَدَهُمْ الثَّوَابَ عليه وهذا بما يَقْتَضِي النَّدْبَ لَا الْإِيجَابَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ لَك أَنْ تَعْتَمِرَ وَلَك أَنْ تُصَلِّيَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ الْعَوْدَ إلَيْهِ بِالْعُمْرَةِ دُونَ الْحَجِّ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَجَّ فِيهِ طَوَافُ الْقُدُومِ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ وَطَوَافُ الصَّدَرِ وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْعَوْدُ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ اللَّفْظِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذَا عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَأَمَّا قَوْله تعالى [وَأَمْناً] فَإِنَّهُ وَصَفَ الْبَيْتَ بِالْأَمْنِ وَالْمُرَادُ(1/89)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
جَمِيعُ الْحَرَمِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ] وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ لَا الْكَعْبَةُ نَفْسُهَا لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ فِي الْكَعْبَةِ وَلَا فِي الْمَسْجِدِ وَكَقَوْلِهِ [وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا] وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَنْعُهُمْ مِنْ الْحَجِّ وَحُضُورِهِمْ مواضع النسك أَلَا تَرَى إلَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حِينَ بَعَثَ بِالْبَرَاءَةِ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ
مُنْبِئًا عَنْ مُرَادِ الْآيَةِ وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً]
وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ [رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً] يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَصْفَهُ الْبَيْتَ بِالْأَمْنِ اقْتَضَى جَمِيعَ الْحَرَمِ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ لَمَّا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْبَيْتِ جَازَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْبَيْتِ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ بِهِ وَحَظْرِ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ فِيهِ وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ فَكَانَ أَمْنُهُمْ فِيهَا لِأَجْلِ الْحَجِّ وَهُوَ مَعْقُودٌ بِالْبَيْتِ وَقَوْلُهُ [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً] إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ مِنْهُ بِذَلِكَ لَا خَبَرٌ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً] [وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً] كُلُّ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ مَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَلْحَقْهُ سُوءٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَوَجَدَ مُخْبِرُهُ على ما أخبر به لأن أخبار الله تَعَالَى لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ [وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ] فَأَخْبَرَ بِوُقُوعِ الْقَتْلِ فِيهِ فَدَلَّ أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا هُوَ مِنْ قَبْلِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَمْنِ فِيهِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ الْعَائِذُ بِهِ وَاللَّاجِئُ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ كَانَ حُكْمُ الْحَرَمِ مُنْذُ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَعْتَقِدُ ذلك الحرم وَتَسْتَعْظِمُ الْقَتْلَ فِيهِ عَلَى مَا كَانَ بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إنَّ اللَّهَ حبس عن مكة الفيل وسلط عليه رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا يعضد شجرها ولا ينفذ صَيْدُهَا وَلَا تُحَلُّ لَقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدِهَا فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا الْإِذْخِرَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي(1/90)
شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَقَالَ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ تَحِلَّ لِي إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ
وَرَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلَا يُسْفَكَنَّ فِيهَا دَمٌ وَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّهَا لِي سَاعَةً مِنْ نَهَار وَلَمْ يحلها للناس وَأَخْبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحَظَرَ فِيهَا سَفْكَ الدِّمَاءِ وَأَنَّ حُرْمَتَهَا بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْ تَحْرِيمِهَا تَحْرِيمَ صَيْدِهَا وَقَطْعَ الشَّجَرِ وَالْخَلَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا وَجْهُ اسْتِثْنَائِهِ الْإِذْخِرَ مِنْ الْحَظْرِ عِنْدَ مَسْأَلَةِ الْعَبَّاسِ وَقَدْ أَطْلَقَ قَبْلَ ذَلِكَ حَظْرَ الْجَمِيعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّسْخَ قَبْلَ التَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ قِيلَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الله تعالى خير نبيه صلّى الله عليه وسلم فِي إبَاحَةِ الْإِذْخِرِ وَحَظْرِهِ عِنْدَ سُؤَالِ مَنْ يسئله إبَاحَتَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى [فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ] فَخَيَّرَهُ فِي الْإِذْنِ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ وَمَعَ مَا حرم اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُرْمَتِهَا بِالنَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ فَإِنَّ من آياتها ودلالاتها على توحيدها اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِصَاصِهِ لَهَا مَا يُوجِبُ تَعْظِيمَهَا مَا يُشَاهَدُ فِيهَا مِنْ أَمْنِ الصَّيْدِ فِيهَا وَذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ بِقَاعِ الْحَرَمِ مُشْبِهَةٌ لِبِقَاعِ الْأَرْضِ وَيَجْتَمِعُ فِيهَا الظَّبْيُ وَالْكَلْبُ فَلَا يُهِيجُ الْكَلْبُ الصَّيْدَ وَلَا يَنْفِرُ مِنْهُ حَتَّى إذَا خَرَجَا مِنْ الْحَرَمِ عَدَا الْكَلْبُ عَلَيْهِ وَعَادَ هُوَ إلَى النُّفُورِ وَالْهَرَبِ وَذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَلَى تَفْضِيلِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ حَظْرُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَشَجَرِهِ وَوُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى قَتْلِهِ أَوْ قَطْعِهِ قَوْله تعالى [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى] يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله تعالى [مَثابَةً لِلنَّاسِ] لَمَّا اقْتَضَى فِعْلَ الطَّوَافِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قوله [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى] وَهُوَ أَمْرٌ ظَاهِرُهُ الْإِيجَابُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ مُوجِبٌ لِلصَّلَاةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ صَلَاةَ الطَّوَافِ وَهُوَ
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ وَذَكَرَ حَجَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَوْلِهِ اسْتَلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ثُمَّ تَقَدَّمَ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فلما تلا صلّى الله عليه وسلم عِنْدَ إرَادَتِهِ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمَقَامِ [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى]
دل ذلك على أن(1/91)
الْمُرَادَ بِالْآيَةِ فِعْلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الطَّوَافِ وَظَاهِرُهُ أَمْرٌ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّاهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ
وَهُوَ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا السَّائِبُ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُودُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَيُقِيمُهُ عِنْدَ الشُّقَّةِ الثَّالِثَةِ مِمَّا يَلِي الرُّكْنَ الَّذِي يَلِي الْحَجَرَ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَيَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ أُثْبِتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يصلي هَاهُنَا فَيَقُومُ فَيُصَلِّي فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ
عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الطَّوَافِ وَدَلَّ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا تَارَةً عِنْدَ الْمَقَامِ وَتَارَةً عِنْدَ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ فِعْلَهَا عِنْدَهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقَارِي عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ ثُمَّ رَكِبَ وَأَنَاخَ بِذِي طَوًى فَصَلَّى رَكْعَتَيْ طَوَافِهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّاهَا فِي الْحَطِيمِ وَعَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُصَلِّ خَلْفَ الْمَقَامِ أَجْزَأَ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي المراد بقوله تعالى [مَقامِ إِبْراهِيمَ] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحَجُّ كُلُّهُ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ عَطَاءٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْحَرَمُ كُلُّهُ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ السُّدِّيُّ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَتْ زَوْجَةُ إسْمَاعِيلَ وَضَعَتْهُ تَحْتَ قَدَمِ إبْرَاهِيمَ حِينَ غَسَلَتْ رَأْسَهُ فَوَضَعَ إبْرَاهِيمُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكِبٌ فَغَسَلَتْ شِقَّهُ ثُمَّ رَفَعَتْهُ مِنْ تَحْتِهِ وَقَدْ غَابَتْ رِجْلُهُ فِي الْحَجَرِ فَوَضَعَتْهُ تَحْتَ الشِّقِّ الْآخَرِ فَغَسَلَتْهُ فَغَابَتْ رِجْلُهُ أَيْضًا فِيهِ فجعلها اللَّهُ مِنْ شَعَائِرِهِ فَقَالَ [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى] وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ الحرم لا يُسَمَّى عَلَى الْإِطْلَاقِ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ المواضع التي تأوله غيرهم عليها مما ذكرنا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مَا
رَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْت مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى]
ثُمَّ صَلَّى فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ الْمَقَامِ هُوَ الْحَجَرُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرُهُ تَعَالَى إيَّانَا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ لِلصَّلَاةِ تعلق بالحرم ولا سائر المواضع الذي تأويله عَلَيْهَا مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ وَهَذَا الْمَقَامُ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَنُبُوَّةِ إبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْحَجَرِ رُطُوبَةَ الطِّينِ حَتَّى دَخَلَتْ قَدَمُهُ فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَلَّ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بقوله [مُصَلًّى] فَقَالَ فِيهِ مُجَاهِدٌ مُدَّعًى وَجَعَلَهُ مِنْ الصَّلَاةِ إذْ هِيَ الدُّعَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ] وَقَالَ الْحَسَنُ أَرَادَ بِهِ قِبْلَةً وَقَالَ قَتَادَةُ ... ...(1/92)
وَالسُّدِّيُّ أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا عِنْدَهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ إذَا أُطْلِقَ تُعْقَلُ مِنْهُ الصَّلَاةُ الْمَفْعُولَةُ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مُصَلَّى الْمِصْرِ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الْمُصَلَّى أَمَامَك
يَعْنِي بِهِ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ الْمَفْعُولَةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ تِلَاوَتِهِ الْآيَةَ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ قِبْلَةٌ فَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْعَلُهُ الْمُصَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَيَكُونُ قِبْلَةً لَهُ وَعَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا الدُّعَاءُ فَحَمْلُهُ عَلَى الصَّلَاةِ أَوْلَى لِأَنَّهَا تَنْتَظِمُ سَائِرَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأَوَّلُوا عَلَيْهَا الْآيَةَ قَوْله تَعَالَى [وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] قَالَ قَتَادَةُ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ طَهِّرَا مِنْ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ التي كانت عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي يَدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَهُمْ قَدْ نَصَبُوا عَلَى الْبَيْتِ الْأَوْثَانَ فَأَمَرَ بِكَسْرِهَا وَجَعَلَ يَطْعَنُ فِيهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)
وَقِيلَ فِيهِ طَهِّرَاهُ مِنْ فَرْثٍ وَدَمٍ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يطرحونه عنده وقال السدى طهرا بيتي ابْنِيَاهُ عَلَى الطَّهَارَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ] الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ غَيْرَ مُنَافِيهِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ ابْنِيَاهُ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَطَهِّرَاهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْفَرْثِ وَالدَّمِ وَمِنْ الْأَوْثَانِ أَنْ تُجْعَلَ فِيهِ أو تقربه وأما للطائفين فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مُرَادِ الْآيَةِ مِنْهُ فَرَوَى جويبر عن الضحاك قال للطائفين مَنْ جَاءَ مِنْ الْحُجَّاجِ وَالْعَاكِفِينَ أَهْلُ مَكَّة وَهُمْ الْقَائِمُونَ وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِك عَنْ عَطَاءٍ قَالَ الْعَاكِفُونَ مِنْ انْتَابَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْمُجَاوِرِينَ وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ قَالَ إذَا كَانَ طَائِفًا فَهُوَ مِنْ الطَّائِفِينَ وَإِذَا كَانَ جَالِسًا فَهُوَ مِنْ الْعَاكِفِينَ وَإِذَا كَانَ مُصَلِّيًا فَهُوَ مِنْ الرُّكَّعِ السُّجُودِ وَرَوَى ابْنُ فُضَيْلٍ عن ابن عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ [طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] قَالَ الطَّوَافُ قَبْلَ الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلُ الضَّحَّاكِ مَنْ جَاءَ مِنْ الْحُجَّاجِ فَهُوَ مِنْ الطَّائِفِينَ رَاجِعٌ أَيْضًا إلَى مَعْنَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِأَنَّ مَنْ يَقْصِدُ الْبَيْتَ فَإِنَّمَا يَقْصِدُهُ لِلطَّوَافِ بِهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ خَصَّ بِهِ الْغُرَبَاءَ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَالْغُرَبَاءَ فِي فِعْلِ الطَّوَافِ سَوَاءٌ فَإِنْ قِيلَ فَإِنَّمَا تَأَوَّلَهُ الضَّحَّاكُ عَلَى الطَّائِفِ الَّذِي هُوَ طَارِئٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [فَطافَ عَلَيْها(1/93)
طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ]
وقوله [إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ] قِيلَ لَهُ إنَّهُ وَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَالطَّوَافُ مُرَادٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الطَّارِئَ إنَّمَا يَقْصِدُهُ لِلطَّوَافِ فَجَعَلَهُ هُوَ خَاصًّا فِي بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ وَهَذَا لَا دَلَالَةَ لَهُ فِيهِ فَالْوَاجِبُ إذَا حَمَلَهُ عَلَى فِعْلِ الطَّوَافِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَالْعَاكِفِينَ مَنْ يَعْتَكِفُ فِيهِ وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الِاعْتِكَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ [وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] فخص البيت في هذا الموضع الْآخَرُ الْمُقِيمُونَ بِمَكَّةَ اللَّائِذُونَ بِهِ إذَا كَانَ الِاعْتِكَافُ هُوَ اللُّبْثُ وَقِيلَ فِي الْعَاكِفِينَ الْمُجَاوِرُونَ وَقِيلَ أَهْلُ مَكَّةَ وَذَلِكَ كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى اللُّبْثِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَوْضِعِ قَالَ أَبُو بكر هو عَلَى قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ الطَّائِفِينَ عَلَى الْغُرَبَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ قَدْ أفاد لا محالة الطواف للغرباء إذا كَانُوا إنَّمَا يَقْصِدُونَهُ لِلطَّوَافِ وَأَفَادَ جَوَازَ الِاعْتِكَافِ فيه بقوله والعاكفين وَأَفَادَ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِيهِ أَيْضًا وَبِحَضْرَتِهِ فَخَصَّ الْغُرَبَاءَ بِالطَّوَافِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الطَّوَافِ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ الَّذِي هو اللبث مِنْ غَيْرِ طَوَافٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّ الطَّوَافَ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ أَفْضَلُ وَالصَّلَاةَ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَفْضَلُ فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ مَعَانِيَ مِنْهَا فِعْلُ الطَّوَافِ فِي الْبَيْتِ وَهُوَ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الثَّوَابَ وَأَنَّهُ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَفِعْلُ الِاعْتِكَافِ في البيت وبحضرته بقوله والعاكفين وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا إذْ لَمْ تُفَرِّقَ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي الْبَيْتِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى فِي الْبَيْتِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ
فَتِلْكَ الصَّلَاةُ لَا مَحَالَةَ كَانَتْ تَطَوُّعًا لِأَنَّهُ صَلَّاهَا حِينَ دَخَلَ ضُحَى وَلَمْ يَكُنْ وَقْتَ صَلَاةٍ وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الْجِوَارِ بِمَكَّةَ لِأَنَّ قوله والعاكفين يَحْتَمِلُهُ إذَا كَانَ اسْمًا لِلُّبْثِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْمَجَازِ عَلَى أَنَّ عَطَاءً وَغَيْرَهُ قَدْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْمُجَاوِرِينَ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ قَبْلَ الصَّلَاةُ لِمَا تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الطَّوَافِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُهُ قِيلَ لَهُ قَدْ اقْتَضَى اللَّفْظُ فِعْلَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ جَمِيعًا وَإِذَا ثَبَتَ طَوَافٌ مَعَ صَلَاةٍ فَالطَّوَافِ لَا مَحَالَةَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَقْدِيمِهِ عَلَيْهَا فَإِنْ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ(1/94)
فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فِي الْبَيْتِ وَكَمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الطَّوَافِ فِي جَوْفِ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى فِعْلِهِ خَارِجَ الْبَيْتِ كَذَلِكَ دَلَالَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ إلَى الْبَيْتِ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِ قِيلَ لَهُ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى [طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] قَدْ اقْتَضَى فِعْلَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ كَمَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الِاعْتِكَافِ فِي الْبَيْتِ وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُ الطَّوَافُ فِي كَوْنِهِ مَفْعُولًا خَارِجَ الْبَيْتِ بِدَلِيلِ الِاتِّفَاقِ وَلِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ إنَّمَا هُوَ بِأَنْ يَطُوفَ حَوَالَيْهِ خَارِجًا مِنْهُ وَلَا يُسَمَّى طَائِفًا بِالْبَيْتِ مَنْ طَافَ فِي جوفه والله سبحانه إنما أمرنا بالطواف فيه به لا بالطواف بقوله تعالى [وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] وَمَنْ صَلَّى دَاخِلَ الْبَيْتِ يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّوَجُّهَ إلَيْهِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ لِلرُّكَّعِ والسجود وجه إذ كان حاضروا الْبَيْتِ وَالنَّاءُونَ عَنْهُ سَوَاءً فِي الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَطْهِيرَهُ إنَّمَا هُوَ لِحَاضِرِيهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ دُونَ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ بِتَطْهِيرِ نَفْسِ الْبَيْتِ لِلرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَنْتَ مَتَى حَمَلْته عَلَى الصَّلَاةِ خَارِجًا كَانَ التَّطْهِيرُ لِمَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَأَيْضًا إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا فَيَكُونَانِ جَمِيعًا مُرَادَيْنِ فَيَجُوزُ فِي الْبَيْتِ وَخَارِجِهِ فَإِنْ قِيلَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] كَذَلِكَ قَالَ [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] وَذَلِكَ يَقْتَضِي فِعْلَهَا خَارِجِ الْبَيْتِ فَيَكُونُ مُتَوَجِّهًا إلَى شَطْرِهِ قِيلَ لَهُ لَوْ حَمَلْت اللَّفْظَ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَعَلَى قَضِيَّتِك أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّهُ قَالَ [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ] وَمَتَى كَانَ فِيهِ فَعَلَى قَوْلِك لَا يَكُونُ متوجها إليه قال فإن أَرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْبَيْتَ نَفْسَهُ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يُوجِبُ جَوَازَ الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّهًا إلَى الْبَيْتِ قِيلَ لَهُ فَمَنْ كَانَ فِي جَوْفِ الْبَيْتِ هُوَ مُتَوَجِّهٌ شَطْرَ الْبَيْتِ لِأَنَّ شطره ناحية وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِيهِ فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى نَاحِيَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْبَيْتِ فَتَوَجَّهَ إلَيْهِ فَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ دُونَ جَمِيعِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ فَفِعْلُهُ مُطَابِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا مِنْ قَوْله تَعَالَى [طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] وقَوْله تَعَالَى [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ] إذْ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ وَمِنْ الْمَسْجِدِ جَمِيعًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاَلَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ(1/95)
الطَّوَافِ عَامٌّ فِي سَائِرِ مَا يُطَافُ مِنْ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالنَّدْبِ لِأَنَّ الطَّوَافَ عِنْدَنَا عَلَى هَذِهِ الْأَنْحَاءِ الثَّلَاثَةِ فَالْفَرْضُ هُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بقوله تعالى [وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] وَالْوَاجِبُ هُوَ طَوَافُ الصَّدَرِ وَوُجُوبُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ السنة
بقوله صلّى الله عليه وسلم (مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ)
وَالْمَسْنُونُ وَالْمَنْدُوبُ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ طَوَافُ الْقُدُومِ لِلْحَجِّ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا فَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنُوبُ عَنْهُ شَيْءٌ يَبْقَى الْحَاجُّ مُحْرِمًا مِنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَهُ وَأَمَّا طَوَافُ الصَّدَرِ فَإِنَّ تَرْكَهُ يُوجِبُ دَمًا إذَا رَجَعَ الْحَاجُّ إلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَطُفْهُ وَأَمَّا طَوَافُ الْقُدُومِ فَإِنَّ تَرْكَهُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بَابُ ذِكْرِ صِفَةِ الطَّوَافِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَفِيهِ رَمَلٌ فِي الثلاثة أشواط الْأُوَلِ وَكُلُّ طَوَافٍ لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة فَلَا رَمَلَ فِيهِ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ طَوَافِ الْقُدُومِ إذَا أَرَادَ السَّعْيَ بَعْدَهُ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ إذَا لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حِينَ قَدِمَ فَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى حِينَ قَدِمَ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَلَا رَمَلَ فِيهِ وَطَوَافُ الْعُمْرَةِ فِيهِ رَمَلٌ لِأَنَّ بَعْدَهُ سَعْيًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَقَدْ رَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم حين قدم مكة حاجا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَذَلِكَ
رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ
وروى نحو ذلك عن عمرو ابن مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ
وَرَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رَمَلَ مِنْ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ثُمَّ مَشَى إلَى الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالنَّظَرُ يَدُلُّ عَلَى مَا رَوَاهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ قِبَلِ اتِّفَاقِ الْأَوَّلِينَ جَمِيعًا عَلَى تَسَاوِي الْأَرْبَعِ الْأَوَاخِرِ فِي الْمَشْيِ فِيهِنَّ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ فِي الرَّمَلِ فِيهِنَّ فِي جَمِيعِ الْجَوَانِبِ إذْ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ اخْتِلَافُ حُكْمِ جَوَانِبه فِي الْمَشْيِ وَلَا الرَّمَلِ فِي سَائِرِ أَحْكَامِ الطَّوَافِ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي بَقَاءِ سُنَّةِ الرَّمَلِ فَقَالَ قَائِلُونَ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ سُنَّةً حِينَ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مرائيا به للمشركين إظهار لِلتَّجَلُّدِ وَالْقُوَّةِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا قَدْ أَوْهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فَأَمَرَهُمْ بِإِظْهَارِ الْجَلَدِ لِئَلَّا يَطْمَعَ فِيهِمْ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عن أبيه قال سمعت عمر ابن الْخَطَّابِ يَقُولُ فِيمَ الرَّمَلَانُ الْآنَ وَالْكَشْفُ عَنْ الْمَنَاكِبِ وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ(1/96)
وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ قَوْمَك يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ بِالْبَيْتِ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ قَالَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا
قَدْ رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ بَدِيًّا لِإِظْهَارِ الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ مُرَاءَاةً لِلْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ
قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُشْرِكُونَ
وَقَدْ فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ فَثَبَتَ بَقَاءُ حُكْمِهِ وَلَيْسَ تَعَلُّقُهُ بَدِيًّا بِالسَّبَبِ الْمَذْكُورِ مِمَّا يُوجِبُ زَوَالَ حُكْمِهِ حَيْثُ زَالَ السَّبَبُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ رَمْيِ الْجِمَارِ أَنَّ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ عَرَضَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَوْضِعِ الْجِمَارِ فَرَمَاهُ ثُمَّ صَارَ الرَّمْيُ سُنَّةً بَاقِيَةً مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ السَّبَبِ وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة أَنَّ أُمَّ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَعِدَتْ الصَّفَا تَطْلُبُ الْمَاءَ ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَسْرَعَتْ الْمَشْيَ فِي بَطْنِ الْوَادِي لِغَيْبَةِ الصَّبِيِّ عَنْ عَيْنِهَا ثُمَّ لَمَّا صَعِدَتْ مِنْ الْوَادِي رَأَتْ الصَّبِيَّ فَمَشَتْ عَلَى هِينَتِهَا وَصَعِدَتْ الْمَرْوَةَ تَطْلُبُ الْمَاءَ فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَصَارَ السَّعْيُ بَيْنَهُمَا سُنَّةً وَإِسْرَاعُ الْمَشْيِ فِي الْوَادِي سُنَّةٌ مَعَ زَوَالِ السَّبَبِ الَّذِي فُعِلَ مِنْ أَجْلِهِ فَكَذَلِكَ الرَّمَلُ فِي الطَّوَافِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ وَالْيَمَانِيَ دُونَ غَيْرِهِمَا وَقَدْ رُوِيَ ذلك عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ حِينَ أُخْبِرَ بِقَوْلِ عَائِشَةَ إنَّ الحجر بعضه من البيت أنى لا أظن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ اسْتِلَامَهُمَا إلَّا أَنَّهُمَا لَيْسَا عَلَى قَوَاعِدِ الْبَيْتِ وَلَا طَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ إلَّا لِذَلِكَ وَقَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ طُفْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمَّا كُنْت عِنْدَ الرُّكْنِ الَّذِي يَلِي الْحَجَرَ أَخَذْت أَسْتَلِمُهُ فَقَالَ مَا طُفْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت بَلَى قَالَ فَرَأَيْته يَسْتَلِمُهُ قُلْت لَا قَالَ [لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] قَوْله تَعَالَى [وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً] الْآيَةَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَعْنَى مَأْمُونٍ فِيهِ كقوله تعالى [فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ] يَعْنِي مَرْضِيَّةً وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَهْلَ البلد كقوله تعالى [وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ] مَعْنَاهُ أَهْلَهَا وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الْأَمْنَ وَالْخَوْفَ لَا يَلْحَقَانِ الْبَلَدَ وَإِنَّمَا يَلْحَقَانِ مَنْ فِيهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْأَمْنِ الْمَسْئُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَائِلُونَ سَأَلَ الْأَمْنَ مِنْ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ لِأَنَّهُ أَسْكَنَ أَهْلَهُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زرع ولا ضرع ولم يسئله الْأَمْنَ مِنْ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ لِأَنَّهُ كَانَ آمِنًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلُ وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ سَأَلَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ كَقَوْلِهِ(1/97)
تعالى [مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً] وقوله [وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً] وَقَوْلِهِ [وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً] وَالْمُرَادُ وَاَللَّه أَعْلَمُ بِذَلِكَ الْأَمْنُ مِنْ الْقَتْلِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ سَأَلَهُ مَعَ رِزْقِهِمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ] وَقَالَ عَقِيبَ مَسْأَلَةِ الْأَمْنِ فِي قَوْله تَعَالَى [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ] ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ [رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ] إلى قوله [وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ] فَذَكَرَ مَعَ مَسْأَلَتِهِ الْأَمْنَ وَأَنْ يَرْزُقَهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ فَالْأَوْلَى حَمْلُ مَعْنَى مَسْأَلَةِ الْأَمْنِ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْنِهَا مِنْ الْقَتْلِ قَدْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لِعَهْدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام
لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)
يَعْنِي القتال فيها قيل له هذا لا ينفى صحة مسألته لأنه قد يجوز نسخ تحريم القتل والقتال فِيهَا فَسَأَلَهُ إدَامَةَ هَذَا الْحُكْمِ فِيهَا وَتَبْقِيَتَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ بَعْدَهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَرَمًا وَلَا أَمْنًا قَبْلَ مَسْأَلَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ (إنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْت الْمَدِينَةَ)
وَالْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي)
أَقْوَى وَأَصَحُّ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا دَلَالَةَ فيه أنه لم تكن حرما قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرَّمَهَا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَاتَّبَعَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَتْ بِهِ حَرَامًا بَعْدَ الدعوة والوجه الأول بمنع مِنْ اصْطِلَامِ أَهْلِهَا وَمِنْ الْخَسْفِ بِهِمْ وَالْقَذْفِ الَّذِي لَحِقَ غَيْرَهَا وَبِمَا جَعَلَ فِي النُّفُوسِ مِنْ تَعْظِيمِهَا وَالْهَيْبَةِ لَهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي بِالْحُكْمِ بِأَمْنِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلى ذلك قوله تعالى [وَمَنْ كَفَرَ] قَدْ تَضَمَّنَ اسْتِجَابَتَهُ لِدَعْوَتِهِ وَإِخْبَارَهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ كَانَتْ دَعْوَةُ إبْرَاهِيمَ خَاصَّةً لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَدَلَّتْ الْوَاوُ الَّتِي في قوله ومن كفر عَلَى إجَابَةِ دَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ وَعَلَى اسْتِقْبَالِ الْأَخْبَارِ بِمُتْعَةِ مَنْ كَفَرَ قَلِيلًا وَلَوْلَا الْوَاوُ لَكَانَ كلاما متقطعا مِنْ الْأَوَّلِ غَيْرَ دَالٍّ عَلَى اسْتِجَابَةِ دَعَوْتِهِ فيما سأله وقيل في معنى أمتعه أَنَّهُ إنَّمَا يُمَتِّعُهُ بِالرِّزْقِ الَّذِي يَرْزُقُهُ(1/98)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
إلَى وَقْتِ مَمَاتِهِ وَقِيلَ أُمَتِّعُهُ بِالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَقَالَ الْحَسَنُ أُمَتِّعُهُ بِالرِّزْقِ وَالْأَمْنِ إلَى خُرُوجِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْتُلُهُ إن أقام عَلَى كُفْرِهِ أَوْ يُجْلِيهِ عَنْهَا فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ حَظْرَ قَتْلِ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً] مَعَ وُقُوعِ الِاسْتِجَابَةِ لَهُ وَالثَّانِي قَوْلُهُ [وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا] لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى قَتْلَهُ بِذِكْرِ الْمُتْعَةِ إلَى وَقْتِ الْوَفَاةِ
[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ] الْآيَةَ قَوَاعِدُ الْبَيْتِ أَسَاسُهُ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بِنَاءِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ بَنَاهُ عَلَى قَوَاعِدَ قَدِيمَةٍ أَوْ أَنْشَأَهَا هُوَ ابْتِدَاءً فَرَوَى معمر عن أيوب عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ الْقَوَاعِدَ مِنَ البيت قَالَ الْقَوَاعِدُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ قَوَاعِدُ الْبَيْتِ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ ثُمَّ دُحِيَتْ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحُجُّ الْبَيْتَ قَبْل آدَمَ ثُمَّ حَجَّهُ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْشَأَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ إيَّاهُ وَقَالَ الْحَسَنُ أَوَّلُ مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ إبْرَاهِيمُ وَاخْتُلِفَ فِي الْبَانِي مِنْهُمَا لِلْبَيْتِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ إبْرَاهِيمُ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إضَافَةِ فِعْلِ البناء إليهما وإن كان أحدهما معينا فِيهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا فِي
قَوْلِهِ صلّى الله عليه وسلم لعائشة لو قدمت قَبْلِي لَغَسَّلْتُك وَدَفَنْتُكِ
يَعْنِي أَعَنْت فِي غَسْلِكَ وَقَالَ السُّدِّيُّ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ هُمَا بَنَيَاهُ جَمِيعًا وَقِيلَ فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ إنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ رَفَعَهَا وَكَانَ إسْمَاعِيلُ صَغِيرًا فِي وَقْتِ رَفْعِهَا وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى قد أضاف الفعل إليهما وكذلك أطلق عليهما إذ رَفَعَاهُ جَمِيعًا أَوْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا وَنَاوَلَهُ الْآخَرُ الْحِجَارَةَ وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ جَائِزَانِ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ لَا يَجُوزُ وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى [طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى [وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] اقْتَضَى ذَلِكَ الطَّوَافَ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ اقْتَصَرُوا فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ فَادْخُلِي الْحِجْرَ وَصَلِّي عِنْدَهُ
وَلِذَلِكَ طَافَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ حَوْلَ الْحَجَرِ لِيَحْصُلَ الْيَقِينُ بِالطَّوَافِ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ وَلِذَلِكَ أَدْخَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي الْبَيْتِ لَمَّا بَنَاهُ حِينَ احْتَرَقَ ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الْحَجَّاجُ أَخْرَجَهُ مِنْهُ قَوْله تَعَالَى [رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا] مَعْنَاهُ يَقُولَانِ رَبَّنَا تَقْبَلْ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عليه كقوله تعالى [وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ] يَعْنِي يَقُولُونَ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ وَالتَّقَبُّلُ هُوَ إيجَابُ(1/99)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كَوْنَ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ قُرْبَةً لِأَنَّهُمَا بَنَيَاهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَأُخْبِرَا بِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِهِ وَهُوَ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَلَوْ مثل مفحص قطاة بنى الله له بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)
قَوْله تَعَالَى [وَأَرِنا مَناسِكَنا] يُقَالُ إنَّ أَصْلَ النُّسُكِ فِي اللُّغَةِ الْغَسْلُ يُقَالُ مِنْهُ نَسَكَ ثَوْبَهُ إذَا غَسَلَهُ وَقَدْ أُنْشِدَ فِيهِ بَيْتُ شِعْرٍ:
وَلَا يُنْبِتُ الْمَرْعَى سِبَاخُ عَرَاعِرِ ... وَلَوْ نُسِكَتْ بِالْمَاءِ سِتَّةَ أَشْهُرِ
وَفِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ يُقَالُ رَجُلٌ نَاسِكٌ أَيْ عَابِدٌ
وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقَالَ (إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ فَسَمَّى الصَّلَاةَ نُسُكًا وَالذَّبِيحَةُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ تُسَمَّى نُسُكًا)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ] يَعْنِي ذَبْحَ شَاةٍ وَمَنَاسِكُ الْحَجِّ مَا يَقْتَضِيه مِنْ الذَّبْحِ وَسَائِرِ أَفْعَالِهِ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)
وَالْأَظْهَرُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ [وَأَرِنا مَناسِكَنا] سَائِرُ أَعْمَالِ الْحَجِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمَا بِبِنَاءِ الْبَيْتِ لِلْحَجِّ
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (أتى جبرئيل إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَرَاحَ بِهِ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ مِنًى)
وَذَكَرَ أَفْعَالَ الْحَجِّ عَلَى نَحْوِ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ قَالَ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً] وكذلك
أرسل النبي صلّى الله عليه وسلم إلَى قَوْمٍ بِعَرَفَاتٍ وُقُوفٍ خَلْفَهُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِهَا فَقَالَ كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إرْثٍ مِنْ إرْثِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَوْله تَعَالَى [وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ] يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ اتِّبَاعِ إبْرَاهِيمَ فِي شَرَائِعِهِ فِيمَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ وَأَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ رَاغِبٌ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إذ كانت ملة النبي صلّى الله عليه وسلم مُنْتَظِمَةً لِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَزَائِدَةً عَلَيْهَا.
بَابُ مِيرَاثِ الْجَدِّ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً] فَسَمَّى الْجَدَّ وَالْعَمَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبًا وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ [وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ] وَقَدْ احْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ فِي تَوْرِيثِ الْجَدِّ دُونَ الْإِخْوَةِ وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ وَاَللَّهِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ جَدًّا وَلَا جَدَّةً إلَّا أَنَّهُمْ الْآبَاءُ [وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ(1/100)
وَيَعْقُوبَ]
وَاحْتِجَاجُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَوْرِيثِ الْجَدِّ دُونَ الْإِخْوَةِ وَإِنْزَالِهِ مَنْزِلَةَ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ عِنْدَ فَقْدِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاحْتِجَاجِ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى [وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ] فِي اسْتِحْقَاقِهِ الثُّلُثَيْنِ دُونَ الْإِخْوَةِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الْأَبُ دُونَهُمْ إذَا كَانَ بَاقِيًا وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْأَبِ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الأب في الميراث إذا لَمْ يَكُنْ أَبٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ عُثْمَانُ قَضَى أَبُو بَكْرٍ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ وَأَطْلَقَ اسْمَ الْأُبُوَّةِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي الْجَدِّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنْ الثُّلُثِ فَيُعْطَى الثُّلُثَ وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهُ شَيْئًا
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجَدِّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْإِخْوَةِ مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنْ السُّدُسِ فَيُعْطَى السُّدُسَ وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهُ شَيْئًا
وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِيهِ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَالْحِجَاجُ لِلْفَرْقِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْحِجَاجَ بِالْآيَةِ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ظَاهِرُ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ أَبًا وَالثَّانِي احْتِجَاجُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ وَإِطْلَاقُهُ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْأَسْمَاءِ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَا أَطْلَقَاهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَحُجَّتُهُ ثَابِتَةٌ إذْ كَانَتْ أَسْمَاءُ الشَّرْعِ طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ وَمَنْ يَدْفَعُ الِاحْتِجَاجَ بِهَذَا الظَّاهِرِ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْعَمَّ أَبًا فِي الْآيَةِ لِذِكْرِهِ إسْمَاعِيلَ فِيهَا وَهُوَ عَمُّهُ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي يَعْنِي الْعَبَّاسَ وَهُوَ عَمُّهُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَيَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْجَدَّ إنَّمَا سُمِّيَ أَبًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِجَوَازِ انْتِفَاءِ اسْمِ الْأَبِ عَنْهُ لِأَنَّك لَوْ قُلْت لِلْجَدِّ إنَّهُ لَيْسَ بِأَبٍ لَكَانَ ذَلِكَ نَفْيًا صَحِيحًا وَأَسْمَاءُ الْحَقَائِقِ لَا تَنْتَفِي عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا بِحَالٍ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْجَدَّ إنَّمَا سُمِّيَ أَبًا بِتَقْيِيدِ وَالْإِطْلَاقُ لَا يَتَنَاوَلُهُ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ فِيهِ بِعُمُومِ لَفْظِ الْأَبَوَيْنِ فِي الْآيَةِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْأَبَ الأدنى في قوله تعالى [وَوَرِثَهُ أَبَواهُ] مُرَادٌ بِالْآيَةِ فَلَا جَائِزَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَدُّ لِأَنَّهُ مَجَازٌ وَلَا يَتَنَاوَلُ الْإِطْلَاقُ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَمَّا دَفْعُ الِاحْتِجَاجِ بِعُمُومِ لَفْظِ الْأَبِ فِي إثْبَاتِ الْجَدِّ أَبًا مِنْ حَيْثُ سُمِّيَ الْعَمُّ أَبًا فِي الْآيَةِ مَعَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ بِحَالٍ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يُعْتَمَدُ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْأَبِ إنْ كَانَ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّ وَالْعَمَّ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَجَائِزٌ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي سَائِرِ مَا أُطْلِقَ فِيهِ فَإِنْ خُصَّ الْعَمُّ بِحُكْمِ(1/101)
دُونَ الْجَدِّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ بَقَاءَ حُكْمِ الْعُمُومِ فِي الْجَدِّ وَيَخْتَلِفَانِ أَيْضًا فِي الْمَعْنَى مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْأَبَ إنَّمَا سُمِّيَ بِهَذَا الإسم لأن الإبن منسوب إليه بالولاد وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْجَدِّ وَإِنْ كَانَا يَخْتَلِفَانِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَدِّ وَاسِطَةٌ وَهُوَ الْأَبُ وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبِ وَالْعَمُّ لَيْسَتْ لَهُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ إذْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَدَّ وَإِنْ بَعُدَ فِي الْمَعْنَى بِمَعْنَى مَنْ قَرُبَ فِي إطْلَاقِ الإسم وفي الحكم جميعا إذا لَمْ يَكُنْ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ فَكَانَ لِلْجَدِّ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاخْتِصَاصِ فَجَائِزٌ أَنْ يتناوله إطْلَاقُ اسْمِ الْأَبِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَمِّ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ مُطْلَقًا وَلَا يعقل منه أيضا إلا بتقيد وَالْجَدُّ مُسَاوٍ لِلْأَبِ فِي مَعْنَى الْوِلَادِ فَجَائِزٌ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ اسْمُ الْأَبِ وَأَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ عِنْدَ فَقْدِهِ حُكْمَهُ وَأَمَّا مَنْ دَفَعَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْجَدِّ بِاسْمِ الْأَبِ مَجَازٌ وَأَنَّ الْأَبَ الْأَدْنَى مُرَادٌ بِالْآيَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إرَادَةُ الْجَدِّ بِهِ لِانْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ اسْمٌ وَاحِدٌ مَجَازًا حَقِيقَةً فَغَيْرُ وَاجِبٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ سُمِّيَ الْأَبُ بِهَذَا الِاسْمِ وَهُوَ النِّسْبَةُ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادِ مَوْجُودٌ فِي الْجَدِّ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قَدْ سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَجَازَ إطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ بِهِ مِنْ الْآخَرِ كَالْإِخْوَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَهُمْ هَذَا الِاسْمُ لِأَبٍ كَانُوا أَوْ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَيَكُونُ الَّذِي لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْأُخُوَّةِ مِنْ الَّذِينَ لِلْأَبِ وَالِاسْمُ فِيهِمَا جَمِيعًا حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ حَقِيقَةً فِي مَعْنَيَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْإِطْلَاقُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ النَّجْمِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ حَقِيقَةً وَالْإِطْلَاقُ عِنْدَ الْعَرَبِ يَتَنَاوَلَ النَّجْمَ الَّذِي هُوَ الثُّرَيَّا يَقُولُ الْقَائِلُ مِنْهُمْ فَعَلَتْ كَذَا وَكَذَا وَالنَّجْمُ عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ يَعْنِي الثُّرَيَّا وَلَا تَعْقِلُ الْعَرَبُ بِقَوْلِهَا طَلَعَ النَّجْمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَيْرَ الثُّرَيَّا وَقَدْ سَمَّوْا هَذَا الِاسْمَ لِسَائِرِ نُجُومِ السَّمَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَكَذَلِكَ اسْمُ الْأَبِ لَا يَمْتَنِعُ عِنْدَ الْمُحْتَجِّ بِمَا وَصَفْنَا أَنْ يَتَنَاوَلَ الْأَبَ وَالْجَدَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنْ اُخْتُصَّ الْأَبُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَا يَكُونُ فِي اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْأَبِ فِي الْأَبِ الْأَدْنَى وَالْجَدِّ إيجَابُ كَوْنِ لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ حَقِيقَةً مَجَازًا فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ اسْمُ الْأَبِ مُخْتَصًّا بِالنِّسْبَةِ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادِ لَلَحِقَ الْأُمَّ هَذَا الِاسْمُ لِوُجُودِ الْوِلَادِ فِيهَا فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تُسَمَّى الْأُمُّ أَبًا وَكَانَتْ الْأُمُّ أُولَى بِذَلِكَ مِنْ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِوُجُودِ الْوِلَادَةِ حَقِيقَةً مِنْهَا قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَدْ خَصُّوا الْأُمُّ بِاسْمٍ دُونَهُ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَإِنْ كَانَ(1/102)
الْوَلَدُ مَنْسُوبًا إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْوِلَادِ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْأُمَّ أَبًا حِينَ جَمَعَهَا مَعَ الْأَبِ فَقَالَ تَعَالَى [وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ] وَمِمَّا يَحْتَجُّ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَلِلْقَائِلِينَ بِقَوْلِهِ أَنَّ الْجَدَّ يَجْتَمِعُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ بِالنِّسْبَةِ وَالتَّعْصِيبِ مَعًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَا بِنْتًا وَجَدًّا كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ بِالنِّسْبَةِ وَالتَّعْصِيبِ كَمَا لَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَأَبًا يَسْتَحِقُّ بِالنِّسْبَةِ وَالتَّعْصِيبِ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ دُونَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْجَدَّ يَسْتَحِقُّ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي نَفْيِ مُشَارَكَةِ الْإِخْوَةِ إذْ كَانَتْ الْإِخْوَةُ
إنَّمَا تَسْتَحِقُّهُ بالتعصيب منفردا عن الولاد وَوَجْهٌ آخَرُ فِي نَفْيِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُقَاسَمَةِ وَهُوَ أَنَّ الْجَدَّ يَسْتَحِقُّ السُّدُسَ مَعَ الِابْنِ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَبُ مَعَهُ فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقّ الْإِخْوَةُ مَعَ الْأَبِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ لَهُمْ ذَلِكَ مَعَ الْجَدَّ فَإِنْ قِيلَ الْأُمُّ تَسْتَحِقُّ السُّدُسَ مَعَ الِابْنِ وَلَمْ يَنْتِفْ بِذَلِكَ تَوْرِيثُ الْإِخْوَةِ مَعَهَا قِيلَ لَهُ إنَّمَا نُصِّفَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ لِنَفْيِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ عَلَى وَجْه الْمُقَاسَمَةِ وَإِذَا انْتَفَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي الْمُقَاسَمَةِ إذَا انْفَرَدُوا مَعَهُ سَقَطَ الْمِيرَاثُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَرِثَهُمْ مَعَهُ يُوجِبُ الْقِسْمَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمْ عَلَى اعْتِبَارٍ مِنْهُمْ فِي الثُّلُثِ أَوْ السُّدُسِ وَأَمَّا الْأُمُّ فَلَا تَقَعُ بَيْنهَا وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ مُقَاسَمَةٌ بِحَالٍ وَنَفْيُ الْقِسْمَةِ لَا يَنْفِي مِيرَاثَهُمْ وَنَفْيُ مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ لِلْجَدِّ إذَا انْفَرَدُوا يُوجِبُ إسْقَاطَ مِيرَاثِهِمْ مَعَهُ إذْ كَانَ مَنْ يُوَرِّثُهُمْ مَعَهُ إنَّمَا يُوَرِّثُهُمْ بِالْمُقَاسَمَةِ وَإِيجَابِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فلما سقطت المقاسمة ما وَصَفْنَا سَقَطَ مِيرَاثُهُمْ مَعَهُ إذْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوْلَانِ قَوْلُ مَنْ يُسْقِطُ مَعَهُ مِيرَاثَهُمْ رَأْسًا وَقَوْلُ مَنْ يُوجِبُ الْمُقَاسَمَةَ فَلَمَّا بَطَلَتْ الْمُقَاسَمَةُ بِمَا وَصَفْنَا ثَبَتَ سُقُوطُ مِيرَاثِهِمْ مَعَهُ فإن قال قائل إن الْجَدُّ يُدْلِي بِابْنِهِ وَهُوَ أَبُو الْمَيِّتِ وَالْأَخُ يُدْلِي بِأَبِيهِ فَوَجَبَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا كَمَنْ تَرَكَ أَبَاهُ وَابْنَهُ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ صَحَّ هَذَا الِاعْتِبَارُ لَمَا وَجَبَتْ الْمُقَاسَمَةُ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَدِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخِ مَا بَقِيَ كَمَنْ تَرَكَ أَبًا وَابْنًا لِلْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ إذَا تَرَكَ جَدَّ أَبٍ وعما أن يقاسمه العم لأن جد لأب يُدْلِي بِالْجَدِّ الْأَدْنَى وَالْعَمُّ أَيْضًا يُدْلِي بِهِ لِأَنَّهُ ابْنُهُ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى سُقُوطِ مِيرَاثِ الْعَمِّ مَعَ جَدِّ الْأَبِ مَعَ وُجُودِ العلة التي وصفت دل ذلك على انتفاضها وَفَسَادِهَا وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الِاعْتِلَالِ أَنَّ ابن(1/103)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
الْأَخِ يُشَارِكُ الْجَدَّ فِي الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ يَقُولُ أن ابْنُ ابْنِ الْأَبِ وَالْجَدُّ أَبُ الْأَبِ وَلَوْ تَرَكَ أَبًا وَابْنَ ابْنٍ كَانَ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ لِابْنِ الِابْنِ
قَوْله تَعَالَى [تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ] يَدُلُّ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْأَبْنَاءَ لَا يُثَابُونَ عَلَى طَاعَةِ الْآبَاءِ وَلَا يُعَذَّبُونَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَفِيهِ إبْطَالُ مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْذِيبَ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ بِذُنُوبِ الْآبَاءِ وَيُبْطِلُ مَذْهَبَ مَنْ يَزْعُمُ مِنْ الْيَهُودِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ بِصَلَاحِ آبَائِهِمْ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى [وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها] [وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى] وَقَالَ [فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ]
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لِأَبِي رِمْثَةَ وَرَآهُ مَعَ ابْنِهِ أَهُوَ ابْنُك فَقَالَ نَعَمْ قَالَ أَمَا إنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ وقال صلّى الله عليه وسلم يا بنى هاشم لا تأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بِأَنْسَابِكُمْ فَأَقُولُ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شيا
وقال صلّى الله عليه وسلم (مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)
قَوْله تَعَالَى [فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] إخْبَارٌ بِكِفَايَةِ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ أَعْدَائِهِ فَكَفَاهُ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَحِرْصِهِمْ فَوَجَدَ مُخْبِرَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ] فَعَصَمَهُ مِنْهُمْ وَحَرَسَهُ مِنْ غَوَائِلِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ اتِّفَاقُ وُجُودَ مُخْبِرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ إلَّا وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ مُخْبِرِ أَخْبَارِ الْمُتَخَرِّصِينَ وَالْكَاذِبِينَ عَلَى حَسَبِ مَا يُخْبِرُونَ بَلْ أَكْثَرُ أَخْبَارِهِمْ كَذِبٌ وَزُورٌ يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ لِسَامِعِيهِ وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الشَّاذِّ النَّادِرِ إنَّ اتَّفَقَ
قَوْله تَعَالَى [سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها] قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يصلي بِمَكَّةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبَعْدَ الْهِجْرَةِ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ كَانَ التَّحْوِيلُ إلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَقَالَ قَتَادَةَ لِسِتَّةَ عَشَرَ وَرُوِيَ عَنْ أنس بن مالك أنه تسعة أشهر وعشرة أَشْهُرٍ ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ ثُمَّ حَوَّلَهَا إلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى [سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها] الْآيَةَ
وقَوْله تَعَالَى [وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ]
وقَوْله تَعَالَى [قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها] فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا(1/104)
دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يُصَلِّي إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ وَبَعْدَ ذَلِكَ حَوَّلَهُ إلَيْهَا وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَوَجُّهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ هَلْ كَانَ فَرْضًا لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَوْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي تَوَجُّهِهِ إلَيْهَا وَإِلَى غَيْرِهَا فقال الربيع ابن أَنَسٍ كَانَ مُخَيَّرًا فِي ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ الْفَرْضُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ بِلَا تَخْيِيرٍ وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَقَدْ كَانَ التَّوَجُّهُ فَرْضًا لِمَنْ يَفْعَلُهُ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَيُّهَا كَفَّرَ بِهِ فَهُوَ الْفَرْضُ وَكَفِعْلِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ شَأْنُ الْقِبْلَةِ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَفَرِحَتْ الْيَهُودُ بِذَلِكَ فَاسْتَقْبَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ قِبْلَةَ أَبِيهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى وَيَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ [قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ]
الْآيَةَ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفَرْضَ كَانَ التَّوَجُّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنَّهُ نُسِخَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْفَرْضَ كَانَ التوجه إليه بلا تخيير ولأنه جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ الْفَرْضُ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ وَوَرَدَ النَّسْخُ عَلَى التَّخْيِيرِ وَقُصِرُوا عَلَى التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ بِلَا تَخْيِيرٍ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّفَرَ الَّذِينَ قَصَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ لِلْبَيْعَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانَ فِيهِمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ فَتَوَجَّهَ بِصَلَاتِهِ إلَى الْكَعْبَةِ فِي طَرِيقِهِ وَأَبَى الْآخَرُونَ وَقَالُوا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَجَّهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا لَهُ فَقَالَ قَدْ كُنْت عَلَى قِبْلَةٍ
يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ لو ثبت عليها أجزك وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِ الصَّلَاةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ وَإِنْ كَانَ اخْتَارَ التَّوَجُّهَ إلَى بيت المقدس فإن قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ [سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها] وَكَانَ نُزُولُ ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ وَفِيهِ إخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ عَلَى قِبْلَةٍ غَيْرُهَا وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ أَوَّلَ مَا نَسَخَ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ مُرَادُهُ النَّاسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ دُونَ الْمَنْسُوخِ وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ شَأْنُ الْقِبْلَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ(1/105)
اللَّهِ]
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى [سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها] إلَى قَوْلِهِ [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ] وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي التَّوَجُّهِ إلَى حَيْثُ شَاءُوا وَالثَّانِي أَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْ الْقُرْآنِ هَذَا التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ] وقوله تعالى [سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ] قِيلَ فِيهِ إنَّهُ أَرَادَ بِذِكْرِ السُّفَهَاءِ هَاهُنَا اليهود وأنهم الَّذِينَ عَابُوا تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَأَرَادُوا بِهِ إنْكَارَ النَّسْخِ لِأَنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ لَا يَرَوْنَ النَّسْخَ وَقِيلَ إنَّهُمْ قَالُوا يَا مُحَمَّدُ مَا وَلَّاك عَنْ قِبْلَتِك الَّتِي كُنْت عَلَيْهَا ارْجِعْ إلَيْهَا نَتَّبِعْك وَنُؤْمِنْ بِك وَإِنَّمَا أَرَادُوا فِتْنَتَهُ فَكَانَ إنْكَارُ الْيَهُودِ لِتَحْوِيلِهِ عَنْ الْقِبْلَةِ الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ
وَقَالَ الْحَسَنُ لَمَّا حُوِّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْكَعْبَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قال مشركوا العرب يا محمد رغبت من مِلَّةِ آبَائِك ثُمَّ رَجَعْت إلَيْهَا آنِفًا وَاَللَّهِ لَتَرْجِعَنَّ إلَى دِينِهِمْ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَقَلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْقِبْلَةِ الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ]
وَقِيلَ إنَّهُمْ كَانُوا أُمِرُوا بِمَكَّةَ أَنْ يَتَوَجَّهُوا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيَتَمَيَّزُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَتِهِمْ يَتَوَجَّهُونَ إلَى الْكَعْبَةِ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ الْيَهُودُ الْمُجَاوِرُونَ لِلْمَدِينَةِ يَتَوَجَّهُونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنُقِلُوا إلَى الْكَعْبَةِ لِيَتَمَيَّزُوا مِنْ هَؤُلَاءِ كَمَا تَمَيَّزُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بِاخْتِلَافِ الْقِبْلَتَيْنِ فاحتج الله تَعَالَى عَلَى الْيَهُودِ فِي إنْكَارِهَا النَّسْخِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ] وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لِلَّهِ فَالتَّوَجُّهُ إلَيْهِمَا سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْعُقُولِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَخُصُّ بِذَلِكَ أَيَّ الْجِهَاتِ شَاءَ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِي الدِّينِ وَالْهِدَايَةِ إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْيَهُودَ زَعَمَتْ أَنَّ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أَوْلَى بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهَا لِأَنَّهَا مِنْ مَوَاطِنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَقَدْ شَرَّفَهَا تَعَالَى وَعَظَّمَهَا فَلَا وَجْهَ لِلتَّوَلِّي عَنْهَا فَأَبْطَلَ اللَّه قَوْلَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَوَاطِنَ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِلَّهِ تَعَالَى يَخُصُّ مِنْهَا مَا يَشَاءُ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ لِلْعِبَادِ إذْ كَانَتْ الْمَوَاطِنُ بِأَنْفُسِهَا لَا تَسْتَحِقُّ التَّفْضِيلَ وَإِنَّمَا تُوصَفُ بِذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى تَعْظِيمَهَا لِتَفْضِيلِ الْأَعْمَالِ فِيهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذِهِ الْآيَةُ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يُجَوِّزُ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ(1/106)
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يَأْبَى ذَلِكَ يَقُولُ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نُسِخَ قَوْله تَعَالَى [فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] فَكَانَ التَّوَجُّهُ إلَى حَيْثُ كَانَ مِنْ الْجِهَاتِ فِي مَضْمُونِ الْآيَةِ ثُمَّ نُسِخَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَوْلُهُ [فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ عِنْدَنَا بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلُ الْحُكْمِ فِي الْمُجْتَهِدِ إذَا صَلَّى إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَفِي الْخَائِفِ وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُجْتَهِدِ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ فِيمَنْ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ وَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ إيجَابِ نَسْخٍ لَهَا لَمْ يَجُزْ لَنَا الْحُكْمُ بِنَسْخِهَا وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأُصُولِ بِمَا يُغْنِي وَيَكْفِي وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ وَهُوَ مَا
رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يصلي نَحْوَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَنَزَلَتْ [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ]
فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُمِرْتُمْ أَنْ تُوَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَحَوَّلَتْ بَنُو سَلِمَةَ وُجُوهَهَا نَحْوَ الْبَيْتِ وَهُمْ رُكُوعٌ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءَ إذْ جَاءَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ قُرْآنٌ وَأُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ أَلَا فَاسْتَقْبِلُوهَا فَاسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ إلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ وَجْهُ النَّاسِ إلَى الشَّامِ وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ لَمَّا صُرِفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى [قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ] مَرَّ رَجُلٌ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُمْ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ فَانْحَرَفُوا قَبْلَ أَنْ يَرْكَعُوا وَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ مُسْتَفِيضٌ فِي أَيْدِي أَهْل الْعِلْمِ قَدْ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْمُجْتَهِدِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ جِهَةُ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا وَلَا يَسْتَقْبِلُهَا وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا أُعْتِقَتْ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا تَأْخُذُ قِنَاعَهَا وَتَبْنِي وَهُوَ أَصْلٌ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ قَبِلَتْ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْمُخْبِرِ لَهُمْ بِذَلِكَ فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ بِالنِّدَاءِ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَمَرَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم المنادى بِالنِّدَاءِ وَجْهٌ وَلَا فَائِدَةٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ مَا يَثْبُتُ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي رَفْعِهِ وَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ مُتَوَجِّهِينَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ تَرَكُوهُ إلَى غَيْرِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قِيلَ لَهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ(1/107)
مِنْ بَقَاءِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ بَعْدَ غَيْبَتِهِمْ عَنْ حَضْرَتِهِ لِتَجْوِيزِهِمْ وُرُودَ النَّسْخِ فَكَانُوا فِي بَقَاءِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ فَلِذَلِكَ قَبِلُوا خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي رَفْعِهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَلَّا أَجَزْتُمْ لِلْمُتَيَمِّمِ الْبِنَاءَ عَلَى صَلَاتِهِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ كَمَا بَنَى هَؤُلَاءِ عَلَيْهَا بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ قِيلَ لَهُ هُوَ مُفَارِقٌ لِمَا ذَكَرْت مِنْ قِبَلِ أَنَّ تَجْوِيزَ الْبِنَاءِ لِلْمُتَيَمِّمِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ وَيُجِيزُ لَهُ الْبِنَاءَ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُود الْمَاءِ وَالْقَوْمُ حِينَ بَلَغَهُمْ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ اسْتَدَارُوا إلَيْهَا وَلَمْ يَبْقُوا عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي كَانُوا مُتَوَجِّهِينَ إلَيْهَا فَنَظِيرُ الْقِبْلَةِ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُتَيَمِّمُ بِالْوُضُوءِ وَالْبِنَاءِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا لَزِمَهُ الْوُضُوءُ لَمْ يَجُزْ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ لِلْمُتَيَمِّمِ إنَّمَا هُوَ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ وَالتُّرَابُ بَدَلٌ مِنْهُ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ عَادَ إلَى أَصْلِ فَرْضِهِ كَالْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا خَرَجَ وَقْتُ مَسْحِهِ فَلَا يَبْنِي فَكَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ وَلَمْ يَكُنْ أَصْلُ فَرْضِ الْمُصَلِّينَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ دَخَلُوا فِيهَا الصَّلَاةَ إلَى الْكَعْبَةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فَرْضٌ لَزِمَهُمْ فِي الْحَالِ وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا أُعْتِقَتْ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَرَضَ السَّتْرِ وَإِنَّمَا هُوَ فَرْضٌ لَزِمَهَا فِي الْحَالِ فَأَشْبَهَتْ الْأَنْصَارَ حِينَ عَلِمَتْ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّاهُ إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ [فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] فَإِنَّمَا انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إلَى فَرْضٍ وَلَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ بَدَلٍ إلَى أَصْلِ الْفَرْضِ وَفِي الْآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ فِعْلَ الْأَنْصَارِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا أَصْلٌ فِي أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالزَّوَاجِرَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ أَحْكَامُهَا بِالْعِلْمِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ إنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا تَرَكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ كَمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ حُكْمُ التَّحْوِيلِ عَلَى الْأَنْصَارِ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ الْخَبَرُ وَهُوَ أَصْلٌ فِي أَنَّ الْوَكَالَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَوَامِرِ الْعِبَادِ لَا يُنْسَخُ شَيْءٌ مِنْهَا إذا فسخها من له الفسخ إلا من بَعْدَ عِلْمِ الْآخَرِ بِهَا وَكَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُ الْأَمْرِ بِهَا عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغَهُ وَلِذَلِكَ قَالُوا لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ قَبْل العلم بالقبلة بِالْوَكَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بَابُ الْقَوْلِ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ
قَوْله تَعَالَى [وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ] قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْوَسَطُ الْعَدْلُ وَهُوَ الَّذِي بَيْن الْمُقَصِّرِ وَالْغَالِي وَقِيلَ هُوَ الْخِيَارُ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْخِيَارُ قَالَ زُهَيْرٌ:(1/108)
هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ إذَا طَرَقَتْ إحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ وقَوْله تَعَالَى [لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ] مَعْنَاهُ كَيْ تَكُونُوا وَلَأَنْ تَكُونُوا كَذَلِكَ وَقِيلَ فِي الشُّهَدَاءِ إنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ الَّتِي خَالَفُوا الْحَقَّ فِيهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كقوله تعالى [وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ] وَقِيلَ فِيهِ إنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ على أُمَمِهِمْ الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوهُمْ لِإِعْلَامِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم إيَّاهُمْ وَقِيلَ لِتَكُونُوا حُجَّةً فِيمَا تَشْهَدُونَ كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدٌ بِمَعْنَى حُجَّةٍ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بِأَجْمَعِهَا مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَشْهَدُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ عَلَى أُمَمِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ بِذَلِكَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فِي نقل الشريعة وفيما حكموا به واعتقدوه مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَصْفُهُ إيَّاهَا بِالْعَدَالَةِ وَأَنَّهَا خِيَارٌ وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَصْدِيقَهَا وَالْحُكْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهَا وَنَافٍ لِإِجْمَاعِهَا عَلَى الضَّلَالِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ قَوْلُهُ [لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ] بِمَعْنَى الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ لَمَّا كَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ وَلَمَّا جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى شُهَدَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَقَدْ حَكَمَ لَهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الْقَوْلِ لِأَنَّ شُهَدَاء اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُونَ كُفَّارًا وَلَا ضُلَّالًا فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَنْ شَاهَدُوا فِي كُلِّ عَصْرٍ بِأَعْمَالِهِمْ دُونَ مَنْ مَاتَ قَبْلَ زَمَنِهِمْ كَمَا جُعِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدًا عَلَى مَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ هَذَا إذَا أُرِيدَ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالشَّهَادَةِ الْحُجَّةُ فَذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى من شاهد وهم مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي وَعَلَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا وَلِأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ إذَا ثَبَتَتْ فِي وَقْتٍ فَهِيَ ثَابِتَةٌ أَبَدًا وَيَدُلُّك عَلَى فَرْقِ مَا بَيْنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ وَالشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ الْحُجَّةُ قَوْله تَعَالَى [فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً] لَمَّا أَرَادَ الشَّهَادَةَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ خَصَّ أَهْلَ عَصْرِهِ وَمَنْ شَاهَدَهُ بِهَا وَكَمَا قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه [وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ] فَتَبَيَّنَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْأَعْمَالِ إنَّمَا هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِحَالِ الشَّهَادَةِ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ الَّتِي هِيَ الْحُجَّةُ فَلَا تَخْتَصُّ بِهَا أَوَّلُ الْأُمَّةِ وَآخِرُهَا فِي كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ كَذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ لَمَّا كَانُوا شُهَدَاءَ اللَّهِ مِنْ(1/109)
طَرِيقِ الْحُجَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا حُجَّةً عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِمْ الدَّاخِلِينَ مَعَهُمْ فِي إجْمَاعِهِمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ عَصْرٍ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ خَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنْ إجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ مَحْجُوجٌ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَهِدَ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ بِصِحَّةِ قَوْلِهَا وَجَعْلِهَا حُجَّةً وَدَلِيلًا فَالْخَارِجُ عَنْهَا بَعْد ذَلِكَ تَارِكٌ لِحُكْمِ دَلِيلِهِ وَحُجَّتِهِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُود دَلِيلِ اللَّهِ تَعَالَى عَارِيًّا عن مَدْلُولِهِ وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُ النَّسْخِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُتْرَكُ حُكْمُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي أَيِّ حَالٍ حَصَلَ مِنْ الْأُمَّةِ فَهُوَ حُجَّةٌ الله عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ تَرْكُهُ وَلَا الْخُرُوجُ عَنْهُ وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ إذْ لَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ أَهْلُ عَصْرٍ دُونَ عَصْرٍ وَلَوْ جَازَ الِاقْتِصَارُ بِحُكْمِ الْآيَةِ عَلَى إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ دُونَ أَهْلِ سَائِرِ الْإِعْصَارِ لَجَازَ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى إجْمَاعِ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ دُونَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَمَّا قَالَ [وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] فَوَجَّهَ الْخِطَابَ إلَى الْمَوْجُودِينَ فِي حَالِ نُزُولِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ الْمَخْصُوصُونَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَا يَدْخُلُونَ فِي حُكْمِهِمْ إلَّا بِدَلَالَةِ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى [وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] هُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَوْجُودًا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ كَمَا أَنَّ قَوْله
تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] وقوله [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إلَى جَمِيعِهَا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَوْجُودًا فِي عَصْرِهِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ قَالَ اللَّهُ تعالى [إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً] وَقَالَ تَعَالَى [وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ] وَمَا أَحْسِبُ مُسْلِمًا يَسْتَجِيزُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهَا وَشَاهِدًا وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَحْمَةً لِكَافَّتِهَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] وَاسْمُ الْأُمَّةِ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فَإِنَّمَا حُكْمُ لِجَمَاعَتِهَا بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَلَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ لِأَهْلِ عَصْرٍ وَاحِدٍ بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ فَمِنْ أَيْنَ حَكَمْتَ لِأَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ بِالْعَدَالَةِ حَتَّى جَعَلْتهمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ قِيلَ لَهُ لَمَّا جُعِلَ مَنْ حُكِمَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ أَوْ يَعْتَقِدُهُ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَخْبَرَ(1/110)
تَعَالَى بِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ فَلَوْ اُعْتُبِرَ أَوَّلُ الْأُمَّةِ وَآخِرُهَا فِي كَوْنِهَا حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِمْ لَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّوْا أُمَّةً إذْ كَانَتْ الْأُمَّةُ اسْمًا لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تَؤُمُّ جِهَةً وَاحِدَةً وَأَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى حِيَالِهِمْ يَتَنَاوَلُهُمْ هَذَا الِاسْمُ وَلَيْسَ يَمْنَعُ إطْلَاقَ لَفْظِ الْأُمَّةِ وَالْمُرَادُ أَهْلُ عَصْرٍ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّهِ تعالى الأمهات والأخوات ونقلت الأمة والقرآن ويكون ذلك إطلاقا صحيحا قيل أَنْ يُوجَدَ آخِرُ الْقَوْمِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ وَأَيْضًا فَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِلَفْظٍ مُنْكَرٍ حِينَ وَصَفَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَجَعْلَهُمْ حُجَّةً وَهَذَا يَقْتَضِي أَهْلَ كُلِّ عصر إذ كان قوله جعلناكم خِطَابًا لِلْجَمِيعِ وَالصِّفَةُ لَاحِقَةٌ بِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ [وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ] وَجَمِيعُ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ لَهُ وَسَمَّى بَعْضَهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ أُمَّةً لِمَا وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ جائز أن يسمو أُمَّةً وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ قَدْ يَلْحَقُ أَوَّلَ الْأُمَّةِ وَآخِرَهَا وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ من ظهر كفره نحو المشبهة وَمَنْ صَرَّحَ بِالْجَبْرِ وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ مَنْ ظَهَرَ فِسْقُهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ نَحْوِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَسَوَاءٌ مَنْ فَسَقَ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الشُّهَدَاءَ مَنْ وَصَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَالْخَيْرِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَلْحَقُ الْكُفَّارَ وَلَا الْفُسَّاقَ وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ مَنْ فَسَقَ أَوْ كَفَرَ بِالتَّأْوِيلِ أَوْ بِرَدِّ النَّصِّ إذْ الْجَمِيعُ شَمِلَهُمْ صِفَةُ الذَّمِّ وَلَا يَلْحَقُهُمْ صِفَةُ الْعَدَالَةِ بِحَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها] قِيلَ إنَّ التَّقَلُّبَ هُوَ التَّحَوُّلُ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ وَعَدَ بِالتَّحْوِيلِ إلَى الْكَعْبَةِ فَكَانَ مُنْتَظِرًا لِنُزُولِ الْوَحْيِ بِهِ وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ ذَلِكَ فَأَذِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِيهِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لا يسئلون الله بَعْدَ الْإِذْنِ لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ صَلَاحٌ وَلَا يُجِيبُهُمْ اللَّهُ فَيَكُونَ فِتْنَةً عَلَى قَوْمِهِ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى تَقَلُّبِ وَجْهِهِ فِي السَّمَاءِ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُحَوِّلَهُ اللَّه تَعَالَى إلَى الْكَعْبَةِ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ وَتَمَيُّزًا مِنْهُمْ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَحَبَّ ذَلِكَ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ(1/111)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
وَقِيلَ إنَّهُ أَحَبَّ ذَلِكَ اسْتِدْعَاءً لِلْعَرَبِ إلَى الْإِيمَانِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ [فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها] وقوله [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ] فَإِنَّ أَهْلُ اللُّغَةِ قَدْ قَالُوا إنَّ الشَّطْرَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا النِّصْفُ يُقَالُ شَطَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلْته نِصْفَيْنِ وَيَقُولُونَ فِي مَثَلٍ لَهُمْ احْلِبْ حَلْبًا لَك شَطْرُهُ أَيْ نِصْفُهُ وَالثَّانِي نَحْوُهُ وَتِلْقَاؤُهُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ إذْ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ أَنَّ عليه استقبال نصف المسجد الحرام واتفق المسلمون لو أنه صَلَّى إلَى جَانِبٍ مِنْهُ أَجْزَأَهُ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى نَاحِيَةً مِنْ الْبَيْتِ فَتَوَجَّهَ إلَيْهَا فِي صَلَاتِهِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ وَنَحْوَهُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّوَجُّهُ إلَى نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمُرَادُهُ الْبَيْتُ نَفْسُهُ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَتَوَجَّهَ فِي صَلَاتِهِ نَحْوَ الْمَسْجِدِ أَنَّهُ لَا يَجْزِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحَاذِيًا لِلْبَيْتِ وقَوْله تَعَالَى [وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ وَلِمَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهَا وَالْمُرَادُ لِمَنْ كَانَ حَاضِرَهَا إصَابَةُ عَيْنِهَا وَلِمَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهَا النَّحْوَ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ أَنَّهُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَجِهَتُهَا فِي غَالِبِ ظَنِّهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ الْعَيْنِ إذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا وَقَالَ تَعَالَى [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها] فَمَنْ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى إصَابَة عَيْنِ الْكَعْبَةِ لَمْ يُكَلَّفْهَا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ مَا هُوَ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ أَنَّهُ جِهَتَهَا وَنَحْوِهَا دُونَ الْمَغِيبِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى وَهَذَا أَحَدُ الْأُصُولِ الدَّالَّةِ عَلَى تَجْوِيزِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَإِنَّمَا كُلِّفَ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَيَسْتَوْلِي عَلَى ظَنِّهِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْمُشْتَبَهِ مِنْ الْحَوَادِثِ حَقِيقَةً مَطْلُوبَةً كَمَا أَنَّ الْقِبْلَةَ حَقِيقَةٌ مَطْلُوبَةٌ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي وَلِذَلِكَ صَحَّ تَكْلِيفُ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا كَمَا صَحَّ تَكْلِيفُ طلب القبلة بالاجتهاد لأن لها حقيقة لو لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قِبْلَةٌ رَأْسًا لَمَا صَحَّ تكليفنا طلبها
قوله تعالىَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها]
الْوُجْهَةُ قِيلَ فِيهَا قِبْلَةٌ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَالَ الْحَسَنُ طَرِيقَةً وَهُوَ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْإِسْلَامِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ لِأَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وِجْهَةٌ وَقَالَ الْحَسَنُ لِكُلِّ نَبِيٍّ فَالْوُجْهَة وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً] قَالَ قَتَادَةُ هُوَ صَلَاتُهُمْ إلَى الْبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصَلَاتُهُمْ إلَى الْكَعْبَةِ وَقِيلَ فِيهِ لِكُلِّ قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْآفَاقِ الَّتِي جِهَاتُ الْكَعْبَةِ وَرَاءَهَا أَوْ قُدَّامَهَا أَوْ عَنْ(1/112)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
يَمِينِهَا أَوْ عَنْ شِمَالِهَا كَأَنَّهُ أَفَادَ أَنَّهُ لَيْسَ جِهَةً مِنْ جِهَاتِهَا بِأَوْلَى أَنْ تَكُونَ قِبْلَةً مِنْ غَيْرِهَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ جَالِسًا بِإِزَاءِ الْمِيزَابِ فتلا قوله تعالى [فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها]
قَالَ هَذِهِ الْقِبْلَةُ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ عَنَى الْمِيزَابَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَشَارَ إلَى الْكَعْبَةِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ تَخْصِيصُ جِهَةِ الْمِيزَابِ دُونَ غَيْرِهَا وَكَيْفَ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ قَوْله تَعَالَى [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى] وقَوْله تَعَالَى [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ] مَعَ اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ سَائِرَ جِهَاتِ الكعبة قبلة لموليها وقوله تعالىَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها]
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ مَنْ غَابَ عَنْ حَضْرَةِ الْكَعْبَةِ إنَّمَا هُوَ التَّوَجُّهُ إلَى جِهَتِهَا فِي غَالِبِ ظَنِّهِ لَا إصَابَةَ مُحَاذَاتِهَا غَيْرَ زَائِلٍ عَنْهَا إذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى ذَلِكَ وَإِذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَنْ غَابَ عَنْ حَضْرَتِهَا مُحَاذِيًا لها وقوله تعالىَ اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ]
يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمُبَادَرَةُ وَالْمُسَارَعَةُ إلَى الطَّاعَاتِ وَهَذَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ تَعْجِيلِ الطَّاعَاتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى فَضِيلَةِ التَّأْخِيرِ نَحْوَ تَعْجِيلِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا وَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الْفُرُوضِ بَعْدَ حُضُورِ وَقْتِهَا وَوُجُودِ سَبَبهَا وَيُحْتَجُّ بِهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ وَأَنَّ جَوَازَ التَّأْخِيرِ يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ إذَا كَانَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ فَلَا مَحَالَةَ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ الْخَيْرَاتِ فَوَجَبَ بمضمون قوله تعالىَ اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ]
إيجَابُ تَعْجِيلِهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ
قَوْله تَعَالَى [لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ] مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَمَعْنَاهُ لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِالشُّبْهَةِ وَيَضَعُونَ مَوْضِعَ الْحُجَّةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ] مَعْنَاهُ لَكِنْ اتِّبَاعُ الظَّنِّ قَالَ النَّابِغَةُ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
مَعْنَاهُ لَكِنْ بِسُيُوفِهِمْ فُلُولٌ وَلَيْسَ بِعَيْبِ وَقِيلَ فِيهِ إنَّهُ أَرَادَ بِالْحُجَّةِ الْمُحَاجَّةَ وَالْمُجَادَلَةَ فَقَالَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حِجَاجٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّهُمْ يُحَاجُّونَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ إلَّا هَاهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ وَكَأَنَّهُ قَالَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ولا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ الْفَرَّاءُ لَا تَجِيءُ إلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ إلَّا إذَا تَقَدَّمَ اسْتِثْنَاءٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:(1/113)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الْخَلِيفَةِ إلا دار مروان
كأنه قال بِالْمَدِينَةِ دَارٌ إلَّا دَارُ الْخَلِيفَةِ وَدَارُ مَرْوَانَ وَقَالَ قُطْرُبٌ مَعْنَاهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَنْكَرَ هَذَا بعض النجاة.
بَابُ وُجُوب ذَكَرِ اللَّه تَعَالَى
قَوْله تَعَالَى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ] قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرُنَا إيَّاهُ عَلَى وُجُوهٍ وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ أَقَاوِيلُ عَنْ السَّلَفِ قِيلَ فِيهِ اُذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي وَقِيلَ فِيهِ اُذْكُرُونِي بِالثَّنَاءِ بِالنِّعْمَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّنَاءِ بِالطَّاعَةِ وَقِيلَ اُذْكُرُونِي بِالشُّكْرِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ وَقِيلَ فِيهِ اُذْكُرُونِي بِالدُّعَاءِ أَذْكُرْكُمْ بِالْإِجَابَةِ وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَجَمِيعُهَا مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى لِشُمُولِ اللَّفْظِ وَاحْتِمَالِهِ إيَّاهُ فَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ وُجُوهِ الذِّكْرِ عَلَى اخْتِلَافِهَا رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَهُوَ كَاسْمِ الْإِنْسَانِ يَتَنَاوَلُ الْأُنْثَى وَالذَّكَرَ وَالْأُخُوَّةُ تَتَنَاوَلُ الْإِخْوَةَ الْمُتَفَرِّقِينَ وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ وَنَحْوُهَا وَإِنْ وَقَعَ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنَّ الْوَجْهَ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ الْجَمِيعُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ طَاعَتَهُ وَالطَّاعَةُ تَارَةً بِالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَتَارَةً بِالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ وَتَارَةً بِاعْتِقَادِ الْقَلْبِ وَتَارَةً بِالْفِكْرِ فِي دَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ وَتَارَةً فِي عَظَمَتِهِ وَتَارَةً بِدُعَائِهِ وَمَسْأَلَتِهِ جَازَ إرَادَةُ الْجَمِيعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَلَفْظِ الطَّاعَةِ نَفْسِهَا جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهَا جَمِيعُ الطَّاعَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهَا مُطْلَقًا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى [أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] وَكَالْمَعْصِيَةِ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ جَمِيعَهَا لَفْظُ النَّهْيِ فقوله فاذكروني قد تضمن الأمر بسائر وجوه الذكر منها سَائِرُ وُجُوهِ طَاعَتِهِ وَهُوَ أَعَمُّ الذِّكْرِ وَمِنْهَا ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالذِّكْرِ عَلَى وَجْهِ الشُّكْرِ وَالِاعْتِرَافِ بِنِعَمِهِ وَمِنْهَا ذِكْرُهُ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَيْهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى دَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَذِكْرُهُ بِالْفِكْرِ فِي دَلَائِلِهِ وَآيَاتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَهَذَا أَفْضَلُ الذِّكْرِ وَسَائِرُ وُجُوهِ الذِّكْرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ وَتَابِعَةٌ لَهُ وَبِهِ يَصِحُّ مَعْنَاهَا لِأَنَّ الْيَقِينَ وَالطُّمَأْنِينَةَ بِهِ تَكُونُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ذِكْرَ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْفِكْرُ فِي دَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُجَجِهِ وَآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ وَكُلَّمَا ازْدَدْت فِيهَا فِكْرًا ازْدَدْت طُمَأْنِينَةً وَسُكُونًا وَهَذَا هُوَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَذْكَارِ إنَّمَا يَصِحُّ وَيَثْبُتُ حُكْمُهَا بِثُبُوتِهِ
وَقَدْ(1/114)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ)
حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يحيى عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي)
قَوْله تَعَالَى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ] عقيب قوله [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ وَفِعْلَ الصَّلَاةِ لُطْفٌ فِي التَّمَسُّكِ بِمَا فِي الْعُقُولِ مِنْ لُزُومِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ الْفِكْرُ فِي دَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ] ثم عقبه بقوله [وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ] وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِقُلُوبِكُمْ وَهُوَ التَّفَكُّرُ فِي دَلَائِلِهِ أَكْبَرُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا هُوَ مَعُونَةٌ وَلُطْفٌ فِي التَّمَسُّكِ بهذا الذكر وإدامته
قوله تَعَالَى [وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ] فِيهِ إخْبَارٌ بِإِحْيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الشُّهَدَاءَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَيُحْيَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا مراده لما قال ولكن لا تشعرون لأن قوله [وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ] إخْبَارٌ بِفَقْدِ عِلْمِنَا بِحَيَاتِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْحَيَاةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ شَعَرُوا بِهِ وَعَرَفُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَيَاةُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ أُحْيُوا فِي قُبُورِهِمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ مُنَعَّمُونَ فِيهَا جَازَ أَنْ يَحْيَا الْكُفَّارُ في قبورهم فليعذبوا وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يُنْكِرُ عَذَابَ الْقَبْرِ فإن قيل لَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ مُنَعَّمِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَيْفَ خَصَّ الْمَقْتُولِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اخْتَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ عَلَى جِهَةِ تَقْدِيمِ الْبِشَارَةِ بِذِكْرِ حَالِهِمْ ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَخْتَصُّونَ بِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى [أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءً وَنَحْنُ نَرَاهُمْ رَمِيمًا فِي الْقُبُورِ بَعْدَ مُرُورِ الْأَزْمَانِ عَلَيْهِمْ قِيلَ لَهُ النَّاسُ فِي هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ هُوَ الرُّوحُ وَهُوَ جِسْمٌ لَطِيفٌ وَالنَّعِيمُ وَالْبُؤْسُ إنَّمَا هُمَا لَهُ دُونَ الْجُثَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ هَذَا الْجِسْمُ الْكَثِيفُ الْمُشَاهَدُ فَهُوَ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلَطِّفُ أَجْزَاءً مِنْهُ بِمِقْدَارِ مَا تَقُومُ بِهِ الْبِنْيَةُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَيُوَصِّلُ النَّعِيمَ إلَيْهِ وَتَكُونُ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ اللَّطِيفَةُ بِحَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ تُعَذَّبُ أَوْ تُنَعَّمُ عَلَى حَسَبِ مَا يَسْتَحِقُّهُ ثُمَّ يُفْنِيهِ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا يُفْنِي سَائِرَ الْخَلْقِ قَبْلَ يوم القيامة ثم يحيه يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحَشْرِ
وَقَدْ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عبد الله بن محمد(1/115)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
ابن إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (نَسَمَةُ الْمُسْلِمِ طَيْرٌ تَعْلَقُ في شجر الجنة حتى يرجعها إلى جسده)
قَوْله تَعَالَى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ- إلى قوله تعالى- وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ] رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالرَّبِيعِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ جَائِزٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ قَدَّمَ إلَيْهِمْ ذِكْرَ مَا عَلِمَ أَنَّهُ يُصِيبُهُمْ فِي الله من هذه البلايا والشدائد المعنيين أَحَدُهُمَا لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا إذَا وَرَدَتْ فَيَكُونَ ذَلِكَ أَبْعَدَ مِنْ الْجَزَعِ وَأَسْهَلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْوُرُودِ وَالثَّانِي مَا يَتَعَجَّلُونَ بِهِ من ثواب توطن النفس قوله تعالى [وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى مَا قَدَّمَ ذِكْرَهُ مِنْ الشَّدَائِدِ وقَوْله تَعَالَى [الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ] يَعْنِي إقْرَارَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمُلْكِ لَهُ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ بِمَا يَشَاءُ تَعْرِيضًا مِنْهُ لِثَوَابِ الصَّبْرِ وَاسْتِصْلَاحًا لَهُمْ لِمَا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ إذْ هُوَ تَعَالَى غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ إذْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةً فَفِي إقْرَارِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَرِضًى بِقَضَائِهِ فِيمَا يَبْتَلِيهِمْ بِهِ إذْ لَا يَقْضِي إلَّا بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى [وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ] وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ وقَوْله تَعَالَى [إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ] إقْرَارٌ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَاعْتِرَافٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُجَازِي الصَّابِرِينَ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ فَلَا يَضِيعُ عِنْدَهُ أَجْرُ الْمُحْسِنِينَ
ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الصَّبْرِ عَلَى هَذِهِ الشَّدَائِدِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ [أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ] يَعْنِي الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ وَالْبَرَكَاتِ وَالرَّحْمَةَ وَهِيَ النِّعْمَةُ الَّتِي لَا يَعْلَمُ مَقَادِيرَهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى كَقَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى [إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ] وَمِنْ الْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ مَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كُلَّهَا كَانَتْ قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَى عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم غير ما كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَكَانَ خَوْفُهُمْ مِنْ قِبَلِ هَؤُلَاءِ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتِهِمْ وَأَمَّا الْجُوعُ فَلِقِلَّةِ ذَاتِ الْيَدِ وَالْفَقْرِ الَّذِي نَالَهُمْ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ تَارَةً مِنْ اللَّهِ تعالى(1/116)
بِأَنْ يُفْقِرَهُمْ بِتَلَفِ أَمْوَالِهِمْ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الْعَدُوِّ بِأَنْ يُغْلَبُوا عَلَيْهِ فَيَتْلَفَ ونقص من الأموال والأنفس والثمرات يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ النَّقْصَ مِنْ الْأَمْوَالِ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ الْعَدُوَّ وَكَذَلِكَ الثَّمَرَاتُ لِشُغْلِهِمْ إيَّاهُمْ بِقِتَالِهِمْ عَنْ عِمَارَةِ أَرَاضِيهِمْ وَجَائِزٌ أن يكون من فعل الله تعالى بالجوانح الَّتِي تُصِيبُ الْأَمْوَالَ وَالثِّمَارَ وَنَقْصُ الْأَنْفُسِ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْهُمْ فِي الْحَرْبِ وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ مَنْ يُمِيتُهُ الله منهم من غير قتل فأما الصبرا عَلَى مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَهُوَ التَّسْلِيمُ وَالرِّضَا بِمَا فَعَلَهُ وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا الصَّلَاحَ وَالْحَسَنَ وَمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ وَأَنَّهُ مَا مَنَعَهُمْ إلَّا لِيُعْطِيَهُمْ وَأَنَّ مَنْعَهُ إيَّاهُمْ إعْطَاءٌ مِنْهُ لَهُمْ وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الْعَدُوِّ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّبْرُ عَلَى جِهَادِهِمْ وَعَلَى الثَّبَاتِ عَلَى دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَنْكُلُونَ عَنْ الْحَرْبِ وَلَا يَزُولُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالِابْتِلَاءِ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ فِعْلِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَبْتَلِي أَحَدًا بِالظُّلْمِ وَالْكُفْرِ وَلَا يُرِيدُهُ وَلَا يُوجِبُ الرِّضَا بِهِ وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَبْتَلِي بِالظُّلْمِ وَالْكُفْرِ لَوَجَبَ الرِّضَا بِهِ كَمَا رَضِيَهُ بِزَعْمِهِمْ حِينَ فَعَلَهُ وَاَللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ مَدْحَ الصَّابِرِينَ عَلَى شَدَائِدِ الدُّنْيَا وَعَلَى مَصَائِبِهَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَ وَالْوَعْدُ بِالثَّوَابِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالنَّفْعِ الْعَظِيمِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالْمَحَلِّ الْجَلِيلِ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ لِائْتِمَارِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ فِي الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ تَسْلِيَةً عَنْ الْهَمِّ وَنَفْيِ الْجَزَعِ الَّذِي رُبَّمَا أَدَّى إلَى ضَرَرٍ فِي النَّفْسِ وَإِلَى إتْلَافِهَا فِي حَالِ مَا يُعْقِبُهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَحْمُودِ الْعَاقِبَةِ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَهُ إلَّا اللَّهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى حُكْمَيْنِ فَرْضٌ وَنَفْلٌ فَأَمَّا الْفَرْضُ فَهُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرَ اللَّهِ وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِهِ لَا يُثْنِيهِ عَنْهَا مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَلَا شَدَائِدُهَا وَأَمَّا النفل فإظهار القول بإنا الله وإنا إليه راجعون فَإِنَّ فِي إظْهَارِهِ فَوَائِدَ جَزِيلَةً مِنْهَا فِعْلُ مَا نَدَبَ اللَّهُ إلَيْهِ وَوَعَدَهُ الثَّوَابَ عَلَيْهِ وَمِنْهَا أَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ إذَا سَمِعَهُ وَمِنْهَا غَيْظُ الْكُفَّارِ وَعِلْمُهُمْ بِجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَتِهِ وَمُجَاهَدَةِ أعدائه ويحكى عن دواد الطَّائِيِّ قَالَ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا لَا يُحِبُّ الْبَقَاءَ فِيهَا وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الرِّضَا عَنْ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْزَنَ لِلْمُصِيبَةِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ ثَوَابًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أعلم بالصواب.(1/117)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
بَابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما]
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ قَرَأْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهَا [إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ] فَقُلْت لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَفْعَلَ قَالَتْ بِئْسَمَا قُلْت يَا ابْنَ أُخْتِي قَدْ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَافَ الْمُسْلِمُونَ فَكَانَتْ سُنَّةً إنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ لَا يَطَّوَّفُ بِهِمَا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ سُنَّةً
قَالَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنَ فَقَالَ إنَّ هذا العلم وَلَقَدْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ هَذَا الرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَحْسَبُهَا نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى [إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ] قَالَ كَانَ عَلَى الصَّفَا تَمَاثِيلُ وَأَصْنَامٌ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَطُوفُونَ عَلَيْهَا لِأَجْلِ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى [فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما] قَالَ أَبُو بَكْرٍ كَانَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ عَائِشَةَ سُؤَالُ مَنْ كَانَ لَا يَطُوفُ بِهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَجْلِ إهْلَالِهِ لِمَنَاةَ وَعَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِسُؤَالِ مَنْ كَانَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمَا الْأَصْنَامُ فَتَجَنَّبَ النَّاسُ الطَّوَافَ بِهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَ الْفَرِيقَيْنِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّعْيِ بَيْنَهُمَا
فَرَوَى هِشَام بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ وَأَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ جَمِيعًا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا أَتَمَّ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم لامرئ حجة وَلَا عُمْرَةً مَا لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَذَكَرِ أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أن السعى بينهما سنة وأن النبي صلّى الله عليه وسلم فَعَلَهُ
وَرَوَى عَاصِمُ الْأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كُنَّا نَكْرَهُ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالطَّوَافُ بَيْنَهُمَا تَطَوُّعٌ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ مَنْ شَاءَ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ إنَّ مَنْ تَرَكَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ إنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَتَرْكُهُ يُجْزِي عَنْهُ الدَّمُ وَقَالَ الشَّافِعِيّ لَا يُجْزِي عَنْهُ الدَّمُ إذَا تَرَكَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِع فَيَطُوفَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ يُجْزِي عَنْهُ الدَّمُ لِمَنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ مِثْلُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَطَوَافِ الصَّدْرِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فُرُوضِهِ
قَوْلُهُ عليه السلام(1/118)
فِي حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطَّائِيّ قَالَ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ جئت من جبل طي مَا تَرَكْت جَبَلًا إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ فَهَلْ لي من حج فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَوَقَفَ مَعَنَا هذا الموقف وقد أدرك عرفة قبل ليلا أو نهارا فقدتم حجه وقضى تفثه
فهذا القول منه صلّى الله عليه وسلم يَنْفِي كَوْنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَرْضًا فِي الْحَجِّ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إخْبَارُهُ بِتَمَامِ حَجَّتِهِ وَلَيْسَ فِيهِ السَّعْيُ بَيْنَهُمَا وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ فُرُوضِهِ لَبَيَّنَهُ لِلسَّائِلِ لِعِلْمِهِ بِجَهْلِهِ بِالْحُكْمِ فَإِنْ قِيلَ لَمْ يَذْكُرْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ فُرُوضِهِ قِيلَ لَهُ ظَاهِرُ اللَّفْظ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ فَرْضًا بِدَلَالَةِ فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مَسْنُونًا وَيَكُونَ تَطَوُّعًا كَمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ قِيلَ لَهُ كَذَلِكَ يقتضى ظاهر اللفظ وإنما أَثْبَتْنَاهُ مَسْنُونًا فِي تَوَابِعِ الْحَجِّ بِدَلَالَةٍ وَمِمَّا يُحْتَجّ بِهِ لِوُجُوبِهِ أَنَّ فَرَضَ الْحَجِّ مُجْمَلٌ فِي كِتَابِ اللَّه لِأَنَّ الْحَجَّ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ قَالَ الشَّاعِرُ يَحُجُّ مَأْمُومَةَ فِي قَعْرِهَا لَجَفَّ يَعْنِي أَنَّهُ يَقْصِدُ ثُمَّ نُقِلَ فِي الشَّرْعِ إلَى مَعَانٍ أُخَرِ لَمْ يَكُنْ اسْمًا مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ وَهُوَ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَان فَمهمَا وَرَدَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِالْجُمْلَةِ وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ورد مورد البيان فهو على الوجوب فلما سعى بينهما النبي صلّى الله عليه وسلم كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةَ الْوُجُوبِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ النَّدْبِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)
وَذَلِكَ أَمْرِ يَقْتَضِي إيجَابُ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ فَوَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي السَّعْيِ بَيْنَهُمَا
وَقَدْ رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ بِمَ أَهْلَلْت فَقُلْت أَهْلَلْت بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحْسَنْت طُفْ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَحِلَّ فَأَمَرَهُ بِالسَّعْيِ بينها
وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مُضْطَرِبُ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ جَمِيعًا مَجْهُولُ الرَّاوِي وَهُوَ
مَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ وَاصِلٍ مَوْلَى أبى عيينة عن موسى ابن أَبِي عُبَيْدِ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ امْرَأَةٍ سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ (يَقُولُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيُ فَاسْعَوْا)
فَذَكَرَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا سَمِعَتْهُ يَقُولَ ذَلِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ تَذْكُرْ اسم الرواية
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَيْصِنٍ عَنْ عَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحَ قَالَ حَدَّثَتْنِي صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ عَنْ امْرَأَةٍ يُقَالَ لها حبيبة بنت أبى تجزءة قَالَتْ دَخَلْت دَارَ أَبِي حُسَيْنٍ وَمَعِي نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى إنَّ ثَوْبَهُ لَيَدُورَ بِهِ وَهُوَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ (اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ)(1/119)
فذكر في هذا الحديث أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ فَظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُرَادَهُ السَّعْيَ فِي الطَّوَافِ وَهُوَ الرمل وَالطَّوَافُ نَفْسُهُ لِأَنَّ الْمَشْي يُسَمَّى سَعَيَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ] وَلَيْسَ الْمُرَادُ إسْرَاعَ الْمَشْي وَإِنَّمَا هُوَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا إذْ جائز أن يكون مراد الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَالرَّمَل فِيهِ وَهُوَ سَعْي لِأَنَّهُ إسْرَاعُ الْمَشْيِ وَأَيْضًا فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ أَيَّ سَعْيٍ كَانَ وَهُوَ إذَا رَمْل فَقَدْ سَعَى وَوُجُوبُ التَّكْرَار لَا دَلَالَة عَلَيْهِ فَالْأَخْبَارُ الْأُوَلُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا وَلَا دَلَالَة فِيهَا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا لَا يَنُوبُ عَنْهُ دَمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدَّمَ يَنُوبُ عَنْهُ لِمَنْ تَرَكَهُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ اتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى جَوَازِ السَّعْيِ بَعْد الْإِحْلَالِ مِنْ جَمِيعِ الْإِحْرَامِ كَمَا يَصِحُّ الرَّمْيُ وَطَوَافُ الصَّدْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَنُوب عَنْهُ الدَّمُ كَمَا نَابَ عَنْ الرَّمْي وَطَوَافِ الصَّدْرِ فَإِنْ قِيلَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ يُفْعَلُ بَعْدَ الْإِحْلَالَ وَلَا يَنُوب عَنْهُ الدَّمُ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ بَقَاءَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يُوجِبُ كَوْنُهُ مُحْرِمًا عَنْ النِّسَاءِ وَإِذَا طَافَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَلَيْسَ لِبَقَاءِ السَّعْيِ تَأْثِيرٌ فِي بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْإِحْرَامِ كَالرَّمْيِ وَطَوَافِ الصَّدْرِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ إذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ لَمْ يَحِلّ مِنْ النِّسَاءِ وَكَانَ حَرَامًا حَتَّى يَسْعَى بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قِيلَ لَهُ قَدْ اتَّفَقَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ التَّابِعِينَ وَالسَّلَفِ بَعْدَهُمْ أَنَّهُ يَحِلُّ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِأَنَّهُمْ عَلَى ثَلَاثَة أَقَاوِيل بَعْدَ الْحَلْقِ فَقَالَ قَائِلُونَ هُوَ مُحْرِمٌ مِنْ اللِّبَاسِ وَالصَّيْدِ وَالطَّيِّبِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب هُوَ مُحْرِمٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ هُوَ مُحْرِمٌ مِنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ فَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ النِّسَاءِ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ دُونَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّعْيَ بَيْنهمَا لَا يُفْعَلُ إلَّا تَبَعًا لِلطَّوَافِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَا طَوَافَ عَلَيْهِ لَا سَعْيَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَتَطَوَّعُ بِالسَّعْيِ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَتَطَوَّعُ بِالرَّمْيِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنْ قِيلَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ لَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ وَهُمَا مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ قِيلَ لَهُ لَمْ نَقُلْ إنَّ مَنْ لَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَ غَيْرِهِ فَهُوَ تَبَعٌ فَيَلْزَمُنَا مَا ذَكَرْت وَإِنَّمَا قُلْنَا مَا لَا يُفْعَلُ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِأَفْعَالِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ فَهُوَ تَابِعٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ فَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَفْعُولٍ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِغَيْرِهِ بَلْ يُفْعَلُ مُنْفَرِدًا(1/120)
بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ مِنْ شُرُوطِهِ شَيْئَانِ الْإِحْرَامُ وَالْوَقْتُ وَمَا كَانَ شَرْطُهُ الْإِحْرَامَ أَوْ الْوَقْتَ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ وَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ جَوَازُهُ بِوَقْتٍ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ تَبَعُ فَرْضٍ غَيْرِهِ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ جَوَازُهُ بِالْوَقْتِ والوقوف بعرفة إنما يتعلق جوازه بالإحرام والوقت ليس صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى وُقُوعِ فِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ الْإِحْرَامِ فَلَيْسَ هُوَ إذَا تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَأَمَّا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِنَّهُ مَعَ حُضُورِ وَقْتِهِ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى فِعْلٍ آخَرَ غَيْرِهِ وَهُوَ الطَّوَافُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ فَأَشْبَهَ طَوَافَ الصَّدْرِ لَمَّا كَانَتْ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ كَانَ تَبَعًا فِي الْحَجِّ يَنُوبُ عَنْ تَرْكِهِ دَمٌ وقَوْله تَعَالَى [إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ] قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ لِأَنَّ الشَّعَائِرَ هي معالم للطاعات وَالْقُرَبِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِشْعَارِ الَّذِي هُوَ الْإِعْلَامُ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُك شَعَرْت بِكَذَا وَكَذَا أَيْ عَلِمْته وَمِنْهُ إشْعَارُ الْبَدَنَةِ أَيْ إعْلَامُهَا لِلْقُرْبَةِ وَشِعَارُ الْحَرْبِ عَلَامَاتُهَا الَّتِي يَتَعَارَفُونَ بِهَا فَالشَّعَائِرُ هِيَ الْمَعَالِمُ لِلْقُرَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] وَشَعَائِرُ الْحَجِّ مَعَالِمُ نُسُكِهِ وَمِنْهُ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ بِفَحْوَاهَا عَلَى أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ [مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ] ثُمَّ قَوْلُهُ [فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما] فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لِمَنْ سَأَلَ عَنْهُمَا وَأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا اللَّفْظِ لَمْ يَنْفِ إرَادَةَ الْوُجُوبِ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِهِ وَهُوَ
مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي السَّعْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَخْبَارٌ مُخْتَلِفَةٌ وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ السَّعْيَ فِيهِ مَسْنُونٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَصَوَّبَتْ قَدَمَاهُ فِي الْوَادِي سَعَى حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ قَالَ سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ أَرَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمُلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ كَانَ فِي النَّاسِ فَرَمَلُوا وَلَا أَرَاهُمْ فَعَلُوا إلَّا بِرَمَلِهِ
وَقَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي وَرَوَى مَسْرُوقٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ سَعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَنْ شَاءَ يَسْعَى بِمَسِيلِ مَكَّةَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَسْعَ وَإِنَّمَا يَعْنِي الرَّمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ إنْ مَشَيْت فَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَإِنْ سَعَيْت فَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى
وَرَوَى عَمْرٌو عَنْ عَطَاءٍ عن(1/121)
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ
فَأَتَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ إظْهَارُ الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ وَتَعَلُّقُ فِعْلِهِ بِهَذَا السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ سُنَّةً مَعَ زَوَالِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السَّبَبَ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ كَانَ رَمْيَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إبْلِيسَ لَمَّا عَرَضَ لَهُ بِمِنًى وَصَارَ سُنَّةً بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ كَانَ سَبَبُ الرَّمَلِ فِي الْوَادِي أَنَّ هَاجَرَ لَمَّا طَلَبَتْ الْمَاءَ لِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وَجَعَلَتْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَكَانَتْ إذَا نَزَلَتْ الْوَادِيَ غَابَ الصَّبِيُّ عَنْ عَيْنِهَا فَأَسْرَعَتْ الْمَشْيَ وَرَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَلِمَ الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى فَسَبَقَهُ إبْرَاهِيمُ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ سُرْعَةِ الْمَشْيِ هُنَاكَ وَهُوَ سُنَّةٌ كَنَظَائِرِهِ مِمَّا وَصَفْنَا وَالرَّمَلُ فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِمَّا قَدْ نَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ قَوْلًا وَفِعْلًا وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ مَسْنُونًا بَعْدَهُ وَظُهُورُ نَقْلِهِ فِعْلًا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ وَاَللَّهُ تعالى أعلم.
بَابُ طَوَافِ الرَّاكِبِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي طَوَافِ الرَّاكِبِ بَيْنَهُمَا فَكَرِهَ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ
وَذَكَرَ أَبُو الطُّفَيْلِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ قَوْمَك يَزْعُمُونَ أَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى الدَّابَّةِ سُنَّةٌ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَالَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُدْفَعُ عَنْهُ أَحَدٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ
وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة أَنَّهَا شَكَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ
وَكَانَ عُرْوَةُ إذَا رَآهُمْ يَطُوفُونَ عَلَى الدَّوَابِّ نَهَاهُمْ فَيَتَعَلَّلُونَ بِالْمَرَضِ فَيَقُولُ خَابَ هَؤُلَاءِ وَخَسِرُوا وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا مَنَعَنِي مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إلَّا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنِّي لَأَكْرَهُ الرُّكُوبَ
وَرُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ وَقَدْ اشْتَكَى فَطَافَ عَلَى بَعِيرٍ وَمَعَهُ مِحْجَنٌ كُلَّمَا مَرَّ عَلَى الْحَجَرِ اسْتَلَمَهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَنَاخَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَلَمَّا ثَبَتَ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ بِهِمَا السَّعْيُ فِي بَطْنِ الْوَادِي
عَلَى مَا وَصَفْنَا وَكَانَ الرَّاكِبُ تَارِكًا لِلسَّعْيِ كَانَ فِعْلُهُ خِلَافَ السُّنَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ فَيَجُوزُ.(1/122)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
(فَصْلُ)
رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ وَذَكَرَ حَجَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَوَافَهُ بِالْبَيْتِ إلَى قَوْلِهِ فَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّفَا حَتَّى بَدَا لَهُ الْبَيْتُ فَقَالَ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْقُولًا مِنْ الْآيَةِ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقُولَ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَإِنَّمَا بدئ بالصفا قبل المروة
لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ
وَنَفْعَلُهُ كَذَلِكَ مَعَ
قَوْلِهِ [خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ]
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَسْنُونَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَنْ يَبْدَأَ بِالصَّفَا قَبْلَ الْمَرْوَة فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعِيدَ ذَلِكَ الشَّوْطَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ التَّرْتِيبِ فِي أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ قوله تعالى [وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً] عَقِيبَ ذِكْرِ الطَّوَافِ بِهِمَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَاهُ تَطَوُّعًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ رُجُوعُ الْكَلَامِ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الطَّوَافِ بِهِمَا وَمَعْلُومٌ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يُتَطَوَّعُ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ وَاجِبًا فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَعِنْدَ مَنْ لَا يَرَاهُ فِي غَيْرِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ [وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً] إخْبَارٌ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ تَطَوُّعًا إذْ لَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ لِفِعْلِهِ فِي غَيْرِهِمَا لَا تَطَوُّعًا وَلَا غَيْرَهُ وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ تَطَوَّعَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا فِي الْخِطَابِ فِي قَوْله تَعَالَى [فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ] .
بَابٌ فِي النَّهْيِ عَنْ كِتْمَانِ الْعِلْمِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى] الْآيَةَ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا] الْآيَةَ وَقَالَ [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ] هَذِهِ الْآيُ كُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِإِظْهَارِ عُلُومِ الدِّينِ وَتَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ زَاجِرَةٌ عَنْ كِتْمَانِهَا وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى لُزُومِ بَيَانِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَهِيَ مُوجِبَةٌ أَيْضًا لِبَيَانِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ مِنْهُ وَتَرْكِ كِتْمَانِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى] وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى سَائِرِ أَحْكَامِ اللَّهِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَنْبَطِ لِشُمُولِ اسْمِ الْهُدَى لِلْجَمِيعِ وقَوْله تَعَالَى [يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الدَّلِيلِ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِيهِ النَّصُّ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ قوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ](1/123)
عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ مِنْ طُرُقِ إخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ انْطَوَتْ تَحْتَ الْآيَةِ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الدلالة على قبول أخبار الآحاد عنه صلّى الله عليه وسلم فَكُلُّ مَا اقْتَضَى الْكِتَابُ إيجَابَ حُكْمِهِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الدَّلَالَةِ فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمْ ثُمَّ تَلَا [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى] فَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ] الْآيَةَ فَهَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ فَمَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيُعَلِّمْهُ وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ فَإِنَّ كِتْمَانَهُ هَلَكَةٌ وَنَظِيرُهُ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذِكْرُ الْوَعِيدِ لِكَاتِمِهِ قَوْله تَعَالَى [فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]
وَقَدْ رَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ)
فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ حِينَ كَتَمُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ نُزُولُ الْآيَةِ عَلَى عَلَى سَبَبٍ غَيْرِ مَانِعٍ مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِهَا فِي سَائِرِ مَا انْتَظَمَتْهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا لِلَّفْظِ لَا لِلسَّبَبِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عِنْدَنَا عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى سَبَبِهِ وَيُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ الْمُقَصِّرَةِ عن مرتبة إيجاب العلم لِمَخْبَرِهَا فِي أُمُورِ الدِّينِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ] وقَوْله تَعَالَى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ] قد اقتضى النهى عن الكتمان ووقوع الْبَيَانُ بِالْإِظْهَارِ فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْ السَّامِعِينَ قَبُولُهُ لَمَا كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ مُبَيِّنًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ مَا لَا يُوجِبُ حُكْمًا فَغَيْرُ مَحْكُومٍ لَهُ بِالْبَيَانِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَنْهِيِّينَ عَنْ الْكِتْمَانِ مَتَى أَظْهَرُوا مَا كَتَمُوا وَأَخْبَرُوا بِهِ لَزِمَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى خَبَرِهِمْ وَمُوجَبِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ [إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا] فَحَكَمَ بِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ الْكِتْمَانِ وَمَأْمُورًا بِالْبَيَانِ لِيَكْثُرَ الْمُخْبِرُونَ وَيَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُمْ مَا نُهُوا عَنْ الْكِتْمَانِ إلَّا وَهُمْ مِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَيْهِ وَمَنْ جَازَ مِنْهُمْ التوطؤ عَلَى الْكِتْمَانِ جَازَ مِنْهُمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى التَّقَوُّلِ فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُمْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ فَقَدْ دَلَّتْ الآثار على قبول الخبر الْمُقَصِّرِ عَنْ الْمَنْزِلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ وَعَلَى أن(1/124)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
مَا ادَّعَيْته لَا بُرْهَانَ عَلَيْهِ فَظَوَاهِرُ الْآيِ مُقْتَضِيَةٌ لِقَبُولِ مَا أُمِرُوا بِهِ لِوُقُوعِ بَيَانِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَفِي الْآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى لُزُومِ إظْهَارِ الْعِلْمِ وَتَرْكِ كِتْمَانِهِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ عَلَى مَا عَلَيْهِ فِعْلُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قال النبي صلّى الله عليه وسلم إنِّي أَعْطَيْت قَوْمِي مِائَةَ شَاةٍ عَلَى أَنْ يُسْلِمُوا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِائَةُ شَاةٍ رَدٌّ عَلَيْك وَإِنْ تَرَكُوا الْإِسْلَامَ قَاتَلْنَاهُمْ
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قَوْله تَعَالَى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا] وَظَاهِرُ ذَلِكَ يَمْنَعُ أَخْذَ الْأَجْرِ عَلَى الْإِظْهَارِ وَالْكِتْمَانِ جَمِيعًا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى [وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا] مَانِعٌ أَخْذَ الْبَدَلِ عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ إذْ كَانَ الثَّمَنُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْبَدَلُ قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَة:
إنْ كُنْت حَاوَلْت دُنْيَا أَوْ رَضِيت بِهَا ... فَمَا أَصَبْت بِتَرْكِ الْحَجِّ مِنْ ثَمَنِ
فَثَبَتَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ عُلُومِ الدِّينِ
قَوْله تَعَالَى [إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ الْكِتْمَانِ إنَّمَا يَكُونُ بِإِظْهَارِ الْبَيَانِ وَأَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ بِالنَّدَمِ عَلَى الْكِتْمَانِ فِيمَا سَلَفَ دُونَ الْبَيَانِ فِيمَا اُسْتُقْبِلَ.
بَابُ لَعْنِ الْكُفَّارِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَعْنَ مَنْ مَاتَ كَافِرًا وَأَنَّ زَوَالَ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ لَعْنَهُ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ لأن قوله [وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] قَدْ اقْتَضَى أَمْرَنَا بِلَعْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ جُنَّ لَمْ يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْجُنُونِ مُسْقِطًا لِلَعْنِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ سَبِيلُ مَا يُوجِبُ الْمَدْحَ وَالْمُوَالَاةَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ أَنَّ مَوْتَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَوْ جُنُونَهُ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُدُوثِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ أَنَّ النَّاسَ يَلْعَنُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً] قِيلَ لَهُ هَذَا تَخْصِيصٌ بِلَا دَلَالَةٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَلَائِكَةِ فِي الدُّنْيَا بِالْآيَةِ فَكَذَلِكَ مِنْ النَّاسِ وَإِنَّمَا يَشْتَبِهُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ النَّاسَ يَلْعَنُونَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ بِاسْتِحْقَاقِهِ اللَّعْنَ مِنْ النَّاسِ لَعَنُوهُ أَوْ لَمْ يَلْعَنُوهُ
قوله تعالى [وَإِلهُكُمْ(1/125)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
إِلهٌ واحِدٌ]
وَصْفُهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ انْتَظَمَ مَعَانِيَ كُلَّهَا مُرَادَةٌ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْهَا أَنَّهُ وَاحِدٌ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ وَلَا مِثْلَ وَلَا مُسَاوِيَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَاسْتَحَقَّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ دُونَ غَيْرِهِ وَمِنْهَا أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي اسْتِحْقَاقِ العبادة والوصف له بالألوهية لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا سِوَاهُ وَمِنْهَا أَنَّهُ وَاحِدٌ ليس بذي أبعاض ولا يجوز عليه التجزى وَالتَّقْسِيمُ لِأَنَّ مَنْ كَانَ ذَا أَبْعَاضٍ وَجَازَ عليه التجزى وَالتَّقْسِيمُ فَلَيْسَ بِوَاحِدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَمِنْهَا أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي الْوُجُودِ قَدِيمًا لَمْ يَزُلْ مُنْفَرِدًا بِالْقِدَمِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وُجُودٌ سِوَاهُ فَانْتَظَمَ وَصْفُهُ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا
قَوْله تَعَالَى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ] الْآيَة قَدْ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ضُرُوبًا مِنْ الدَّلَالَات عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ وَفِيهَا أَمْرٌ لَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ [لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] يَعْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهُ نَصَبَهَا لِيَسْتَدِلّ بِهَا وَيَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَنَفْيِ الْأَشْبَاهِ عَنْهُ وَالْأَمْثَالِ وَفِيهِ إبْطَالٌ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْخَبَرِ وَأَنَّهُ لَا حَظَّ لِلْعُقُولِ فِي الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى فَأَمَّا دَلَالَةُ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ قِيَامُ السَّمَاءِ فَوْقنَا عَلَى غَيْرِ عَمْد مَعَ عَظْمهَا سَاكِنَةً غَيْرَ زَائِلَةٍ وَكَذَلِكَ الْأَرْض تَحْتَنَا مَعَ عَظْمِهَا فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَهَى من حيث كان حَيْثُ كَانَ مَوْجُودًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُحْتَمِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَوْ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى إقَامَةِ حَجَرٍ فِي الْهَوَاءِ مِنْ غَيْرِ عَلَاقَةٍ وَلَا عَمْد لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ مُقِيمَا أَقَامَ السَّمَاءَ عَلَى غَيْرِ عَمْد وَالْأَرْضَ عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى الْخَالِقِ لَهُمَا وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْأَجْسَامَ وَأَنَّهُ قَادِرٌ لَا يَعْجِزُهُ شَيْءٌ إذْ كَانَتْ الْأَجْسَامُ لَا تَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اخْتِرَاعِ الْأَجْسَامِ إذْ لَيْسَ اخْتِرَاعُ الْأَجْسَامِ وَاخْتِرَاعُ الْأَجْرَامِ بِأَبْعَد فِي الْعُقُولِ وَالْأَوْهَامِ مِنْ إقَامَتهَا مَعَ عَظْمهَا وَكَثَافَتِهَا عَلَى غَيْرِ قَرَار وَعَمَدٍ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تَدُلّ عَلَى حُدُوثِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَهِيَ امْتِنَاعُ جَوَازِ تَعَرِّيهَا مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمُتَضَادَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْرَاض مُحْدَثَةٌ لِوُجُودِ كُلِّ وَاحِد مِنْهَا بَعْد أَنَّ لَمْ يَكُنْ وَمَا لَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْمُحْدَثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ فَصَحَّ بِذَلِكَ حُدُوثُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَالْمُحْدَثُ يَقْتَضِي مُحَدِّثًا كَاقْتِضَاءِ الْبِنَاءِ للبانى والكتابة للكاتب والتأثر لِلْمُؤَثَّرِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ آيَات اللَّهِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا دَلَالَةُ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ جِهَةٍ أَنَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَادِثٌ بعد(1/126)
الْآخَرِ وَالْمُحْدَثُ يَقْتَضِي مُحْدِثًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مُحْدِثهمَا وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُهُمَا إذْ كُلُّ فَاعِلٍ فَغَيْرُ مُشْبِهٍ لِفِعْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَانِي لا يشبه بنائه وَالْكَاتِبُ لَا يُشْبِهُ كِتَابَتَهُ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَوْ أَشْبَهَهُ لَجَرَى عَلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ دَلَالَةِ الْحُدُوثِ فَكَانَ لَا يَكُونُ هُوَ أُولَى بِالْحُدُوثِ مِنْ مُحْدَثه وَلَمَّا صَحَّ أَنَّ مُحْدِثَ الْأَجْسَامِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ قَدِيمٌ صَحَّ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُهَا وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحْدِثَهَا قَادِرٌ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الْفِعْلِ إلَّا مِنْ الْقَادِرِ وَيَدُلُّ أَنَّ مُحْدِثَهَا حَيٌّ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الْفِعْلِ إلَّا مِنْ قَادِرٍ حَيٍّ وَيَدُلّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ لِاسْتِحَالَةِ الْفِعْلِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ المتسق إلَّا مِنْ عَالِمٍ بِهِ قَبْلَ إحْدَاثِهِ وَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَارِيًا عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ فِي كُلِّ صُقْعٍ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ أَزْمَانُ السَّنَةِ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي عُرِفَ مِنْهُمَا الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُخْتَرِعُهُمَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ عَالِمٌ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَمْ يُوجَدُ مِنْهُ الْفِعْلُ ولو لم يكن عَالِمًا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُتْقَنًا مُنْتَظِمًا وَأَمَّا دَلَالَةُ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ فَمِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ تُحْدِثَ مِثْلَ هَذَا الْجِسْمَ الرَّقِيقَ السَّيَّالَ الْحَامِلَ لِلْفُلْكِ وَعَلَى أَنْ تُجْرِيَ الرِّيَاحَ الْمُجْرِيَةَ لِلْفُلْكِ لَمَا قَدَرَتْ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ سَكَنَتْ الرِّيَاحُ بَقِيَتْ رَاكِدَةً عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ لَا سَبِيلَ لِأَحَدِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ إلَى إجْرَائِهَا وَإِزَالَتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ [إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ] فَفِي تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَاءَ لِحَمْلِ السُّفُنِ وَتَسْخِيرِهِ الرِّيَاحَ لِإِجْرَائِهَا أَعْظَمُ الدَّلَائِلِ عَلَى إثْبَاتِ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيمِ الْقَادِرِ الْعَالِمِ الْحَيِّ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ إذْ كَانَتْ الْأَجْسَامُ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ فَسَخَّرَ اللَّهُ الْمَاءَ لِحَمْلِ السُّفُنِ عَلَى ظَهْرِهِ وَسَخَّرَ الرِّيَاحَ لِإِجْرَائِهَا وَنَقْلِهَا لِمَنَافِعِ خَلْقِهِ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَعَظْم نِعْمَتِهِ وَاسْتَدْعَى مِنْهُمْ النَّظَرَ فِيهَا لِيَعْلَمُوا أَنَّ خَالِقَهُمْ قَدْ أَنْعَمَ بِهَا فَيَشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ وَيَسْتَحِقُّوا بِهِ الثَّوَابَ الدَّائِمَ فِي دَارِ السَّلَامِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَأَمَّا دَلَالَةُ إنْزَالِهِ الْمَاءَ عَلَى تَوْحِيدِهِ فَمِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَاءِ النُّزُولَ وَالسَّيَلَانَ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ ارْتِفَاعُ الْمَاءِ مِنْ سُفْلٍ إلَى عُلُوٍّ إلَّا بِجَاعِلِ يَجْعَلهُ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو الْمَاءُ الْمَوْجُودِ فِي السَّحَابِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْدِثٌ أَحْدَثُهُ هُنَاكَ فِي السَّحَابِ أَوْ رَفَعَهُ مِنْ مَعَادِنِهِ
مِنْ الْأَرْضِ وَالْبِحَارِ إلَى هُنَاكَ وَأَيُّهُمَا كَانَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إثْبَاتِ الْوَاحِدِ الْقَدِيمِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ ثُمَّ إمْسَاكُهُ فِي السَّحَابِ غَيْرُ سَائِلٍ مِنْهُ حَتَّى يَنْقُلَهُ إلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرِيدُهَا بِالرِّيَاحِ الْمُسَخَّرَةِ لِنَقْلِهِ فِيهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ فَجَعَلَ السَّحَابَ مَرْكَبًا لِلْمَاءِ وَالرِّيَاحَ مَرْكَبًا لِلسَّحَابِ(1/127)
حَتَّى تَسُوقَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ لِيَعُمَّ نَفْعُهُ لِسَائِرِ خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ] ثُمَّ أَنْزَلَ ذَلِكَ الْمَاءَ قَطْرَةً قَطْرَةً لَا تَلْتَقِي وَاحِدَةٌ مَعَ صَاحِبَتِهَا فِي الْجَوِّ مَعَ تَحْرِيكِ الرِّيَاحِ لَهَا حَتَّى تَنْزِلَ كُلُّ قَطْرَةٍ عَلَى حِيَالِهَا إلَى مَوْضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ وَلَوْلَا أَنَّ مُدَبِّرًا حَكِيمًا عَالِمًا قَادِرًا دَبَّرَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ وَقَدَّرَهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ التَّقْدِيرِ كَيْفَ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ نُزُولُ الْمَاءِ فِي السَّحَابِ مَعَ كَثْرَتِهِ وَهُوَ الَّذِي تَسِيلُ مِنْهُ السُّيُولُ الْعِظَامُ عَلَى هَذَا النِّظَامِ وَالتَّرْتِيبِ ولو اجتمع القطر في الجو وأتلف لَقَدْ كَانَ يَكُونُ نُزُولُهَا مِثْلَ السُّيُولِ الْمُجْتَمِعَةِ مِنْهَا بَعْدَ نُزُولِهَا إلَى الْأَرْضِ فَيُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَإِبَادَةِ جَمِيعِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَجَرٍ وَحَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَكَانَ يَكُونُ كَمَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَالِ الطُّوفَانِ فِي نُزُولِ الْمَاءِ مِنْ السَّمَاءِ فِي قَوْله تعالى [فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ] فيقال إنه كان صبا كنحر السُّيُولِ الْجَارِيَةِ فِي الْأَرْضِ فَفِي إنْشَاءِ اللَّهِ تَعَالَى السَّحَابَ فِي الْجَوِّ وَخَلْقِ الْمَاءِ فِيهِ وَتَصْرِيفِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مُشْبِهٍ الْأَجْسَامَ إذْ الْأَجْسَامُ لَا يُمْكِنُهَا فِعْلُ ذَلِكَ وَلَا تَرُومُهُ وَلَا تَطْمَعُ فِيهِ وَأَمَّا دَلَالَةُ إحْيَاءِ اللَّهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى تَوْحِيدِهِ فَهِيَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى إحْيَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَلَمَا أَمْكَنَهُمْ إنْبَاتُ شَيْءٍ مِنْ النَّبَاتِ فِيهَا فَإِحْيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى الْأَرْضَ بِالْمَاءِ وَإِنْبَاتُهُ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ فِيهَا الَّتِي قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا وَمُشَاهَدَةً أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْهُ ثُمَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ النَّبَاتِ لَوْ فَكَّرْت فِيهِ عَلَى حِيَالِهِ لَوَجَدْته دَالًّا عَلَى أَنَّهُ مِنْ صُنْعِ صَانِعٍ حَكِيمٍ قَادِرٍ عَالِمٍ بِمَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِ مِنْ تَرْتِيبِ أَجْزَائِهِ وَنَظْمِهَا عَلَى غَايَةِ الْإِحْكَامِ مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَالِمٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الطَّبِيعَةِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ الْمُلْحِدُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ الْمَاءُ النَّازِلُ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى طَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَلِكَ أَجْزَاءُ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَالْأَزْهَارِ وَالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ وَالْفَوَاكِهِ الْمُخْتَلِفَةِ الطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الطَّبِيعَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَتَّفِقَ مُوجِبُهَا إذْ الْمُتَّفِقُ لَا يُوجِبُ الْمُخْتَلِفَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ صُنْعِ صَانِعٍ حَكِيمٍ قَدْ خَلَقَهُ وَقَدَّرَهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَطُعُومِهِ وَأَلْوَانِهِ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَدَلَالَةً لَهُمْ عَلَى صُنْعِهِ وَنِعَمِهِ وَأَمَّا دَلَالَةُ مَا بَثَّ فِيهَا مِنْ دَابَّةٍ عَلَى تَوْحِيدِهِ فَهِيَ كَذَلِكَ فِي الدَّلَالَةِ أَيْضًا فِي اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ الْحَيَوَانَاتُ هي(1/128)
الْمُحْدِثَةُ لِأَنْفُسِهَا لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ أَحْدَثَتْهَا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ أَوْ مَعْدُومَةٌ فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فَوُجُودُهَا قَدْ أَغْنَى عَنْ إحْدَاثِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ إيجَادُ الْفِعْلِ مِنْ الْمَعْدُومِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا بَعْدَ وُجُودِهَا غَيْرُ قَادِرَةٍ عَلَى اخْتِرَاعِ الْأَجْسَامِ وَإِنْشَاءِ الْأَجْرَامِ فَهِيَ فِي حَالِ عَدَمِهَا أَحْرَى أَنْ لَا تَكُونَ قَادِرَةً عَلَيْهَا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ الْحَيَوَانِ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي أَجْزَائِهِ فَهُوَ بِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى إحْدَاثِ جَمِيعِهِ أَوْلَى فَثَبَتَ أَنَّ الْمُحْدِثَ لَهَا هُوَ الْقَادِرُ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ مُحْدِثُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ مُشْبِهًا لَهَا مِنْ وجه لكان حُكْمَهَا فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ وُقُوعِ إحْدَاثِ الْأَجْسَامِ وَأَمَّا دَلَالَةُ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ عَلَى تَوْحِيدِهِ فَهِيَ أَنَّ الْخَلْقَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى تَصْرِيفِهَا لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَصْرِيفَهَا تَارَةً جَنُوبًا وَتَارَةً شَمَالًا وَتَارَةً صَبًّا وَتَارَةً دَبُورًا مُحْدَثٌ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُحْدِثَ لِتَصْرِيفِهَا هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ إذْ كَانَ مَعْلُومًا اسْتِحَالَةُ إحْدَاثِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ فَهَذِهِ دَلَائِلُ قَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى الْعُقَلَاءَ عَلَيْهَا وَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إحْدَاثِ النَّبَاتِ مِنْ غَيْرِ مَاءٍ وَلَا زِرَاعَةٍ وَإِحْدَاثِ الْحَيَوَانَاتِ بِلَا نِتَاجٍ وَلَا زَوَاجٍ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ فِي إنْشَاءِ خَلْقِهِ عَلَى هَذَا تَنْبِيهًا لَهُمْ عِنْدَ كُلِّ حَادِثٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَالْفِكْرِ فِي عَظَمَتِهِ وَلِيُشْعِرَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا أَغْفَلُوهُ وَيُزْعِجَ خَوَاطِرَهُمْ
لِلْفِكْرِ فِيمَا أَهْمَلُوهُ فَخَلَقَ تَعَالَى الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ ثَابِتَتَيْنِ دَائِمَتَيْنِ لَا تَزُولَانِ وَلَا تَتَغَيَّرَانِ عَنْ الحال التي جعلهما وخلقهما عليها بديا إلى وقت فنائها ثُمَّ أَنْشَأَ الْحَيَوَانَ مِنْ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ أَنْشَأَ لِلْجَمِيعِ رِزْقًا مِنْهَا وَأَقْوَاتًا بِهَا تَبْقَى حَيَاتُهُمْ وَلَمْ يُعْطِهِمْ ذَلِكَ الرِّزْقَ جُمْلَةً فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُسْتَغْنُونَ بِمَا أُعْطُوا بَلْ جَعَلَ لَهُمْ قُوتًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ سَنَةٍ بِمِقْدَارِ الْكِفَايَةِ لِئَلَّا يَبْطَرُوا وَيَكُونُوا مُسْتَشْعِرِينَ لِلِافْتِقَارِ إلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ وَوَكَلَ إلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إلَى ذَلِكَ من الحرث والزراعة ليشعرهم أن للأعمال ثَمَرَاتٌ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَيَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى فِعْلِ الْخَيْرِ فَيَجْتَنُونَ ثَمَرَتَهُ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرِّ مَغَبَّتِهِ ثُمَّ تَوَلَّى هو لهم من إنزال الماء مَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ أَنْ يُنْزِلُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ فَأَنْشَأَ سَحَابًا فِي الْجَوِّ وَخَلَقَ فيه ماء ثُمَّ أَنْزَلَهُ عَلَى الْأَرْضِ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ ثُمَّ أَنْبَتَ لَهُمْ بِهِ سَائِرَ أَقْوَاتِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إليه لملابسهم ثم لم يقتصر فيما أنزله مِنْ السَّمَاءِ عَلَى مَنَافِعِهِ فِي وَقْتِ مَنَافِعِهِ حَتَّى جَعَلَ لِذَلِكَ الْمَاءِ مَخَازِنَ وَيَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ يَجْتَمِعُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَاءُ فَيَجْرِي أَوَّلًا فأولا(1/129)
عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ] وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَبْسٍ لَهُ فِي الْأَرْضِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ لَسَالَ كُلُّهُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَلَفُ سَائِرِ الْحَيَوَانِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا لِعَدَمِهِ الْمَاءَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ الَّذِي يَأْوِي إلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَجَعَلَ السَّمَاءَ بِمَنْزِلَةِ السَّقْفِ وَجَعَلَ سَائِرَ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَنْقُلُهُ الْإِنْسَانُ إلَى بَيْتِهِ لِمَصَالِحِهِ ثُمَّ سَخَّرَ هَذِهِ الْأَرْضَ لَنَا وَذَلَّلَهَا لِلْمَشْيِ عَلَيْهَا وَسُلُوكِ طُرُقِهَا وَمَكَّنَنَا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي بِنَاءِ الْبُيُوتِ والدور ليسكن مِنْ الْمَطَرِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَتَحَصُّنًا مِنْ الْأَعْدَاءِ لَمْ تُخْرِجْنَا إلَى غَيْرِهَا فَأَيَّ مَوْضِعٍ مِنْهَا أَرَدْنَا الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي إنْشَاءِ الْأَبْنِيَةِ مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ فِيهَا مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْجِصِّ وَالطِّينِ وَمِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ أَمْكَنَنَا ذلك وسهل علينا سوى ما أودعهما مِنْ الْجَوَاهِرِ الَّتِي عَقَدَ بِهَا مَنَافِعَنَا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كما قال تعالى [وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها] فَهَذِهِ كُلُّهَا وَمَا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ وَلَا يُحِيطُ عِلْمُنَا بِهِ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ وَمَنَافِعِهَا ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ مُدَّةُ أَعْمَارِنَا وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَنَاهِيَةً جَعَلَهَا كِفَاتًا لَنَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا جَعَلَهَا فِي الْحَيَاةِ فقال تعالى [أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً] وَقَالَ تَعَالَى [إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً] ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ فِيمَا خَلَقَ مِنْ النَّبَاتِ والحيوان على الملذ دون المألم وَلَا عَلَى الْغِذَاءِ دُونَ السُّمِّ وَلَا عَلَى الْحُلْوِ دُونَ الْمُرِّ بَلْ مَزَجَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِيُشْعِرَنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُرِيدٍ مِنَّا الرُّكُونَ إلَى هذه اللذات ولئلا تطمئن نفوسنا إليها فنشتغل بِهَا عَنْ دَارِ الْآخِرَةِ الَّتِي خُلِقْنَا لَهَا فَكَانَ النَّفْعُ وَالصَّلَاحُ فِي الدِّينِ فِي الذَّوَاتِ الْمُؤْلِمَةِ الْمُؤْذِيَةِ كَهُوَ فِي الْمَلَذَّةِ السَّارَّةِ وَلِيُشْعِرَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كَيْفِيَّةِ الْآلَامِ لِيَصِحَّ الْوَعِيدُ بآلام الآخرة ولنزجر عَنْ الْقَبَائِحِ فَنَسْتَحِقَّ النَّعِيمَ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ كَدَرٌ وَلَا تَنْغِيصٌ فَلَوْ اقْتَصَرَ الْعَاقِلُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ لَكَانَ كَافِيًا شَافِيًا فِي إثْبَاتِهِ وَإِبْطَالِ قَوْلِ سَائِرِ أَصْنَافِ الْمُلْحِدِينَ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ وَمِنْ الثَّنَوِيَّةِ وَمَنْ يَقُولُ بِالتَّشْبِيهِ وَلَوْ بَسَطْت مَعْنَى الْآيَةِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ ضُرُوبِ الدَّلَائِلِ لَطَالَ وَكَثُرَ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ كَانَ الْغَرَضُ فِيهِ التَّنْبِيهَ عَلَى مُقْتَضَى دَلَالَةِ الْآيَةِ بِوَجِيزٍ مِنْ الْقَوْلِ دُونَ الِاسْتِقْصَاءِ وَاَللَّهَ نَسْأَلُ حُسْنَ التَّوْفِيقِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِدَلَائِلِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهُدَاهُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ ونعم الوكيل.(1/130)
بَابُ إبَاحَةِ رُكُوبِ الْبَحْرِ
وَفِي قَوْله تَعَالَى [وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ] دَلَالَةٌ عَلَى إبَاحَةِ رُكُوبِ الْبَحْرِ غَازِيًا وَتَاجِرًا وَمُبْتَغِيًا لِسَائِرِ الْمَنَافِعِ إذْ لَمْ يَخُصَّ ضَرْبًا مِنْ الْمَنَافِعِ دُونَ غَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى [هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ] وَقَالَ [رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ] وقوله [لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ] قَدْ انْتَظَمَ التِّجَارَةَ وَغَيْرَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى [فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ] وَقَالَ تَعَالَى [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ] وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إبَاحَةُ التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنَعَ الْغَزْوَ فِي الْبَحْرِ إشْفَاقًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يَرْكَبُ أَحَدٌ الْبَحْرَ إلَّا غَازِيًا أَوْ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْمَشُورَةِ وَالْإِشْفَاقِ عَلَى رَاكِبِهِ
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ مُطَرَّفٍ عَنْ بِشْرِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْكَبُ البحر إلا حاج أو معتمرا أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ لِئَلَّا يُغَرِّرَ بِنَفْسِهِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إذْ لَا غَرَرَ فِيهِ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ فِي هَذَا الْوَجْهِ غَرَقًا كَانَ شَهِيدًا
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو داود حدثنا سليمان ابن دَاوُد الْعَتَكِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بن حبان عن أنس ابن مَالِكٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي أُمُّ حَرَامِ بِنْتُ مِلْحَانِ أُخْتُ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نام عِنْدَهُمْ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَضْحَكَك قَالَ رَأَيْت قَوْمًا مِمَّنْ يَرْكَبُ ظَهْرَ هَذَا الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ قَالَتْ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ الله يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ فَإِنَّك مِنْهُمْ قَالَتْ ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَضْحَكَك فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ
قَالَ فتزوجها عبادة ابن الصَّامِتِ فَغَزَا فِي الْبَحْرِ فَحَمَلَهَا مَعَهُ فَلَمَّا رَجَعَ قُرِّبَتْ لَهَا بَغْلَةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا فَمَاتَتْ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عبد الرحيم الجوبرى الدِّمَشْقِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ مَيْمُونٍ الرَّمْلِيُّ عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادٍ(1/131)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
عَنْ أُمِّ حَرَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ وَالْغَرِقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ)
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
بَابُ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَيْتَةُ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ حيوان الْمَيِّتِ غَيْرِ الْمُذَكَّى وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً بِأَنْ يَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لِآدَمِيٍّ فِيهِ وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً لِسَبَبِ فِعْلِ آدَمِيٍّ إذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الذَّكَاةِ الْمُبِيحَةِ لَهُ وَسَنُبَيِّنُ شَرَائِطَ الذَّكَاةِ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَيْتَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَقَدْ عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِهَا مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ وَالْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إنَّمَا يَتَنَاوَلَانِ أَفْعَالَنَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَا فِعْلَ غَيْرِنَا إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُنْهَى الْإِنْسَانُ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَلَا أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مَعْقُولًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ جَازَ إطْلَاقُ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَأْكِيدِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ سَائِرَ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَيْتَةِ عَلَى وَجْهٍ وَلَا يُطْعِمُهَا الْكِلَابَ وَالْجَوَارِحَ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُعَلَّقًا بِعَيْنِهَا مُؤَكِّدًا بِهِ حُكْمَ الْحَظْرِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَّا أَنْ يُخَصَّ شَيْءٌ مِنْهَا بِدَلِيلٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تَخْصِيصُ مَيْتَةِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْإِبَاحَةِ
فَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْجَرَادُ وَالسَّمَكُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالطِّحَالُ وَالْكَبِدُ)
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ جَيْشِ الْخَبَطِ (أَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى إلَيْهِمْ حُوتًا فَأَكَلُوا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ ثُمَّ لَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ تُطْعِمُونِي)
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي إبَاحَةِ السَّمَكِ غَيْرِ الطَّافِي وَفِي الْجَرَادِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ آيَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ]
وبقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَّقِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ (هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)
وَسَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالثَّبْتِ وَقَدْ خَالَفَهُ فِي سَنَدِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ فَرَوَاهُ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ(1/132)
فِي السَّنَدِ يُوجِبُ اضْطِرَابَ الْحَدِيثِ وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ آيَةٍ مُحْكَمَةٍ بِهِ
وَقَدْ رَوَى ابْنُ زِيَادٍ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبُكَائِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي الْبَحْرِ ذَكِيٌّ صَيْدُهُ طَهُورٌ مَاؤُهُ)
وَهَذَا أَضْعَفُ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ مِنْ الْأَوَّلِ وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ وَهُوَ
مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بَكْرِ بْنِ سِوَادَةَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْعَلَوِيِّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ مَخْشِيٍّ الْمُدْلَجِي عَنْ الْفَرَّاسِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (فِي الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)
وهذا أيضا مما لا يحتج به لجهالة رواية وَلَا يُخَصُّ بِهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْبَحْرِ فَقَالَ (هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّمَكِ الطَّافِي وَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَكَرِهَهُ أَصْحَابُنَا وَالْحَسَنُ بْنُ حَيِّ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ أَيْضًا
فَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ (مَا طَفَا مِنْ مَيْتَةِ الْبَحْرِ فَلَا تَأْكُلْهُ)
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَرِهَا الطَّافِيَ فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ كَرَاهَتُهُ وَرُوِيَ عَنْ جابر بن زيد وعطاء وسعيد ابن الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ كَرَاهِيَتُهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَأَبِي أَيُّوبَ إبَاحَةُ أَكْلِ الطَّافِي مِنْ السَّمَكِ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى حَظْرِ أَكْلِهِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ] وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَخْصِيصِ غَيْرِ الطَّافِي مِنْ الجملة فحصصناه وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّافِي فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِ الْعُمُومِ فِيهِ
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو داود قال حدثنا أحمد ابن عَبْدَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ)
وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَا جَزَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَلَا تَأْكُلْ وَمَا أَلْقَى فَكُلْ وَمَا وَجَدْته ميتا طافيا فلا تأكله)
وقد روى بن أبى ذيب عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم مِثْلَهُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حدثنا موسى(1/133)
ابن زَكَرِيَّا قَالَ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إذَا وَجَدْتُمُوهُ حَيًّا فَكُلُوهُ وَمَا أَلْقَى الْبَحْرُ حَيًّا فَمَاتَ فَكُلُوهُ وَمَا وَجَدْتُمُوهُ مَيِّتًا طَافِيًا فَلَا تَأْكُلُوهُ)
وَحَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الدِّهْقَانُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يزيد الطحان حدثنا حفص ابن غياث عن ابن أبى ذيب عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا صِدْتُمُوهُ وَهُوَ حَيٌّ فَمَاتَ فَكُلُوهُ وَمَا أَلْقَى الْبَحْرُ مَيِّتًا طَافِيًا فَلَا تَأْكُلُوهُ)
فَإِنْ قِيلَ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَيُّوبُ وَحَمَّادٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ قِيلَ لَهُ هَذَا لَا يُفْسِدُهُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً ثُمَّ يُرْسِلَ عَنْهُ فَيُفْتِيَ بِهِ وَفُتْيَاهُ بِمَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَهُ بَلْ يُؤَكِّدُهُ عَلَى أَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ لَيْسَ بِدُونِ مَنْ ذَكَرْت وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي ذيب فَزِيَادَتُهُمَا فِي الرَّفْعِ مَقْبُولَةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ فَإِنْ قِيلِ
قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ)
وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِهِ قِيلَ لَهُ يخصه مَا ذَكَرْنَا وَرَوَيْنَا فِي النَّهْيِ عَنْ الطَّافِي وَيَلْزَمُ مُخَالِفَنَا عَلَى أَصْلِهِ فِي تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ أَنْ يَبْنِيَ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ فَيَسْتَعْمِلُهُمَا وَأَنْ لَا يُسْقِطَ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ وَعَلَى أَنَّ هَذَا خَبَرٌ فِي رَفْعِهِ اخْتِلَافٌ فَرَوَاهُ مَرْحُومٌ الْعَطَّارُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَرَوَاهُ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا فَيَلْزَمُك فِيهِ مِثْلُ مَا رُمْت إلْزَامَنَا إيَّاهُ فِي خَبَرِ الطَّافِي فَإِنْ احْتَجَّ بِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قَالَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ
وَلَمْ يُخَصِّصْ الطَّافِيَ مِنْ غَيْرِهِ قِيلَ لَهُ نَسْتَعْمِلُهُمَا جَمِيعًا وَنَجْعَلُهُمَا كَأَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا نَسْتَعْمِلُ خَبَرَ الطَّافِي فِي النَّهْيِ وَنَسْتَعْمِلُ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ فِيمَا عَدَا الطَّافِي فَإِنْ قِيلَ فَإِنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّهُ مَتَى اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِي استعمال الآخر كان ما اتفق في الاستعمال قَاضِيًا عَلَى مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ
وَقَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم هو الحل ميتته وأحلت لَنَا مَيْتَتَانِ
مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا وَخَبَرُ الطَّافِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْخَبَرَيْنِ الْآخَرَيْنِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ وَقَوْلِهِ فِيمَا لَمْ يُعَضِّدْهُ نَصُّ الْكِتَابِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عُمُومُ الْكِتَابِ مُعَاضِدًا لِلْخَبَرِ الْمُخْتَلَفِ فِي اسْتِعْمَالِهِ فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ قَوْلَهُ فِيهِ وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِي اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ أَنْ يُعَضِّدَهُ عُمُومُ الْكِتَابِ فَيُسْتَعْمَلَ حِينَئِذٍ مَعَ الْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَيَكُونَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا مِنْهُ فَإِنْ(1/134)
احْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ جَيْشِ الْخَبَطِ وإباحة النبي صلّى الله عليه وسلم أَكْلَ الْحُوتِ الَّذِي أَلْقَاهُ الْبَحْرُ فَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِطَافٍ وَإِنَّمَا الطَّافِي مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ كَرَاهَةَ الطَّافِي مِنْ أَجْلِ بَقَائِهِ فِي الْمَاءِ حَتَّى طَفَا عَلَيْهِ فَيُلْزِمُونَنَا عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ الْمُذَكَّى إذَا أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ حَتَّى طَفَا عَلَيْهِ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِمَعْنَى الْمَقَالَةِ وَمَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّ السَّمَكَ لَوْ مَاتَ ثُمَّ طَفَا عَلَى الْمَاءِ لَأُكِلَ وَلَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَلَمْ يَطْفُ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يُؤْكَلْ وَالْمَعْنَى فِيهِ عِنْدَنَا هُوَ مَوْتُهُ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ لَا غَيْرُ
وَقَدْ رَوَى لَنَا عَبْدُ الْبَاقِي حَدِيثًا وَقَالَ لَنَا إنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ الْبَزَّازُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُمَاهِرِ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَنَسِ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كُلْ مَا طَفَا عَلَى الْبَحْرِ)
وإبان بن عَيَّاشٍ لَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِرِوَايَتِهِ قَالَ شُعْبَةُ لَأَنْ أَزْنِيَ سَبْعِينَ زَنْيَةً أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَرْوِيَ عَنْ أَبَانَ بْنِ عَيَّاشٍ فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ] وَأَنَّهُ عُمُومٌ فِي الطَّافِي وَغَيْرِهِ قِيلَ لَهُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الطَّافِي وَالثَّانِي أَنَّهُ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى وَطَعَامُهُ أنه ما ألقاه البحر فمات وصيده مَا اصْطَادُوا وَهُوَ حَيٌّ وَالطَّافِي خَارِجٌ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ وَلَا مِمَّا صِيدَ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ اصْطَادَ سَمَكًا مَيِّتًا كَمَا لَا يُقَالَ اصْطَادَ مَيِّتًا فَالْآيَةُ لَمْ تَنْتَظِمْ الطَّافِيَ وَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ وَاَللَّهُ أعلم.
بَابُ أَكْلِ الْجَرَادِ
قَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْجَرَادِ كُلِّهِ مَا أَخَذْته وَمَا وَجَدْته مَيِّتًا وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا أَخَذَهُ حَيًّا ثُمَّ قَطَعَ رَأْسَهُ وَشَوَاهُ أُكِلَ وَمَا أُخِذَ حَيًّا فَغَفَلَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَجَدَهُ مَيِّتًا قَبْلَ أَنْ يَصْطَادَهُ فَلَا يُؤْكَلُ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَقَالَ مَالِكٌ وَمَا قَتَلَهُ مَجُوسِيٌّ لَمْ يُؤْكَلْ وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَكْرَهُ أَكْلَ الْجَرَادِ مَيِّتًا فَأَمَّا الَّذِي أَخَذْته حَيًّا فَلَا بَأْسَ بِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ)
يُوجِبُ إبَاحَتَهُ جَمِيعَهُ مِمَّا وُجِدَ مَيِّتًا وَمِمَّا قَتَلَهُ آخِذُهُ وَقَدْ اسْتَعْمَلَ النَّاسُ جَمِيعُهُمْ هَذَا الْخَبَرَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِ الْجَرَادِ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لِقَتْلِ آخِذِهِ إذْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا(1/135)
الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا فَائِدُ أَبُو الْعَوَّامِ عن أبى عثمان الهندي عَنْ سَلْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْجَرَادِ قَالَ أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ
وَمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مباح وتركه أَكْلِهِ لَا يُوجِبُ حَظْرَهُ إذْ جَائِزٌ تَرْكُ أَكْلِ الْمُبَاحِ وَغَيْرُ جَائِزٍ نَفْيُ التَّحْرِيمِ عَمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا مَاتَ وَبَيْنَ مَا قَتَلَهُ آخِذُهُ
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَبْنَا جَرَادًا فَأَكَلْنَاهُ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى غَزَوْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ وَلَا نَأْكُلُ غَيْرَهُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَيِّتِهِ وَبَيْنَ مَقْتُولِهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا التُّسْتَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَتَّابٍ حَدَّثَنَا النُّعْمَانُ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْجَرَادَ وَتَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُهُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَهَذِهِ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْجَرَادِ لَمْ يُفَرَّقْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بَيْنَ مَيِّتِهِ وَبَيْنَ مَقْتُولِهِ فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ] يَقْتَضِي حَظْرَ جَمِيعِهَا فَلَا يُخَصُّ مِنْهَا إلَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يَقْتُلُهُ آخِذُهُ وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ فِي إيجَابِ تَحْرِيمِهِ قِيلَ لَهُ تَخُصُّهُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي إبَاحَتِهِ وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي تَخْصِيصِ الْآيَةِ وَلَمْ تُفَرِّقْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا فَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا بِالْآيَةِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهَا قَاضِيَةٌ عَلَى الْآيَةِ مُخَصِّصَةٌ لَهَا وَلَيْسَ الْجَرَادُ عِنْدَنَا مِثْلَ السَّمَكِ فِي حَظْرِنَا لِلطَّافِي مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي تَخْصِيصِ السَّمَكِ بِالْإِبَاحَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَةِ بِإِزَائِهَا أَخْبَارٌ أُخَرُ فِي حَظْرِ الطَّافِي مِنْهُ فَاسْتَعْمَلْنَاهَا جَمِيعًا وَقَضَيْنَا بِالْخَاصِّ مِنْهَا عَلَى الْعَامِّ مَعَ مُعَاضَدَةِ الْآيَةِ لِأَخْبَارِ الْحَظْرِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا وَافَقَنَا مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى إبَاحَةِ الْمَقْتُولِ مِنْهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ بِذَكَاةٍ فِي حَقِّهِ لِأَنَّ الذَّكَاةَ فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ وَهِيَ فِيمَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ أَحَدِهِمَا قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ فِي حَالِ إمْكَانِهِ وَالْآخَرِ إسَالَةِ دَمِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الذَّبْحِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ لَا يَكُونُ مُذَكًّى بِإِصَابَتِهِ إلَّا أَنْ يَجْرَحَهُ وَيَسْفَحَ دَمَهُ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْجَرَادِ دَمٌ سَائِلٌ كَانَ قَتْلُهُ وَمَوْتُهُ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءً كما كان قتل ماله دَمٌ سَائِلٌ مِنْ غَيْرِ سَفْحِ دَمِهِ وَمَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءً فِي كَوْنِهِ غَيْرِ مُذَكًّى فَكَذَلِكَ وَاجِبٌ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ قَتْلِ الْجَرَادِ وَمَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ إذْ لَيْسَ هُوَ مِمَّا يُسْفَحُ دَمُهُ فَإِنْ قِيلِ قَدْ فَرَّقْت بَيْنَ السمك(1/136)
الطَّافِي وَمَا قَتَلَهُ آخِذُهُ أَوْ مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فَمَا أَنْكَرْت مِنْ فَرَّقْنَا بَيْنَ مَا مَاتَ مِنْ الْجَرَادِ وَمَا قُتِلَ مِنْهُ قِيلَ لَهُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي السَّمَكِ لِمَا لَمْ يَحْتَجْ فِي صِحَّةِ ذَكَاتِهِ إلَى سَفْحِ الدَّمِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِلْآثَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَمِنْ أَصْلِنَا تَخْصِيصُ الْقِيَاسِ بِالْآثَارِ وَلَيْسَ مَعَك الْأَثَرُ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ الْجَرَادِ بِالْإِبَاحَةِ دُونَ بَعْضٍ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ أَخْبَارِ الْإِبَاحَةِ فِي الْكُلِّ وَالْوَجْهِ الْآخَرِ أَنَّ السَّمَكَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ فَكَانَ لَهُ ذَكَاةٌ مِنْ جِهَةِ الْقَتْلِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى سَفْحِ دَمِهِ فِي شَرْطِ الذكاة لأن دمه ظاهر وَهُوَ يُؤْكَلُ بِدَمِهِ فَلِذَلِكَ شُرِطَ فِيهِ مَوْتُهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ يَقُومُ لَهُ مَقَامَ الذَّكَاةِ فِي سائر ماله دَمٌ سَائِلٌ وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْجَرَادِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ الْجَرَادُ كُلُّهُ ذَكِيٌّ وَعَنْ عُمَرَ وَصُهَيْبٍ وَالْمِقْدَادِ إبَاحَةُ أَكْلِ الْجَرَادِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ ذَكَاةِ الْجَنِينِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي جَنِينِ النَّاقَةِ وَالْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِمَا إذَا خَرَجَ مَيِّتًا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُؤْكَلُ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا فَيُذْبَحُ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُؤْكَلُ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ
وَقَالَ مَالِكٌ إنْ تَمَّ خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ أُكِلَ وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إذَا تَمَّ خَلْقُهُ فَذَكَاةُ أُمِّهِ ذَكَاتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ] وقال في آخرها [إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ] وقال إنما [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ] فَحَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ مُطْلَقًا وَاسْتَثْنَى الْمُذَكَّى مِنْهَا وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّكَاةَ فِي الْمَقْدُورِ عَلَى ذَكَاتِهِ فِي النَّحْرِ وَاللَّبَّةِ وفي غير مقدور على ذكاته بسفح دمه
بقوله صلّى الله عليه وسلم أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت
وَقَوْلُهُ فِي الْمِعْرَاضِ إذَا خَزَقَ فَكُلْ وَإِذَا لَمْ يَخْزِقْ فَلَا تَأْكُلْ
فَلَمَّا كَانَتْ الذَّكَاةُ مُنْقَسِمَةً إلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَحَكَمَ اللَّهُ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ حُكْمًا عَامًّا وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الْمُذَكَّى بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً فِي الْجَنِينِ كَانَ مُحَرَّمًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ بِأَخْبَارٍ رُوِيَتْ مِنْ طُرُقٍ مِنْهَا
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي أُمَامَةَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَكَاةُ الْجَنِينَ ذَكَاةُ أُمِّهِ
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا وَاهِيَةُ السَّنَدِ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ كَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِ أَسَانِيدِهَا وَبَيَانِ ضَعْفِهَا وَاضْطِرَابِهَا إذْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ(1/137)
وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ ذَكَاةٌ لَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إيجَابَ تَذْكِيَتِهِ كَمَا تُذَكَّى أُمُّهُ وَأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ] مَعْنَاهُ كَعَرْضِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ قَوْلِي قَوْلُك وَمَذْهَبِي مَذْهَبُك وَالْمَعْنَى قَوْلِي كَقَوْلِك وَمَذْهَبِي كمذهبك قال الشَّاعِرُ: فَعَيْنَاكِ عَيْنَاهَا وَجِيدُكِ جِيدُهَا سِوَى أَنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْك دَقِيقُ وَمَعْنَاهُ فَعَيْنَاك كَعَيْنَيْهَا وَجِيدُك كَجِيدِهَا وَإِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ لِمَا وَصَفْنَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا مُرَادَيْنِ بِالْخَبَرِ لِتَنَافِيهِمَا إذْ كَانَ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ إيجَابُ تَذْكِيَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ غَيْرَ مُذَكًّى فِي نَفْسِهِ وَالْآخَرُ يُبِيحُ أَكْلَهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ إذْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ذَكَاتُهُ فِي نَفْسِهِ لَمْ يجز لنا أن تخصص الآية به ووجب أن يقول مَحْمُولًا عَلَى مُوَافَقَةِ الْآيَةِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْآيَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاهِيَ السَّنَدِ مُحْتَمِلٌ لِمُوَافَقَتِهَا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ إيجَابُ تَذْكِيَتِهِ كَمَا تُذَكَّى الْأُمُّ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ إذَا خَرَجَ حَيًّا وَجَبَ تَذْكِيَتُهُ وَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَذْكِيَةِ الْأُمِّ فَكَانَ ذَلِكَ مُرَادًا بِالْخَبَرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَعَ ذلك أن ذَكَاةَ أُمِّهِ ذَكَاةً لَهُ لِتَنَافِيهِمَا وَتَضَادِّهِمَا إذْ كَانَ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ إيجَابُ تَذْكِيَتِهِ وَفِي الْآخَرِ نَفْيُهُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا أَنْكَرْت أَنْ نُرِيدَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي حَالَيْنِ بِأَنْ يَجِبَ ذَكَاتُهُ إذَا خَرَجَ حَيًّا وَيُقْتَصَرُ عَلَى ذَكَاةِ أُمِّهِ إذَا خَرَجَ مَيِّتًا قِيلَ لَهُ لَيْسَ ذِكْرُ الْحَالَيْنِ مَوْجُودًا فِي الْخَبَرِ وَهُوَ لَفْظٌ وَاحِدٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ فِي إرَادَةِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ إثْبَاتَ زِيَادَةِ حَرْفٍ وَلَيْسَ فِي الْآخَرِ إثْبَاتُ زِيَادَةِ حَرْفٍ وَلَيْسَ فِي الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ وَاحِدٌ فِيهِ حَرْفٌ وَغَيْرُ حَرْفٍ فَلِذَلِكَ بَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِإِرَادَتِهِمَا فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ إرَادَةُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ تُوجِبُ زِيَادَةَ حَرْفٍ وَهُوَ الْكَافُ وَلَيْسَ فِي الْآخَرِ زِيَادَةٌ فَحَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى زِيَادَةٍ أَوْلَى لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَجَازًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَذْفُ شَيْءٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ قِيلَ لَهُ كَوْنُ الْحَرْفِ مَحْذُوفًا أَوْ غَيْرَ مَحْذُوفٍ لَا يُزِيلُ عَنْهُ الِاحْتِمَالَ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ مَفْهُومُ اللَّفْظِ مُحْتَمِلٌ لَهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِيمَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الْآيَةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ احْتِمَالُ كَوْنِهِ غَيْرَ مُذَكًّى بِذَكَاةِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَنِينًا إلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَمَتَى بَايَنَهَا لَا يُسَمَّى جنينا والنبي صلّى الله عليه وسلم إنَّمَا أَثْبَتَ لَهُ الذَّكَاةَ فِي حَالِ اتِّصَالِهِ بِالْأُمِّ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُذَكًّى(1/138)
بِتِلْكَ الْحَالِ فِي ذَكَاتِهَا قِيلَ لَهُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى بَعْدَ الِانْفِصَالِ جَنِينًا لِقُرْبِ عَهْدِهِ مِنْ الِاجْتِنَانِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْجَنِينَ لَوْ خَرَجَ حَيًّا ذُكِّيَ كَمَا تُذَكَّى الْأُمُّ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَنِينِ بَعْدَ الذَّكَاةِ وَالِانْفِصَالِ
وَقَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ كُنْت بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ فَسَمَّاهُ جَنِينًا بَعْدَ الْإِلْقَاءِ
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ أَنَّهُ يُذَكَّى كَمَا تُذَكَّى أُمُّهُ إذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ كَوْنَهُ مُذَكًّى وَهُوَ جَنِينٌ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُذَكًّى بِذَكَاةِ الْأُمِّ وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا وَأَنَّ مَوْتَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ لَا يُكْسِبُهُ حُكْمَ الْمَيْتَاتِ كَمَوْتِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ خُرُوجَهُ حَيًّا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَكَاةُ الْأُمِّ ذَكَاتَهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إثْبَاتَ ذَكَاةِ الْأُمِّ لَهُ فِي حَالِ اتِّصَالِهِ بِالْأُمِّ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا أَرَادَ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِحَالِ خُرُوجِهِ مَيِّتًا قِيلَ لَهُ هَذِهِ دَعْوَاك لَمْ يَذْكُرْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ جَازَ أَنْ تَشْتَرِطَ فِيهِ مَوْتَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ جَنِينًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازَ لَنَا أَنْ نَشْتَرِطَ إيجَابَ ذَكَاتِهِ خَرَجَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا فَمَتَى لَمْ يُوجَدْ لَهُ ذَكَاةٌ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ وَعَلَى أَنَّا مَتَى شَرَطْنَا إيجَابَ ذَكَاتِهِ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ بِأُمِّهِ اسْتَعْمَلْنَا الْخَبَرَ عَلَى عُمُومِهِ فَجَعَلْنَا إبَاحَةَ الْأَكْلِ مُعَلَّقَةً بِوُجُودِ الذَّكَاةِ فِيهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ جَنِينًا وَبَعْدَ خُرُوجِهِ وَحَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْت وَإِثْبَاتِ ضَمِيرٍ فِيهِ لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْخَبَرِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى مَا ذَكَرْت فِي إيجَابِ ذَكَاتِهِ إذَا خَرَجَ يُسْقِطُ فَائِدَتَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَبْلَ وُرُودِهِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ أَفَادَ أَنَّهُ إنْ خَرَجَ حَيًّا فَقَدْ وَجَبَتْ ذَكَاتُهُ سَوَاءٌ مَاتَ فِي حَالٍ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَكَاتِهِ أَوْ بَقِيَ وَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ إنْ مَاتَ فِي وَقْتٍ لَا يُقْدَرُ عَلَى ذَكَاتِهِ كَانَ مُذَكًّى بِذَكَاةِ الْأُمِّ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ حُكْمٌ بإيجاب ذكاته وأنه إن خرج ميتا لَمْ يُؤْكَلْ إذْ هُوَ غَيْرُ مُذَكًّى فَإِنْ خَرَجَ حَيًّا ذُكِّيَ فَأَفَادَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ إذَا خَرَجَ مَيِّتًا فإن احتج محتج
بما ذكره ذكريا بن يحيى الساحى عن بندار وإبراهيم بن محمد التيمي قالا حدثنا يحيى بن سعيد قالا حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْجَنِينِ يَخْرُجُ مَيِّتًا فَقَالَ إنْ شِئْتُمْ فَكُلُوهُ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ
قِيلَ لَهُ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَيِّتًا
وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ مُجَالِدٍ مِنْهُمْ هُشَيْمٌ وَأَبُو(1/139)
أُسَامَةَ وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَيِّتًا وَإِنَّمَا قَالُوا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَنِينِ يَكُونُ فِي بَطْنِ الْجَزُورِ أَوْ الْبَقَرَةِ أَوْ الشَّاةِ فَقَالَ كُلُوهُ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَذَلِكَ قَالَ كُلُّ من يروى ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ لَمْ يَذْكُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أنه خرج ميتا ولم تجيء هَذِهِ اللَّفْظَةُ إلَّا فِي رِوَايَةِ السَّاجِيِّ وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ عِنْدِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ فَإِنْ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى [أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ] أَنَّهَا الْأَجِنَّةُ قِيلَ لَهُ إنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا جَمِيعُ الْأَنْعَامِ وَأَنَّ قوله تعالى [إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ] الْخِنْزِيرُ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ الشاة والبعير والبقر وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْعَامِ وَلَا تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى الْجَنِينِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِلَا دَلَالَةٍ وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَجِنَّةَ فَهِيَ عَلَى إبَاحَتِهَا بِالذَّكَاةِ كَسَائِرِ الْأَنْعَامِ هِيَ مُبَاحَةٌ بِشَرْطِ ذَكَاتِهَا وَكَالْجَنِينِ إذَا خَرَجَ حَيًّا هُوَ مُبَاحٌ بِشَرْطِ الذَّكَاةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى [أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ] إذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا سَيُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي الْحَالِ فَهُوَ مُجْمَلٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ بَعْضُ الْأَنْعَامِ مُبَاحٌ وَبَعْضُهُ مَحْظُورٌ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ عُمُومِ شَيْءٍ مِنْهُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَمَّا كَانَ حُكْمُ الْجَنِينِ حُكْمَ أُمِّهِ فِيمَنْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَمَاتَتْ وَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِحُكْمِ نَفْسِهِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الذَّكَاةِ إذَا مَاتَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِمَوْتِهَا وَلَوْ خَرَجَ الْوَلَدُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ انْفَرَدَ بِحُكْمِ نَفْسِهِ دُونَ أُمِّهِ فِي إيجَابِ الْغُرَّةِ فِيهِ فَكَذَلِكَ جَنِينُ الْحَيَوَانِ إذَا مَاتَ بِمَوْتِ أُمِّهِ وَخَرَجَ مَيِّتًا أُكِلَ وَإِذَا خَرَجَ حَيًّا لَمْ يُؤْكَلْ حَتَّى يُذَكَّى قِيلَ لَهُ هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ قِيَاسُ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ بِعِلَّةٍ تُوجِبُ رَدَّ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى فَأَمَّا فِي قِيَاسِ مَسْأَلَةٍ عَلَى مَسْأَلَةٍ فِي حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقِيَاسٍ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي اسْتَشْهَدْت بِهَا إنَّمَا حُكْمُهَا ضَمَانُ الْجَنِينِ فِي حَالِ انْفِصَالِهِ مِنْهَا حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهَا وَمَسْأَلَتُنَا إنَّمَا هِيَ فِي إثْبَاتِ ذَكَاةِ الْأُمِّ لَهُ فِي حال ومنعه فِي حَالٍ أُخْرَى فَكَيْفَ يَصِحُّ رَدُّ هَذِهِ إلَى تِلْكَ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ شَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا لَمْ يَجِبْ لِلْجَنِينِ أَرْشٌ وَلَا قِيمَةٌ عَلَى الضَّارِبِ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِ نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ حَدَثَ بِهَا نُقْصَانٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِجَنِينِ الْبَهَائِمِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ حُكْمٌ فِي حَيَاةِ الْأُمِّ وَثَبَتَ ذلك لجنين(1/140)
الْمَرْأَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ قِيَاسُ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَقَدْ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فِي نَفْسِ مَا ذَكَرْت فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَ الْجَنِينُ فِي حَالِ اتِّصَالِهِ بِالْأُمِّ فِي حُكْمِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ مِنْهَا إذَا ذُكِّيَتْ الْأُمُّ فَيَحِلُّ بِذَكَاتِهَا قِيلَ لَهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ مِنْهَا لِجَوَازِ خُرُوجِهِ حَيًّا تَارَةً فِي حَيَاةِ الْأُمِّ وَتَارَةً بَعْدَ مَوْتِهَا وَالْعُضْوُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مِنْهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ تَابِعٍ لَهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا وَلَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَإِنْ قِيلَ الْوَاجِبُ أَنْ يَتْبَعَ الْجَنِينُ الْأُمَّ فِي الذَّكَاةِ كَمَا يَتْبَعَ الْوَلَدُ الْأُمَّ فِي الْعَتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي امْتِنَاعِ قِيَاسِ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ آخَرَ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إذَا أَعْتَقَتْ الْأَمَةُ أَنْ يَنْفَصِلَ الْوَلَدُ مِنْهَا غَيْرَ حُرٍّ وَهُوَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرْت وجائز أن يذكى الْأُمُّ وَيَخْرُجَ الْوَلَدُ حَيًّا فَلَا يَكُونُ ذَكَاةُ الْأُمِّ ذَكَاةً لَهُ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الذَّكَاةِ إذْ لَوْ تَبِعَهَا فِي ذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بَعْدَ ذَكَاةِ الْأُمِّ بِذَكَاةِ نَفْسِهِ وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إلَى مَا
رُوِيَ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ ابْنِ الْبَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي أَجِنَّةِ الْأَنْعَامِ أَنَّ ذَكَاتَهَا ذَكَاةُ أُمِّهَا إذَا أُشْعِرَتْ
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ إذَا أُشْعِرَ الْجَنِينُ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِمَا مِثْلُ ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ إذَا ذُكِرَ الْإِشْعَارُ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَأُبْهِمَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ مِنْهُ وَهُوَ خَبَرُ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي أُمَامَةَ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْإِشْعَارُ فَهَلَّا سَوَّيْت بَيْنَهُمَا إذْ لَمْ تَنْفِ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مَا أَوْجَبَهُ خَبَرُ الْإِشْعَارِ إذْ هُمَا جَمِيعًا يُوجِبَانِ حُكْمًا وَاحِدًا وَإِنَّمَا فِي أَحَدِهِمَا تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ نَفْيٍ لِغَيْرِهِ وَفِي الْآخَرِ إبْهَامُهُ وَعُمُومُهُ وَلَمَّا اتَّفَقْنَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْعِرْ لَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ ذَكَاةُ الْأُمِّ وَاعْتُبِرَتْ ذَكَاةُ نَفْسِهِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَعْضَائِهَا مِنْهُ بَعْدَ مُبَايَنَتِهِ لَهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذَا أُشْعِرَ وَيَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ عَلَى أَنَّهُ يُذَكَّى كَمَا تُذَكَّى أُمُّهُ وَيُقَالُ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إذَا كَانَ قَوْلُهُ ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ إذَا أُشْعِرَ يَنْفِي ذَكَاتَهُ بِأُمِّهِ إذَا لَمْ يُشْعِرْ فَهَلَّا خَصَّصْت بِهِ الْأَخْبَارَ الْمُبْهَمَةَ أكان عِنْدَكُمْ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الدَّلِيلِ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي ذَلِكَ
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ)
وَدَلَالَةُ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي عِنْدَهُ تَحْرِيمَ سَائِرِ الْمَيْتَاتِ سِوَاهُمَا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَحْمِلَ مَعْنَى قَوْلِهِ ذَكَاةُ الْجَنِينِ(1/141)
ذَكَاةُ أُمِّهِ عَلَى مُوَافَقَةِ دَلَالَةِ هَذَا الْخَبَرِ.
بَابُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ
قَوْله تَعَالَى [إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ] وقَوْله تَعَالَى [قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً] يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَجِلْدُهَا مِنْ أَجْزَائِهَا لِأَنَّهُ قَدْ حَلَّهُ الْمَوْتُ بَدَلًا مِنْ الْحَيَاةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ [عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ] قَدْ دَلَّ عَلَى الِاقْتِصَارِ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى مَا يتأتى فيه الأكل وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ
بِقَوْلِهِ إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا وَإِنَّمَا حُرِّمَ لَحْمُهَا
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وسفيان الثوري وعبد اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الدِّبَاغِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إلَّا جِلْدَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَأَصْحَابُنَا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ جِلْدِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ وَجَعَلُوهُ طَاهِرًا بِالدِّبَاغِ إلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ خَاصَّةً وَقَالَ مَالِكٌ يُنْتَفَعُ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ فِي الْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَيُغَرْبَلُ عَلَيْهَا وَلَا تُبَاعُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهَا وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ إذَا بَيَّنْت أَنَّهَا مَيِّتَةٌ وَالْحُجَّةُ لِمَنْ طَهَّرَهَا وَجَعْلَهَا مُذَكَّاةً مَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْآثَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلُّهَا يُوجِبُ طَهَارَتَهَا وَالْحُكْمَ بِذَكَاتِهَا فَمِنْهَا
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ)
وَحَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ الْجَوْنِ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى بَيْتٍ بِفِنَائِهِ قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَاسْتَسْقَى فَقِيلَ إنَّهَا مَيْتَةٌ فَقَالَ (ذَكَاةُ الْأَدِيمِ دِبَاغَتُهُ)
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طَهُورُهَا)
وَسِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ قَالَتْ كَانَتْ لَنَا شَاةٌ فَمَاتَتْ فَطَرَحْنَاهَا فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا فَعَلَتْ شَاتُكُمْ فَقُلْنَا رَمَيْنَاهَا فَتَلَا قَوْله تَعَالَى [قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ] الْآيَةَ أَفَلَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا فَبَعَثْنَا إلَيْهَا فَسَلَخْنَاهَا وَدَبَغْنَا جِلْدَهَا وَجَعَلْنَاهُ سِقَاءً وَشَرِبْنَا فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةِ مَيْمُونَةَ فَقَالَ (مَا عَلَى أَهْلِ هَذِهِ لَوْ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا)
وَالزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ لَهُمْ مَيِّتَةٍ فَقَالَ (أَلَا دَبَغُوا إهَابَهَا فَانْتَفَعُوا بِهِ) فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا مَيْتَةٌ فَقَالَ (إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا)
فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ كُلُّهَا يُوجِبُ طَهَارَةَ جِلْدِ الميتة(1/142)
بَعْدَ الدِّبَاغِ كَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهَا وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا مُتَوَاتِرَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَاضِيَةٌ عَلَى الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا وُرُودِهَا مِنْ الْجِهَاتِ المختلفة التي يمنع من مثلها التواطؤ والاتفاق على الوهم والغلط وَالثَّانِي جِهَةِ تَلَقِّي الْفُقَهَاءِ إيَّاهَا بِالْقَبُولِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ لَهَا فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ مَعَ آيَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَحْرِيمُهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ عَلَى طاعم يطعمه أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ فِيمَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ وَالْجِلْدُ بَعْدَ الدِّبَاغِ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الْأَكْلِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ التَّحْرِيمُ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ لَا مَحَالَةَ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا رَمَوْا بِالشَّاةِ الْمَيْتَةِ وَلَمَا قَالُوا أنها ميتة وَلَمْ يَكُنْ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقُولَ (إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا)
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ الْجِلْدَ بَعْدَ الدِّبَاغِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ وَلَمَّا وَافَقَنَا مَالِكٌ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ فَقَدْ اسْتَعْمَلَ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي طَهَارَتِهَا وَلَا فَرْقَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بَيْنَ افْتِرَاشِهَا وَالصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَبَيْنَ أَنْ تُبَاعَ أَوْ يُصَلَّى عَلَيْهَا بَلْ في سائر الأخبار أن دبغها ذَكَاتُهَا وَدِبَاغَهَا طَهُورُهَا وَإِذَا كَانَتْ مُذَكَّاةً لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَبَيْعُهَا وَحُكْمُ افْتِرَاشِهَا وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ جُلُودِ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ بَاقِيَةٌ عَلَى حُكْمِ التَّحْرِيمِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ كَالِانْتِفَاعِ بِلُحُومِهَا فَلَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى خُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ فِيمَا وَصَفْنَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُذَكَّاةٌ طَاهِرَةٌ بِمَنْزِلَةِ ذَكَاةِ الْأَصْلِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ التَّحْرِيمَ مُتَعَلِّقٌ بِكَوْنِهَا مَأْكُولَةً وَإِذَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْأَكْلِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَالْخَشَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مُوَافَقَةُ مَالِكٍ إيَّانَا عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْمَيْتَةِ وَصُوفِهَا لِامْتِنَاعِ أَكْلِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجِلْدِ بَعْدَ الدِّبَاغِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ فِي الشَّعْرِ وَالصُّوفِ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرْنَا عِلَّةَ الْإِبَاحَةِ وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْت فَيَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ عِلَّتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ وَالْأُخْرَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِأَنَّ مُوجَبَهُمَا حُكْمٌ وَاحِدٌ وَمَتَى عَلَّلْنَاهُ بِمَا وَصَفْنَاهُ وَجَبَ قِيَاسُ الْجِلْدِ عَلَيْهِ وَإِذَا عَلَّلْته بِمَا وَصَفْت كَانَ مَقْصُورَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَعْلُولِ
وَقَدْ رَوَى الْحَكَمُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن عُكَيْمٍ قَالَ قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ
فَاحْتَجَّ بِذَلِكَ مَنْ حَظَرَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ وَغَيْرُ جَائِزٍ مُعَارَضَةُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِبَاحَةِ(1/143)
بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدِهَا أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ وَقَدْ رَوَى عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ كتب إلينا عمر ابن الْخَطَّابِ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ مُعَارَضَةُ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدَّمْنَا بِمِثْلِهِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَسَاوَيَا فِي النَّقْلِ لَكَانَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ أَوْلَى لِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ لَهُ وَتَلَقِّيهمْ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ خَبَرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ مُعَارَضَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدَّمْنَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْجِلْدِ بَعْدَ الدِّبَاغِ لِأَنَّهُ قَالَ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ وَهُوَ إنَّمَا يُسَمَّى إهَابًا قَبْلَ الدِّبَاغِ وَالْمَدْبُوغُ لَا يُسَمَّى إهَابًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى أَدِيمًا فَلَيْسَ إذًا فِي هَذَا الْخَبَرِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ بَعْدَ الدِّبَاغِ وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي إبَاحَةِ بَيْعِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ فَقَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مُخَالِفٌ
لِقَوْلِهِ صلّى الله عليه وسلم (لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ)
لِأَنَّهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ يُسَمَّى إهَابًا وَالْبَيْعُ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا
بِقَوْلِهِ (لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ
قَوْلُهُ صلّى الله عليه وسلم (إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا)
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَكْلِ دُونَ الْبَيْعِ قِيلَ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ تُجِيزَ بَيْعَ لَحْمِهَا بِقَوْلِهِ إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا فَإِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ اللَّحْمِ مَعَ قَوْلِهِ إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا كَذَلِكَ حُكْمُ الْجِلْدِ قَبْلَ الدِّبَاغِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَنَعْت بَيْعَ اللَّحْمِ بِقَوْلِهِ إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا قِيلَ لَهُ وَامْنَعْ بَيْعَ الْجِلْدِ بِقَوْلِهِ [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ] لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَإِنَّمَا خَصَّ مِنْ جُمْلَتِهِ الْمَدْبُوغَ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ وَأَيْضًا
فَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا)
وَإِذَا كَانَ الْجِلْدُ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ قَبْلَ الدِّبَاغِ كَتَحْرِيمِ اللَّحْمِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ كَبَيْعِ اللَّحْمِ نَفْسِهِ وَكَبَيْعِ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ لِأَعْيَانِهَا كَالْخَمْرِ وَالدَّمِ وَنَحْوِهِمَا وَأَمَّا جِلْدُ الْكَلْبِ فَيَلْحَقُهُ الدِّبَاغُ وَيَطْهُرُ إذا كان ميتة
لقوله صلّى الله عليه وسلم (أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ)
وَقَالَ (دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ)
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ تَلْحَقُهُ الذَّكَاةُ عِنْدَنَا لَوْ ذُبِحَ لَكَانَ طَاهِرًا فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ نَجِسًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَيْفَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ قِيلَ لَهُ كَمَا يَكُونُ جِلْدُ الْمَيْتَةِ نَجِسًا وَيُطَهِّرُهُ الدِّبَاغُ لِأَنَّ الدِّبَاغَ ذَكَاتُهُ كَالذَّبْحِ وَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلَا تَلْحَقُهُ الذَّكَاةُ لِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْخَمْرِ والدم(1/144)
فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْكَلْبُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَيْسَ هُوَ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِدُهْنِ الْمَيْتَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ] وَقَالَ [قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً] وَهَذَانِ الظَّاهِرَانِ يَحْظُرَانِ دُهْنَ الْمَيْتَةِ كَمَا أَوْجَبَا حَظْرَ لَحْمِهَا وَسَائِرِ أَجْزَائِهَا
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَتَاهُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ الْأَوْدَاكَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَجْمَعُ هَذِهِ الْأَوْدَاكَ وَهِيَ مِنْ الْمَيْتَةِ وَعَكْرِهَا وَإِنَّمَا هِيَ لِلْأُدُمِ وَالسُّفُنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا)
فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَحْرِيمَ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ قَدْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ بَيْعِهَا كَمَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَ أَكْلِهَا وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ يَدْهُنُ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ ظُهُورَ السُّفُنِ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِتَحْرِيمِهِ وَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ حَظْرَهُ.
بَابُ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ] وقوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ] لَمْ يَقْتَضِ تَحْرِيمَ مَا مَاتَتْ فِيهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ وَإِنَّمَا اقْتَضَى تَحْرِيمَ عَيْنِ الْمَيْتَةِ وَمَا جَاوَرَ الْمَيْتَةَ فَلَا يُسَمَّى مَيْتَةً فَلَمْ يَنْتَظِمْهُ لَفْظُ التَّحْرِيمِ وَلَكِنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا
روى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ فَقَالَ صلّى الله عليه وسلم إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْقُوهَا وَمَا حولها ثم كلوه
وروى عبد الجبار ابن عُمَرَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي وَدَكٍ لَهُمْ فَقَالَ أَجَامِدٌ هُوَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اطْرَحُوهَا وَاطْرَحُوا مَا حَوْلَهَا وَكُلُوا وَدَكَكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ مَائِعٌ قَالَ فَانْتَفِعُوا بِهِ وَلَا تَأْكُلُوهُ
فَأَطْلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جواز الانتفاع به من غير جهة الأكل وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ(1/145)
بَيْعِهِ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِانْتِفَاعِ وَلَمْ يَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْهُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَالْحَسَنِ فِي آخَرِينَ مِنْ السَّلَف جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْأَكْلِ قَالَ أَبُو مُوسَى بِيعُوهُ وَلَا تَطْعَمُوهُ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنَعَ الِانْتِفَاعَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِصْبَاحِ وَدَبْغِ الْجُلُودِ وَنَحْوِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَيْضًا وَيُبَيَّنُ عَيْبُهُ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إطْلَاقُ الِانْتِفَاعِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ مِنْهُ لِوَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهُ الْأَكْلُ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مِنْ نَحْوِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ إذْ لَيْسَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَقٌّ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ وَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمِ الْعَيْنِ فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا قِيلَ لَهُ هَذَا لَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّا قَيَّدْنَا الْمَعْنَى بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِمَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي مَنْعِ بَيْعِهِ فَلَمْ يَمْنَعْ تَحْرِيمُ أَكْلِهِ جَوَازَ بَيْعِهِ مِنْ حَيْثُ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْأَكْلِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُمَا حَقُّ الْعَتَاقِ وَفِي جَوَازِ بَيْعِهِمَا إبْطَالٍ لِحَقِّهِمَا فَلِذَلِكَ مُنِعَ بَيْعُهُمَا مَعَ إطْلَاقِ سَائِر وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ فِيهِمَا وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ وَدَكِ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ كَلَحْمِهَا مَمْنُوعٍ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ وَلَيْسَ مَا مَاتَ فِيهِ الْفَأْرَةُ مِنْ الْمَائِعَاتِ بِمُحَرَّمِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ لِمُجَاوَرَتِهِ الْمَيْتَةَ وَسَائِرُ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ مُطْلَقَةٌ فِيهِ سِوَى الْأَكْلِ فَكَانَ بَيْعُهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَجُوزُ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَكَذَلِكَ الرَّقِيقُ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ كَسَائِرِ مَنَافِعِهِمْ وَقَدْ دَلَّ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِ بِإِلْقَاءِ الْفَأْرَةِ وَمَا حَوْلَهَا فِي الْجَامِدِ مِنْهُ
عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا كَانَ نَجِسًا فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُ بِالْمُجَاوَرَةِ لِحُكْمِهِ فِيمَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ مِنْهُ بِالنَّجَاسَةِ وَأَنَّ مَا يُنَجَّسُ بِالْمُجَاوَرَةِ لَا يُنَجِّسُ مَا جَاوَرَهُ إذْ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ السَّمْنِ الْمُجَاوِرِ لِلسَّمْنِ النَّجِسِ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ لَوَجَبَ الْحُكْمُ بِتَنْجِيسِ سَائِرِ سَمْنِ الْإِنَاءِ بِمُجَاوَرَةِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ لِغَيْرِهِ فَهَذَا أَصْلٌ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ النَّجَاسَةِ فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَسَاوِيَةَ الْمَنَازِلِ فَجَازَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي بَعْضِهَا أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَفِي بَعْضِهَا الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ عَلَى حَسَبِ قِيَامِ دَلَالَةِ التَّخْفِيفِ وَالتَّغْلِيظِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(1/146)
بَابُ الْقِدْرُ يَقَعُ فِيهَا الطَّيْرُ فَيَمُوتُ
ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ قَالَ سَمِعْت أَبَا حَازِمٍ الْقَاضِيَ يُحَدِّثُ عَنْ سُوَيْد بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ قَالَ كُنْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِهَيْئَةِ خُرَاسَانِيٍّ فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ نَصَبَ لَهُ قِدْرًا فِيهَا لَحْمٌ عَلَى النَّارِ فَمَرَّ طَيْرٌ فَوَقَعَ فِيهَا فَمَاتَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ فَذَكَرُوا لَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أن اللحم يؤكل بعد ما يُغْسَلُ وَيُهْرَاقُ الْمَرَقُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا نَقُولُ وَلَكِنْ هُوَ عِنْدَنَا عَلَى شَرِيطَةٍ فَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِيهَا فِي حَالِ سُكُونِهَا فَكَمَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ وَقَعَ فِيهَا فِي حَالِ غَلَيَانِهَا لَمْ يُؤْكَلْ اللَّحْمُ وَلَا الْمَرَقُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَلِمَ ذَلِكَ فَقَالَ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ فِيهَا فِي حَالِ غَلَيَانِهَا فَمَاتَ فَقَدْ دَاخَلَتْ الْمَيْتَةُ اللَّحْمَ وَإِذَا وَقَعَ فِي حَالِ سُكُونِهَا فَمَاتَ فَإِنَّ الْمَيْتَةَ وَسَّخَتْ اللَّحْمَ فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَقَدَ بِيَدِهِ ثَلَاثِينَ هَذَا زِرَّيْنِ بِالْفَارِسِيَّةِ يَعْنِي الْمَذْهَبَ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَ جَوَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقد ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِلَّةَ فَرْقِهِ بَيْنَ وُقُوعِهِ فِي حَالِ الْغَلَيَانِ وَحَالِ السُّكُونِ وَهُوَ فَرْقٌ ظَاهِرٌ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الدَّجَاجَةِ تَقَعُ فِي قِدْرِ اللَّحْمِ وَهِيَ تُطْبَخُ فَتَمُوتُ فِيهَا قَالَ لَا أَرَى أَنْ آكُلَ تِلْكَ الْقِدْرَ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ قَدْ اخْتَلَطَتْ بِمَا كَانَ فِي الْقِدْرِ وَقَالَ الأوزاعى يغسل اللحم ويؤكل وقال الليث ابن سَعْدٍ لَا يُؤْكَلُ ذَلِكَ اللَّحْمُ حَتَّى يُغْسَلَ مِرَارًا وَيُغْلَى عَلَى النَّارِ حَتَّى يَذْهَبَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي طَيْرٍ وَقَعَ فِي قِدْرٍ فَمَاتَ فَقَالَ يُهْرَاقُ الْمَرَقُ وَيُؤْكَلُ اللَّحْمُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حَالَ الْغَلَيَانِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْبَانَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ خَبَّابٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ قِدْرٌ عَلَى النَّارِ فَسَقَطَتْ فِيهَا دَجَاجَةٌ فَمَاتَتْ وَنَضِجَتْ مَعَ اللَّحْمِ فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسِ فَقَالَ اطْرَحْ الْمَيْتَةَ وَأَهْرِقْ الْمَرَقَ وَكُلْ اللَّحْمَ فَإِنْ كَرِهْته فَأَرْسِلْ إلَيَّ مِنْهُ عُضْوًا أَوْ عُضْوَيْنِ وَهَذَا أَيْضًا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حَالِ الْغَلَيَانِ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَقَعَتْ فِيهِ بَعْدَ سُكُونِ الْغَلَيَانِ والمرق حار فنضجت والله سبحانه أعلم.
باب النفحة الْمَيْتَةِ وَلَبَنِهَا
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتُهَا طَاهِرَانِ لَا يَلْحَقُهُمَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ يُكْرَهُ اللَّبَنُ لِأَنَّهُ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ وَكَذَلِكَ الْإِنْفَحَةُ إذَا كَانَتْ مَائِعَةً فَإِنْ كَانَتْ جَامِدَةً فَلَا بَأْسَ وَقَالُوا جَمِيعًا فِي الْبَيْضَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ دَجَاجَةٍ مَيِّتَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهَا وَقَالَ مَالِكٌ(1/147)
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَحِلُّ اللَّبَنُ فِي ضُرُوعِ الْمَيْتَةِ وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ لَا تُؤْكَلُ الْبَيْضَةُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ دَجَاجَةٍ مَيِّتَةٍ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ أَكْرَهُ أَنْ أُرَخِّصَ فِيهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ اللَّبَنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمُ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا وَهِيَ حَيَّةٌ فَيُؤْكَلُ فَلَوْ كَانَ مِمَّا يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْمَوْتِ لَمْ يَحِلَّ إلَّا بِذَكَاةِ الْأَصْلِ كَسَائِرِ أَعْضَاءِ الشَّاةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ [نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ] عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَلْبَانِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّبَنَ لَا يَمُوتُ وَلَا يُحَرِّمُهُ مَوْتُ الشَّاةِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِمَوْتِ الشَّاةِ وَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ لَبَنٍ جُعِلَ فِي وِعَاءٍ مَيِّتٍ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَوْ حُلِبَ مِنْ شَاةٍ حَيَّةٍ ثُمَّ جُعِلَ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ فِي ضَرْعِ الْمَيْتَةِ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلْقَةِ لَا يُنَجِّسُ مَا جَاوَرَهُ بِمَا حَدَثَ فِيهِ خِلْقَةً وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ اللَّحْمِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْعُرُوقِ مَعَ مُجَاوَرَةِ الدَّمِ لِدَوَاخِلِهَا مِنْ غَيْرِ تَطْهِيرٍ وَلَا غَسْلٍ لِذَلِكَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلْقَةِ لَا يُنَجِّسُ بِالْمُجَاوَرَةِ لِمَا خُلِقَ فِيهِ وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ [مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ] وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَحَدُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ فِي اقْتِضَائِهِ لَبَنَ الْحَيَّةِ وَلَبَنَ الْمَيْتَةِ وَالثَّانِي إخْبَارُهُ بِخُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ هُمَا بحسان مَعَ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِ وَلَمْ تَكُنْ مُجَاوَرَتُهُ لَهُمَا مُوجِبَةً لَتَنْجِيسِهِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْخِلْقَةِ كَذَلِكَ كَوْنُهُ فِي ضَرْعِ مَيْتَةٍ لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا
مَا رَوَاهُ شَرِيكٌ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ بِجُبْنَةٍ فَجَعَلُوا يَقْرَعُونَهَا بِالْعَصَا فَقَالَ أَيْنَ يُصْنَعُ هَذَا فَقَالُوا بِأَرْضِ فَارِسَ فَقَالَ اُذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكُلُوا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذبائح المجوس ميتة وقد أباح صلّى الله عليه وسلم أَكْلَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا مِنْ صَنْعَةِ أَهْلِ فَارِسَ وَأَنَّهُمْ كَانُوا إذْ ذَاكَ مَجُوسًا وَلَا يَنْعَقِدُ الْجُبْنُ إلَّا بِإِنْفَحَةٍ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ
وَقَدْ رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجُبْنِ فَقَالَ ضَعِي السِّكِّينَ وَاذْكُرِي اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وكلى
فأباح النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَكْلَ الْجَمِيعِ مِنْهُ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا صُنِعَ مِنْهُ بِإِنْفَحَةِ مَيْتَةٍ أو غيرها
وقد روى عن على وعمرو سلمان وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إبَاحَةُ أَكْلِ الْجُبْنِ الَّذِي فِيهِ إنْفَحَةُ الْمَيْتَةِ
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْفَحَةَ طَاهِرَةٌ وَإِنْ كَانَتْ(1/148)
مِنْ مَيْتَةٍ وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا طَهَارَةُ الْإِنْفَحَةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ مَيْتَةٍ ثَبَتَ طَهَارَةُ لَبَنِ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتِهَا وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الْبَيْضَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ الدَّجَاجَةِ الْمَيِّتَةِ لِأَنَّهَا تبين مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا وَهِيَ طَاهِرَةٌ يَجُوزُ أَكْلُهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهَا لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ لَمَا أَبَاحَهَا إلَّا ذَكَاةُ الْأَصْلِ كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا لَمَّا كَانَ شَرْطُ إبَاحَتِهَا الذَّكَاةُ لَمْ تَحِلَّ إلَّا بِذَكَاةِ الْأَصْلِ.
بَابُ شَعْرِ الْمَيْتَةِ وَصُوفِهَا وَالْفِرَاءِ وَجُلُودِ السِّبَاعِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِعِظَامِ الْمَيْتَةِ وَلَا بَأْسَ بِشَعْرِ الْمَيْتَةِ وَصُوفِهَا وَلَا يَكُونُ مَيْتَةً لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَقَالَ اللَّيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِعَصَبِ الْمَيْتَةِ وَلَا بِعَقِبِهَا وَلَا أَرَى بَأْسًا بِالْقَرْنِ وَالظِّلْفِ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ وَلَا بَأْسَ بِعِظَامِ الْمَيْتَةِ وَلَا الشَّعْرِ وَلَا الصُّوفِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرحمن الدمشقي قال حدثنا يوسف ابن الشُّقْرِ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْت أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ وَلَا بَأْسَ بِصُوفِهَا وَشَعْرِهَا وَقَرْنِهَا إذا اغتسل بِالْمَاءِ)
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ ابن عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الصَّلَاةِ في الفراء والمساتق قال وفي الدِّبَاغُ عَنْكُمْ
وَرَوَى يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ هَارُونَ الْبُرْجُمِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْفِرَاءِ وَالْجُبْنِ وَالسَّمْنِ فَقَالَ إنَّ الْحَلَالَ الَّذِي أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَالْحَرَامَ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذِهِ الْأَخْبَارُ فِيهَا إبَاحَةُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْفِرَاءِ وَالْجُبْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ النَّصِّ عَلَى إبَاحَةِ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ مِنْ الْمَيْتَةِ وَحَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي إبَاحَةِ الْفِرَاءِ والمساتق وَالْآخَرُ ما ذكر في حديث سلمان وفيه دلالة عَلَى الْإِبَاحَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا لَأَجَابَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحْرِيمِ وَالثَّانِي أَنَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ بِتَحْرِيمِ وَلَا تَحْلِيلٍ فَهُوَ مُبَاحٌ
بِقَوْلِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَحْرِيمُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَنَحْوِهِمَا بَلْ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ [وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ] وَالدِّفْءُ مَا يُتَدَفَّأُ بِهِ مِنْ شَعْرِهَا وَوَبَرِهَا(1/149)
وَصُوفِهَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْجَمِيعِ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالْحَيِّ وَقَالَ تَعَالَى [وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ] فَعَمَّ الْجَمِيعَ بِالْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُذَكَّى مِنْهُ وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ وَمَنْ حَظَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْمَيْتَةِ احْتَجَّ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ] وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَإِذَا كَانَ الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالْعِظَامُ وَنَحْوُهَا مِنْ أَجْزَائِهَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ تَحْرِيمَ جَمِيعِهَا فَيُقَالُ لَهُ إنَّمَا الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى [قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ] فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَتَأَتَّى فيه الأكل
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا)
وَفِي خَبَرٍ آخَرَ (إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا)
فَأَبَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالْعَظْمُ وَنَحْوُهَا مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَأْكُولِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا التحريم ومن حيث خصصنا جلد الميتة والمدبوغ بِالْإِبَاحَةِ لِلْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَجَبَ تَخْصِيصُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَمَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَرَّمِ بِالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهَا مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَمَّا كَانَ خُرُوجُهُ عَنْ حَدِّ الْأَكْلِ بِالدَّبَّاغِ مُبِيحًا لَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ سَائِرِ مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ مِنْهَا مِنْ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَنَحْوِهِمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا حَلْقُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ عَنْهَا بَلْ فِيهَا الْإِبَاحَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنْ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَلَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا فِي الصُّوفِ وَالشَّعْرِ لَبَيَّنَهُ النبي صلّى الله عليه وسلم لعلمه أن الجلود لا تخلوا مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حَيَاةٌ وَمَا لَا حَيَاةَ فِيهِ لَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْمَوْتِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَنَحْوَهُ لَا حياة فيه أن الحيوان لا يتألم بِقَطْعِهَا وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ لَتَأَلَّمَ بِقَطْعِهَا كما يألمه قَطْعُ سَائِرِ أَعْضَائِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ وَالْعَظْمَ وَالْقَرْنَ وَالظِّلْفَ وَالرِّيشَ لَا حَيَاةَ فِيهَا فَلَا يَلْحَقُهَا حُكْمُ الْمَوْتِ وَوُجُودُ النَّمَاءِ فِيهَا لَا يُوجِبُ لَهَا حَيَاةً لِأَنَّ الشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ يَنْمِيَانِ وَلَا حَيَاةَ فِيهِمَا وَلَا يَلْحَقُهُمَا حُكْمُ الْمَوْتِ فَكَذَلِكَ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا بَانَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيِّتٌ)
وَيَبِينُ مِنْهَا الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَلَا يَلْحَقُهُمَا حُكْمُ الْمَوْتِ فَلَوْ كَانَ مِمَّا يَلْحَقُهُمَا حُكْم الموت لوجب أن لا يحل إلا بِذَكَاةِ الْأَصْلِ كَسَائِرِ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْمَوْتِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ(1/150)
وَإِبْرَاهِيمَ إبَاحَةُ شَعْرِ الْمَيْتَةِ وَصُوفِهَا وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ كَرَاهِيَةُ الْمَيْتَةِ وَعِظَامِ الْفِيلِ وَعَنْ طَاوُسٍ كَرَاهَةُ عِظَامِ الْفِيلِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى عَلَى رَجُلٍ فَرْوًا فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُهُ ذَكِيًّا لَسَرَّنِي أَنْ يَكُونَ لِي مِنْهُ ثَوْبٌ وَذَكَرَ أَنَسٌ أَنَّ عُمَرَ رَأَى عَلَى رَجُلٍ قَلَنْسُوَةَ ثَعْلَبٍ فَنَزَعَهَا وَقَالَ مَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ مِمَّا لَمْ يُذَكَّ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي جُلُودِ السِّبَاعِ فَكَرِهَهَا قَوْمٌ وَأَبَاحَهَا أَصْحَابُنَا وَمَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَمُطَرِّفٌ عَنْ عَمَّارٍ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ السِّبَاعِ
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ سِيرِينَ لَا بَأْسِ بِلُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ
وَعَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي الْفِرَاءِ دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ
رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ
وَقَتَادَةُ عَنْ أَبِي شَيْخٍ الْهُنَائِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ سُرُوجِ النُّمُورِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا قَالُوا نَعَمْ
وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مَعْنَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فَقَالَ قَائِلُونَ هَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ لُبْسِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهِيَةِ وَالتَّشَبُّهِ بِزِيِّ الْعَجَمِ كَمَا
رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ هُبَيْرَةَ بن مريم عن على قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن خَاتَمِ الذَّهَبِ وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ وَعَنْ الثِّيَابِ الْحُمْرِ
وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي إبَاحَةِ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهِيَةِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْعَجَمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حَدِيثِ سَلْمَانَ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إبَاحَةِ لُبْسِ الْفِرَاءِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا
وَقَوْلُهُ صلّى الله عليه وسلم أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ
وَقَوْلُهُ دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ عَامٌّ فِي جُلُودِ السِّبَاعِ
وَغَيْرِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ النَّجَاسَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْعَجَمِ.
بَابُ تَحْرِيمِ الدَّمِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ] وقال [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ] فَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي تَحْرِيمِهِ غَيْرُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَاقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ سَائِرِ الدِّمَاءِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى [قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً] دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ الدَّمِ هُوَ الْمَسْفُوحُ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قوله [أَوْ دَماً مَسْفُوحاً] خَاصٌّ فِيمَا كَانَ مِنْهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَقَوْلُهُ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ عَامٌّ فِي سَائِرِ الدِّمَاءِ فَوَجَبَ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَخُصُّهُ قِيلَ(1/151)
له قوله [أَوْ دَماً مَسْفُوحاً] جَاءَ فِيهِ نَفْيٌ لِتَحْرِيمِ سَائِرِ الدِّمَاءِ إلَّا مَا كَانَ مِنْهُ بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ قَالَ [قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ- إلى قوله- أَوْ دَماً مَسْفُوحاً] وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ [إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ] متأخرا عن قوله [أَوْ دَماً مَسْفُوحاً] أَوْ أَنْ يَكُونَا نَزَلَا مَعًا فَلَمَّا عَدِمْنَا تَارِيخَ نُزُولِ الْآيَتَيْنِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِنُزُولِهِمَا مَعًا فَلَا يَثْبُتُ حِينَئِذٍ تَحْرِيمُ الدَّمِ إلَّا مَعْقُودًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَسْفُوحًا وَحَدَّثَنَا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ [أَوْ دَماً مَسْفُوحاً] لا تبع الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْعُرُوقِ مَا اتَّبَعَ الْيَهُودُ وَحَدَثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ [أَوْ دَماً مَسْفُوحاً] قَالَ حُرِّمَ مِنْ الدَّمِ مَا كَانَ مَسْفُوحًا وَأَمَّا اللَّحْمُ يُخَالِطُهُ الدَّمُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الدَّمِ يَكُونُ فِي اللَّحْمِ وَالْمَذْبَحِ قَالَتْ إنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ أَكْلِ اللَّحْمِ مَعَ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَسْفُوحٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ ظَهَرَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ بِمُحَرَّمٍ إذْ لَيْسَ هُوَ مَسْفُوحًا وَلِمَا وَصَفْنَا قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ دَمَ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَالذُّبَابِ لَيْسَ بِنَجَسٍ وَقَالُوا أَيْضًا إنَّ دَمَ السَّمَكِ لَيْسَ بِنَجَسِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ بِدَمِهِ وَقَالَ مَالِكٌ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ إذَا تَفَاحَشَ غَسَلَهُ وَيَغْسِلُ دَمَ الذُّبَابِ وَدَمَ السَّمَكِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَفْسُدُ الْوُضُوءُ إلَّا أَنْ تَقَعَ منه نَجَاسَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَعَمَّ الدِّمَاءَ كُلَّهَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَوْلُهُ [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ] وقوله [أَوْ دَماً مَسْفُوحاً] يُوجِبُ تَحْرِيمَ دَمِ السَّمَكِ لِأَنَّهُ مَسْفُوحٌ قِيلَ له هذا مخصوص
بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ)
فَلَمَّا أَبَاحَ السَّمَكَ بِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ إرَاقَةِ دَمِهِ وَقَدْ تَلَقَّى الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْخَبَرَ بِالْقَبُولِ فِي إبَاحَةِ السَّمَكِ مِنْ غَيْر إرَاقَةِ دَمِهِ وَجَبَ تَخْصِيصُ الْآيَةِ فِي إبَاحَةِ دَمِ السَّمَكِ إذْ لَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَمَا حَلَّ دُونَ إرَاقَةِ دَمِهِ كَالشَّاةِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ ذَوَاتِ الدِّمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ تَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ] وَقَالَ تَعَالَى [حُرِّمَتْ(1/152)
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ]
وَقَالَ تَعَالَى [قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ] فَنَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْأُمَّةُ عَقَلَتْ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَمَعْنَاهُ مِثْلَ مَا عَقَلَتْ مِنْ تَنْزِيلِهِ وَاللَّحْمُ وَإِنْ كَانَ مَخْصُوصًا بِالذِّكْرِ فَإِنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّحْمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَنْفَعَتِهِ وَمَا يُبْتَغَى مِنْهُ كَمَا نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْمُرَادُ حَظْرُ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ فِي الصَّيْدِ وَخَصَّ الْقَتْلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الصَّيْدُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى [إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ] فَخَصَّ الْبَيْعَ بِالنَّهْيِ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ مَا يَبْتَغُونَ مِنْ مَنَافِعِهِمْ وَالْمَعْنِيُّ جَمِيعُ الْأُمُورِ الشَّاغِلَةِ عَنْ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى الْبَيْعِ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ عَنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ خَصَّ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِالنَّهْيِ تَأْكِيدًا لِحُكْمِ تَحْرِيمِهِ وَحَظْرًا لِسَائِرِ أَجْزَائِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ وَإِنْ كَانَ النَّصُّ خَاصًّا فِي لَحْمِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ الانتفاع به لِلْخَرَزِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَكْرَهُ الْخَرَزَ بِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ الْإِبَاحَةُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا بَأْسَ أَنْ يُخَاطَ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ وَيَجُوزُ لِلْخَرَّازِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَلَا يَبِيعَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا كَانَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْخِنْزِيرِ لَحْمَهُ وَكَانَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِحُكْمِ تَحْرِيمِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَتَنَاوَلُ الشَّعْرَ وَغَيْرَهُ وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ التَّحْرِيمَ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا كَانَ فِيهِ الْحَيَاةُ مِنْهُ مِمَّا لَمْ يَأْلَمْ بِأَخْذِهِ مِنْهُ فَأَمَّا الشَّعْرُ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيِّ فَلَمْ يَلْحَقْهُ حُكْمُ التَّحْرِيمِ كَمَا بَيَّنَّا فِي شَعْرِ الْمَيْتَةِ وَأَنَّ حُكْمَ الْمُذَكَّى وَالْمَيْتَةِ فِي الشَّعْرِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ مَنْ أَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَذَكَرَ أَنَّهُ إنَّمَا أَجَازَهُ اسْتِحْسَانًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ تَنَاوَلَ الْجَمِيعَ عِنْدَهُمْ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الشَّعْرِ وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنُوا إجَازَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِلْخَرَزِ دُونَ جَوَازِ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ لَمَّا شَاهَدُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْعِلْمِ يُقِرُّونَ الْأَسَاكِفَةَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ظَهَرَ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ فَصَارَ هَذَا عِنْدَهُمْ إجْمَاعًا مِنْ السَّلَفِ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَظُهُورُ الْعَمَلِ مِنْ الْعَامَّةِ فِي شَيْءٍ مَعَ إقْرَارِ السَّلَفِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ وَتَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ يُوجِبُ إبَاحَتَهُ عِنْدَهُمْ وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالُوا فِي إبَاحَةِ دُخُولِ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا مِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لِمَا يَسْتَعْمِلُهُ مِنْ الْمَاءِ وَلَا مِقْدَارِ مُدَّةِ لُبْثِهِ فِيهِ لِأَنَّ هذا كان ظاهرا مستفضيا فِي عَهْدِ السَّلَفِ(1/153)
مِنْ غَيْرِ مُنْكِرٍ بِهِ عَلَى فَاعِلِيهِ فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الِاسْتِصْنَاعِ إنَّهُمْ أَجَازُوهُ لِعَمَلِ النَّاسِ وَمُرَادُهُمْ فِيهِ إقْرَارُ السَّلَفِ الْكَافَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَتَرْكُهُمْ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِعْمَالِهِ فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي جَوَازِهِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يُؤْكَلُ وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِخِنْزِيرِ الْمَاءِ وَمِنْهُمْ من يسميه حمار الماء وقال الليث ابن سَعْدٍ لَا يُؤْكَلُ إنْسَانُ الْمَاءِ وَلَا خِنْزِيرُ الْمَاءِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ قَوْلِهِ [وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ] مُوجِبٌ لِحَظْرِ جَمِيعِ مَا يَكُونُ مِنْهُ فِي الْبَرِّ وَفِي الْمَاءِ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ هَذَا إلَى خِنْزِيرِ الْبَرِّ لِأَنَّهُ الَّذِي يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَخِنْزِيرُ الْمَاءِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ مُقَيَّدًا وَاسْمُهُ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ حِمَارُ الْمَاءِ قِيلَ لَهُ لَا يَخْلُو خِنْزِيرُ الْمَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلْقَةِ خِنْزِيرِ الْبَرِّ وَصِفَتِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ عَلَى هَذِهِ الْخِلْقَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ كَوْنَهُ فِي الْمَاءِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَعَلَى خِلْقَتِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى خُصُوصِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلْقَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا وَمِنْ أَجْلِهَا يُسَمَّى حِمَارَ الْمَاءِ فَكَأَنَّهُمْ إنَّمَا أَجْرَوْا اسْمَ الْخِنْزِيرِ عَلَى مَا لَيْسَ بِخِنْزِيرٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُخَطِّئْهُمْ فِي التَّسْمِيَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ خِنْزِيرٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَتَسْمِيَتُهُمْ إيَّاهُ حِمَارَ الْمَاءِ لَا يَسْلُبُهُ اسْمَ الْخِنْزِيرِ
إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا سَمَّوْهُ بِذَلِكَ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خِنْزِيرِ البر وكذلك كلب الماء وكلب الْبَرِّ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إذْ كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي بَعْضِ أَوْصَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ تَحْرِيم مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ] وَلَا خِلَافَ بَيْن الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذَّبِيحَةُ إذَا أُهِلَّ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ ذَبَائِحُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ لِأَوْثَانِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ] وَأَجَازُوا ذَبِيحَةَ النَّصْرَانِيِّ إذَا سَمَّى عَلَيْهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَمَكْحُولٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَالُوا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُهِلُّونَ بِاسْمِ الْمَسِيحِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الأوزاعى والليث ابن سَعْدٍ أَيْضًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا تُؤْكَلُ(1/154)
ذَبَائِحُهُمْ إذَا سَمَّوْا عَلَيْهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى [وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ] يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا إذَا سُمِّيَ عَلَيْهَا بِاسْمٍ غَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ الْإِهْلَالَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ هُوَ إظهار غير اسم الله ولم يفرق في الْآيَةُ بَيْنَ تَسْمِيَةِ الْمَسِيحِ وَبَيْنَ تَسْمِيَةِ غَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْإِهْلَالُ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى [وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ] وَعَادَةُ الْعَرَبِ فِي الذَّبَائِحِ لِلْأَوْثَانِ غَيْرُ مَانِعٍ اعْتِبَارَ عُمُومِ الْآيَةِ فِيمَا اقْتَضَاهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا سُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى
وَقَدْ روى عطاء بن السائب عن زادان وَمَيْسَرَةَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ إذَا سَمِعْتُمْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُهِلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ ذَبَائِحَهُمْ وَهُوَ يُعْلَمُ مَا يَقُولُونَ
وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ لِإِبَاحَةِ اللَّهِ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا يَقُولُونَ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا لِأَنَّ إبَاحَةَ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعْقُودَةٌ بِشَرِيطَةِ أَنْ لَا يُهِلُّوا لِغَيْرِ اللَّهِ إذْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالَ الْآيَتَيْنِ بِمَجْمُوعِهِمَا فَكَأَنَّهُ قَالَ [وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ] مَا لَمْ يُهِلُّوا بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ النَّصْرَانِيَّ إذَا سَمَّى اللَّهَ فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِذَا كَانَ إرَادَتُهُ كَذَلِكَ وَلَمْ تَمْنَعْ صِحَّةَ ذَبِيحَتِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُهِلٌّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ إذَا أَظْهَرَ مَا يُضْمِرُهُ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إرَادَتِهِ الْمَسِيحَ قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا كَلَّفَنَا حُكْمَ الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْإِهْلَال هُوَ إظْهَارُ الْقَوْلِ فَإِذَا أَظْهَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ لِقَوْلِهِ [وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ] وَإِذَا أَظْهَرَ اسْمَ اللَّهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا حَمْلُهُ عَلَى اسْمِ الْمَسِيحِ عِنْدَهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَسْمَاءِ أَنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلَى حَقَائِقِهَا وَلَا تُحْمَلُ عَلَى مَا لَا يَقَعُ الِاسْمُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَلَا يَسْتَحِقُّهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ عَلَيْنَا فِي اعْتِبَارِ إظْهَارِ الِاسْمِ دُونَ الضَّمِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْقَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ جَوَازِ اعْتِقَادِهِ لِلتَّشْبِيهِ الْمُضَادِّ لِلتَّوْحِيدِ وَكَذَلِكَ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)
وَقَدْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي الْقَوْمِ مُنَافِقِينَ يَعْتَقِدُونَ غَيْرَ مَا يُظْهِرُونَ وَلَمْ يُجْرِهِمْ مَعَ ذَلِكَ مَجْرَى سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ بَلْ حَكَمَ لَهُمْ فِيمَا يُعَامَلُونَ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِحُكْمِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ أُمُورِهِمْ دُونَ مَا بَطَنَ مِنْ ضَمَائِرِهِمْ وَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ ذَكَاةِ النَّصْرَانِيِّ مُتَعَلِّقَةً بِإِظْهَارِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مَتَى أَظْهَرَ اسْمَ الْمَسِيحِ لَمْ تَصِحَّ ذَكَاتُهُ كَسَائِرِ الْمُشْرِكِينَ إذَا أَظْهَرُوا عَلَى ذَبَائِحِهِمْ(1/155)
أَسْمَاءَ أَوْثَانِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ ذِكْرِ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى [وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] وَقَالَ [فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الضَّرُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَطْلَقَ الْإِبَاحَةَ فِي بَعْضِهَا بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَا صِفَةٍ وَهُوَ قَوْلُهُ [وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضَّرُورَةِ فِي كُلِّ حَالٍ وُجِدَتْ الضَّرُورَةَ فِيهَا وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمَسْرُوقٌ [غَيْرَ باغٍ] في الميتة [وَلا عادٍ] فِي الْأَكْلِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَأَبَاحُوا لِلْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا أَبَاحُوهُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ بَاغِيًا عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ كَانَ بَاغِيًا عَلَى الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وقوله [إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ لِلْجَمِيعِ مِنْ الْمُطِيعِينَ وَالْعُصَاةِ وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى [غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ] وقوله [غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ] لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْبَغْيَ وَالْعُدْوَانَ فِي الْأَكْلِ وَاحْتَمَلَ الْبَغْيُ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا تَخْصِيصُ عُمُومِ الْآيَةِ الْأُخْرَى بِالِاحْتِمَالِ بَلْ الْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُوَاطِئُ مَعْنَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَأَيْضًا فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ بَلْ كَانَ سَفَرُهُ لِحَجٍّ أَوْ غَزْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ بَاغِيًا عَلَى رَجُلٍ فِي أَخْذِ مَالِهِ أو عاديا في ترك صلاة أو ذكاة لَمْ يَكُنْ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ مَانِعًا مِنْ اسْتِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ [غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ] لم يرد به انفاء البغي والعدان فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْهُ مَخْصُوصٍ فَيُوجِبُ ذَلِكَ كَوْنَ اللَّفْظِ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْآيَةِ الْأُولَى بِهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ وَمَتَى حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى الْبَغْيِ وَالتَّعَدِّي فِي الْأَكْلِ اسْتَعْمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى عُمُومِهِ وَحَقِيقَتِهِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ وَوَرَدَ فِيهِ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا عَلَى عُمُومِهِ وَالْآخَرُ أَنَّا لَا نُوجِبُ بِهِ تَخْصِيصَ قَوْلِهِ [إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ(1/156)
إِلَيْهِ]
وكذلك [غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ] لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مُجَانَبَةَ سَائِرِ الْآثَامِ حَتَّى يَكُونَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ أَصْلًا فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ حَتَّى إنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى تَرْكِ رَدِّ مَظْلِمَةِ دِرْهَمٍ أَوْ تَرْكِ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ أَوْ أَنْ يَكُونَ جَائِزٌ لَهُ الْأَكْلُ مَعَ كَوْنِهِ مُقِيمًا عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الْمَعَاصِي بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا خَارِجًا عَلَى إمَامِ وَقَدَ ثَبَتَ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّ إقَامَتَهُ عَلَى بَعْضِ الْمَعَاصِي لَا تَمْنَعُ اسْتِبَاحَتَهُ لِلْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُرَادٍ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ الْمَأْثَمِ الَّذِي يَمْنَعُ الِاسْتِبَاحَةَ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ وَهَذَا يُوجِبُ إجْمَالَ اللَّفْظِ وَافْتِقَارَهُ إلَى الْبَيَانِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى وُقُوفِ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهَا وَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُ حُكْمِ الْآيَةِ وَجَبَ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُهَا وَجِهَةُ إمْكَانِ اسْتِعْمَالِهَا مَا وَصَفْنَا مِنْ إثْبَاتِ الْمُرَادِ بَغْيًا وَتَعَدِّيًا فِي الْأَكْلِ بِأَنْ لَا يَتَنَاوَلَ مِنْهَا إلَّا بِمِقْدَارِ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ وَيُزِيلُ خَوْفَ التَّلَفِ وَأَيْضًا قَالَ الله تعالى [وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ] وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْمُبَاحِ حَتَّى مَاتَ كَانَ قَاتِلًا نَفْسَهُ مُتْلِفًا لَهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ حُكْمُ العاصي والمطيع بل يكون امتناعه عند ذَلِكَ مِنْ الْأَكْلِ زِيَادَةً عَلَى عِصْيَانِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الْمُطِيعِ سَوَاءً فِي اسْتِبَاحَةِ الْأَكْلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْمُبَاحِ مِنْ الطَّعَامِ مَعَهُ حَتَّى مَاتَ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ بَاغِيًا عَلَى الْإِمَامِ خَارِجًا فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ وَالْمَيْتَةُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُذَكَّى فِي حَالَ الْإِمْكَانِ وَالسَّعَةِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى اسْتِبَاحَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ بِالتَّوْبَةِ فَإِذَا لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ قِيلَ لَهُ أَجَلْ هُوَ كَمَا قُلْتَ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُبَاحٍ لَهُ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ لِأَنَّ تَرْكَ
التَّوْبَةِ لَا يُبِيحُ لَهُ قَتْلَ نَفْسِهِ وَهَذَا الْعَاصِي مَتَى تَرَكَ الْأَكْلَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ حَتَّى مَاتَ كَانَ مُرْتَكِبًا لِضَرْبَيْنِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ أَحَدُهُمَا خُرُوجُهُ فِي مَعْصِيَةٍ وَالثَّانِي جِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَأَيْضًا فَالْمُطِيعُ وَالْعَاصِي لَا يَخْتَلِفَانِ فِيمَا يَحِلُّ لَهُمَا مِنْ الْمَأْكُولَاتِ أَوْ يُحَرَّمُ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْمَأْكُولَاتِ الَّتِي هِيَ مُبَاحَةٌ لِلْمُطِيعِينَ هِيَ مُبَاحَةٌ لِلْعُصَاةِ كَسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ وَكَذَلِكَ مَا حُرِّمَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ لَا يَخْتَلِفُ فِي تَحْرِيمِهِ حُكْمُ الْمُطِيعِينَ وَالْعُصَاةِ فَلَمَّا كَانَتْ الْمَيْتَةُ مُبَاحَةً لِلْمُطِيعِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ العصاة فبها كَسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ الْمُبَاحَةِ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إبَاحَةُ الْمَيْتَةِ رُخْصَةٌ لِلْمُضْطَرِّ وَلَا رُخْصَةَ لِلْعَاصِي(1/157)
قِيلَ لَهُ قَدْ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ الْخَطَأَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلُكَ إبَاحَةُ الْمَيْتَةِ رُخْصَةٌ لِلْمُضْطَرِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ فَرْضٌ عَلَى المضطر والاضطرار يزيل الحذر وَمَتَى امْتَنَعَ الْمُضْطَرُّ مِنْ أَكْلِهَا حَتَّى مَاتَ صَارَ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ أَكْلَ الْخُبْزِ وَشُرْبَ الْمَاءِ فِي حَالِ الْإِمْكَانِ حَتَّى مَاتَ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ جَانِيًا عَلَى نَفْسِهِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذَا حُكْمُ الْمُضْطَرِّ إلَى الْمَيْتَةِ غَيْرِ الْبَاغِي فَقَوْلُ الْقَائِلِ إبَاحَةُ الْمَيْتَةِ رُخْصَةٌ لِلْمُضْطَرِّ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ إنَّ إبَاحَةَ أَكْلِ الْخُبْزِ وَشُرْبِ الْمَاءِ رَخْصَةٌ لِغَيْرِ الْمُضْطَرِّ وَلَا يُطْلِقُ هَذَا أَحَدٌ يَعْقِلُ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ فُرِضَ عَلَى الْمُضْطَرِّ إلَى الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الْعَاصِي وَالْمُطِيعِ فِي أَكْلِ الْخُبْزِ وَشُرْبِ الْمَاءِ كَذَلِكَ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْخَطَإِ فَهُوَ قَوْلُكَ إنَّهُ لَا رُخْصَةَ لِلْعَاصِي وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ فَاسِدَةٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ رَخَّصُوا لِلْمُقِيمِ الْعَاصِي الْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ إذَا كَانَ مَريِضًا وَكَذَلِكَ يُرَخِّصُونَ لَهُ فِي السَّفَرِ التَّيَمُّمُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَيُرَخِّصُونَ لِلْمُقِيمِ الْعَاصِي أَنْ يَمْسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا
وَلَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الْعَاصِي وَالْمُطِيعِ فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا فَسَادُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَقَوْلُهُ [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ] وَقَوْلُهُ [فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ فِيهِ ضَمِيرٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْكَلَامُ وَذَلِكَ لِأَنَّ وُقُوعَ الضَّرُورَةِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمُضْطَرِّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ [فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ] وقوله [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] خبر له وقوله [فَمَنِ اضْطُرَّ] لا بدله من خبر به تم الْكَلَامُ إذْ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الضَّرُورَة وَخَبَرُهُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ ضَمِيرُهُ وَهُوَ الْأَكْلُ فَكَأَنَّ تَقْدِيرَهُ فَمَنْ اُضْطُرَّ فَأَكَلَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَوْلُهُ [غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ] على قول من يقول غير باغ في الميتة ولا عاد فِي الْأَكْلِ فَيَكُونُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ حَالًا لِلْأَكْلِ وَتَقْدِيرُهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ بَاغٍ ولا عاد عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَكَلَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ حَالًا لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَة قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ صِفَةً لِلْأَكْلِ وَعِنْدَ الْأَوَّلِينَ يَكُونُ صِفَةً لِلْأَكْلِ وَالْحَذْفُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَالْحَذْفِ فِي قَوْلِهِ [فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] وَالْمَعْنَى فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَحَذَفَ فَأَفْطَرَ وَقَوْلُهُ [فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ] وَمَعْنَاهُ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ وَإِنَّمَا جَازَ الْحَذْفُ لِعِلْمِ المخاطبين بالمحذوف(1/158)
وَدَلَالَةُ الْخِطَابِ عَلَيْهِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهُ عَلَى الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ فِي الْأَكْلِ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَةِ ذِكْرٌ لَا مَحْذُوفًا وَلَا مَذْكُورًا كَحَذْفِ الْأَكْلِ فَحَمْلُهُ عَلَى مَا فِي مُقْتَضَى الْآيَةِ بِأَنْ يَكُونَ حَالًا لَهُ فِيهِ وَصِفَةً أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنًى لَمْ يَتَضَمَّنْهُ اللَّفْظُ لَا مَحْذُوفًا وَلَا مَذْكُورًا وَأَمَّا قوله [إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] فَلَا ضَمِيرَ فِيهِ وَلَا حَذْفَ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ إذْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جُمْلَةٍ مَفْهُومَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ التَّحْرِيمُ بِقَوْلِهِ [وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لَكُمْ وَهَذَا اللَّفْظُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الضمير ومعنى الضرورة هاهنا هُوَ خَوْفُ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِتَرْكِهِ الْأَكْلَ وَقَدْ انْطَوَى تَحْتَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَحْصُلَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَجِدُ غَيْرَ الْمَيْتَةِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا مَوْجُودًا وَلَكِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهَا بِوَعِيدٍ يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفَ بَعْضِ أَعْضَائِهِ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ بِالْآيَةِ عِنْدَنَا لِاحْتِمَالِهِمَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ تَأَوَّلَهَا عَلَى ضَرُورَةِ الْإِكْرَاهِ ولأنه إذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي ضَرُورَةِ الْمَيْتَةِ مَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الضَّرَرِ فِي تَرْكِ تَنَاوُلِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي ضَرُورَةِ الْإِكْرَاهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْهَا حَتَّى قُتِلَ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ كَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ بِأَنْ عَدِمَ غَيْرَهَا مِنْ الْمَأْكُولَاتِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ كَانَ عَاصِيًا كَمَنْ تَرَكَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَهُوَ وَاجِدُهُمَا حَتَّى مَاتَ فَيَمُوتُ عَاصِيًا لِلَّهِ بِتَرْكِهِ الْأَكْلَ لِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ مُبَاحٌ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ كَسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْمُضْطَرِّ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُضْطَرِّ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْمُطِيعُ الْمُضْطَرُّ إلَى شُرَبِ الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا وَإِنَّمَا يَشْرَبُ مِنْهَا مِقْدَارَ مَا يُمْسِكُ بِهِ رَمَقَهُ إذْ كَانَ يَرُدُّ عَطَشَهُ وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَمَكْحُولٌ لَا يَشْرَبُ لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُهُ إلَّا عَطَشًا وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَشْرَبُ لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُهُ إلَّا عَطَشًا وَجُوعًا وَقَالَ الشافعى ولأنها تذهب بالعقل وقال مَالِكٌ إنَّمَا ذُكِرَتْ الضَّرُورَةُ فِي الْمَيْتَةِ وَلَمْ تُذْكَرْ فِي الْخَمْرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهَا لَا تُزِيلُ ضَرُورَةَ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ لَا مَعْنَى لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهَا أَنَّهَا تُمْسِكُ الرَّمَقَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَتُزِيلُ الْعَطَشَ وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا بَلَغَنَا مَنْ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ دَهْرًا اكْتِفَاءً بِشُرْبِ الْخَمْرِ عَنْهُ فَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُ الْمَعْقُولِ(1/159)
الْمَعْلُومِ مِنْ حَالِ شَارِبِهَا وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ نُحِيلَ مَسْأَلَةَ السَّائِلِ عَنْهَا وَنَقُولَ إنَّ الضَّرُورَهْ لَا تَقَعُ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيَّ فِي ذَهَابِ الْعَقْلِ فَلَيْسَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُذْهِبُ الْعَقْلَ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ الضَّرُورَةَ إنَّمَا ذُكِرَتْ فِي الْمَيْتَةِ وَلَمْ تُذْكَرْ فِي الْخَمْرِ فَإِنَّهَا فِي بَعْضِهَا مَذْكُورَةً فِي الْمَيْتَةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا وَفِي بَعْضِهَا مَذْكُورَةٌ فِي سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى [وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] وَقَدْ فَصَّلَ لَنَا تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فِي مَوَاضِعَ من كتاب الله في قوله تعالى [يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ] وقَوْله تَعَالَى [قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ] وَقَالَ [إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ] وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالضَّرُورَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ مُنْتَظِمَةٌ لِسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَذِكْرُهُ لَهَا فِي الْمَيْتَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِ الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ إحْيَاءَ نَفْسِهِ بِأَكْلِهَا وَخَوْفِ التَّلَفِ فِي تَرْكِهَا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَهَا لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابٌ فِي مِقْدَارِ مَا يَأْكُلُ الْمُضْطَرُّ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيّ لَا يَأْكُلُ الْمُضْطَرُّ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَّا مِقْدَارَ مَا يُمْسِكُ بِهِ رَمَقَهُ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا وقال عبد اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ يَأْكُلُ مِنْهَا مَا يَسُدُّ بِهِ جُوعَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ الله تعالى [إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] وَقَالَ [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ] فَعَلَّقَ الْإِبَاحَةَ بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ هِيَ خَوْفُ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ إمَّا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ فَمَتَى أَكَلَ بِمِقْدَارِ مَا يَزُولُ عَنْهُ الْخَوْفُ مِنْ الضَّرَرِ فِي الْحَالِ فَقَدْ زَالَتْ الضَّرُورَةُ وَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِسَدِّ الْجَوْعَةِ لِأَنَّ الْجُوعَ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ إذَا لَمْ يَخَفْ ضررا بتركه وأيضا في قَوْله تَعَالَى [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ] فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ غَيْرُ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي الْأَكْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْأَكْلَ مِنْهَا فَوْقَ الشِّبَعِ لِأَنَّ ذَلِكَ محظورا فِي الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُبَاحَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَ بَاغٍ فِي الْأَكْلِ مِنْهَا مِقْدَارَ الشِّبَعِ فَيَكُونُ الْبَغْيُ وَالتَّعَدِّي وَاقِعَيْنِ فِي أَكْلِهِ مِنْهَا مِقْدَارَ(1/160)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
الشِّبَعِ حَتَّى يَكُونَ لِاخْتِصَاصِهِ الْمَيْتَةَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَعَقْدِهِ الْإِبَاحَةَ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ فَائِدَةٌ وَهُوَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ مِنْهَا إلَّا مِقْدَارَ زَوَالِ خَوْفِ الضَّرُورَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الطَّعَامِ مِقْدَارٌ مَا إذَا أَكَلَهُ أَمْسَكَ رَمَقَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ ثُمَّ إذَا أَكَلَ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَزَالَ خَوْفُ التَّلَفِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ وَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَ مِنْ الْمَيْتَةِ مَا زَالَ مَعَهُ خَوْفُ الضَّرَرِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا إذْ لَيْسَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ بِأَوْلَى بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ بَعْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ مِنْ الطَّعَامِ الَّذِي هُوَ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ
وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عن حسان بن عطية الميثى أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (إنَّا نَكُونُ بِالْأَرْضِ تُصِيبُنَا الْمَخْمَصَةُ) فَمَتَى تَحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةُ قَالَ (مَتَى مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَجِدُوا بِهَا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا)
فَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ الْمَيْتَةَ إلَّا إذَا لَمْ يَجِدُوا صَبُوحًا وَهُوَ شُرْبُ الْغَدَاءِ أو عبوقا وَهُوَ شُرْبُ الْعَشَاءِ أَوْ يَجِدُوا بَقْلًا يَأْكُلُونَهُ لِأَنَّ مَنْ وَجَدَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً أَوْ بَقْلًا فَلَيْسَ بِمُضْطَرٍّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الضَّرُورَةَ هِيَ الْمُبِيحَةُ لِلْمَيْتَةِ دُونَ حَالِ الْمُضْطَرِّ فِي كَوْنِهِ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا إذ لم يفرق النبي صلّى الله عليه وسلم للسائل بين حائل الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِي إبَاحَتِهِ بَلْ سَوَّى بَيْنَهُمَا وَالثَّانِي أَنَّ إبَاحَةَ الْمَيْتَةِ مَقْصُورَةٌ عَلَى حَالِ خَوْفِ الضَّرَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ هَلْ فِي الْمَالِ حَقٌّ وَاجِبٌ سِوَى الزَّكَاةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ] الْآيَةَ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ] إنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى حِينَ أَنْكَرَتْ نَسْخَ الْقِبْلَةِ فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبِرَّ إنما هو طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ لَا فِي التوجه إلى المشرق والمغرب إذا لَمْ يَكُنْ فِيهِ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ وَإِنَّ طَاعَةَ الله الآن في التوجه إلى الكعبة إذ كَانَ التَّوَجُّهُ إلَى غَيْرِهَا مَنْسُوخًا
وقَوْله تَعَالَى [وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ] قِيلَ إنَّ فِيهِ حَذْفًا وَمَعْنَاهُ إنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَقِيلَ إنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْبَارَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ كَقَوْلِ الخنساء:
ترتع ما رتعت حتى إذا أدركت ... فَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
يَعْنِي مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً وقوله تعالى [وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ] يَعْنِي أَنَّ الْبَارَّ مَنْ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ قِيلَ فِيهِ إنَّهُ يَعْنِي حُبَّ الْمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] وَقِيلَ إنَّهُ يَعْنِي حُبَّ الْإِيتَاءِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُتَسَخِّطًا عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ عَلَى حُبِّ(1/161)
اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي] وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ جَمِيعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ حُبَّ الْمَالَ وَهُوَ
مَا رَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ فَقَالَ (أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمَلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ)
وَحَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قوله تعالى [وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ] قَالَ أَنْ تُؤْتِيَهُ وَأَنْتَ صَحِيحٌ تَأْمَلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْر وقَوْله تَعَالَى [وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى] يَحْتَمِلُ بِهِ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّطَوُّعَ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا الْوَاجِبَةُ وَإِنَّمَا فِيهَا حَثٌّ على الصدقة ووعد بالثواب عليها وذلك لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهَا أَنَّهَا مِنْ الْبِرِّ وَهَذَا لَفْظٌ يَنْطَوِي عَلَى الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ إلَّا أَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ وَنَسَقِ التِّلَاوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الزَّكَاةَ لقوله تعالى [وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ] فَلَمَّا عَطَفَ الزَّكَاةَ عَلَيْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الزَّكَاةَ بِالصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ أَرَادَ بِهِ حُقُوقًا وَاجِبَةً فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ نَحْوَ وُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ إذَا وَجَدَهُ ذَا ضُرٍّ شَدِيدٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مَنْ قَدْ أَجْهَدَهُ الْجُوعُ حَتَّى يُخَافَ عَلَيْهِ التَّلَفُ فَيَلْزَمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ
وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ) وَتَلَا قَوْله تَعَالَى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ]
الْآيَةَ
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ إنَّ فِيهَا حَقًّا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ ذَلُولِهَا وَمِنْحَةُ سَمِينِهَا
فَذَكَرَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ وَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ] الْآيَةَ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ مَا يَلْزَمُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى ذَوِي الْمَحَارِمِ الْفُقَرَاءِ وَيَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لِوَالِدَيْهِ وَذَوِي مَحَارِمِهِ إذَا كانوا فقراء عاجز بن عَنْ الْكَسْبِ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ طَعَامِ الْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ حَقًّا مَنْدُوبًا إلَيْهِ لَا وَاجِبًا إذْ لَيْسَ قَوْلُهُ فِي الْمَالِ حَقٌّ يَقْتَضِي(1/162)
الْوُجُوبَ إذْ مِنْ الْحُقُوقِ مَا هُوَ نَدْبٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ فَرْضٌ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي حدثنا أحمد ابن حَمَّادِ بْنِ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الضَّبِّيِّ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ)
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ عَنْ عَامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ
فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَائِرُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَهَالَةِ رَاوِيهِ فَإِنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَسَنُ السَّنَدِ وَهُوَ يُوجِبُ أَيْضًا إثْبَاتَ نَسْخِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً بِالزَّكَاةِ وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ هُوَ بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم إيَّاهُ عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ مِنْ الصَّدَقَاتِ صَدَقَاتٍ قَدْ كَانَتْ وَاجِبَةً ابْتِدَاءً بِأَسْبَابٍ مِنْ قِبَلِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْتَضِي لُزُومَ إخْرَاجِهَا ثُمَّ نُسِخَتْ بِالزَّكَاةِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى [وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ] وَنَحْوَ مَا رُوِيَ فِي قَوْله تَعَالَى [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ] أَنَّهُ مَنْسُوخٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ فَيَكُونُ الْمَنْسُوخُ بِالزَّكَاةِ مِثْلَ هَذِهِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تَلْزَمُ مِنْ نَحْوِ الْإِنْفَاقِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ التَّكَسُّبِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْ إطْعَامِ الْمُضْطَرِّ فَإِنَّ هَذِهِ فُرُوضٌ لَازِمَةٌ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِالزَّكَاةِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ وَلَمْ تُنْسَخْ بِالزَّكَاةِ مَعَ أَنَّ وُجُوبَهَا ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِسَبَبٍ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَمْ تَنْسَخْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا فُرِضَتْ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ وَلَمْ يَنْهَهُمْ وَكَانُوا يُخْرِجُونَهَا
فَهَذَا الْخَبَرُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَسْخِهَا لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لَا يَنْفِي بَقَاءَ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَعَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَف فِي أَنَّ حم السَّجْدَةَ مَكِّيَّةٌ وَأَنَّهَا مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَفِيهَا وَعِيدُ تَارِكِ الزَّكَاةِ عِنْدَ قوله [وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ] وَالْأَمْرُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ إنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ مُتَقَدِّم لِصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ(1/163)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ] أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهُ حَقُّ وَاجِبٌ عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرُ الزَّكَاةِ وَأَمَّا الْحُقُوقُ الَّتِي تَجِبُ بِأَسْبَابٍ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ نَحْوَ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الزَّكَاة لَمْ تَنْسَخْهَا وَالْيَتَامَى الْمُرَادُونَ بِالْآيَةِ هُمْ الصِّغَارُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَالْمَسَاكِينُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَابْنُ السَّبِيلِ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الْمُسَافِرُ وَعَنْ قَتَادَةَ أنه الضيف القول الْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ ابْنَ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ كَمَا قِيلَ لِلطَّيْرِ الْإِوَزِّ ابْنُ مَاءٍ لِمُلَازَمَتِهِ لَهُ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا ... عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ
وَالسَّائِلِينَ يَعْنِي بِهِ الطَّالِبِينَ للصدقة قال الله تعالى [فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ أَبِي يحيى عن فاطمة بنت حسين ابن على رضى الله تعالى عنهم أجمعين قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ)
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُمَاهِرِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أَعْطُوا السَّائِلَ وَإِنْ أَتَى عَلَى فَرَسٍ)
وَاَللَّهُ تَعَالَى أعلم.
بَابُ الْقِصَاصِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] هَذَا كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى مَا بَعْدَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اُقْتُصِرَ عَلَيْهِ لَكَانَ مَعْنَاهُ مَفْهُومًا مِنْ لَفْظِهِ وَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْقَتْلَى وَالْقِصَاصُ هُوَ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْل مَا فَعَلَ بِهِ مِنْ قَوْلِكَ اقْتَصَّ أَثَرَ فُلَانٍ إذَا فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ قَالَ اللَّهُ تعالى [فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً] وقال تعالى [وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ] أى ابتغى أثره وقوله [كُتِبَ عَلَيْكُمُ] مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ- وكُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ] وَقَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً وَمِنْهُ الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ يَعْنِي بِهَا الْمَفْرُوضَاتِ فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ إيجَابَ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذَا قَتَلُوا لِمَنْ قُتِلُوا مِنْ سَائِرِ الْمَقْتُولِينَ لِعُمُومِ لَفْظِ الْمَقْتُولِينَ وَالْخُصُوصُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَاتِلِينَ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ(1/164)
الْقِصَاصُ مَكْتُوبًا عَلَيْهِمْ إلَّا وَهُمْ قَاتِلُونَ فَاقْتَضَى وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ عَمْدًا بِحَدِيدَةٍ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِشُمُولِ لَفْظِ الْقَتْلَى لِلْجَمِيعِ وَلَيْسَ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ فِي الْقَتْلَى بِمُوجِبٍ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلَى مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ عُمُومِ اللَّفْظِ مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُوجِبُ خُصُوصَ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْقَتْلَى دُون بَعْضٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ الْحُكْمِ فِي الْقَتْلَى وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا فِي نَسَقِ الْآيَةِ [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ] وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ أَخًا لِلْمُسْلِمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ فِي قَتْلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالثَّانِي قَوْلُهُ [الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى] قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ أَوَّلُ الْخِطَابِ قَدْ شَمِلَ الْجَمِيعَ فَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِلَفْظِ الْخُصُوصِ لَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى [وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ] وَهُوَ عُمُومٌ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَمَا دُونَهَا ثُمَّ عُطِفَ قَوْله تَعَالَى [فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ] وقَوْله تَعَالَى [وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ] وهذا الحكم خَاصٌّ فِي الْمُطَلِّقِ لِمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي إيجَابِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ مِنْ الْعِدَّةِ عَلَى جَمِيعِهِنَّ وَنَظَائِرُ هذا كثير فِي الْقُرْآنِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يُرِيدَ الْإِخْوَةَ مِنْ طَرِيقِ النَّسَبِ لَا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ كقوله تعالى [وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً] وأما قوله [الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ] فَلَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي الْقَتْلَى لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَوَّلُ الْخِطَابِ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى مَا بَعْدَهُ لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَقْصُرَهُ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ [الْحُرُّ بِالْحُرِّ] إنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ وَذِكْرِ الْحَالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْهَا الْكَلَامُ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنْ الْعَرَبِ قِتَالٌ وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا طَوْلٌ عَلَى الْآخَرِ فَقَالُوا لَا نَرْضَى إلَّا أَنْ نَقْتُلَ بِالْعَبْدِ مِنَّا الْحُرَّ مِنْكُمْ وَبِالْأُنْثَى مِنَّا الذَّكَرَ مِنْكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ] مبطلا بذلك ما أرادوه مؤكدا عَلَيْهِمْ فَرْضَ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ غَيْرَ الْقَاتِلِ فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عن ذلك وهو مَا
رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (مِنْ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ وَرَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ وَرَجُلٌ أَخَذَ بِذُحُولِ الْجَاهِلِيَّةِ)
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى [الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ] تَفْسِيرٌ لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ عُمُومُ اللَّفْظِ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَخْصِيصَ(1/165)
اللفظ ألا ترى أَنَّ
قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ
وَذِكْرَهُ الْأَصْنَافَ السِّتَّةَ لَمْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرِّبَا مَقْصُورًا عَلَيْهَا وَلَا نَفْيُ الرِّبَا عَمَّا عَدَاهَا كَذَلِكَ قوله [الْحُرُّ بِالْحُرِّ] لَا يَنْفِي اعْتِبَارَ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] ويدل على أن قوله [الْحُرُّ بِالْحُرِّ] غَيْرُ مُوجِبٍ لِتَخْصِيصِ عُمُومِ الْقِصَاصِ وَلَمْ يَنْفِ الْقِصَاصَ عَنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى قَتْلِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْحُرِّ بِالْحُرِّ لَمْ يَنْفِ مُوجِبَ حُكْمِ اللَّفْظِ فِي جَمِيعِ الْقَتْلَى فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يَكُونُ الْقِصَاصُ مَفْرُوضًا وَالْوَلِيُّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْعَفْوِ وَبَيْنَ الْقِصَاصِ قِيلَ لَهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مَفْرُوضًا عَلَى الْوَلِيِّ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مَفْرُوضًا عَلَى الْقَاتِلِ لِلْوَلِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] وَلَيْسَ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَلِيِّ وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لَهُ وَهَذَا لَا يَنْفِي وُجُوبَهُ عَلَى الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي لَهُ الْقِصَاصُ مُخَيَّرًا فِيهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ وَالرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ اقْتِضَاءِ أَوَّلِ الْخِطَابِ إيجَابَ عُمُومِ الْقِصَاصِ فِي سائر القتلى وأن تخصصه الْحُرَّ بِالْحُرِّ وَمَنْ ذَكَرَ مَعَهُ لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارِ بِحُكْمِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ دُونَ اعْتِبَارِ عُمُومِ ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ وَنَظِيرُهَا مِنْ الْآيِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ عَامًّا قَوْله تَعَالَى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً] فَانْتَظَمَ ذَلِكَ جَمِيعَ الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا وَجَعَلَ لِأَوْلِيَائِهِمْ سُلْطَانًا وَهُوَ الْقَوَدُ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ بِذَلِكَ فِي الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إذَا قَتَلَ حُرًّا مُسْلِمًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ قَوَدًا لِأَنَّ مَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مُرَادٌ فَكَأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيهَا فَلَفْظُ السُّلْطَانِ وَإِنْ كَانَ مُجْمَلًا فَقَدْ عُرِفَ مَعْنَى مُرَادِهِ مِنْ طَرِيقِ الاتفاق وقوله [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً] هُوَ عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ عَلَى حَسَبِ ظَاهِرِهِ وَمُقْتَضَى لَفْظِهِ وَنَظِيرُهَا أَيْضًا مِنْ الْآيِ قَوْله تَعَالَى [وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ] فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَهُوَ عُمُومٌ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ فِي سَائِرِ الْمَقْتُولِينَ وَقَدْ احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِذَلِكَ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أن مَذْهَبِهِ أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ثَابِتَةٌ عَلَيْنَا مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَجِدُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ ذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا عَلَيْنَا عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ مِنْ إيجَابِ الْقِصَاصِ فِي سَائِرِ الْأَنْفُسِ وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى [فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ](1/166)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
لأن من قتل وليه يكون معتدى وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْقَتْلَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ [وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ] يَقْتَضِي عُمُومُهُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ مَسْأَلَةٌ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ إلَّا فِي الْأَنْفُسِ وَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْعَبْدُ بِالْحُرِّ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بَيْنَهُمْ فِي جَمِيعِ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي نَسْتَطِيعُ فِيهَا الْقِصَاصَ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ قَوَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْجِرَاحِ وَالْعَبْدُ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ وَلَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَقَالَ اللَّيْث بْنُ سَعْدٍ إذَا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْجَانِي اقْتُصُّ مِنْهُ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ وَقَالَ إذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الْحُرَّ فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَأْخُذُ بِهَا نَفْسَ الْعَبْدِ الْقَاتِلِ فَيَكُونَ لَهُ وَإِذَا جَنَى عَلَى الْحُرِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلِلْمَجْرُوحِ الْقِصَاصُ إنْ شَاءَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ جَرَى عَلَيْهِ فِي الْجِرَاحِ وَلَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَلَا يُقْتَصُّ لَهُ مِنْهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَةِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي النَّفْسِ أَنَّ الْآيَةَ مَقْصُورَةُ الْحُكْمِ عَلَى ذِكْرِ الْقَتْلَى وليس فيها ذِكْرٌ لِمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْجِرَاحِ وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ آيِ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الْقَتْلَى وَالْعُقُوبَةِ وَالِاعْتِدَاءِ يَقْتَضِي قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَمِنْ حَيْثُ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى قَتْلِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ وَجَبَ قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ لِأَنَّ العبد قد ثبت أنه مراد الآية وَالْآيَةُ لَمْ يُفَرِّقْ مُقْتَضَاهَا بَيْنَ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ والقاتل فهي عموم فيها جَمِيعًا
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى [وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ لِأَنَّ فِيهِ حَيَاةً لَنَا وَذَلِكَ خِطَابٌ شَامِلٌ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِأَنَّ صِفَةَ أُولِي الْأَلْبَابِ تَشْمَلُهُمْ جَمِيعًا فَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً فِي الْجَمِيعِ لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ بِحُكْمِهَا عَلَى بَعْضِ مَنْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ)
وَهُوَ عَامٌّ فِي الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فَلَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَيَدُلُّ عليه من وجه آخر وهو اتفاق الجميع عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ هُوَ الْقَاتِلَ فَهُوَ مُرَادٌ بِهِ كَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْتُولًا لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُ إذَا كَانَ قَاتِلًا أَوْ مَقْتُولًا فَإِنْ قِيلَ لَمَّا قَالَ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُوَ الْعَبْدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ بِأَوَّلِ الْخِطَابِ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ قَاتِلًا فَهُوَ مُرَادٌ وَلَمْ يَمْنَعْ قَوْلُهُ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أدناهم(1/167)
أَنْ يَكُونَ مُرَادًا إذَا كَانَ قَاتِلًا كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ إرَادَتَهُ إذَا كَانَ مَقْتُولًا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصُ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَدْنَاهُمْ عَدَدًا هُوَ كَقَوْلِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَلَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ فِي إيجَابِ اقْتِصَارِ حُكْمِ أَوَّلِ اللَّفْظِ عَلَى الْحُرِّ دُونَ الْعَبْدِ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ عَبْدُهُمْ لَمْ يُوجِبْ تَخْصِيصَ حُكْمِهِ فِي مُكَافَأَةِ دَمِهِ لِدَمِ الْحُرِّ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ آخَرُ اسْتَأْنَفَ لَهُ ذِكْرًا وَخَصَّ بِهِ الْعَبْدَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَبْدِ أَوْلَى بِالسَّعْيِ بِذِمَّتِهِمْ فَإِذَا كَانَ تَخْصِيصُ الْعَبْدِ بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ لَمْ يُوجِبْ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِ دُونَ الْآخَرِ فَلَأَنْ لَا يُوجِبَ تَخْصِيصَ حُكْمِ الْقِصَاصِ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَقْتَضِي التَّمَاثُلَ فِي الدِّمَاءِ وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِثْلًا لِلْحُرِّ قِيلَ لَهُ فقد جعله النبي صلّى الله عليه وسلم مِثْلًا لَهُ فِي الدَّمِ إذْ عَلَّقَ حُكْمَ التكافؤ منهم بالإسلام ومن قال ليس بمكاف له فهو خارج عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَالِفٌ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَحِلُّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَّا فِي إحْدَى ثَلَاثٍ التَّارِكُ لِلْإِسْلَامِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ)
فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ بِالنَّفْسِ وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَا حَكَى اللَّهُ مِمَّا كَتَبَهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فَحَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ بَاقٍ عَلَيْنَا وَالثَّانِي أَنَّهُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ عَامًّا فِي سَائِرِ النُّفُوسِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا التُّسْتَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عثمان العسكري أبو معاوية عن إسماعيل ابن مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَمْدُ قَوَدٌ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ
فَقَدْ دَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا إيجَابُ الْقَوَدِ فِي كُلِّ عَمْدٍ وَأَوْجَبَ ذَلِكَ الْقَوَدَ عَلَى قَاتِلِ الْعَبْدِ وَالثَّانِي نَفَى بِهِ وُجُوبَ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْمَالُ مَعَ الْقَوَدِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْقَوَدِ دُونَهُ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْعَبْدَ مَحْقُونُ الدَّمِ حَقْنًا لَا يَرْفَعُهُ مُضِيُّ الْوَقْتِ وَلَيْسَ بِوَلَدٍ لِلْقَاتِلِ وَلَا مِلْكٍ لَهُ فَأَشْبَهَ الْحُرُّ الْأَجْنَبِيَّ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ إذَا قَتَلَ حُرًّا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ كَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُ الْحُرُّ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِيهِ وَأَيْضًا فَمَنْ مَنَعَ أَنْ يُقَادَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ فَإِنَّمَا مَنَعَهُ لِنُقْصَانِ الرِّقِّ الَّذِي(1/168)
فِيهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْأَنْفُسِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيمَا دُونَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عَشَرَةً لَوْ قَتَلُوا وَاحِدًا قُتِلُوا بِهِ ولم تعتبر المساواة وكذلك لَوْ أَنَّ رَجُلًا صَحِيحَ الْجِسْمِ سَلِيمَ الْأَعْضَاءِ قَتَلَ رَجُلًا مَفْلُوجًا مَرِيضًا مُدْنَفًا مَقْطُوعَ الْأَعْضَاءِ قُتِلَ بِهِ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ مَعَ نُقْصَانِ عَقْلِهَا وَدِينِهَا وَدِيَتُهَا نَاقِصَةٌ عَنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنْ لَا اعْتِبَارَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ وَأَنَّ الْكَامِلَ يُقَادُ مِنْهُ لِلنَّاقِصِ وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمَ مَا دون النفس لأنهم لا يختلفون في أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ وَتُؤْخَذُ النَّفْسُ الصَّحِيحَةُ بِالسَّقِيمَةِ
وَرَوَى اللَّيْثُ عَنْ الْحَكَمِ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ قَالَا مَنْ قَتَلَ عَبْدًا عَمْدًا فَهُوَ قَوَدٌ
. بَاب قَتْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَتْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فَقَالَ قَائِلُونَ وَهُمْ شَوَاذٌّ يُقْتَلُ بِهِ وَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ لَا يُقْتَلُ بِهِ فَمَنْ قَتَلَهُ احْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ] عَلَى نَحْوِ مَا احْتَجَجْنَا بِهِ فِي قَتْلِ الحر بالحر وقوله [النَّفْسَ بِالنَّفْسِ] وقوله [فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ]
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ)
وقد روى حديث عن سمرة ابن جندب عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ)
أَمَّا ظَاهِرُ الْآيِ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الْقِصَاصَ فِيهَا لِلْمَوْلَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً] وَوَلِيُّ الْعَبْدِ هُوَ مَوْلَاهُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَمَا يَمْلِكُهُ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ لَا مِنْ جِهَةِ الْمِيرَاثِ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ فَإِذَا كَانَ هُوَ الْوَلِيَّ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ وَارِثَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَلَا يَرِثُهُ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْوَارِثِ إنَّمَا يَنْتَقِلُ عَنْ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ إلَيْهِ وَالْقَاتِلُ لَا يَرِثُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِغَيْرِهِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَيَنْتَقِلُ إلَى مَوْلَاهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ ابْنُ الْعَبْدِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى غَيْرِهِ وَمَتَى وَجَبَ لَهُ الْقَوَدُ عَلَى قَاتِلِهِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مَوْلَاهُ دُونَهُ فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إيجَابُ الْقِصَاصِ عَلَى مَوْلَاهُ بِقَتْلِهِ إيَّاهُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ] فَنَفَى بِذَلِكَ مِلْكَ الْعَبْدِ نَفْيًا عَامًّا عَنْ كُلَّ شَيْءٍ فَلَمْ يَجْزِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مِلْكٌ لغيره والمولى(1/169)
إذَا اسْتَحَقَّ مَا يَجِبُ لَهُ فَلَا يَجِبُ لَهُ الْقَوَدُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ الْعَبْدُ فِي هَذَا كَالْحُرِّ لِأَنَّ الْحُرَّ يَثْبُتُ لَهُ الْقِصَاصُ ثُمَّ مِنْ جِهَتِهِ يَنْتَقِلُ إلَى وَارِثِهِ وَلِذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ فَمَنْ حُرِمَ مِيرَاثَهُ بِالْقَتْلِ لَمْ يَرِثْهُ الْقَوَدَ فَكَانَ الْقَوَدُ لِمَنْ يَرِثُهُ فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ دَمُ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْوَجْهِ كَمَالِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يملك قتله ولا الإقرار عليه بالقتل فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِيهِ قِيلَ لَهُ إنْ كَانَ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ قَتْلَهُ وَلَا الْإِقْرَارَ عليه به ولكنه وليه وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ عَلَى قَاتِلِهِ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا مِنْ حَيْثُ كَانَ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمِيرَاثِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْقَوَدِ عَلَى قَاتِلِهِ دُونَ أَقْرِبَائِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَوَدَ بِهِ كَمَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ فَإِذَا كَانَ هُوَ الْقَاتِلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْقَوَدَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ فَاسْتَحَالَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وُجُوبُ الْقَوَدِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ [فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ] لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمَوْلَى إذَا كَانَ هُوَ الْمُعْتَدِي بِقَتْلِ عَبْدِهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَدِيًا عَلَى نَفْسِهِ بِقَتْلِ عَبْدِهِ وَإِتْلَافِ ملكه فغير جائز خطابه باستيفاء القود من نفسه وغير جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مُخَاطَبًا بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ مِنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَقَّ لِمَنْ اُعْتُدِيَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ يُقِيدُ الْإِمَامُ مِنْهُ كَمَا يُقِيدُ مِمَّنْ قَتَلَ رَجُلًا لَا وَارِثَ لَهُ قِيلَ لَهُ إنَّمَا يَقُومُ الْإِمَامُ بِمَا ثَبَتَ مِنْ الْقَوَدِ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِمِيرَاثِهِ وَالْعَبْدُ لَا يُورَثُ فَيَثْبُتُ الْحَقُّ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ قَاتِلِهِ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ خَطَأً كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِقِيمَتِهِ عَلَى قَاتِلِهِ دُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَدُونَ الْإِمَامِ وَأَنَّ الْحُرَّ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ لَوْ قُتِلَ خَطَأً كَانَتْ دِيَتُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ الْقَوَدُ لَوْ ثَبَتَ عَلَى الْمَوْلَى لَمَا اسْتَحَقَّهُ الْإِمَامُ وَلَكَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ وَيَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ ذَلِكَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَبَطَلَ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِضِدِّهِ وَهُوَ مَا
حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْمَقْبُرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ صَفْوَانَ النَّوْفَلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَاهُ سَنَةً وَمَحَا سَهْمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُقِدْهُ
بِهِ فَنَفَى هَذَا الْخَبَرُ ظَاهِرَ مَا أَثْبَتَهُ خَبَرُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ظَاهِرِ الْآيِ وَمَعَانِيهَا مِنْ إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَوَدَ لِلْمَوْلَى وَمِنْ نَفْيِهِ لِمِلْكِ الْعَبْدِ
بِقَوْلِهِ (لا يَقْدِرُ على شيء)
وَلَوْ انْفَرَدَ خَبَرُ سَمُرَةَ عَنْ مُعَارَضَةِ الْخَبَرِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ لَمَا جَازَ الْقَطْعُ بِهِ لِاحْتِمَالِهِ لِغَيْرِ ظَاهِرِهِ وَهُوَ(1/170)
أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ أَوْ جَدَعَهُ أَوْ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ هَدَّدَهُ بِهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ
يَعْنِي عَبْدَهُ الْمُعْتَقَ الَّذِي كَانَ عَبْدَهُ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ والعادة
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ حِينَ أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
أَلَا إنَّ الْعَبْدَ نَامَ وَقَدْ كَانَ حُرًّا فِي ذلك الوقت
وقال على عليه السلام ادعو إلى هَذَا الْعَبْدَ الْأَبْظَرَ
يَعْنِي شُرَيْحًا حِينَ قَضَى فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ رِقٌّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَمَّاهُ بِذَلِكَ وقال تعالى [وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ] والمراد الذين كانوا يتامى
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا)
يَعْنِي الَّتِي كَانَتْ يَتِيمَةً وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ
مَا وَصَفْنَاهُ فِيمَنْ كَانَ عَبْدًا فَأُعْتِقَ وَزَالَ بِهَذَا تَوَهُّمُ مُتَوَهِّمٍ لَوْ ظَنَّ أَنَّ مَوْلَى النِّعْمَةِ لَا يُقَادُ بِمَوْلَاهُ الْأَسْفَلِ كَمَا لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ وَقَدْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَسْبِقَ إلَى ظَنِّ بَعْضِ النَّاسِ أَنْ لَا يُقَادَ به صلّى الله عليه وسلم قَدْ جَعَلَ حَقَّ مَوْلَى النِّعْمَةِ كَحَقِّ الْوَالِدِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ)
فَجَعَلَ عِتْقَهُ لِأَبِيهِ كِفَاءً لِحَقِّهِ وَمُسَاوِيًا لِيَدِهِ عِنْدَهُ وَنِعْمَتِهِ لَدَيْهِ وَاَللَّهُ أعلم.
بَابُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
قَالَ اللَّهُ تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] وَقَالَ [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً] فَظَاهِرُ مَا ذُكِرَ مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيهَا وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا فِي الْأَنْفُسِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ بَيْنَهُمْ قِصَاصًا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ الْقِصَاصُ وَاقِعٌ فِيمَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْأَنْفُسِ وَمَا دُونَهَا إلَّا أَنَّ اللَّيْثَ قَالَ إذَا جَنَى الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ عَقَلَهَا وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ إذَا قَتَلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا قُتِلَتْ بِهِ وَأُخِذَ مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَتْهُ بِجِرَاحَةٍ قَالَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا أَوْ جَرَحَهَا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فِي ذَلِكَ فَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ قَتَلَ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ بِامْرَأَةٍ أَقَادَهُمْ بِهَا وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهَا وَاخْتُلِفَ
عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا فَرَوَى لَيْثٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ(1/171)
قَالَا إذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ بِهَا قَوَدٌ
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيّ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ إنْ شَاءُوا قَتَلُوهُ وَأَدَّوْا نِصْفَ الدِّيَةِ وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا نِصْفَ دِيَةِ الرَّجُلِ
وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ فِي امْرَأَةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا عَمْدًا قَالَ تُقْتَلُ وَتَرُدُّ نِصْفَ الدِّيَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ مُرْسَلٌ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ رُوَاتِهِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا وَلَوْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَتَانِ كَانَ سَبِيلُهُمَا أَنْ تَتَعَارَضَا وَتَسْقُطَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَعَلَى أَنَّ رِوَايَةً الْحَكَمِ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ دُونَ الْمَالِ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهَا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] وَسَائِرُ الْآي الْمُوجِبَةِ لِلْقَوَدِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ الدِّيَةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَزِيدَ فِي النَّصِّ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ
حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ لَطَمَتْ جَارِيَةً فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ الْأَرْشُ فَأَبَوْا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُكْسَرُ سِنُّ الرُّبَيِّعِ لَا وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَقَالَ يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فعفا القوم فقال صلّى الله عليه وسلم (إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ على الله لأبره)
فأخبر صلّى الله عليه وسلم أَنَّ الَّذِي فِي كِتَابِ اللَّهِ الْقِصَاصُ دُونَ الْمَالِ فَلَا جَائِزٌ إثْبَاتُ الْمَالِ مَعَ الْقِصَاصِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ القصاص بنفس المقتل فَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُهُ مَعَ إعْطَاءِ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَالَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ بَدَلًا مِنْ النَّفْسِ وَغَيْرُ جَائِزٍ قَتْلُ النَّفْس بِالْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَضِيَ أَنْ يُقْتَلَ وَيُعْطَى مَالًا يَكُونُ لِوَارِثِهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ النَّفْسَ بِالْمَالِ فَبَطَل أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ مَوْقُوفًا عَلَى إعْطَاءٍ الْمَالِ وَأَمَّا مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَقَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ الْقَاتِلَةَ قُتِلَتْ وَأُخِذَ مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ فَقَوْلٌ يَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْآي الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ وَيُوجِبُ زِيَادَةَ حُكْمٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِيهَا
وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً وَعَلَيْهَا أَوْضَاحٌ لَهَا فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بِهَا
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ
وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَتْلُ جَمَاعَةِ رِجَالٍ بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِ مَعَ اسْتِفَاضَةِ ذَلِكَ وَشُهْرَتِهِ عَنْهُ وَمِثْلُهُ يَكُونُ إجْمَاعًا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلِ مَالٍ مَا قَدَّمْنَا مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ(1/172)
الْمُسَاوَاة بَيْنَ الصَّحِيحَةِ وَالسَّقِيمَةِ وَقَتْلِ الْعَاقِلِ بِالْمَجْنُونِ وَالرَّجُلِ بِالصَّبِيِّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ المساواة في النفوس وأما ما دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاة وَاجِبٌ فِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى امْتِنَاعِ أَخْذِ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ بِالشَّلَّاءِ وَكَذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ أَصْحَابُنَا الْقِصَاصَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَعْضَائِهَا غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَلَّا قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ وَيَدُ الْمَرْأَةِ بِيَدِ الرَّجُلِ كَمَا قُطِعَتْ الْيَدُ الشَّلَّاءُ بِالصَّحِيحَةِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا لَا مِنْ جِهَةِ النَّقْصِ فَصَارَ كَالْيُسْرَى لَا تُؤْخَذُ بِالْيُمْنَى وَأَوْجَبَ أَصْحَابُنَا الْقِصَاصَ بَيْنَ النِّسَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِتَسَاوِي أَعْضَائِهِمَا مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ فِي أَحْكَامِهِمَا وَلَمْ يُوجِبُوا الْقِصَاصَ فِيمَا بَيْنَ الْعَبِيدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ تَسَاوِيَهُمَا إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ طَرِيقِ التَّقْوِيمِ وَغَالِبِ الظَّنِّ كَمَا لَا تُقْطَعُ الْيَدُ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى عِلْمِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ أَعْضَاءَ الْعَبْدِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَمْوَالِ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَلَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ مِنْهَا شَيْءٌ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْجَانِي فِي مَالِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّفْسُ لِأَنَّهَا تَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ فِي الْخَطَأ وَتَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ فَفَارَقَ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَاب قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُقْتَلُ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ إنْ قَتَلَهُ غِيلَةً قُتِلَ بِهِ وَإِلَّا لَمْ يُقْتَلْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ سَائِرُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيِ يُوجِبُ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا إذْ لَمْ يُفَرِّقْ شَيْءٌ مِنْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وقَوْله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] عَامٌّ فِي الْكُلِّ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى [الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى] وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ] لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى خُصُوصِ أَوَّلِ الْآيَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ لِاحْتِمَالِ الْأُخُوَّةِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ وَلِأَنَّ عَطْفَ بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ حُكْمِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ عِنْدَ ذِكْرِنَا حُكْمَ الْآيَةِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى [وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ] يَقْتَضِي عُمُومُهُ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ لِأَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّنَا مَا لَمْ يَنْسَخْهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رسوله صلّى الله عليه وسلم وتصير حينئذ شريعة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/173)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ] ويدل عن أَنَّ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ [النَّفْسَ بِالنَّفْسِ] إلى آخرها هو شريعة لنبينا صلّى الله عليه وسلم قوله صلّى الله عليه وسلم فِي إيجَابِهِ الْقِصَاصَ فِي السِّنِّ فِي حَدِيثِ أنس الذي قدمنا حين قال أنس بن النضر لا تكثر ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ السِّنُّ بِالسِّنِّ إلَّا فِي هَذِهِ الآية فَأَبَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُوجِبِ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَيْنَا وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْنَا شَرِيعَةُ مِنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بِنَفْسِ وُرُودِهَا لَكَانَ قَوْلُهُ كَافِيًا فِي بَيَانِ مُوجَبِ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّهَا قَدْ اقْتَضَتْ مِنْ حُكْمِهَا عَلَيْنَا مِثْلَ مَا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فقد دَلَّ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا لُزُومُ حُكْمِ الْآيَةِ لَنَا وَثُبُوتُهُ عَلَيْنَا وَالثَّانِي إخْبَارُهُ أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ قَدْ أَلْزَمَنَا هَذَا الْحُكْمَ قَبْلَ إخْبَارِ النبي صلّى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِمَّا شَرَّعَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَحُكْمُهُ ثَابِتٌ مَا لَمْ يُنْسَخْ وَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَجَبَ إجْرَاءُ حُكْمِهَا عَلَيْهِمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً] وَقَدْ ثَبَتَ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ انْتَظَمَ الْقَوَدَ وَلَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصْ مُسْلِمٍ مِنْ كَافِرٍ فَهُوَ عَلَيْهِمَا وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا
رُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ (أَلَا وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَوَلِيُّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ)
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ
وَحَدِيثُ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نفس)
وحديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ (الْعَمْدُ قَوَدٌ)
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ يَقْتَضِي عُمُومُهَا قتل المسلم بالذمي
وروى ربيعة ابن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السلماني أن النبي صلّى الله عليه وسلم أَقَادَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ وَقَالَ أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ
وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ الْمَدَنِيِّ عَنْ محمد بن المنكدر عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ
حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْهَيْثَمِ عَنْ عُثْمَانَ الْفَزَارِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ عَنْ وَاسِطَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِي الْجَنُوبِ الْأَسَدِيِّ قَالَ جَاءَ رَجْلٌ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةَ إلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ ابْنِي وَلِيَ بَيِّنَةٌ فَجَاءَ الشُّهُودُ فَشَهِدُوا وَسَأَلَ عَنْهُمْ(1/174)
فَزُكُّوا فَأَمَرَ بِالْمُسْلِمِ فَأَقْعِدَ وَأُعْطِيَ الْحِيرِيُّ سَيْفًا وَقَالَ أَخْرِجُوهُ مَعَهُ إلَى الْجَبَّانَةِ فَلْيَقْتُلْهُ وَأَمْكَنَّاهُ مِنْ السَّيْفِ فَتَبَاطَأَ الْحِيرِيُّ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أهل هَلْ لَكَ فِي الدِّيَةِ تَعِيشُ فِيهَا وَتَصْنَعُ عِنْدَنَا يَدًا قَالَ نَعَمْ وَغَمَدَ السَّيْفَ وَأَقْبَلَ إلَى عَلِيٍّ فَقَالَ لَعَلَّهُمْ سَبُّوكَ وَتَوَاعَدُوكَ قَالَ لَا وَاَللَّهِ وَلَكِنِّي اخْتَرْتُ الدِّيَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ أَنْتَ أَعْلَمُ قَالَ ثُمَّ أَقْبَل عَلِيٌّ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ أَعْطَيْنَاهُمْ الَّذِي أَعْطَيْنَاهُمْ لِتَكُونَ دِمَاؤُنَا كَدِمَائِهِمْ وَدِيَاتُنَا كَدِيَاتِهِمْ
وَحَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ حدثنا معاذ ابن الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْن مَرْزُوقٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ النزال ابن سَبْرَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ الْعَبَّادِيِّينَ فَقَدِمَ أَخُوهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ عُمَرُ أَنْ يُقْتَلَ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ يَا جُبَيْرُ اُقْتُلْ فَجَعَلَ يَقُولُ حَتَّى يَأْتِيَ الْغَيْظُ فَكَتَبَ عُمَرُ أَنْ لَا يُقْتَلَ وَيُودَى وَرُوِيَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْكِتَابَ وَرَدَ بَعْد أَنْ قُتِلَ وَأَنَّهُ إنَّمَا كَتَبَ أَنْ يَسْأَلَ الصُّلْحَ عَلَى الدِّيَةِ حِينَ كُتِبَ إلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ فُرْسَانِ الْمُسْلِمِينَ
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا ابن إدْرِيسَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَا إذَا قَتَلَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا قُتِلَ بِهِ
وَرَوَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ مَيْمُونٍ عَنْ مِهْرَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمَرَ أَنْ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِيَهُودِيٍّ فَقُتِلَ فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَتَابَعَهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ نُظَرَائِهِمْ خِلَافَهُ وَاحْتَجَّ مَانِعُو قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ رَوَاهُ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ وَحَارِثَةُ بْنُ قُدَامَةَ وَأَبُو جُحَيْفَةَ
وَقِيلَ لِعَلِيٍّ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ سِوَى الْقُرْآنِ فَقَالَ مَا عَهْدِي إلَّا كِتَابٌ فِي قِرَابِ سَيْفِي وَفِيهِ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ في عهده
وحديث عمرو ابن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إدريس ابن عَبْدِ الْكَرِيمِ الْحَدَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ابن الْوَلِيدِ عَنْ سِنَانِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ طَلْحَةَ بن مطرف عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ (لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ)
وَلِهَذَا الْخَبَرِ ضُرُوبٌ مِنْ التَّأْوِيلِ كُلُّهَا تُوَافِقُ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الْآيِ وَالسُّنَنِ أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ قَتَلَ رَجُلًا من هذيل بذحل الجاهلية(1/175)
فقال صلّى الله عليه وسلم أَلَا إنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ
يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمَ بِالْكَافِرِ الَّذِي قَتَلَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا
لِقَوْلِهِ كُلُّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ
لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ فِي حَدِيثٍ وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي أَنَّ عَهْدَ الذِّمَّةِ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ قبل ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عُهُودٌ إلَى مُدَدٍ لَا عَلَى أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَحُكْمِهِ وَكَانَ قَوْلُهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ مُنْصَرِفًا إلَى الْكُفَّارِ الْمُعَاهَدِينَ إذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذِمِّيٌّ يَنْصَرِفُ الْكَلَامُ إلَيْهِ وَيَدُلُّ عليه قوله ولا ذو عهد في عهده كَمَا قَالَ تَعَالَى [فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ] وقال [فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ] وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَئِذٍ ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَهْلُ الْحَرْبِ وَمَنْ لَا عَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ أَهْلُ عَهْدٍ إلَى مُدَّةٍ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَهْلُ ذِمَّةٍ فَانْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَى الضَّرْبَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَفِي فَحْوَى هَذَا الْخَبَرِ وَمَضْمُونِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي نَفْيِ الْقِصَاصِ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ الْمُعَاهَدِ دُونَ الذِّمِّيِّ وَذَلِكَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ الْفَائِدَةِ لَوْ انْفَرَدَ عَمَّا قَبْلَهُ فَهُوَ إذًا مُفْتَقِرٌ إلَى ضَمِيرِ وَضَمِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو الْعَهْدِ الْمُسْتَأْمَنِ هُوَ الْحَرْبِيُّ فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ وَلَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لما كان القتل المبدو بذكره قَتْلًا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ وَكَانَ ذَلِكَ الْقَتْلُ بِعَيْنِهِ سَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ مُضْمَرًا فِي الثَّانِي لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ الضَّمِيرِ قَتْلًا مُطْلَقًا إذ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْخِطَابِ ذِكْرُ قَتْلٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ وَهُوَ الْقَتْلُ عَلَى وَجْهِ الْقَوَدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَنْفِيَّ بِقَوْلِهِ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ فَصَارَ تَقْدِيرُهُ وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِالْكَافِرِ الْمَذْكُورِ بَدِيًّا وَلَوْ أَضْمَرْنَا قَتْلًا مُطْلَقًا كُنَّا مُثْبِتِينَ لِضَمِيرٍ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَكَانَ الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو الْعَهْدِ هُوَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ كَانَ قَوْلُهُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالذِّمِّيِّ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ الْعَهْدِ يَحْظُرُ قَتْلَهُ مَا دَامَ فِي عَهْدِهِ فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ عَلَى أَنَّهُ لا يقتل ذو عهد في عهده لا خلينا اللَّفْظَ مِنْ الْفَائِدَةِ(1/176)
وَحُكْمُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْلُهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ فِي الْفَائِدَةِ وَغَيْرُ جَائِزٍ إلْغَاؤُهُ وَلَا إسْقَاطُ حُكْمِهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ
قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ
وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَهْدَ وَهَذَا اللَّفْظُ يَنْفِي قَتْلَ الْمُؤْمِنِ بِسَائِرِ الْكُفَّارِ قِيلَ هُوَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ قَدْ عَزَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ أَيْضًا إلَى الصَّحِيفَةِ وَكَذَلِكَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ وَإِنَّمَا حَذَفَ بَعْضُ الرُّوَاةِ ذِكْرَ الْعَهْدِ فَأَمَّا أَصْلُ الْحَدِيثِ فَوَاحِدٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ لَكَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ فِي وَقْتَيْنِ مَرَّةً مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ ذِي الْعَهْدِ وَتَارَةً مَعَ ذِكْرِ ذِي الْعَهْدِ وَأَيْضًا فَقَدْ وَافَقْنَا الشَّافِعِيَّ عَلَى أَنَّ ذِمِّيًّا لَوْ قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَوَدُ فَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ مَانِعًا مِنْ الْقِصَاصِ ابْتِدَاءً لَمَنَعَهُ إذَا طُرِئَ بَعْدَ وُجُوبِهِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصِ لِلِابْنِ عَلَى الْأَبِ إذَا قَتَلَهُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذَا وَرِثَ ابْنُهُ الْقَوَدَ مِنْ غَيْرِهِ فَمَنَعَ مَا عَرَضَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ اسْتِيفَائِهِ كَمَا مَنَعَ ابْتِدَاءَ وُجُوبِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ مُرْتَدًّا لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ وَلَوْ جَرَحَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْجِرَاحَةِ سَقَطَ الْقَوَدُ فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْقَتْلُ بَدِيًّا لَمَا وَجَبَ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ الْقَتْلِ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَقَاءِ حَيَاةِ النَّاسِ بقوله [وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ] وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي الذِّمِّيِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَرَادَ بَقَاءَهُ حِينَ حَقَنَ دَمَهُ بِالذِّمَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ كَمَا يُوجِبُهُ فِي قَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُكَ عَلَى هَذَا قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّهُ مَحْظُورُ الدَّمِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ الدَّمِ إبَاحَةً مُؤَجَّلَةً أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نَتْرُكُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَنُلْحِقُهُ بِمَأْمَنِهِ وَالتَّأْجِيلُ لَا يُزِيلُ عَنْهُ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ كَالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ لَا يُخْرِجُهُ التَّأْجِيلُ عَنْ وُجُوبِهِ وَاحْتَجَّ أيضا من منع القصاص
بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ
قالوا وهذا يمنع كون دم الكافر مكافيا لِدَمِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا قَالُوا لِأَنَّ
قَوْلَهُ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ
لَا يَنْفِي مُكَافَأَةَ دِمَاءَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَفَائِدَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَهِيَ إيجَابُ التَّكَافُؤِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ فَهَذِهِ كُلُّهَا فَوَائِدُ هَذَا الْخَبَرِ وَأَحْكَامُهُ وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَيْضًا إيجَابُ الْقَوَدِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَتَكَافُؤُ دِمَائِهِمَا وَنَفْيٌ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ إذَا قَتَلُوا الْقَاتِلَ أَوْ إعْطَاءِ نِصْفِ الدِّيَةِ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ قَتْلِهَا إذَا كَانَتْ هِيَ الْقَاتِلَةَ فإذا كان
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/177)
الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ
قَدْ أَفَادَ هَذِهِ الْمَعَانِي فَهُوَ حُكْمٌ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَذْكُورِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ التَّكَافُؤِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذَّمَّةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لم يمنع تكافي دماء الكفار حتى يقاد من بعضهم لبعض إذَا كَانُوا ذِمَّةً لَنَا فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تكافي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا سَرَقَهُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَادَ مِنْهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ دَمِهِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ مَالِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُقْطَعُ فِي مَال مَوْلَاهُ وَيُقْتَلُ بِهِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ كَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ وَهُمَا فِي تَحْرِيمِ الْقَتْلِ سَوَاءٌ وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ كَمَا ظَنَّ لِأَنَّ بِشْرَ بْنَ الْوَلِيدِ قَدْ رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ فِي قَتْلِ الْغِيلَةِ فَإِنَّهُمَا يَرَيَانِ ذَلِكَ حَدًّا لَا قَوَدًا وَالْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْقَتْلِ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ قَتْلِ الْغِيلَةِ وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ السُّنَنُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَعُمُومُهَا يُوجِبُ الْقَتْلَ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ فَمَنْ خَرَجَ عَنْهَا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ كَانَ مَحْجُوجًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَاب قَتْلِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَتْلِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ فَقَالَ عَامَّتُهُمْ لَا يُقْتَلُ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ قَالَ بِذَلِكَ أَصْحَابُنَا وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَسَوَّوْا بَيْنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ يُقَادُ الْجَدُّ بِابْنِ الِابْنِ وَكَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْجَدِّ لِابْنِ ابْنِهِ وَلَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا قُتِلَ بِهِ وَقَالَ مَالِكٌ يُقْتَلُ بِهِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا ذَبَحَهُ قُتِلَ بِهِ وَإِنْ حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ وَالْحُجَّةُ لِمَنْ أَبَى قَتْلَهُ
حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ)
وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَفِيضٌ مَشْهُورٌ وَقَدْ حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَنَحْوِهِ فِي لُزُومِ الْحُكْمِ بِهِ وَكَانَ فِي حَيَّزِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إبراهيم بن هاشم بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (لَا يُقَادُ الْأَبُ بِابْنِهِ)
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى قَالَ(1/178)
حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ)
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ لِرَجُلٍ (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ)
فَأَضَافَ نَفْسَهُ إلَيْهِ كَإِضَافَةِ مَالِهِ وَإِطْلَاقُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يَنْفِي الْقَوَدَ كَمَا يَنْفِي أَنْ يُقَادَ الْمَوْلَى بِعَبْدِهِ لِإِطْلَاقِ إضَافَتِهِ إلَيْهِ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْمِلْكَ فِي الظَّاهِرِ وَالْأَبُ وَإِنَّ كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ لِابْنِهِ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ اسْتِدْلَالَنَا بِإِطْلَاقِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ الْقَوَدَ يُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ وَصِحَّةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ شُبْهَةٌ فِي سُقُوطِهِ وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كسبه)
وقال صلّى الله عليه وسلم (إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ)
فَسَمَّى وَلَدَهُ كَسْبًا لَهُ كَمَا أَنَّ عَبْدَهُ كَسْبُهُ فَصَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِهِ وَأَيْضًا فَلَوْ قَتَلَ عَبْدَ ابْنِهِ لم يقتل به لأنه صلّى الله عليه وسلم سَمَّاهُ كَسْبًا لَهُ كَذَلِكَ إذَا قَتَلَ نَفْسَهُ وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ] الْآيَةَ فَأَمَرَ بِمُصَاحَبَةِ الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَأَمَرَهُ بِالشُّكْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ] وَقَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ قَتْلِهِ إذَا قَتَلَ وَلِيًّا لِابْنِهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ لِأَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَوَدَ بِقَتْلِ الِابْنِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الِابْنِ الْمَقْتُولِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ الْمَقْتُولُ لَمْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ عَنْهُ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى [إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً] وَلَمْ يُخَصِّصْ حَالًا دُونَ حَالٍ بَلْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ أَمْرًا مُطْلَقًا عَامًّا فَغَيْرُ جَائِزٍ ثُبُوتُ حق القود له عَلَيْهِ لِأَنَّ قَتْلَهُ لَهُ يُضَادُّهُ هَذِهِ الْأُمُورُ التي أمر الله تعالى لها فِي مُعَامَلَةِ وَالِدِهِ وَأَيْضًا
نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ وَكَانَ مُشْرِكًا مُحَارِبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ
وَكَانَ مَعَ قُرَيْشٍ يُقَاتِلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَوْ جَازَ لِلِابْنِ قَتْلُ أَبِيهِ فِي حَالٍ لَكَانَ أَوْلَى الْأَحْوَالِ بِذَلِكَ حَالَ مَنْ قَاتَلَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم وَهُوَ مُشْرِكٌ إذْ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ وَالذَّمِّ وَالْقَتْلِ مِمَّنْ هذه حاله فلما نهاه صلّى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَتْلَهُ بِحَالٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ لَوْ قَذَفَهُ لَمْ يُحَدَّ لَهُ وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ لَمْ يُحْبَسْ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُضَادُّ مُوجَبَ الْآيِ الَّتِي ذَكَرْنَا ومن الفقهاء(1/179)
مَنْ يَجْعَلُ مَالَ الِابْنِ لِأَبِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا يُجْعَلُ مَالُ الْعَبْدِ وَمَتَى أَخَذَ مِنْهُ لَمْ يُحْكَمْ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِهِ إلَّا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ مَالِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَكَانَ كَافِيًا فِي كَوْنِهِ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِهِ وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ يَخُصَّ آيَ الْقِصَاصِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَالِد غَيْرُ مُرَادٍ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الرَّجُلَيْنِ يشتركان في قتل الرجل
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها] وَقَالَ تَعَالَى [وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] ولا خلاف أن هذا الوعيد لا حق بِمَنْ شَارَكَ غَيْرَهُ فِي الْقَتْلِ وَأَنَّ عَشَرَةً لَوْ قَتَلُوا رَجُلًا عَمْدًا لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دَاخِلًا فِي الْوَعِيدِ قَاتِلًا لِلنَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا خَطَأً كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا فِي الْحُكْمِ لِلنَّفْسِ يَلْزَمُهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ مَا يَلْزَمُ الْمُنْفَرِدَ بِالْقَتْلِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَا يَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ فَيَثْبُتُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ مَنْ أَتْلَفَ جَمِيعَ النَّفْسِ وَقَالَ تَعَالَى [مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً] فَالْجَمَاعَةُ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ الْقَاتِلِ لِلنَّفْسِ وَلِذَلِكَ قُتِلُوا بِهِ جَمِيعًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ قَتَلَ اثنان رجل أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً أَوْ أَحَدُهُمَا مَجْنُونٌ وَالْآخَرُ عَاقِلٌ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخْطِئَ فِي حُكْمِ آخذ جميع النفس فيثبت لجميعها حُكْمُ الْخَطَإِ فَانْتَفَى مِنْهُمَا حُكْمُ الْعَمْدِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ ثُبُوتُ حُكْمِ الْخَطَإِ لِلْجَمِيعِ وَحُكْمُ الْعَمْدِ لِلْجَمِيعِ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ وَالْعَاقِلُ وَالصَّبِيُّ وَالْبَالِغُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْخَطَإِ لِلْجَمِيعِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً وَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْعَمْدِ لِلْجَمِيعِ وَجَبَ الْقَوَدُ فِيهِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي امْتِنَاعِ وُجُوبِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ فِي النَّفْسِ وَوُجُوبِ الْقَوَدِ مَعَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ اسْتِيفَائِهِمَا جَمِيعًا فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى وَجَبَ لِلنَّفْسِ الْمُتْلِفَةِ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ أَنْ لَا يَثْبُتَ مَعَهُ قَوَدٌ على أحد لأن وجوب يُوجِبُ ثُبُوتَ حُكْمِ الْعَمْدِ فِي الْجَمِيعِ وَثُبُوتُ حُكْمِ الْعَمْدِ فِي الْجَمِيعِ يَنْفِي وُجُوبَ الْأَرْشِ لِشَيْءٍ مِنْهَا وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّبِيِّ والبالغ والمجنون والعاقل والعمد وَالْمُخْطِئِ يَقْتُلَانِ رَجُلًا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ لَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَبَا الْمَقْتُولِ فَعَلَى الْأَبِ وَالْعَاقِلِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَالْمُخْطِئُ وَالْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَقَالَ مَالِكٌ إذَا اشْتَرَكَ الصَّبِيُّ(1/180)
والبالغ في قُتِلَ الرَّجُلُ وَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا الدِّيَةُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذا قتل رجلا مَعَ صَبِيِّ رَجُلًا فَعَلَى الصَّبِيِّ الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَكَذَلِكَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ إذَا قَتَلَا عَبْدًا وَالْمُسْلِمُ وَالنَّصْرَانِيُّ إذَا قَتَلَا نَصْرَانِيًّا قال وإن شَرَكَهُ قَاتِلٌ خَطَأً فَعَلَى الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَجِنَايَةُ الْمُخْطِئِ عَلَى عَاقِلَتِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَصَّلَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي قَتْلِ رَجُلٍ وَأَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْآخَرِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْآيِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَوَدِ عَلَى أَحَدِهِمَا عَمْدًا وَيَجِبُ الْمَالُ عَلَى الْآخَرِ لِحُصُولِ حُكْمِ الْخَطَإِ لِلنَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خَطَأً وَعَمْدًا مُوجِبًا لِلْمَالِ وَالْقَوَدِ فِي حَالِ وَاحِدَةٍ وَهِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ لَا تَتَبَعَّضُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مُتْلَفًا وَبَعْضُهَا حَيًّا لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ حَيًّا مَيِّتًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَلَمَّا امْتَنَعَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلَيْنِ فِي حُكْمِ الْمُتْلِفِ لِجَمِيعِهَا فَوَجَبَ بِذَلِكَ قِسْطُهَا مِنْ الدِّيَةِ عَلَى مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مَحْكُومًا لِلْجَمِيعِ بِحُكْمِ الْخَطَإِ فَلَا جَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُحْكَمَ لها بِحُكْمِ الْعَمْدِ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا جَمِيعُ الدِّيَةِ وَيُشْبِهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا الْوَاطِئَ لِجَارِيَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَتَبَعَّضْ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي نَصِيبِهِ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِهِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ لِعَدَمِ التَّبْعِيضِ فِيهِ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي رَجُلَيْنِ سَرَقَا مِنْ ابْنِ أَحَدِهِمَا إنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمُشَارَكَتِهِ فِي انْتِهَاكِ الْحِرْزِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَطْعَ فَإِنْ قال قائل إن تعلق حكم العامد عَلَى الْعَامِدِ وَالصَّحِيحِ وَالْبَالِغِ مُوجِبٌ عَلَيْهِ الْقَوَدَ بِقَضِيَّةِ اسْتِدْلَالِكَ بِالْآيِ الَّتِي تَلَوْتَ إذَا كَانَ قَاتِلًا لِجَمِيعِ النَّفْسِ مُتْلِفًا لِجَمِيعِ الْحَيَاةِ وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ فِي حَالِ الِاشْتِرَاكِ وَالِانْفِرَادِ وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ الْعَامِدُونَ لِقَتْلِ رَجُلٍ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْقَوَدَ إذْ كَانَ فِي حُكْمِ مَنْ أَتْلَفَ الْجَمِيعَ مُنْفَرِدًا بِهِ وَهَذَا يُوجِبُ قَتْلَ الْعَاقِلِ مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْبَالِغُ وَأَنْ لَا يَسْقُطَ بِمُشَارَكَةِ مَنْ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ قِيلَ لَهُ هَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُشَارِكَ الَّذِي
لَا قَوَدَ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ قِسْطُهُ مِنْ الدِّيَةِ وَلَمَّا وَجَبَ فِيهِ الْأَرْشُ انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُ الْعَمْدِ فِي الْجَمِيعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ امْتِنَاعِ تَبْعِيضِهَا فِي حَالِ الْإِتْلَافِ فَصَارَ الْجَمِيعُ فِي حُكْمِ الْخَطَإِ وَمَا لَا قَوَدَ فِيهِ وَلَمَّا كَانَ الواجب على الشريك الذي لم يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْقَوَدُ قِسْطَهُ مِنْ الدِّيَةِ دُونَ جَمِيعِهَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ الْخَطَإِ لَوْلَا ذَلِكَ(1/181)
لَوَجَبَ جَمِيعُ الدِّيَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا جَمِيعًا مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَوَدُ لَأَقَدْنَا مِنْهُمْ جَمِيعًا وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ الْقَاتِلِ مُنْفَرِدًا بِهِ فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى الْمُشَارِكِ الَّذِي لَا قَوَدَ عَلَيْهِ قِسْطُهُ مِنْ الدِّيَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ الْقَوَدِ وَأَنَّ النَّفْسَ قَدْ صَارَتْ فِي حُكْمِ الْخَطَإِ فَلِذَلِكَ انْقَسَمَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِهِمْ وَمِنْ حَيْثُ وَافَقْنَا الشَّافِعِيَّ فِي قَاتِلِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ أَنْ لَا قَوَدَ عَلَى الْعَامِدِ مِنْهُمَا لَزِمَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ لِمُشَارَكَتِهِ فِي الْقَتْلِ مَنْ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِيهِ وَأَيْضًا فَوَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْمَالِ وَالْقَوَدِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا فَوَجَبَ الْمَالُ انْتَفَى وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ إذَا وَجَبَ بِهِ الْمَهْرُ سَقَطَ الْحَدُّ وَكَذَلِكَ السَّرِقَةُ إذَا وَجَبَ بِهَا الضَّمَانُ سَقَطَ الْقَطْعُ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إلَّا مَعَ وُجُودِ الشُّبْهَةِ الْمُسْقِطَةِ لِلْقَوَدِ وَالْحَدِّ فَلَمَّا وَجَبَ الْمَالُ فِي مَسْأَلَتِنَا بِالِاتِّفَاقِ انْتَفَى بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِيمَا وَصَفْنَا أَوْلَى مِنْ إيجَابِهِ أَنَّ الْقَوَدَ قَدْ يتحول ما لا بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَالْمَالُ لَا يَتَحَوَّلُ قَوَدًا بِوَجْهٍ فكان مالا يَنْفَسِخُ إلَى غَيْرِهِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ مِمَّا يَنْفَسِخُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ إلَى الْآخَرِ وَكَانَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْ أَحَدِهِمَا مُسْقِطًا لَهُ عَنْ الْآخَرِ فَإِنْ قِيلَ فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْعَامِدِينَ إذَا قَتَلَا رَجُلًا ثُمَّ عَفَا الْوَلِيُّ عَنْ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْآخَرَ يُقْتَلُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَقُولُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيلَ لَهُ هَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُقِيدَ من العامد إذا شاركه المخطئ إذا كَانَتْ الشَّرِكَةُ لَا حَظَّ لَهَا فِي نَفْيِ الْقَوَدِ عَمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَوْ انْفَرَدَ وَإِنْ كَانَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْ أَحَدِ قَاتِلَيْ الْعَمْدِ بِالْعَفْوِ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْآخَرِ فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ فِي الْمُخْطِئِ وَالْعَامِدِ لَمْ يَلْزَمْنَا فِي الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَاقِلِ وَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ لِلْآخَرَيْنِ أَيْضًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءُ لَا يَجِبُ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ إذْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ وَجَدَهُ مِنْهُمَا دُونَ مَنْ لَمْ يَجِدْ وَأَيْضًا مَسْأَلَتُنَا فِي الْوُجُوبِ ابْتِدَاءً إذَا وَقَعَ الْقَتْلُ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ فَيَسْتَحِيلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ صَارَ فِي الْحُكْمِ كَمُتْلِفٍ دُونَ الْآخَرِ وَاسْتَحَالَ انْفِرَادُ أَحَدِهِمَا بِالْحُكْمِ دُونَ شَرِيكِهِ وَأَيْضًا فَالْوُجُوبُ حُكْمٌ غَيْرُ الِاسْتِيفَاءِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَيْهِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ اعْتِبَارُ حَالِ الِاسْتِيفَاءِ بِحَالِ الْوُجُوبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الِاسْتِيفَاءِ تَائِبًا وَلِيًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَجَائِزٌ أَنْ يَتُوبَ الزَّانِي فيكون(1/182)
حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بَاقِيًا عَلَيْهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ وُجُوبُ الْحَدِّ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَمَنْ اعْتَبَرَ حَالَ الْوُجُوبِ بِحَالِ الِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ مُغْفِلٌ لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَتَى عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ حُكْمُ قَتْلِهِ فَصَارَ الْبَاقِي فِي حُكْمِ الْمُنْفَرِدِ بِقَتْلِهِ فَلَزِمَهُ الْقَوَدُ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِسُقُوطِهِ عَنْ الْآخَرِ وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَمَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فَحُكْمُ فِعْلِهِ ثَابِتٌ عَلَى وَجْهِ الْخَطَإِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِحَظْرِ دَمِ مَنْ شَارَكَهُ إذْ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالنَّظَرِ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَمَّنْ شَارَكَهُ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ جَازَ أَنْ يَخُصَّ بِهِمَا مُوجِبَ حُكْمِ الْآيِ الْمَذْكُورِ فِيهَا الْقِصَاصُ مِنْ قَوْلِهِ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] وقوله [الْحُرُّ بِالْحُرِّ] وقوله [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً- والنَّفْسَ بِالنَّفْسِ] وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ السُّنَنِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ وَلِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ عَامٌّ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ بِالِاتِّفَاقِ وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَجَائِزٌ تَخْصِيصُهُ بِدَلَائِلِ النَّظَرِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَذَكَرَ الْمُزَنِيّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي مَنْعِهِ إيجَابَ الْقَوَدِ عَلَى الْعَامِدِ إذَا شَارَكَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ فَقَالَ إنْ كُنْتَ رَفَعْتَ عَنْهُ الْقَتْلَ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُمَا وَأَنَّ عَمْدَهُمَا خَطَأٌ فَهَلَّا أَقَدْتَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَتَلَ عَمْدًا مَعَ الْأَبِ لِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْ الْأَبِ لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ وَهَذَا تَرْكٌ لِأَصْلِهِ قَالَ الْمُزَنِيّ قَدْ شَرَكَ الشَّافِعِيُّ مُحَمَّدًا فِيمَا
أُنْكِرَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ رَفْعَ الْقِصَاصِ عَنْ الْمُخْطِئِ وَالْمَجْنُونِ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ حُكْمُ من شركهم في العمد واحد قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيُّ إلْزَامٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ لِأَنَّهُ أَلْزَمَهُ عَكْسَ الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَمْدُهُ خَطَأً أن لا يقيد الْمُشَارِكُ لَهُ فِي الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ عَمْدُهُ خَطَأً فَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ بَلْ حُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى دَلِيلِهِ لِأَنَّهُ عَكْسُ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ اعْتَلَّ بِعَلَّةٍ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَعْكِسَهَا وَيُوجِبَ مِنْ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهَا ضِدَّ مُوجِبِهَا عِنْدَ وُجُودِهَا أَلَا تَرَى أَنَّا إذَا قُلْنَا وُجُودُ الْغَرَرِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمُ بِجَوَازِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْغَرَرِ بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَمْنَعَ الْجَوَازَ عِنْدَ عَدَمِ الْغَرَرِ لِوُجُودِ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يَقْبِضْهُ بَائِعُهُ أَوْ شَرَطَ فِيهِ شَرْطًا لَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ أَوْ يَكُونَ مَجْهُولَ الثَّمَنِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمُفْسِدَةِ لِعُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَجَائِزٌ أَنْ يَجُوزَ الْبَيْعُ عِنْدَ زَوَالِ الْغَرَرِ عَلَى حَسَبِ قِيَامِ دَلَالَة الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي مَسَائِلِ الْعَقْدِ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى ارْتِيَاضٍ بِنَظَرِ الْفِقْهِ وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ فِي ذَلِكَ
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ(1/183)
السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ
وَقَتِيلُ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَاقِلِ وَالْمُخْطِئِ وَالْعَامِدِ هُوَ خَطَأُ العمد من وجهين أحدهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم فسر قتيل خَطَإِ الْعَمْدِ بِأَنَّهُ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فَإِذَا اشترك مجنون معه عصا وعاقل معه السيف فهو قتيل خطأ العمد لقضية النبي صلّى الله عليه وسلم فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا خَطَأٌ أَوْ عَمْدٌ أَوْ شِبْهُ عَمْدٍ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَتْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَمْدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْحَيِّزَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِنْ الْخَطَإِ أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ وَأَيُّهُمَا كَانَ فَقَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُ لَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إسْقَاطَ الْقَوَدِ عَنْ مُشَارِكِهِ فِي الْقَتْلِ لِأَنَّهُ قَتِيلُ خَطَأٍ أَوْ قَتِيلُ خَطَإِ الْعَمْدِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَوْجَبَ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ دِيَةً مُغَلَّظَةً وَمَتَى وَجَبَتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً انْتَفَى الْقَوَدُ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ قَتِيلُ خَطَإِ الْعَمْدِ إذَا انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا قِيلَ لَهُ مُشَارَكَةُ غَيْرِهِ فِيهِ بِالسَّيْفِ لَا تُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَقَتِيلَ خَطَأٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ كَانَ قَاتِلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَتِيلًا لكل واحد منهما فاشتمل لَفْظَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ وَانْتَفَى بِهِ الْقِصَاصُ فِي الْحَالَيْنِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ اخْتِلَافُ حُكْمِ مُشَارَكَةِ الْمَجْنُونِ لِلْعَاقِلِ وَالْمُخْطِئِ لِلْعَامِدِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا وَهُوَ مَجْنُونٌ ثُمَّ أَفَاقَ وَجَرَحَهُ أُخْرَى بَعْدَ الْإِفَاقَةِ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَى الْقَاتِلِ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ خَطَأً ثُمَّ جَرَحَهُ عَمْدًا وَمَاتَ مِنْهُمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَهُ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ جَرَحَهُ وَمَاتَ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَوْتَهُ مِنْ جِرَاحَتَيْنِ إحْدَاهُمَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْقَوَدِ وَالْأُخْرَى مُوجِبَةٌ يُوجِبُ إسْقَاطَ الْقَوَدِ وَلَمْ يَكُنْ لِانْفِرَادِ الْجِرَاحَةِ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا عَنْ الْأُخْرَى حُكْمٌ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ بَلْ كَانَ الْحُكْمُ لِلَّتِي لَمْ تُوجِبْ قَوَدًا فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إذَا مَاتَ مِنْ جِرَاحَةِ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَوْ انْفَرَدَ أَوْجَبَتْ جِرَاحَتُهُ الْقَوَدَ وَالْأُخْرَى لَا تُوجِبُهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ سُقُوطِهِ أَوْلَى مِنْ حُكْمِ إيجَابِهِ لِحُدُوثِ الْمَوْتِ مِنْهُمَا فَكَانَ حُكْمُ مَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ أَوْلَى من حكم ما يوجبه والعلة فيهما مَوْتُهُ مِنْ جِرَاحَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِمَّا تُوجِبُ الْقَوَدَ وَالْأُخْرَى مِمَّا لَا تُوجِبُهُ وَالْمَعْنَى الْآخَرُ مَا قَسَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ بَدِيًّا هُوَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُخْطِئِ وَالْعَامِدِ وَبَيْنَ الْمَجْنُونِ وَالْعَاقِلِ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ كَمَا لَمْ تَخْتَلِفْ جِنَايَةُ الْمَجْنُونِ فِي حَالِ جُنُونِهِ ثُمَّ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ إذَا حَدَثَ الْمَوْتُ مِنْهُمَا وَجِنَايَةُ الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ إذَا حَدَثَ الْمَوْتُ(1/184)
مِنْهُمَا فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ فِي الْحَالَيْنِ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ جِنَايَةِ الصَّحِيحِ لِمُشَارَكَةِ الْمَجْنُونِ وَحُكْمُ جِنَايَةِ الْعَامِدِ لِمُشَارَكَةِ الْمُخْطِئِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ مَا يَجِبُ لِوَلِيِّ قَتِيلِ الْعَمْدِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] وَقَالَ تَعَالَى [وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ] وَقَالَ تَعَالَى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً] وَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ بِهِ وَقَالَ تَعَالَى [وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ] وَقَالَ [فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ] فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إيجَابَ الْقِصَاصِ لَا غَيْرُ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجِبِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إلَّا الْقِصَاصُ وَلَا يَأْخُذُ الدِّيَةَ إلَّا بِرِضَى الْقَاتِلِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ الْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْقَاتِلُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ عَفَا الْمُفْلِسُ عن القصاص جاز ولم يكن لأهل الوصايا وَالدَّيْنِ مَنْعُهُ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يُمْلَكُ بِالْعَمْدِ إلَّا بِمَشِيئَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ حَيًّا أَوْ بِمَشِيئَةِ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَ مَيِّتًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ ظَوَاهِرِ آيِ الْقُرْآنِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ فِي اللَّفْظِ يُوجِبُ الْقِصَاصَ دُونَ الْمَالِ وَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ نَسْخُهُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ تُوجِبُ نَسْخَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ] فَحَظَرَ أَخْذَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِرِضَاهُ عَلَى وَجْهِ التِّجَارَةِ وَبِمِثْلِهِ
قَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ)
فَمَتَى لَمْ يَرْضَ الْقَاتِلُ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ وَلَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسُهُ فَمَالُهُ مَحْظُورٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَدَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْعَمْدُ قَوَدٌ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ)
وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ قُتِلَ فِي عِمِّيَّا أَوْ فِي زَحْمَةٍ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ أَوْ رِمِّيًّا تَكُونُ بَيْنَهُمْ بِحَجَرٍ أَوْ سَوْطٍ أَوْ عَصًا فَعَقْلُهُ عَقْلُ خَطَأٍ وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا فَقَوَدُ يَدَيْهِ فَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)
فَأَخْبَرَ صلّى الله عليه وسلم فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ وَلَوْ كَانَ لَهُ خِيَارٌ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْقَوَدِ دُونَهَا لأنه(1/185)
غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ على وجه التخيير ويقتصر صلّى الله عليه وسلم بِالْبَيَانِ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ نَفْيِ التَّخْيِيرِ وَمَتَى ثَبَتَ فِيهِ تَخْيِيرٌ بَعْدَهُ كَانَ نَسْخًا لَهُ فَإِنْ قِيلَ قَدْ رَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ هَذَا الْحَدِيثَ الْآخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَلَا رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَ بِهِ مَرَّةً هَكَذَا غَيْرَ مَرْفُوعٍ وَحَدَّثَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى كَمَا حَدَّثَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ سَيِّئَ الْحِفْظِ كَثِيرَ الْخَطَإِ وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ طَاوُسٌ رَوَاهُ مرة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَمَرَّةً أَفْتَى بِهِ وَأَخْبَرَ عَنْ اعْتِقَادِهِ فَلَيْسَ إذًا فِي ذَلِكَ مَا يُوهِنُ الْحَدِيثَ وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ] فَقَالَ قَائِلُونَ الْعَفْوُ مَا سَهُلَ وَمَا تَيَسَّرَ قال الله تعالى [خُذِ الْعَفْوَ] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا سَهُلَ مِنْ الْأَخْلَاقِ
وقال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ)
يَعْنِي تَيْسِيرَ اللَّهِ وَتَسْهِيلَهُ عَلَى عِبَادِهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ] يَعْنِي الْوَلِيَّ إذَا أُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ فَلْيَقْبَلْهُ وَلْيَتَّبِعْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُؤَدِّ الْقَاتِلُ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ فندبه تَعَالَى إلَى أَخْذِ الْمَالِ إذَا سَهُلَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْقَاتِلِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَخْفِيفٌ مِنْهُ وَرَحْمَةٌ كَمَا قَالَ عَقِيبَ ذِكْرِ الْقِصَاصِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ [فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ] فَنَدَبَهُ إلَى الْعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ وَكَذَلِكَ نَدَبَهُ بِمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَى قَبُولِ الدِّيَةِ إذَا بَذَلَهَا الْجَانِي لِأَنَّهُ بَدَأَ بِذِكْرِ عَفْوِ الْجَانِي بِإِعْطَاءِ الدِّيَةِ ثُمَّ أَمَرَ الْوَلِيَّ بِالِاتِّبَاعِ وَأَمَرَ الْجَانِيَ بِالْأَدَاءِ بِالْإِحْسَانِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمَعْنَى فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ كَانَ الْقِصَاصُ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى - إلَى قَوْلِهِ- فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ [فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ] فِيمَا كَانَ كُتِبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ [فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ] قَالَ بَعْدَ قَبُولِ الدِّيَةِ فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ نَاسِخَةً لِمَا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ حَظْرِ قَبُولِ الدِّيَةِ وَأَبَاحَتْ لِلْوَلِيِّ قَبُولَ الدِّيَةِ إذَا بَذَلَهَا الْقَاتِلُ تَخْفِيفًا مِنْ اللَّهِ عَلَيْنَا وَرَحْمَةً بِنَا فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مُخَالِفُنَا مِنْ إيجَابِ التَّخْيِيرِ لَمَا قَالَ فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ لأن(1/186)
الْقَبُولَ لَا يُطْلَقُ إلَّا فِيمَا بَذَلَهُ غَيْرُهُ لو لَمْ يَكُنْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ إذَا اخْتَارَ الْوَلِيُّ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى كَانَ عِنْدَ جَوَازِ تَرَاضِيهِمَا عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ امْتِنَاعِ قَبُولِ الدِّيَةِ ثَابِتٌ عَلَى مَنْ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن محمد بن إسحاق الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عن قتادة فِي قَوْله تَعَالَى [فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ] قَالَ يَقُولُ مَنْ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الدِّيَةُ وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ مَا
رَوَى سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ ابْنِ أَشْوَعَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنْ الْعَرَبِ قِتَالٌ فَقُتِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ فَقَالَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ لَا نَرْضَى حَتَّى نَقْتُلَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ وَبِالرَّجُلِ الرَّجُلَيْنِ وَارْتَفَعُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَتْلُ بَوَاءٌ أَيْ سَوَاءٌ
فَاصْطَلَحُوا عَلَى الدِّيَاتِ فَفَضَلَ لِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَهُوَ قَوْله تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ- إلَى قَوْلِهِ- فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ] قَالَ سُفْيَانُ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شيء يَعْنِي فَمَنْ فَضَلَ لَهُ عَلَى أَخِيهِ شَيْءٌ فَلْيُؤَدِّهِ بِالْمَعْرُوفِ فَأَخْبَرَ الشَّعْبِيُّ عَنْ السَّبَبِ فِي نُزُولِ الْآيَةِ وَذَكَرَ سُفْيَانُ أَنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ هاهنا الْفَضْلُ وَهُوَ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ قَالَ اللَّهُ تعالى [حَتَّى عَفَوْا] يعنى كثروا
وقال صلّى الله عليه وسلم (أَعْفُوا اللِّحَى)
فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ فَضَلَ لَهُ عَلَى أَخِيهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَاتِ التي وقع الاصطلاح عليها فليتبعه مستحقه بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُؤَدِّ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا
هُوَ فِي الدَّمِ بَيْنَ جَمَاعَةٍ إذَا عَفَا بَعْضُهُمْ تَحَوَّلَ نَصِيبُ الْآخَرِينَ مَالًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ
وَعَبْدِ اللَّهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ وَهَذَا تَأْوِيلُ لَفْظِ الْآيَةِ يُوَافِقُهُ لِأَنَّهُ قَالَ [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ] وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْعَفْوِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ لَا عَنْ جَمِيعِهِ فَيَتَحَوَّلُ نَصِيبُ الشُّرَكَاءِ مالا وعليهم اتباع القتل بالمعروف عليه أَدَاؤُهُ إلَيْهِمْ بِإِحْسَانِ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَخْذُ الْمَالِ بِغَيْرِ رِضَى الْقَاتِلِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ لِأَنَّ الْعَفْوَ لَا يَكُونُ مَعَ أَخْذِ الدِّيَةِ أَلَا تَرَى
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْعَمْدُ قَوَدٌ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ)
فَأُثْبِتَ لَهُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ قَتْلٌ أَوْ عَفْوٌ وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ مَالًا بِحَالٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إذَا عَفَا عَنْ الدَّمِ لِيَأْخُذَ الْمَالَ كَانَ عَافِيًا وَيَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْآيَةِ قِيلَ لَهُ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ فَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَافِيًا بِتَرْكِ الْمَالِ وَأَخْذِ الْقَوَدِ فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو الْوَلِيُّ مِنْ عَفْوِ قَتْلٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ وَهَذَا فَاسِدٌ(1/187)
لَا يُطْلِقُهُ أَحَدٌ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يَنْفِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْعَافِي بِتَرْكِ الْقَوَدِ وَأَخْذِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ عَفَا لَهُ وَإِنَّمَا يُقَالَ لَهُ عَفَا عَنْهُ فَيَتَعَسَّفُ فَيُقِيمُ اللَّامَ مَقَامَ عن أو يحمله على أنه عفا له عَنْ الدَّمِ فَيُضْمِرُ حَرْفًا غَيْرَ مَذْكُورٍ وَنَحْنُ مَتَى اسْتَغْنَيْنَا بِالْمَذْكُورِ عَنْ الْمَحْذُوفِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ الْحَذْفِ وَعَلَى أَنَّ تَأْوِيلَنَا هُوَ سَائِغٌ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ ضَمِيرٍ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى التَّسْهِيلِ مِنْ جِهَةِ الْقَاتِلِ بِإِعْطَائِهِ الْمَالَ وَمِنْ جهة أخرى يخالف ظاهرها هو أن قوله [مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ] فَقَوْلُهُ [مِنْ] تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَتُهَا وَبَابُهَا إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ فَيُوجِبُ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ دَمِ أَخِيهِ وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ هُوَ عَفْوٌ عَنْ جَمِيعِ الدَّمِ وَتَرْكُهُ إلَى الدِّيَةِ وَفِيهِ إسْقَاط حكم من ومن وجه آخر وهو قوله [شَيْءٌ] وَهَذَا أَيْضًا يُوجِبُ الْعَفْوَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ لَا عَنْ جَمِيعِهِ فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْجَمِيعِ لَمْ يُوفِ الْكَلَامَ حَظَّهُ مِنْ مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ عَنْ الدَّمِ وَطُولِبَ بِالدِّيَةِ فأسقط حكم قوله [مِنْ- وقوله- شَيْءٌ] وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى إلْغَاءِ شَيْءٍ مِنْ لَفْظِهَا مَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَتَى اُسْتُعْمِلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ مُوَافِقًا لِظَاهِرِ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ إسْقَاطٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ التَّأْوِيلُ مَا ذَكَرَهُ الشَّعْبِيُّ مِنْ نُزُولِهَا عَلَى السَّبَبِ وَمَا فَضَلَ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ الدِّيَاتِ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ فَضَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ فِيهِ التَّقَاضِي وَذَلِكَ بَعْضٌ من جملة وشيء منها فتناوله اللَّفْظَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ أَنَّهُ إنْ سَهَّلَ لَهُ بِإِعْطَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ فَالْوَلِيُّ مَنْدُوبٌ إلَى قَبُولِهِ مَوْعُودٌ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ فَذَلِكَ قَدْ يَتَنَاوَلُ أَيْضًا لِلْبَعْضِ بِأَنْ يَبْذُلَ بَعْضَ الدِّيَةِ وَذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ كُلٍّ مِمَّا أَتْلَفَهُ وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ الْإِخْبَارَ بِنَسْخِ مَا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ إيجَابِ حُكْمِ القود ومنع أَخْذِ الْبَدَلِ فَتَأْوِيلُنَا أَيْضًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَدُّ مُلَاءَمَةً لِمَعْنَى الْآيَةِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ جَوَازَ الصُّلْحِ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَقَعُ الِاصْطِلَاحُ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَذَكَرَ الْبَعْضَ وَأَفَادَ بِهِ حُكْمَ الْكُلِّ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى [فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما] نص على هَذَا الْقَوْلُ بِعَيْنِهِ وَأَرَادَ بِهِ مَا فَوْقَهُ فِي نَظَائِرَ لِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ عَفْوَ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ نَصِيبِهِ فَهُوَ أَيْضًا يُوَاطِئُ ظَاهِرَ الْآيَةِ لِوُقُوعِ الْعَفْوِ عَنْ الْبَعْضِ دُونَ الْجَمِيعِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُصْرَفُ تَأْوِيلُ الْمُتَأَوِّلِينَ مِمَّنْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُ فَتَأْوِيلُهُ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ غَيْرَ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أن للولي العفو عن(1/188)
الْجَمِيعِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَعَانِي الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا عَنْ مُتَأَوِّلِيهَا مُرَادَةً بِالْآيَةِ فَيَكُونُ نُزُولُهَا عَلَى سَبَبَ نَسْخٍ بِهَا مَا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَأُبِيحَ لنا أَخْذُ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ وَيَكُونُ الْوَلِيُّ مَنْدُوبًا إلَى الْقَبُولِ إذَا تَسَهَّلَ لَهُ الْقَاتِلُ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ وَمَوْعُودًا عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ وَيَكُونُ السَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ حُصُولَ الْفَضْلِ مِنْ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ فِي الدِّيَاتِ فَأُمِرُوا بِهِ بِالِاتِّبَاعِ بِالْمَعْرُوفِ وَأُمِرَ الْقَاتِلُ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِمْ بِإِحْسَانٍ وَيَكُونُ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الدَّمِ إذَا عَفَا عَنْهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِيهَا تَحْتَمِلُهَا الْآيَةُ وَهِيَ مُرَادَةٌ مِنْ غَيْرِ إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ لَفْظِهَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ وَمَا تَأَوَّلَهُ الْمُخَالِفُونَ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ لِلْوَلِيِّ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْقَاتِلِ تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا إذْ لَيْسَ فِيهِ نَفْيٌ لِتَأْوِيلَاتِ الْآخَرِينَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ] مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَرَكَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ عَفَتِ الْمَنَازِلُ إذَا تُرِكَتْ حَتَّى دُرِسَتْ وَالْعَفْوُ عَنْ الذُّنُوبِ تَرْكُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا فَيُفِيدُ ذَلِكَ تَرْكَ الْقَوَدِ إلَى الدِّيَةِ قِيل لَهُ إنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَوْ تَرَكَ الدِّيَةَ وَأَخَذَ الْقَوَدَ أَنْ يَكُونَ عَافِيًا لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِأَخْذِ الدِّيَةِ وَقَدْ يُسَمَّى تَرْكُ الْمَالِ وَإِسْقَاطُهُ عَفْوًا قَالَ اللَّهُ [فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ] فَأَطْلَقَ
اسْمَ الْعَفْوِ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنْ الْمَالِ وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ امْتِنَاعُ إطْلَاقِ الْعَفْوِ عَلَى مَنْ آثَرَ أَخْذَ الْقَوَدِ وَتَرَكَ أَخْذَ الدِّيَةِ فَكَذَلِكَ الْعَادِلُ عَنْ الْقَوَدِ إلَى أَخْذِ الدِّيَةِ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْعَافِي إذْ كَانَ إنَّمَا اختار أحد الشيئين كَانَ مُخَيَّرًا فِي اخْتِيَارِ أَيِّهِمَا شَاءَ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَحَدِ شَيْئَيْنِ فَاخْتَارَ أحدهما كان الذي اختاره هو حقه الْوَاجِبِ لَهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ عِنْدَ فِعْلِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ اخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَانَ الْعِتْقُ هُوَ كَفَّارَتَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ وَسَقَطَ عَنْهُ حُكْمُ مَا عَدَاهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَرْضِهِ كَذَلِكَ هَذَا الْوَلِيُّ لَوْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَحَدِ شَيْئَيْنِ مِنْ قَوَدٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْعَافِي لِتَرْكِهِ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ فَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْعَفْوِ مُنْتَفِيًا عَمَّنْ ذَكَرْنَا حاله لَمْ يَجُزْ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ وَكَانَتْ الْمَعَانِي الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا أَوْلَى بِتَأْوِيلِهَا ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو الْوَاجِبُ لِلْوَلِيِّ بِنَفْسِ الْقَتْلِ أَنْ يَكُونَ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ جَمِيعًا أَوْ الْقَوَدَ دُونَ الدِّيَةِ أَوْ أَحَدَهُمَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ لَا جَائِزٌ أن يكون حقه الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا عَلَى حَسَبِ مَا يَخْتَارُهُ الْوَلِيُّ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الكتاب(1/189)
هُوَ الْقِصَاصُ وَفِي إثْبَاتِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ وَنَفْيٌ لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ وَمِثْلُهُ عِنْدَنَا يُوجِبُ النَّسْخَ فَإِذَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدُ لَا غَيْرُهُ فَلَا جَائِزٌ لَهُ أَخْذُ الْمَالِ إلَّا بِرِضَى الْقَاتِلِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ قِبَلَ غَيْرِهِ حَقٌّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءَهُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ نَقْلُهُ إلَى بَدَلٍ غَيْرِهِ إلا يرضى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَعَلَى أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ مُخْطِئٌ فِي الْعِبَارَةِ حِينَ قَالَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدُ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهِ إذْ قَدْ جَعَلَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقَوَدَ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ الْمَالَ فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ الْوَاجِبُ هُوَ الْمَالُ وَلَهُ نَقْلُهُ إلَى الْقَوَدِ بَدَلًا مِنْهُ كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ فَلَمَّا فَسَدَ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمَالُ وَلَهُ نَقْلُهُ إلَى الْقَوَدِ لِإِيجَابِهِ التَّخْيِيرَ كَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدُ وَلَهُ نَقْلُهُ إلَى الْمَالِ إذْ لَمْ يَنْفَكَّ فِي الْحَالَيْنِ مِنْ إيجَابِ التَّخْيِيرِ بِنَفْسِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا كَتَبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصَ بِقَوْلِهِ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] وَلَمْ يَقُلْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْمَالُ فِي الْقَتْلَى وَلَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ أَوْ الْمَالُ فِي الْقَتْلَى وَالْقَائِلُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقَوَدُ وَلَهُ نَقْلُهُ إلَى الْمَالِ إنَّمَا عَبَّرَ عَنْ التَّخْيِيرِ الَّذِي أَوْجَبَهُ لَهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَأَخْطَأَ فِي الْعِبَارَةِ عَنْهُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا كَمَا تَقُولُ إنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ وَلَهُمَا جَمِيعًا نَقْلُهُ إلَى الْمَالِ بِتَرَاضِيهِمَا وَلَمْ يَكُنْ فِي جَوَازِ تَرَاضِيهِمَا عَلَى نَقْلِهِ إلَى الْمَالِ إسْقَاطٌ لِمُوجَبِ حُكْمِ الْآيَةِ مِنْ الْقِصَاصِ قِيلَ لَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا بَدِيًّا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ لِلْوَلِيِّ عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ تَخْيِيرٍ لَهُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَغَيْرِهِ وَتَرَاضِيهِمَا عَلَى نَقْلِهِ إلَى الْبَدَلِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ دُونَ غَيْرِهِ لأن ما تعلق حكمه بتراضيهما لا يؤثر فِي الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَمْلِكُ الْعَبْدَ وَالدَّارَ وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ بِرِضَاهُ وَلَيْسَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ نَفْيٌ لِمِلْكِ الْأَصْلِ لِمَالِكِهِ الْأَوَّلِ وَلَا مُوجِبًا لَأَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْخِيَارِ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَمْلِكُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ وَيَمْلِكُ الْخُلْعَ وَأَخْذَ الْبَدَلِ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إثْبَاتُ مِلْكِ الطَّلَاقِ لَهُ بَدِيًّا عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي نَقْلِهِ إلَى المال من غير رضى الْمَرْأَةِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَأْخُذَ الْمَالَ بَدِيًّا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا لَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ مَالٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْقَتْلِ هُوَ الْقَوَدَ لَا غَيْرُ حَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي قَدَّمْنَا إسْنَادَهُ فِي قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ حِينَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ
فَأَخْبَرَ أَنَّ مُوجَبَ الْكِتَابِ هُوَ الْقِصَاصُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إثْبَاتُ شَيْءٍ مَعَهُ وَلَا نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ(1/190)
بِهِ نَسْخُ الْكِتَابِ وَلَوْ سَلَّمْنَا احْتِمَالَ الْآيَةِ لِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ تَأْوِيلِهَا فِي جَوَازِ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْقَاتِلِ فِي قَوْلِهِ [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ] مَعَ احْتِمَالِهِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا كَانَ أَكْبَرُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُتَشَابِهًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ] مُحْكَمٌ ظَاهِرُ الْمَعْنَى بَيِّنُ الْمُرَادِ لَا اشْتِرَاكَ في لفظه لا احْتِمَالَ فِي تَأْوِيلِهِ وَحُكْمُ الْمُتَشَابِهِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى الْمُحْكَمِ وَيُرَدَّ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ- إلى قوله- وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ] فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ لِأَنَّ وَصْفَهُ لِلْمُحْكَمِ بِأَنَّهُ أُمُّ الْكِتَابِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ وَمَعْنَاهُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ إذْ كَانَ أُمُّ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ ابْتِدَاؤُهُ وَإِلَيْهِ مَرْجِعُهُ ثُمَّ ذَمَّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ وَاكْتَفَى بِمَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ تَأْوِيلِهِ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ لَهُ إلَى الْمُحْكَمِ وَحَمْلِهِ عَلَى مُوَافَقَتِهِ فِي مَعْنَاهُ وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالزَّيْغِ فِي قُلُوبِهِمْ بِقَوْلِهِ [فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ] مُحْكَمٌ وَقَوْلَهُ [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ] مُتَشَابِهٌ وَجَبَ حَمْلُ مَعْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الْمُحْكَمِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لَهُ وَلَا إزَالَةٍ لِشَيْءٍ مِنْ حُكْمِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِمَّا لَا يَنْفِي مُوجَبَ لَفْظِ الْآيَةِ مِنْ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى آخَرَ يُضَمُّ إلَيْهِ وَلَا عُدُولَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى [فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ] إذْ كَانَتْ النَّفْسُ مِثْلًا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَلِيُّ وَهُوَ الْقَوَدُ فَإِذَا كَانَ الْمِثْلُ هُوَ الْقَوَدَ وَإِتْلَافَ نَفْسِهِ كَمَا أَتْلَفَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُتْلِفِ الْمَالِ الَّذِي لَهُ مِثْلٌ وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِالتَّرَاضِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى [بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ] وَبِدَلَالَةِ الْأُصُولِ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ لِلْوَلِيِّ الْخِيَارَ بَيْنَ الْقَوَدِ وَأَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ رضى القاتل بأخبار منها
حديث يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَتْحِ مَكَّةَ (مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمَّا أَنْ يُودَى)
وَحَدِيثُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عن أبى ذيب قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا شريح الكعبي يقول قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (أَلَا إنَّكُمْ مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ وَإِنِّي عَاقِلُهُ فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا)
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق عن الحرث بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الْعَرْجَاءِ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(1/191)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أو بخبل يعنى بالخبل الجراح فوليه بالخيار بين أحد ثَلَاثٍ بَيْنَ الْعَفْوِ أَوْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِمَا ذَكَرُوا لِاحْتِمَالِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَخْذَ الدِّيَةِ بِرِضَى الْقَاتِلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى [فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً] المعنى فِدَاءً بِرِضَى الْأَسِيرِ فَاكْتَفَى بِالْمَحْذُوفِ عَنْ ذِكْرِهِ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَالِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ إيَّاهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَذَلِكَ قَوْلُهُ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ وَقَوْلُهُ أَوْ يُودَى وَكَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى غَيْرِهِ إنْ شِئْتَ فَخُذْ دَيْنَك دَرَاهِمَ وَإِنْ شِئْتَ دنانير وكما
قال صلّى الله عليه وسلم لِبِلَالٍ حِينَ أَتَاهُ بِتَمْرٍ أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا فَقَالَ لَا وَلَكِنَّا نَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْهُ بالصاعين والصاعين بثلاثة
فقال صلّى الله عليه وسلم لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ بِعْ تَمْرَكَ بِعَرْضٍ ثُمَّ خُذْ بِالْعَرْضِ
هَذَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ أَنْ يَأْخُذَ التَّمْرَ بِالْعَرْضِ بِغَيْرِ رِضَى الْآخَرِ وَيَكُونُ ذِكْرُهُ الدِّيَةَ إبَانَةً عَمَّا نَسَخَهُ اللَّهُ عَمَّا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ امْتِنَاعِ أَخْذِ الدِّيَةِ بِرِضَى الْقَاتِلِ وَبِغَيْرِ رِضَاهُ تَخْفِيفًا عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقِصَاصَ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَخْذُ الدِّيَةِ فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَيَدُلُّ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَخْذُ الدِّيَةِ بِرِضَى الْقَاتِلِ
أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ قَدْ رَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِيهِ (مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمَّا أَنْ يُفَادِيَ)
وَالْمُفَادَاةُ إنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ كَالْمُقَاتَلَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ أَخْذُ الدِّيَةِ بِرِضَى الْقَاتِلِ وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ هُوَ الْقَوَدُ وَلِلْوَلِيِّ نَقْلُهُ إلَى الدِّيَةِ لِأَنَّ فِي جَمِيعِهَا إثْبَاتَ التَّخْيِيرِ لِلْوَلِيِّ بِنَفْسِ الْقَتْلِ بَيْنَ الْقَوَدِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدَ لَا غَيْرُ وَإِنَّمَا لِلْوَلِيِّ نَقْلُهُ إلَى الدِّيَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ كَمَا يَنْقُلُ الدَّيْنَ إلَى الْعَرْضِ وَالْعَرْضَ إلَى الدَّيْنِ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ عَنْهُ وَلَيْسَ هُنَاكَ خِيَارٌ مُوجِبٌ بِنَفْسِ الْقَتْلِ بَلْ الْوَاجِبُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْقَوَدُ وَالْقَائِلُ بِإِيجَابِ الْقَوَدِ بِالْقَتْلِ دُونَ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَنْقُلَهُ الْوَلِيُّ إلَى الدِّيَةِ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْآثَارِ
وَقَدْ رَوَى الْأَنْصَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كِتَابُ اللَّهِ القصاص)
وذلك ينفى كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ الْمَالَ أَوْ الْقِصَاصَ
وَقَدْ رَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ ثُمَّ قَالَ أَتَعْفُو قَالَ لَا قَالَ أَفَتَأْخُذُ الدِّيَةَ قَالَ لَا قَالَ أَمَا إنَّك إنْ قَتَلْتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ فَمَضَى الرَّجُلُ فَلَحِقَهُ النَّاسُ فَقَالُوا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ(1/192)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَا إنَّكَ إنْ قَتَلْتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ فَعَفَا عَنْهُ
فَاحْتَجَّ الْمُوجِبُونَ لِلْخِيَارِ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالْمَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا وذلك لأنه يحتمل أن يريد أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ بِرِضَى الْقَاتِلِ كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ حِينَ جَاءَتْ تَشْكُوهُ أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ قَالَتْ نَعَمْ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ رِضَى ثَابِتٍ قَدْ كَانَ مَشْرُوطًا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا
في الخبر لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُلْزِمُ ثَابِتًا الطَّلَاقَ وَلَا يُمَلِّكُهُ الْحَدِيقَةَ إلا برضاه
وجائز أن النبي صلّى الله عليه وسلم قَصَدَ إلَى أَنْ يَعْقِدَ عَقْدًا عَلَى مَالٍ فَيَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى رِضَى الْقَاتِلِ أَوْ فَسْخِهِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ الدِّيَةَ مِنْ عِنْدِهِ كَمَا فَعَلَ فِي قَتِيلِ الْخُزَاعِيِّ بِمَكَّةَ وَكَمَا تَحَمَّلَ عَنْ الْيَهُودِ دِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الَّذِي وُجِدَ قَتِيلًا بِخَيْبَرَ
وقوله صلّى الله عليه وسلم إنْ قَتَلْتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ
يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّكَ قَاتِلٌ كَمَا أَنَّهُ قَاتِلٌ لَا أَنَّكَ مِثْلُهُ فِي الْمَأْثَمِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقًّا لَهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ عَلَيْهِ وَالْأَوَّلُ فَعَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَكَانَ آثِمًا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ كُنْتَ مِثْلَهُ فِي الْمَأْثَمِ وَالْآخَرُ أَنَّكَ إذَا قَتَلْتَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَيْتَ حَقَّكَ مِنْهُ وَلَا فَضْلَ لَكَ عَلَيْهِ وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْإِفْضَالِ بِالْعَفْوِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ] فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إحْيَاءُ نَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إذَا اخْتَارَ الْوَلِيُّ أَخْذَ الْمَالِ قِيلَ لَهُ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُحْيِيَ غَيْرَهُ إذَا خَافَ عَلَيْهِ التَّلَفَ مِثْلَ أَنْ يَرَى إنْسَانًا قَدْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِالْقَتْلِ أَوْ خَافَ عَلَيْهِ الْغَرَقَ وَهُوَ يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُهُ أَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ وَخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ مِنْ الْجُوعِ فَعَلَيْهِ إحْيَاؤُهُ بِإِطْعَامِهِ وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْقَاتِلِ إعْطَاءُ الْمَالِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ فَعَلَى الْوَلِيِّ أَيْضًا إحْيَاؤُهُ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ فَوَجَبَ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ إجْبَارُ الْوَلِيِّ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ إذَا بَذَلَهُ الْقَاتِلُ وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ الْقِصَاصِ أَصْلًا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إحْيَاءُ نَفْسِ الْقَاتِلِ فَعَلَيْهِمَا التَّرَاضِي عَلَى أَخْذِ الْمَالِ وَإِسْقَاطِ الْقَوَدِ وَأَيْضًا فَيَنْبَغِي إذَا طَلَبَ الْوَلِيُّ دَارِهِ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ دِيَاتٍ كَثِيرَةً أَنْ يُعْطِيَهُ لِأَنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِيمَا يَلْزَمُهُ إحْيَاءُ نَفْسِهِ حُكْمُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ إعْطَاءُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ كَانَ بِذَلِكَ انْتِقَاضُ هَذَا الِاعْتِلَالِ وَفَسَادُهُ وَاحْتَجَّ الْمُزَنِيّ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ لَوْ صَالَحَ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى مَالٍ أَوْ مِنْ كَفَالَةٍ بِنَفْسٍ لَبَطَلَ الْحَدُّ وَالْكَفَالَةُ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا وَلَوْ صَالَحَ مِنْ دَمٍ عَمْدٍ عَلَى مَالٍ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ قُبِلَ ذَلِكَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ دَمَ الْعَمْدِ مَالٌ فِي الْأَصْلِ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا صَحَّ الصُّلْحُ كَمَا لَمْ يَصِحَّ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ وَالْكَفَالَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ انْتَظَمَ هَذَا الِاحْتِجَاجَ الْخَطَأُ وَالْمُنَاقَضَةُ(1/193)
فَأَمَّا الْخَطَأُ فَهُوَ أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَبْطُلُ بِالصُّلْحِ وَيَبْطُلُ الْمَالُ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِيهَا رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا لَا تَبْطُلُ أَيْضًا وَالْأُخْرَى أَنَّهَا تَبْطُلُ وَأَمَّا الْمُنَاقَضَةُ فَهِيَ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى الطَّلَاقِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ بِمَالٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلْزِمَهَا مَالًا عَنْ طَلَاقٍ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَعَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ فِيمَا حَكَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْهُ إنَّ عَفْوَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَنْ الدَّمِ جَائِزٌ وَلَيْسَ لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا وَالدَّيْنِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يُمْلَكُ فِي الْعَمْدِ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ الدَّمُ مَالًا فِي الْأَصْلِ لَثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ عِنْدَهُ هُوَ الْقَوَدُ لَا غَيْرُ وَأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ لَهُ خِيَارًا بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ الدِّيَةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَوْله تَعَالَى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً] يُوجِبُ لِوَلِيِّهِ الْخِيَارَ بَيْنَ أَخْذِ الْقَوَدِ وَالْمَالِ إذا كَانَ اسْمُ السُّلْطَانِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ نَحْوَ قَتِيلِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ وَبَعْضُهُمْ يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُرَادًا بِالْآيَةِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ [فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً] إنَّهُ إنْ شَاءَ قَتَلَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ فَلَمَّا احْتَمَلَ السُّلْطَانُ مَا وَصَفْنَا وَجَبَ إثْبَاتُ سُلْطَانِهِ فِي أَخْذِ الْمَالِ كَهُوَ فِي أَخْذِ الْقَوَدِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِمَا وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّ كل واحد منهما مراد الله تَعَالَى فِي حَالٍ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ وَلَمَّا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ مُجْتَمِعَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُمَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ وَكَمَا احْتَجَجْتُمْ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ بِقَوْلِهِ [فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً] لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ وَصَارَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِيهِ وَجَعَلْتُمُوهُ كَعُمُومِ لَفْظِ الْقَوَدِ فَيَلْزَمُكُمْ مِثْلُهُ فِي إثْبَاتِ الْمَالِ لِوُجُودِنَا مَقْتُولِينَ ظُلْمًا يَكُونُ سُلْطَانُ الْوَلِيِّ هُوَ الْمَالُ قِيلَ لَهُ حَمْلُهُ عَلَى الْقَوَدِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الدِّيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ السُّلْطَانُ لَفْظًا مُشْتَرَكًا مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي كَانَ مُتَشَابِهًا يَجِبُ رَدُّهُ إلَى الْمُحْكَمِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنَاهُ وَهِيَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ وَهُوَ قَوْلُهُ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ ثَبَتَ أَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ بِالسُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا فِي الْآيَةِ الْمُحْكَمَةِ مِنْ ذِكْرِ إيجَابِ
الْقِصَاصِ وَلَيْسَ مَعَكَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ فِي إيجَابِ الْمَالِ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ وجب الاقتصار(1/194)
بِمَعْنَى الِاسْمِ عَلَى الْقَوَدِ دُونَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ لِمُوَافَقَتِهِ لِمَعْنَى الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى تَخْيِيرِهِ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ أَوْ الْقَوَدِ فَلَمْ يَلْجَأْ إلَى أَصْلٍ لَهُ مِنْ الْمُحْكَمِ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إثْبَاتُ التَّخْيِيرِ مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ وَفِي فحوى الآية ما يدل على أن المراد الْقَوَدُ دُونَ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ قَالَ [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ السَّرَفَ فِي الْقِصَاصِ بِأَنْ يَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ أَوْ أَنْ يُمَثِّلَ بِالْقَاتِلِ فَيَقْتُلَهُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ الْقَتْلِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ سُلْطَانًا الْقَوَدُ وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوَدِ مُرَادٌ بِالْآيَةِ انْتَفَتْ إرَادَةُ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادًا مَعَ الْقَوَدِ لَكَانَ الْوَاجِبُ هُمَا جَمِيعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ التَّخْيِيرِ فَلَمَّا امْتَنَعَ إرَادَتُهُمَا جَمِيعًا وَكَانَ الْقَوَدُ لَا مَحَالَةَ مُرَادًا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمَالَ وَأَنَّ إيجَابَنَا لِلدِّيَةِ فِي بَعْضِ الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا لَيْسَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
بَاب الْعَاقِلَةِ هَلْ تَعْقِلُ الْعَمْدَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ] وَقَدْ قَدَّمْنَا تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى عَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّمِ وَوُجُوبِ الْأَرْشِ لِلْبَاقِينَ وَاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ فِي مَالِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ عَمْدٍ فِيهِ الْقَوَدُ فَهُوَ عَلَى الْجَانِي فِي مَالِهِ كَالْأَبِ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ وَكَالْجِرَاحَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَلَا يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ نَحْوَ قَطْعِ الْيَدِ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْجَائِفَةِ فَالْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ إذَا قَتَلَا أَنَّ عَلَى الْعَامِدِ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَالْمُخْطِئِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ هِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَهُوَ آخِرُ قَوْلِ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَلَوْ قَطَعَ يَمِينَ رَجُلٍ وَلَا يَمِينَ لَهُ كَانَتْ دِيَةُ الْيَدِ فِي مَالِهِ وَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ هُوَ فِي مَالِ الْجَانِي فَإِنْ لَمْ يَبْلُغُ ذَلِكَ مَالُهُ حُمِلَ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مُتَعَمِّدَةً وَلَهَا مِنْهُ أَوْلَادٌ فَدِيَتُهُ فِي مَالِهَا خَاصَّةً فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ مَالُهَا حُمِلَ عَلَى عَاقِلَتِهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ دَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَسُقُوطَ الْقَوَدِ بِعَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ يُوجِبُ الدِّيَةَ فِي مَالِ الْجَانِي لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ] وَهُوَ يَعْنِي الْقَاتِلَ إذَا كَانَ الْمَعْنَى عَفْوَ بعض الأولياء ثم قال [فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ] يَعْنِي اتِّبَاعَ الْوَلِيِّ لِلْقَاتِلِ ثُمَّ قَالَ [وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ] يَعْنِي أَدَاءَ الْقَاتِلِ(1/195)
فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَهُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهَ عَلَى التَّرَاضِي عَنْ الصُّلْحِ عَلَى مَالٍ فَفِيهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ غَيْرِهِ إذْ لَيْسَ لِلْعَاقِلَةِ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ وَإِنَّمَا فِيهَا ذِكْرُ الْوَلِيِّ وَالْقَاتِلِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَطِيبُ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى قَالَ حدثنا شريك عن جابر ابن عَامِرٍ قَالَ اصْطَلَحَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ لَا يَعْقِلُوا عَبْدًا وَلَا عَمْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي قِصَّةِ قَتَادَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُدْلِجِيِّ الَّذِي قَتَلَ ابْنَهُ أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَيْهِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَاهَا إخْوَتَهُ وَلَمْ يُوَرِّثْهُ مِنْهَا شَيْئًا فَجَعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِهِ لَمَّا كَانَ عَمْدًا وَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي النَّفْسِ وَلَمْ يُخَالِفْ عُمَرَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ مَا دُونَهَا إذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَقْلٌ فِي عَمْدٍ وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ وَقَالَ عُرْوَةُ أَيْضًا مَا كَانَ مِنْ صُلْحٍ فَلَا تَعْقِلُهُ الْعَشِيرَةُ إلَّا أَنْ تَشَاءَ وَقَالَ قَتَادَةُ كُلُّ شَيْءٍ لَا يُقَادُ مِنْهُ فَهُوَ فِي مَالِ الْجَانِي وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ صُلْحًا وَلَا عَمْدًا ولا اعترافا
وقوله تَعَالَى [وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ] فِيهِ إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ حَيَاةً لِلنَّاسِ وَسَبَبًا لِبَقَائِهِمْ لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ إنْسَانٍ رَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ وَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عُمُومًا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُسْلِمِ والذمي إذ كان الله تعالى مريد التبقية الْجَمِيعِ فَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ مَوْجُودَةٌ فِي هَؤُلَاءِ فَوَجَبَ اسْتِوَاءُ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِهِمْ وَتَخْصِيصُهُ لِأُولِي الْأَلْبَابِ بِالْمُخَاطَبَةِ غَيْرُ نَافٍ مُسَاوَاةَ غَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي الْحُكْمِ إذْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي حُكِمَ مِنْ أَجْلِهِ فِي ذَوِي الْأَلْبَابِ مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا وَجْهُ تَخْصِيصِهِ لَهُمْ أَنَّ ذَوِي الْأَلْبَابِ هُمْ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا يُخَاطَبُونَ بِهِ وَيَنْتَهُونَ إلَى مَا يُؤْمَرُونَ به ويزدجرون عما يزجرون عنه وهكذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى [إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها] وهو مُنْذِرٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى [إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ] ونحو قوله [هُدىً لِلْمُتَّقِينَ] وَهُوَ هُدًى لِلْجَمِيعِ وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى [شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ] فَعَمَّ الْجَمِيعَ بِهِ وَكَقَوْلِهِ [قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا]
لِأَنَّ التَّقِيَّ هُوَ الَّذِي يُعِيذُ مَنْ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ(1/196)
بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ قَتْلُ الْبَعْضِ إحْيَاءُ الجميع وعن غيره القتل أقل للقتل وأكثروا الْقَتْلَ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ وَهُوَ كَلَامٌ سَائِرٌ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَإِنَّمَا قَصَدُوا الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى [وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ] ثُمَّ إذَا مَثَّلْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَجَدْتَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتًا بَعِيدًا مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ وَصِحَّةِ الْمَعْنَى وَذَلِكَ يَظْهَرُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أن قوله تعالى [فِي الْقِصاصِ حَياةٌ] هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ قَتْلُ الْبَعْضِ إحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ وَالْقَتْلُ أَقَلُّ لِلْقَتْلِ وَهُوَ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِ حُرُوفِهِ وَنُقْصَانِهَا عَمَّا حُكِيَ عَنْ الْحُكَمَاءِ قَدْ أَفَادَ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْكَلَامُ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْقَتْلَ عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ لِذِكْرِهِ الْقِصَاصَ وَانْتَظَمَ مَعَ ذَلِكَ الْغَرَضَ الَّذِي إلَيْهِ أُجْرِيَ بِإِيجَابِهِ الْقِصَاصَ وَهُوَ الْحَيَاةُ وَقَوْلَهُمْ الْقَتْلُ أقل للقتل وقتل البعض إحياء الجميع والقتل أَنْفَى لِلْقَتْلِ إنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَصِحَّ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قَتْلٍ هَذِهِ صِفَتُهُ بَلْ مَا كَانَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ مَنْزِلَتَهُ وَلَا حُكْمَهُ فَحَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ وَمَجَازُهُ يَحْتَاجُ إلَى قَرِينَةٍ وَبَيَانٍ فِي أَنَّ أَيَّ قَتْلٍ هُوَ إحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ فَهَذَا كَلَامٌ نَاقِصُ الْبَيَانِ مُخْتَلُّ الْمَعْنَى غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ حُكْمِهِ وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ [وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ] مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ مُفِيدٌ لِحُكْمِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهِ أَلَا تَرَى أن قوله تعالى [فِي الْقِصاصِ حَياةٌ] أَقَلُّ حُرُوفًا مِنْ قَوْلِهِمْ قَتْلُ الْبَعْضِ إحْيَاءٌ للجميع والقتل أَقَلُّ لِلْقَتْلِ وَأَنْفَى لِلْقَتْلِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يَظْهَرُ فَضْلُ بَيَانِ قَوْلِهِ [فِي الْقِصاصِ حَياةٌ] عَلَى قَوْلِهِمْ الْقَتْلُ أَقَلُّ لِلْقَتْلِ وَأَنْفَى لِلْقَتْلِ أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ تَكْرَارَ اللَّفْظِ وَتِكْرَارُ الْمَعْنَى بلفظ غيره أحسن في حد البلاغة أَنَّهُ يَصِحُّ تَكْرَارُ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِلَفْظَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في خطاب واحد ولا يصلح مِثْلُهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى [وَغَرابِيبُ سُودٌ] وَنَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا كَرَّرَ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ بِلَفْظَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ سَائِغًا وَلَا يَصِحُّ مِثْلُهُ فِي تَكْرَارِ اللَّفْظِ وَكَذَلِكَ قوله [وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ] لا تكرار فيه مع إفادته للقاتل إذْ كَانَ ذِكْرُ الْقِصَاصِ يُفِيدُ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ قِصَاصًا إلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَهُ قَتْلٌ مِنْ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ وَفِي قَوْلِهِمْ ذِكْرٌ لِلْقَتْلِ وَتِكْرَارٌ لَهُ فِي اللَّفْظِ وَذَلِكَ نُقْصَانٌ فِي الْبَلَاغَةِ فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِمَّا يَظْهَرُ بِهِ لِلْمُتَأَمِّلِ إبَانَةُ الْقُرْآنِ فِي جِهَةِ الْبَلَاغَةِ وَالْإِعْجَازِ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ إذْ لَيْسَ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ مَنْ جَمَعَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةَ فِي الْأَلْفَاظِ الْيَسِيرَةِ مِثْلَ مَا يُوجَدُ فِي كلام الله تعالى.(1/197)
بَاب كَيْفِيَّةِ الْقِصَاصِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى [وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ] وَقَالَ [وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ] فأوجب بهذه الآي استيفاء المثل ولم يَجْعَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَفْعَلَ بِالْجَانِي أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِصَاصِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ قَتَلَهُ لَمْ يُقْتَلْ إلَّا بِالسَّيْفِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ إنْ قَتَلَهُ بِعَصًا أَوْ بِحَجَرٍ أَوْ بِالنَّارِ أَوْ بِالتَّغْرِيقِ قَتَلَهُ بِمِثْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِمِثْلِهِ فَلَا يَزَالُ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا قَتَلَهُ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ وَإِنْ زَادَ عَلَى فِعْلِ الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ نَضْرِبُهُ مِثْلَ ضَرْبِهِ وَلَا نَضْرِبُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْمُثْلَةَ وَيَقُولُونَ السَّيْفُ يُجْزِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنْ غَمَسَهُ فِي الْمَاءِ فَإِنِّي لَا أَزَالُ أَغْمِسُهُ فِيهِ حَتَّى يَمُوتَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَإِنْ حَبَسَهُ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ حَتَّى مَاتَ حُبِسَ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ قُتِلَ بِالسَّيْفِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا كَانَ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] وقوله [الْجُرُوحَ قِصاصٌ] اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ كَانَ مَحْظُورًا عَلَى الْوَلِيِّ اسْتِيفَاءُ زِيَادَةٍ عَلَى فِعْلِ الْجَانِي وَمَتَى اسْتَوْفَى عَلَى مَذْهَبِ مَنْ ذَكَرْنَا فِي التَّحْرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ وَالرَّضْخِ بِالْحِجَارَةِ وَالْحَبْسِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَفْعَلَ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمُتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ أَوْ زَادَ عَلَى جِنْسِ فِعْلِهِ وَذَلِكَ هُوَ الِاعْتِدَاءُ الَّذِي زَجَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ [فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ] لأن الاعتداء مُجَاوَزَةُ الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلُ فِعْلِهِ سَوَاءً إنْ أَمْكَنَ وَإِنْ تَعَذَّرَ فَأَنْ يَقْتُلَهُ بِأَوْحَى وُجُوهِ الْقَتْلِ فَيَكُونَ مُقْتَصًّا مِنْ جِهَةِ إتْلَافِ نَفْسِهِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ مَا جُعِلَ لَهُ وَقَوْلُ مَالِكٍ بِتِكْرَارِ مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ زَائِدٌ عَلَى فِعْلِ الْقَاتِلِ خَارِجٌ عَنْ مَعْنَى الْقِصَاصِ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ ثُمَّ يَقْتُلُهُ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَقَدْ اسْتَوْفَى فَقَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَعَدٍّ وَمُجَاوَزَةٌ لِحَدِّ الْقِصَاصِ وَقَالَ تَعَالَى [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ] وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْقِصَاصِ هُوَ إتْلَافُ نَفْسٍ بنفس مِنْ غَيْرِ مُجَاوَزَةٍ لِمِقْدَارِ الْفِعْلِ فَهُوَ الَّذِي نَقُولُهُ فَلَا يَنْفَكُّ مُوجِبُ الْقِصَاصِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مُخَالِفُونَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ لمجاوزة(1/198)
حَدِّ الْقِصَاصِ لِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الِاعْتِدَاءِ الَّذِي أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قوله [فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ] وَقَوْلُهُ [وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ] يَمْنَعُ أَنْ يُجْرَحَ أَكْثَرَ مِنْ جِرَاحَتِهِ أَوْ يُفْعَلَ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ لَا زَائِدًا عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ إذَا اجْتَهَدَ أَنَّهُ قَدْ وَضَعَ السِّكِّينَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ حَظٌّ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْقِصَاصُ عَلَى وَجْهٍ نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِأَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَجَانٍ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ جِنَايَتِهِ وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَا يُحَرِّقَهُ وَلَا يُغْرِقَهُ وَهَذَا يَدُلُّ على أن ذلك مراد بِالْآيَةِ وَإِذَا كَانَ الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ مُرَادًا ثَبَتَ أَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ إتْلَافُ نَفْسِهِ بِأَيْسَرِ وُجُوهِ القتل وإذا ثبت أن ذلك مراد انْتَفَتْ إرَادَةُ التَّحْرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ وَالرَّضْخِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ الِاقْتِصَارِ عَلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ يَنْفِي وُقُوعَ غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ اسْمُ الْمِثْلِ فِي الْقِصَاصِ يَقَعُ عَلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ وَعَلَى أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ فِعْلِهِ وَلَهُ إنْ لَمْ يَمُتْ أَنْ يَقْتُلَهُ بِالسَّيْفِ وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ بَدِيًّا عَلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ فَيَكُونَ تَارِكًا لِبَعْضِ حَقِّهِ وَلَهُ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الرَّضْخُ وَالتَّحْرِيقُ مُسْتَحِقًّا مَعَ قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْقِصَاصَ وَفِعْلَ الْمِثْلِ وَمِنْ حَيْثُ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِصَاصَ لَا غَيْرُ فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنًى يُنَافِي مَضْمُونَ اللَّفْظِ وَحُكْمَهُ وَعَلَى أَنَّ الرَّضْخ بِالْحِجَارَةِ وَالتَّحْرِيقَ وَالتَّغْرِيقَ وَالرَّمْيَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِهِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا كَانَ هُوَ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ
فَلَيْسَ لِلرَّضْخِ حَدٌّ مَعْلُومٌ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ فِي مَقَادِيرِ أَجْزَاءِ رَضْخِ الْقَاتِلِ لِلْمَقْتُولِ وَكَذَلِكَ الرَّمْيُ وَالتَّحْرِيقُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرَادًا بِذِكْرِ الْقِصَاصِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إتْلَافَ نَفْسِهِ بِأَوْحَى الْوُجُوهِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْيِ الْقِصَاصِ فِي الْمُنَقِّلَةِ وَالْجَائِفَةِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ عَلَى مَقَادِيرِ أَجْزَاءِ الْجِنَايَةِ
فَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ بِالرَّمْيِ وَالرَّضْخِ غَيْرُ مُمْكِنٍ اسْتِيفَاؤُهُ فِي مَعْنَى الْإِيلَامِ وَإِتْلَافِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي أَتْلَفَهَا فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَ الْمِثْلُ يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ أَحَدُهُمَا إتْلَافُ نَفْسِهِ كَمَا أَتْلَفَ فَيَكُونُ الْقِصَاصُ وَالْمِثْلُ فِي هَذَا الْوَجْهِ إتْلَافَ نَفْسٍ بِنَفْسٍ وَالْآخَرُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ اسْتَعْمَلْنَا حُكْمَ اللَّفْظِ فِي الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ عُمُومَهُ يَقْتَضِيهِمَا فَقُلْنَا نَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا اسْتَوْفَى الْمِثْلَ مِنْ جِهَةِ(1/199)
إتْلَافِ النَّفْسِ قِيل لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ وَالْقِصَاصِ جَمِيعَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ بِالْمَقْتُولِ ثُمَّ يُقْتَلَ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الِانْفِرَادِ غَيْرَ مَجْمُوعٍ إلَى الْآخَرِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ وَهُوَ غَيْر مُنَافٍ لِحُكْمِ الْآيَةِ وَأَمَّا إذَا جَمَعَهُمَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الْقِصَاصِ وَالْمِثْلِ بَلْ يَكُونُ زَائِدًا عَلَيْهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنًى يُضَادُّهَا وَيَنْفِي حُكْمَهَا فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ إرَادَةُ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ بَعْدَ الرَّضْخِ وَالتَّغْرِيقِ وَالْحَبْسِ وَالْإِجَاعَةِ
وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي عَازِبٍ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ
وَهَذَا الْخَبَرُ قَدْ حَوَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا بَيَانُ مُرَادِ الْآيَةِ فِي ذِكْرِ الْقِصَاصِ وَالْمِثْلِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ عُمُومٍ يُحْتَجُّ بِهِ فِي نَفْيِ الْقَوَدِ بِغَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا
رَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يُسْتَقَادُ مِنْ الْجِرَاحِ حَتَّى تَبْرَأَ
وَهَذَا يَنْفِي قَوْلَ الْمُخَالِفِ لَنَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُفْعَلَ بِالْجَانِي كَمَا فَعَلَ لَمْ يَكُنْ لِاسْتِثْنَائِهِ وَجْهٌ فَلَمَّا ثَبَتَ الِاسْتِثْنَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْجِرَاحَةِ مُعْتَبَرٌ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ حَالُهَا فَإِنْ قِيلَ يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ قِيلَ لَهُ هَذَا قَوْلُ جُهَّالٍ لَا يُلْتَفَتُ إلَى جَرْحِهِمْ وَلَا تَعْدِيلِهِمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ طَرِيقَةَ الْفُقَهَاءِ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ وَعَلَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيَّ قَدْ ذَكَر عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ أَحَبُّ إلَيَّ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا
رَوَى خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ
فَأَوْجَبَ عُمُومُ لَفْظِهِ أَنَّ مَنْ لَهُ قَتْلُ غَيْرِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ بِأَحْسَنِ وُجُوهِ الْقَتْلِ وَأَوْحَاهَا وَأَيْسَرِهَا وَذَلِكَ يَنْفِي تَعْذِيبَهُ وَالْمُثْلَةَ بِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ مِنْ الْحَيَوَانِ غَرَضًا
فَمَنَعَ بِذَلِكَ أَنْ يُقْتَلَ الْقَاتِلُ رَمْيًا بِالسِّهَامِ وَحُكِيَ أَنَّ الْقَسْمَ بْنَ مَعْنٍ حَضَرَ مَعَ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ بَعْضِ السَّلَاطِينِ فَقَالَ مَا تَقُولُ فِيمَنْ رَمَى رَجُلًا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ قَالَ يُرْمَى فَيُقْتَلُ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِالرَّمْيَةِ الْأُولَى قَالَ يُرْمَى ثَانِيًا قَالَ أَفَتَتَّخِذُهُ غَرَضًا
وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ مِنْ الْحَيَوَانِ غَرَضًا
قَالَ شَرِيكٌ لَمْ يموق فَقَالَ الْقَسْمُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا مَيْدَانٌ إنْ سَابَقْنَاكَ فِيهِ سَبَقْتَنَا يَعْنِي الْبَذَاءَ وَقَامَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا
رَوَى عِمْرَانُ بن حصين وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ وَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ(1/200)
مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا فِيهَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ
وَهَذَا خَبَرٌ ثَابِتٌ قَدْ تَلَقَّاهُ الْفُقَهَاءُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْمُثْلَةَ بِالْقَاتِلِ وَقَوْلُ مُخَالِفِينَا فِيهِ الْمُثْلَةُ بِهِ وَهُوَ يَثْنِي عَنْ مُرَادِ الْآيَةِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ مَقْصُورًا عَلَى وجه لا يوجب الْمُثْلَةِ وَيَسْتَعْمِلُ الْآيَةَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ مَعْنَى الْخَبَرِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَّلَ بِالْعُرَنِيِّينَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا ثُمَّ نُسِخَ سَمْلُ الْأَعْيُنِ بِنَهْيِهِ عَنْ الْمُثْلَةِ فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى آيَةِ الْقِصَاصِ مَحْمُولًا عَلَى مَا لَا مُثْلَةَ فِيهِ وَاحْتَجَّ مُخَالِفُونَا فِي ذَلِكَ
بِحَدِيثِ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ صَبِيٍّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ ثَبَتَ كَانَ مَنْسُوخًا بِنَسْخِ الْمُثْلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُثْلَةِ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَالْقَوَدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَلَفٌ فيه ومتى ورد عنه صلّى الله عليه وسلم خَبَرَانِ وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْآخَرِ كَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا قَاضِيًا عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْيَهُودِيِّ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ كَمَا
رَوَى شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ عَدَا يَهُودِيٌّ عَلَى جَارِيَةٍ فَأَخَذَ أَوْضَاحًا كَانَتْ عَلَيْهَا وَرَضَخَ رَأْسَهَا فَأَتَى بِهَا أَهْلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ فِي آخر رمق فقال صلّى الله عليه وسلم مَنْ قَتَلَكِ فُلَانٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ لَا ثُمَّ قَالَ فُلَانٌ يَعْنِي الْيَهُودِيَّ قَالَتْ نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ
فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ حَدًّا لَمَّا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ وقد كان ذلك جائز عَلَى وَجْهِ الْمُثْلَةِ كَمَا سَمَلَ الْعُرَنِيِّينَ ثُمَّ نُسِخَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ عَلَى حُلِيٍّ لَهَا فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجَمَ حَتَّى قُتِلَ
فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الرَّجْمَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِصَاصٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودِيُّ نَقَضَ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِقُرْبِ مَحَالِّ الْيَهُودِ كَانَتْ حِينَئِذٍ مِنْ الْمَدِينَةِ فَأُخِذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ عَلَى أَنَّهُ حَرْبِيٌّ نَاقِضٌ لِلْعَهْدِ مُتَّهَمٌ بِقَتْلِ صَبِيٍّ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ بِإِيمَاءِ الصَّبِيَّةِ وَإِشَارَتِهَا أَنَّهُ قَتَلَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ قَتْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقَتْلُ عِنْدَ الْجَمِيعِ فَلَا مَحَالَةَ قَدْ كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ آخَرُ اسْتَحَقَّ بِهِ الْقَتْلَ لَمْ يَنْقُلْهُ الرَّاوِي عَلَى جِهَتِهِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِصَاصِ إتْلَافُ نَفْسِهِ بِأَيْسَرِ الْوُجُوهِ وَهُوَ السَّيْفُ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْجَرَهُ خَمْرًا حَتَّى مَاتَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوجِرَهُ خَمْرًا وَقُتِلَ بِالسَّيْفِ فَإِنْ قِيلَ لِأَنَّ شُرْبَ(1/201)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
الْخَمْرِ مَعْصِيَةٌ قِيلَ لَهُ كَذَلِكَ الْمُثْلَةُ مَعْصِيَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَاب الْقَوْلِ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ مِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ [خَيْراً] أَرَادَ بِهِ مَالًا وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الْمُرَادِ بِالْمَالِ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ فِيهِ حِينَ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ فرضا لِأَنَّ قَوْلَهُ [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ كقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ- وَقَوْلِهِ- إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً] يَعْنِي فَرْضًا مُوَقَّتًا
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَوْلًى لَهُ في مرضه وله سبعمائة درهم أو ستمائة دِرْهَمٍ فَقَالَ أَلَا أُوصِي قَالَ لَا إنَّمَا قال الله تعالى [إِنْ تَرَكَ خَيْراً] وَلَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مَالٍ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا وَصِيَّةَ فِي ثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي امْرَأَةٍ أَرَادَتْ الْوَصِيَّةَ فَمَنَعَهَا أَهْلُهَا وقالوا لها ولد وما لها يَسِيرٌ فَقَالَتْ كَمْ وَلَدُهَا قَالُوا أَرْبَعَةٌ قَالَتْ فَكَمْ مَالُهَا قَالُوا ثَلَاثَةُ آلَافٍ فَكَأَنَّهَا عَذَرَتْهُمْ وَقَالَتْ مَا فِي هَذَا الْمَالِ فَضْلٌ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى خَمْسِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَرَوَى هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا قَالَ كَانَ يُقَالُ خَيْرُ الْمَالِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ هِيَ فِي كُلِّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَالِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ فَإِنَّمَا تَأَوَّلُوا تَقْدِيرَ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ لِلْمَقَادِيرِ الْمَذْكُورَةِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا تَلْحَقُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ الْمَالِ وَمَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ دِرْهَمًا لَا يُقَالُ تَرَكَ خَيْرًا فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْعَادَةِ وَكَانَ طَرِيقُ التَّقْدِيرِ فِيهَا عَلَى الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الرَّأْيِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ لَا تَلْحَقُهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ وَأَنَّ الْكَثِيرَ تَلْحَقُهُ فَكَانَ طَرِيقُ الْفَصْلِ فِيهَا الِاجْتِهَادَ وَغَالِبَ الرَّأْيِ مَعَ مَا كَانُوا عَرَفُوا مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ وَأَنْ تَدَعَ ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَمْ لَا فَقَالَ قَائِلُونَ إنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً وَإِنَّمَا كَانَتْ نَدْبًا وَإِرْشَادًا وَقَالَ آخَرُونَ قَدْ كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ عَلَى الِاخْتِلَافِ مِنْهُمْ فِي الْمَنْسُوخِ مِنْهَا وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ إنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً بِأَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ وَفَحْوَاهَا دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ [الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ] فلما(1/202)
قِيلَ فِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أحدهما قَوْلُهُ [بِالْمَعْرُوفِ] لَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ وَالْآخَرُ قَوْلُهُ [عَلَى الْمُتَّقِينَ] وليس يحكم عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ الثَّالِثُ تَخْصِيصُهُ لِلْمُتَّقِينَ بِهَا وَالْوَاجِبَاتُ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمُتَّقُونَ وَغَيْرُهُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَا دَلَالَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا لِأَنَّ إيجَابَهَا بِالْمَعْرُوفِ لَا يَنْفِي وُجُوبَهَا لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مَعْنَاهُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا شَطَطَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ هَذَا الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ وقوله تعالى [وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] بَلْ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْوَاجِبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ- وقال- يأمرون بالمعروف] فَذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْوَصِيَّةِ لَا يَنْفِي وُجُوبَهَا بَلْ هُوَ يُؤَكِّدُ وُجُوبَهَا إذْ كَانَ جَمِيعُ أَوَامِرِ اللَّهِ مَعْرُوفًا غَيْرَ مُنْكَرٍ وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ ضِدَّ الْمَعْرُوفِ هو المنكر وأن ما ليس بالمعروف هُوَ مُنْكَرٌ وَالْمُنْكَرُ مَذْمُومٌ مَزْجُورٌ عَنْهُ فَإِذًا الْمَعْرُوفُ وَاجِبٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ [حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] فَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِإِيجَابِهَا لِأَنَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ] وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ فَرْضٌ فَلَمَّا جَعَلَ تَنْفِيذَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مِنْ شَرَائِطِ التَّقْوَى فَقَدْ أَبَانَ عَنْ إيجَابِهَا وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِيهِ اقتضاء الآية وجوبها على المتقين وليس فيه نَفْيُهَا عَنْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ في قوله [هُدىً لِلْمُتَّقِينَ] نَفْيُ أَنْ يَكُونَ هُدًى لِغَيْرِهِمْ وَإِذَا وَجَبَتْ على المتقين بمقتضى الآية وجبت عَلَى غَيْرِهِمْ وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ وَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُتَّقِينَ فَإِذًا عَلَيْهِمْ فِعْلُ ذَلِكَ وَدَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي إيجَابِهَا وَتَأْكِيدِ فَرْضِهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ ثُمَّ أكده بقوله [بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] وَلَا شَيْءَ فِي أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ آكَدُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ هَذَا حَقٌّ عَلَيْكَ وَتَخْصِيصُهُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً وَهُوَ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جِبْرِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يَحِلُ لِمُؤْمِنٍ يَبِيتُ ثَلَاثًا إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ)
وحدثنا عبد(1/203)
الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا أيوب قال سمعت نافعا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُوصِي فِيهِ تَمُرُّ عَلَيْهِ لَيْلَتَانِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ)
وَقَدْ رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ الْغَازِي عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ)
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ كَانَتْ وَاجِبَةً ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِهَا بَدِيًّا فَقَالَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ جَمِيعُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ مَنْسُوخٌ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ الْمُؤَدِّبِ قَالَ حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في هذه الْآيَةِ [إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ] قَالَ نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ [لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً] وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى [إِنْ تَرَكَ خَيْراً] قَالَ نُسِخَ مِنْ ذَلِكَ مَنْ يَرِثُ وَلَمْ يُنْسَخْ مَنْ لَا يَرِثُ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ فِي أَحَدَيْهِمَا أَنَّ الْجَمِيعَ مَنْسُوخٌ وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ مِمَّنْ يَرِثُ مِنْ الْأَقْرَبِينَ دُونَ مَنْ لَا يَرِثُ وَحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْمُؤَدِّبُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مَهْدِيٍّ عَنْ عَبْدِ الله ابن الْمُبَارَكِ عَنْ عُمَارَةَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ [إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ] نَسَخَتْهَا الْفَرَائِضُ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْوَلَدِ وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى قَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَنُسِخَتْ عَمَّنْ يَرِثُ وَجُعِلَتْ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ رَوَاهُ يُونُسُ وَأَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِغَيْرِ ذِي الْقَرَابَةِ وَلَهُ ذُو قَرَابَةٍ مِمَّنْ لَا يَرِثُهُ أَنَّ ثُلُثَيْ الثُّلُثِ لِذِي الْقَرَابَةِ وَثُلُثُ الثُّلُثِ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ وَقَالَ طَاوُسٌ يُرَدُّ كُلُّهُ إلَى ذَوِي الْقَرَابَةِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ لَا وَصِيَّةَ إلَّا لِذِي قَرَابَةٍ إلا أن لا يَكُونَ لَهُ ذُو قَرَابَةٍ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى قَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ وَاجِبَةً لِذِي الْقَرَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُوصِي أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِجَمِيعِهِمْ بَلْ كَانَ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَقْرَبِينَ مِنْهُمْ فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لِلْأَبْعَدِينَ ثُمَّ نُسِخَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقْرَبِينَ فَبَقِيَ الْأَبْعَدُونَ(1/204)
عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ أَوْ تَرْكِهَا ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِنَسْخِهَا فِيمَا نُسِخَتْ بِهِ وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتْهَا وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْله تَعَالَى [لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ] وَقَالَ آخَرُونَ نَسَخَهَا مَا
ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) رَوَاهُ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ عنه صلّى الله عليه وسلم قَالَ (لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا يَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ)
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ (أَلَا إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)
وَحَجَّاجَ بْنَ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ)
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَوَاهُ حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَدْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لا يجوز لوارث وصية وهذا الْخَبَرُ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي ذَلِكَ وَوُرُودُهُ مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي وصفنا هو عندنا في حيز التواتر لاستفاضته وَشُهْرَتِهِ فِي الْأُمَّةِ وَتَلَقَّيْ الْفُقَهَاءُ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ لَهُ وَجَائِزٌ عِنْدَنَا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ إذْ كَانَ فِي حَيِّزِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ مِنْ الْآيَاتِ فَأَمَّا إيجَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ لِلْوَرَثَةِ فَغَيْرُ مُوجِبٍ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ مَعًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ صلّى الله عليه وسلم قَدْ أَجَازَهَا لِلْوَارِثِ إذَا أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ فَلَمْ يَكُنْ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِوَاحِدٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا آيَةُ الْمِيرَاثِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا جَعَلَ الْمِيرَاثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَمَا الَّذِي كَانَ يَمْنَعُ أَنْ يُعْطَى قِسْطَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ يُعْطَى الْمِيرَاثَ بَعْدَهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَاب الرِّسَالَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمَوَارِيثُ نَاسِخَةً لِلْوَصِيَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةٌ مَعَهَا فلما
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَنَّهُ قَالَ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ
اسْتَدْلَلْنَا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَوَارِيثَ نَاسِخَةٌ لِلْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَعَ الْخَبَرِ الْمُنْقَطِعِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ أَعْطَى الْقَوْلَ بِاحْتِمَالِ اجْتِمَاعِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَإِذًا لَيْسَ فِي نُزُولِ آيَةِ الْمِيرَاثِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فَلَمْ تَكُنِ الْوَصِيَّةُ مَنْسُوخَةً بِالْمِيرَاثِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا وَالْخَبَرُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ مُنْقَطِعٍ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ الْمُرْسَلَ وَلَوْ وَرَدَ مِنْ جِهَةِ الِاتِّصَالِ وَالتَّوَاتُرِ لَمَا قَضَى بِهِ عَلَى حُكْمِ الْآيَةِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُ نَسْخَ(1/205)
الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَوَاجِبٌ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين ثابتة الحكم غير منسوخة إذا لَمْ يَرِدْ مَا يُوجِبُ نَسْخَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ
وحكم النبي صلّى الله عليه وسلم في ستة مَمْلُوكِينَ أَعْتَقَهُمْ رَجُلٌ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ فجزأهم النبي صلّى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَاَلَّذِي أَعْتَقَهُمْ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَرَبُ إنَّمَا تَمْلِكُ من لا قرابة بينه وبينه من العجب فَأَجَازَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَصِيَّةَ
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَوْ كَانَتْ تَبْطُلُ لِغَيْرِ قَرَابَةٍ بَطَلَتْ لِلْعَبِيدِ الْمُعْتَقِينَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَرَابَةٍ لِلْمَيْتِ وَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ الْوَالِدَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا كَلَامٌ ظَاهِرُ الِاخْتِلَالِ مُنْتَقَضٌ عَلَى أَصْلِهِ فَأَمَّا اخْتِلَالُهُ فَقَوْلُهُ إنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا تَمْلِكُ مَنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ الْعَجَمِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَيَكُونُ أَقْرِبَاؤُهُ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ عَجَمًا فَيَكُونُ الْعِتْقُ الذي أوقعه المريض وصية لأقرباؤه وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتْ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَإِنَّمَا نَسَخَتْهَا لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ وَارِثًا فَأَمَّا مَنْ لَا يَرِثُ مِنْهُمْ فَلَيْسَ فِي إثْبَاتِ الْمِيرَاثِ لِغَيْرِهِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ وَصِيَّتِهِ وَأَمَّا انْتِقَاضُهُ عَلَى أَصْلِهِ فَإِيجَابُهُ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِينَ بِخَبَرِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي عِتْقِ الْمَرِيضِ لِعَبِيدِهِ وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّابِعِينَ تَجْوِيزُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجَانِبِ وَأَنَّهَا تَنْفُذُ عَلَى مَا أَوْصَى بِهَا وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أَوْصَى لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَعَنْ عَائِشَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وسالم بن عبد الله وعمرو بْنِ دِينَارٍ وَالزُّهْرِيِّ قَالُوا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ حَيْثُ جَعَلَهَا وَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ عَصْرِ التَّابِعِينَ عَلَى جَوَازِ الْوَصَايَا لِلْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ وَاَلَّذِي أَوْجَبَ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَنَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ قَوْله تَعَالَى فِي سِيَاقِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ] فَأَجَازَهَا مُطْلَقَةً وَلَمْ يَقْصُرْهَا عَلَى الْأَقْرَبِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَفِي ذَلِكَ إيجَابُ نَسْخِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ قَدْ كَانَتْ فَرْضًا وَفِي هَذِهِ إجَازَةُ تَرْكِهَا لَهُمْ وَالْوَصِيَّةُ لِغَيْرِهِمْ وَجَعْلٌ مَا بَقِيَ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ عَلَى سِهَامِ مَوَارِيثِهِمْ وَلَيْسَ يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا وَقَدْ نَسَخَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ وَإِيجَابِ الْمَوَارِيثِ بَعْدَهَا الْوَصِيَّةَ الْوَاجِبَةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَيَكُونَ حُكْمُهَا ثَابِتًا لِمَنْ لَا يَرِثُ مِنْهُمْ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِلَفْظٍ مَنْكُورٍ يَقْتَضِي شُيُوعَهَا فِي الْجِنْسِ إذْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمُ النَّكِرَاتِ والوصية المذكورة(1/206)
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ لَفْظُهَا لَفْظُ الْمَعْرِفَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ صَرْفُهَا إلَيْهَا إذْ لَوْ أَرَادَهَا لَقَالَ مِنْ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ الْكَلَامُ إلَى الْمُعَرَّفِ الْمَعْهُودِ مِنْ الْوَصِيَّةِ الَّتِي قَدْ عُلِمَتْ كَمَا قَالَ تَعَالَى [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى لَمَّا أَرَادَ الشُّهَدَاءَ المذكورين [فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ] فَعَرَّفَهُمْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إذْ كَانَ الْمُرَادُ أُولَئِكَ الشُّهَدَاءَ فَلَمَّا أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ بِلَفْظٍ مَنْكُورٍ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْوَصِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ جَائِزَةٌ لِسَائِرِ النَّاسِ إلَّا مَا خَصَّتْهُ السُّنَّةُ أَوْ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ أَوْ لِلْقَاتِلِ وَنَحْوِهِمَا وَفِي ثُبُوتِ ذَلِكَ نَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ اسْتَدَلَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الْوَالِدَيْنِ لَيْسُوا مِنْ الأقرباء بقوله تعالى [الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ] وَلِأَنَّهُمْ لَا يُدْلُونَ بِغَيْرِهِمْ وَرَحِمِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَسَائِرُ الْأَرْحَامِ سِوَاهُمَا إنَّمَا يُدْلُونَ بِغَيْرِهِمْ فَالْأَقْرَبُونَ مَنْ يَقْرُبُ إلَيْهِ بِغَيْرِهِ وَقَالَ إنَّ وَلَدَ الصُّلْبِ لَيْسُوا مِنْ الْأَقْرَبِينَ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِنَفْسِهِ يُدْلِي بِرَحِمِهِ لَا بِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَالِدَانِ مِنْ الْأَقْرَبِينَ وَالْوَلَدُ أَقْرَبُ إلَى وَالِدِهِ مِنْ الْوَالِدِ إلَى وَلَدِهِ فَهُوَ أَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْأَقْرَبِينَ وَلِذَلِكَ قَالَ فِيمَنْ أَوْصَى لِأَقْرِبَاءِ بَنِي فُلَانٍ إنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا وَلَدُهُ وَلَا وَالِدُهُ وَيَدْخُلُ فِيهَا وَلَدُ الْوَلَدِ وَالْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يُدْلِي إلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ غَيْرِ مُدْلٍ بِنَفْسِهِ وَفِي مَعْنَى الْأَقْرِبَاءِ خِلَافٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ إذَا أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ بَيَّنَّا نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ بِمَا قَدَّمْنَا
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قَالَ (لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ)
وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ بِأَنْ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَرَثَةَ لَمْ يُجِيزُوهَا وَيَدُلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ إجَازَةَ الْوَرَثَةَ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ إجَازَتَهُمْ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَيْسُوا بِوَرَثَةٍ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ لَهُمْ هَذِهِ السِّمَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ فَمَتَى أَجَازَ وَلَيْسَ بِوَارِثٍ فَإِجَازَتُهُ بَاطِلَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَرَثَةَ مَتَى أَجَازَتْ الْوَصِيَّةَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هِبَةً مُسْتَأْنَفَةً مِنْ جِهَتِهِمْ فَتُحْمَلُ عَلَى أَحْكَامِ الْهِبَاتِ فِي شَرْطِ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ وَنَفْيِ الشُّيُوعِ فِيمَا يُقَسَّمُ وَالرُّجُوعِ فِيهَا بَلْ تَكُونُ مَحْمُولَةً عَلَى أَحْكَامِ الْوَصَايَا الْجَائِزَةِ دُونَ الْهِبَاتِ مِنْ قِبَلِ مُجِيزِيهَا مِنْ الْوَرَثَةِ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الْعُقُودِ الْمَوْقُوفَةِ الَّتِي لَهَا مُجِيزٌ لِأَنَّ الْمَيِّتَ عَقَدَ(1/207)
الْوَصِيَّةَ عَلَى مَالٍ هُوَ لِلْوَارِثِ فِي حَالِ وقوع الوصية وجعلها النبي صلّى الله عليه وسلم مَوْقُوفَةً عَلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِيمَنْ عَقَدَ عَقْدَ بَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ إجَارَةٍ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ مَالِكِهِ إذْ كَانَ عَقَدًا لَهُ مَالِكٌ يَمْلِكُ ابْتِدَاءَهُ وَإِيقَاعَهُ وقد دل أيضا على أنه إذا أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى إجازة الورثة كما وقفها النبي صلّى الله عليه وسلم عَلَى إجَازَتِهِمْ إذَا أَوْصَى بِهَا لِوَارِثٍ فَهَذِهِ المعاني كلها في ضمن
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ)
وَقَدْ اُخْتُلِفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَأَجَازَهُ الْوَرَثَةُ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ إذَا أَجَازُوهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ حَتَّى يُجِيزُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَيْهِمْ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عن مالك إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت مثل الولد الذي قد بان عَنْ أَبِيهِ وَالْأَخِ وَابْنِ الْعَمِّ الَّذِينَ لَيْسُوا فِي عِيَالِهِ فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا وَأَمَّا امْرَأَتُهُ وَبَنَاتُهُ اللَّاتِي لَمْ يَبِنَّ مِنْهُ وكل من في عياله وإن كان قد احْتَلَمَ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا وَكَذَلِكَ الْعَمُّ وَابْنُ الْعَمِّ وَمَنْ خَافَ مِنْهُمْ إنْ لَمْ يُجِزْ لَحِقَهُ ضَرَرٌ مِنْهُ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ إنْ صَحَّ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَرِيضِ يَسْتَأْذِنُ وَرَثَتَهُ فِي الْوَصِيَّةِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ فَأَذِنُوا لَهُ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ اسْتَأْذَنَهُمْ فِي الصِّحَّةِ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إنْ شَاءُوا وَإِنَّمَا يَجُوزُ إذْنُهُمْ فِي حَالِ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ يُحْجَبُ عَنْ مَالِهِ بِحَقِّهِمْ فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُ اللَّيْثِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ إذَا أَجَازُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمْ إذَا أَجَازُوهُ فِي الْحَيَاةِ جَازَ عَلَيْهِمْ قَالَ أَبُو بكر عموم
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ)
يَنْفِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ فِي كُلِّ حَالِ فَلَمَّا خُصَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ وَهُمْ إنَّمَا يَكُونُونَ وَرَثَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا قَبْلَهُ فَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْجُمْلَةِ إجَازَتَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عُمُومِ بَقِيَّةِ الْوَصِيَّةِ وَالنَّظَرُ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ إذْ لَيْسُوا مَالِكِينَ لِلْمَالِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَا تَعْمَلُ إجَازَتُهُمْ فِيهِ كَمَا لَا تَجُوزُ هِبَتُهُمْ وَلَا بَيْعُهُمْ وَإِنْ حَدَثَ الْمَوْتُ بَعْدَهُ فَالْإِجَازَةُ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمَّا كَانَ الْمُوصَى لَهُ إنَّمَا تَقَعُ الْوَصِيَّةُ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَذَلِكَ الْإِجَازَةُ حُكْمُهَا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ وُقُوعِ الْوَصِيَّةِ وأن(1/208)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
لَا تَعْمَلَ الْإِجَازَةَ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ لِلْمَيِّتِ إبْطَالُ الْوَصِيَّةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَعَ كَوْنِهِ مَالِكًا فَالْوَرَثَةُ أَحْرَى بِجَوَازِ الرُّجُوعِ عَمَّا أَجَازُوهُ وَإِذَا جَازَ لَهُمْ الرُّجُوعُ فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تَصِحُّ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ ثَابِتًا فِي مَالِهِ بِالْمَرَضِ وَمِنْ أَجْلِهِ مُنِعَ ذَلِكَ فِي الْمَرَض عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا مُنِعَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْمَرَضِ حَالَ الْمَوْتِ فِي بَابِ لُزُومِهِمْ حُكْمَ الْإِجَازَةِ إذَا أَجَازُوا قِيلَ لَهُ تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ جَائِزٌ عِنْدَنَا فِي جَمِيعِ مَالِهِ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَسَائِرِ مَعَانِي التَّصَرُّفِ وَوُجُوهِهِ وَإِنَّمَا نُسِخَ مِنْهَا بَعْدَ الْمَوْتِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِالْمَوْتِ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الْوَارِثِ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ عُقُودَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ عِنْدَ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِي مَالِهِ فَكَذَلِكَ إجَازَتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ كَلَا إجَازَةَ كَمَا لَا يَعْمَلُ فَسْخَهُ فِي عُقُودِهِ وَأَمَّا مَا فَرَّقَ بِهِ مَالِكٌ بَيْنَ مَنْ يَخْشَى ضَرَرًا مِنْ جِهَتِهِ فِي تَرْكِ الْإِجَازَةِ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَخْشَى ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا مَعْنَى لَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ خَشْيَةَ الضَّرَرِ مِنْ جِهَتِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ عُقُودِهِ وَقَوْلُهُ إذْ لَيْسَ يُكْسِبُهُ ذَلِكَ حُكْمُ الْمُكْرَهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا طَلَبَهُ مِنْهُ وَقَالَ خَشِيتُ أَنْ تُقْطَعَ عَنِّي نَفَقَتُهُ وَجِرَايَتُهُ بِتَرْكِ إجَابَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي إبْطَالِ الْبَيْعِ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْهَبَهُ الْمَرِيضُ شَيْئًا فَوَهَبَهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ مَا يَخَافُهُ بِتَرْكِ إجَابَتِهِ مُؤَثِّرًا فِي هِبَتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَخْشَى مِنْ قِبَلِهِ ضَرَرًا فَإِذًا لَا اعْتِبَارَ لِخَوْفِ الضَّرَرِ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ وَالْجِرَايَةِ فِي إيجَابِ الْعِتْقِ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
باب تبديل الوصية
قال الله سبحانه وتعالى [فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ] قِيلَ إنَّ الْهَاءَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ [فَمَنْ بَدَّلَهُ] عَائِدَةٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَجَائِزٌ فِيهَا التَّذْكِيرُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَالْإِيصَاءَ وَاحِدٌ وَأَمَّا الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ [إِثْمُهُ] فَإِنَّمَا هِيَ عَائِدَةٌ عَلَى التَّبْدِيلِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ [فَمَنْ بَدَّلَهُ] وَقَوْلُهُ [فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ] يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الشَّاهِدَ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ زَجْرَهُ عَنْ التَّبْدِيلِ عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى [ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْوَصِيُّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِمْضَائِهَا وَالْمَالِكُ لِتَنْفِيذِهَا فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَدْ أَمْكَنَهُ تَغْيِيرُهَا وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي سَائِرِ النَّاسِ إذْ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَا تَصَرُّفَ لَهُمْ فِيهِ(1/209)
وَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ الشَّاهِدِ والوصي لاحتمال اللَّفْظِ لَهُمَا وَالشَّاهِدُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ وَالْوَصِيُّ مَأْمُورٌ بِتَنْفِيذِهَا عَلَى حَسَبِ مَا سَمِعَهُ مِمَّا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ قَالَا هِيَ الْوَصِيَّةُ تُصِيبُ الْوَلِيَّ الشَّاهِدَ وَقَالَ الْحَسَنُ هِيَ الْوَصِيَّةُ من سمع الوصية ثم بدلها بعد ما سَمِعَهَا فَإِنَّمَا إثْمُهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ مُرَادًا بِذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ وِلَايَةً وَتَصَرَّفَا إذَا رُفِعَ إلَيْهِ فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِإِمْضَائِهَا إذَا جَازَتْ فِي الْحُكْمِ مَنْهِيًّا عَنْ تَبْدِيلِهَا وَفِيهَا الْأَمْرُ بِإِمْضَائِهَا وَتَنْفِيذِهَا عَلَى الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَقَوْلُهُ [فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ] قَدْ اقْتَضَى جَوَازَ تَنْفِيذِ الْوَصِيِّ مَا سَمِعَهُ من وصية الموصى كان عليها شهودا ولم تَكُنْ وَهُوَ أَصْلٌ فِي كُلِّ مَنْ سَمِعَ شيئا فجائز له إمْضَاؤُهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ عَلَى مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمِ وَلَا شَهَادَةِ شُهُودٍ فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ مَتَى أَقَرَّ بِدَيْنٍ لرجل بعينه عند الوصي فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ وَارِثٍ وَلَا حَاكِمٍ وَلَا غَيْرِهِ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ ذَلِكَ بَعْدَ السَّمَاعِ تَبْدِيلًا لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي وقوله [فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ] قد حوى معاني أَحَدُهَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ عَطْفٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ كَانَتْ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَهِيَ لَا مَحَالَةَ مُضْمَرَةٌ فِيهِ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ الكلام لأن قوله [فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ] غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ الْفَائِدَةِ لِمَا انتظم من الكناية والضمير اللذين لا بدلهما مِنْ مُظْهَرٍ مَذْكُورٍ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مُظْهَرٍ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَفَادَتْ الْآيَةُ سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْ الْمُوصِي بِنَفْسِ الْوَصِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَأْثَمِ التَّبْدِيلِ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ تَعْذِيبَ الْأَطْفَالِ بِذُنُوبِ آبَائِهِمْ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ [وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى] وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَوْصَى بِقَضَائِهِ أَنَّهُ قَدْ برىء مِنْ تَبِعَتْهُ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ تَرْكَ الْوَرَثَةِ قَضَاءَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَلْحَقُهُ تَبِعَةٌ وَلَا إثْمٌ وَأَنَّ إثْمُهُ عَلَى مَنْ بَدَّلَهُ دُونَ مَنْ أَوْصَى بِهِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ فَمَاتَ وَلَمْ يُوصِ بِهِ أَنَّهُ قَدْ صَارَ مُفَرِّطًا مَانِعًا مُسْتَحِقًّا لِحُكْمِ مَانِعِي الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ قَدْ تَحَوَّلَتْ فِي الْمَالِ حَسَبَ تَحَوُّلِ الدُّيُونِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَوْصَى بِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَنْجُو مِنْ مَأْثَمِهَا وَيَكُونُ حِينَئِذٍ الْمُبَدِّلُ لَهَا مُسْتَحِقًّا لِمَأْثَمِهَا وَكَذَلِكَ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَانِعِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْمَوْتِ سُؤَالَ الرَّجْعَةِ فِي قوله(1/210)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
[وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ] فَأُخْبَرْ بِحُصُولِ التَّفْرِيطِ وَفَوَاتِ الْأَدَاءِ إذْ لَوْ كَانَ الْأَدَاءُ بَاقِيًا عَلَى الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ لَكَانُوا هُمْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلَّوْمِ وَالتَّعْنِيفِ فِي تَرْكِهِ وَكَانَ الْمَيِّتُ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ التَّفْرِيطِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا مِنْ امْتِنَاعِ وُجُوبِ أَدَاءِ زَكَاتِهِ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ مِنْهُ بِهِ فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَفْتَرِقُ حُكْمُ الْمُوصِي عِنْدَ اللَّهِ فِي حَالِ تَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ أَوْ تَبْدِيلِهَا وَهَلْ يَكُونُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الثَّوَابِ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ قِيلَ لَهُ إنَّ وَصِيَّة الْمُوصِي قَدْ تَضَمَّنَتْ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْتِحْقَاقَهُ الثَّوَاب عَلَى اللَّهِ بِوَصِيَّتِهِ وَالْآخَرُ أَنَّ وُصُولَ ذَلِكَ إلَى الْمُوصَى لَهُ يَسْتَوْجِبَ مِنْهُ الشُّكْرَ لِلَّهِ وَالدُّعَاءَ لِلْمُوصِي وَذَلِكَ لَا يَكُونُ ثَوَابًا لِلْمُوصِي وَلَكِنَّ الْمُوصِي يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ دُعَاءِ الْمُوصَى لَهُ وَشُكْرِهِ لِلَّهِ تَعَالَى جَزَاءً لَهُ
لَا لِلْمُوصِي فَيَنْتَفِعُ الْمُوصِي بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ إذَا أُنْفِذَتْ الْوَصِيَّةُ وَمَتَى لَمْ تَنْفُذْ كَانَ نَفْعُهُ مَقْصُورًا عَلَى الثواب الذي استحقه بوصية دُونَ غَيْرِهَا فَإِنْ قِيلَ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَمْ يُوصِ بِقَضَائِهِ وَقَضَاهُ الْوَرَثَةُ هَلْ يَبْرَأُ الْمَيِّتُ مِنْ تَبِعَتِهِ قِيلَ لَهُ امْتِنَاعُهُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْن قَدْ تَضَمَّنْ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآخَرُ حَقُّ الْآدَمِيِّ فَإِذَا استوفى الآدمي حقه فقد برىء مِنْ تَبِعَتِهِ وَبَقِيَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ مَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالضَّرَرِ بِتَأْخِيرِهِ فَإِذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَبَقِيَ حَقُّ اللَّهِ وَهُوَ الظُّلْمُ الْوَاقِعُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ تَكُنْ تَوْبَةٌ مِنْهُ فِيهِ فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا وَأَصَرَّ عَلَى مَنْعِهِ كَانَ مُكْتَسِبًا بِذَلِكَ الْمَأْثَمَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ بِارْتِكَابِ نَهْيِهِ وَالْآخَرُ حَقُّ الْآدَمِيِّ بِظُلْمِهِ لَهُ وَإِضْرَارِهِ بِهِ فَلَوْ أَنَّ الْآدَمِيَّ أَخَذَ حَقَّهُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ إرَادَةِ الْغَاصِبِ لِذَلِكَ لكان قد برىء مِنْ حَقِّهِ وَبَقِيَ حَقُّ اللَّهِ يَحْتَاجُ إلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ فَإِذَا مَاتَ غَيْرَ تَائِبٍ كَانَتْ تَبِعَتُهُ بَاقِيَةً عَلَيْهِ لَاحِقَةً بِهِ وقَوْله تَعَالَى [فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ] إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ بَدَّلَ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ وَالْجَوَازِ وَالْعَدْلِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ جَوْرًا فَالْوَاجِبُ تَبْدِيلُهَا وَرَدُّهَا إلَى الْعَدْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ] فَإِنَّمَا تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ إذَا وَقَعَتْ عَادِلَةً غَيْرَ جَائِرَةٍ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا.
بَاب الشَّاهِدُ وَالْوَصِيُّ إذَا عَلِمَا الْجَوْرَ فِي الْوَصِيَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ] قال أبو(1/211)
بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى [فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً] قَالَ هُوَ الرَّجُلُ يُوصِي فَيَجْنَفُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيَرُدُّهَا الْوَلِيُّ إلَى الْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَرَوَى أَبُو جَعْفَرِ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ الْجَنَفُ الْخَطَأُ وَالْإِثْمُ الْعَمْدُ وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا قَالَ هُوَ الْمُوصِي لِابْنِ ابْنِهِ يُرِيدُ لِبَنِيهِ وَرَوَى الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْحَسَنِ فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِلْأَبَاعِدِ وَيَتْرُكُ الْأَقَارِبَ قَالَ يَجْعَلُ وَصِيَّتَهُ ثَلَاثَةَ أَثْلَاثٍ لِلْأَقَارِبِ الثُّلُثَيْنِ وَلِلْأَبَاعِدِ الثُّلُثُ وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ فِي الرَّجُلِ يوصى للأباعد قال ينزع مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ لِلْأَقَارِبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ فَقِيرٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْجَنَفُ الْمَيْلُ عَنْ الْحَقِّ وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ الْجَنَفُ الْخَطَأُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْمَيْلَ عَنْ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِ الْخَطَإِ وَالْإِثْمُ مَيْلُهُ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ مُسْتَقِيمٌ وَتَأَوَّلَهُ الْحَسَنُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ وَلَهُ أَقْرِبَاءُ أَنَّ ذَلِكَ جَنَفٌ وَمَيْلٌ عَنْ الْحَقِّ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ عِنْدَهُ لِلْأَقَارِبِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ وَتَأَوَّلَهُ طَاوُسٌ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةُ لِلْأَبَاعِدِ فَتُرَدُّ إلَى الْأَقَارِبِ وَالْآخَرُ أَنَّ يُوصِي لِابْنِ ابْنَتِهِ يُرِيدُ ابْنَتَهُ وَقَدْ نَسَخَ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَمَنْ خَافَ مِنْ موص جنفا أو إثما غَيْرَ مُوجِبٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِهِ غَيْرِ مُضَمَّنٍ بِمَا قَبْلَهُ فَهُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْوَصَايَا إذَا عَدَلَ بِهَا عَنْ جِهَةِ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ مُنْتَظِمَةً لِلْوَصِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فِي حَالِ بَقَاءِ وُجُوبِهَا وَشَامِلَةً لِسَائِرِ الْوَصَايَا غَيْرِهَا فَمَنْ خَافَ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ مِنْ مُوصٍ مَيْلًا عَنْ الْحَقِّ وَعُدُولًا إلَى الْجَوْرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إرْشَادُهُ إلَى الْعَدْلِ وَالصَّلَاحِ وَلَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الشَّاهِدُ وَالْوَصِيُّ وَالْحَاكِمُ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى [فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ] وَالْخَوْفُ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِمَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَأَمَّا الْمَاضِي فَلَا يَكُونُ فِيهِ خَوْفٌ قِيلَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُوصِي مَا يَغْلِبُ مَعَهُ عَلَى ظَنَّهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْجَوْرَ وَصَرْفَ الْمِيرَاثِ عَنْ الْوَارِثِ فَعَلَى مَنْ خَافَ ذَلِكَ مِنْهُ رَدُّهُ إلَى الْعَدْلِ وَيُخَوِّفُهُ ذَمِيمَ عَاقِبَةِ الْجَوْرِ أَوْ يَدْخُلُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى وَجْهِ الصَّلَاحِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنَى قوله [فَمَنْ خافَ] أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ(1/212)
فِيهَا جَوْرًا فَيَرُدُّهَا إلَى الْعَدْلِ وَإِنَّمَا قَالَ تعالى [فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ] وَلَمْ يَقُلْ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَى الْعَدْلِ وَالصَّلَاحِ وَلَا ذَكَرَ لَهُ فِيهِ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِ الدَّاخِلِينَ بَيْنَ الْخُصُومِ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ أَنْ يَسْأَلُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرْكَ بَعْضِ حَقِّهِ فَيَسْبِقُ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ إلَى ظَنِّ الْمُصْلِحِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ لَهُ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ دُونَ الْحَقِيقَةِ فَرَخَّصَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ وَأَزَالَ ظَنَّ الظَّانِّ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ قَالَ [فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ وَعَدَ بِالثَّوَابِ عَلَى مِثْلِهِ فِي غَيْرِهِ فَقَالَ تَعَالَى [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] وَرُوِيَ فِي تَغْلِيظِ الْجَنَفِ فِي الْوَصِيَّةِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بن حسان قال حدثنا سفيان الثوري عن عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ ثُمَّ قَرَأَ [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها]
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا وَمُحَمَّدُ بْنُ اللَّيْثِ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ المغيرة عن داود بن أبي هند عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الإضرار في الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ)
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حدثنا طاهر بن عبد الرحمن بن إسحاق الْقَاضِي حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَشْعَثَ عن شهر بن حوشب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ (إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإِذَا أَوْصَى حَافَ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فيدخل الجنة)
وحدثنا محمد ابن بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُدَّانِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي الْأَشْعَثُ بْنُ جابر قال حدثني شهر ابن حَوْشَبٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ لَيَعْمَلَانِ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ) ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ أَبُو هُرَيْرَةَ من هاهنا [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ- حتى بلغ- ذلك الفوز العظيم]
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ مَعَ مَا قَدَّمْنَا تُوجِبُ عَلَى مَنْ عَلِمَ جَنَفًا فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ مُوصٍ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْعَدْلِ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ عَلَى مَاذَا يَعُودُ الضَّمِيرُ الَّذِي في قوله [بَيْنَهُمْ] قيل(1/213)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
لَهُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْمُوصِي أَفَادَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ أَنَّ هُنَاكَ مُوصًى لَهُ وَوَارِثًا تَنَازَعُوا فَعَادَ الضَّمِيرُ إلَيْهِمْ بِفَحْوَى الْخِطَابِ فِي الْإِصْلَاحِ بينهم وأنشد الفراء:
وما أدرى إذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيَّهُمَا يَلِينِي أالخير الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ أَمْ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي فَكَنَّى فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ عَنْ الشَّرِّ بَعْدَ ذِكْرِ الْخَيْرِ وَحْدَهُ لِمَا فِي فَحْوَى اللَّفْظِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ الْخَيْرِ وغيره وقد قيل إن الضمير عائدا عَلَى الْمَذْكُورِينَ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ وَهُمْ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْوَصِيِّ وَالْحَاكِمِ وَالْوَارِثِ وَكُلِّ مَنْ وَقَفَ عَلَى جَوْرٍ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْخَطَإِ أَوْ الْعَمْدِ رَدَّهَا إلَى الْعَدْلِ وَدَلَّ عَلَى أن قوله تعالى [فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ] خَاصٌّ فِي الْوَصِيَّةِ الْعَادِلَةِ دُونَ الْجَائِرَةِ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنْ الْمَيْلِ يَكُونُ فِي غَالِبِ ظَنِّ الْخَائِفِ وَفِيهَا رُخْصَةٌ فِي الدُّخُولِ بَيْنَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ عَنْ الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
بَابُ فَرْضِ الصِّيَامِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] فَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْنَا فَرْضَ الصِّيَامِ بِهَذِهِ الآية لِأَنَّ قَوْلَهُ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ] مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ كَقَوْلِهِ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] وَقَوْلِهِ [إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً] يعنى فرضا موقتا والصيام فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِمْسَاكُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا] يَعْنِي صَمْتًا فَسَمَّى الْإِمْسَاكَ عَنْ الْكَلَامِ صَوْمًا وَيُقَالُ خَيْلٌ صِيَامٌ إذَا كَانَتْ مُمْسِكَةً عَنْ العلف وصامت الشَّمْسُ نِصْفَ النَّهَارِ لِأَنَّهَا مُمْسِكَةً عَنْ السَّيْرِ وَالْحَرَكَةِ فَهَذَا حُكْمُ هَذَا اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْكَفِّ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَعَنْ الْجِمَاعِ فِي نهار الصوم مع نية القرابة أَوْ الْفَرْضِ وَهُوَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ عِنْدَ وُرُودِهِ لِأَنَّهُ اسْمٌ شَرْعِيٌّ مَوْضُوعٌ لَمَعَانٍ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً فِي اللُّغَةِ إلَّا أَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْفَرْضِ وَاسْتِقْرَارِ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ قَدْ عَقَلَ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعَ لَهُ فِيهَا بِتَوْقِيفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَّةِ عَلَيْهَا وقَوْله تَعَالَى [كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] يَعْتَوِرُهُ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَرْوِيٌّ عَنْ السَّلَفِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةَ إنَّهُ كتب على(1/214)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا وَهُمْ النَّصَارَى شَهْرُ رَمَضَان أو مقدار مِنْ عَدَدِ الْأَيَّامِ وَإِنَّمَا حَوَّلُوهُ وَزَادُوا فِيهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ كَانَ الصَّوْمُ مِنْ الْعَتَمَةِ إلَى الْعَتَمَةِ وَلَا يَحِلُّ بَعْدَ النَّوْمِ مَأْكَلٌ وَلَا مَشْرَبٌ وَلَا مَنْكَحٌ ثُمَّ نُسِخَ وَقَالَ آخَرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْنَا صِيَامُ أَيَّامٍ كَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ صِيَامُ أَيَّامٍ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مُسَاوَاتِهِ فِي الْمِقْدَارِ بَلْ جَائِزٌ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ الصَّوْمَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصِّيَامَ بِقَوْلِهِ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ] وَذَكَرَ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي قَدَّمْنَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ [كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] دَلَالَةٌ عَلَى الْمُرَادِ فِي الْعَدَدِ أَوْ فِي صِفَةِ الصِّيَامِ أَوْ فِي الْوَقْتِ كَانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا وَلَوْ عَلِمْنَا وَقْتَ صِيَامِ مَنْ قَبْلَنَا وَعَدَدَهُ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ صِفَةَ الصِّيَامِ وَمَا حَظَرَ عَلَى الصَّائِمِ فِيهِ بَعْدَ النَّوْمِ فَلَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى اسْتِعْمَالِ ظاهر اللفظ في احتداء صَوْمِ مَنْ قَبْلَنَا
وَقَدْ عَقَّبَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ] وَذَلِكَ جَائِزٌ وُقُوعُهُ عَلَى قَلِيلِ الْأَيَّامِ وَكَثِيرِهَا
فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ [شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] بَيَّنْ بِذَلِكَ عَدَدَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَوَقْتَهَا وَأَمَرَ بِصَوْمِهَا وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ ابْن أَبِي لَيْلَى وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ أن المراد بقوله تعالى [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ] صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ ثُمَّ نُسِخَ بِرَمَضَانَ قَوْله تَعَالَى [فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْإِفْطَارِ لمن لحقه الاسم سواء كان الصوم يضره أولا إلَّا أَنَّا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ غَيْرُ مُرَخَّصٍ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا خَافَ أَنْ تَزْدَادَ عَيْنُهُ وَجَعًا أَوْ حُمَّاهُ شِدَّةً أَفْطَرَ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ أَفْطَرَ وَقَضَى وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي سَمِعْتُهُ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أصابه المرض شق عَلَيْهِ فِيهِ الصِّيَامُ فَيَبْلُغُ مِنْهُ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيَقْضِيَ قَالَ مَالِكٌ وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَرَوْنَ عَلَى الْحَامِلِ إذَا اشْتَدَّ عَلَيْهَا الصِّيَامُ الْفِطْرَ وَالْقَضَاءَ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مَرَضًا مِنْ الْأَمْرَاضِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ أَيُّ مَرَضٍ إذَا مَرِضَ الرَّجُلُ حَلَّ لَهُ الْفِطْرُ فَإِنْ لَمْ يُطِقْ أَفْطَرَ فَأَمَّا إذَا أَطَاقَ وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ فَلَا يُفْطِرُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا(1/215)
ازْدَادَ مَرَضُ الْمَرِيضِ شِدَّةً زِيَادَةً بَيِّنَةً أَفْطَرَ وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةً مُحْتَمَلَةً لَمْ يُفْطِرْ فَثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الْإِفْطَارِ لِلْمَرِيضِ مَوْقُوفَةً عَلَى زِيَادَةِ الْمَرَضِ بِالصَّوْمِ وَأَنَّهُ مَا لَمْ يَخْشَ الضَّرَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الْإِفْطَارِ لِلْمَرِيضِ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَوْفِ الضَّرَرِ مَا
رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وَالصَّوْمَ وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ)
وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُخْصَتَهُمَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى خَوْفِ الضَّرَرِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ عَلَى وَلَدَيْهِمَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الْإِفْطَارِ فِي مِثْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بِخَوْفِ الضَّرَرِ إذْ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ صَحِيحَتَانِ لَا مَرَضَ بِهِمَا وَأُبِيحَ لَهُمَا الْإِفْطَارُ لِأَجْلِ الضَّرَرِ وَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسَافِرِ الْإِفْطَارَ وَلَيْسَ لِلسَّفَرِ حَدٌّ مَعْلُومٌ فِي اللُّغَةِ يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ أَقَلِّهِ وَبَيْنَ مَا هُوَ دُونَهُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلسَّفَرِ الْمُبِيحِ لِلْإِفْطَارِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا فِي الشَّرْعِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَقَالَ آخَرُونَ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَمْ يَكُنْ لِلُّغَةِ فِي ذَلِكَ حَظٌّ إذْ لَيْسَ فِيهَا حَصْرُ أَقَلِّهِ بِوَقْتٍ لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ مِنْهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعَادَةِ وَكُلُّ مَا كَانَ حُكْمُهُ مَأْخُوذًا مِنْ الْعَادَةِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ تَحْدِيدُهُ بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ السَّفَرَ مُشْتَقٌّ مِنْ السَّفَرِ الَّذِي هُوَ الْكَشْفُ مِنْ قَوْلِهِمْ سَفَرَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ إذَا أَضَاءَ وَسَفَرَتْ الرِّيحُ السَّحَابَ إذَا قَشَعَتْهُ وَالْمِسْفَرَةُ الْمِكْنَسَةُ لِأَنَّهَا تُسْفِرُ عَنْ الْأَرْضِ بِكَنْسِ التُّرَابِ وَأَسْفَرَ وَجْهُهُ إذَا أَضَاءَ وَأَشْرَقَ وَمِنْهُ قوله تعالى [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ] يَعْنِي مُشْرِقَةً مُضِيئَةً فَسُمِّيَ الْخُرُوجُ إلَى الْمَوْضِعِ الْبَعِيدِ سَفَرًا لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَنْ أَخْلَاقِ الْمُسَافِرِ وَأَحْوَالِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْنَى السَّفَرِ مَا وَصَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَبَيَّنُ فِي الْوَقْتِ الْيَسِيرِ وَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَنَّعُ فِي الْأَغْلَبِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ مَا يَكْشِفُهُ الْبَعِيدُ مِنْ أَخْلَاقِهِ فَإِنْ اعْتَبَرَ بِالْعَادَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَسَافَةَ الْقَرِيبَةَ لَا تُسَمَّى سَفَرًا وَالْبَعِيدَةُ تُسَمَّى إلَّا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ سَفَرٌ صَحِيحٌ فِيمَا يُتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَثَبَتَ أَنَّ الثَّلَاثَ سَفَرٌ وَمَا دُونَهَا لَمْ يَثْبُتْ لِعَدَمِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِ وَفَقْدِ التَّوْقِيفِ وَالِاتِّفَاقِ بِتَحْدِيدِهِ وَأَيْضًا قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ تَقْتَضِي اعْتِبَارَ الثَّلَاثِ فِي كَوْنِهَا سَفَرًا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَمِنْهَا
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُسَافِرَ امْرَأَةٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ
وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَوْمَيْنِ
فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ(1/216)
الْمُخْتَلِفَةُ
قَدْ رُوِيَتْ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتُلِفَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ)
وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ لَا تَخْرُجُ امْرَأَةٌ مِنْ مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ)
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَخْبَارِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ إنَّمَا هُوَ خبر واحد اختلفت الرواية في لفظه ولم يثبت أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ فِي أَحْوَالٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الزَّائِدِ أَوْلَى وَهُوَ الثَّلَاثُ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَمَا دُونَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ لِاخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فيه وأخبار ابن عمر لاختلاف فِيهَا فَهِيَ ثَابِتَةٌ وَفِيهَا ذِكْرُ الثَّلَاثِ وَلَوْ أَثْبَتْنَا ذِكْرَ أَخْبَارِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى اخْتِلَافِهَا لَكَانَ أَكْثَرُ أَحْوَالِهَا أَنْ تَتَضَادَّ وَتَسْقُطَ كَأَنَّهَا لَمْ تَرِدْ وَتَبْقَى لَنَا أَخْبَارُ ابْنِ عُمَرَ فِي اعْتِبَارِ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فَإِنْ قِيلَ أَخْبَارُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرُ مُتَعَارِضَةٍ لِأَنَّا نُثْبِتُ جَمِيعَ مَا روى فيها من التوقيف فَنَقُولُ لَا تُسَافِرْ يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ وَلَا ثَلَاثَةً قِيلَ لَهُ مَتَى اسْتَعْمَلْتَ مَا دُونَ الثَّلَاثِ فَقَدْ أَلْغَيْتَ الثَّلَاثَ وَجَعَلْتَ وُرُودَهَا وَعَدَمَهَا بِمَنْزِلَةٍ فَأَنْتَ غَيْرُ مُسْتَعْمِلٍ لِخَبَرِ الثَّلَاثِ مَعَ اسْتِعْمَالِكَ خَبَرَ مَا دُونَهَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا اسْتِعْمَالَ بَعْضِهَا وَإِلْغَاءَ الْبَعْضِ فَاسْتِعْمَالُ خَبَرِ الثَّلَاثِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ وَأَيْضًا قَدْ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الثَّلَاثِ مَعَ إثْبَاتِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ فِي الْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ وَهُوَ أَنَّهَا مَتَى أَرَادَتْ سَفَرَ الثَّلَاثِ لَمْ تَخْرُجْ الْيَوْمَ وَلَا الْيَوْمَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ لما حد الثلاث فمباح لها الخروج يوم أَوْ يَوْمَيْنِ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ وَإِنْ أرادت سفر الثلاث فأبان صلّى الله عليه وسلم حَظْرَ مَا دُونَهَا مَتَى أَرَادَتْهَا وَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيرُ الثَّلَاثِ فِي حَظْرِ الْخُرُوجِ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ثَبَتَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ اعْتَبَرَ فِي خُرُوجِ الْمَرْأَةِ الثَّلَاثَ اعْتَبَرَهَا فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ وَكُلُّ مَنْ قَدَّرَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ كَذَلِكَ قَدَّرَهُ فِي الْإِفْطَارِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ الثَّلَاثَ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ وَمَا دُونَهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فِي الشَّرْعِ فَوَجَبَ تَقْدِيرُهَا فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ خُرُوجِ سَاعَةٍ مِنْ النَّهَارِ وَأَيْضًا
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْمَسْحِ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ مَوْرِدَ بَيَانِ الْحُكْمِ لِجَمِيعِ الْمُسَافِرِينَ لِأَنَّ مَا وَرَدَ(1/217)
مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَحُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا اقْتَضَى الْبَيَانُ مِنْ التَّقْدِيرِ فَمَا مِنْ مُسَافِرٍ إلَّا وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ سَفَرُهُ ثَلَاثًا وَلَوْ كَانَ مَا دُونَ الثَّلَاثِ سَفَرًا فِي الشَّرْعِ لَكَانَ قَدْ بَقِيَ مُسَافِرٌ لَمْ يَتَبَيَّنْ حُكْمُهُ وَلَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ مَا اقْتَضَى الْبَيَانُ وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الْبَيَانِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ اسْمٌ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ فَمَا مِنْ مُسَافِرٍ إلَّا وَقَدْ انْتَظَمَهُ هَذَا الْحُكْمُ فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ فَلَيْسَ بِمُسَافِرٍ يَتَعَلَّقُ بِسَفَرِهِ حُكْمٌ وَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ هُوَ سَفَرُ ثَلَاثِ وَأَنَّ مَا دُونَهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي إفْطَارِ وَلَا قَصْرٍ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَإِنَّمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهِ الِاتِّفَاقُ أو التوقيف فلما عد منا فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ الِاتِّفَاقَ وَالتَّوْقِيفَ وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الثَّلَاثِ لِوُجُودِ الِاتِّفَاقِ فِيهِ أَنَّهُ سَفَرٌ يُبِيحُ الْإِفْطَارَ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ لُزُومُ فَرْضِ الصَّوْمِ هُوَ الْأَصْلُ وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ لَمْ يَجُزْ لَنَا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ تَرْكُ الْفَرْضِ إلَّا بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الثَّلَاثُ لِأَنَّ الْفُرُوضَ يُحْتَاطُ لَهَا وَلَا يُحْتَاطُ عَلَيْهَا وَقَدْ رُوِيَ عن عبد الله ابن مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ في أقل من الثلاث قوله تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ السَّلَفِ فِي تَأْوِيلِهِ فَرَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أُحِيلَ الصِّيَامُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ- إلَى قَوْلِهِ- وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ مِسْكِينًا وَأَجْزَى عَنْهُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الْأُخْرَى [شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ- إلَى قَوْلِهِ- فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ وَرَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَثَبَتَ الْإِطْعَامُ لِلْكَبِيرِ الذي لا يستطيع الصيام وعن عبد اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَعَلْقَمَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَعِكْرِمَةَ فِي قوله [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] قَالَ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَافْتَدَى وَأَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا حَتَّى نزل [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] وَرُوِيَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَا
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أبى إسحاق عن الحرث عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ مَنْ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ فَلِيُفْطِرْ وَلْيُطْعِمْ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا صَاعًا فَذَلِكَ قوله [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ]
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَا رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يقرأها [وعلى الذين(1/218)
يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] قَالَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي كَانَ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَهُوَ شَابٌّ فَأَدْرَكَهُ الْكِبَرُ وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصُومَ مِنْ ضَعْفٍ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتْرُكَ الطَّعَامَ فَيُفْطِرَ وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمِ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِثْلُهُ وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقْرَأُ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ] وَرَوَى خَالِدُ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ] قَالَ إنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ
وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ أبى إسحاق عن الحرث عن على [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ] قَالَ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَتْ الْفِرْقَةُ الْأُولَى مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ عَدَدًا إنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ بَدِيًّا نَزَلَ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ لِمَنْ يُطِيقُهُ بَيْنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ وَإِنَّهُ نُسِخَ عَنْ الْمُطِيقِ بِقَوْلِهِ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] وَقَالَتْ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ يُفْطِرَانِ وَيَقْضِيَانِ وَعَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ مَعَ الْقَضَاءِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَقْرَءُونَهَا [وَعَلَى الذين يطوقونه] فاحتمل هذا اللفظ معاني مِنْهَا مَا بَيَّنَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَرَادَ الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ ثُمَّ كَبِرُوا فَعَجَزُوا عَنْ الصَّوْمِ فَعَلَيْهِمْ الْإِطْعَامُ وَالْمَعْنَى الْآخَرُ أَنَّهُمْ يُكَلَّفُونَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ فِيهِ وَهَمَ لَا يُطِيقُونَهُ لِصُعُوبَتِهِ فَعَلَيْهِمْ الْإِطْعَامُ وَمَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ التَّكْلِيفِ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُطِيقِينَ لِلصَّوْمِ فَيُقَوَّمُ لَهُمْ الْفِدْيَةُ مَقَامَ مَا لَحِقَهُمْ مِنْ حُكْمِ تَكْلِيفِ الصَّوْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ حكم تكليف الطهارة بالماء قائم على التيمم وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتَّى أُقِيمَ التُّرَابُ مَقَامَهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ التَّيَمُّمُ بَدَلًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ حُكْمُ تَكْلِيفِ الصَّلَاةِ قَائِمٌ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي فِي بَابِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ لَا عَلَى وَجْهٍ لَزِمَهُ بِالتَّرْكِ فَلَمَّا أَوْجَبَ تَعَالَى عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ فِي حَالِ الْعَجْزِ وَالْإِيَاسِ عَنْ الْقَضَاءِ أُطْلِقَ فِيهِ اسْمُ التَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ] إذْ كَانَتْ الْفِدْيَةُ هِيَ مَا قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ فَالْقِرَاءَتَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعْمَلَتَانِ إلَّا أَنَّ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ] لَا مَحَالَةَ مَنْسُوخَةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مَنْ رَوَيْنَا عَنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَخْبَارِهِمْ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْفَرْضِ وَصِفَتِهِ بَدِيًّا وَأَنَّ الْمُطِيقَ لِلصَّوْمِ مِنْهُمْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ شَاهَدُوهَا وَعَلِمُوا أَنَّهَا بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ عَلَيْهَا وَفِي مَضْمُونِ الْخِطَابِ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا رِوَايَةٌ عَنْ السَّلَفِ فِي مَعْنَاهُ لَكَانَ كَافِيًا فِي الْإِبَانَةِ عَنْ مُرَادِهِ وهو قوله تَعَالَى [وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] فابتدأ تعالى بيان حُكْمِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمَا(1/219)
الْقَضَاءَ إذَا أَفْطَرَا
ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ إذْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حُكْمِهِمَا وَبَيَانُ فَرْضِهِمَا بِالِاسْمِ الْخَاصِّ لَهُمَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِمَا بِكِنَايَةٍ عَنْهُمَا مَعَ تَقْدِيمِهِ ذِكْرِهِمَا مَنْصُوصًا مُعَيَّنًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُهُ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُقِيمُونَ الْمُطِيقُونَ لِلصَّوْمِ أَنَّ الْمَرِيضَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الَّذِي يَخَافُ ضَرَرَ الصَّوْمِ فَكَيْفَ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِإِطَاقَةِ الصَّوْمِ وَهُوَ إنَّمَا رَخَّصَ لَهُ لِفَقْدِ الْإِطَاقَةِ وَلِلضَّرَرِ الْمَخُوفِ مِنْهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مِنْ قَوْله تعالى [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] وَلَيْسَ الصَّوْمُ خَيْرًا لِلْمَرِيضِ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ بَلْ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَنْهِيٌّ عَنْ الصَّوْمِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ لَمْ يُرَادَا بِالْفِدْيَةِ وَأَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا أَنَّ الْفِدْيَةَ مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْقَضَاءُ قَائِمٌ مَقَامَ الْفَرْضِ فَلَا يَكُونُ الْإِطْعَامُ حِينَئِذٍ فِدْيَةً وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أنه لم يرد بالفدية المريض والمسافر بقوله تَعَالَى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] مَنْسُوخٌ بِمَا قَدَّمْنَا وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ كَانَ الصَّوْمَ وَأَنَّهُ جُعِلَ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى الْفِدْيَةِ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عَنْ الصَّوْمِ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ مَا يَقُومُ مَقَامَ الشَّيْءِ وَلَوْ كَانَ الْإِطْعَامُ مَفْرُوضًا فِي نَفْسِهِ كَالصَّوْمِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ لَمَا كَانَ بَدَلًا كَمَا أَنَّ الْمُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ لَا يَكُونُ مَا كَفَّرَ بِهِ مِنْهَا بَدَلًا وَلَا فِدْيَةً عَنْ غَيْرِهَا وَإِنْ حُمِلَ مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِهِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى ضَمِيرٍ وَهُوَ وَعَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ ثُمَّ عَجَزُوا بِالْكِبَرِ مَعَ الْيَأْسِ عَنْ الْقَضَاءِ وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ ذَلِكَ إلَّا بِاتِّفَاقٍ أَوْ تَوْقِيفٍ وَمَعَ ذَلِكَ فِيهِ إزَالَةُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنَّ فِي حَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ إسْقَاطَ فَائِدَةِ قَوْلِهِ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ] لِأَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ بَعْدَ لُزُومِ الْفَرْضِ والدين لَحِقَهُمْ فَرْضُ الصَّوْمِ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْهُ بِالْكِبَرِ سَوَاءً فِي حُكْمِهِ وَيُحْمَلُ مَعْنَاهُ عَلَى أَنَّ الشيخ الكبير العاجز عن الصائم المأيوس مِنْ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فَسَقَطَ فَائِدَةُ قَوْلِهِ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ] إذْ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِيهِ بِذِكْرِ الْإِطَاقَةِ حُكْمٌ وَلَا مَعْنًى وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ [يُطَوَّقُونَهُ] يَحْتَمِلُ الشيخ المأيوس مِنْهُ الْقَضَاءُ مِنْ إيجَابِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ يُطَوَّقُونَهُ قَدْ اقْتَضَى تَكْلِيفَهُمْ حُكْمَ الصَّوْمِ مَعَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ عَلَيْهِمْ فِي فِعْلِهِ وَجَعَلَ لَهُمْ الْفِدْيَةَ قَائِمَةً مَقَامَ الصَّوْمِ فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ إذَا كَانَ مَعْنَاهَا مَا وَصَفْنَا فَهِيَ غَيْرُ(1/220)
منسوخة بل هي ثابتة الحكم إذا كان المراد بها الشيخ المأيوس مِنْهُ الْقَضَاءُ الْعَاجِزَ عَنْ الصَّوْمِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بمنه وكرمه.
ذِكْرِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يُطْعِمُ وَلَمْ يَذْكُرْ مِقْدَارَهُ وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ يُطْعِمُ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ كُلَّ يَوْمٍ وقال ربيعة ومالك لا أرى عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ وَإِنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِرَاءَتِهِ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ] وَأَنَّهُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَلَوْلَا أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِذَلِكَ لَمَا تَأَوَّلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَيْهِ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهَا مِنْ إيجَابِ الْفِدْيَةِ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا أَنَّهُ تَأَوَّلَ قوله [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ] عَلَى الشَّيْخِ الْكَبِيرِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا)
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ الَّذِي عَلَيْهِ الصِّيَامُ فَالشَّيْخُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْمَيِّتِ لِعَجْزِ الْجَمِيعِ عَنْ الصَّوْمِ فَإِنْ قِيلَ هَلَّا كَانَ الشَّيْخُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَمُوتَ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ قِيلَ لَهُ لِأَنَّ الْمَرِيضَ مُخَاطَبٌ بِقَضَائِهِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ فَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْفَرْضُ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ الْقَضَاءِ لِقَوْلِهِ [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] فَمَتَى لَمْ يَلْحَقْ الْعِدَّةَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ كَمَنْ لَمْ يَلْحَقْ رَمَضَانَ وَأَمَّا الشَّيْخُ فَلَا يُرْجَى لَهُ الْقَضَاءُ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ فَإِنَّمَا تعلق عليه حكم الْفَرْضِ فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ فِي الْحَالِ فَاخْتَلَفَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ السَّلَفِ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَإِيجَابَ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ خِلَافِ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ فصار ذلك إجماعا لا يسمع خِلَافُهُ وَأَمَّا الْوَجْهُ فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ فَهُوَ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الباقي ابن قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَخُو خَطَّافٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمُسْتَمْلِي قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي لَيْلَى عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يَقْضِهِ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ لِمِسْكِينٍ)
وَإِذَا ثَبَت ذَلِكَ فِي الْمُفْطِرِ فِي رَمَضَانَ إذَا مَاتَ ثَبَتَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ عُمُومٌ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ قَدْ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّكْلِيفِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَجَائِزٌ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَدْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ رَمَضَانَ فَقَدْ تَنَاوَلَهُ عُمُومُ اللَّفْظِ ومن جهة(1/221)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
أُخْرَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِدْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ هَذَا الْمِقْدَارُ وَقَدْ أُرِيدَ بِهَا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِقْدَارَ فِدْيَةِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ مُوجِبِي الْفِدْيَةِ عَلَى الشَّيْخِ الْكَبِيرِ لَمْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وقد روى عن ابن عباس وقيس ابن السَّائِبِ الَّذِي كَانَ شَرِيكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هريرة وسعيد ابن الْمُسَيِّبِ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ
وَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ إطْعَامَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ كُلُّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَ فِدْيَةِ الصَّوْمِ بِنِصْفِ صَاعٍ أَوْلَى مِنْهُ بِالْمُدِّ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الْأَصْلِ قَدْ تَعَلَّقَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا رَوَيْنَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا عضده قول الأكثرين عدادا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ النظر وقوله تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ] قَدْ اُخْتُلِفَ فِي ضَمِيرِ كِنَايَتِهِ فَقَالَ قَائِلُونَ هُوَ عَائِدٌ عَلَى الصَّوْمِ وَقَالَ آخَرُونَ إلَى الْفِدْيَةِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ مُظْهَرَهُ قَدْ تَقَدَّمَ والفدية لم يجز لَهَا ذِكْرٌ وَالضَّمِيرُ إنَّمَا يَكُونُ لِمُظْهَرٍ مُتَقَدِّمٍ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْفِدْيَةَ مُؤَنَّثَةٌ وَالضَّمِيرُ في الآية للمذكر في قوله [يُطِيقُونَهُ] وَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ قَادِرِينَ عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَلَا مُطِيقِينَ لَهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مُطِيقٌ لَهُ قَبْلَ أَنْ يفعله بقوله [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ] فَوَصَفَهُ بِالْإِطَاقَةِ مَعَ تَرْكِهِ لِلصَّوْمِ وَالْعُدُولِ عَنْهُ إلَى الْفِدْيَةِ وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ قَائِمَةٌ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا إذَا كَانَ الضَّمِيرُ هُوَ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مُطِيقًا لَهَا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَعَدَلَ إلَى الصَّوْمِ
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ [شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ] يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُجَبِّرَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَهْدِ الْكُفَّارَ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى [وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى - وقَوْله تَعَالَى- فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ] يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ الْفَائِدَةِ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِهِ فَيَكُونُ حَثًّا عَلَى التَّطَوُّعِ بِالطَّاعَاتِ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّطَوُّعَ بِزِيَادَةِ طَعَامِ الْفِدْيَةِ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ الْمَفْرُوضَ مِنْهُ نِصْفُ صَاعٍ فَإِنْ تَطَوَّعَ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ(1/222)
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُ كَبِرَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّوْمِ فَقَالَ يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّيْنِ فَأَطْعِمُوا عَنِّي ثَلَاثًا وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحَدَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّخْيِيرُ فِيهِ مِنْ الصِّيَامِ أَوْ الْإِطْعَامِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا فَعَلَهُ مُنْفَرِدًا فَهُوَ فَرْضٌ لَا تَطَوُّعَ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادَ الْآيَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ المراد الجمع بين الصيام والطعام فيكون الفرد أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ التَّطَوُّعُ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ فِيمَنْ يُطِيقُ الصَّوْمَ مِنْ الْأَصِحَّاءِ الْمُقِيمِينَ غَيْرِ الْمَرْضَى وَلَا الْمُسَافِرِينَ وَلَا الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ هُوَ الَّذِي يَخَافُ ضَرَرَ الصَّوْمِ وَلَيْسَ الصَّوْمُ بِخَيْرٍ لِمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ تَعْرِيضِ نفسه للتلف بالصوم والحامل والمرضع لا تخلو ان من أن يضربهما الصَّوْمُ أَوْ بِوَلَدَيْهِمَا وَأَيُّهُمَا كَانَ فَالْإِفْطَارُ خَيْرٌ لَهُمَا وَالصَّوْمُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ لَا يضربهما وَلَا بِوَلَدَيْهِمَا فَعَلَيْهِمَا الصَّوْمُ وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُمَا الْفِطْرُ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمَا غَيْرُ دَاخِلَتَيْنِ فِي قَوْله تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ] وقوله [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] عَائِدٌ إلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] عَائِدًا إلَى الْمُسَافِرِينَ أَيْضًا مَعَ عَوْدِهِ عَلَى الْمُقِيمِينَ الْمُخَيَّرِينَ بَيْن الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ فَيَكُونُ الصَّوْمُ خَيْرًا لِلْجَمِيعِ إذْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُسَافِرِينَ يُمْكِنُهُمْ الصَّوْمُ فِي الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ فِيهِ الْمَشَقَّةُ وَدَلَالَتُهُ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمٍ تَطَوُّعًا أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ نِصْفِ صَاعٍ لِأَنَّهُ فِي الْفَرْضِ كَذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا خَيَّرَهُ فِي الْفَرْضِ بَيْنَ صَوْمِ يَوْمٍ وَصَدَقَةِ نِصْفِ صَاعٍ جَعَلَ الصَّوْمَ أَفْضَلَ مِنْهَا فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا فِي التَّطَوُّعِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّق.
بَابُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وإذا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَإِنَّهُمَا تُفْطِرَانِ وَتَقْضِيَانِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُرْضِعِ إذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا وَلَا يَقْبَلُ الصَّبِيُّ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّهَا تُفْطِرُ وَتَقْضِي وَتُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِسْكِينًا وَالْحَامِلُ إذَا أَفْطَرَتْ لَا إطْعَامَ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَقَالَ مَالِكٌ وَإِنْ خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَهُمَا مِثْلُ الْمَرِيضِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَعَلَيْهِمَا(1/223)
الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرَا عَلَى الصَّوْمِ فَهُمَا مِثْلُ الْمَرِيضِ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ أَنَّ الْحَامِلَ لَا إطْعَامَ عَلَيْهَا وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ
فَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ إذَا أَفْطَرَتَا وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا
وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ بِلَا قَضَاءٍ وَقَالَ ابْنُ عُمَرُ وَمُجَاهِدٌ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ وَالْقَضَاءُ وَالْحُجَّةُ لِأَصْحَابِنَا مَا
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الواسطي قال حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد الْقَاسِمِ بْنُ سَلَامٍ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ هَذَا الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِ الْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَنِي قَالَ فَدَلَّنِي عَلَيْهِ فَلَقِيتُهُ فَقَالَ حَدَّثَنِي قَرِيبٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إبِلٍ لِجَارٍ لِي أُخِذَتْ فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ يَأْكُلُ فَدَعَانِي إلَى طَعَامِهِ فَقُلْتُ إنِّي صَائِمٌ فَقَالَ إذًا أُخْبِرُكَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ قَالَ فَكَانَ يَتَلَهَّفُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ أَلَا أَكُونُ أَكَلْت مِنْ طَعَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَانِي
قَالَ أَبُو بَكْرٍ شَطْرُ الصَّلَاةِ مَخْصُوصٌ بِهِ الْمُسَافِرُ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْحَمْلَ وَالرَّضَاعَ لَا يُبِيحَانِ قَصْرَ الصَّلَاةِ وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إخْبَارُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ وَضْعَ الصَّوْمِ عَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ هُوَ كَوَضْعِهِ عَنْ الْمُسَافِرِ أَلَا تَرَى أَنَّ وَضْعَ الصَّوْمِ الَّذِي جَعَلَهُ مِنْ حُكْمِ الْمُسَافِرِ هُوَ بِعَيْنِهِ جَعْلُهُ مِنْ حُكْمِ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ لِأَنَّهُ عَطَفَهُمَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ ذِكْرِ شَيْءٍ غَيْرَهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ وَضْعِ الصَّوْمِ عَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ هُوَ فِي حُكْمِ وَضْعِهِ عَنْ الْمُسَافِرِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَضْعَ الصَّوْمِ عَنْ الْمُسَافِرِ إنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ إيجَابِ قَضَائِهِ بِالْإِفْطَارِ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا إذْ لَمْ يَفْصِلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ يُرْجَى لَهُمَا الْقَضَاءُ وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمَا الْإِفْطَارُ لِلْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْوَلَدِ مَعَ إمْكَانِ الْقَضَاءِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَا كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فَإِنَّ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ وَالْفِدْيَةِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] لَمْ يَصِحَّ لَهُمْ وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ وَذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضَ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ وَأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْفِدْيَةِ وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فَلَيْسَ الْقَوْلُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَإِنَّمَا يَكُونُ(1/224)
تَوْقِيفًا فَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ لَمْ يَجْرِ لَهُمَا ذِكْرٌ فيما حكوا فوجب أن يكون تأويلهما مَحْمُولًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ ثَبَتَ نَسْخُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ لَهُمْ بِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِمَنْ تَضَمَّنَهُ أَوَّلُ الْآيَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ لِأَنَّهُمَا إذَا خَافَتَا الضَّرَرَ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ خَيْرًا لَهُمَا بَلْ مَحْظُورٌ عَلَيْهِمَا فِعْلُهُ وَإِنْ لَمْ تَخْشَيَا ضَرَرًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُمَا الْإِفْطَارُ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ على أنهما لم ترادا بالآية ويدل عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ مِنْ الْقَائِلِينَ بِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ وَالْقَضَاءِ أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى سَمَّى هَذَا الطَّعَامَ فِدْيَةً وَالْفِدْيَةُ مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ وَأَجْزَأَ عَنْهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ اجْتِمَاعُ الْقَضَاءِ وَالْفِدْيَةِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إذَا وَجَبَ فَقَدْ قَامَ مَقَامَ الْمَتْرُوكِ فَلَا يَكُونُ الْإِطْعَامُ فِدْيَةً وَإِنْ كَانَ فِدْيَةً صَحِيحَةً فَلَا قَضَاءَ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ قد أَجْزَأَتْ عَنْهُ وَقَامَتْ مَقَامَهُ فَإِنْ قِيلَ مَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ وَالْإِطْعَامُ قَائِمَيْنِ مَقَامَ الْمَتْرُوكِ قِيلَ لَهُ لَوْ كَانَ مَجْمُوعُهُمَا قَائِمَيْنِ مَقَامَ الْمَتْرُوكِ مِنْ الصَّوْمِ لَكَانَ الْإِطْعَامُ بَعْضَ الْفِدْيَةِ وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعَهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّى ذَلِكَ فِدْيَةً وَتَأْوِيلُكَ يُؤَدِّي إلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْآيَةِ وَأَيْضًا إذَا كَانَ الْأَصْلُ الْمُبِيحُ لِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الْإِفْطَارَ وَالْمُوجِبُ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةَ هُوَ قَوْله تَعَالَى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] وقد ذكر السلف الذين قدمنا قولهم أَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ مِنْ فِدْيَةٍ أَوْ صِيَامٍ لَا عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى إيجَابِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] حَذْفَ الْإِفْطَارِ كَأَنَّهُ قَالَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ إذَا أَفْطَرُوا فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا اقْتَصَرَ بِالْإِيجَابِ عَلَى ذِكْرِ الْفِدْيَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ غَيْرِهَا مَعَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ وَغَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْصُوصِ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ وَلَيْسَتَا كالشيخ الكبير الذي لا يرجى له الصوم لأنه مأيوس من صومه فلا قضاء عليه والإطعام الذي يلزمه فدية له إذ هو بنفسه قائم مقام المتروك من صومه والحامل والمرضع يرجى لهما الْقَضَاءُ فَهُمَا كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَإِنَّمَا يَسُوغُ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ لِابْنِ عَبَّاسٍ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى إيجَابِ الْفِدْيَةِ دُونَ الْقَضَاءِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ إذَا كَانَتَا إنَّمَا تَخَافَانَ عَلَى وَلَدَيْهِمَا دُونَ أَنْفُسِهِمَا فَهُمَا تُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَيَتَنَاوَلَهُمَا ظَاهِرُ قوله [وَعَلَى(1/225)
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ]
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبَانُ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ عِكْرِمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ فِي قَوْلِهِ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] قَالَ أُثْبِتَتْ لِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ
حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَزْرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ]
قَالَ كَانَتْ رُخْصَةً لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ وَهُمَا يُطِيقَانِ الصِّيَامَ أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَالْحُبْلَى وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا فَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ دُونَ الْقَضَاءِ عِنْدَ خَوْفِهِمَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا إذْ هُمَا تُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَشَمِلَهُمَا حُكْمُ الْآيَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ ذَهَبَ إلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حُكْمَ سَائِرِ الْمُطِيقِينَ لِلصَّوْمِ فِي إيجَابِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ وَهُوَ لَا مَحَالَةَ قَدْ يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ الصَّحِيحَ الْمُطِيقَ لِلصَّوْمِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُخَيَّرَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا إمَّا أَنْ تَخَافَا فَعَلَيْهِمَا الْإِفْطَارُ بِلَا تَخْيِيرٍ ولا تَخَافَا فَعَلَيْهِمَا الصِّيَامُ بِلَا تَخْيِيرٍ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَتَنَاوَلَ الْآيَةُ فَرِيقَيْنِ بِحُكْمٍ يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا إيجَابَ الْفِدْيَةِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ فِي أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ وَفِي الْفَرِيقِ الْآخَرِ إمَّا الصِّيَامُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ بِلَا تَخْيِيرٍ أَوْ الْفِدْيَةِ بِلَا تَخْيِيرٍ وَقَدْ تَنَاوَلَهُمَا لَفْظُ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أيضا فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا لِأَنَّ الصِّيَامَ لَا يَكُونُ خَيْرًا لَهُمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيِّ فِي تَسْوِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَبَيْنَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ وقَوْله تَعَالَى [شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ] الآية قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّ الْفَرْضَ الْأَوَّلَ كَانَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ بِقَوْلِهِ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ] وقوله تعالى [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ] وَأَنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ [شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ] وقوله مَنْ قَالَ إنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ بَيَانٌ لِلْمُوجِبِ بِقَوْلِهِ [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] وقوله [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ] فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَإِنْ كَانَ صَوْمُ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ [شَهْرُ رَمَضانَ] إلى قوله(1/226)
[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] فقد انتظم قوله [شَهْرُ رَمَضانَ] نَسْخَ حُكْمَيْنِ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى أَحَدُهُمَا الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْآخَرُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ فِي قَوْلِهِ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْ السَّلَفِ وإن كان قوله [شَهْرُ رَمَضانَ] بيانا لقوله [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ] فَقَدْ كَانَ لَا مَحَالَةَ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِ رَمَضَانَ التَّخْيِيرُ ثَابِتًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ إيجَابِهِ فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ النَّسْخُ بِقَوْلِهِ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِاسْتِفَاضَةِ الرِّوَايَةِ عَنْ السَّلَفِ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] فَإِنْ قِيلَ فِي فَحْوَى الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أن المراد بقوله [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ] غَيْرُ شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ وَلَوْ كان قوله [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ] فَرْضًا مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ التَّخْيِيرِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْفَرْضِ مَعْنَى قِيلَ لَهُ لَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ فَرْضٍ مُجْمَلًا مُضَمَّنًا بِحُكْمٍ مَفْهُومِ الْمَعْنَى مَوْقُوفٍ عَلَى الْبَيَانِ فَمَتَى وَرَدَ الْبَيَانُ بِمَا أُرِيدَ مِنْهُ كَانَ الْحُكْمُ الْمُضَمَّنُ بِهِ ثَابِتًا مَعَهُ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ حُكْمُهَا إذَا بُيِّنَ وَقْتُهَا وَمِقْدَارُهَا أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى [خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ] فَاسْمُ الْأَمْوَالِ عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ فِيمَا عَلِقَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ وَالصَّدَقَةُ مُجْمَلَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْبَيَانِ فَإِذَا وَرَدَ بَيَانُ الصَّدَقَةِ كَانَ اعْتِبَارُ عُمُومِ اسْمِ الْأَمْوَالِ سَائِغًا فِيهَا وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ] مُتَأَخِّرًا فِي التَّنْزِيلِ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا فِي التِّلَاوَةِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَاتِ وَتَرْتِيبُ مَعَانِيهَا أَيَّامًا معدودات هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ [فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] فَيَكُونُ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] فَنُسِخَ بِهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصَّوْمِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ [وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] مُؤَخَّرًا
فِي اللَّفْظِ وَكَانَ ذَلِكَ يَعْتَوِرُهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي التَّنْزِيلِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ فَكَأَنَّ الْكُلَّ مَذْكُورٌ مَعًا فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ- إلى قوله- شَهْرُ رَمَضانَ](1/227)
يَحْتَمِلُ مَا احْتَمَلَتْهُ قِصَةُ الْبَقَرَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] فَفِيهِ عِدَّةُ أَحْكَامٍ مِنْهَا إيجَابُ الصِّيَامِ عَلَى مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ فلو كان اقتصر قوله [كُتِبَ عَلَيْكُمُ- إلَى قَوْلِهِ- شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ] لَاقْتَضَى ذَلِكَ لُزُومَ الصَّوْمِ سَائِرَ النَّاسِ الْمُكَلَّفِينَ فَلَمَّا عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] بَيَّنَ أَنَّ لُزُومَ صَوْمِ الشَّهْرِ مَقْصُورٌ عَلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهُ وقَوْله تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ] يَعْتَوِرُهُ مَعَانٍ مِنْهَا مَنْ كَانَ شَاهِدًا يَعْنِي مُقِيمًا غَيْرَ مُسَافِرٍ كَمَا يُقَالُ لِلشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فَكَانَ لُزُومُ الصَّوْمِ مَخْصُوصًا بِهِ الْمُقِيمُونَ دُونَ الْمُسَافِرِينَ ثُمَّ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا لَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ الِاقْتِصَارَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عليهم دُونَ الْمُسَافِرِينَ ثُمَّ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا لَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ الِاقْتِصَارَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ دُونَ الْمُسَافِرِينَ إذْ لَمْ يُذْكَرُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِنْ صَوْمٍ وَلَا قَضَاءٍ فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى [وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] بَيَّنَ حُكْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ إذَا أَفْطَرُوا هَذَا إذَا كَانَ التَّأْوِيلُ في قوله [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ] الْإِقَامَةَ فِي الْحَضَرِ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى شَاهِدِ الشَّهْرِ أَيْ عَلِمَهُ ويحتمل قوله [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ] فَمَنْ شَهِدَهُ بِالتَّكْلِيفِ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ وَمَنْ لَيْسَ بأهل التَّكْلِيفِ فِي حُكْمِ مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي انْتِفَاءِ لُزُومِ الْفَرْضِ عَنْهُ فَأَطْلَقَ اسْمَ شُهُودِ الشَّهْرِ عَلَيْهِمْ وَأَرَادَ بِهِ التَّكْلِيفَ كَمَا قَالَ تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ] لَمَّا كَانُوا فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ سَمَّاهُمْ بُكْمًا عُمْيًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ [إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ] يَعْنِي عَقْلًا لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعَقْلِهِ فَكَأَنَّهُ لَا قَلْبَ لَهُ إذْ كَانَ الْعَقْلُ بِالْقَلْبِ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ شُهُودَ الشَّهْرِ عِبَارَةً عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ إذْ كَانَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ بمنزلة من ليس بموجود فِي بَابِ سُقُوطِ حُكْمِهِ عَنْهُ وَمِنْ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَفَادَةِ بِقَوْلِهِ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] غَيْرَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ تَعْيِينُ فَرْضِ رَمَضَانَ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِشُهُودِ الشَّهْرِ كَوْنِهِ فِيهِ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ وَأَنَّ الْمَجْنُونَ وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ صَوْمُ الشَّهْرِ والله أعلم بالصواب.
بَاب ذِكْرِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالثَّوْرِيُّ إذَا كَانَ مَجْنُونًا فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ وَقَالَ مالك ابن أنس فيمن بلغ وهو مجنون مطيق(1/228)
فَمَكَثَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ فَإِنَّهُ يَقْضِي صِيَامَ تِلْكَ السِّنِينَ وَلَا يَقْضِي الصَّلَاةَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْمَعْتُوهِ يُفِيقُ وَقَدْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ وَقَالَ فِي الْمَجْنُونِ الَّذِي يُجَنُّ ثُمَّ يُفِيقُ أَوْ الَّذِي يُصِيبُهُ الْمِرَّةَ ثُمَّ يُفِيقُ أَرَى عَلَى هَذَا أَنْ يَقْضِيَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَمَنْ جُنَّ فِي رَمَضَانَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَحَّ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ كَذَلِكَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يُفِقْ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّهْرِ إذْ لَمْ يَكُنْ شَاهَدَ الشَّهْرَ وَشُهُودُهُ الشَّهْرَ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا فِيهِ وَلَيْسَ الْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ)
فَإِنْ قِيلَ إذَا احْتَمَلَ قَوْلُهُ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] شُهُودُهُ بِالْإِقَامَةِ وَتَرْكِ السَّفَرِ دُونَ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ شُهُودِهِ بِالتَّكْلِيفِ فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ حَمْلَهُ عَلَى مَا ادَّعَيْتَ دُونَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ الْإِقَامَةِ قِيلَ لَهُ لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهُمَا غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ بَلْ جَائِزٌ إرَادَتُهُمَا مَعًا وَكَوْنُهُمَا شَرْطًا فِي لُزُومِ الصَّوْمِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ لا يكون مكلفا للصوم غَيْرَ مُرَخَّصٍ لَهُ فِي تَرْكِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخِطَابِ بِهِ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ الْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي الشَّهْرِ لَمْ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْخِطَابُ بِالصَّوْمِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ)
وَرَفْعُ الْقَلَمِ هُوَ إسْقَاطُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْجُنُونَ مَعْنًى يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ إذَا دَامَ بِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ إذَا دَامَ بِهِ الشَّهْرُ كُلُّهُ فِي سُقُوطِ فَرْضِ الصَّوْمِ وَيُفَارَقُ الْإِغْمَاءُ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الولاية بالإغماء وإن طَالَ وَفَارَقَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ الْمَجْنُونَ وَالصَّغِيرَ وَأَشْبَهَ الْإِغْمَاءُ النَّوْمَ فِي بَابِ نَفْيِ وِلَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ فَإِنْ قِيلَ لَا يَصِحُّ خِطَابُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ خِطَابُ الْمَجْنُونِ وَالتَّكْلِيفُ زَائِلٌ عَنْهُمَا جَمِيعًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ بِالْإِغْمَاءِ قِيلَ لَهُ الْإِغْمَاءُ وَإِنْ مَنَعَ الْخِطَابَ بِالصَّوْمِ فِي حَالِ وُجُودِهِ فَإِنَّ لَهُ أَصْلًا آخَرَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ [وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَرِيضِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ جَائِزٌ سَائِغٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِهِ حَالَ الْإِغْمَاءِ وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَرِيضِ(1/229)
عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَأَمَّا مَنْ أَفَاقَ مِنْ جُنُونِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّهْرِ فَإِنَّمَا أَلْزَمُوهُ الْقَضَاءَ بقوله [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ إذْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي جُزْءٍ مِنْهُ إذْ لَا يخلو قوله [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ] أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ شُهُودَ جَمِيعِ الشَّهْرِ أَوْ شُهُودَ جُزْءٍ مِنْهُ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ لُزُومِ الصَّوْمِ شُهُودَ الشَّهْرِ جَمِيعَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) تَنَاقُضُ اللَّفْظِ بِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَاهِدًا لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّهِ كُلِّهِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُضِيُّهُ شَرْطًا لِلُزُومِ صَوْمِهِ كُلِّهِ لِأَنَّ الْمَاضِيَ مِنْ الْوَقْتِ يَسْتَحِيلُ فِعْلُ الصَّوْمِ فِيهِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ شُهُودَ الشَّهْرِ جَمِيعَهُ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أنه لا خلاف أن من طرئ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّوْمَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ لشهوده جزأ مِنْ الشَّهْرِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ شَرْطَ تَكْلِيفِ صَوْمِ الشَّهْرِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ فَوَاجِبٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ إدْرَاكُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إلَّا صَوْمُ الْجُزْءِ الَّذِي أَدْرَكَهُ دُونَ غَيْرِهِ إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ شَرْطًا لِلُزُومِ الصَّوْمِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ فَمَنْ شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْبَعْضَ قِيلَ لَهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْت مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ لَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ لُزُومِ الصَّوْمِ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ لَكَانَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ اسْتِغْرَاقُ الشَّهْرِ كُلِّهِ فِي شَرْطِ اللُّزُومِ فَلَمَّا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْبَعْضَ دُونَ الْجَمِيعِ فِي شَرْطِ اللُّزُومِ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِي إيجَابِ الْجَمِيعِ إذْ كَانَ الشَّهْرُ اسْمًا لِجَمِيعِهِ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ جَمِيعَهُ فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا أَفَاقَ وَقَدْ بَقِيَتْ أَيَّامٌ مِنْ الشَّهْرِ يَلْزَمُكَ أَنْ لَا تُوجِبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى لِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِهِ صَوْمَ الْمَاضِي مِنْ الْأَيَّامِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُنْصَرِفًا إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ لَا صَوْمُهَا بِعَيْنِهَا وَجَائِزٌ لُزُومُ الْقَضَاءِ مَعَ امْتِنَاعِ خِطَابِهِ بِالصَّوْمِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسِيَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْتَحِيلُ خِطَابُهُ بِفِعْلِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَلَمْ تَكُنْ اسْتِحَالَةُ تَكْلِيفِهِمْ فِيهَا مَانِعَةً مِنْ لُزُومِ الْقَضَاءِ وَكَذَلِكَ نَاسِي الصَّلَاةِ وَالنَّائِمِ عَنْهَا فَإِنَّ الْخِطَابَ بِفِعْلِ الصَّوْمِ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا فِعْلُهُ فِي وَقْتِ التَّكْلِيفِ وَالْآخَرُ قَضَاؤُهُ فِي وَقْتٍ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْخِطَابُ بِفِعْلِهِ فِي حَالِ الْإِغْمَاءِ وَالنِّسْيَانِ وَاَللَّهُ أعلم.(1/230)
باب الغلام يبلغ والكافر يسلم ببعض رَمَضَانَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ شُهُودُ بَعْضِهِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ فِي بَعْضِ رَمَضَانَ أَوْ الْكَافِرِ يُسْلِمُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ يَصُومَانِ مَا بَقِيَ وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ مَا مَضَى وَلَا قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْبُلُوغُ أَوْ الْإِسْلَامُ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْضِيَهُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْغُلَامِ إذَا احْتَلَمَ فِي النِّصْفِ مِنْ رمضان أنه يقضى مِنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَقَالَ فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى وَقَالَ أَصْحَابُنَا يُسْتَحَبُّ لَهُمَا الْإِمْسَاكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الِاحْتِلَامُ أَوْ الْإِسْلَامُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ وَأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ وَالصَّبِيُّ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُهُ حُكْمَهُ وَأَيْضًا الصِّغَرُ يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ به على وجه التعليم وَلْيَعْتَادَهْ وَيُمَرَّنَ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى بَلَغَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ وَلَا قَضَاءَ الصِّيَامِ الْمَتْرُوكِ فِي حَالِ الصِّغَرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُهُ الْقَضَاءَ فِيمَا تَرَكَهُ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَلَوْ جَازَ إلْزَامُهُ قَضَاءَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ لَجَازَ إلْزَامُهُ قَضَاءَ الصَّوْمِ لِلْعَامِ الْمَاضِي إذَا كَانَ يُطِيقُهُ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ مَعَ إطَاقَتِهِ لِلصَّوْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي أَدْرَكَ فِي بَعْضِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الصَّبِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِهِ لِلصَّوْمِ إلَّا عَلَى شَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ وَمُنَافَاةِ الْكُفْرِ لِصِحَّةِ الصَّوْمِ فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ وَلَيْسَا كَالْمَجْنُونِ الَّذِي يُفِيقُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فِي إلْزَامِهِ الْقَضَاءَ لِمَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ جُنَّ فِي صِيَامِهِ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي صِحَّةَ صَوْمِهِ وَأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِيهَا فَأَشْبَهَ الصَّغِيرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي بَابِ اسْتِحْقَاقِ الْكَافِرِ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ وَالصَّغِيرُ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَيَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ لِمَا مَضَى عَمَّنْ أَسْلَمَ فِي بَعْضِ رَمَضَانَ قَوْله تَعَالَى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ]
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ وَالْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ)
وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا يُمْسِكُ الْمُسْلِمُ فِي بَعْضِ رَمَضَانَ وَالصَّبِيُّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ قبل أنه قد طرئ عَلَيْهِمَا وَهُمَا مُفْطِرَانِ(1/231)
حَالَ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ كَانَا مَأْمُورَيْنِ بِالصِّيَامِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَا مَأْمُورَيْنِ بِالْإِمْسَاكِ فِي مِثْلِهِ إذَا كَانَا مُفْطِرِينَ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يوم عاشوراء فقال من أهل فَلْيُمْسِكْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ
وَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ الْآكِلِينَ بِالْقَضَاءِ وَأَمَرَهُمْ بِالْإِمْسَاكِ مَعَ كَوْنِهِمْ مُفْطِرِينَ
لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ أَكَلُوا لَأُمِرُوا بِالصِّيَامِ فَاعْتَبَرْنَا بِذَلِكَ كُلَّ حَالٍ تَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَهُوَ مُفْطِرٌ بِمَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَوَّلِهِ كيف كان يَكُونُ حُكْمُهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلْزَمُهُ بِهَا الصَّوْمُ أُمِرَ بِالْإِمْسَاكِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَلْزَمُهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا فِي الْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَالْمُسَافِرُ إذَا قَدِمَ وَقَدْ أَفْطَرَ فِي سَفَرِهِ إنَّهُمَا مَأْمُورَانِ بِالْإِمْسَاكِ إذْ لَوْ كَانَتْ حَالَ الطُّهْرِ وَالْإِقَامَةِ مَوْجُودَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ كَانَا مَأْمُورَيْنِ بِالصِّيَامِ وَقَالُوا لَوْ حَاضَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ لَمْ تُؤْمَرْ بِالْإِمْسَاكِ إذْ الْحَيْضُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَمْ تُؤْمَرُ بِالصِّيَامِ فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا أَبَحْتَ لِمَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ سَافَرَ أَنْ يُفْطِرَ لِأَنَّ حَالَ السَّفَرِ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ سَافَرَ كَانَ مُبِيحًا لِلْإِفْطَارِ قِيلَ لَهُ لَمْ نَجْعَلَ مَا قَدَّمْنَا عِلَّةً لِلْإِفْطَارِ وَلَا لِلصَّوْمِ وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عِلَّةً لِإِمْسَاكِ الْمُفْطِرِ فَأَمَّا إبَاحَةُ الْإِفْطَارِ وَحَظْرِهِ فَلَهُ شَرْطٌ آخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ حَوَى قَوْله تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] أَحْكَامًا أُخَرَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْهَا دَلَالَتُهُ على أن من استبان له بعد ما أَصْبَحَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئَ صَوْمَهُ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُفَرِّقَ بَيْنَ مَنْ عَلِمَهُ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازُ تَرْكِ نِيَّةِ صَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ اللَّيْلِ وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَا فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَلَمْ يَتَقَدَّمَ لَهُمَا نِيَّةُ الصَّوْمِ مِنْ اللَّيْلِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِمَا أَنْ يَبْتَدِئَا الصِّيَامَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُمَا قَدْ شَهِدَا الشَّهْرَ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ شُهُودَ الشَّهْرِ شَرْطًا لِلُزُومِ الصَّوْمِ وَفِي الْآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى بِصِيَامِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ فَرْضٍ آخَرَ أَنَّهُ مُجْزِئٌ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِفِعْلِ الصَّوْمِ فِيهِ وَرَدَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ وَلَا مَخْصُوصٍ بِشَرْطِ نِيَّةِ الْفَرْضِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَامَ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَفِيهَا حُكْمٌ آخَرُ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى لُزُومِ صَوْمِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لِمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِفْطَارُ مَعَ كَوْنِ الْيَوْمِ مَحْكُومًا عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ وَقَدْ رَوَى رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ هِشَامٍ وَأَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ فِيمَنْ رَأَى الْهِلَالَ(1/232)
وَحْدَهُ أَنَّهُ لَا يَصُومُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي رَجُلٍ رَأَى هِلَالَ شَهْرِ رَمَضَانَ قَبْلَ النَّاسِ بِلَيْلَةٍ لَا يَصُومُ قَبْلَ النَّاسِ وَلَا يُفْطِرُ قَبْلَهُمْ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ شُبِّهَ لَهُ فَأَمَّا الْحَسَنُ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فِي أَنَّهُ لَا يَصُومُ وَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ تَيَقَّنَ الرُّؤْيَةَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ أَنَّهُ لَا يَصُومُ وَأَمَّا عَطَاءٌ فَإِنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَبَاحَ لَهُ الْإِفْطَارَ إذَا جَوَّزَ عَلَى نَفْسِهِ الشُّبْهَةَ فِي الرُّؤْيَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَأَى حَقِيقَةً وَإِنَّمَا تَخَيَّلَ لَهُ مَا ظَنَّهُ هِلَالًا وَظَاهِرُ الْآيَةِ يُوجِبُ الصَّوْمَ عَلَى مَنْ رَآهُ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ رَآهُ وَحْدَهُ وَمَنْ رَآهُ مَعَ النَّاسِ وَفِيهَا حُكْمٌ آخَرُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِدُخُولِ الشَّهْرِ لَمْ يُجْزِهِ صَوْمُهُ وَيَحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] قَالَ فَإِنَّمَا أَلْزَم الْفَرْضَ عَلَى مَنْ عَلِمَ به لأن قوله [فَمَنْ شَهِدَ] بِمَعْنَى شَاهَدَ وَعَلِمَ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَدٍّ لِفَرْضِهِ وَذَلِكَ كَنَحْوِ مَنْ يَصُومُ رَمَضَانَ عَلَى شَكٍّ ثُمَّ يَصِيرُ إلَى الْيَقِينِ وَلَا اشْتِبَاهَ كَالْأَسِيرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا صَامَ شَهْرًا فَإِذَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَقَالُوا لا يجزى مَنْ كَانَ هَذَا وَصْفَهُ وَيُحْكَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَعَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فيه قولان أحدهما أنه يجزى والآخر أنه لا يجزى وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْأَسِيرِ إذَا أَصَابَ عَيْنَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ وَكَذَلِكَ إذَا أَصَابَ شَهْرًا بَعْدَهُ وَأَصْحَابُنَا يُجِيزُونَ صَوْمَهُ بَعْدَ أَنْ يُصَادِفَ عَيْنَ الشَّهْرِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الفقهاء أنه إذا تحرى شهر أو غلب عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ رَمَضَانَ ثُمَّ صَارَ إلَى الْيَقِين وَلَا اشْتِبَاهَ أَنَّهُ رَمَضَانَ أَنَّهُ يُجْزِيهِ وَكَذَلِكَ إذَا تَحَرَّى وَقْتَ صَلَاةٍ فِي يَوْمِ غَيْمٍ وَصَلَّى عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ الْوَقْتُ يُجْزِيهِ وقَوْله تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] إن احْتَمَلَ الْعِلْمُ بِهِ فَغَيْرُ مَانِعٍ مِنْ جَوَازِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ وَمَنْعِ تَأْخِيرِهِ وَأَمَّا نَفْيُ الْجَوَازِ فَلَا
دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ مِنْ مَنْعِ جَوَازِهِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ وَهُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِرَمَضَانَ الْقَضَاءَ لِأَنَّهُ لَمْ يُشَاهِدْ الشَّهْرَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى لُزُومِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطُ جَوَازِ صَوْمِهِ الْعِلْمَ بِهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ شَرْطُ وُجُوبِ قَضَائِهِ الْعِلْمَ به ولما كان من وصفنا حاله مَنْ فَقَدَ عِلْمَهُ بِالشَّهْرِ شَاهِدًا لَهُ فِي بَابِ لُزُومِهِ قَضَاءَهُ إذَا لَمْ يَصُمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لَهُ فِي بَابِ جَوَازِ صَوْمِهِ مَتَى صَادَفَ عَيْنَهُ وَأَيْضًا إذَا احْتَمَلَ قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ] أَنْ يَعْنِي بِهِ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي الشَّهْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ(1/233)
بَيَانُهُ فَوَاجِبٌ أَنْ يُجْزِيَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَهِدَ الشَّهْرُ وَهَذَا شَاهِدٌ لِلشَّهْرِ مِنْ حَيْثُ كان من أهل التكليف فاقتضى ظاهرا الْآيَةِ جَوَازَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِدُخُولِهِ وَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ أَبَى جَوَازَهُ عِنْدَ فَقْدِ العلم
بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثَلَاثِينَ)
قَالُوا فَإِذَا كَانَ مَأْمُورًا بِفِعْلِ الصَّوْمِ لرؤيته مُتَقَدِّمَةٍ فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ صَوْمُهُ مَعَ الْحُكْمِ بِهِ مِنْ شَعْبَانَ إذْ كَانَ صَوْمُ شَعْبَانَ غَيْرُ مُجْزِئٍ عَنْ رَمَضَانَ وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مَانِعٍ جَوَازَهُ كَمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ إذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ وَإِنَّمَا كَانَ مَحْكُومًا بِأَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى شَرْطِ فَقْدِ الْعِلْمِ فَإِذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَتَى عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ مَحْكُومٌ لَهُ بِهِ مِنْ الشَّهْرِ وَيَنْتَقِضُ مَا كُنَّا حَكَمْنَا بِهِ بَدِيًّا مِنْ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَكَانَ حُكْمُنَا بِذَلِكَ مُنْتَظَرًا مُرَاعًى وَكَذَلِكَ يَكُونُ صَوْمُ يَوْمِهِ ذَلِكَ مُرَاعًى فَإِنْ اسْتَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ فَهُوَ تَطَوُّعٌ فَإِنْ قِيلَ وُجُوبُ قَضَائِهِ إذَا أَفْطَرَ فِيهِ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى جَوَازِهِ إذَا صَامَهُ لِأَنَّ الْحَائِضَ يَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ وَلَمْ يَدُلُّ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْجَوَازِ قِيلَ لَهُ إذَا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ صَوْمِهِ فَقْدَ الْعِلْمِ بِهِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَانِعًا مِنْ لُزُومِ قَضَائِهِ إذَا أَفْطَرَ فِيهِ كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ لِأَنَّك زَعَمْتَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جَوَازِهِ كونه غير شاهد للشهر وغيره عَالِمٍ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ الشَّهْرَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ حُكْمُ الْوُجُوبِ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ شَهِدَهُ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهُ وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ حُكْمُ الْجَوَازِ إذَا صَامَ وَحُكْمُ الْقَضَاءِ إذَا أَفْطَرَ وَأَمَّا الْحَائِضُ فَلَا يَتَعَلَّقَ عَلَيْهَا حُكْمُ تَكْلِيفِ الصَّوْمِ مِنْ جِهَةِ شُهُودِهَا لِلشَّهْرِ وَعِلْمِهَا بِهِ لِأَنَّهَا مَعَ عِلْمِهَا بِهِ لَا يُجْزِيهَا صَوْمُهُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ مَعَ ذَلِكَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ بِإِفْطَارِهَا إذْ لَيْسَ لَهَا فِعْلٌ فِي الْإِفْطَارِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ سُقُوطُ الْقَضَاءِ عَنْهَا مِنْ حَيْثُ لَمْ يُجْزِهَا صَوْمُهَا وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْحُكْمِ وَهُوَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ
إذَا طرئ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِفْطَارُ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ
وَعَنْ عُبَيْدَةَ وَأَبِي مِجْلَزٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ إنْ شَاءَ أَفْطَرَ إذَا سَافَرَ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ فَعَلَيْهِ إكْمَالُ صَوْمِهِ بِمُقْتَضَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَ الْآخَرِينَ إلْزَامُ فَرْضِ الصَّوْمِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُقِيمًا لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ الْمُسَافِرِ عَقِيبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ [وَمَنْ كانَ(1/234)
مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ سَافَرَ وَبَيْنَ مَنْ كَانَ مُسَافِرًا فِي ابْتِدَائِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قوله [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] مَقْصُورُ الْحُكْمِ عَلَى حَالِ الْإِقَامَةِ دُونَ حَالِ السَّفَرِ بَعْدَهَا وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرُوا لَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لِمَنْ كَانَ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ أَقَامَ أَنْ يُفْطِرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] وَقَدْ كَانَ هَذَا مُسَافِرًا وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مريضا في أوله ثم برىء وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْإِفْطَارُ بِقَضِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ إذْ قَدْ حَصَلَ لَهُ اسْمُ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ [وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] مَانِعًا مِنْ لُزُومِ صَوْمِهِ إذَا أَقَامَ أَوْ برىء فِي بَعْضِ الشَّهْرِ وَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ بَقَاءِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ كَذَلِكَ قَوْلُهُ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ] مَقْصُورٌ عَلَى حَالِ بَقَاءِ الْإِقَامَةِ وَقَدْ نَقَلَ أَهْلُ السِّيَرِ وَغَيْرُهُمْ إنْشَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ فِي عَامِ الْفَتْحِ وَصَوْمَهُ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ وَإِفْطَارَهُ بَعْدَ صَوْمِهِ وَأَمْرَهُ النَّاسَ بِالْإِفْطَارِ مَعَ آثَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى ذِكْرِ الْأَسَانِيدِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ فِي قَوْله تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] مَقْصُورٌ عَلَى حَالِ بَقَاءِ الْإِقَامَةِ فِي إلْزَامِ الصوم وترك الإفطار قوله تعالى [فَلْيَصُمْهُ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ] وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَحَوَاهُ مِنْ الْمَعَانِي بِمَا حَضَرَ وَنَتَكَلَّمُ الْآنَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ في معنى قوله [فَلْيَصُمْهُ] وَمَا حَوَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَانْتَظَمَهُ مِنْ الْمَعَانِي فَنَقُولُ إنَّ الصَّوْمَ عَلَى ضَرْبَيْنِ صَوْمٌ لُغَوِيٌّ وَصَوْمٌ شَرْعِيٌّ فَأَمَّا الصَّوْمُ اللُّغَوِيُّ فَأَصْلُهُ الْإِمْسَاكُ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ دَوَّنَ غَيْرِهِمَا بَلْ كُلُّ إمْسَاكٍ فَهُوَ مُسَمًّى فِي اللُّغَةِ صَوْمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً] وَالْمُرَادُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْكَلَامِ يَدُلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عقيبه [فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا] وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَخَيْلٌ صِيَامٌ يَلُكْنَ اللُّجُمَ وَقَالَ النَّابِغَةُ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجُمَا
وَتَقُولُ الْعَرَبُ صَامَ النهار وصامت الشمس عند قيام الظهيرة لِأَنَّهَا كَالْمُمْسِكَةِ عَنْ الْحَرَكَةِ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْس:(1/235)
فَدَعْهَا وَسَلِّ الْهَمَّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ ... ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا
فَهَذَا مَعْنَى اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ يَتَنَاوَلُ ضَرْبًا مِنْ الْإِمْسَاكِ عَلَى شَرَائِطَ مَعْلُومَةٍ لَمْ يَكُنِ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُهُ فِي اللُّغَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ ذَلِكَ مِنْ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ خُلُوَّ الْإِنْسَانِ مِنْ الْمُتَضَادَّاتِ حَتَّى لَا يَكُونُ سَاكِنًا وَلَا مُتَحَرِّكًا وَلَا آكِلًا وَلَا تَارِكًا وَلَا قَائِمًا وَلَا قَاعِدًا وَلَا مُضْطَجِعًا وَهَذَا مُحَالٌ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِضَرْبٍ مِنْ الْإِمْسَاكِ دُونَ جَمِيعِ ضُرُوبِهِ فَالضَّرْبُ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَشَرَطَ فِيهِ عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مَعَ ذَلِكَ الْإِمْسَاكِ عَنْ الْحُقْنَةِ وَالسَّعُوطِ وَالِاسْتِقَاءِ عَمْدًا إذَا مَلَأَ الْفَمَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُوجِبُ فِي الْحُقْنَةِ وَالسَّعُوطِ قَضَاءً وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِقَاءُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَى مَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا الْقَضَاءَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَصَلَ إلى الجوف من جراحة جائفة وآمة فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَرْكِ الْحِجَامَةِ هَلْ هُوَ مِنْ الصَّوْمِ فَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ الْحِجَامَةُ لَا تُفْطِرُهُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ تُفْطِرْهُ وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي بَلْعِ الْحَصَاةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ تُفْطِرُهُ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا تُفْطِرُهُ وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّائِمِ يَكُونُ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَيَأْكُلُهُ مُتَعَمِّدًا فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ قَالَ إذَا كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ مِنْ لَحْمٍ أَوْ سويق وخبز فَجَاءَ عَلَى لِسَانِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ وَهُوَ ذَاكِرٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ قَالَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ أَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ وَقَالَ الْحَسَنُ اين صَالِحٍ إذَا دَخَل الذُّبَابُ جَوْفَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحَيْضَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْجُنُبِ فَقَالَ عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَصَوْمُهُ تَامٌّ مَعَ الْجَنَابَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ مُسْتَحَبٌّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَكَانَ يَقُولُ يَصُومَ تَطَوُّعًا وَإِنْ أَصْبَحَ جُنُبًا وَقَالَ فِي الْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ مِنْ اللَّيْلِ وَلَمْ تَغْتَسِلْ حَتَّى أَصْبَحَتْ فَعَلَيْهَا قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَهَذِهِ أُمُورٌ منها متفق(1/236)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
عَلَيْهِ فِي
أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْهُ صَوْمٌ وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْأَصْلُ فِيهِ
قَوْله تَعَالَى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ- إلَى قَوْلِهِ- فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] فَأَبَاحَ الْجِمَاعَ وَالْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ثُمَّ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الصِّيَامِ إلَى اللَّيْلِ وَفِي فَحْوَى هَذَا الْكَلَامِ وَمَضْمُونِهِ حَظْرُ مَا أَبَاحَهُ بِاللَّيْلِ مِمَّا قُدِّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَثَبَتَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ هُوَ مِنْ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ غَيْرِهَا لَيْسَ مِنْ الصَّوْمِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى دَلَالَتِهِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِمَّا هُوَ مِنْ شَرَائِطِ لُزُومِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ إمْسَاكًا وَلَا صَوْمًا الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الصَّغِيرَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّوْمِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فإن الكافر وإن كانا مُخَاطَبًا بِهِ مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يُخَاطَبْ بِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ مِنْهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ وَطُهْرُ الْمَرْأَةِ عَنْ الْحَيْضِ مِنْ شَرَائِطِ تَكْلِيفِ صَوْمِ الشَّهْرِ وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ وَالْإِقَامَةُ وَالصِّحَّةُ وَإِنْ وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي الثَّانِي وَالْعَقْلُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَجْنُونِ فِي رَمَضَانَ وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ سَائِرِ ضُرُوبِ الصَّوْمِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ صَوْمٌ مُسْتَحَقُّ الْعَيْنِ وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَنَذْرُ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ وَصَوْمٌ فِي الذِّمَّةِ فَالصَّوْمُ الْمُسْتَحَقُّ الْعَيْنِ وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ فِيهِمَا تَرْكُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ إذَا نَوَاهُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَمَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِتَقْدِمَةِ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ وَقَالَ زُفَرُ يَجُوزُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَقَالَ مَالِكٌ يَكْفِي لِلشَّهْرِ كُلِّهِ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ بَلْعَ الْحَصَاةِ وَنَحْوِهَا يُوجِبُ الْإِفْطَارَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا فِي الْعَادَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِغِذَاءٍ وَلَا دَوَاءٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّ قَوْلَهُ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] قَدْ انْطَوَى تَحْتَهُ الْأَكْلُ فَهُوَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ مَا أُكِلَ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَلْعُ الْحَصَاةِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي إيجَابِ الْإِفْطَارِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَلْعِ الْحَصَاةِ صَدَرَ عَنْ الْآيَةِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهَا فَاقْتَضَى إطْلَاقُ الْأَمْرِ بِالصِّيَامِ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ دُخُولَ الْحَصَاةِ فِيهِ كَسَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ فَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وجوب القضاء(1/237)
فِي سَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ فَهِيَ دَالَّةٌ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِهِ فِي أَكْلِ الْحَصَاةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ سَائِرِ مَا يَأْكُلُهُ لَا يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا أَكَلَهُ عَمْدًا وَأَمَّا السَّعُوطُ وَالدَّوَاءُ الْوَاصِلُ بِالْجَائِفَةِ أَوْ الْآمَّةِ فَالْأَصْلُ فِيهِ
حَدِيثُ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فَأَمَرَهُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ وَنَهَاهُ عَنْهَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا وَصَلَ بِالِاسْتِنْشَاقِ إلَى الْحَلْقِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ أَنَّهُ يُفْطِرُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ لِنَهْيِهِ عَنْهَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ مَعْنًى مَعَ أَمْرِهِ بِهَا فِي غَيْرِ الصَّوْمِ وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ فِي كُلِّ مَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ وَاسْتَقَرَّ فِيهِ مِمَّا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ وُصُولُهُ مِنْ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ أَوْ مِنْ مُخَارِقِ الْبَدَنِ الَّتِي هِيَ خِلْقَةٌ فِي بِنْيَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ وُصُولُهُ إلَى الْجَوْفِ وَاسْتِقْرَارِهِ فِيهِ مَعَ إمْكَانِ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ الذُّبَابُ وَالدُّخَانُ وَالْغُبَارُ يَدْخُلُ حَلْقَهُ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ مِنْهُ بِإِطْبَاقِ الْفَمِ فَإِنْ قِيلَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُوجِبُ بِالْإِفْطَارِ فِي الْإِحْلِيلِ الْقَضَاءَ قِيلَ لَهُ إنَّمَا لَمْ يُوجِبْهُ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْمَثَانَةِ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مَنْصُوصًا وَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ إنْ وَصَلَ إلَى الْمَثَانَةِ أَفْطَرَ وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَإِنَّهُمَا اعْتَبَرَا وُصُولَهُ إلَى الْجَوْفِ مِنْ مُخَارِقِ الْبَدَنِ الَّتِي هِيَ خِلْقَةٌ فِي بِنِيَّةِ الْإِنْسَانِ وَأَمَّا وَجْهُ إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى مِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا دُونَ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُفْطِرَهُ الِاسْتِقَاءُ عَمْدًا لِأَنَّ الْفِطْرَ فِي الْأَصْلِ هُوَ مِنْ الْأَكْلِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ الْجِمَاعِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّهُ لَا يُفْطِرُهُ الِاسْتِقَاءُ عَمْدًا لِأَنَّ الْإِفْطَارَ مِمَّا يَدْخُلُ وَلَيْسَ مِمَّا يَخْرُجُ وَالْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ وَكَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْبَدَنِ لَا يُوجِبُ الْإِفْطَارَ بِالِاتِّفَاقِ فَكَانَ خُرُوجُ الْقَيْءِ بِمَثَابَتِهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ ولاحظ لِلنَّظَرِ مَعَ الْأَثَرِ وَالْأَثَرُ الثَّابِتُ هُوَ
حَدِيثُ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
فَإِنْ قِيلَ خَبَرُ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ فِي الْأَكْلِ نَاسِيًا قِيلَ له قد روى عيسى بن يونس لخبرين مَعًا عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ وَعِيسَى بْنُ يونس هو(1/238)
الثقة المأمون المتفق على ثبته وصدقه
قد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ رَوَى أَيْضًا حَفْصُ بْنُ غَيَّاثٍ عَنْ هِشَامٍ مِثْلَهُ وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَعِيشَ بن الوليد أن معدان ابن أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَأَفْطَرَ قَالَ فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ صَدَقَ وَأَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ
وَرَوَى وهب ابن جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ عَنْ حُبَيْشٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرِبَ مَاءً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَكُ صَائِمًا فَقَالَ بَلَى وَلَكِنِّي قِئْتُ
وَإِنَّمَا تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي الِاسْتِقَاءِ لِهَذِهِ الْآثَارِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ روى أن القيء لا يفطر
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا يُفْطِرُ مَنْ قَاءَ وَلَا مَنْ احْتَلَمَ ولا من احتجم)
قيل له
وروى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ عَنْ زَيْدِ ابن أَسْلَمَ عَنْ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (مَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَمْ يُفْطِرْ وَمَنْ احْتَلَمَ فَلَمْ يُفْطِرْ وَمَنْ احْتَجَمَ فَلَمْ يفطر)
فبين في هَذَا الْحَدِيثُ الْقَيْءَ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْإِفْطَارَ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ لَكَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَهُ عَلَى مَعْنَاهُ وَأَنْ لَا يَسْقُطَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ بِالْآخَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَأَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّضَادِّ استعملناهما جميعا ولم يبلغ أَحَدُهُمَا وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّهُ إذَا اسْتَقَاءَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فِيهِ لَمْ يُفْطِرْهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْقَيْءِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ شَيْءٌ بِالْجُشَاءِ لَا يُقَالُ إنَّهُ قَدْ تَقَيَّأَ وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ عِنْدَ كَثْرَتِهِ وَخُرُوجِهِ وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي تَقْدِيرِ مِلْءِ الْفَمِ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ إمْسَاكُهُ فِي الْفَمِ لِكَثْرَتِهِ فَيُسَمَّى حِينَئِذٍ قَيْئًا وَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَإِنَّمَا قَالُوا إنَّهَا لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ الْبَدَنِ لَا يُوجِبُ الْإِفْطَارَ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْعَرَقِ وَاللَّبَنِ وَلِذَلِكَ لَوْ جُرِحَ إنْسَانٌ أَوْ اُفْتُصِدَ لَمْ يُفْطِرْهُ فَكَانَتْ الْحِجَامَةُ قِيَاسَ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ ليس من الصوم الشرعي لم يجزلنا أَنْ نُلْحِقَ بِهِ إلَّا مَا وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ أَوْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ وَقَدْ وَرَدَ بِإِبَاحَةِ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ آثَارٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ ذَلِكَ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ الْبَزَّازُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُمَاهِرِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ(1/239)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ الْقَيْءُ وَالِاحْتِلَامُ وَالْحِجَامَةُ)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو داود قَالَ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شعبة عن يزيد بن أبى زيادة عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ صَائِمًا محرم
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْيَمَانِيِّ عَنْ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيحَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ بِرَجُلٍ وهو يحتجم فقال صلّى الله عليه وسلم (أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ) ثُمَّ أَتَاهُ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلَهُ عَنْ الْحِجَامَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فقال (إذا تبيغ أحدكم بالدم فَلْيَحْتَجِمْ)
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ حَبِيبٍ أَبُو حِصْنٍ الْكُوفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَغُشِيَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ كَرِهَهُ
وَحَدَّثَنَا محمد بن أبى بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ مَا كُنَّا نَدَعُ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ إلَّا كَرَاهِيَةَ الْجَهْدِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ
قَدْ رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ
وَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى على رحل بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي لِثَمَانِي عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ
قِيلَ لَهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةَ هَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ النَّقْلِ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ ثَوْبَانَ وَبَعْضُهُمْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَمِثْلُ هَذَا الِاضْطِرَابِ فِي السَّنَدِ يُوهِنُهُ فَأَمَّا حَدِيثُ مَكْحُولٍ فَإِنَّ أَصْلَهُ عَنْ شَيْخِ مِنْ الْحَيِّ مَجْهُولٍ عَنْ ثَوْبَانَ وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ إذَا أَشَارَ بِهِ إلَى عَيْنٍ دَلَالَةً عَلَى وُقُوعِ الْإِفْطَارِ بِالْحِجَامَةِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْحِجَامَةِ فِي مِثْلِهِ تَعْرِيفٌ لَهُمَا كَقَوْلِكَ أَفْطَرَ الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ وَأَفْطَرَ زَيْدٌ إذَا أَشَرْتَ بِهِ إلَى عَيْنٍ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ يُفْطِرُ وَعَلَى أَنَّ كَوْنَهُ زَيْدًا يُفْطِرُهُ كَذَلِكَ قَوْلُهُ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ لَمَّا أَشَارَ بِهِ إلَى رَجُلَيْنِ بِأَعْيُنِهِمَا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُقُوعِ الْفِطْرِ بِالْحِجَامَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ شَاهَدَهُمَا عَلَى حَالٍ توجب الإفطار من أكل أو غيره فأخبر بِالْإِفْطَارِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِلَّتِهِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ شَاهَدَهُمَا عَلَى غَيْبَةٍ مِنْهُمَا لِلنَّاسِ فَقَالَ إنَّهُمَا أَفْطَرَا كَمَا
رَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبَانَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْغِيبَةُ تُفْطِرُ(1/240)
الصَّائِمَ)
وَلَيْسَ الْمَعْنَى فِيهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الْخُرُوجُ مِنْهُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ إبْطَالُ ثَوَابِهِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ إفْطَارِ الْحَاجِمِ وَالْمَحْجُومِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَعَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي رَوَيْنَا فِيهَا ذِكْرَ تَارِيخِ الرُّخْصَةِ بَعْدَ النَّهْيِ وَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ الْحِجَامَةِ كَانَ لِمَا يُخَافُ مِنْ الضَّعْفِ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ حِينَ رَأَى رَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمْ فِيمَنْ بَلَعَ شَيْئًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ لَمْ يُفْطِرْهُ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَجْزَاءِ الْمَاءِ الْبَاقِيَةِ فِي فَمِهِ بَعْدَ غَسْلِ فَمِهِ لِلْمَضْمَضَةِ وَمَعْلُومٌ وُصُولُهَا إلَى جَوْفِهِ ولا حكم لها كذلك الأجزاء الباقية في فيه هِيَ بِمَنْزِلَةِ مَا وَصَفْنَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ بِاللَّيْلِ سَوِيقًا أَنَّهُ لَا يَخْلُو إذَا أَصْبَحَ مِنْ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ بَيْنَ أَسْنَانِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَحَدٌ بِتَقَصِّي إخْرَاجِهَا بِالْأَخِلَّةِ وَالْمَضْمَضَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ لَا حُكْمَ لَهَا وَأَمَّا الذُّبَابُ الْوَاصِلُ إلَى جَوْفِهِ مِنْ غَيْرِ إرَادَتِهِ فَإِنَّمَا لَمْ يُفْطِرْهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ غَيْرُ مُتَحَفَّظٍ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِإِطْبَاقِ الْفَمِ وَتَرْكِ الْكَلَامِ خَوْفًا مِنْ وُصُولِهِ إلَى جَوْفِهِ فَأَشْبَهَ الْغُبَارَ وَالدُّخَانَ يَدْخُلُ إلَى حَلْقِهِ فَلَا يُفْطِرُهُ وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُوجِرَ مَاءً وَهُوَ صَائِمٌ مُكْرَهًا فَيُفْطِرُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَادَةِ فِي هَذَا تَأْثِيرٌ وَإِنَّمَا بَيَّنَّا حُكْمَ وُصُولِ الذُّبَابِ إلَى جَوْفِهِ مَعْلُومًا عَلَى الْعَادَةِ فِي فَتْحِ الْفَمِ بِالْكَلَامِ وَمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَادَةِ مِمَّا يَشُقُّ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَقَدْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ الْعِبَادِ فِيهِ قَالَ اللَّهُ [وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] وَأَمَّا الْجَنَابَةُ فَإِنَّهَا غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ صِحَّةِ الصَّوْمِ لِقَوْلِهِ [فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] فَأَطْلَقَ الْجِمَاعَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَصَادَفَ فَرَاغُهُ مِنْ الْجِمَاعِ طُلُوعَ الْفَجْرِ أَنَّهُ يُصْبِحُ جُنُبًا وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بِصِحَّةِ صِيَامِهِ بقوله [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] وَرَوَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ يَوْمَهُ ذَلِكَ
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ)
وَهُوَ يُوجِبُ الْجَنَابَةَ وحكم النبي صلّى الله عليه وسلم مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّةِ صَوْمِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ خَبَرًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا يَصُومَنَّ يَوْمَهُ ذَلِكَ)
إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُخْبِرَ بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا عِلْمَ لِي بِهَذَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَهَذَا مِمَّا يُوهِنُ خَبَرَهُ لِأَنَّهُ قَالَ بَدِيًّا مَا أَنَا قُلْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَقَدْ أَفْطَرَ مُحَمَّدٌ قَالَ(1/241)
ذَلِكَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَأَفْتَى السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ بِالْإِفْطَارِ فَلَمَّا أُخْبِرَ بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ تَبَرَّأَ مِنْ عُهْدَتِهِ وَقَالَ لَا عِلْمَ لِي بِهَذَا إنَّمَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْفَضْلُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الرُّجُوعُ عَنْ فُتْيَاهُ بِذَلِكَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ شَبَابَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنْ الَّذِي كَانَ يُفْتِي مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا يَصُومُ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ خَبَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ اُحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونَ مُعَارِضًا لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ بِأَنْ يُرِيدَ مَنْ أَصْبَحَ عَلَى مُوجِبِ الْجَنَابَةِ بِأَنْ يُصْبِحَ مُخَالِطًا لِامْرَأَتِهِ وَمَتَى أَمْكَنَنَا تَصْحِيحُ الْخَبَرَيْنِ وَاسْتِعْمَالهمَا مَعًا اسْتَعْمَلْنَاهُمَا عَلَى مَا أَمْكَنَ مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ فَإِنْ قِيلَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ مُسْتَعْمَلَةَ فِيمَا وَرَدَتْ بِأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ دُونَ أُمَّتِهِ لِأَنَّهُمَا أَضَافَتَا ذَلِكَ إلَى فِعْلِهِ وَخَبَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْتَعْمَلٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ قِيلَ لَهُ قَدْ عَقَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَتِهِ مُسَاوَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ قَالَ حِينَ سَمِعَ رِوَايَةَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ لَا عِلْمَ لِي بِهَذَا وَإِنَّمَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ رِوَايَةَ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ غَيْرُ مُعَارِضَةٍ لِرِوَايَتِي إذْ كَانَتْ رِوَايَتُهُمَا مَقْصُورَةً عَلَى حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِوَايَتِي إنَّمَا هِيَ فِي غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فَهَذَا يُبْطِلُ تَأْوِيلَكَ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَاوٍ لِلْأُمَّةِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ إلَّا مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَفْرَدَهُ مِنْ الْجُمْلَةِ بِتَوْقِيفٍ لِلْأُمَّةِ عَلَيْهِ بقوله تعالى [فَاتَّبِعُوهُ] وَقَوْلِهِ [لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ذَكَرْنَا مِمَّا تُعُبِّدْنَا فِيهِ بِالْإِمْسَاكِ عَنْهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ هِيَ مِنْ الصَّوْمِ الْمُرَادِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] وقَوْله تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] فَهِيَ إذًا مِنْ الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ جَمِيعًا وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِإِمْسَاكٍ مِمَّا وَصَفْنَا فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ شَرَائِطِهِ وَلَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا صَوْمًا شَرْعِيًّا إلَّا بِوُجُودِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ وَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ وَالنِّيَّةُ وَأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ غَيْرُ حَائِضٍ فَمَتَى عُدِمَ شَيْءٌ من هذه الشرائط خرج عن أن يكون صَوْمًا شَرْعِيَّا وَأَمَّا الْإِقَامَةُ وَالصِّحَّةُ فَهُمَا شَرْطُ صِحَّةِ لُزُومِهِ وَوُجُودُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لَا يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ وَإِنَّمَا يُنَافِي لُزُومَ الصَّوْمِ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ وَلَوْ صَامَا لَصَحَّ صَوْمُهُمَا وَإِنَّمَا قُلْنَا الْبُلُوغُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ لُزُومِهِ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ)
وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَقَدْ يُؤْمَرُ بِهِ الْمُرَاهِقُ عَلَى(1/242)
وَجْهِ التَّعْلِيمِ لِيَعْتَادَهُ وَلِيُمَرَّنَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً] قِيلَ فِي التَّفْسِير أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ)
وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّكْلِيفِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَإِنَّمَا كان شرطا في صحة فعله لقوله [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ] فلا تصح لَهُ قِرْبَةٌ إلَّا عَلَى شَرْطِ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا وَأَمَّا الْعَقْلُ فَإِنْ فُقِدَتْ مَعَهُ النِّيَّةُ وَالْإِرَادَةُ فَإِنَّمَا يُنْفَى عَنْهُ صِحَّةُ الصَّوْمِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فَإِنْ وُجِدَتْ مِنْهُ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ عَزَبَ عَقْلُهُ لَمْ يَنْفِ ذَلِكَ صِحَّةَ صَوْمِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ مِنْ قِبَلَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ صَوْمًا شَرْعِيًّا إلَّا بِأَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تَصِحُّ الْقُرْبَةُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ لَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ] فَأَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ شَرْطَ التَّقْوَى تَحَرِّي موافقة أمره ولما كان الشرط كَوْنِهِ مُتَّقِيًا فِعْلَ الصَّوْمِ مِنْ الْمَفْرُوضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ التَّقْوَى لَا تَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِتَحَرِّي مُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَالْقَصْدِ إلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى [وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] وَلَا يَكُونُ إخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ إلَّا بِقَصْدِهِ بِهِ إلَيْهِ رَاغِبًا عَنْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ غَيْرَهُ فَهَذِهِ أُصُولٌ فِي تَعَلُّقِ صِحَّةِ الْفُرُوضِ بِالنِّيَّاتِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجِّ وَالْكَفَّارَاتِ إيجَادُ النية لها لأنها فروض مقصوده لأعينها فَكَانَ حُكْمُ الصَّوْمِ حُكْمَهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا فَإِنْ قِيلَ جَمِيعُ مَا اسْتَدْلَلْتَ بِهِ عَلَى كَوْنِ النِّيَّةِ شَرْطًا فِي الصَّوْمِ وَفِي سَائِرِ الْفُرُوضِ يَلْزَمُكَ شَرْطُ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ إذْ كَانَتْ فَرْضًا مِنْ الْفُرُوضِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْتَ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا مَقْصُودًا لِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ غَيْرُهَا وَهِيَ شَرْطٌ فِيهِ فَقِيلَ لَنَا لَا تُصَلُّوا إلَّا بِطَهَارَةٍ كَمَا قِيلَ لَا تُصَلُّوا إلَّا بِطَهَارَةٍ من بحاسة وَلَا تُصَلُّوا إلَّا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَفْرُوضَةً لِأَنْفُسِهَا فَلَمْ يَلْزَمْ إيجَادُ النِّيَّة لَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَّةَ نَفْسَهَا لَمَّا كانت شرطا لغيرها ولم تكن مفروضة لنفسها صحة بِغَيْرِ نِيَّةٍ تُوجَدُ لَهَا فَانْفَصَلَ بِمَا ذَكَرْنَا حُكْمُ الْفُرُوضِ الْمَقْصُودَةِ لِأَعْيَانِهَا وَحُكْمُ مَا جُعِلَ مِنْهَا شَرْطًا لِغَيْرِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِمَفْرُوضٍ لِنَفْسِهِ فَلَمَّا كَانَتْ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ شَرْطًا لِغَيْرِهَا وَلَيْسَتْ أَيْضًا بِبَدَلٍ عَنْ سِوَاهَا لَمْ يَلْزَمْ فِيهَا النِّيَّةُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إيجَابُنَا النِّيَّةَ فِي التَّيَمُّمِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ طَهُورًا إلَّا بِانْضِمَامِ النِّيَّةِ إلَيْهِ إذْ لَيْسَ هُوَ طَهُورًا فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ فِي أَنَّ كُلَّ صَوْمٍ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ فَشَرْطُ صحته(1/243)
إيجَادُ النِّيَّةِ لَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ صَوْمِ رَمَضَانَ فِي كَوْنِ النِّيَّةِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ وَشَبَّهَ زُفَرُ صَوْمَ رَمَضَانَ بِالطَّهَارَةِ فِي إسْقَاطِ النِّيَّةِ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الطَّهَارَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي أَعْضَاءٍ بِعَيْنِهَا فَكَانَ الصَّوْمُ مُشْبِهًا لَهَا فِي كَوْنِهِ مَفْرُوضًا فِي وَقْتٍ مُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ لَهُ وَهَذَا عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا لِلطَّهَارَةِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الصَّوْمِ إذْ جَعْلُ عِلَةِ الطَّهَارَةِ أَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ فِي مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الصَّوْمِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ فِي مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْضُوعٌ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَا فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مُنْتَقَضَةٌ بِالطَّوَافِ لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ وَلَوْ عَدَا رَجْلٌ خَلْفَ غَرِيمٍ لَهُ يَوْمَ النَّحْرِ حَوَالِيَ الْبَيْتِ لَمْ يَكُنْ طَائِفًا طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ يَسْقِي النَّاسَ هُنَاكَ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ لَمْ يجزه ذلك مِنْ الْوَاجِبِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ فِي مَعْلُولِهَا مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فبأن لَا يُوجِبَ حُكْمَهَا فِيمَا لَيْسَتْ فِيهِ مَوْجُودَةً أَوْلَى وَعَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ مُخَالِفَةٌ لِلصَّوْمِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهَا غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ لِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ لِغَيْرِهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ فَلَمْ تَجِبْ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِيهَا كَأَنَّهُ قِيلَ لَا تُصَلِّ إلَّا وَأَنْتَ طَاهِرٌ مِنْ الْحَدَثِ وَمِنْ النَّجَاسَةِ وَلَا تُصَلِّ إلَّا مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ وَلَيْسَ شَرْطُ غَسْلِ النَّجَاسَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ النِّيَّةَ كَذَلِكَ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ مَفْرُوضٌ مَقْصُودٌ لِعَيْنِهِ كَسَائِرِ الْفُرُوضِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَوَجْبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ صِحَّتِهِ إيجَادَ النِّيَّةِ لَهُ وَمَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنَّا قَدْ علمنا أن الصَّوْمَ عَلَى ضَرْبَيْنِ مِنْهُ الصَّوْمُ اللُّغَوِيُّ وَمِنْهُ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ وَأَنَّ أَحَدَهُمَا إنَّمَا يَنْفَصِلُ مِنْ الْآخَرِ بِالنِّيَّةِ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ شَرَائِطِهِ وَمَتَى لَمْ تُوجَدْ لَهُ النِّيَّةُ كَانَ صَوْمًا لُغَوِيًّا لَا حَظَّ فِيهِ لِلشَّرَعِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَمْسَكَ فِي يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ عَمَّا
يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةُ الصَّوْمِ أَنَّ صَوْمَهُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ صَوْمَ شَرْعٍ وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ مُشْبِهٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فِي جَوَازِ تَرْكِ النِّيَّةِ لَهُ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا بِالْإِمْسَاكِ دُونَ النِّيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَذَلِكَ وَيَلْزَمُ زُفَرَ أَنْ يَجْعَلَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَيَّامًا فِي رَمَضَانَ إذَا لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ صَائِمًا لِوُجُودِ الْإِمْسَاكِ وَهَذَا إنْ الْتَزَمَهُ قَائِلٌ كَانَ قَائِلًا قَوْلًا مُسْتَشْنَعًا وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إيجَادِ النِّيَّةِ كُلَّ يَوْمٍ إمَّا مِنْ اللَّيْلِ أَوْ قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ وَمِنْ حَيْثُ افْتَقَرَ إلَى نِيَّةٍ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِثْلَهُ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِاللَّيْلِ مِنْ الصَّوْمِ وَمَتَى خَرَجَ مِنْهُ(1/244)
احْتَاجَ فِي دُخُولِهِ فِيهِ إلَى نِيَّةٍ وَقَالَ مَالِكٌ مَا لَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ مُعَيَّنًا مِنْ الصِّيَامِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ وما كَانَ وُجُوبُهُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ كَأَنْ يَعْلَمَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ صَائِمًا وَاسْتَغْنَى عَنْ نِيَّةِ الصِّيَامِ بِذَلِكَ فَإِذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا فَصَامَ أَوَّلَ يَوْمٍ أَنَّهُ يُجْزِيهِ بَاقِيَ الْأَيَّامِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ إذَا نَوَاهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ أَجْزَأَهُ قَالَ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ لَهُ أَجْرُ مَا يَسْتَقْبِلُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يُحْتَاجُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَنْ يَنْوِيَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَجْزِيهِ نِيَّةُ صَوْمِ رَمَضَانَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُجْزِي كُلُّ صَوْمٍ وَاجِبٍ رَمَضَانَ وَغَيْرَهُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ وَيُجْزِي صَوْمَ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ اكْتَفَى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِلشَّهْرِ كُلِّهِ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ افْتِقَارِ صَوْمِ الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى الدُّخُولِ فِيهِ وَالدُّخُولُ فِي الصَّوْمِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْيَوْمِ الثَّانِي إيجَادَ النِّيَّةِ كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَإِنْ قِيلَ يَكْتَفِي بِالنِّيَّةِ الْأُولَى وَهِيَ نِيَّةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ كما يتجزى فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَوَّلِهَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ النِّيَّة لِكُلِّ رَكْعَةٍ وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَخَلَّلُ رَكَعَاتِهَا صَلَاةٌ أُخْرَى غَيْرَهَا كَمَا لَا يَتَخَلَّلُ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامٌ مِنْ غَيْرِهِ قِيلَ لَهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِلشَّهْرِ لَجَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهَا لِعُمْرِهِ كُلِّهِ فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَاحْتَاجَ إلَى نِيَّةٍ لِأَوَّلِ يَوْمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ النِّيَّةُ لِسَائِرِ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِسَائِرِ عُمُرِهِ وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ بِالصَّلَاةِ فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا اُكْتُفِيَ فِيهَا بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَفْعُولٌ بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ فَكَانَتْ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا مَبْنِيَّةً عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى تَرَكَ رَكْعَةً حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كُلُّهَا وَأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِأَنْ أَفْطَرَ فِيهِ لَمْ يَبْطُلْ عَلَيْهِ صَوْمُ سَائِرِ الشَّهْرِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ بِفِعْلِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ أُخْرَى إذْ النِّيَّةُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِلدُّخُولِ فِيهَا فَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ اللَّيْلُ خَرَجَ مِنْ الصَّوْمِ وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إذَا أَقْبَلَ الليل من هاهنا وَغَابَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ)
فَاحْتَاجَ بَعْد الْخُرُوجِ مِنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى الدُّخُولِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِالنِّيَّةِ الْمُتَجَدِّدَةِ وَإِنَّمَا أَجَازَ أَصْحَابُنَا تَرْكَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْل فِي كُلِّ صَوْمٍ مُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ إذَا نَوَاهُ قَبْلَ الزَّوَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مأمورا بصومه(1/245)
وَوَاجِبٌ أَنْ يَجْزِيَهُ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ وَهُوَ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ الْآكِلِينَ بِالْقَضَاءِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عن عبد الرحمن ابن سَلَمَةَ عَنْ عَمِّهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ (أَصُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا قَالُوا لَا قَالَ فَأَتِمُّوا يَوْمَكُمْ هَذَا وَاقْضُوا)
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالْقَضَاءِ مَنْ أَكَلَ وَالثَّانِي أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْآكِلِينَ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَأَمَرَ الْآكِلِينَ بِالْإِمْسَاكِ وَالْقَضَاءِ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَأْكُلُوا بِالصَّوْمِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ الصَّوْمِ مَا كَانَ مَفْرُوضًا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَجَائِزٌ تَرْكُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطُ صِحَّتِهِ إيجَادَ النِّيَّةِ لَهُ مِنْ اللَّيْلِ لَمَا أَمَرَهُمْ بِالصِّيَامِ وَلَكَانُوا حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْآكِلِينَ فِي بَابِ امْتِنَاعِ صِحَّةِ صَوْمِهِمْ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ الْمُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ وُجُودَ النِّيَّةِ لَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ النِّيَّةَ لَهُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا جَازَ تَرْكُ النِّيَّةِ لَهُ مِنْ اللَّيْلِ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا هُوَ فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ لَزِمَهُمْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ فَلِذَلِكَ أَجْزَى لَهُ مَعَ تَرْكِ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ وَأَمَّا بَعْدَ ثُبُوتِ فَرْضِ الصَّوْمِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إلَّا أَنْ يُوجَدَ لَهُ نِيَّةٌ مِنْ اللَّيْلِ قِيلَ لَهُ لَوْ كَانَ إيجَادُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُهَا مَانِعًا صِحَّتَهُ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَرْكُ الْأَكْلِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الصَّوْمِ كَانَ وُجُودُهُ مَانِعًا مِنْهُ وَأَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْفَرْضِ الْمُبْتَدَأِ فِي بَعْضِ النَّهَارَ وَحُكْمُ مَا تُقَدَّمَ فَرْضُهُ فَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآكِلِينَ بِالْإِمْسَاكِ وَأَمَرَهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ وَلَمْ يَأْمُرْ تَارِكِي النِّيَّةَ مِنْ اللَّيْلِ بِالْقَضَاءِ وَحَكَمَ لَهُمْ بِصِحَّةِ صَوْمِهِمْ إذَا ابْتَدَءُوهُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ إيجَادَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الصَّوْمِ الْمُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي نَظَائِرِهِ مِمَّا يُوجِبُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ يُحْدِثُهَا بِالنَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَإِنْ قِيلَ فَرْضُ صَوْمِ عَاشُورَاءَ مَنْسُوخٌ بِرَمَضَانَ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِالْمَنْسُوخِ عَلَى صَوْمٍ ثَابِتِ الْحُكْمِ مَفْرُوضٍ قِيلَ له أنه وإن نُسِخَ فَرْضُهُ فَلَمْ يُنْسَخْ دَلَالَتُهُ فِيمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ نَظَائِرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ نُسِخَ وَلَمْ يُنْسَخْ بِذَلِكَ سَائِرُ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ قَدْ نُسِخَ فَرْضُ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَمْ يُنْسَخْ سَائِرُ أحكام(1/246)
الصَّلَاةِ وَلَمْ يَمْنَعْ نَسْخَهَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تعالى [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] فِي إثْبَاتِ التَّخْيِيرِ فِي إيجَابِ الْقِرَاءَةِ بِمَا شَاءَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَزَلَ فِي شَأْنِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّهُ يُجْزِي أَنْ يَنْوِيَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَهُ لِمَا
رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلَى أَهْلِ العوالي فقال (من تغدى منكم فيمسك وَمَنْ لَمْ يَتَغَدَّ فَلْيَصُمْ)
وَالْغَدَاءُ عَلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ لَا يَخْلُو ذِكْرُ الْغَدَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ بالغداء قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ جَوَازَ النِّيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِوُجُودِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ فِي وَقْتٍ يسمى غداء وَإِلَّا كَانَ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْأَكْلِ دُونَ ذكر الغداء لَوْ كَانَ حُكْمُ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ سَوَاءً فَلَمَّا أَوْجَبَ أَنْ يَكْسُوَ هَذَا اللَّفْظُ فَائِدَتَهُ لِئَلَّا يَخْلُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَائِدَةٍ وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ نِيَّتِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ وَإِنَّمَا أَجَازُوا تَرْكَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِمَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن السُّلَمِيُّ الْبَلْخِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَعْقُوبَ بن عطاء عن أبيه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان يُصْبِحُ وَلَمْ يَجْمَعَ لِلصَّوْمِ فَيَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينَا فَيَقُولُ (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ فَإِنْ كَانَ وَإِلَّا قَالَ فَإِنِّي إذًا صَائِمٌ)
فَإِنْ قِيلَ إذَا لَمْ يَعْزِمْ النِّيَّةَ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى أَصْبَحَ فَقَدْ وُجِدَ غَيْرُ صَائِمٍ فِي بَعْضِ النَّهَارِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْآكِلِ فَلَا يَصِحُّ لَهُ صَوْمُ يَوْمِهِ قِيلَ لَهُ
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِدَاءَ صَوْمِ التَّطَوُّعِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجْعَلُوا مَا مَضَى مِنْ النَّهَارِ عَارِيًّا مِنْ نِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ صَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَكْلِ في أول النهار في منع صحة صَوْمِ التَّطَوُّعِ فَكَذَلِكَ عَدَمُ نِيَّةِ الصَّوْمِ فِي الْمُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ مِنْ الصِّيَامِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ صَوْمِهِ وَلَا يَكُونُ عَدَمُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِهِ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ الْأَكْلِ فِيهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي التَّطَوُّعِ وَأَيْضًا فَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ لَمْ يَكُنْ عُزُوبُ نِيَّتِهِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ صَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ شَرْطُ بَقَائِهِ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ لَهُ فَلِذَلِكَ جَازَ تَرْكُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِبَعْضٍ مِنْ الصَّوْمِ عَلَى حَسَبِ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ صَوْمِهِ وَلَوْ تَرَكَ الْأَكْلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ أَكَلَ فِي آخِرِهِ كَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِصَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْأَكْلِ بِمَنْزِلَةِ عُزُوبِ النِّيَّةِ فَاسْتَوَى حُكْمُ الْأَكْلِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ وَاخْتُلِفَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فِي أَوَّلِهِ ثُمَّ يَنْوِيَهُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ فَيَكُونَ مَا مَضَى مِنْ الْيَوْمِ مَحْكُومًا لَهُ بِحُكْمِ الصَّوْمِ كما يحكم(1/247)
لَهُ بِحُكْمِ الصَّوْمِ مَعَ عُزُوبِ النِّيَّةِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لَهَا كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الصَّوْمِ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَوَازِ صَوْمِ مَنْ نَوَاهُ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ نَامَ فَأَصْبَحَ نَائِمًا وَأَنَّ صَوْمَهُ تَامٌّ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُقَارَنَةِ نِيَّةِ الصَّوْمِ بِحَالِ الدُّخُولِ وَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ ثُمَّ اشْتَغَلَ عَنْهَا ثُمَّ تَحَرَّمَ بِالصَّلَاةِ لَمْ تَصِحَّ إلَّا بِنِيَّةٍ يُحْدِثُهَا عِنْدَ إرَادَتِهِ الدُّخُولَ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ شَرْطُ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ مُقَارَنَةَ النِّيَّةِ لَهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَكَانَ شَرْطُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ مُقَارَنَةَ النِّيَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِحُكْمِ الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ نِيَّةِ الدُّخُولِ فِي ابْتِدَائِهَا وَلَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُ الصَّوْمِ بِالصَّلَاةِ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ وَأَيْضًا
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَبْتَدِئُ صَوْمَ التَّطَوُّعِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَلَقِّي هَذَا الْخَبَرِ بِالْقَبُولِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ لَهُ وَاتَّفَقُوا أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ الدُّخُولُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ إلَّا بِنِيَّةٍ تُقَارِنُهَا فَعَلِمْنَا أَنَّ نِيَّةَ الصَّوْمِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُ وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ مَفْرُوضٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ النِّيَّةِ فِيهِ مِنْ اللَّيْلِ وَالْأَصْلُ فِيهِ
حَدِيثُ حَفْصَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال (لا صيام لمن يَعْزِمْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ)
وَكَانَ عُمُومُ ذَلِكَ يقتضى إيجاب النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ لِسَائِرِ ضُرُوبِ الصَّوْمِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِي الصَّوْمِ الْمُسْتَحَقِّ العين وصوم التطوع سلمناه للدلالة وَخَصَّصْنَاهُ مِنْ الْجُمْلَةِ وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَاهُ وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى ذَلِكَ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَقَضَاءُ رَمَضَانَ لِأَنَّ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ وَأَيُّ وَقْتٍ ابْتَدَأَ فِيهِ فَهُوَ وَقْتُ فَرْضِهِ فَكَانَ كَسَائِرِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ وَالْأَحْكَامُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ قَوْلِهِ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] إلْزَامُ صَوْمِ الشَّهْرِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَاهِدًا لَهُ وَشُهُودُ الشَّهْرِ يَنْقَسِمُ إلَى أَنْحَاءٍ ثَلَاثَةٍ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ شَاهَدْتُ كَذَا وَكَذَا وَالْإِقَامَةُ فِي الْحَضَرِ مِنْ قَوْلِكَ مُقِيمٌ وَمُسَافِرٌ وَشَاهِدٌ وَغَائِبٌ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ثُمَّ أَفَادَ مَنْ نَسْخِ فَرْضِ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ صَوْمَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ كَانَ فَرْضًا غَيْرَ رَمَضَانَ ثُمَّ نُسِخَ بِهِ وَنُسِخَ بِهِ أَيْضًا التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصَّوْمِ لِلصَّحِيحِ الْمُقِيمِ وَأَفَادَ أَنَّ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ فَعَلَيْهِ صَوْمُهُ وَحُكْمٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ عَلِمَ بِالشَّهْرِ بعد ما أَصْبَحَ أَوْ كَانَ مَرِيضًا فَبَرَأَ وَلَمْ يَأْكُلْ ولم يشرب أو مسافر قَدِمَ فَعَلَيْهِمْ صَوْمُهُ إذْ هُمْ شَاهِدُونَ لِلشَّهْرِ وَأَفَادَ أَنَّ فَرْضَ الصِّيَامِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ أَوْ لَيْسَ بِمُقِيمٍ(1/248)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَغَيْرُ لَازِمٍ لَهُ وَأَفَادَ تَعْيِينُ الشَّهْرِ لِهَذَا الْفَرْضِ حَتَّى لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَلَا تَأْخِيرُهُ عَنْهُ لِمَنْ شَهِدَهُ وَأَفَادَ أَنَّ مُرَادَهُ بَعْضُ الشَّهْرِ لَا جَمِيعُهُ فِي شَرْطِ لُزُومِ الصَّوْمِ وَأَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ فِي بَعْضِهِ وَالصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ فَعَلَيْهِمَا صَوْمُ بَقِيَّةِ الشَّهْرِ وَأَفَادَ أَنَّ مَنْ نَوَى بِصِيَامِهِ تَطَوُّعًا أَجْزَأهُ لِوُرُودِ الْأَمْرِ مُطْلَقًا بِفِعْلِ الصَّوْمِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِصِفَةٍ وَلَا مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ فَاقْتُصِرَ جَوَازُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَامَهُ وَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ إذَا صَامَ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِالشَّهْرِ لَمْ يُجْزِهِ وَيَحْتَجُّ به أيضا من يقول إذا طرئ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يُفْطِرْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] فَهَذَا الَّذِي حَضَرَنَا مِنْ ذِكْرِ فَوَائِدَ قَوْلِهِ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ] وَلَا نَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِدَّةُ فَوَائِدَ غَيْرَهَا لَمْ يُحِطْ عِلْمُنَا بِهَا وَعَسَى أَنْ نَقِفَ عَلَيْهَا فِي وَقْتٍ غَيْرِهِ أَوْ يَسَتَنْبِطَهَا غيرنا وأما ما تضمنه قوله [فَلْيَصُمْهُ] فَهُوَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي أُمِرْنَا بِالْإِمْسَاكِ عَنْهَا فِي حَالِ الصَّوْمِ مِنْهَا متفق عليه ومنها مختلف فيه وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ ذِكْرِ شَرَائِطِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَوْمًا فِي نَفْسِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ.
بَابُ كَيْفِيَّةِ شُهُودِ الشَّهْرِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]
وقال تعالى [يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ]
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو داود قال حدثنا سليمان ابن دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ وَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ)
قَالَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا كَانَ شَعْبَانُ تسع وعشرين نظر له فإن رأى فذلك وإن لم يرو لم يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ أَصْبَحَ صَائِمًا قَالَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ وَلَا يَأْخُذُ بِهَذَا الْحِسَابِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ)
مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تعالى [يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ] وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فِي اعْتِبَارِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي إيجَابِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ هِيَ شهود الشهر وقد دل قوله [يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ] عَلَى أَنَّ اللَّيْلَةَ الَّتِي يُرَى فِيهَا الْهِلَالُ مِنْ الشَّهْرِ الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ)
فَقَالَ قَائِلُونَ أَرَادَ بِهِ اعْتِبَارَ مَنَازِلِ(1/249)
الْقَمَرِ فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْقَمَرِ لَوْ لم يحل دونه سحاب وقترة ورؤي يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الرُّؤْيَةِ فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِحُكْمِ الرُّؤْيَةِ وَقَالَ آخَرُونَ فَعُدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَمَّا التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ فَسَاقِطُ الِاعْتِبَارِ لَا مَحَالَةَ لِإِيجَابِهِ الرُّجُوعَ إلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ وَمَنْ تَعَاطَى مَعْرِفَةَ مَنَازِلِ الْقَمَرِ وَمَوَاضِعِهِ وَهُوَ خلاف قول الله تعالى [يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ] فَعَلَّقَ الْحُكْمَ فِيهِ بِرُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ عِبَادَةً تَلْزَمُ الْكَافَّةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِمَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ عَسَى لَا يُسْكَنُ إلَى قَوْلِهِمْ وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَابْنِ عُمَرَ رَاوِي الْخَبَرِ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَكِنُ يَأْخُذُ بِهَذَا الْحِسَابِ وَقَدْ بَيَّنَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَاقْدُرُوا لَهُ بِنَصٍّ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ وَهُوَ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْمُؤَدِّبِ قَالَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ عِنْدَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ فَقَالَ (لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا ثَلَاثِينَ)
فَأَوْضَحَ هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَاقْدُرُوا بِمَا سَقْطَ بِهِ تَأْوِيلُ الْمُتَأَوِّلِينَ وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ تَأْوِيلِهِمْ أَيْضًا مَا
رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سِمَاكِ ابن حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ) فأمر صلّى الله عليه وسلم بِعَدِّ ثَلَاثِينَ
مَعَ جَوَازِ الرُّؤْيَةِ لَوْ لَمْ يَحُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ وَلَمْ يُوجِبْ الرُّجُوعَ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَوْ لَمْ يَحُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَائِلٌ مِنْ سَحَابٍ أَوْ غَيْرِهِ لَرَأَيْنَاهُ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا وَهُوَ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صُومُوا رَمَضَانَ لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ غَمَامَةٌ أَوْ ضَبَابَةٌ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَهْرِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ وَلَا تَسْتَقْبِلُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ
فَأَوْجَبَ عَدَّ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَائِلِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ مِنْ سَحَابٍ أَوْ نَحْوِهِ فَالْقَائِلُ بِاعْتِبَارِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ وَحِسَابِ الْمُنَجَّمِينَ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ لِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَنَصِّ السُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ بِخِلَافِهِ
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ)
هو أصل في اعتبار الشهر ثلاثين(1/250)
ثَلَاثِينَ إلَّا أَنْ يُرَى قَبْلَ ذَلِكَ الْهِلَالُ فَإِنَّ كُلَّ شَهْرٍ غُمَّ عَلَيْنَا هِلَالُهُ فَعَلَيْنَا أَنْ نَعُدَّهُ ثَلَاثِينَ هَذَا فِي سَائِرِ الشُّهُور الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ إلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثِينَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا مِنْ آجَرَ دَارِهِ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَهُوَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ أَنَّهُ يَكُونُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ وَشَهْرٍ ثَلَاثِينَ يَوْمَا يُكْمِلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ مِنْ آخِرِ شَهْرٍ بِمِقْدَارِ نُقْصَانِهِ لِأَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ابْتِدَاؤُهُ بِغَيْرِ هِلَالٍ فَاسْتَوْفَى لَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَسَائِرُ الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ غَيْرُهَا وَقَالُوا لَوْ آجَرَهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ لَكَانَتْ كُلُّهَا بِالْأَهِلَّةِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا تُقْبَلُ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ شَهَادَةُ رَجُلٍ عَدْلٍ إذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا شَهَادَةُ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يُوجِبُ خَبَرُهَا الْعِلْمَ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ حَدَّ فِي ذَلِكَ خَمْسِينَ رَجُلًا وَكَذَلِكَ هِلَالُ شَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يُقْبَلْ فِيهَا إلَّا شاهد عَدْلَيْنِ يُقْبَلُ مِثْلُهُمَا فِي الْحُقُوقِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ لَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ إلَّا شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ إنْ شَهِدَ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ عَدْلٌ وَاحِدٌ رَأَيْتُ أَنْ أَقْبَلَهُ لِلْأَثَرِ فِيهِ وَالِاحْتِيَاطُ وَالْقِيَاسُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُقْبَلَ إلَّا شَاهِدَانِ وَلَا أَقْبَلُ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ الْفِطْرِ إلَّا عَدْلَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّمَا اعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ شَهَادَةَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ قَدْ عَمَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَالنَّاسُ مَأْمُورُونَ بِطَلَبِ الْهِلَالِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَطْلُبَهُ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ وَلَا عِلَةَ بِالسَّمَاءِ مَعَ تَوَافِي هِمَمِهِمْ وَحِرْصِهِمْ عَلَى رُؤْيَتِهِ ثُمَّ يَرَاهُ النَّفَرُ الْيَسِيرُ مِنْهُمْ وَلَا يَرَاهُ الْبَاقُونَ مَعَ صِحَّةِ أَبْصَارِهِمْ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ عَنْهُمْ فَإِذَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّفَرُ الْيَسِيرُ مِنْهُمْ دُونَ كَافَّتِهِمْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ غَالِطُونَ غَيْرُ مُصِيبِينَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا رَأَوْا خَيَالًا فَظَنُّوهُ هِلَالًا أَوْ تَعَمَّدُوا الْكَذِبَ إذْ جَوَازُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَهَذَا أَصْلٌ صحيح تقتضي الْعُقُولُ بِصِحَّتِهِ وَعَلَيْهِ مَبْنَى أَمْرُ الشَّرِيعَةِ وَالْخَطَأُ فِيهِ يَعْظُمُ ضَرَرُهُ وَيَتَوَصَّلُ بِهِ الْمُلْحِدُونَ إلَى إدْخَالِ الشُّبْهَةِ عَلَى الْأَغْمَارِ وَالْحَشْوِ وَعَلَى مَنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا مَا كَانَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَسَبِيلُ ثُبُوتِهِ الِاسْتِفَاضَةُ وَالْخَبَرُ الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ مِثْلِهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ نَحْوُ إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَمَسِّ الْمَرْأَةِ وَالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ وَالْوُضُوءِ مَعَ عَدَمِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالُوا لَمَّا كَانَتْ الْبَلْوَى(1/251)
عَامَّةً مِنْ كَافَّةِ النَّاسِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَظَائِرِهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ إلَّا وَقَدْ بَلَّغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَوَقَفَ الْكَافَّةَ عَلَيْهِ وَإِذَا عَرَفَتْهُ الْكَافَّةُ فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهَا تَرْكُ النَّقْلِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يَنْقُلُهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِنَقْلِهِ وَهُمْ الْحُجَّةُ عَلَى ذَلِكَ الْمَنْقُولِ إلَيْهِمْ وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهَا تَضْيِيعُ مَوْضِعِ الْحُجَّةِ فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَظَائِرِهَا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ مِنْهُ قَوْلٌ يَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ فَحَمَّلَهُ النَّاقِلُونَ الْأَفْرَادَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ظَنُّوهُ دُونَ الْوَجْهِ الْآخَرِ نَحْوُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ يَحْتَمِلُ غَسْلَ الْيَدِ عَلَى نَحْوِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي الْإِنَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ)
وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَبِتَضْيِيعِ هَذَا الْأَصْلِ دَخَلْتَ الشُّبْهَةُ عَلَى قَوْمٍ فِي انْتِحَالِهِمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْأُمَّةِ وَأَنَّ الْأُمَّةَ كَتَمَتْ ذَلِكَ وَأَخْفَتْهُ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَرَدُّوا مُعْظَمَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَادَّعُوا فِيهِ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ لَهَا حَقِيقَةٌ وَلَا ثَبَاتٌ لَا مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْجَمَاعَاتِ وَلَا مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْآحَادِ وَطَرَقُوا لِلْمُلْحِدِينَ أَنْ يَدَّعُوا فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا وَسَهَّلُوا لِلْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالزَّنَادِقَةِ السَّبِيلَ إلَى اسْتِدْعَاءِ الضَّعَفَةِ وَالْأَغْمَارِ إلَى أَمْرٍ مَكْتُومٍ زَعَمُوا حِينَ أَجَابُوهُمْ إلَى تَجْوِيزِ كِتْمَانِ الْإِمَامَةِ مَعَ عِظَمِهَا فِي النُّفُوسِ وَمَوْقِعِهَا مِنْ الْقُلُوبِ فَحِينَ سَمَحَتْ نُفُوسُهُمْ بِالْإِجَابَةِ إلَى ذَلِكَ وَضَعُوا لَهُمْ شَرَائِعَ زَعَمُوا أَنَّهَا مِنْ الْمَكْتُومِ وَتَأَوَّلُوهَا تَأْوِيلَاتٍ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الْإِمَامِ فَسَلَخُوهُمْ من الإسلام وأدخلوهم في مذهب الخزمية فِي حَالٍ وَالصَّابِئِينَ فِي أُخْرَى عَلَى حَسَبِ مَا صَادَفُوا مِنْ قَبُولِ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُمْ وَسَمَاحَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالتَّسْلِيمِ لَهُمْ مَا ادَّعُوهُ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مُجَوِّزَ كِتْمَانِ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَصْحِيحُ مُعْجِزَاتِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ مِثْلَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَاخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَتَبَاعُدِ أَوْطَانِهِمْ إذَا جَازَ عَلَيْهِمْ كِتْمَانُ أَمْرِ الْإِمَامَةِ فَجَائِزٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ إذْ كَانَ مَا يَجُوزُ فِيهِ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكِتْمَانِ فَجَائِزٌ فِيهِ التَّوَاطُؤُ عَلَى وَضْعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ لَا نَأْمَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُونَ بِمُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُتَوَاطِئِينَ عَلَى ذَلِكَ كَاذِبِينَ فِيهِ كما تواطؤ عَلَى كِتْمَانِ النَّصِّ عَلَى الْإِمَامِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ النَّاقِلِينَ لِمُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ الَّذِينَ زَعَمَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ الضَّالَّةُ أَنَّهَا كَفَرْتَ وَارْتَدَّتْ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتْمَانِهَا أَمْرَ الْإِمَامِ وَأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَرْتَدُّوا مِنْهُمْ كَانُوا خَمْسَةً أو ستة(1/252)
وَخَبَرُ هَذَا الْقَدْر مِنْ الْعَدَدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَلَا تَثْبُتُ بِهِ مُعْجِزَةٌ وَخَبَرُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ وَالْجُمْهُورِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَهُمْ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمْ عِنْدَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فَصَارَ صِحَّةُ النَّقْلِ مَقْصُورَةً عَلَى الْعَدَدِ الْيَسِيرِ فَلَزِمَهُمْ دَفْعُ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْطَالِ نُبُوَّتِهِ فَإِنْ قِيلَ أَمْرُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِمَّا عَمَّتْ الْبَلْوَى بِهِ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَكُلُّ مَنْ يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَرْوِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لِلْكَافَّةِ مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَفِي هَذَا مَا يُبْطِلُ أَصْلَكَ الَّذِي بَنَيْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفُ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لِلْكَافَّةِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَمْ تَنْقُلْهُ حِينَ وَرَدَ إلَيْنَا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ وَفِي ذَلِكَ هَدْمُ قَاعِدَتِكَ أَيْضًا فِي اعْتِبَارِ نَقْلِ الْكَافَّةِ فِيمَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى قِيلَ لَهُ هَذَا سُؤَالٌ مَنْ لَمْ يَضْبِطْ الْأَصْلَ الَّذِي بَنَيْنَا عَلَيْهِ الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَة وَذَلِكَ أَنَّا قُلْنَا ذَلِكَ فِيمَا يَلْزَمُ الْكَافَّةَ وَيَكُونُونَ مُتَعَبَّدِينَ فِيهِ بِفَرْضٍ لَا يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُهُ وَلَا مُخَالَفَتُهُ وَذَلِكَ مِثْلُ الإمامة والفروض التي تلزم العامة وأما مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ فَهُمْ مُخَيَّرُونَ فِي أَنْ يَفْعَلُوا مَا شَاءُوا مِنْهُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ فِي الْأَفْضَلِ مِنْهُ وَلَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفُهُمْ عَلَى الْأَفْضَلِ مِمَّا خَيَّرَهُمْ فِيهِ وَهَذَا سَبِيلُ مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَتَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي نَحْنُ مُخَيَّرُونَ فِيهَا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْأَفْضَلِ مِنْهَا فَلِذَلِكَ جَازَ وُرُودُ بَعْضِ الْأَخْبَارِ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ منه جميع ذلك تعليما منه على وَجْهَ التَّخْيِيرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ مَا قَدْ وُقِفُوا عَلَيْهِ وَحُظِّرَ عَلَيْهِمْ مُجَاوَزَتُهُ وَتَرْكُهُ إلَى غيره مع بَلْوَاهُمْ بِهِ فَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ مِنْ الْأَصْلِ الَّذِي قَدَّمَنَا أَنَّ مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلَوِيّ فَسَبِيلُ وُرُودِهِ أَخْبَارُ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ وَأَمَّا إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَإِنَّ مِثْلَهُ يَجُوزُ خَفَاؤُهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ حَتَّى لَا يَرَاهُ مِنْهُمْ إلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ إذَا انْجَابَ عَنْهُ لَمْ يَسْتُرْهُ قَبْلَ أَنْ
يَتَبَيَّنَهُ الْآخَرُونَ فَلِذَلِكَ قُبِلَ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا قَبِلَ أَصْحَابُنَا خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ لِمَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ(1/253)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ مَرَّةً فَأَرَادُوا أَنْ لَا يَقُومُوا وَلَا يَصُومُوا فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ الْحَرَّةِ فَشَهِدَ أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ وَشَهِدَ أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ فَنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ يَقُومُوا وَأَنْ يَصُومُوا)
قَالَ أَبُو دَاوُد وَأَنْ يَقُومُوا كَلِمَةٌ لَمْ يَقُلْهَا إلَّا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَأَنَا بِحَدِيثِهِ أَتْقَنُ قَالَا حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ محمد عن عبد الله ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرْضٌ يَلْزَمُ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ فَإِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ الِاسْتِفَاضَةِ فِيهِ وَجَبَ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الِاسْتِفَاضَةُ وَلِذَلِكَ قَبِلُوا خَبَرَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا كَانَ عَدْلًا كَمَا يُقْبَلُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا عَاضَدَ الْقِيَاسُ مِنْ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهِ وَأَمَّا هِلَالُ شَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ لِمَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيَى الْبَزَّازُ قَالَ أَخْبَرْنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأشجعى قال حدثنا حسين بن الحرث الْجَدَلِيُّ مِنْ جَدِيلَةِ قَيْسٍ أَنَّ أَمِيرَ مَكَّةَ خَطَبَ ثُمَّ قَالَ عَهِدَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَنْسُكَ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَإِنْ لَمْ نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ نسكنا بشهادتهما
فسألت الحسين بن الحرث مَنْ أَمِيرُ مَكَّةَ فَقَالَ لَا أَدْرِي ثُمَّ لقيني بعد ذلك فقال هو الحرث بْنُ حَاطِبٍ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ ثُمَّ قَالَ الْأَمِيرُ إنَّ فِيكُمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنِّي وَشَهِدَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى رَجُلٍ قَالَ الْحُسَيْنُ فَقُلْتُ لِشَيْخٍ إلَى جَنْبِي مَنْ هَذَا الَّذِي أَوْمَأَ إلَيْهِ الْأَمِيرُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَصَدَقَ كَانَ أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْهُ فَقَالَ بِذَلِكَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَوْلُهُ أَمَرَنَا أَنْ نَنْسُكَ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ إنَّمَا هُوَ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ وَالذَّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ لِوُقُوعِ اسْمِ النُّسُكِ عَلَيْهِمَا دُونَ صَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ مُطْلَقًا وَقَدَ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَالذَّبْحَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى [فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ] فَجَعَلَ النُّسُكَ غَيْرَ الصِّيَامِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النُّسُكَ يَقَعُ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ
حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ(1/254)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ النَّحْرِ (إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ)
فَسَمَّى الصَّلَاةَ نُسُكًا وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الذَّبْحَ نُسُكًا فِي قَوْلِهِ [إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ] وفي قوله [أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ] فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ عَهِدَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَنْسُكَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ عَدْلٍ قَدْ انْتَظَمَ صَلَاةَ الْعِيدِ لِلْفِطْرِ وَالذَّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الِاسْتِظْهَارَ بِفِعْلِ الْفَرْضِ أَوْلَى مِنْ الِاسْتِظْهَارِ بِتَرْكِهِ فَاسْتَظْهِرُوا لِلْفِطْرِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فِيمَا لَا صَوْمَ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ الْأَكْلِ فِي يَوْمِ الصَّوْمِ فَإِنْ قِيلَ فِي هَذَا تَرْكُ الِاسْتِظْهَارِ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْفِطْرِ وَقَدْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدٌ فَإِذَا لَمْ تَقْبَلْ شَهَادَتَهُ وَاعْتَبَرْتَ الِاسْتِظْهَارَ بِرَجُلَيْنِ فَلَسْتَ تَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا يَوْمَ الْفِطْرِ وَفِيهِ مُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورِ وَضِدُّ الِاحْتِيَاطِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا حَظَرَ عَلَيْنَا الصَّوْمَ فِيهِ إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَوْمُ الْفِطْرِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَوْمُ الْفِطْرِ فَالصِّيَامُ فِيهِ غَيْرُ مَحْظُورٍ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ يَوْمُ الْفِطْرِ وَوَقَفْنَا بَيْنَ فِعْلِ الصَّوْمِ وَتَرْكِهِ كَانَ فِعْلُهُ أَحْوَطَ مِنْ تَرْكِهِ لِمَا بَيَّنَّا حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ يَوْمُ الْفِطْرِ بِشَهَادَةِ مَنْ يَقْطَعُ الْحُقُوقَ بِشَهَادَتِهِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ الشَّاكَّ غَيْرُ شَاهِدٍ لِلشَّهْرِ إذْ هُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَصُومَهُ عَنْ رَمَضَانَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ)
فَحَكَمَ لِلْيَوْمِ الَّذِي غُمَّ عَلَيْنَا هِلَالُهُ بِأَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يصام شعبان عن رمضان مستقبل وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا الفضل بن مخلد الْمُؤَدِّبِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ عَنْ عَلِيٍّ الْقُرَشِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي محمد بْنُ عَجْلَانَ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الدَّأْدَأَةِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ لَا يُدْرَى مِنْ شَعْبَانَ هُوَ أَمْ مِنْ رَمَضَانَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ صِلَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَأُتِيَ بِشَاةٍ فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ عَمَّارٌ مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ)
وَلَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِصِيَامِ يَوْمٍ(1/255)
وَلَا يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ وَمَعَانِي هَذِهِ الْآثَارِ مُوَافِقَةٌ لِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] وَلَا يَرَى أَصْحَابُنَا بَأْسًا بِأَنْ يَصُومَهُ تَطَوُّعًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَكَمَ بِأَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَقَدْ أَبَاحَ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْهِلَالِ يُرَى نَهَارًا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إذَا رَأَى الْهِلَالَ نَهَارًا فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ رُؤْيَتِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي وَائِلٍ وسعيد ابن الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ إذَا رَأَى الْهِلَالَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَإِذَا رَآهُ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَالثَّوْرِيُّ وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ ببلنجر فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ ضُحًى فَأَخْبَرْتُهُ فَجَاءَ فَقَامَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَنَظَرَ إلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ الله تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مُخَاطَبًا بِفِعْلِ الصَّوْمِ فِي آخِرِ رَمَضَانَ مُرَادًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ] فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي خِطَابِ قَوْلِهِ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ حَالًا مِنْ حَالٍ فَهُوَ عَلَى سَائِرِ الْأَحْوَالِ سَوَاءٌ رَأَى الْهِلَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَرَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَزَلْ عَنْهُ الْخِطَابُ بِإِتْمَامِ الصَّوْم بَلْ كَانَ دَاخِلًا فِي حُكْمِ اللَّفْظِ فَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ لَدُخُولِهِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ صَوْمٌ يَسْتَقْبِلُهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْتِحَالَةُ الْأَمْرِ بِصَوْمِ يَوْمٍ مَاضٍ وَالْآخَرُ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ إذَا رَأَى الْهِلَالَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ عَلَيْهِ صِيَامُ مَا يستقبل من الأيام فثبت أن
قوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته
إنَّمَا هُوَ صَوْمٌ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَمَنْ رَأَى الْهِلَالَ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ لَزِمَهُ صَوْمُ مَا يَسْتَقْبِلُ دُونَ مَا مَضَى لِقُصُورِ مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَوْمٍ يَفْعَلُهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَأَيْضًا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ)
فَأَوْجَبَ بِذَلِكَ اعْتِبَارَ الثَّلَاثِينَ لِكُلِّ شَهْرٍ يَخْفَى عَلَيْنَا رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فِيهِ فَلَوْ احتمل(1/256)
الْهِلَالُ الَّذِي رَأَى نَهَارًا اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ وَاحْتُمِلَ اللَّيْلَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لَكَانَ الِاحْتِمَالُ لِذَلِكَ جَاعِلُهُ فِي حُكْمِ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا رُؤْيَتُهُ فَوَاجِبٌ أَنْ يعد الشهر ثلاثين يوما بقضية قوله صلّى الله عليه وسلم فَإِنْ قِيلَ لَمَّا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ
اقْتَضَى ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالْإِفْطَارِ أَيَّ وَقْتٍ رَأَى الْهِلَالَ فِيهِ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ مَزْجُورٌ عَنْ الْإِفْطَارِ لِرُؤْيَتِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ خَصَّصْنَاهُ مِنْهُ وَبَقِيَ حُكْمُ الْعُمُومِ فِي رُؤْيَتِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ قِيلَ لَهُ مُرَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَتُهُ لَيْلًا بِدَلَالَةِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا تُوجِبُ لَهُ الْإِفْطَارَ لِأَنَّهُ رَآهُ نَهَارًا وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ لِوُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى وَأَيْضًا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ لَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ شَوَّالٍ وَمَا قَبْلَهْ مِنْ رَمَضَانَ لِحُصُولِ الْيَقِينِ بِأَنَّ مُرَادَهُ الْإِفْطَارُ لِرُؤْيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ لَا لِرُؤْيَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْهُ لِاسْتِحَالَةِ أَمْرِهِ بِالْإِفْطَارِ فِي وَقْتٍ قَدْ تَقَدَّمَ الرُّؤْيَةُ فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ شَوَّالٍ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ رَمَضَانَ فَيَكُونُ الشَّهْرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَبَعْضَ يَوْمٍ وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّهْرِ بِأَحَدِ عَدَدَيْنِ مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ
وَقَوْلُهُ الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ
وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ فِي أَنَّ الشَّهْرَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا وَأَنَّ الشُّهُورَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ دُونَ أَنْ يَكُونَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَبَعْضَ يَوْمٍ وَإِنَّمَا النُّقْصَانُ وَالزِّيَادَةُ بِالْكُسُورِ إنَّمَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الشُّهُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ نَحْوُ شُهُورِ الرُّومِ الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَرُبْعُ يَوْمٍ وَهُوَ شُبَاطُ إلَّا فِي السَّنَةِ الْكَبِيسَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَمِنْهَا مَا هُوَ وَاحِدٌ وَثَلَاثُونَ وَمِنْهَا مَا هُوَ ثَلَاثُونَ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الشُّهُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَذَلِكَ فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ إلَّا ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِقَوْلِهِ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ إلَّا أَنْ يُرَى لَيْلًا وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِرُؤْيَتِهِ نَهَارًا لِإِيجَابِهِ كَوْنَ بَعْضِ يَوْمٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ وَبَعْضُهُ مِنْ شَهْرٍ غَيْرِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي قَالَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ هُوَ الَّذِي قَالَ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ وَرُؤْيَتُهُ نَهَارًا فِي مَعْنَى مَا قَدْ غُمِّيَ عَلَيْنَا لِاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ فِي كَوْنِهِ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ أَوْ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ عَدَّهُ ثَلَاثِينَ وَأَيْضًا
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَنَدِهِ فَحُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْهِلَالِ الَّذِي قَدْ حَالَ بَيْنَنَا وبينه حائل(1/257)
مِنْ سَحَابٍ بِحُكْمِ مَا لَمْ يُرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَحَابٌ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَائِلٌ مِنْ سَحَابٍ لرؤى لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ مَعْنًى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الْعِلْمِ لَنَا بِأَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَائِلًا مِنْ سَحَابٍ لما
قال صلّى الله عليه وسلم فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ
فَيَجْعَلُ ذَلِكَ شَرْطًا لِعَدِّ ثَلَاثِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْيَأْسِ مِنْ وُقُوعِ عِلْمِنَا بِذَلِكَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ اقْتَضَى هَذَا الْقَوْلُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّا مَتَى عَلِمْنَا أَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْهِلَالِ حَائِلًا مِنْ سَحَابٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَرَأَيْنَاهُ أَنْ نَحْكُمَ لِهَذَا الْيَوْمِ بِغَيْرِ حُكْمِ الرُّؤْيَةِ فَاعْتِبَارُ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ مِنْ اللَّيْلِ فِيمَا رَأَيْنَاهُ نَهَارًا أَوْلَى فَأَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذَا الْيَوْمِ حُكْمَ مَا قَبْلَهُ وَيَكُونَ مِنْ الشَّهْرِ الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ مِنْ اللَّيْلِ بَلْ هُوَ أَضْعَفُ أَمْرًا مِمَّا حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ سَحَابٌ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُحِيطُ الْعِلْمُ بِهِ وَهَذَا لَا يُحِيطُ عِلْمُنَا بِأَنَّهُ مِنْ اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ بَلْ أَحَاطَ الْعِلْمُ بِأَنَّا لَمْ نَرَهُ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ مَعَ عَدَمِ الْحَائِلِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ سَحَابٍ أَوْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ للصواب.
بَابُ قَضَاءِ رَمَضَانَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ قَدْ دَلَّ مَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُتَفَرِّقًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] قَدْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ فِي أَيَّامٍ مَنْكُورَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ قَضَائِهِ مُتَفَرِّقًا إنْ شَاءَ أَوْ مُتَتَابِعًا وَمَنْ شَرَطَ فِيهِ التَّتَابُعَ فَقَدْ خَالَفَ ظَاهِرَ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إيجَابُ صِفَةٍ زَائِدَةٍ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي اللَّفْظِ وَغَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ الصَّوْمَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّتَابُعَ إذْ هُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِيهِ وَالْآخَرُ تَخْصِيصُهُ الْقَضَاءَ فِي أَيَّامٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَالْوَجْهُ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ] فَكُلُّ مَا كَانَ أَيْسَرُ عَلَيْهِ فَقَدْ اقْتَضَى الظَّاهِرُ جَوَازَ فِعْلِهِ وَفِي إيجَابِ التَّتَابُعِ نَفْيُ الْيُسْرِ وَإِثْبَاتُ الْعُسْرِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِظَاهِرِ الْآيَةِ والوجه الثالث قوله تعالى [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَضَاءُ عَدَدِ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَ فِيهَا وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُهُ مِنَّا إكْمَالَ عَدَدِ مَا أَفْطَرَ فَغَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى لِمَا فِيهِ مِنْ(1/258)
الزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْآيَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُس وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ قَالُوا إنْ شِئْتَ قَضَيْتَهُ مُتَفَرِّقًا وَإِنْ شِئْتَ مُتَتَابِعًا
وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إسحاق عن الحرث عَنْ عَلِيٍّ قَالَ اقْضِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا فَإِنْ فَرَّقْتَهُ أَجْزَأَكَ
وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عن الحرث عَنْ عَلِيٍّ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ قَالَ لَا يُفَرَّقُ
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ وَأَنَّهُ إنْ فَرَّقَ أَجْزَأَهُ كَمَا رَوَاهُ شَرِيكٌ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ صُمْهُ كَمَا أَفْطَرْتَهُ وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ كَانُوا يَقُولُونَ قَضَاءُ رَمَضَانَ مُتَتَابِعٌ وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسِ الْمَكِّيِّ قَالَ كُنْت أَطُوفُ مَعَ مُجَاهِدٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ صِيَامِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَيُتَابِعُ قُلْتُ لَا فَضَرَبَ مُجَاهِدٌ فِي صَدْرِي وَقَالَ إنَّهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ مُتَتَابِعَاتٍ وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُتَابِعُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ والحسن ابن صَالِحٍ يَقْضِيهِ مُتَتَابِعًا أَحَبُّ إلَيْنَا وَإِنْ فَرَّقَ أَجْزَأَهُ فَحَصَلَ مِنْ إجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ جَوَازُ قَضَائِهِ مُتَفَرِّقًا وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عليه
وقد روى حماد بن سلمة عن سماك ابن حَرْبٍ عَنْ هَارُونَ بْنِ أُمِّ هَانِئٍ أَوْ ابن بنت هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناولها فضل شرابه فشربت ثم قلت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّ سُؤْرَكَ فَقَالَ إنْ كَانَ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَصُومِي يَوْمًا مَكَانَهُ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِيهِ وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِيهِ
فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَضَاءِ يَوْمٍ مَكَانَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِاسْتِئْنَافِ الصَّوْمِ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّتَابُعَ غَيْرُ وَاجِبٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ التَّفْرِيقِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ لَأَرْشَدَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَبَيَّنَّهُ لَهَا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ نَفْسَهُ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَيَّامٍ مُتَجَاوِرَةٍ وَلَيْسَ التَّتَابُعُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ مِنْهُ يَوْمًا لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِقْبَالُ الصَّوْمِ وَجَازَ مَا صَامَ مِنْهُ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مُتَتَابِعًا فَقَضَاؤُهُ أَحْرَى بِأَنْ لَا يَكُونَ مُتَتَابِعًا وَلَوْ كَانَ صَوْمُ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا لَكَانَ إذَا أَفْطَرَ مِنْهُ يَوْمًا لَزِمَهُ التَّتَابُعُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافَهُمَا فَإِنْ قِيلَ قَدْ أَطَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ غَيْرَ مَعْقُودِ بِشَرْطِ التَّتَابُعِ وَقَدْ شَرَطْتُمْ ذَاكَ فِيهِ وَزِدْتُمْ فِي نَصِّ الْكِتَابِ قِيلَ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ ثبت أنه(1/259)
كَانَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ مُتَتَابِعَاتٍ وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَخْبَرنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ سَأَلْتُ إبْرَاهِيمَ عَنْ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَقَالَ كَمَا فِي قِرَاءَتِنَا فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ كان أبى يقرأها فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا قال الله [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] وَكَانَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا جَمِيعًا عَلَى الْفَوْرِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ قَضَائِهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ وَفِي وُجُوبِ ذَلِكَ إلْزَامُ التَّتَابُعِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَوْنُ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ لُزُومِ التَّتَابُعِ فِي شَيْءٍ أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَلْزَمُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ وَأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَهُ صَوْمُ أَوَّلِ يَوْمٍ فَصَامَهُ ثُمَّ مَرِضَ فَأَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ التَّتَابُعُ وَلَا اسْتِئْنَافُ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لُزُومَ التَّتَابُعِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِكَوْنِ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ الْمُهْلَةِ وَأَنَّ التَّتَابُعَ لَهُ صِفَةٌ أُخْرَى غَيْرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَم.
بَاب فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] فَأَوْجَبَ الْعِدَّةَ فِي أَيَّامٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فِي الْآيَةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَصُومَ أى وقت شاء وَلَا يُحْفَظُ عَنْهُمْ رِوَايَةٌ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِ إلَى انْقِضَاءِ السَّنَةِ وَاَلَّذِي عِنْدِيّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى أَنْ يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ وَهُوَ عِنْدِي عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ إذَا كَانَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ فَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَضَاءُ رَمَضَانَ مُوَقَّتًا بِالسَّنَةِ لَمَا جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ عَنْ ثَانِي يَوْمِ الْفِطْرِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَلْحَقَهُ التَّفْرِيطُ بِالتَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ بِآخِرِ وَقْتِ وُجُوبِ الْفَرْضِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ كَمَا لَا يَجُوزُ ورود العبادة بِفَرْضٍ مَجْهُولٍ عِنْدَ الْمَأْمُورِ ثُمَّ يَلْحَقُهُ التَّعْنِيفُ وَاللَّوْمُ بِتَرْكِهِ قَبْلَ الْبَيَانِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَذْهَبَهُمْ جَوَازُ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ إمْكَانِ قَضَائِهِ ثَبَتَ أَنَّ تَأْخِيرَهُ مُوَقَّتٌ بِمُضِيِّ السَّنَةِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ وَقْتِ الظُّهْرِ لَمَّا كَانَ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ مَعْلُومَيْنِ جَازَ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِفِعْلِهَا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَجَازَ تَأْخِيرُهَا إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُخَافُ فَوْتُهَا بِتَرْكِهَا لِأَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا الَّذِي يَكُونُ مُفَرَّطًا بِتَأْخِيرِهَا مَعْلُومٌ وَقَدْ رُوِيَ جَوَازُ تَأْخِيرِهِ فِي السَّنَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ(1/260)
قَالَتْ عَائِشَةُ إنْ كَانَ لِيَكُونَ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَمَا اُسْتُطِيعَ أَنْ أَقْضِيَهُ حتى يأتى شعبان وروى عن عمرو أبى هُرَيْرَةَ قَالَا لَا بَأْسَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي العشر وكذلك عن سعيد ابن جُبَيْرٍ وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ اقْضِ رَمَضَانَ مَتَى شِئْتَ فَهَؤُلَاءِ السَّلَفُ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِهِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ إمْكَانِ قَضَائِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى حَضَرَ رَمَضَانُ آخَرُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا يَصُومُ الثَّانِي عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَقْضِي الْأَوَّلَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إنْ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ الْأَوَّلِ أَطْعَمَ مَعَ الْقَضَاءِ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ كُلُّ يَوْمٍ مُدًّا وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ بِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ فلا إطعام عليه وقال الأوزاعى إذا فَرَّطَ فِي قَضَاءِ الْأَوَّلِ وَمَرِضَ فِي الْآخَرِ حَتَّى انْقَضَى ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُطْعِمُ عَنْ الْأَوَّلِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّيْنِ مُدًّا لِتَضْيِيعِهِ وَمُدًّا للصيام ويطعم عن الآخر مدا مُدًّا لِكُلِّ يَوْمٍ وَاتَّفَقَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ قَوْلِهِ قَبْلَ الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّهُ إذَا مَرِضَ فِي رمضان ثم مات قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ قال حدثنا إبراهيم ابن إِسْحَاقَ الضَّبِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا قَيْسُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَى بَأْسًا بِقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الحرث بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيَشَانِيِّ قَالَ جمعنا المجلس بطرابلس ومعنا هبيب بْنُ مَعْقِلٍ الْغِفَارِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ صَاحِبَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَمْرٌو أَفْصِلُ رَمَضَانَ وَقَالَ الْغِفَارِيُّ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ رَمَضَانَ فَقَالَ عَمْرٌو نُفَرِّقُ بَيْنَ قَضَاءِ رَمَضَانَ إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ الْبَغْلَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ أَفَأُفَرِّقُ بَيْنَهُ قَالَ نَعَمْ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ مُتَفَرِّقًا أَكَانَ يُجْزِيكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالتَّجَاوُزِ وَالْعَفْوِ
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا تُنْبِئُ عَنْ جَوَازَ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ إمْكَانِ قَضَائِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إيجَابُ الْفِدْيَةِ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ مَرِضْتُ رَمَضَانَيْنِ فَقَالَ(1/261)
ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْتَمَرَّ بِكَ مَرَضُكَ أَوْ صَحَحْتَ فِيمَا بَيْنَهُمَا قَالَ بَلْ صَحَحْت فِيمَا بَيْنَهُمَا قَالَ أَكَانَ هَذَا قَالَ لَا قَالَ فَدَعْهُ حَتَّى يَكُونَ فَقَامَ إلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ فَقَالُوا ارْجِعْ فَأَخْبِرْهُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فَرَجَعَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ وَسَأَلَهُ فَقَالَ أَكَانَ هَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ صُمْ رَمَضَانَيْنِ وَأُطْعِمْ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا وَقَدْ رَوَى رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي رَجُلٍ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ قَالَ يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ وَيُطْعِمُ عَنْ الْأَوَّلِ كُلَّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَهَذَا يُشْبِهُ مَذْهَبَهُ فِي الْحَامِلِ أَنَّهَا تُطْعِمُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا مَعَ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ آخَرُ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ وَحُمَيْدٍ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ أَنَّ رَجُلًا اُحْتُضِرَ فَقَالَ لِأَخِيهِ إنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ دَيْنًا وَلِلنَّاسِ عَلَيَّ دَيْنٌ فَابْدَأْ بِدَيْنِ اللَّهِ فَاقْضِهِ ثُمَّ اقْضِ دَيْنَ النَّاس إنَّ عَلَيَّ رَمَضَانَيْنِ لَمْ أَصُمْهُمَا فَسَأَلَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ بَدَنَتَانِ مُقَلَّدَتَانِ فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا شَأْنُ الْبُدْنِ وَشَأْنُ الصَّوْمِ أَطْعِمْ عَنْ أَخِيكَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ أَيُّوبُ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ صَحَّ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ أَنَّهُ يَقُولُ وَجَدْتُهُ يَعْنِي وُجُوبَ الْإِطْعَامِ عَنْ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ أَجِدْ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةَ مُخَالِفًا وَهَذَا جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَضَاءِ وقَوْله تَعَالَى [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ وَعَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ وَعَلَى أَنْ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ مَعَ الْقَضَاءِ زِيَادَةً فِي النَّصِّ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَهُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ وَأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا أَوْجَبَتْ قَضَاءَ الْعِدَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْفِدْيَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَضَاءَ الْعِدَّةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَاجِبٌ بِالْآيَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَتْهُ الْآيَةُ الْقَضَاءَ دُونَ الْفِدْيَةِ وَفِي بَعْضِهِ الْقَضَاءُ وَالْفِدْيَةُ مَعَ دُخُولِهِمَا فِيهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَعْضِ السُّرَّاقِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْقَطْعُ وَزِيَادَةُ غُرْمٍ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ لَا يُقْطَعُ إلَّا فِي عَشَرَةٍ وَبَعْضُهُمْ يُقْطَعُ فِيمَا دُونَهَا كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ المرادين بقوله [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] مَخْصُوصًا بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ دُونَ الْفِدْيَةِ وَبَعْضُهُمْ مُرَادٌ بالقضاء والفدية ومن جهة أخرى أنه غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْكَفَّارَاتِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِيمَا وَصَفْنَا فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ الْفِدْيَةِ قِيَاسًا وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفِدْيَةَ مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ وَأَجْزَأَ عَنْهُ(1/262)
فَإِنَّمَا يَخْتَصُّ وُجُوبُهَا بِمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَمَنْ مَاتَ مُفَرِّطًا قَبْلَ أن يقضى فأما اجْتِمَاعُ الْفِدْيَةِ وَالْقَضَاءِ فَمُمْتَنِعٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي بَابِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فَمَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ في هذا أظهر في إيجابه الفدية دُونَ الْقَضَاءِ مِنْ مَذْهَبِ مَنْ جَمَعَهُمَا وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَهُ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْفِدْيَةَ عِنْدَ ذِكْرِ التَّفْرِيقِ وَلَوْ كَانَ تَأْخِيرُهُ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي تَشْبِيهُهُ إيَّاهُ بِالدَّيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَأْخِيرَ الدَّيْنِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْئًا غَيْرَ قَضَائِهِ فَكَذَلِكَ مَا شَبَّهَهُ بِهِ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ تَأْخِيرِهِ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ وَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مُفَرِّطًا بِذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِالتَّفْرِيطِ قِيلَ لَهُ إنَّ التَّفْرِيطَ لَا يلزمه الفدية وإنما الَّذِي يُلْزِمُهُ الْفِدْيَةَ فَوَاتُ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِمْكَانِ بِالْمَوْتِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا كَانَ مُفَرِّطًا وَإِذَا قَضَاهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ عِنْدَ الْجَمِيعِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُصُولَ التَّفْرِيطِ مِنْهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ وَحَكَى عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ أَنَّ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيَّ قَالَ يَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا
مِنْ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ أَنْ يَصُومَ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ فَإِنْ تَرَكَ صِيَامَهُ فَقَدْ أَثِمَ وَفَرَّطَ فَخَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ اتِّفَاقِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مَعًا وَعَنْ ظَاهِرِ قوله تعالى [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] وقوله [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] وَخَالَفَ السُّنَنَ الَّتِي رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ قَالَ عَلِيُّ بن موسى سألته يوما فَقُلْتُ لَهُ لِمَ قُلْتَ ذَلِكَ قَالَ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَصُمْ الْيَوْمَ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ فَمَاتَ فَكُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ إنَّهُ آثِمٌ مُفَرِّطٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوَسَّعًا لَهُ أَنْ يَصُومَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَزِمَهُ التَّفْرِيطُ إنْ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَوَجَدَ رَقَبَةً تُبَاعُ بِثَمَنٍ مُوَافِقٍ هَلْ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهَا وَيَشْتَرِيَ غَيْرَهَا فَقَالَ لَا فَقُلْتُ لِمَ قَالَ لِأَنَّ الْفَرْضَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقْ أَوَّلَ رَقَبَةٍ يَجِدُهَا فَإِذَا وَجَدَ رقبة لزمه الفرض فيها وإذا لزمه الفرض فِي أَوَّلِ رَقَبَةٍ لَمْ يُجِزْهُ غَيْرُهَا إذَا كَانَ وَاجِدًا لَهَا فَقُلْتُ فَإِنَّ اشْتَرَى رَقَبَةً غيرها فأعتقها وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْأُولَى فَقَالَ لَا يُجْزِيهِ ذَلِكَ قُلْتُ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ رَقَبَةٌ فَوَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ هَلْ يُجْزِيهِ أَنْ يَشْتَرِيَ غَيْرَهَا قَالَ لَا فَقُلْتُ لِأَنَّ الْعِتْقَ صَارَ عَلَيْهِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا فَقَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ فَمَا تَقُولُ إنْ مَاتَتْ هَلْ يَبْطُلُ عَنْهُ الْعِتْقُ كَمَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً بِعَيْنِهَا فَمَاتَتْ يَبْطُلُ نَذْرُهُ فَقَالَ لَا بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ(1/263)
غَيْرَهَا لِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ فَقُلْتُ وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ غَيْرَهَا فَقَالَ عَمَّنْ تَحْكِي هَذَا الْإِجْمَاعَ فَقُلْتُ لَهُ وَعَمَّنْ تَحْكِي أَنْتَ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ فَقَالَ الْإِجْمَاعُ لَا يُحْكَى فَقُلْتُ وَالْإِجْمَاعُ الثَّانِي أَيْضًا لَا يُحْكَى وَانْقَطَعَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ دَاوُد مِنْ تَعْيِينِ فَرْضِ الْقَضَاءِ بِالْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ وَأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ فَوَجَدَهَا أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّاهَا إلَى غَيْرِهَا خِلَافَ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ وَمَا ادَّعَاهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مُفَرِّطًا إذَا مَاتَ وَقَدْ أَخَّرَهُ عَنْ الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى فَإِنَّ مَنْ جُعِلَ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ لَا يَجْعَلُهُ مُفَرِّطًا بِالْمَوْتِ لِأَنَّ السَّنَةَ كُلَّهَا إلَى أَنْ يَجِيءَ رَمَضَانُ ثَانٍ وَقْتَ الْقَضَاءِ مُوَسَّعٌ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي التَّأْخِيرِ مِنْ أَوَّلَهُ إلَى آخِرِهِ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا بِتَأْخِيرِهِ إنْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ فَإِنْ قِيلَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا لَمَا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ إذَا مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ وَلَمْ يَقْضِهِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ لُزُومُ الْفِدْيَةِ عَلَمًا لِلتَّفْرِيطِ لِأَنَّ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ يَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ مَعَ عَدَمِ التَّفْرِيطِ وَقَوْلُ دَاوُد الْإِجْمَاعُ لَا يُحْكَى خَطَأٌ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ يُحْكَى كَمَا تُحْكَى النُّصُوصُ وَكَمَا يُحْكَى الِاخْتِلَافُ فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْمِعِينَ لَا يَحْتَاجُ إلَى حِكَايَةِ أَقَاوِيلِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُنْشَرَ الْقَوْلُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ وَهُمْ حُضُورٌ يَسْمَعُونَ وَلَا يُخَالِفُونَ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُحْكَى لِأَنَّ مِنْ الْإِجْمَاعِ مَا يُحْكَى فِيهِ أَقَاوِيلُ جَمَاعَتِهِمْ فَيَكُونُ مَا يَحْكِيهِ مِنْ إجْمَاعِهِمْ حِكَايَةً صَحِيحَةً وَمِنْهُ مَا يُحْكَى أَقَاوِيلُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ مُنْتَشِرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ مَعَ سَمَاعِ الْآخَرِينَ لَهَا وَتَرْكِ إظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ فَهَذَا أَيْضًا إجْمَاعٌ يُحْكَى إذْ كَانَ تَرْكُ الْآخَرِينَ إظْهَارَ النَّكِيرِ وَالْمُخَالَفَةِ قَائِمًا مَقَامَ الْمُوَافَقَةِ فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنْ إجْمَاعِ الْخَاصَّةِ وَالْفُقَهَاءِ يُحْكَيَانِ جَمِيعًا وَإِجْمَاعٌ آخَرُ وَهُوَ مَا تَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّنَا وَالرِّبَا وَوُجُوبِ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا فَهَذِهِ أُمُورٌ قَدْ عُلِمَ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يُحْكَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ اعْتِقَادُهُ وَالتَّدَيُّنِ بِهِ فَإِنْ عُنِيَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْإِجْمَاعِ فَقَدْ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مِثْلَهُ لَا يُحْكَى وَقَدْ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا الضَّرْبَ أَيْضًا يُحْكَى لِعِلْمِنَا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الصَّلَاةِ عَلَى اعْتِقَادِهِ وَالتَّدَيُّنِ بِهِ فَجَائِزٌ أَنْ يُحْكَى عَنْهُمْ اعْتِقَادُهُمْ لِذَلِكَ وَالتَّدَيُّنُ بِهِ وَأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَيْهِ كَمَا إذَا ظَهَرَ لَنَا إسْلَامُ رَجُلٍ وَإِظْهَارُ اعْتِقَادِهِ الْإِيمَانَ أَنْ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ] وبالله التوفيق.(1/264)
بَاب الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ] فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ فِي السَّفَرِ رُخْصَةٌ يَسَّرَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْنَا وَلَوْ كَانَ الْإِفْطَارُ فَرْضًا لَازِمًا لَزَالَتْ فائدة قوله [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِفْطَارِ وبين الصوم كقوله تعالى [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] وقوله [فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ] فَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ الْيُسْرُ فَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى التَّخْيِيرِ وَرَوَى عَبْدُ الرَّحِيمِ الْجَزَرِيُّ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَا نَعِيبُ عَلَى مَنْ صَامَ وَلَا عَلَى مَنْ أَفْطَرَ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ] فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيُسْرَ الْمَذْكُورَ فِيهِ أُرِيدَ بِهِ التَّخْيِيرُ فَلَوْلَا احْتِمَالُ الْآيَةِ لَمَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَقَالَ اللَّهُ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ [وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْإِفْطَارَ وَلَا الصَّوْمَ وَالْمُسَافِرُ شَاهِدٌ لِلشَّهْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعِلْمُ بِهِ وَحُضُورُهُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِصَوْمِ الشَّهْرِ وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُرَخَّصٌ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ وَقَوْلُهُ [وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] مَعْنَاهُ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ] الْمَعْنَى فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُضْمَرٌ فِيهِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَتَى صَامَ أَجْزَأَهُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُفْطِرَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ مُضْمَرٌ فِيهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَلِكَ الضَّمِيرُ بِعَيْنِهِ هُوَ مَشْرُوطٌ لِلْمُسَافِرِ كَهُوَ لِلْمَرِيضِ لذكرهما جَمِيعًا فِي الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ الْعَطْفِ وَإِذَا كَانَ الْإِفْطَارُ مَشْرُوطًا فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ الْقَضَاءَ إذَا صَامَ فَقَدْ خَالَفَ حَكَمَ الْآيَةِ وَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ صَوْمِ الْمُسَافِرِ غَيْرَ شَيْءٍ
يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ شَوَاذٌّ مِنْ النَّاسِ لَا يُعَدُّونَ خِلَافًا
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ صَامَ فِي السَّفَرِ
وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا إبَاحَةُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ مِنْهُ
حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حمزة بن عمر والأسلمى قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصوم في السفر فقال صلّى الله عليه وسلم إنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وسلمة بن(1/265)
الْمُحَبِّقِ صِيَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ
وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى جَوَازَ صَوْمِ الْمُسَافِرِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ [وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] قَالُوا فَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ فِي الْحَالَيْنِ إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الصَّائِمِ وَالْمُفْطِرِ وَبِمَا
رَوَى كَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيُّ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصيام في السفر)
ومما
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُنْذِرٍ الْحِزَامِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى التَّيْمِيّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زيد عن الزهري عن أبى سلمة ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الصَّائِمُ فِي السفر كالمفطر في الحضر)
ومما
رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إنَّ الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ
فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلَالَةَ لَهُمْ فِيهَا بَلْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ صوم المسافر لما بينا وَأَمَّا مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السفر)
فإنه كلام خرج على حَالٍ مَخْصُوصَةٍ فَهُوَ مَقْصُورُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا وَهِيَ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أبو داود قال أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُظَلَّلُ عَلَيْهِ وَالزِّحَامُ عَلَيْهِ فَقَالَ (لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ)
فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ رَوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا حَكَى مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَسَاقَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ السَّبَبِ وَحَذَفَهُ بعضهم واقتصر على حكاية قوله صلّى الله عليه وسلم
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُمْ صَامُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ إنَّهُ قَالَ لَهُمْ إنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا
فَكَانَتْ عَزِيمَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أبو سعيد ثم لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَصُومُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ قَزَعَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِلَّةُ أَمْرِهِ بِالْإِفْطَارِ وَأَنَّهَا كَانَتْ لِأَنَّهُ أَقْوَى لَهُمْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَادَ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَرْضًا فَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُمْ تَرْكُ الْفَرْضِ لِأَجْلِ الْفَضْلِ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ فَإِنَّ أَبَا سَلَمَةَ لَيْسَ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ أَبِيهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَرْكُ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي جَوَازِ الصَّوْمِ بِحَدِيثٍ مَقْطُوعٍ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ(1/266)
النَّاسِ وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ حَالُ لُزُومِ الْقِتَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَجْزِ عَنْهُ مَعَ فِعْلِ الصَّوْمِ فَكَانَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لِمُخَالَفَةِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْجِهَادِ وَأَمَّا قَوْلُهُ إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وَالصَّوْمَ وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فَإِنَّمَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ لِحُضُورِ الشَّهْرِ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ إذَا صَامَهُ كَمَا لَمْ يَنْفِ جَوَازَ صَوْمِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَحَبُّ إلَيْنَا لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ صَامَ فِي السَّفَرِ أَجْزَأَهُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ أَفْضَلُ قَوْله تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ- إلى قوله- وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] وَذَلِكَ عَائِدٌ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ إذ كَانَ الْكَلَامُ مَعْطُوفًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَلَا يُخَصُّ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ الْمُسَافِرِ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْإِفْطَارِ فَإِنْ قِيلَ هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] قيل له لما كان قوله [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ] خِطَابَا لِلْجَمِيعِ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَالْمُقِيمِينَ فَوَاجِبٌ أَنْ يكون قوله [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] خِطَابًا لِجَمِيعِ مَنْ شَمِلَهُ الْخِطَابُ فِي ابْتِدَاءِ الآية وغير جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الْبَعْضِ وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهُ عَنْ الْفَرْضِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْخَيْرَاتِ وَقَالَ اللهَ اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ]
مدح قَوْمًا فَقَالَ [إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ] فَالْمُسَارَعَةُ إلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَقْدِيمِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا وَأَيْضًا فِعْلُ الْفُرُوضِ فِي أَوْقَاتِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا إلَى غَيْرِهَا وَأَيْضًا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ فَلْيُعَجِّلْ)
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْجِيلِ الْحَجِّ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْفَرَائِضِ الْمَفْعُولَةِ فِي وَقْتِهَا أَفْضَلَ مِنْ تَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مَكْرَمٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي حَبِيبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ سِنَانَ بْنَ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ الْهُذَلِيُّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (من كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ يَأْوِي إلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حبيب(1/267)
قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ عن سلمة بن المحبق قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ فِي السَّفَرِ)
فَذَكَرَ مَعْنَاهُ فَأَمَرَهُ بِالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ لَا عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ وَقَدْ رَوَى عُثْمَانُ بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَم.
بَابُ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ ثم أفطر
وقد اختلف فيمن صَامَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ فَأَفْطَرَ أَوْ كَانَ مُسَافِرًا فَصَامَ وَقَدِمَ فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الصَّائِمِ فِي السَّفَرِ إذَا أَفْطَرَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَقَالَ مَرَّةً لَا كَفَّارَةَ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ وَقَالَ لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي حَضَرِهِ ثُمَّ سَافَرَ فَأَفْطَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَضَاءُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي الْإِفْطَارِ وَقَالَ اللَّيْثُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كَفَّارَةَ رَمَضَانَ تُسْقِطُهَا الشُّبْهَةُ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا بِمَأْثَمٍ مَخْصُوصٍ كَالْحُدُودِ فَلَمَّا كَانَتْ الْحُدُودُ تُسْقِطُهَا الشُّبْهَةُ كَانَتْ كَفَّارَةُ رَمَضَانَ بِمَثَابَتِهَا فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ قُلْنَا إنَّهُ مَتَى أَفْطَرَ فِي حَالِ السَّفَرِ فَإِنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْحَالِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ السَّفَرَ يُبِيحُ الْإِفْطَارَ فَأَشْبَهَ عَقْدَ النِّكَاحِ وَمِلْكَ الْيَمِينِ فِي إباحتهما الوطء وإن كانا غير مبيحين لوطئ الْحَائِضِ إلَّا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُودَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ لِلْوَطْءِ فِي الْأَصْلِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ وَإِنْ لَمْ يُبَحْ هَذَا الْوَطْءُ بِعَيْنِهِ كَذَلِكَ السَّفَرُ وَإِنْ لَمْ يُبَحْ الْإِفْطَارَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ إذْ كَانَ فِي الْأَصْلِ قَدْ جُعِلَ سَبَبَا لِإِبَاحَةِ الْإِفْطَارِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إذَا أَفْطَرَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرهمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ فِي السفر بعد ما دَخَلَ فِي الصَّوْمِ
وَذَلِكَ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ جَوَازَ الْإِفْطَارِ فِيهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُفْطِرِ فِيهِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الصَّوْمِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ أَشْبَهَ الصَّائِمَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ أَوْ فِي صَوْمِ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِإِفْطَارِهِ فيه إذ كان له بديا أَنْ لَا يَصُومَهُ وَلَمْ يَكُنْ لُزُومُ إتْمَامِهِ بِالدُّخُولِ فِيهِ مُوجِبًا عَلَيْهِ(1/268)
الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ فَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إذَا صَامَ ثُمَّ أَفْطَرْ وَأَمَّا إذَا أَصْبَحَ مُقِيمًا ثُمَّ سَافَرَ فَأَفْطَرَ فَهُوَ كَمَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُودِ الْحَالِ الْمُبِيحَةِ لِلْإِفْطَارِ وَهِيَ حَالُ السَّفَرِ كَوُجُودِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فِي إبَاحَةِ الْوَطْءِ وَإِنْ لم يبح وطئ الْحَائِضِ فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ابْتِدَاءِ النَّهَارِ تَرْكُ الصَّوْمِ لِكَوْنِهِ مُقِيمًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ إذْ كَانَ فِعْلُ الصَّوْمِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي ابْتِدَاءِ النَّهَارِ قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ طرئ مِنْ الْحَالِ مَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مَا وَصَفْنَا وَأَمَّا إذَا كَانَ مُسَافِرًا فَقَدِمَ ثُمَّ أَفْطَرْ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ كان له أن لا يصوم بديا فَأَشْبَهَ الصَّائِمَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا وَاخْتُلِفَ فِي الْمُسَافِرِ يُفْطِرُ ثُمَّ يَقْدَمُ من يومه والحائض تطهر في بعض النهار فقال أصحابنا والحسن ابن صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَيُمْسِكَانِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ فِي المسافر إذا قدم ولم يأكل شيء إنَّهُ يَصُومُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَيَقْضِي وَلَوْ طَهُرَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ حَيْضِهَا فَإِنَّهَا تَأْكُلُ وَلَا تَصُومُ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَرْأَةِ تَطْهُرُ وَالْمُسَافِرُ يَقْدُمُ وَقَدْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ إنَّهُ يَأْكُلُ وَلَا يُمْسِكُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ مِثْلُهُ وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ سُفْيَانُ عَنْ نَفْسِهِ خِلَافَ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَوْ أَصْبَحَ يَنْوِي الْإِفْطَارَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَكُفُّ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَيَقْضِي فَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَكَلَ جُرْأَةً عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ غُمَّ عَلَيْهِ هِلَالُ رَمَضَانَ فَأَكَلَ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ يُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ كَذَلِكَ الْحَائِضُ وَالْمُسَافِرُ وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَالَ الطَّارِئَةَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِفْطَارِ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالصِّيَامِ فَكَذَلِكَ إذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُفْطِرُونَ أُمِرُوا بِالْإِمْسَاكِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَيْضًا أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآكِلِينَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ بِالْإِمْسَاكِ مَعَ إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي نَظَائِرِهِ مِمَّا وصفناه وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي إيجَابِهِ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذَا أَكَلَ جُرْأَةً عَلَى ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةٌ يَخْتَصُّ وُجُوبُهَا بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ عَلَى وَصْفٍ وَهَذَا الْآكِلُ لَمْ يُفْسِدْ صَوْمًا بِأَكْلِهِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(1/269)
بَابٌ فِي الْمُسَافِرِ يَصُومُ رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهِ
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُسَافِرِ يَصُومُ رَمَضَانَ عَنْ وَاجِبِ غَيْرِهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ عَمَّا نَوَى فَإِنْ صَامَهُ تَطَوُّعًا فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ عَنْ رَمَضَانَ وَالْأُخْرَى أَنَّهُ تَطَوُّعٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ عَنْ رَمَضَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا فِي الْمُقِيمِ إذَا نَوَى بِصِيَامِهِ وَاجِبًا غَيْرَهُ أَوْ تَطَوُّعًا إنَّهُ عَنْ رَمَضَانَ وَيَجْزِيهِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي امْرَأَةٍ صَامَتْ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا فَإِذَا هُوَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَجْزَأَهَا وَقَالَا مَنْ صَامَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ تَطَوُّعًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ رَمَضَانُ أَجْزَى عَنْهُ وَقَالَ مَالِكُ وَاللَّيْثُ مَنْ صَامَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ رَمَضَانُ لَمْ يَجْزِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَصُومَ دَيْنًا وَلَا قَضَاءً لِغَيْرِهِ فِي رَمَضَانَ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يجزه في رمضان وَلَا لِغَيْرِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ نَبْتَدِئُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكَلَامِ فِي الْمُقِيمِ يَصُومُ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا فَنَقُولُ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا قَوْلُهُ عَزَّ وجل [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ- إلى قوله- وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] وَلَمْ يُخَصِّصْ صَوْمًا فَهُوَ عَلَى سَائِرِ مَا يَصُومُهُ مِنْ تَطَوُّعٍ أَوْ فَرْضٍ فِي كَوْنِهِ مُجْزِيًا عَنْ الْفَرْضِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الصَّائِمُ تطوعا أو واجبا غيره أَنْ يَكُونَ صَوْمًا عَمَّا نَوَى دُونَ رَمَضَانَ أَوْ يَكُونَ مُلْغًى لَا حُكْمَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَصُمْ أَوْ مُجْزِيًا عَنْ رَمَضَان فَلَمَّا كَانَ وُقُوعُهُ عَمَّا نَوَى وَكَوْنُهُ مُلْغًى مَانِعَيْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الصِّيَامُ خَيْرًا لَهُ بَلْ يَكُونُ وُقُوعُهُ عَنْ رَمَضَانَ خَيْرًا لَهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُلْغًى وَلَا عَمَّا نَوَى مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ثُمَّ قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ [وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] وَمَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إضْمَارُ الْإِفْطَارِ فِيهِ وَأَنَّ تَقْدِيرَهُ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إذا أفطرا فيه فَثَبَتْ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ صَامَ مِنْ الْمُقِيمِينَ ولم يفطر فلا قضاء عليه إذا قد تضمنت الآية وأن صِيَامَ الْجَمِيعِ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ إلَّا مَنْ أَفْطَرَ مِنْ الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ
فَاقْتَضَى ظَاهِرُ ذَلِكَ جَوَازَهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَوْقَعَ صَوْمَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَمَّا كَانَ مُسْتَحِقَّ الْعَيْنِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَشْبَهَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَوْقَعَهُ أَجْزَأَ عَنْ الْفَرْضِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَمَّا نَوَاهُ فَلَوْلَا أنه قد أجرى(1/270)
عَنْ الْفَرْضِ لَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَهُ عَمَّا نَوَى كصيام سائر الأيام عَمَّا نَوَى فَإِنْ قِيلَ إنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ مُسْتَحَقَّةُ الْعَيْنِ لِهَذَا الْوَقْتِ إذَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ جَوَازَهَا بِنِيَّةِ النَّفْلِ قِيلَ لَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ غَيْرُ مُسْتَحَقِّ الْعَيْنِ لِفِعْلِهَا لِأَنَّهُ يَتَّسِعُ لِفِعْلِهَا وَلِغَيْرِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ فَإِذَا كَانَ فِعْلُ التَّطَوُّعِ فِي أَوَّلِهِ لَا يُجْزِي عَنْ الْفَرْضِ كَذَلِكَ فِي آخِرِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا نَوَى بِصَلَاتِهِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ تَطَوُّعًا أَوْ فَرْضًا غَيْرَهُ كَانَ كَمَا نَوَى وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ صَوْمَ عَيْنِ رَمَضَانَ لَا يُجْزِي عَنْ غَيْرِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْعَيْنِ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ صَوْمٍ آخَرَ فِيهِ وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ يَسْتَغْرِقُ الْفَرْضَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَلَا تَأْخِيرُهُ عَنْهُ وَالظُّهْرُ لَهَا وَقْتٌ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ كَانَ جَائِزًا له فعلها فيه فَإِنْ قِيلَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)
يَمْنَعُ جَوَازَ صَوْمِ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ قِيلَ لَهُ أَمَّا قَوْلُهُ صلّى الله عليه وسلم الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا مُحْتَمِلًا لَمَعَانٍ مِنْ جَوَازٍ وَفَضِيلَةٍ وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ وَمَتَى تَنَازَعْنَا فِيهِ اُحْتِيجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِهِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَإِنَّ خَصْمَنَا يُوَافِقُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَا نَوَى مِنْ تَطَوُّعٍ وَلَا فَرْضِ غَيْرِهِ لِأَنَّا نَقُولُ لَا يَكُونُ تَطَوُّعًا وَلَا فَرْضًا غَيْرُ رَمَضَانَ وَهُوَ يَقُولُ لَا يَكُونُ عَنْ رَمَضَانَ وَلَا عَمَّا نَوَى فَحَصَلَ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّ قَوْلَهُ وَلِكُلِّ امْرِئٍ ما نوى غير مستعمل على ظاهره في هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ كَانَ صَائِمًا وَمَنْ نَوَى الصَّلَاةَ كَانَ مُصَلِّيًا وَإِنْ لَمْ يَفْعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الصَّلَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ دُونَ فِعْلِهَا وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَسَائِرُ الْفُرُوضِ وَالطَّاعَاتِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ فَسَقَطَ احْتِجَاجُ الْمُخَالِفِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنًى مَحْذُوفٍ وَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِهِ وَمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ فَالِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ سَاقِطٌ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ
قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى
يَقْتَضِي جَوَازَ صَوْمِهِ إذَا نَوَاهُ تَطَوُّعًا فَإِذَا جَازَ صَوْمُهُ وَقَعَ عَنْ الْفَرْضِ لِاتِّفَاقِنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ عَنْ الْفَرْضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا نَوَى فَوَجَبَ بِقَضِيَّةِ قَوْلِهِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى إنْ يَحْصُلْ لَهُ مَا نَوَى وَإِلَّا فَقَدْ أَلْغَيْنَا حُكْمَ اللَّفْظِ رَأْسًا وَأَيْضًا مَعْلُومٌ مِنْ فَحْوَى قَوْلِهِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى مَا يَقْتَضِيهِ نِيَّتُهُ مِنْ ثَوَابِ فَرْضٍ أَوْ فَضِيلَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَيَسْتَحِقُّ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ(1/271)
يَكُونَ مُرَادُهُ وُقُوعَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ حَاصِلٌ مَوْجُودٌ مَعَ وُجُودِ النِّيَّةِ وَعَدَمِهَا وَالنِّيَّةُ هِيَ الَّتِي تُصَرِّفُ أَحْكَامَهُ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهَا وَمُوجِبِهَا مِنْ اسْتِحْقَاقِ ثَوَابِ الْفَرْضِ أَوْ الْفَضِيلَةِ أَوْ الْحَمْدِ أَوْ الذَّمِّ إنْ كَانَتْ النِّيَّةُ تَقْتَضِي حَمْدَهُ أَوْ ذَمَّهُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَخْلُو الْقَوْلُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ حُكْمِ اللَّفْظِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ أَوْ بُطْلَانِهِ وَوَجَبَ طَلَبُ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ أَنْ يُسْتَعْمَلَ حُكْمُهُ فِيمَا يَقْتَضِيهِ مَضْمُونُهُ مِنْ إفَادَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ حمد أو ذم فإذا وجب استعماله عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ تَوَجَّهَتْ نِيَّتُهُ إلَى ضَرْبٍ مِنْ الْقُرْبِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ ثُمَّ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ فِي ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ ثَوَابُهُ مِثْلَ ثَوَابِ نَاوِي الْفَرْضِ أَنْ يَكُونَ أُنْقَصَ مِنْهُ وَنُقْصَانُ الثَّوَابِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ عَنْ الْفَرْضِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ فَيُكْتَبُ لَهُ نِصْفُهَا رُبْعُهَا خُمْسُهَا عُشْرُهَا)
فَأَخْبَرَ بِنُقْصَانِ الثَّوَابِ مَعَ الْجَوَازِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ حُكْمِ اللَّفْظِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْ الْحَمْدِ وَالذَّمِّ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ)
وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَأَحْرَمَ يَنْوِي تَطَوُّعًا أَنَّهُ يَجْزِيهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَأَسْقَطَ نِيَّةَ التَّطَوُّع وَجَعَلَهَا لِلْفَرْضِ مَعَ قَوْلِهِ إنَّ فَرْضَ الْحَجِّ عَلَى الْمُهْلَةِ وَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقِّ الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ أَبْعَدُ فِي الْجَوَازَ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مُسْتَحَقُّ الْعَيْنِ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَلَا تَأْخِيرُهُ عَنْهُ فَتَرَكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَى أَصْلِهِ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى وَلَمْ يَلْجَأْ فِيهِ إلَى نَظَرٍ صَحِيحٍ يُعَضِّدُ مَقَالَتَهُ وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى أَصْلِهِمْ اعْتِبَارَ مَا يَدْعُونَهُ ظَاهِرًا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ وَأَمَّا عَلَى أَصْلِنَا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ سَاقِطٌ وَأَوْضَحْنَا عَنْ مَعْنَاهُ وَمُقْتَضَاهُ وَأَنَّهُ يُوجِبُ جَوَازَهُ عَنْ الْفَرْضِ فَسَلِمَ لَنَا مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْ الظَّوَاهِرِ وَالنَّظَرِ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ هَذَا الْأَثَرُ وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا صَامَ رَمَضَانَ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ فِعْلَ الصَّوْمِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ في هذه الْحَالِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ مَعَ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَيَّامِ غَيْرَ رَمَضَانَ فَلَمَّا كَانَ سَائِرُ الْأَيَّامِ جَائِزًا لِمَنْ صَامَهُ عَمَّا نَوَاهُ فَكَذَلِكَ حُكْمُ رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّهُ مَتَى نَوَاهُ تَطَوُّعًا أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ وَهِيَ أَقْيَسُ(1/272)
الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنْ قِيلِ عَلَى هَذَا يَلْزَمَهُ أَنْ يُجْزِيَ صَوْمُ الْمَرِيضِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ عَنْ غَيْرِ رَمَضَانَ بِأَنْ نَوَاهُ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فِي الْمُسَافِرِ قِيلَ لَهُ لَا يَلْزَمَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فِي الْمُسَافِرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَ الْقَوْلَ فِي الْمُسَافِرِ بِمَا وَصَفْنَاهُ وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصَّوْمِ وَتَرْكِهِ مِنْ غير ضرر يلحقه وأشبه ذلك حاله فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إلَّا مَعَ خَشْيَةِ زِيَادَةِ الْعِلَّةِ وَالضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِالصَّوْمِ فَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ لَا يَضُرَّ بِهِ الصَّوْمُ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ أَوْ أَنْ يَضُرَّهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الصَّوْمُ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِعْلُ الصَّوْمِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ أَوْ تَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ فَمَتَى صَامَهُ وَقَعَ عَنْ الْفَرْضِ إذْ كَانَتْ إبَاحَةُ الْإِفْطَارِ مُتَعَلِّقَةً بِخَشْيَةِ الضَّرَرِ فَمَتَى فَعَلَ الصَّوْمُ فَقَدْ زَالَ الْمَعْنَى وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فَأَجْزَى عَنْ صَوْمِ الشَّهْرِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَامَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابٌ فِي عِدَدِ قَضَاءِ رَمَضَانَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] فَذَكَر بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا إذَا صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وَفِي الْبَلَدِ رَجُلٌ مَرِيضٌ لَمْ يَصُمْ فَإِنَّهُ يَقْضِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَإِنْ صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وَصَامَ أَهْلُ بَلَدٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَنْ صَامَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَإِنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْضُوا يَوْمًا وَعَلَى الْمَرِيضِ الْمُفْطِرِ قَضَاءُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْضِي رَمَضَانَ بِالْأَهِلَّةِ وَذَكَرَ عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ مَرِضَ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ عَنْ غَيْرِ قَضَاءٍ أَنَّهُ يُطْعَمُ عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِيمَنْ مَرِضُ رَمَضَانَ وَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا إنَّهُ يَصُومُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إنْ مَرِضَ رَجُلٌ شَهْرَ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ ابْتَدَأَ شَهْرًا يَقْضِيهِ فَكَانَ هَذَا الشَّهْرُ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الَّذِي أَفْطَرَ وَإِنْ كَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّهُ جَزَاءُ شَهْرٍ بِشَهْرٍ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْقَضَاءِ عَلَى غَيْرِ اسْتِقْبَالِ شَهْرٍ أَتَمَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَإِنْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا إلَّا شَهْرًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ قَالَ أَبُو بكر أما إذَا كَانَ الشَّهْرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ أَرَادَ الْمَرِيضُ الْقَضَاءَ فَإِنَّهُ يَقْضِيهِ بِعَدَدِ أَيَّامِ شَهْرِ الصَّوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ سَوَاءٌ ابْتَدَأَ بِالْهِلَالِ أَوْ مِنْ بَعْضِ(1/273)
الشَّهْرِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ [فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] وَمَعْنَاهُ فَعَدَدٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يَدُلَّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ)
يَعْنِي الْعَدَدَ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْعَدَدِ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَمْ يَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي يَقْضِيهِ نَاقِصًا أَوْ تَامًّا فَإِنْ قِيلَ إنْ كَانَ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ شَهْرًا
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ)
فَأَيُّ شَهْرٍ أَتَى بِهِ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ شَهْرٌ بِشَهْرٍ قِيلَ لَهُ لَمْ يَقُلْ اللَّهُ تَعَالَى فَشَهْرٌ مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ وَإِنَّمَا قَالَ فَعِدَّةٌ مِنْ أيام أخر فَأَوْجَبَ اسْتِيفَاءُ عَدَدِ مَا أَفْطَرَ فَوَجَبَ اتِّبَاعُ ظَاهِرِ الْآيَةِ وَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى مَعْنًى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تعالى [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] يَعْنِي الْعَدَدَ فَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ ثَلَاثِينَ فَعَلَيْهِ إكْمَالُ عَدَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى شَهْرٍ هُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ لَمَا كَانَ مُكْمِلًا لِلْعِدَّةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ شَهْرَا بِشَهْرٍ وَأَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْعَدَدِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ إفْطَارَهُ بَعْضَ رَمَضَانَ يُوجِبُ قَضَاءَ مَا أَفْطَرَ بِعَدَدِهِ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ إفْطَارِ جَمِيعِهِ فِي اعْتِبَارِ عَدَدِهِ وَأَمَّا إذَا صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ لِلرُّؤْيَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَأَهْلُ مِصْرٍ آخَرَ لِلرُّؤْيَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَإِنَّمَا أَوْجَبَ أَصْحَابُنَا عَلَى الَّذِينَ صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا قَضَاءَ يَوْمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] فَأَوْجَبَ إكْمَالَ عِدَّةِ الشَّهْرِ وَقَدْ ثَبَتَ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدٍ أَنَّ الْعِدَّةَ ثَلَاثُونَ يَوْمَا فَوَجَب عَلَى هَؤُلَاءِ إكْمَالُهَا لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ وَيُحْتَجُّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] وَقَدْ أُرِيدَ بِشُهُودِ الشَّهْرِ الْعِلْمُ بِهِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ فَلَمَّا صَحَّ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الشَّهْرَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِينَ رَأَوْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ فِي أَوَّلِهِ قِيلَ لَهُ هُوَ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ فِي أَوَّلِهِ وَبَعْدَ انْقِضَائِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَعْلَمْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ بِمُضِيِّهِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرُ قَدْ تَنَاوَلَ الْجَمِيعَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ)
وَاَلَّذِينَ صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ قَدْ غُمَّ عَلَيْهِمْ رُؤْيَةُ أُولَئِكَ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّؤْيَةِ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعُدُّوا ثَلَاثِينَ فَإِنْ قِيلَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ
يُوجِبُ اعْتِبَارَ رُؤْيَةِ كُلِّ قَوْمٍ فِي بَلَدِهِمْ دُونَ اعْتِبَارِ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ فِي سَائِرِ البلدان(1/274)
وَكُلُّ قَوْمٍ رَأَوْا الْهِلَالَ فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ على رؤيتهم في الصيام والإفطار
بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِمْ وَأَنْ يُفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِمْ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ انْتِظَارُ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْآفَاقِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُخَاطَبٌ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ قِيلَ لَهُ مَعْلُومٌ أَنَّ
قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ
عَامٌّ فِي أَهْل سَائِرِ الْآفَاقِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِأَهْلِ بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِمْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ وَجَبَ اعْتِبَارُ رُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدٍ فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ وَجَبَ اعْتِبَارُ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ أَيْضًا فَإِذَا صَامُوا لِلرُّؤْيَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَقَدْ صَامَ غَيْرُهُمْ أَيْضًا لِلرُّؤْيَةِ ثَلَاثِينَ فَعَلَى هَؤُلَاءِ قَضَاءُ يَوْمٍ لِوُجُودِ الرُّؤْيَةِ مِنْهُمْ بِمَا يُوجِبُ صَوْمَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَأَمَّا الْمُحْتَجُّ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ مِنْ الْآفَاقِ اعْتِبَارُ رُؤْيَتِهِمْ دُونَ انْتِظَارِ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّمَا يُوجَبُ ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لَا تَكُونَ رُؤْيَةَ غَيْرِهِمْ مُخَالِفَةً لِرُؤْيَتِهِمْ فِي حُكْمِ الْعَدَدِ فَكُلِّفُوا فِي الْحَالِ مَا أَمْكَنَهُمْ اعْتِبَارُهُ وَلَمْ يُكَلَّفُوا مَا لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَيْهِ فِي مَعْرِفَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَمَتَى يَتَبَيَّنُ لَهُمْ غَيْرُهُ عَمِلُوا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ ضَبَابٌ وَشَهِدَ قَوْمٌ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْهُ قَبَل ذَلِكَ لَزِمَهُمْ الْعَمَلُ عَلَى مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ دُونَ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ يَحْتَجُّ بِهِ الْمُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ قال أخبرنى كريب أن أم الفضل بنت الحرث بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ قَالَ فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا فَاسْتَهَلَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْنَا الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَقُلْتُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ أَنْتَ رَأَيْتَهُ قُلْتُ نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُهُ حَتَّى نُكْمِلَ الثلاثين أو نراه فقلت أولا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ فَقَالَ لَا هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا لَا يَدُلَّ عَلَى مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكِ جَوَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ بِعَيْنِهَا فَأَجَابَ بِهِ وَإِنَّمَا قَالَ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَأَوَّلَ فِيهِ
قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ
عَلَى مَا قَالُوا بَلْ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا قُلْنَا ظَاهِرٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فَلَمْ يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِيمَا اخْتَلَفْنَا وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ما حدثنا(1/275)
مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي الْأَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ كَانَ بِمِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ فَصَامَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَشَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ قَالَ لَا يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَلَا أَهْلُ مِصْرِهِ إلَّا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ أَهْلَ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ قَدْ صَامُوا يَوْمَ الْأَحَدِ فَيَقْضُوهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُمْ صَامُوا لِرُؤْيَةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا وَمَسْأَلَتُنَا إنما هِيَ فِي أَهْلِ بَلَدَيْنِ صَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِرُؤْيَةٍ غَيْرِ رُؤْيَةِ الْآخَرِينَ وَقَدْ يَحْتَجُّ الْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ
بِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ فِي حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أبى هريرة ذكر النبي صلّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ قَالَ (وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَكُلُّ جَمْعٍ مَوْقِفٌ)
وَرَوَى أَبُو خَيْثَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَدَنِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ)
قَالُوا وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ كُلِّ قَوْمٍ يَوْمَ صَامُوا وَفِطْرُهُمْ يَوْمَ أَفْطَرُوا وَهَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا لَمْ يُتَبَيَّنْ غَيْرُهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ أَهْلَ بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِمْ فَإِنْ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ صَوْمُ مَنْ صَامَ الْأَقَلَّ فِيمَا لَزِمَهُمْ فَهُوَ مُوجِبٌ صَوْمَ مَنْ صَامَ الْأَكْثَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ صَوْمًا لِلْجَمِيعِ وَيَلْزَمُ مَنْ صَامَ الْأَقَلَّ قَضَاءُ يَوْمٍ وَقَدْ اُخْتُلِفَ مَعَ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ فَثَبَّتَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُثَبِّتْهُ الْآخَرُونَ وَقَدْ تُكُلِّمَ أَيْضًا فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ قَائِلُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَمِيعَ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى صَوْمِ يَوْمٍ فَهُوَ صَوْمُهُمْ وَإِذَا اخْتَلَفُوا احْتَاجُوا إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ صَوْمُكُمْ يَوْمَ يَصُومُ بعضكم وإنما قال يَوْمَ تَصُومُونَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي صَوْمَ الْجَمِيع وَقَالَ آخَرُونَ هَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِمَا عِنْدَهُ دُونَ مَا هُوَ عِنْدَ غَيْرِهِ فَمَنْ صَامَ يَوْمًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِمَّا عِنْدَ غَيْرِهِ شَيْءٌ لِأَنَّ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا كَلَّفَهُ بِمَا عِنْدَهُ لَا بِمَا عِنْدَ غَيْرِهِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُ الْمُغَيَّبَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْيُسْرَ الْإِفْطَارُ فِي السَّفَرِ وَالْعُسْرَ الصَّوْمُ فِيهِ وَفِي الْمَرَضِ وَيُحْتَمَلُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ لِمَنْ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَيُضِرُّهُ كَمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي ظُلِّلَ عَلَيْهِ فِي(1/276)
السَّفَرِ وَهُوَ صَائِمٌ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ
فَأَفَادَتْ الْآيَةُ أَنَّ اللَّه يُرِيدُ مِنْكُمْ مِنْ الصَّوْمِ مَا تَيَسَّرَ لَا مَا تَعَسَّرْ وَشَقَّ
لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَامَ فِي السَّفَرِ وَأَبَاحَ الصَّوْمَ فِيهِ لِمَنْ لَا يَضُرُّهُ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَّبِعًا لِأَمْرِ اللَّهِ عاملا بما يريده الله مِنْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ] غَيْرُ نَافٍ لِجَوَازِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ بَلْ هو دال على أنه إن كان يضره فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُرِيدٍ مِنْهُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَهُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ أَجْزَأَهُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ إثْبَاتُ الْعُسْرِ وَلِأَنَّ لَفْظَ الْيُسْرِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذَا كَانَ مُخَيَّرًا فِي فِعْلِ الصَّوْمِ وَتَرْكِهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ وَكُلَّ مَنْ خَشِيَ ضَرَرَ الصَّوْمِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى الصَّبِيِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ لِأَنَّ فِي احْتِمَالِ ضَرَرِ الصَّوْمِ وَمَشَقَّتِهِ ضَرْبًا مِنْ الْعُسْرِ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ إرَادَةَ الْعُسْرِ بِنَا وَهُوَ نَظِيرُ مَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي أَنَّ كُلَّ مَا يَضُرُّ بِالْإِنْسَانِ وَيُجْهِدُهُ وَيَجْلِبُ لَهُ مَرَضًا أَوْ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْيُسْرِ نَحْوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إلَى الْحَجِّ وَلَا يَجِدُ زَادًا وَرَاحِلَةً فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْيُسْرَ وَهُوَ دَالٌّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ إلَى الْقَابِلِ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْعُسْرِ وَنَفْيِ الْيُسْرِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْفُرُوضِ وَالنَّوَافِلِ إنَّمَا أُمِرَ بِفِعْلِهَا أَوْ أُبِيحَتْ لَهُ عَلَى شَرِيطَةِ نَفْيِ الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ رَمَضَانَ مُتَفَرِّقًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِيبَ قَوْلِهِ [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ] قَدْ اقْتَضَى تَخْيِيرَ الْعَبْدِ فِي الْقَضَاءِ وَالثَّانِي أَنَّ قَضَاءَهُ مُتَفَرِّقًا أَوْلَى بِمَعْنَى الْيُسْرِ وَأَبْعَدُ مِنْ الْعُسْرِ وَهُوَ يَنْفِي أَيْضًا إيجَابَ التَّتَابُعِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُسْرِ وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى الْفَوْرِ وَمَنْعِهِ التأخير لأنه بنفي مَعْنَى الْيُسْرِ وَيُثْبِتُ الْعُسْرَ وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ على بطلان قوله أَهْلِ الْجَبْرِ وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهُ يُكَلِّفُ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ لِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَبْدِ مَا لَا يُطِيقُ وَمَا لَيْسَ مَعَهُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْسَرِ الْعُسْرِ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ إرَادَةَ الْعُسْرِ لِعِبَادِهِ وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فِي الصَّوْمِ فَاعِلٌ لِمَا لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ مِنْهُ بِقَضِيَّةِ الْآيَةِ وَأَهْلُ الْجَبْرِ يَزْعُمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ من(1/277)
مَعْصِيَةٍ أَوْ كُفْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ مُرِيدُهُ مِنْهُ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ بِهَذَا مَا نَسَبُوهُ إلَيْهِ مِنْ إرَادَةِ الْمَعَاصِي وَيَدُلُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِمْ الْيُسْرَ لِيَحْمَدُوهُ وَيَشْكُرُوهُ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا لِيَسْتَحِقُّوا عِقَابَهُ لِأَنَّ مُرِيدَ ذَلِكَ غَيْرُ مُرِيدٍ لِلْيُسْرِ بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لِلْعُسْرِ وَلِمَا لَا يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ وَالْحَمْدَ عَلَيْهِ فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ وَأَنَّهُمْ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَلِيقُ بِهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ دَلَّ قَوْلُهُ [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا أَنَّهُ مَتَى غُمَّ عَلَيْنَا هِلَالُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَعَلَيْنَا إكْمَالُ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَيَّ شَهْرٍ كَانَ لِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا
فَقَالَ (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ)
فَجَعَلَ إكْمَالَ الْعِدَّةِ اعْتِبَارَ الثَّلَاثِينَ عِنْدَ خَفَاءِ الْهِلَالِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا لِإِخْبَارِهِ أَنَّ الْفَرْضَ فِيهِ إكْمَالُ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ مُتَفَرِّقًا كَانَ أَوْ مُتَتَابِعًا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ قَضَائِهِ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصِدُ إكْمَالَ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَامَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ فِعْلِهِ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى الْمُهْلَةِ مَعَ حُصُولِ إكْمَالِ الْعِدَّةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْقَضَاءِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنَّا إكْمَالُ العدة وقد وجد في إيجَابِ الْفِدْيَةِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ وَإِثْبَاتُ مَا لَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَقْصِدِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا بِالْهِلَالِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] وَذَلِكَ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الْعَدَدِ فَالْقَائِلُ بِجَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ إذَا صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وَأَهْلَ بَلَدٍ آخَرَ إذَا صَامُوا لِلرُّؤْيَةِ ثَلَاثِينَ أَنَّ عَلَى الَّذِينَ صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَنْ يَقْضُوا يَوْمًا لِقَوْلِهِ تعالى [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] وَقَدْ حَصَلَ عِدَّةُ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ لِأَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَعَلَى الْآخَرِينَ أَنْ يُكْمِلُوهَا كَمَا كَانَ عَلَى أُولَئِكَ إكْمَالُهَا إذْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ بَعْضًا مِنْ كُلٍّ وَأَمَّا قَوْلُهُ [وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ] فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حَقًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا نَظَرُوا إلَى هلال شوال أن يكبروا الله حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ عِيدِهِمْ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ]
وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ يَوْمَ الْفِطْرِ(1/278)
إذَا خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى وَإِذَا قَضَى الصَّلَاةَ قَطَعَ التَّكْبِيرَ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ وَالْقَاسِمِ وَخَارِجَةَ بْنِ زِيدَ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ يَوْمَ العيد إذا خرجوا إلى المصلى
وروى جيش بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ رَكِبَ بَغْلَتَهُ يَوْمَ الْأَضْحَى فَلَمْ يَزَلْ يُكَبِّرُ حَتَّى أَتَى الجبانة
وروى ابن أبى ذيب عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ أَقُودُ ابْنَ عَبَّاسٍ إلَى الْمُصَلَّى فَيَسْمَعُ النَّاسَ يُكَبِّرُونَ فَيَقُولُ مَا شَأْنُ النَّاسِ أَكَبَّرَ الْإِمَامُ فَأَقُولُ لَا فَيَقُولُ أَمَجَانِينُ النَّاسُ فَأَنْكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ التَّكْبِيرَ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ عِنْدَهُ التَّكْبِيرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَهُوَ التَّكْبِيرُ الَّذِي يُكَبِّرُهُ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يُكَبِّرَ النَّاسُ مَعَهُ وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا نَظَرُوا إلَى هِلَالِ شَوَّالٍ أَنْ يُكَبِّرُوا حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ عِيدِهِمْ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَهْرِ بِهِ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَكْبِيرَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقَدَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى يَجِيءَ الْمُصَلَّى وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بن أسلم أنه تأول عَلَى تَكْبِيرِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَاخْتَلَفْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ فَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ يُكَبِّرُ الَّذِي يَذْهَبُ إلَى الْعِيدِ يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يُكَبِّرُ يَوْمَ الْفِطَرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُكَبِّرُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُوَقَّتٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ] وَقَالَ عَمْرٌو سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ فَقَالَ نَعَمْ يُكَبِّرُ وَهُوَ قَوْلُنَا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي الْعِيدَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الطَّرِيقِ وَلَا فِي الْمُصَلَّى وَإِنَّمَا التَّكْبِيرُ الْوَاجِبُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ ابْنَ أَبِي عِمْرَانَ كَانَ يَحْكِي عَنْ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَهُمْ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ أَنْ يُكَبِّرُوا فِي الطَّرِيقِ إلَى الْمُصَلَّى حَتَّى يَأْتُوهُ وَلَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ مَا حَكَاهُ الْمُعَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ يُكَبِّرُ فِي خُرُوجِهِ إلَى الْمُصَلَّى فِي الْعِيدَيْنِ جَمِيعًا قَالَ مَالِكٌ وَيُكَبِّرُ فِي الْمُصَلَّى إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ قَطَعَ التَّكْبِيرَ وَلَا يُكَبِّرُ إذَا رَجَعَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أُحِبُّ إظْهَارَ التَّكْبِيرِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ وليلة النحر وإذا غدوا إلَى الْمُصَلَّى حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ وَقَالَ فِي موضع آخر حتى يفتح الْإِمَامُ الصَّلَاةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ تَكْبِيرُ اللَّهِ هُوَ تَعْظِيمُهُ وَذَلِكَ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ عَقْدُ الضَّمِيرِ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ فَعَقْدُ الضَّمِيرِ هُوَ اعْتِقَادُ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدْلِهِ وَصِحَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَزَوَالِ الشُّكُوكِ وَأَمَّا الْقَوْلُ فَالْإِقْرَارُ بِصِفَّاتِهِ الْعُلَى وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَسَائِرِ(1/279)
مَا مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَمَّا الْعَمَلُ فَعِبَادَتُهُ بما يعد به مِنْ الْأَعْمَالِ بِالْجَوَارِحِ كَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْمَفْرُوضَاتِ وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ إلَّا بَعْدَ تَقْدِمَةِ الِاعْتِقَادِ لَهُ بِالْقَلْبِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَا وَأَنْ يَتَحَرَّى بِجَمِيعِ ذَلِكَ مُوَافَقَةَ أَمْرِ اللَّهِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ [وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً] فَشَرَطَ بَدِيًّا تَحَرِّي مُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ بِذِكْرِهِ إرَادَةَ الْآخِرَةِ وَلَمْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَهُوَ السَّعْيُ وَعَقَدَ ذَلِكَ كُلَّهُ بشريطة الإيمان بقوله [وَهُوَ مُؤْمِنٌ] ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ الْوَعْدِ لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنْ يُوَفِّقَنَا إلَى مَا يُؤَدِّينَا إلَى مَرْضَاتِهِ وَإِذَا كَانَ تَكْبِيرُ اللَّهِ تَعَالَى يَنْقَسِمُ إلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا وَقَدْ عَلِمْنَا لَا مَحَالَةَ أَنَّ اعْتِقَادَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْقُرَبِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّاعَاتِ دُونَ غَيْرِهَا وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ سَائِرَ الْمَفْرُوضَاتِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِأَسْبَابٍ أُخَرَ غَيْرِ مَبْنِيَّةٍ عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ ثَبَتَ أَنَّ التَّعْظِيمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِإِكْمَالِ عِدَّةِ رَمَضَانَ وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِهِ إظْهَارُ لَفْظِ التَّكْبِيرِ ثُمَّ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَكْبِيرًا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا تَأَوَّلَهُ كثير من السلف على أنه تكبير الْمَفْعُولُ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدُ بِهِ تَكْبِيرَاتِ صَلَاةِ الْعِيدِ كُلُّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ فَأَيَّهَا فَعَلَ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ وَفَعْلَ مُقْتَضَاهَا وَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَى وُجُوبِهِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى [وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ] لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَتَنَاوَلَ ذلك النفل ألا ترى أنا نكبر لله أَوْ نُعَظِّمُهُ بِمَا نُظْهِرُهُ مِنْ التَّكْبِيرِ نَفْلًا وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إظْهَارَ التَّكْبِيرِ ليس بواجب ومن كبر فإنما فعله استحبابا وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَتَى فَعْلَ أَدْنَى مَا يُسَمَّى تَكْبِيرًا فَقَدْ وَافَقَ مُقْتَضَى الْآيَةِ إلَّا أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ السَّلَفِ
مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّابِعِينَ فِي تَكْبِيرِهِمْ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادُ الْآيَةِ فَالْأَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ لَا حَتْمًا وَاجِبًا وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ هُوَ أَوْلَى بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَائِرِ أَصْحَابِنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيّ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا وَعَنْ السَّلَفِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ إذْ كَانَتْ تَقْتَضِي تَحْدِيدَ تَكْبِيرٍ عِنْدَ إكْمَالِ الْعِدَّةِ وَالْفِطْرَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْأَضْحَى وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مَسْنُونًا في الأضحى فالفطر كذلك لأن(1/280)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
صلاتي العيد لَا تَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ التَّكْبِيرِ فِيهِمَا وَالْخُطْبَةِ بَعْدَهُمَا وَسَائِرِ سُنَنِهِمَا فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ سُنَّةُ التَّكْبِيرِ فِي الْخُرُوجِ إلَيْهِمَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَادَ مِنْ المكلفين إكمال العدة واليسر وليكبروه ويحمده وَيَشْكُرُوهُ عَلَى نِعْمَتِهِ وَهِدَايَتِهِ لَهُمْ إلَى هَذِهِ الطَّاعَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ فَقَدْ أَرَادَ مِنْ الْجَمِيعِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ وَفِعْلَ الشُّكْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْصِيهِ وَلَا يَشْكُرُهُ فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَعْصِيَهُ وَلَا أَنْ يَتْرُكَ فُرُوضَهُ وَأَوَامِرَهُ بَلْ أَرَادَ مِنْ الْجَمِيعِ أن يطيعوه ويشكروه مع مَا دَلَّتْ الْعُقُولُ عَلَيْهِ بِأَنَّ فَاعِلَ مَا أُرِيدَ مِنْهُ مُطِيعٌ لِلْمُرِيدِ مُتَّبِعٌ لِأَمْرِهِ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِلْمَعَاصِي لَكَانَ الْعُصَاةُ مُطِيعِينَ لَهُ فَدَلَالَةُ الْعُقُولِ مُوَافِقَةٌ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ والله سبحانه وتعالى الموافق لِلصَّوَابِ.
بَابُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ- إلَى قَوْلِهِ- ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَرْضِ الْأَوَّلِ مِنْ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] وأنه كان صومه ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْعَتَمَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ إلَى الْقَابِلَةِ رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّوْمِ الْأَوَّلِ وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى الْعَتَمَةَ وَرَقَدَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ وَرَوَى الضَّحَّاكُ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِينِ يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ وَعَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النَّوْمِ وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى نَامَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا فَأَجْهَدَهُ الصَّوْمُ وَجَاءَ عُمَرُ وَقَدْ أَصَابَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا نَامَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ] وَنَسَخَ بِهِ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ النوم
والرفث للذكور هُوَ الْجِمَاعُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعَلَمِ فِيهِ وَاسْمُ الرَّفَثِ يَقَعُ عَلَى الْجِمَاعِ وَعَلَى الْكَلَامِ الْفَاحِشِ وَيُكَنَّى بِهِ عَنْ الْجِمَاعِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ [فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ] إنَّهُ مُرَاجَعَةُ النِّسَاءِ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ. قَالَ الْعَجَّاجُ:
عَنْ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ(1/281)
فَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِمَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الْجِمَاعُ نَفْسُهُ لِأَنَّ رَفَثَ الْكَلَامَ غَيْرُ مُبَاحٍ وَمُرَاجَعَةُ النِّسَاءِ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ لَيْسَ لَهَا حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ لَا فِيمَا سَلَفَ وَلَا فِي الْمُسْتَأْنَفِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِمَاعِ فَأُبِيحَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنُسِخَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَظْرِ وقَوْله تَعَالَى [هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ] بِمَعْنَى هُنَّ كَاللِّبَاسِ لَكُمْ فِي إبَاحَةِ الْمُبَاشَرَةِ وَمُلَابَسَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:
إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهُ ... تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاسَا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِاللِّبَاسِ السِّتْرُ لِأَنَّ اللِّبَاسَ هُوَ مَا يَسْتُرُ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى اللَّيْلَ لِبَاسَا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ كُلَّ شَيْءٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ بِظَلَامِهِ فَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى ذَلِكَ فَالْمُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَتَرَ صَاحِبَهُ عَنْ التَّخَطِّي إلَى مَا يَهْتِكُهُ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَفِّفًا بِالْآخَرِ مُسْتَتِرَا بِهِ وقَوْله تَعَالَى [عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ] ذِكْرٌ لِلْحَالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْهَا الْخِطَابُ وَاعْتِدَادٌ بِالنِّعْمَةِ عَلَيْنَا بِالتَّخْفِيفِ بِإِبَاحَةِ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ وَاسْتِدْعَاءٌ لِشُكْرِهِ عَلَيْهَا وَمَعْنَى قوله [تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ] أَيْ يَسْتَأْثِرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ مِنْ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي ليالي الصوم كقوله [تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ] يَعْنِي يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ كُلَّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ بِأَنَّهُ يَخُونُهَا وَسَمَّاهُ خَائِنًا لِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ ضَرَرُهُ عَائِدًا عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْمُسْتَأْثِرِ لَهُ فَهُوَ يُعَامِلُ نَفْسَهُ بِعَمَلِ الْخَائِنِ لَهَا وَالْخِيَانَةُ هِيَ انْتِقَاصُ الْحَقِّ على جهة المساترة قوله تعالى [فَتابَ عَلَيْكُمْ] يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا قَبُولُ التَّوْبَةِ مِنْ خِيَانَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْآخَرُ التَّخْفِيفُ عَنْكُمْ بِالرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى [عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ خَفَّفَ عَنْكُمْ وَكَمَا قَالَ عَقِيبَ ذِكْرِ حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَإِ [فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ] يَعْنِي تَخْفِيفَهُ. لِأَنَّ قَاتِلَ الْخَطَأ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا تَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ مِنْهُ وقَوْله تَعَالَى [وَعَفا عَنْكُمْ] يَحْتَمِلُ أَيْضًا الْعَفْوَ عَنْ الذَّنْبِ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ بِخِيَانَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ لَمَّا أَحْدَثُوا التَّوْبَةَ مِنْهُ عَفَا عَنْهُمْ فِي الْخِيَانَةِ وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا التَّوْسِعَةُ وَالتَّسْهِيلُ بِإِبَاحَةِ مَا أَبَاحَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَفْوَ يُعَبَّرُ بِهِ فِي اللُّغَةِ عَنْ التَّسْهِيلِ
كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ)
يَعْنِي تسهيله وتوسعته وقوله تعالى [فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ] إبَاحَةٌ لِلْجِمَاعِ الْمَحْظُورِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي ليالي الصوم والمباشرة هي إلصاق البشر بِالْبَشَرَةِ وَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ(1/282)
كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمُ هِيَ الْمُوَاقَعَةُ وَالْجِمَاعُ وَقَالَ فِي الْمُبَاشَرَةِ مَرَةً هِيَ إلْصَاقُ الْجِلْدِ بِالْجِلْدِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْمُبَاشَرَةِ النِّكَاحُ وَقَالَ مُجَاهِدً الْجِمَاعُ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ عز وجل [وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] وقوله [وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ] قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الْوَلَدُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَكَمِ مِثْلُهُ وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْتَغُوا مَا كتب الله لكم قَالَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ [وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ] قَالَ الرُّخْصَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ [فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ] الْجِمَاعَ فَقَوْلُهُ [وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ] لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْجِمَاعِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْرَارِ الْمَعْنَى فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ وَنَحْنُ مَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالَ كُلِّ لَفْظِ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى فَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ أَفَادَ قَوْلُهُ [فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ] إبَاحَةَ الْجِمَاعِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ [وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ] عَلَى غَيْرِ الْجِمَاعِ ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ الْوَلَدَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ أَوْ الرُّخْصَةَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَلَوْلَا احْتِمَالُهُ لَهَا لَمَا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْجَمِيعِ وَعَلَى أَنَّ الْكُلَّ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُنْتَظِمًا لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ وَلِاتِّبَاعِ رُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِطَلَبِ الْوَلَدِ فَيَكُونُ الْعَبْدُ مَأْجُورًا عَلَى مَا يَقْصِدَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِطَلَبِ الْوَلَدِ عَلَى مَعْنَى مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
وَكَمَا سَأَلَ زَكَرِيَّا رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا بِقَوْلِهِ [فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ] وقوله [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا] إطْلَاقٌ مِنْ حَظْرٍ كَقَوْلِهِ [فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ] وقوله [وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا] وَنَظَائِرَ ذَلِكَ مِنْ الْإِبَاحَةِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ فَيَكُونُ حُكْمُ اللَّفْظِ مَقْصُورًا عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ وَلَا النَّدْبِ وَأَمَّا قَوْلُهُ [حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ] قَالَ أَبُو بَكْرِ قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إبَاحَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ رُوِيَ أَنَّ رِجَالًا مِنْهُمْ حَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى حَقِيقَةِ الْخَيَطِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وَتَبَيُّنِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ مِنْهُمْ
عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ حَدَّثَنَا(1/283)
محمد بن بكر قال أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شيبة قال حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيس الْمَعْنِيُّ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ [حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ] قَالَ أَخَذْتُ عِقَالًا أَبْيَضَ وَعِقَالًا أَسْوَدَ فَوَضَعْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَتَبَيَّنْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ فَقَالَ (إنَّ وِسَادَكَ إذًا لَعَرِيضٌ طَوِيلٌ إنَّمَا هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ)
قَالَ عُثْمَانُ إنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْيَمَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ قَالَ أَخْبَرْنَا أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ] ولم ينزل [مِنَ الْفَجْرِ] قَالَ فَكَانَ رِجَالٌ إذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أحدهم في رجليه الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ فَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَا لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذلك [مِنَ الْفَجْرِ] فَعَلِمُوا أَنَّهُ إنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إذَا كَانَ قَوْلُهُ [مِنَ الْفَجْرِ] مُبَيَّنًا فِيهِ فَلَا إلْبَاسَ عَلَى أَحَدٍ فِي أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ حَقِيقَةُ الْخَيْطِ لِقَوْلِهِ [مِنَ الْفَجْرِ] وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى عَدِيٍّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى حَقِيقَتِهِ قَبْلَ نزول قوله [مِنَ الْفَجْرِ] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَيْطَ اسْمٌ لِلْخَيْطِ الْمَعْرُوفِ حَقِيقَةً وَهُوَ مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ وَبَيَاضِ النَّهَارِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ كَانَ شَائِعًا فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ وَمَنْ خُوطِبُوا بِهِ مِمَّنْ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَأَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا عَرَفُوا هَذِهِ اللُّغَةَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الْعَرَبِ تَعْرِفُ سَائِرَ لُغَاتِهَا وَجَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا عَرَفُوا ذَلِكَ اسْمًا لِلْخَيْطِ حَقِيقَةً وَلِبَيَاضِ النَّهَارِ وَسَوَادِ اللَّيْلِ مَجَازًا وَلَكِنَّهُمْ حَمَلُوا اللَّفْظَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُمْ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْد ذَلِكَ [مِنَ الْفَجْرِ] فَزَالَ الِاحْتِمَالُ وَصَارَ الْمَفْهُومُ مِنْ اللَّفْظِ سَوَادَ اللَّيْلِ وَبَيَاضَ النَّهَارِ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ اسْمًا لِسَوَادِ اللَّيْلِ وَبَيَاضَ النَّهَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَشْهُورًا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَالَ أَبُو دَاوُد الْإِيَادِيُّ:
وَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا ظُلْمَةٌ ... وَلَاحَ مِنْ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا
وَقَالَ آخَرُ فِي الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ:
قَدْ كَادَ يَبْدُو أَوْ بَدَتْ تُبَاشِرُهُ ... وَسِدْفُ الْخَيْطِ الْبَهِيمِ سَاتِرُهُ(1/284)
فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِي اللِّسَانِ قَبَلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِهِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ هُوَ الصُّبْحُ وَالْخَيْطُ الْأَسْوَدُ اللَّيْلُ قَالَ وَالْخَيْطُ هُوَ اللَّوْنُ فَإِنْ قِيلِ كَيْفَ شَبَّهَ اللَّيْلَ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الصُّبْحَ إنَّمَا شُبِّهَ بِالْخَيْطِ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيلٌ أَوْ مُسْتَعْرِضٌ فِي الْأُفُقِ فَأَمَّا اللَّيْلُ فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَيْطِ تَشَابُهٌ وَلَا مُشَاكَلَةٌ قِيلَ لَهُ إنَّ الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ هُوَ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْمَوْضِعِ قَبْلَ ظُهُورِ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ فِيهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مُسَاوٍ لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الَّذِي يَظْهَرُ بَعْدَهُ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الْخَيْطُ الْأَسْوَدُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْدِيدِ الْوَقْتِ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ عَلَى الصَّائِمِ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَادَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (لا يمنعكم مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الَّذِي هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِيرَ)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ حَدَّثَنَا مُلَازِمُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُلُوا واشربوا ولا يهدينكم السَّاطِعُ الْمُصْعِدُ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمْ الْأَحْمَرُ)
فَذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ الْأَحْمَرَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْفَجْرَ الْأَبْيَضَ الْمُعْتَرِضَ فِي الْأُفُقِ قَبْلَ ظُهُورِ الْحُمْرَةِ يَحْرُمُ بِهِ الطعام والشراب على الصائم
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ (إنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ)
وَلَمْ يَذْكُرْ الْحُمْرَةَ فَإِنْ قِيلَ
قَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ نَهَارًا إلَّا أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ
قِيلَ لَهُ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ] فَأَوْجَبَ الصَّوْمَ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِظُهُورِ الْخَيْطِ الَّذِي هُوَ بَيَاضُ الْفَجْرِ وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ إنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ مُبِيحًا لِمَا حَظَرَتْهُ الْآيَةُ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ
فَكَيْفَ يَجُوزُ الْأَكْلُ نَهَارًا فِي الصَّوْمِ مَعَ تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ لَمْ يُوجِبْ جَوَازَ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْزُ الْأَكْلَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ أَكَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَوْنُهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْتِ الْأَكْلِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ على علم(1/285)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مِنْهُ وإقراره عليه ولو ثبت أنه صلّى الله عليه وسلم عَلِمَ بِذَلِكَ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ قُرْبَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَسَمَّاهُ نَهَارًا لِقُرْبِهِ مِنْهُ كَمَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو داود قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ سَيْفٍ عن الحرث بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي رُهْمٍ عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى السَّحُورِ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ هَلُمَّ إلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ
فَسَمَّى السَّحُورَ غَدَاءً لِقُرْبِهِ مِنْ الْغَدَاءِ كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ سَمَّى الْوَقْتَ الَّذِي تَسَحَّرَ فِيهِ نَهَارًا لِقُرْبِهِ مِنْ النَّهَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَقَدْ وَضَحَ بِمَا تَلَوْنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَتَوْقِيفِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الصَّوْمِ هُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ الثَّانِي الْمُعْتَرِضِ فِي الْأُفُقِ وَأَنَّ الْفَجْرَ الْمُسْتَطِيلَ إلَى وَسَطِ السَّمَاءِ هُوَ مِنْ اللَّيْلِ وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ ذَنَبَ السِّرْحَانِ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ الشَّاكِّ فِي الْفَجْرِ فَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ يَدَعُ الرَّجُلُ السَّحُورُ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ أَحَبُّ إلَيَّ فَإِنْ تَسَحَّرَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ وَهُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فِي الْأَصْلِ وَقَالَ إنْ أَكَلَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ قَضَى يَوْمًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي الشَّكِّ قَضَاءٌ وَقَالَ الحسن ابن زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَسْتَبِينُ الْفَجْرَ وَيَرَى مَطْلَعَهُ مِنْ حيث يطلع وليس هُنَاكَ عِلَّةٌ فَلْيَأْكُلْ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ الْفَجْرُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ] قال وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُرَى فِيهِ الْفَجْرُ أَوْ كَانَتْ مُقْمِرَةً وَهُوَ يَشُكُّ فِي الْفَجْرِ فَلَا يَأْكُلُ وَإِنْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ إن أَكَلَ وَالْفَجْرُ طَالِعٌ قَضَى وَإِلَّا لَمْ يَقْضِ وَسَوَاءٌ كَانَ فِي سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبِهِ نَأْخُذُ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْهُمْ فِي الشَّكِّ فِي غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ وَرِوَايَةُ الْإِمْلَاءِ فِي كَرَاهِيَتِهِمْ الْأَكْلَ عِنْدَ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ مَحْمُولَيْنِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ لِأَنَّهُ فَسَّرَ مَا أَجْمَلُوهُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ وَلِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَعَثَ رَجُلَيْنِ لِيَنْظُرَا لَهُ طُلُوعَ الْفَجْرِ فِي الصَّوْمِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا قَدْ طَلَعَ وَقَالَ الْآخَرُ لَمْ يَطْلُعْ فَقَالَ اخْتَلَفْتُمَا فَأَكَلَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَذَلِكَ فِي حَالٍ أَمْكَنَ فِيهَا الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ وَقَالَ تَعَالَى [حَتَّى يَتَبَيَّنَ(1/286)
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ]
فَأَبَاحَ الْأَكْلَ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ وَالتَّبَيُّنُ إنَّمَا هُوَ حُصُولُ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا أُمِرُوا بِهِ فِي حَالٍ يُمْكِنُهُمْ فِيهَا الْوُصُولُ إلَى الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ بِطُلُوعِهِ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ لَيْلَةً مُقْمِرَةً أَوْ لَيْلَةَ غَيْمٍ أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يُشَاهِدُ مَطْلِعَ الْفَجْرِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَاطِ لِلصَّوْمِ إذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْعِلْمِ بِحَالِ الطُّلُوعِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ لِمَا
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ السَّلُولِيُّ قَالَ سَمِعْتَ أَبَا الْجَوْزَاءِ السَّعْدِيَّ قَالَ قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ مَا تَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ يَقُولُ (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ وَلَا أَسْمَعُ أَحَدًا بَعْدَهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ وَسَأَضْرِبُ فِي ذَلِكَ مَثَلًا إنَّ اللَّهَ حَمَى حِمًى وَإِنَّ حِمَى الله ما حرم وأنه من يرع حَوَلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَهُ وَإِنَّهُ مَنْ يُخَالِطُ الرِّيبَةَ يُوشِكُ أَنْ يَجْسُرَ)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو داود قال حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيّ قَالَ أَخْبَرَنَا عِيسَى قَالَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ (وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ عِرْضَهُ وَدِينَهُ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ)
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَمْنَعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ الْمُبَاحِ أَوْ الْمَحْظُورِ فوجب استعمالهما فَمَنْ شَكَّ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى تَبَيُّنِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي أَوَّلِ مَا يَطْلُعُ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَبْرِئًا لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ مُجْتَنِبًا لِلرِّيبَةِ غَيْرَ مُوَاقِعٍ لِحِمَى اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَعْمَلْنَا قَوْلَهُ [حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ] فِيمَنْ يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ طُلُوعِهِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ فَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَحِجَاجُهُ فِيمَا ذَكَرْنَا وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ وَإِنْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يَتَسَحَّرُ الرَّجُلُ مَا شَكَّ حَتَّى يَرَى الْفَجْرَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ إنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ يَأْكُلُ شَاكًّا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ مِنْهُ بِحَالِ إمْكَانِ التَّبَيُّنِ فِي حَالِ طُلُوعِهِ أَوْ تَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ إغْفَالٌ مِنْهُ لِأَنَّ ضَرِيرًا لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُعَرِّفُهُ طُلُوعَ الْفَجْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ بِالشَّكِّ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصْبَحَ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ(1/287)
في بيت مظلم لا يأمن من طُلُوعَ الْفَجْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ بِالشَّكِّ فَإِنْ أَجَازَ هَذَا وَأَلْغَى الشَّكَّ لَزِمَهُ إلْغَاءُ الشَّكِّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَالْإِقْدَامُ عَلَى كُلِّ مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ محظورا من وطئ أَوْ غَيْرِهِ وَفِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مِنْ اجْتِنَابِ الشُّبُهَاتِ وَتَرْكِ الرَّيْبِ إلَى الْيَقِينِ وَمُخَالَفَةِ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ غير جائز له الإقدام على وطئ امْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا وَهُوَ شَاكٌّ فِي أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا ثَلَاثًا وَنَسِيَهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وطئ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ الْمُطَلَّقَةَ وَأَمَّا الْقَوْلُ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَإِنَّهُ لَا يُبِيحُ لَهُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ بِالشَّكِّ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ مِنْ الْفَرْضِ فَلَا جَائِزٌ إلْزَامُهُ بِالشَّكِّ وَاَلَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ الْحِكَمِ مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ- إلَى قَوْلِهِ- مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ] نَسْخُ تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ أَوْ بَعْدَ النَّوْمِ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ الْحَظْرَ الْمُتَقَدِّمَ إنَّمَا كَانَ ثُبُوتُهُ بِالسُّنَّةِ لَا بِالْقُرْآنِ ثُمَّ نُسِخَ بِالْإِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبَاحَةِ الْجِمَاعِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُجَامِعَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ إذَا صَادَفَ فَرَاغَهُ مِنْ الْجِمَاعِ طُلُوعُ الْفَجْرِ يُصْبِحُ جُنُبًا ثُمَّ حَكَمَ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّةِ صَوْمِهِ بِقَوْلِهِ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] وَفِيهَا حَثٌّ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ [وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ] مَعَ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ وَاحْتِمَالِ الْآيَةِ لَهُ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ تَأَوَّلَهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَوْلَا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَهُ لَمَا جَازَ أن يتأوله عَلَيْهِ وَفِيهَا النَّدْبُ إلَى التَّرَخُّصِ بِرُخْصَةِ اللَّهِ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ آخِرَ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ- إلى قوله- حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ] فَثَبَتَ أَنَّ اللَّيْلَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَنَّ مَا بَعْدَ طُلُوعِهِ فَهُوَ مِنْ النَّهَارِ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الِاسْتِبَانَةُ وَالْيَقِينُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَنَّ الشَّكَّ لَا يَحْظُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ الِاسْتِبَانَةِ مَعَ الشَّكِّ وَهَذَا فِيمَنْ يَصِلُ إلَى الِاسْتِبَانَةِ وَقْتَ طُلُوعِهِ وَأَمَّا مَنْ لَا يَصِلُ إلَى ذَلِكَ لِسَاتِرٍ أَوْ ضَعْفِ بَصَرِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْخِطَابِ لِمَا بَيَّنَّا آنِفًا قَبْلَ(1/288)
هَذَا الْفَصْلِ وَوُرُودُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِيجَابَ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ لَفْظِ الْإِطْلَاقِ إذَا كَانَ وُرُودُهُ بَعْدَ الْحَظْرِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِهِ فِي قَوْلِهِ [وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا] وَقَوْلِهِ [فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ] وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَنْدُوبًا وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى جِهَةِ السَّحُورِ
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (تَسَحَّرُوا فَإِنَّ في السَّحُورَ بَرَكَةٌ)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (إنَّ فَصْلًا بَيْنَ صِيَامِكُمْ وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحُورِ)
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الزِّئْبَقِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (نِعْمَ غَدَاءُ الْمُؤْمِنِ السَّحُورُ وَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ)
فَنَدْبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى السحور وليس يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ] فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ أَكَلَةُ السَّحُورِ فَيَكُونَ مَنْدُوبًا إلَيْهَا بِالْآيَةِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ لَا مَحَالَةَ الرُّخْصَةَ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ لَا عَلَى وَجْهِ السَّحُورِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِمَ لَفْظٌ وَاحِدٌ نَدْبًا وَإِبَاحَةً قِيلَ لَهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَيْهِ بِظَاهِرِ السُّنَّةِ فَأَمَّا ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَهُوَ إطْلَاقُ إبَاحَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ لَا تَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ الْمُقَدَّرِ بِهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ [حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ] وَحَالُ التَّبَيُّنِ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ فِيهَا وَلَا مُرَادَةٌ بِهَا ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] فَجَعَلَ اللَّيْلَ غَايَةَ الصِّيَامِ وَلَمْ تَدْخُلْ فِيهِ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ [وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا] وَالْغَايَةُ مُرَادَةٌ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَهَا وَكَذَلِكَ قوله تعالى [وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ- وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] قَدْ دَخَلْتَ الْغَايَةُ فِي الْمُرَادِ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ تَدْخُلُ فِي حَالٍ وَلَا تَدْخُلُ فِي أُخْرَى وَأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ فِي إسْقَاطِ حُكْمِهَا أَوْ إثْبَاتِهِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] فَإِنَّ عَطْفَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ إباحة الجماع(1/289)
وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرَ إبَاحَتَهَا لَيْلًا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي بَعْضُهَا إمْسَاكٌ وَبَعْضُهَا شَرْطٌ لِكَوْنِ الْإِمْسَاكِ صَوْمًا شَرْعِيًّا وَفِي قَوْلِهِ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] دلالة على أن من حصل مفطرا بغير عُذْرٍ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْأَكْلُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ لِأَنَّ هَذَا الْإِمْسَاكَ ضَرْبٌ مِنْ الصيام
وقد روى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ (مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ)
فَسَمَّى الْإِمْسَاكَ بَعْدَ الْأَكْلِ صَوْمًا فَإِنْ قِيلَ إذا لم يكن صَوْمًا شَرْعِيًّا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ لِأَنَّ قَوْله تعالى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] الْمُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لَا الصَّوْمُ اللُّغَوِيُّ قِيلَ لَهُ هَذَا عِنْدَنَا صَوْمٌ شَرْعِيٌّ قَدْ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ إيجَابِهِ الْقَضَاءَ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمًا مَنْدُوبًا إلَيْهِ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ عَلَيْهِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أصبح في رمضان غيرنا وللصوم أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَيَجْزِيهِ مِنْ فَرْضِهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ مَا يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاعٍ فَإِنْ قِيلَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ الْأَمْرَ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ وَالْإِتْمَامُ يُطْلَقُ فِيمَا قَدْ صَحَّ الدُّخُولُ فِيهِ وَهُوَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ حَتَّى يَلْحَقَهُ الْخِطَابُ بِالْإِتْمَامِ قِيلَ لَهُ لَمَّا أَصْبَحَ مُمْسِكًا عَمَّا يَجِبُ عَلَى الصَّائِمِ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّوْمِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الْإِمْسَاكَ قَدْ يَكُونُ صَوْمًا شَرْعِيًّا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ قَضَاءُ فَرْضٍ وَلَا تَطَوُّعٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صَوْمٌ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ اتِّفَاقُ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ مُمْسِكًا عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِيَّةَ التَّطَوُّعِ وَيَجْزِيهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَا مَضَى صَوْمًا يَتَعَلَّق بِهِ حُكْمُ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ لَمَا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ الصَّوْمِ بِإِيجَادِ النِّيَّةِ بَعْدَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْوِيَ صِيَامًا تَطَوُّعًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا صِحَّةُ دَلَالَةِ قَوْلِهِ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] عَلَى جَوَازِ نِيَّةِ صِيَامِ رَمَضَانَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بَابُ لُزُومِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِالدُّخُولِ فِيهِ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ لَزِمَهُ إتْمَامُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ] عَامٌّ فِي سَائِرِ اللَّيَالِي الَّتِي يُرِيدُ النَّاسُ الصَّوْمَ فِي صَبِيحَتِهَا وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى لَيَالِي صِيَامِ رَمَضَانَ دُونَ(1/290)
غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِلَا دَلَالَةٍ وَلَمَّا كَانَ حُكْمُ اللَّفْظِ مُسْتَعْمَلًا فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي لَيَالِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ثَبَتَ أَنَّهَا مُرَادَةٌ بِاللَّفْظِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ( [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] اقْتَضَى ذَلِكَ لُزُومَ إتْمَامِ الصَّوْمِ الَّذِي صَحَّ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ تَطَوُّعًا كَانَ ذَلِكَ الصَّوْمُ أو فرضا وأمر اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوُجُوبِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ أَوْ الْفَرْضِ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَإِذَا لَزِمَ الْمُضِيُّ فِيهِ وَإِتْمَامُهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَقَدْ صَحَّ عَلَيْهِ وُجُوبُهُ وَمَتَى أَفْسَدَهُ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ قِيلَ لَهُ نُزُولُ الْآيَةِ عَلَى سَبَبٍ لَا يَمْنَعُ عِنْدَنَا اعْتِبَارَ عُمُومِ اللَّفْظِ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا لِلَّفْظِ لَا لِلسَّبَبِ وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى السَّبَبِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِي الَّذِينَ اخْتَانُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهُمْ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى السَّبَبِ وَأَنَّهُ عَامٌّ فِي سَائِرِ الصِّيَامِ كَهُوَ فِي سَائِر النَّاسِ فِي صَوْمِ رمضان فصح بِمَا وَصَفْنَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] عَلَى لُزُومِ الصَّوْمِ بِالدُّخُولِ فِيهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ مَنْ دَخَلَ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ أَوْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَأَفْسَدَهُ أَوْ عَرَضَ لَهُ فِيهِ مَا يُفْسِدُهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ إذَا أَفْسَدَهُ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إذَا دَخَلَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ وَقَالَ مَالِكٌ إنْ أَفْسَدَهُ هو فعليه القضاء ولو طرئ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ مِنْهُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وقال الشافعى رحمه الله إن أفسد ما دخل فيه تطوعا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِنَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا بشر بن موسى قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ صُمْتُ يَوْمًا فَأُجْهِدْتُ فَأَفْطَرْتُ فسألت ابن عباس وابن عمر فأمر انى أَنْ أَصُومَ يَوْمًا مَكَانَهُ وَرَوَى طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إذَا أَحْرَمَ بِهِمَا تَطَوُّعًا ثُمَّ أَفْسَدَهُمَا أن عليه قضاؤهما وَإِنْ أُحْصِرَ فِيهِمَا فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ أَيْضًا فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَنْ تَابَعَهُمْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] يُوجِبُ الْقَضَاءَ سَوَاءٌ خَرَجَ مِنْهُ بِعُذْرٍ أَوْ بغير(1/291)
عُذْرٍ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ الْإِيجَابَ بِالدُّخُولِ وَإِذَا وَجَبَ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ خُرُوجُهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَسَائِرِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا كَالنُّذُورِ وَنَظِيرُ هذه الآية في إيجاب القرب فالدخول فيها قوله [وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها] وَالِابْتِدَاعُ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ ثُمَّ ذَمَّ تَارِكِي رِعَايَتِهَا بَعْدَ الِابْتِدَاعِ فَدَلَّ ذلك على أن من يبتدع قُرْبَةً بِالدُّخُولِ فِيهَا أَوْ بِإِيجَابِهَا بِالْقَوْلِ أَنَّ عَلَيْهِ إتْمَامَهَا لِأَنَّهُ مَتَى قَطَعَهَا قَبْلَ إتْمَامِهَا فَلَمْ يَرْعَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وَالذَّمُّ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لُزُومَهَا بِالدُّخُولِ كَهُوَ بِالنَّذْرِ وَالْإِيجَابِ بِالْقَوْلِ وَيُحْتَجُّ فِي مِثْلِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ [وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً] جعله الله مثلا لمن عهد الله عَهْدًا أَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَفِ به ويقضه هو عُمُومٌ فِي كُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي قُرْبَةٍ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْ نَقْضِهَا قَبْلَ إتْمَامِهَا لِأَنَّهُ مَتَى نَقَضَهَا فَقَدْ أَفْسَدَ مَا مَضَى مِنْهَا بَعْدَ تَضَمُّنِ تَصْحِيحِهَا بِالدُّخُولِ فِيهَا وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ نَاقِضَةِ غَزْلِهَا بَعْدَ فَتْلِهَا بِقُوَاهَا وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ مَنْ ابْتَدَأَ فِي حَقِّ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا بَدِيًّا فَعَلَيْهِ إتْمَامُهُ وَالْوَفَاءُ بِهِ لِئَلَّا يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ نَاقِضَةِ غَزْلِهَا فَإِنْ قيل إنما نزلت هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ وَالْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا لِأَنَّهُ
قَالَ تَعَالَى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ [وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ] قِيلَ لَهُ نُزُولُهَا عَلَى سَبَبٍ لَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ عُمُوم لَفْظِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى [وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ] وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَقَلَّ مَا يَصِحُّ فِي الْفَرْضِ مِنْ الصَّوْمِ يَوْمٌ كَامِلٌ وَفِي الصَّلَاةِ ركعتان ولا تصح النوافل وتكون قُرْبَةً إلَّا حَسْبَ مَوْضُوعِهَا فِي الْفُرُوضِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِيفَاءِ شُرُوطِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ النَّفْلِ مِثْلُ صَوْمِ الْفَرْضِ فِي لُزُومِ الْإِمْسَاكِ عَنْ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ تَحْتَاجُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالطَّهَارَةِ وَالسِّتْرِ إلَى مِثْلِ مَا شُرِطَ فِي الْفُرُوضِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ الْفَرْضِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا صَوْمُ بَعْضِ يَوْمٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ النَّفْلِ فَمَتَى دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ فَقَدْ أَبْطَلَهُ وَأَبْطَلَ ثَوَابَ مَا فَعَلَهُ مِنْهُ وقَوْله تَعَالَى [وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ] يَمْنَعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ لِنَهْيِ اللَّهِ تعالى إياه عن إبطاله وإذا لزمه إتْمَامَهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إذَا خَرَجَ منه قبل إتمامها مَعْذُورًا كَانَ فِي خُرُوجِهِ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ(1/292)
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نَهَى عَنْ الْبُتَيْرَاءِ
وَهُوَ أَنْ يُوتِرَ الرَّجُلُ بركعة فاقتضى هذا اللفظ إيجاب إتمامه وَإِذَا وَجَبَ إتْمَامُهَا فَقَدْ لَزِمَتْهُ فَمَتَى أَفْسَدَهَا أَوْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا كسائر الواجبات ويدل عليه
حديث الحجاج ابن عمرو الأنصاري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال (من كسر أو عرج فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ)
قَالَ عِكْرِمَةُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَا صَدَقَ فَصَارَتْ رُوَاتُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا إلْزَامُهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَالثَّانِي أَنَّهُ وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ فَإِنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ ابْنِ الْهَادِ عَنْ زُمَيْلٍ مَوْلَى عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أُهْدِيَ لِي وَلِحَفْصَةَ طَعَامٌ وَكُنَّا صَائِمَتَيْنِ فَأَفْطَرْنَا ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ فَاشْتَهَيْنَاهَا فَأَفْطَرْنَا فَقَالَ (لَا عَلَيْكُمَا صُومَا مَكَانَهُ يَوْمًا آخَرَ)
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ فِي التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُمَا عَنْ جِهَةِ صَوْمِهِمَا
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ أَصْبَحْتُ أَنَا وحفصة صائمتين متطوعين فَأُهْدِيَ لَنَا طَعَامٌ فَأَفْطَرْنَا فَسَأَلَتْ حَفْصَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ)
قَالَ عَبْدُ الْبَاقِي وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَسِيدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ الْأَكْبَرُ قَالَ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ جُمَيْلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ
قَالَ عَبْدُ الْبَاقِي وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ وَذَكَرَ نَحْوَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اقضيا مكانه يوما)
وأصحاب حديث يَتَكَلَّمُونَ فِي إسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَشْيَاءَ يَطْعَنُونَ بِهَا فِيهِ أَحَدُهَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بن مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ سَمِعْتَ سُفْيَانَ يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَقِيلَ لِلزُّهْرِيِّ هُوَ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ لَيْسَ هُوَ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ وَأَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ لَوْ كَانَ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ مَا نَسِيتُهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ الزُّهْرِيُّ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عُرْوَةَ وَسَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ عُرْوَةَ وَأَكْثَرُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا عَنْ(1/293)
عُرْوَةَ وَإِرْسَالُهُ لَا يُفْسِدُهُ عِنْدَنَا وَأَمَّا قَوْلُ مَعْمَرٍ لَوْ كَانَ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ مَا نَسِيتُهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ النِّسْيَانَ جَائِزٌ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ كَجَوَازِهِ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ وَأَكْثَرُ أَحْوَالِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْمَرٌ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرُ مَعْمَرٌ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَرَوَاهُ عَنْهُ فَلَا يُفْسِدُهُ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْمَرٌ قَدْ رَوَاهُ عَنْهُ وَقَدْ رَوَاهُ زُمَيْلٌ مَوْلَى عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ وَيَطْعَنُونَ فِيهِ أَيْضًا بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِلزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَسَمِعْتَهُ مِنْ عروة قال إنما أخبرنى بِهِ رَجُلٌ بِبَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَرُوِيَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ وَكَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ بِهِ الْحَالُ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُفْسِدُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ وَمَا يَعْتَرِضُ بِهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنْ مِثْلِ هَذَا لَا يُفْسِدُ الْحَدِيثَ وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ عِنْدَهُمْ
وَقَدْ رَوَى أَيْضًا خُصَيْفٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ فَأُهْدِيَ لهما طَعَامٌ فَأَفْطَرَتَا فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ فَأُهْدِيَ لَهُمَا طَعَامٌ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا تَأْكُلَانِ فَقَالَ (أَلَمْ تُصْبِحَا صَائِمَتَيْنِ قَالَتَا بَلَى قَالَ اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ وَلَا تَعُودَا)
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَصْبَحْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ إلَيْنَا طَعَامٌ فَأَعْجَبَنَا فَأَفْطَرْنَا فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَرَتْنِي حفصة فسألته وهي ابنة أبيها فقال صلّى الله عليه وسلم (صُومَا يَوْمًا مَكَانَهُ)
وَرَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَذَكَرَ نَحْوَهَا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ تَطَوُّعًا فَهَذِهِ آثَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ قَدْ رُوِيَتْ من طرق في بعضها أنها أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا لَمْ يَذْكُرْ التَّطَوُّعَ وَفِي كُلِّهَا الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ ذَرَعَهُ قَيْءٌ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَإِنْ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ)
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ على الصائم المتطوع إذا استقاء عمدا لأنه صلّى الله عليه وسلم لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُتَنَفِّلِ وَبَيْنَ مَنْ يَصُومُ فرضا(1/294)
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ بِصَدَقَةٍ تَطَوُّعًا إذَا قَبَضَهَا مَنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ فِيهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْقُرْبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِهَا فَكَذَلِكَ الدَّاخِلُ فِي صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ تَطَوُّعًا غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا قَبْلَ إتْمَامِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ الْمَقْبُوضَةِ فَإِنْ قِيلَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ لِأَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ بَاقِي أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ تَسْلِيمِ الصَّدَقَةِ قِيلَ لَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا كَذَلِكَ لَكَانَ كَمَا ذَكَرْتَ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ إبْطَالُ مَا تَقَدَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إلَى ذَلِكَ وَمَتَى فَعَلَهُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُ بَعْضِ النَّهَارِ دُونَ بَعْضٍ وَأَنَّ مَنْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَا يَصِحُّ لَهُ صَوْمُ بَقِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ صَامَ أَوَّلَهُ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي بَاقِيهِ فَقَدْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ حُكْمِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ رَأْسًا وَأَبْطَلَ بِهِ حُكْمَ مَا فَعَلَهُ كَالرَّاجِعِ فِي الصَّدَقَةِ الْمَقْبُوضَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَجَعَ فِي صَدَقَةٍ مَقْبُوضَةٍ لَزِمَهُ رَدُّهَا إلَى الْمُتَصَدِّقِ بِهَا عَلَيْهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ تَطَوُّعًا مَتَى أَفْسَدَهُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَكَانَ الدُّخُولُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ بِالْقَوْلِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ فَسَادَهُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْقُرَبِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إذْ هُوَ يَخْرُجُ مِنْهُمَا بِالْإِفْسَادِ قِيلَ لَهُ هَذَا الْفَرْقُ لَا يَمْنَعُ تَسَاوِيَهُمَا فِي جِهَةِ الْإِيجَابِ بِالدُّخُولِ وَلَا يَخْلُو هَذَا الْمُحْرِمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ بِالدُّخُولِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ إتْمَامُهُ أَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ لَزِمَهُ إتْمَامُهُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ سَوَاءً أُحْصِرَ أَوْ أَفْسَدَهُ بِفِعْلِهِ لِأَنَّ مَا قَدْ وَجَبَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي وُقُوعِ الْفَسَادِ فِيهِ بِفِعْلِهِ أَوْ غَيْر فِعْلِهِ مِثْلُ النَّذْرِ وَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَمَتَى اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَفْسَدَهُ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذَا أُحْصِرَ وَتَعَذَّرَ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ وَعَلَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ قَضَتْ بِبُطْلَانِ قَوْلِ الْخَصْمِ وَهُوَ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ
فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ مَعَ وُقُوعِ الْمَنْعِ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْقُرَبِ الَّتِي شَرْطُ صِحَّتِهَا إتْمَامُهَا وَكَانَ بَعْضُهَا مَنُوطًا بِبَعْضٍ وَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي وُجُوبِ قَضَائِهِ حُكْمُ خُرُوجِهِ مِنْهَا بِفِعْلِهِ أَوْ غَيْرِ فِعْلِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ
بِحَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ حِينَ نَاوَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤْرَهُ فَشَرِبَتْهُ ثُمَّ قَالَتْ إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً وَكَرِهْتُ أن أرد سؤرك فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إنْ كَانَ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَاقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتِ(1/295)
فَاقْضِي وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِي)
وَهَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبُ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ جَمِيعًا فَأَمَّا اضْطِرَابُ سَنَدِهِ فَإِنَّ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ يَرْوِيهِ مَرَّةً عَمَّنْ سمع أم هانئ ومرة يقول هارون بن أُمِّ هَانِئٍ أَوْ ابْنُ ابْنَةِ أُمِّ هَانِئٍ وَمَرَّةً يَرْوِيهِ عَنْ ابْنَيْ أُمِّ هَانِئٍ وَمَرَّةً عَنْ ابْنِ أُمِّ هَانِئٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَهْلُنَا وَمِثْلُ هَذَا الِاضْطِرَابِ فِي الْإِسْنَادِ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ ضَبْطِ رُوَاتِهِ وَأَمَّا اضْطِرَابُ الْمَتْنِ فَمِنْ قِبَلِ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عبد الله بن الحرث عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَجَلَسَتْ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمُّ هَانِئٍ عَنْ يَمِينِهِ قَالَ فَجَاءَتْ الْوَلِيدَةُ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَنَاوَلَتْهُ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ أُمَّ هَانِئٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْطَرْتُ وَكُنْتُ صَائِمَةً فَقَالَ (لَهَا أَكُنْتِ تَقْضِينَ شَيْئًا قَالَتْ لَا قَالَ فَلَا يَضُرُّكِ إنْ كَانَ تَطَوُّعًا)
فَذَكَر فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ لَا يَضُرُّكِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَفْيٌ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ لِأَنَّا كَذَلِكَ نَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَضُرَّهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا الْإِفْطَارُ أَوْ عَلِمَتْ ذَلِكَ وَرَأَتْ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّرْبِ وَالْإِفْطَارَ أَوْلَى مِنْ الْمُضِيِّ فِيهِ
وحدثنا عبد الله بن جعفر ابن أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْدَةُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ ابْنُ أُمِّ هَانِئٍ وَكَانَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ يُحَدِّثُهُ يَقُولُ أَخْبَرَنِي ابْنَا أُمِّ هَانِئٍ قَالَ شُعْبَةُ فَلَقِيتُ أَنَا أَفْضَلَهُمَا جَعْدَةَ فَحَدَّثَنِي عَنْ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَنَاوَلَتْهُ شَرَابًا فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِينُ نَفْسِهِ أَوْ أَمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ)
فَقُلْتُ لِجَعْدَةَ سَمِعْتَهُ أَنْتَ مِنْ أُمِّ هَانِئٍ فَقَالَ أَخْبَرَنِي أَهْلُنَا وَأَبُو صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ وَرَوَاهُ سِمَاكٌ عَمَّنْ سَمِعَ أَمَّ هَانِئٍ وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْمُتَطَوِّعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ)
وَرَوَى سِمَاكٌ عَنْ هَارُونَ ابْنِ أُمِّ هَانِئٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ وَقَالَ فِيهِ (إنْ كَانَ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَصُومِي يَوْمًا مَكَانَهُ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتِ فَصُومِي وَإِنْ شِئْتِ فَأَفْطِرِي)
وَلَمْ يُذْكَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ نَفْيُ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ الصَّائِمَ بِالْخِيَارِ وَأَنَّهُ أَمِينُ نَفْسِهِ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي التَّطَوُّعِ وَلَمْ يَقُلْ لَا قَضَاءَ عَلَيْكِ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي مَتْنِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ وَلَوْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يَنْفِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ أَكْثَرَ ما فيها إباحة الإفطار وإباحة الإفطار(1/296)
لا تَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ وَقَوْلُهُ الصَّائِمُ أَمِينُ نَفْسِهِ وَالصَّائِمُ بِالْخِيَارِ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَنْ أَصْبَحَ مُمْسِكًا عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِلصَّوْمِ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أن ينوى صوم التطوع أو يفطر والمسك عما يمسك عنه الصائم يمسي صائما كما
قال صلّى الله عليه وسلم يَوْمُ عَاشُورَاءَ (مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ)
وَمُرَادُهُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ كَذَلِكَ
قَوْلُهُ (الصَّائِم بِالْخِيَارِ وَالصَّائِمُ أَمِينُ نَفْسِهِ)
هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَإِنْ وُجِدَ فِي بَعْضِ ألفاظ هذا الحديث فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِي وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِي فَإِنَّمَا هُوَ تَأْوِيلٌ مِنْ الرَّاوِي لِقَوْلِهِ لَا يَضُرُّكِ وَإِنْ شِئْتِ فَأَفْطِرِي وَالصَّائِمُ بِالْخِيَارِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ نَفْيُ الْقَضَاءِ بِمَا ذَكَرْتُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيُ إيجَابِ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ مَعَ صِحَّةِ السَّنَدِ وَاتِّسَاقِ الْمَتْنِ لَكَانَتْ الْأَخْبَارُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَضَاءِ أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ مَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا مُبِيحٌ وَالْآخَرُ حَاظِرٌ كَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ وَخَبَرُنَا حَاظِرٌ لِتَرْكِ الْقَضَاءِ وَخَبَرُهُمْ مُبِيحٌ فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْخَبَرَ النَّافِيَ لِلْقَضَاءِ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ وَالْخَبَرَ الْمُوجِبَ لَهُ نَاقِلٌ عَنْهُ وَالْخَبَرَ النَّاقِلَ أَوْلَى لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى وَارِدٌ بَعْدَهُ كَأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ تَارِيخُهُ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْعِقَابُ وَفِعْلَ الْمُبَاحِ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْعِقَابُ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ خَبَرِ الْوُجُوبِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ النَّفْيِ وَمِمَّا يُعَارِضُ خَبَرَ أُمِّ هَانِئٍ فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أبو داود قال حدثنا عبد الله ابن سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ) قَالَ أَبُو دَاوُد رَوَاهُ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ
أَيْضًا
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أبى الزناد عن الأعراج عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ)
فَهَذَانِ خَبَرَانِ يَحْظُرَانِ عَلَى الصَّائِمِ الْإِفْطَارَ مِنْ غَيْرِ عُذْرِ وَلَمْ يُفَرِّقْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّائِمِ تَطَوُّعًا أَوْ مِنْ فَرْضٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ وَالصَّلَاةُ تُنَافِي الْإِفْطَارَ وَفَرَّقَ أَيْضًا بَيْنَ الْمُفْطِرِ وَالصَّائِمِ فَلَوْ جَازَ لِلصَّائِمِ الْإِفْطَارُ لَقَالَ فَلْيَأْكُلْ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا أَرَادَ بِالصَّلَاةِ الدُّعَاءَ وَالدُّعَاءُ لَا يُنَافِي الْأَكْلَ قِيلَ لَهُ بَلْ هُوَ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهِيَ الَّتِي بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَصَرْفُهُ إلَى الدُّعَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الدُّعَاءَ(1/297)
لَكَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ حِينَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُفْطِرِ وَالصَّائِمِ بِمَا ذَكَرْنَا
وقوله صلّى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْم يَمْنَعُهُ مِنْ الْأَكْلِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ كَالسَّلَامِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ فَلَمَّا مَنَعَهُ الْإِجَابَةَ وَقَالَ فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَظْرِ الْإِفْطَارِ فِي سَائِرِ الصِّيَامِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَجَابِرٍ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بِالْإِفْطَارِ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ بَأْسًا وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ انْصَرَفَ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَلَّيْتَ رَكْعَةً وَاحِدَةً فَقَالَ هُوَ التَّطَوُّعُ فَمَنْ شَاءَ زَادَ وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ قِيلَ لَهُ قَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ إيجَابَ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَجَابِرٍ فَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا فِيهِ إبَاحَةُ الْإِفْطَارِ وَحَدِيثُ عُمَرَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ يَظُنُّ أَنَّهَا عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَكُونُ تَطَوُّعًا وَجَائِزٌ أَنْ يَقْطَعَهَا وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ فإن قيل قوله تعالى [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى رَكْعَةٍ قِيلَ له إنما ذلك تخيير فِي الْقِرَاءَةِ لَا فِي رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ وَالتَّخْيِيرُ فِيهَا لَا يُوجِبُ تَخْيِيرًا فِي سَائِرِ أَرْكَانِهَا فلا دلالة في ذلك حُكْمِ الرَّكَعَاتِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ الْبَدَلُ إذَا اسْتَهْلَكَهَا فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْقُرَبِ وَمِنْ دَلَالَاتِ قَوْله تَعَالَى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] عَلَى الْأَحْكَامِ أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ مُقِيمًا صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ سَافَرَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ وَبَيْنَ مَنْ أَقَامَ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ عَلَيْهِ لَيْلًا أَوْ أَكَلَ قبل قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ لقوله [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] وَهَذَا لَمْ يُتِمَّ الصِّيَامَ لِأَنَّ الصِّيَامَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَهُوَ لَمْ يُمْسِكْ فَلَيْسَ هُوَ إذًا صَائِمٌ وَقَدْ اخْتَلَفَ السلف في ذلك فقال مجاهد وجابر ابن زَيْدٍ وَالْحَكَمُ إنَّ صَوْمَهُ تَامٌّ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ هَذَا فِي الْمُتَسَحِّرِ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ عَلَيْهِ لَيْلًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَوْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ فَأَفْطَرَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَغِبْ كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَسَحِّرِ وَبَيْنَ مَنْ أَكَلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى ظَنٍّ مِنْهُ ثُمَّ عَلِمَ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ [حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ] فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فَالْأَكْلُ(1/298)
لَهُ مُبَاحٌ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا أَكَلَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ وَأَمَّا الَّذِي أَفْطَرَ عَلَى ظَنٍّ مِنْهُ بِغَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ فَقَدْ كَانَ صَوْمُهُ يَقِينًا فَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُ الْإِفْطَارُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ غُرُوبُ الشَّمْس وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَصْحَابُنَا جَمِيعًا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ يَقْضِي فِي الْحَالَيْنِ إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ يَمْضِي فِيهِ وَفِي الْفَرْضِ يَقْضِي وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّ عُمَرَ أَفْطَرَ هُوَ وَالنَّاسُ فِي يَوْمِ غَيْمٍ ثُمَّ طلعت الشمس فقال لا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ وَاَللَّهِ لَا نَقْضِيهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الْخَطْبُ يَسِيرٌ نَقْضِي يَوْمًا وَظَاهِرُ قوله [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] يَقْضِي بِبُطْلَانِ صِيَامِهِ إذْ لَمْ يُتْمِمْهُ وَلَمْ تُفَصِّلْ الْآيَةُ بَيْنَ مَنْ أَكَلَ جَاهِلًا بِالْوَقْتِ أَوْ عَالِمًا بِهِ فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ] فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ فَالْأَكْلُ لَهُ مُبَاحٌ قِيلَ لَهُ لَا يَخْلُو هَذَا الْأَكْلُ مِنْ أَحَدِ حَالَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أَمْكَنَهُ اسْتِبَانَةُ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْوُصُولُ إلَى عِلْمِهِ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ بِأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَائِلٌ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ لَمْ يَسْتَبِنْ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ تَفْرِيطِهِ فِي تَأَمُّلِهِ وَتَرْكِ مُرَاعَاتِهِ ومن كانت هذه حاله فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ فَإِذَا أَكَلَ فَقَدْ فَعَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ إذْ قَدْ كَانَ فِي وُسْعِهِ وَإِمْكَانِهِ الْوُصُولُ إلَى الْيَقِينِ وَالِاسْتِبَانَةُ فَفَرَّطَ فِيهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ وَتَفْرِيطُهُ غَيْرُ مُسْقِطٍ عَنْهُ فَرْضَ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْآكِلُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْفَجْرَ بِصِفَتِهِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَائِلٌ أَوْ قَمَرٌ
أَوْ ضَعْفُ بَصَرٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ عَلَى الظَّنِّ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصِيرَ إلَى الْيَقِينِ وَلَا يَأْكُلَ وَهُوَ شَاكٌّ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَضَاءُ بِتَرْكِهِ الِاحْتِيَاطَ لِلصَّوْمِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَكَلَ عَلَى ظَنٍّ مِنْهُ بِغَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ فَهُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بِمُقْتَضَى ظَاهِرِ قوله [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] فَإِنْ قِيلَ لَمْ يُكَلَّفْ تَبَيُّنَ الْفَجْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا كُلِّفَ مَا عِنْدَهُ قِيلَ لَهُ إذَا أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ فَعَلَيْهِ مُرَاعَاتُهُ فَمَتَى لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَائِلٌ اسْتَحَالَ أَنْ لَا يَعْلَمَهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إنْ غَفَلَ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ فِي حَالِ غَفْلَتِهِ فَإِنَّ إبَاحَةَ الْأَكْلِ غَيْرُ مُسْقِطَةٍ لِلْقَضَاءِ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَهُمَا أَصْلٌ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا مَعْذُورَانِ وَاَلَّذِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ أَوْ ظَنَّهُ قَدْ طلع معذور في الأكل والعذر لا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ بِدَلَالَةِ مَا وَصَفْنَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَوْ غُمَّ عَلَيْهِمْ الْهِلَالُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَأَفْطَرُوا ثُمَّ عَلِمُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ(1/299)
مِنْ رَمَضَانَ كَانَ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ فَكَذَلِكَ مَنْ وَصَفْنَا أَمْرَهُ وَكَذَلِكَ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى مَضَى ثُمَّ عَلِمَ بِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فِي حَالِ الْإِفْطَارِ إلَّا عِلْمَهُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ جَهْلُهُ بِالْوَقْتِ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ وَغُرُوبُ الشمس فإن قيل هلا كان بمنزلة التأسي فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فِي حَالِ الْأَكْلِ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ قِيلَ لَهُ هَذَا اعْتِلَالٌ فَاسِدٌ لِوُجُودِهِ فِيمَنْ غُمَّ عَلَيْهِ هِلَالُ رَمَضَانَ مَعَ إيجَابِ الْجَمِيعِ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ مَتَى عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالشَّهْرِ حتى مضى عليه القضاء عند الجميع من جَهْلِهِ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي الآكل ناسيا القياس أن يجب القضاء عليه وإنما تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ وَلَوْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَة يَنْفِي صِحَّةَ صَوْمِ النَّاسِي لِأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ الصَّوْمَ رَأْسًا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَكُنْ نِسْيَانُهُ مُسْقِطًا الْقَضَاءَ عَنْهُ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أبو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمَعْنَى قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ أَفْطَرْنَا يَوْمًا فِي رَمَضَانَ فِي غَيْمٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَالَ أَبُو أُسَامَةَ قُلْتُ لِهِشَامٍ أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ قَالَ وَبُدٌّ مِنْ ذَلِكَ وقوله [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] يُوجِبُ أَيْضًا إبْطَالَ صَوْمِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْأَكْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا وَكَذَلِكَ إبْطَالُ صَوْمِ مَنْ جُنَّ فَأَكَلَ فِي حَالِ جُنُونِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِصِحَّةِ الصَّوْمِ لِمَنْ أَتَمَّهُ إلَى اللَّيْلِ فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُ فِعْلٌ يَحْظُرُهُ الصَّوْمُ فَهُوَ غَيْرُ مُتِمٍّ لِصَوْمِهِ إلَى اللَّيْلِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَأَمَّا الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ الصَّوْمِ وَيَجِبُ بِهِ الْإِفْطَارُ هُوَ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إذَا جَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هاهنا وذهب النهار من هاهنا وَغَابَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قد أقبل من هاهنا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ)
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إذا سقط القرص(1/300)
أفطر)
ولا خلاف في أنه إذا غابت الشمس فقد انقضى وقت الصوم وجاز للصائم الأكل والشرب والجماع وسائر ما حظره عليه الصوم
وقوله صلّى الله عليه وسلم (إذا غابت الشمس فقد أفطر الصائم)
يوجب أن يكون مفطرا بغروب الشمس أكل أو لم يأكل لأن الصوم لا يكون بالليل ولذلك نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوصال لأنه يترك الطعام والشراب وهو مفطر والوصال أن يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل شيئا ولا يشرب فإن أكل أو شرب في أى وقت كان شيئا قليلا فقد خرج من الوصال
وقد روى ابن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْوِصَالِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ تُوَاصِلُ فَقَالَ (إنَّكُمْ لَسْتُمْ كَهَيْئَتِي إنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِي فَأَيُّكُمْ وَاصَلَ فَمِنْ السَّحَرِ إلَى السَّحَرِ)
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ سحرا فهو غير مواصل وأخبر صلّى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يُوَاصِلُ لِأَنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيه
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قِيلَ لَهُ إنَّك تُوَاصِلَ فَقَالَ (إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي)
ومن الناس مَنْ يَقُولَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِإِبَاحَةِ الْوِصَالِ دُونَ أُمَّتِهِ وَقَدْ أخبر صلّى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهُ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يُوَاصِلْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بَابُ الِاعْتِكَافِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] وَمَعْنَى الِاعْتِكَافِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ اللَّبْثُ قَالَ اللَّهُ [مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ] وقال تعالى [فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ] وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ:
فَبَاتَتْ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِي عُكَّفًا ... عُكُوفَ الْبَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ
ثُمَّ نُقِلَ فِي الشَّرْعِ إلَى مَعَانٍ أُخَرَ مَعَ اللَّبْثِ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُهَا فِي اللُّغَةِ مِنْهَا الْكَوْنُ فِي الْمَسْجِدِ وَمِنْهَا الصَّوْمُ وَمِنْهَا تَرْكُ الْجِمَاعِ رَأْسًا وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَكُونُ مُعْتَكِفًا إلَّا بِوُجُودِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْنَا فِي الصَّوْمِ إنَّهُ اسْمٌ لِلْإِمْسَاكِ فِي اللُّغَةِ ثُمَّ زِيدَ فِيهِ مَعَانٍ أُخَرُ لَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ صَوْمًا شَرْعِيًّا إلَّا بِوُجُودِهَا وَأَمَّا شَرْطُ اللَّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً دُونَ النِّسَاءِ وَأَمَّا شَرْطُ كَوْنِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الِاعْتِكَافِ فَالْأَصْلُ فِيهِ قوله عز وجل [وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] فَجَعَلَ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ الْكَوْنَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يَجُوزُ الاعتكاف فيه(1/301)
عَلَى أَنْحَاءٍ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَأَيْتُ نَاسًا عُكُوفًا بَيْنَ دَارِكَ وَدَارِ الْأَشْعَرِيِّ لَا تُعِيرُ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنْ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةَ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْتَ وَحَفِظُوا وَنَسِيتَ وَرَوَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ نَبِيٍّ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ حُذَيْفَةَ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ هِيَ مَسَاجِدُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَقَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ مَا
رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عن الحرث عَنْ عَلِيٍّ قَالَ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي المسجد الحرام أو مسجد النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ جَمِيعِ السَّلَفِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الاعتكاف الكون في المسجد على اختلاف منها فِي عُمُومِ الْمَسَاجِدِ وَخُصُوصِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا وَلَمْ يَخْتَلِفْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي جَوَازِ الِاعْتِكَافِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجَمَاعَاتُ إلَّا شَيْءٌ يُحْكَى عَنْ مَالِكٍ ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ لَا يَعْتَكِفُ أَحَدٌ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْ فِي رِحَابَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَظَاهِرُ قوله [وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] يُبِيحُ الِاعْتِكَافَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ ومن اقتصر بِهِ عَلَى بَعْضِهَا فَعَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ وَتَخْصِيصُهُ بِمَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ مَنْ خَصَّهُ بِمَسَاجِدِ الْأَنْبِيَاءِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ فَإِنْ قِيلَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَسْجِدِي هَذَا)
يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ وَكَذَلِكَ
قوله صلّى الله عليه وسلم (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)
يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ بِالْفَضِيلَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا قِيلَ لَهُ لَعَمْرِي إنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَخْصِيصِهِ الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ فِي حَالٍ وَالْمَسْجِدَيْنِ فِي حَالٍ دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيلِهِمَا عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَكَذَلِكَ نقول كما قال صلّى الله عليه وسلم إلَّا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ جَوَازِ الِاعْتِكَافِ فِي غَيْرِهِمَا كَمَا لَا دَلَالَةَ عَلَى نَفْيِ جَوَازِ الْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ فِي غَيْرِهِمَا فَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا تَخْصِيصُ عُمُومِ الْآيَةِ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَخْصِيصِهِمَا وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ فِي تَخْصِيصِ مساجد الجماعات دُونَ مَسَاجِد الْجَمَاعَاتِ لَا مَعْنَى لَهُ وَكَمَا لا تمنع صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ كَذَلِكَ(1/302)
لَا يَمْتَنِعُ الِاعْتِكَافُ فِيهَا فَكَيْفَ صَارَ الِاعْتِكَافُ مَخْصُوصًا بِمَسَاجِدِ الْجُمُعَاتِ دُونَ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَوْضِعِ اعْتِكَاف النِّسَاءِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ لَا تَعْتَكِفُ الْمَرْأَةُ إلَّا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَلَا تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَقَالَ مَالِكٌ تَعْتَكِفُ الْمَرْأَةُ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُعْجِبُهُ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُسَافِرُ يَعْتَكِفُونَ حَيْثُ شَاءُوا لِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم أنه قال لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ
فَأَخْبَرَ أَنَّ بَيْتَهَا خَيْرٌ لَهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِهَا فِي الِاعْتِكَافِ وَفِي الصلاة ولما أجاز لِلْمَرْأَةِ الِاعْتِكَافُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذلك في بيتها
لقوله صلّى الله عليه وسلم (وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ)
فَلَوْ كَانَتْ مِمَّنْ يُبَاحُ لَهَا الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ لَكَانَ اعْتِكَافُهَا فِي المسجد أفضل ولم يكن بيوتهن خير لَهُنَّ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ شَرْطُهُ الْكَوْنُ فِي الْمَسَاجِدِ لِمَنْ يُبَاحُ لَهُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِهَا وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي دَارِهَا وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا)
فَلَمَّا كَانَتْ صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلَ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ كَانَ اعْتِكَافُهَا كَذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ لِلنِّسَاءِ
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ قَالَتْ وَإِنَّهُ أَرَادَ مَرَّةً أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ قَالَتْ فَأَمَرَ بِبِنَائِهِ فَضُرِبَ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَمَرْتُ بِبِنَائِي فَضُرِبَ قَالَتْ وَأَمَرَ غَيْرِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَائِهِ فَضُرِبَ فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ نَظَرَ إلَى الْأَبْنِيَةِ فَقَالَ مَا هَذِهِ آلْبِرَّ تُرِدْنَ قَالَتْ ثُمَّ أَمَرَ بِبِنَائِهِ فَقُوِّضَ وَأَمَرَ أَزْوَاجَهُ بِأَبْنِيَتِهِنَّ فَقُوِّضَتْ ثُمَّ أَخَّرَ الِاعْتِكَافَ إلَى الْعَشْرِ الْأُوَلِ يَعْنِي مِنْ شَوَّالٍ
وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ الِاعْتِكَافِ لِلنِّسَاءِ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ آلْبِرَّ تُرِدْنَ يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ وَيَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَكِفْ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَنَقَضَ بِنَاءَهُ حَتَّى نَقَضْنَ أَبْنِيَتَهُنَّ وَلَوْ سَاغَ لَهُنَّ الِاعْتِكَافُ عِنْدَهُ لَمَا تَرَكَ الِاعْتِكَافَ بَعْدَ الْعَزِيمَةِ وَلَمَا جَوَّزَ لَهُنَّ تَرْكَهُ وَهُوَ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَرِهَ اعْتِكَافَ النِّسَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَتْ فِيهِ فَاسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ فأذن لي(1/303)
ثُمَّ اسْتَأْذَنَتْهُ زَيْنَبُ فَأَذِنَ لَهَا فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ رَأَى فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعَةَ أَبْنِيَةٍ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا لِزَيْنَبِ وَحَفْصَةَ وَعَائِشَةَ فَقَالَ آلْبِرَّ تُرِدْنَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ فَأَخْبَرَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُنَّ فِي الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ انْصَرَفَ إلَى اعْتِكَافِهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَبْنِيَتَهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ حَتَّى تَرَكْنَ أَيْضًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ بَدِيًّا لَمْ يَكُنْ إذْنًا لَهُنَّ فِي الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَيْضًا فَلَوْ صَحَّ أَنَّ الْإِذْنَ بَدِيَّا انْصَرَفَ إلَى فِعْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ لَكَانَتْ الْكَرَاهَةُ دَالَّةً عَلَى نَسْخِهِ وَكَانَ الْآخِرُ مِنْ أَمْرِهِ أَوْلَى مِمَّا تَقَدَّمَ فَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْإِذْنِ لِأَنَّ النَّسْخَ عِنْدَكُمْ لَا يَجُوزُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ قِيلَ لَهُ قَدْ كُنَّ مُكِّنَّ مِنْ الْفِعْلِ لِأَدْنَى الِاعْتِكَافِ لِأَنَّهُ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ ذَلِكَ اليوم أَنْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْكَرَ فِعْلَهُنَّ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ التَّمْكِينُ مِنْ الِاعْتِكَافِ فَلِذَلِكَ جَازَ وُرُودُ النَّسْخِ بَعْدَهُ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ إنَّ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ حَيْثُ شَاءَ فَلَا مَعْنَى له لأنه ليس الاعتكاف تَعَلُّقٌ بِالْجُمُعَةِ وَقَدْ وَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فِيمَنْ عَلَيْهِ جُمُعَةٌ وَمَنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي مَوْضِعِ الِاعْتِكَافِ وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ لَابِثَةً مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ لَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُعْتَكِفَةً أَوْ غَيْرَ مُعْتَكِفَةٍ فَأَمَّا مَنْ سِوَاهَا فَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] فَلَمْ يُخَصِّصْ مَنْ عَلَيْهِ جُمُعَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا يَخْتَلِفُ فِي الِاعْتِكَافِ مَنْ عَلَيْهِ جُمُعَةٌ وَمَنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ نَافِلَةٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أَحَدٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُدَّةِ الِاعْتِكَافِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَمَا شَاءَ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي مَنْ دَخَلَ فِي الِاعْتِكَافِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ بِالْقَوْلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ هُوَ مُعْتَكِفٌ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَتَى شَاءَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فِي مِقْدَارِ لَبْثِهِ فِيهِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهُ يَوْمًا وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ مَا سَمِعْتُ أَنَّ أَحَدًا اعْتَكَفَ دُونَ عَشْرٍ وَمَنْ صَنَعَ ذَلِكَ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئًا وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الِاعْتِكَافُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَا اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ لَا أَسْتَحِبُّ أَنْ يَعْتَكِفَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامِ قَالَ أَبُو بَكْرِ تَحْدِيدُ مُدَّةِ الِاعْتِكَافِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ وَهُمَا مَعْدُومَانِ فَالْمُوجِبُ لِتَحْدِيدِهِ مُتَحَكِّمٌ قَائِلٌ بغير دلالة(1/304)
فَإِنْ قِيلَ تَحْدِيدُ الْعَشَرَةِ لِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ
وَرُوِيَ أَنَّهُ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَوَّالٍ فِي بَعْضِ السِّنِينَ
وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ اعْتَكَفَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاعْتِكَافِ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبِ عَلَى أَحَدٍ اعْتِكَافًا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ لِلِاعْتِكَافِ عَلَى الْوُجُوبِ فَتَحْدِيدُ الْعَشَرَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِفِعْلِهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْفَ عَنْ غَيْرِهِ فَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ اعْتِكَافَ الْعَشَرَةِ جَائِزٌ وَنَفْيُ مَا دُونَهَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ الِاعْتِكَافِ فَقَالَ [وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] وَلَمْ يَحُدَّهُ بِوَقْتٍ وَلَمْ يُقَدِّرْهُ بِمُدَّةٍ فَهُوَ عَلَى إطْلَاقِهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابٌ الِاعْتِكَافُ هَلْ يَجُوزُ بِغَيْرِ صَوْمٍ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاعْتِكَافَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ وَمَا كَانَ هَذَا حُكْمَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى الْبَيَانِ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ فَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ قَالُوا الْمُعْتَكِفُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ سُنَّةِ الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَصُومَ
وَرَوَى حاتم ابن إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَقَالَ آخَرُونَ يَصِحُّ بِغَيْرِ صَوْمٍ رَوَى الْحَكَمُ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَقَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ وَسَعِيدٍ وَأَبُو مَعْشَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالُوا إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ وَرَوَى طَاوُسٌ عَنْ ابن عباس مثله واختلف فيه أَيْضًا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ الِاعْتِكَافُ فِي رَمَضَانَ وَالْجَوَارُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَمَنْ جَاوَرَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُعْتَكِفِ مِنْ الصِّيَامِ وَغَيْرِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ بِغَيْرِ صَوْمٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا كَانَ الِاعْتِكَافُ اسْمًا مُجْمِلًا لِمَا بَيَّنَّا كَانَ مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اعْتِكَافِهِ فَهُوَ وَارِدٌ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُ عَلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّ فِعْلَهُ إذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ فَلَمَّا
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ
وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مِنْ شُرُوطِهِ الَّتِي لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ كَفِعْلِهِ فِي الصَّلَاةِ لِأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ(1/305)
وَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمَّا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ اللَّيْثِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَيْلَةً أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اعْتَكِفْ وَصُمْ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوُجُوبِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الِاعْتِكَافِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أيضا قول عائشة رضى الله تعالى عَنْهَا مِنْ سُنَّةِ الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَصُومَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى لُزُومِهِ بِالنَّذْرِ فَلَوْلَا مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ الصَّوْمِ لَمَا لَزِمَ بِالنَّذْرِ لِأَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ وَلَا يَصِيرُ وَاجِبًا كَمَا أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرَبِ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً وَإِنْ تُقُرِّبَ بِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَبْثٌ فِي مَكَان فَأَشْبَهَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَالْكَوْنُ بِمِنًى لَمَّا كَانَ لَبْثًا فِي مَكَان لَمْ يَصِرْ قُرْبَةً إلَّا بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ هُوَ فِي نَفْسِهِ قُرْبَةٌ فَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ الْإِحْرَامُ وَالْكَوْنُ بِمِنًى الرَّمْيُ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ مِنْ شَرْطِهِ الصَّوْمُ لَمَا صَحَّ بِاللَّيْلِ لِعَدَمِ الصَّوْمِ فِيهِ قِيلَ لَهُ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ اللَّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ الِاعْتِكَافِ خُرُوجُهُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَلِلْجُمُعَةِ وَلَمْ يَنْفِ ذَلِكَ كَوْنُ اللَّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ شَرْطًا فِيهِ كَذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ الصَّوْمُ وَصِحَّتُهُ بِاللَّيْلِ مَعَ عَدَمِ الصَّوْمِ غَيْرُ مَانِعٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ وَكَذَلِكَ اللَّبْثُ بِمِنًى قُرْبَةٌ لِأَجْلِ الرَّمْيِ ثُمَّ يَكُونُ اللَّبْثُ بِاللَّيْلِ بِهَا قُرْبَةً لِرَمْيٍ يَفْعَلُهُ فِي غَدٍ كَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ بِاللَّيْلِ صَحِيحٌ بِصَوْمٍ يَسْتَقْبِلُهُ فِي غَدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَفْعَلَهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ حَقِيقَةَ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ إلْصَاقُ الْبَشَرَةِ بِالْبَشَرَةِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ البدن ويحتمل أن يكون كِنَايَةً عَنْ الْجِمَاعِ كَمَا كَانَ الْمَسِيسَ كِنَايَةً عَنْ الْجِمَاعِ وَحَقِيقَتُهُ الْمَسُّ بِالْيَدِ وَبِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَكَمَا قَالَ [فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ] وَالْمُرَادُ الْجِمَاعُ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ حَظَرَتْ الْجِمَاعَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ وَأَنَّهُ مُرَادٌ بِهَا وَجَبَ أَنْ تَنْتَفِيَ إرَادَةُ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ لَفْظٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً مَجَازًا وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُبَاشَرَةِ(1/306)
الْمُعْتَكِفِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا بَأْسَ بِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ بِشَهْوَةٍ وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاشِرَهَا بِشَهْوَةٍ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا فَإِنْ فَعَلَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسُدْ وَقَدْ أَسَاءَ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ إذَا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ إنْ بَاشَرَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ مِنْ الْوَطْءِ إلَّا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ فِي الْمُبَاشَرَةِ هُوَ الْوَطْءُ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ بِالْيَدِ وَالْقُبْلَةِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنَّ قَوْلَهُ [وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] إنَّمَا هُوَ عَلَى الْجِمَاعِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ الْمُبَاشَرَةُ النِّكَاحُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا جَامَعَ الْمُعْتَكِفُ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَقَالَ الضَّحَّاكُ كَانُوا يُجَامِعُونَ وَهُمْ مُعْتَكِفُونَ حَتَّى نَزَلَ [وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] وَقَالَ قَتَادَةُ كَانَ النَّاسُ إذَا اعْتَكَفُوا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فَبَاشَرَ أَهْلَهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمَسْجِدِ فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ [وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَقَلُوا مِنْ مُرَادِ الْآيَةِ الْجِمَاعَ دُونَ اللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِالْيَدِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ مُبَاحَةٌ لِلْمُعْتَكِفِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائشة أنها كانت رجل رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَكَانَتْ لَا مَحَالَةَ تَمَسُّ بَدَنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ غَيْرُ مَحْظُورَةٍ عَلَى الْمُعْتَكِفِ وَأَيْضًا لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ بِمَعْنَى الصَّوْمِ فِي بَابِ حَظْرِ الْجِمَاعِ
وَلَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ مَانِعًا مِنْ الْمُبَاشَرَةِ أَوْ الْقُبْلَةِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي آثَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ الِاعْتِكَافُ الْقُبْلَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَمَّا كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ وَالْقُبْلَةُ لِشَهْوَةٍ مَحْظُورَتَيْنِ فِي الصَّوْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُمَا فِي الِاعْتِكَافِ وَلَمَّا كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ فِي الصَّوْمِ إذَا حَدَثَ عَنْهَا إنْزَالٌ فَسَدَ الصَّوْمُ وَجَبَ أَنْ يَفْسُدَ الِاعْتِكَافُ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ وَالصَّوْمَ قَدْ جَرَيَا مَجْرًى وَاحِدًا فِي اخْتِصَاصِهِمَا بِحَظْرِ الْجِمَاعِ دُونَ دَوَاعِيهِ مِنْ الطِّيبِ وَدُونَ اللِّبَاسِ فَإِنْ قِيلَ الْمُحْرِمُ إذَا قَبَّلَ بِشَهْوَةٍ لَزِمَهُ دَمٌ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فهلا أفسدت اعتكاف بِمِثْلِهِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ الْإِحْرَامِ بِأَصْلٍ لِلِاعْتِكَافِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ مِنْ الطِّيبِ وَمَحْظُورٌ عَلَيْهِ اللُّبْسُ وَالصَّيْدُ وَإِزَالَةُ التَّفَثِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَيْسَ يَحْظُرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ الِاعْتِكَافَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِحْرَامَ لَيْسَ بِأَصْلٍ لِلِاعْتِكَافِ وَأَنَّ الْإِحْرَامَ أَكْبَرُ حُرْمَةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَلَمَّا كَانَ الْمُحْرِمُ مَمْنُوعًا مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ(1/307)
وَقَدْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِالْمُبَاشِرَةِ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ لِحُصُولِ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا هُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِمْتَاعَ بِالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فَلَزِمَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ دَمٌ فَإِنْ قِيلَ فَلَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ حَدَثَ عَنْهَا إنْزَالٌ كَمَا لَا يَفْسُدُ إحْرَامُهُ قِيلَ لَهُ لَمْ نَجْعَلْ مَا وَصَفْنَا عِلَّةً فِي فَسَادِ الِاعْتِكَافِ حَتَّى يَلْزَمَنَا عِلَّتُهَا وَإِنَّمَا أَفْسَدْنَا اعْتِكَافَهُ بِالْإِنْزَالِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ كَمَا أَفْسَدْنَا صَوْمَهُ وَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي إفْسَادِهِ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ وَسَائِرُ الْأُمُورِ الْمَحْظُورَةِ فِي الْإِحْرَامِ لَا يُفْسِدُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ اللُّبْسَ وَالطِّيبَ وَالصَّيْدَ كُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ فِي الْإِحْرَامِ وَلَا يُفْسِدُهُ إذَا وَقَعَ فِيهِ فَالْإِحْرَامُ فِي بَابِ الْبَقَاءِ مَعَ وُجُودِ مَا يَحْظُرُهُ أَكْبَرُ مِنْ الِاعْتِكَافِ وَالصَّوْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَحْظُرُهَا الصَّوْمُ يُفْسِدُهُ مِثْلُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَكَذَلِكَ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي الِاعْتِكَافَ إذَا حَدَثَ عَنْهَا إنْزَالٌ أَفْسَدَتْهُ كَمَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ وَمَتَى لَمْ يَحْدُثْ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي إفْسَادِ الِاعْتِكَافِ كَمَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي إفْسَادِ الصَّوْمِ وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْمُعْتَكِفِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي اعْتِكَافٍ وَاجِبٍ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ وَلَا يَخْرُجُ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَلَا لِشُهُودِ جِنَازَةٍ قَالُوا وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَتَحَدَّثَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَتَشَاغَلَ بِمَا لَا مَأْثَمَ فِيهِ وَيَتَزَوَّجَ وَلَيْسَ فِيهِ صَمْتٌ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يَعْرِضُ الْمُعْتَكِفُ لِتِجَارَةٍ وَلَا غَيْرِهَا بَلْ يَشْتَغِلُ بِاعْتِكَافِهِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ بِصَنْعَتِهِ وَمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ وَبَيْعِ مَالِهِ أَوْ شَيْئًا لَا يَشْغَلُهُ فِي نَفْسِهِ وَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ خَفِيفًا قَالَ مَالِكٌ وَلَا يَكُونُ مُعْتَكِفًا حَتَّى يَجْتَنِبَ مَا يَجْتَنِبُ الْمُعْتَكِفُ وَلَا بَأْسَ بِنِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ مَا لَمْ يَكُنِ الْوِقَاعُ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا يَقُومُ الْمُعْتَكِفُ إلَى رَجُلٍ يُعَزِّيهِ بِمُصِيبَةٍ وَلَا يَشْهَدُ نِكَاحًا يُعْقَدُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُ إلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَكِنْ لَوْ غَشِيَهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ لَمْ أَرَ بِهِ بأسا ولا يقوم إلى الناكح فيهنيه وَلَا يَتَشَاغَلُ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ وَلَا يَكْتُبُ الْعِلْمَ فِي الْمَجْلِسِ وَكَرِهَهُ وَيَشْتَرِي وَيَبِيعُ إذَا كَانَ خَفِيفًا وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْمُعْتَكِفُ يَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ الْجُمُعَةَ وَمَا لَا يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَصْنَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ أَتَى أَهْلَهُ فَصَنَعَهُ وَلَا يَدْخُلُ سَقْفًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَمَرُّهُ فِيهِ وَلَا يَجْلِسُ عِنْدَ أَهْلِهِ وَلْيُوصِهِمْ بِحَاجَتِهِ وَهُوَ قَائِمٌ أَوْ يَمْشِي وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَبْتَاعُ وَإِنْ دَخَلَ سَقْفًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَقَالَ الحسن بن صالح إذا دَخَلَ الْمُعْتَكِفُ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ طَرِيقُهُ أَوْ جامع بطل(1/308)
اعْتِكَافُهُ وَيَحْضُرُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَأْتِي الْجُمُعَةَ وَيَخْرُجُ لِلْوُضُوءِ وَيَدْخُلُ بَيْتَ الْمَرِيضِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَوَى الزُّهْرِيُّ عن سعيد بن المسيب وعروة ابن الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ إنَّ مِنْ السُّنَّةِ فِي الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَتْبَعَ الْجِنَازَةَ وَلَا يَعُودَ مَرِيضًا وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ قَالَا لَا يَعُودُ الْمُعْتَكِفُ مَرِيضًا وَلَا يُجِيبُ دَعْوَةً وَلَا يَشْهَدُ جِنَازَةً وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَعُودَ مَرِيضًا وَلَا يَتْبَعُ جِنَازَةً فَهَؤُلَاءِ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ فِي الْمُعْتَكِفِ مَا وَصَفْنَا وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ
وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ الْمُعْتَكِفُ يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَعَامِرٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَخْرُجَ الْمُعْتَكِفُ وَيَبْتَاعَ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي حَظْرَ الْخُرُوجِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ مِمَّا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاعْتِكَافِ وَارِدٌ مَوْرِدَ الْبَيَانِ وَفِعْلُهُ إذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ فَأَوْجَبَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ فِعْلِهِ حَظْرَ الْخُرُوجِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَإِنَّمَا يُعْنَى بِهِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ وَبِذَلِكَ قَرَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ [وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] وَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَقَضَاءِ فَرْضِ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ عَلَى نفسه اعتكافا هو منتقل بِإِيجَابِهِ وَهُوَ يُرِيدُ تَرْكَ شُهُودِ الْجُمُعَةِ وَهِيَ فَرْضٌ عَلَيْهِ فَصَارَ حُضُورُهَا مُسْتَثْنًى مِنْ اعْتِكَافِهِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ [وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ دَوَامَ اللَّبْثِ فيه لأنه إنما ذكر الحال التي يكونون عليها وعلق به حظر الجماع إذا كانوا من بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى حَظْرِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ قِيلَ لَهُ هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ حَظْرَ الْجِمَاعِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ يكونه فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ فِي بَيْتِهِ فِي(1/309)
حَالِ الِاعْتِكَافِ وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ إلَى بَيْتِهِ وَيُجَامِعُ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ ذِكْرَ الْمَسْجِدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذَا لَمْ يُعَلَّقْ به حظر الْجِمَاعَ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ الِاعْتِكَافِ وَمِنْ أَوْصَافِهِ الَّتِي لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَمَّا كَانَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ اللَّبْثَ فِي الْمَوْضِعِ ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الِاعْتِكَافَ فَاللَّبْثُ لَا مَحَالَةَ مُرَادٌ بِهِ وَإِنْ أُضِيفَ إلَيْهِ مَعَانٍ أُخَرُ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ لَهَا فِي اللُّغَةِ كَمَا أَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِمْسَاكُ ثم نقل في الشرع إلى معان أخر لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ وَأَوْصَافِهِ الَّتِي لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ هُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ أَوْ لِشُهُودِ الْجُمُعَةِ إذْ كَانَتْ فَرْضًا مَعَ مَا عَاضَدَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ السُّنَّةِ وَلَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَرْضُ شُهُودِ الْجِنَازَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ لَهُمَا
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَمَا يُعَرِّجُ عَلَيْهِ يسئل عَنْهُ وَيَمْضِي
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ مِنْ فِعْلِهَا وَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ فَيَنْصَرِفُ فِي سَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ وَالسَّعْيِ عَلَى عِيَالِهِ وَهُوَ مِنْ الْبِرِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَكَمَا لَا يُجِيبُهُ إلَى دَعْوَتِهِ كَذَلِكَ عِيَادَتُهُ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي حُقُوقِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَالْكِتَابُ وَالْأَثَرُ وَالنَّظَرُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا
رَوَى الْهَيَّاجُ الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الْخَالِقِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمُعْتَكِفُ يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ وَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ قَنَّعَ رَأْسَهُ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ)
قِيلَ لَهُ هَذَا حَدِيثٌ مَجْهُولُ السَّنَدِ لَا يُعَارَضُ بِهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ إنْ دَخَلَ سَقْفًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ فَتَخْصِيصُهُ السَّقْفَ دُونَ غَيْرِهِ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّقْفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفَضَاءِ فَإِنَّ كَوْنَهُ فِي الْفَضَاءِ وَالصَّحْرَاءِ لَا يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ فَكَذَلِكَ السَّقْفُ مِثْلُهُ وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ غَيْرِ إحْضَارِ السِّلْعَةِ وَالْمِيزَانِ فَلَا بَأْسَ عِنْدَهُمْ بِهِ وَإِنَّمَا أَرَادُوا الْبَيْعَ بِالْقَوْلِ فَحَسْبُ لَا إحْضَارَ السِّلَعِ وَالْأَثْمَانِ وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ فَهُوَ كَسَائِرِ كَلَامِهِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه نهى عن الصمت يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ
فَإِذَا كَانَ الصَّمْتُ مَحْظُورًا فَهُوَ لَا مَحَالَةَ مَأْمُورٌ بِالْكَلَامِ فَسَائِرُ مَا ينافي الصمت(1/310)
مِنْ مُبَاحِ الْكَلَامِ قَدْ انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عن الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ صَفِيَّةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَار أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أسرعا فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ قَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا أَوْ قَالَ شَرًّا) فَتَشَاغَلَ فِي اعْتِكَافِهِ بِمُحَادَثَةِ صَفِيَّةَ وَمَشَى مَعَهَا إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ
وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ لَا يَتَشَاغَلُ بِالْحَدِيثِ وَلَا يَقُومُ فَيَمْشِيَ إلَى أَمْلَاكٍ فِي الْمَسْجِدِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَمُسَدَّدٌ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يكون متعكفا فِي الْمَسْجِدِ فَيُنَاوِلُنِي رَأْسَهُ مِنْ خِلَالِ الْحُجْرَةِ فَأَغْسِلُ رَأْسَهُ وَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ
وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ أَحْكَامًا مِنْهَا إبَاحَةُ غَسْلِ الرَّأْسِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَمِنْهَا جَوَازُ الْمُبَاشَرَةِ وَاللَّمْسِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لِلْمُعْتَكِفِ وَمِنْهَا جَوَازُ غَسْلِ الرَّأْسِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ وَغَسْلُ الرَّأْسِ إنَّمَا هُوَ لِإِصْلَاحِ الْبَدَنِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَفْعَلَ مَا فِيهِ صَلَاحُ بَدَنِهِ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ مَالِهِ كَمَا أُبِيحَ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِإِصْلَاحِ بَدَنِهِ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ وَسِبَابُهُ فِسْقٌ وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ)
وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَزَيَّنَ لِأَنَّ تَرْجِيلَ الرَّأْسِ مِنْ الزِّينَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ فَغَسَلَهُ كَانَ غَاسِلًا لَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَغْسِلُ رَأْسَ فُلَانٍ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ يَحْنَثُ إنْ أَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَغَسَلَهُ وَالْحَالِفُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَعْتَبِرُ مَوْضِعَ الْمَغْسُولِ لَا الْغَاسِلِ لِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يَكُونُ إلَّا وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَغْسُولِ وَلِذَلِكَ قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ فُلَانًا فِي الْمَسْجِدِ إنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَضْرُوبِ فِي الْمَسْجِدِ لَا الضَّارِبِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى طَهَارَةِ يَدِ الْحَائِضِ وَسُؤْرِهَا وَأَنَّ حَيْضَهَا لا يمنع طهارة بدنها وهو
كقوله صلّى الله عليه وسلم لَيْسَ حَيْضُكِ فِي يَدِكِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَاب مَا يُحِلُّهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَمَا لَا يُحِلُّهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا(1/311)
فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ]
وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى [وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ] وقوله [وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ] يعنى بعضكم بعضا وكما
قال صلّى الله عليه وسلم (أَمْوَالُكُمْ وَأَعْرَاضُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ)
يَعْنِي أَمْوَالَ بَعْضِكُمْ على بعض وأكل الْمَالِ بِالْبَاطِلِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَخْذُهُ عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغَصْبِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ وَالْآخَرُ أَخْذُهُ مِنْ جِهَةٍ مَحْظُورَةٍ نَحْوُ القمار وَأُجْرَةِ الْغِنَاءِ وَالْقِيَانِ وَالْمَلَاهِي وَالنَّائِحَةِ وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْحُرِّ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ وَإِنْ كَانَ بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْ مَالِكِهِ وَقَدْ انْتَظَمَتْ الْآيَةُ حَظْرَ أَكْلِهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا ثُمَّ قَوْلُهُ [وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ] فِيمَا يُرْفَعُ إلَى الْحَاكِمِ فَيَحْكُمُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ لِيُحِلَّهَا مَعَ عِلْمِ الْمَحْكُومِ لَهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهُ فِي الظَّاهِرِ فَأَبَانَ تَعَالَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِهِ لَا يُبِيحُ أَخْذَهُ فَزَجَرَ عَنْ أَكْلِ بَعْضِنَا لِمَالِ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَهُوَ فِي حَيِّزِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ أَخْذُهُ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ] فَاسْتَثْنَى مِنْ الْجُمْلَةِ مَا وَقَعَ مِنْ التِّجَارَةِ بِتَرَاضٍ مِنْهُمْ بِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ الْبَاطِلِ وَهَذَا هُوَ فِي التِّجَارَةِ الْجَائِزَةِ دُونَ الْمَحْظُورَةِ وَمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيِ أَصْلٌ فِي أَنَّ حكم له الحاكم بِالْمَالِ لَا يُبِيحُ لَهُ أَخْذَ الْمَالِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ وَبِمِثْلِهِ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ وَالسُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوَارِيثَ وَأَشْيَاءَ قَدْ دَرَسَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِرَأْيِ فِيمَا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهِ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحُجَّةٍ أَرَاهَا فَاقْتَطَعَ بِهَا قطعة ظلما فإنما يقطع قِطْعَةً مِنْ النَّارِ يَأْتِي بِهَا إسْطَامًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عُنُقِهِ) فَبَكَى الرَّجُلَانِ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَقِّي لَهُ فقال صلّى الله عليه وسلم (لَا وَلَكِنْ اذْهَبَا فَتَوَخَّيَا لِلْحَقِّ ثُمَّ اسْتَهِمَا وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ)
وَمَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ مُوَاطِئٌ لِمَا وَرَدَ بِهِ نَصُّ التَّنْزِيلِ فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَهُ بِالْمَالِ لَا يُبِيحُ لَهُ أَخْذَهُ وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعَانِيَ أُخَرَ مِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَقْضِي بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فيما لم ينزل به وحى
لقوله صلّى الله عليه وسلم (أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِرَأْيِ فِيمَا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهِ)
وَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الَّذِي كُلِّفَ الْحَاكِمُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الظَّاهِرُ وَأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفَ الْمُغَيَّبَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ(1/312)