أخليفة الرحمن إنّ عشيرتي ... أمسى سوائمهم عزين فلولا «1»
وقال آخر:
كأن الجماجم من وقعها ... خناطيل «2» يهون شتى عزينا «3»
وأخبرني عقيل أن المعافى أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدّثنا بكار قال: حدّثنا مؤمل قال: حدّثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج على أصحابه وهم حلق حلق فقال: «ما لي أراكم عزين» [35] «4» .
قال المفسّرون: كان المشركون يجتمعون حول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويتسمعون كلامه ولا ينتفعون به، بل يكذبونه ويكذبون عليه ويستهزءون به وبأصحابه، ويقولون: دخل هؤلاء الجنّة كما يقول محمد، فلندخلها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم فأنزل الله سبحانه: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ
قرأ الحسن وطلحة بفتح الياء وضم الخاء، ومثله روى المفضل عن عاصم، الباقون ضده كَلَّا لا يدخلونها ثمّ ابتدأ فقال: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي من نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة فلا يستوجب الجنّة أحد منهم بكونه شريفا لأنّ مادة الخلق واحدة بل يستوجبونها بالطاعة، قال قتادة في هذه: إنّما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتق إلى الله.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن برزة قال: حدّثنا محمد بن سليمان ابن الحرث الباغندي قال: حدّثنا عارم أبو النعمان السدوسي، قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك، قال: كان أبو بكر الصديق إذا خطبنا ذكر مناتن ابن آدم فذكر بدء خلقه أنّه يخرج من مخرج البول مرتين، ثمّ يقع في الرحم نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة، ثمّ يخرج من بطن أمه فيتلوث في بوله وخراه حتّى يقذر أحدنا نفسه.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا موسى بن محمد بن عليّ، قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي، قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بسر بن جحاش قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبصق يوما في كفه ووضع عليها إصبعه فقال: «يقول عزّ وجلّ بني آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتّى إذا سوّيتك وعدّلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتّى إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ قلت: أتصدّق وأنى أوان الصدقة» [36] «5» .
__________
(1) جامع البيان للطبري: 29/ 107.
(2) الخناطيل: لا واحد لها من جنسها، وهي جماعات من الوحش والطير في تفرقة.
(3) تفسير القرطبي: 18/ 293.
(4) مسند أحمد: 5/ 93.
(5) مسند أحمد: 4/ 210.(10/41)
وقيل: إنّا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب فحذف أجل، كقول الشاعر:
أأزمعت من آل ليلى احتكارا ... وشطّت على ذي هوى أن تزارا «1»
أي من أجل آل ليلى.
وقيل: (ما) بمعنى من، مجازه: إنا خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون لا كالبهائم. فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ قرأ أبو حيوة برب المشرق والمغرب إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ نظيره في سورة الواقعة.
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم وَيَلْعَبُوا ويلهوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ نسختها آية القتال يَوْمَ يَخْرُجُونَ قراءة العامّة بفتح الياء وضم الراء، وروى الأعشى عن أبي بكر عن عاصم بضم الياء وفتح الراء مِنَ الْأَجْداثِ القبور سِراعاً إلى إجابة الداعي كَأَنَّهُمْ إِلى نَصْبٍ قراءة العامّة بفتح النون وجزم الصاد يعنون إلى شيء منصوب، يقال: فلان نصب عيني.
قال ابن عباس: يعني إلى غاية وذلك حين سمعوا الصيحة الأخيرة. الكلبي: إلى علم ورواية، وقال أبو العلاء: سمعت بعض العرب يقول: النصب الشبكة التي يقع فيها الصيد فيتسارع إليها صاحبها مخافة أن يفلت الصيد منها، وقرأ زيد بن ثابت وأبو رجاء وأبو العالية ومسلم البطين والحسن وأشهب العقيلي وابن عامر إِلى نُصُبٍ بضم النون والصاد، وهي رواية حفص عن عاصم واختيار أبي حاتم.
قال مقاتل والكسائي: يعني إلى أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. وقال الفراء والأخفش: النصب جمع النصب مثل رهن، والأنصاب جمع النصب فهي جمع الجمع. وقيل:
النصب والأنصاب واحد.
يُوفِضُونَ يسرعون. قال الشاعر:
فوارس ذبيان تحت الحديد ... كالجن يوفضن من عبقر «2»
وقال ابن عباس وقتادة: يسعون، وقال أبو العالية ومجاهد: يستبقون، ضحاك: يطلعون.
الحسن يبتدرون. القرظي يشتدون خاشِعَةً ذليلة خاضعة أَبْصارُهُمْ بالعذاب، قال قتادة:
سواد الوجوه تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ يغشاهم هوان، ومنه غلام مراهق إذا غشى الاحتلام ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ وهو يوم القيامة.
__________
(1) لسان العرب: 8/ 144. [.....]
(2) تفسير القرطبي: 18/ 297.(10/42)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
سورة نوح
مكيّة وهي تسعمائة وتسعة وعشرون حرفا، ومائتان وأربع وعشرون كلمة، وثمان وعشرون آية.
أخبرني محمد بن القيّم قال: حدّثنا محمد بن محمد بن شاذة قال: حدّثنا أحمد بن محمد ابن الحسن قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا سليم بن فتينة عن شعبة عن عاصم بن تهّدله عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح» [37] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 130.(10/43)
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ (من) صلة وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو الموت فلا يهلككم بالعذاب إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً نفارا وإدبارا عنه وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لئلّا يسمعوا دعوتي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ غطوا بها وجوههم لئلّا يروني ولا يسمعوا صوتي وَأَصَرُّوا على الكفر وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ الدعوة وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن عمران بن هارون قال: حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان عن مطرف عن الشعبي: أن عمر خرج يستسقي بالناس، فلم يزد على الاستغفار حتّى رجع، فقالوا له: ما رأيناك استسقيت، فقال عمر: لقد طلبت المطر لمحاويج السماء التي يستنزل منها المطر، ثمّ قرأ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً.
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ بساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً جارية، وذلك أن قوم نوح لما كذّبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فهلكت أموالهم ومواشيهم، فوعدهم الله إن آمنوا أن يرد عليهم.
وروى الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن فشكا إليه الجدوبة، فقال له الحسن: استغفر الله، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وأتاه آخر فقال: ادع الله أن يرزقني ابنا، فقال له: استغفر الله، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه فقال له: استغفر الله فقلنا أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من ذات نفسي في ذلك شيئا إنّما اعتبرت فيه قول الله سبحانه حكاية عن نبيّه نوح (عليه السلام) إنّه قال لقومه:
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً.
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. قال ابن عباس ومجاهد: ما لكم لا ترون لله عظمة، سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون لله حقّ عظمته. منصور عن مجاهد: لا تبالون لله عظمته.
العوفي عن ابن عباس: لا تعلمون لله عظمة. قتادة: لا ترجون لله عاقبة، ابن زيد: لا ترون لله طاعة. الكلبي: لا تخافون لله عظمة. ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثبكم على توقيركم إياه خير، الحسن: لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة. سعيد بن جبير أيضا:
لا يرجون لله ثوابا ولا يخافون عقابا، والرجاء من الأضداد يكون أملا وخوفا.(10/44)
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً تارات ومرات حالا بعد حال، نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة، إلى تمام الخلقة أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً قال الحسن: يعني في السماء الدنيا. وهذا جائز في كلام العرب، كما يقال: أتيت بني تميم وأتاني بعضهم، ويقول: فلان متوار في دور بني فلان، وإنّما هو في دار واحدة. وقال مقاتل: هو معناه وجعل القمر معهن نورا لأهل الأرض، (في) بمعنى مع. وقال عبد الله بن محمد: وإن الشمس والقمر وجوههما قبل السموات وضوء الشمس ونور القمر منها وأقفيتها قبل الأرض، وأنا أقرأ بذلك آية من كتاب الله سبحانه وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً مصباحا مضيئا.
وقيل لعبد الله بن عمر: ما بال الشمس تصلينا أحيانا وتبرد علينا أحيانا، فقال: إنّها في الصيف في السماء الرابعة وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن، ولو كانت في السماء الدنيا لما قام لها شيء.
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً وكان حقّه إنباتا ولكنّه مصدر مخالف للصدر، وقال الخليل: مجازه: فنبتم نباتا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أمواتا وَيُخْرِجُكُمْ منها أحياء إِخْراجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً مهادا يحملكم ويستركم أمواتا لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً طرقا مختلفة. قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً وهم القادة والأشراف وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً عظيما يقال: كبر كبار بالتخفيف وكبّار بالتشديد، كلها بمعنى واحد ونظيره في كلام العرب، أمر عجيب وعجاب وعجّاب، ورجل حسان وحسّان، وكمال وكمّال، وقرّاء للقاري ووضّاء للوضي، وأنشد ابن السكيت:
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... وبالحسن قلب المسلم القراء «1»
وقال آخر:
والمرء يلحقه بقيتان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضاء «2»
وقرأ ابن محيص وعيسى: كبارا بالتخفيف، واختلفوا في معنى مكرهم.
فقال ابن عباس: قالوا قولا عظيما. الحسن: مكروا في دين الله وأهله مكرا عظيما.
الضحاك: افتروا على الله وكذّبوا رسله. وقيل: حرّشوا أسفلتهم على قتل نوح.
وَقالُوا لهم لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا قرأ أهل المدينة بضم الواو، وغيرهم بفتحها «3» وهما لغتان وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ قراءة العامة غير مجرى فيهما، قال أبو
__________
(1) تفسير القرطبي: 18/ 306.
(2) تفسير القرطبي: 18/ 307.
(3) في المخطوط: بفتحه.(10/45)
حاتم: لأنهما على بناء فعل مضارع وهما مع ذلك أعجميان. وقرأ الأعمش وأشهب العقيلي:
ولا يغوثا ويعوقا مصروفين وَنَسْراً.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، قال: حدّثنا محمد بن بكار بن المرقان، قال: حدّثنا أبو معشر عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب، قال: كان لآدم (عليه السلام) خمس بنين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عبادا فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنا شديدا، فجاءهم الشيطان، فقال: هل لكم أن أصور لكم في قبلتكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا: نكره أن يجعل في قبلتنا شيئا نصلي إليه، قال: فأجعله في مؤخّر المسجد. قالوا: نعم فصوره لهم من صفر ورصاص، ثمّ مات آخر فصوّره لهم، ثمّ مات آخر فصوّره لهم، قال: فنقصت الأشياء كما ينقصون اليوم وأقاموا على ذلك ما شاء الله، ثمّ تركوا عبادة الله سبحانه فأتاهم الشيطان فقال: ما لكم لا تعبدون شيئا، قالوا: من نعبد؟ قال: هذه آلهتكم وآلهة آبائكم لا ترونها مصوّرة في مصلّاكم، قال: فعبدوها من دون الله عزّ وجل، حتّى بعث الله عزّ وجلّ نوحا فدعاهم إلى عبادة الله سبحانه، فقالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ إلى قوله سبحانه وتعالى: وَنَسْراً.
وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قال: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح (عليهما السلام) ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلمّا ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس فقال: إنّما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم.
قال ابن عباس: كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند، يحول بين الكافرين وبين أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطان: إنّ هؤلاء يفخرون عليكم فيزعمون أنّهم بنو آدم دونكم وإنّما هو جسد وأنا أصور لكم مثله تطوفون «1» به، فنحت خمسة أصنام وحملهم على عبادتها وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فلما كان أيام الغرق دفن الطوفان تلك الأوثان وطمّها التراب، فلم تزل مدفونة حتّى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، فاتخذت قضاعة ودّا فعبدوها بدومة الجندل، ثمّ توارثه بنوه الأكابر فالأكابر حتّى صارت إلى كلب فجاء الإسلام وهو عندهم، وأخذ أعلى وأنعم وهما من طيئ يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا، ثمّ إن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه من أعلى وأنعم، ففروا به إلى الحصين أخي بني الحرث بن كعب، وأما يعوق فكان لكهلان، ثمّ توارثه بنوه الأكبر فالأكبر، حتّى صار إلى همدان، وأما نسر فكان لخثعم يعبدونه، وأما سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه «2» .
__________
(1) في المخطوط: تطيفون.
(2) راجع تفسير القرطبي: 18/ 308.(10/46)
وقال عطاء وقتادة والثمالي والمسيب: صارت أوثان قوم نوح إلى العرب فكان ود لكلب بدومة الجندل، وكان سواع برهاط لهذيل، وكان يغوث لبني غطيف من مراد بالجوف، وكان يعوق لهمدان، وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير، وأما اللات فلثقيف، وأما العزى فلسليم وغطفان وخثعم ونصر وسعيد بن بكر، وأما مناة فكانت لقديد، وأما أساف ونائلة وهبل فلأهل مكّة، وكان أساف حيال الحجر الأسود، وكانت نائلة حيال الركن اليماني، وكان هبل في جوف الكعبة ثمانية عشر ذراعا.
وقال الواقدي: كان ودّ على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير.
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً أي ضل بعبادتها وبسببها كثيرا من الناس نظيره رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «1» وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من خطاياهم «2» و (ما) صلة وقرأ أبو عمرو خطاياهم أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً وقرأ أبو حيوة والأعمش: مما خطتهم على الواحد، وروى أبو روق عن الضحاك في قوله سبحانه:
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً قال: يعني في الدنيا في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في الماء من جانب.
أنشدنا أبو القيّم الحسن قال: أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح، قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنبازي:
الخلق مجتمع طورا ومفترق ... والحادثات فنون ذات أطوار
لا تعجبنّ لأضداد إن اجتمعت ... فالله يجمع بين الماء والنار
وَقالَ نُوحٌ قال مقاتل: نوح بالسريانية الساكن، وإنّما سمّي نوحا لأنّ الأرض سكنت إليه رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. أحدا يدور في الأرض فيذهب ويحيى، وهو فيعال من الدوران مثل القيام أصله قيوام وديّوار.
وقال القتيبي: أصله من الدار أي نازل دارا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ قال ابن عباس: كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول: احذر هذا فإنّه كذّاب وإن أبي حذّرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير عليه.
وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً يعني: من سيكفر ويفجر. قال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنّما قال نوح (عليه السلام) هذا حين أخرج الله تعالى كلّ مؤمن
__________
(1) سورة إبراهيم: 36.
(2) في المخطوط: خطياتهم.(10/47)
أصلابهم وأرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل: سبعين سنة وأخبر الله سبحانه وتعالى نوحا أنّهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا، فحينئذ دعا عليهم نوح، فأجاب الله سبحانه دعاءه فأهلكهم كلّهم ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب.
وقال أبو العالية والحسن: لو أهلك أطفالهم معهم لكان عذابا من الله لهم، ولكن الله تعالى أهلك ذريتهم وأطفالهم بغير عذاب ثم أهلكهم، والدليل عليه قوله سبحانه: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ «1» وقد علمنا أن الأطفال لم يكذّبوا الرسل وإنّما وقع العذاب على المكذّبين.
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً أي داري، وقال الضحاك: مسجدي، وقيل: سفينتي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ عامة وقال الكلبي: من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً هلاكا ودمارا.
__________
(1) سورة الفرقان: 37.(10/48)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
سورة الجن
مكيّة وهي ثمان مائة وسبعون حرفا، وخمس وثمانون كلمة، وثماني وعشرون آية
أخبرنا نافل بن راقم بن أحمد بن عبد الجبار البابي، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي، قال: حدّثنا عمرو بن محمد الكرباسي، قال: حدّثنا أسباط بن اليسع البخاري، قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله السلمي، قال: حدّثنا نوح بن أبي مريم عن عليّ بن زيد عن أبيّ ابن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الجنّ أعطي بعدد كلّ جنّي وشيطان صدّق بمحمد وكذّب به عتق رقبة» [38] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وكانوا تسعة من جن نصيبين استمعوا قراءة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد مرّ خبرهم «2» .
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 140.
(2) راجع مسند أحمد: 1/ 458.(10/49)
قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنهم من بني الشيطان وهم أكثر الجن عددا وهم عامة جنود إبليس. فَقالُوا لما رجعوا إلى قومهم إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً وَأَنَّهُ بالفتح قرأه أهل الشام والكوفة إلّا حفصا.
وفتح أبو جعفر ما كان مردودا على الوحي، وكسر ما كان حكاية عن الجن، وجرها كلّها الباقون.
تَعالى جَدُّ رَبِّنا حدّثنا عبيد الله بن محمد بن محمد بن مهدي العدل، قال: حدّثنا الأصم، قال: حدّثنا أحمد بن حازم، قال: حدّثنا عبد الله بن سفيان عن السدي في قوله: جَدُّ رَبِّنا قال: أمر ربنا.
وبإسناده عن سفيان عن سلمان التيمي عن الحسن، قال: غنى ربنا ومنه قيل: للحظ جد ورجل مجدود. وقال ابن عباس: قدرة ربنا. مجاهد وعكرمة: جلاله. قتادة: عظمته. ابن أبي نجيح عن مجاهد: ذكره. ضحاك: فعله. القرظي: آلاؤه ونعمه على خلقه. الأخفش: علا ملك ربنا. ابن كيسان: علا ظفره على كل كافر بالحجة. والجدّ في اللغة: العظمة، ومنه قول أنس:
كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ في أعيننا أي عظم.
وقال ابن عباس: لو علمت أن في الإنس جدّا ما قالت تعالى جدّ ربّنا،
وقال أبو جعفر الباقر وابنه جعفر والربيع بن أنس: ليس لله جد وإنّما وليه الجدّ بالجهالة فلم تؤخذوا به.
مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً وقرأ عكرمة: تَعالى جِدُّ رَبِّنا بكسر الجيم على ضد الهزل، وقرأ ابن السميع: (جدي ربّنا) وهو الجدوى والمنفعة.
وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا جاهلنا، وقال مجاهد وقتادة: هو إبليس لعنه الله عَلَى اللَّهِ شَطَطاً عدوانا وقولا عظيما وَأَنَّا ظَنَنَّا حسبنا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي كنّا نظنّهم صادقين في قولهم: إنّ لله صاحبة وولدا حتّى سمعنا القرآن وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وذلك قول الرجل من العرب إذا أمسى بالأرض القفر: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في أمن وجوار حتّى يصبح.
قال مقاتل: أوّل من تعوّذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثمّ بنو حنيفة ثمّ فشا ذلك في العرب.
أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا أبو القيّم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي، قال: حدّثنا موسى بن سعيد بن النعمان بطرطوس، قال: حدّثنا فروة بن معراء الكندي، قال: حدّثنا القيّم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري، قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر(10/50)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكّة فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي، فقال: يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه يقول: يا سرحان أرسله، فأتانا الحمل يشتدّ حتّى دخل الغنم، ولم يصبه كدمة، قال، وأنزل الله سبحانه على رسوله بمكة: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً
يعني: [إن الإنس زادوا الجن طغيانا باستعاذتهم] «1» فزادتهم رهقا.
قال ابن عباس: أثما. معمر عن قتادة: خطيئة. سعيد عنه: جرأة «2» . مجاهد: طغيانا.
ربيع: فرقا. ابن زيد: خوفا. إبراهيم: عظمة، وذلك أنّهم قالوا: [سدنا] الجن والإنس. مقاتل:
غيّا. الحسن: شرّا. ثعلب: خسارا. والرهق في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم، ورجل مرهق: إذا كان كذلك. وقال الأعشى:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا «3»
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ يا معشر الكفّار من الإنس أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً بعد موته وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً من الملائكة وَشُهُباً من النجوم وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ برمي الشهب أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أهواء مختلفة وفرقا شتى، منّا المؤمن ومنّا الكافر.
قال سعيد بن جبير: ألوانا شتى. الحسن: قددا مختلفين، الأخفش: ضروبا، أبو عبيدة:
أصنافا، المؤرّخ: أجناسا، النضر: مللا، ابن كيسان: شيعا وفرقا لكلّ فرقة هوى كأهواء الناس، وقال الفراء: تقول العرب: هؤلاء طريقة قومهم أي ساداتهم ورؤساؤهم، المسيّب: كنّا مسلمين ويهودا ونصارى.
أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا محمد بن عمرو بن الخطاب، قال: حدّثنا الحسن بن محمد بن نحتويه، قال: حدّثنا أبو الحسن محمد بن إبراهيم الصوري بأنطاكية، قال: حدّثنا محمد بن المتوكل بن أبي السراي، قال: حدّثنا المطلب بن زياد، قال: سمعت السدي يقول في قول الله سبحانه: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً، قال: الجن مثلكم فيهم قدرية ومرجئة ورافضة وشيعة.
واحد القدد: قدة، وهي الفرقة وأصلها من القدّ وهو القطع. قال لبيد يرثي أخاه أربد:
لم تبلغ العين كل نهمتها ... ليلة تمشي الجياد كالقدد
__________
(1) التقويم عن تفسير القرطبي: 19/ 10.
(2) في تفسير القرطبي: سعيد بن جبير: كفرا. [.....]
(3) لسان العراب: 10/ 129.(10/51)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
وقال آخر:
ولقد قلت وزيد جاسر ... يوم ولّت خيل عمرو قددا
وَأَنَّا ظَنَنَّا علمنا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ إن أراد بنا أمرا وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً إن طلبنا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ قرأه العامّة بالألف، وقرأ الأعمش فلا يخفف بالجزم بَخْساً نقصا وَلا رَهَقاً ظلما، يقول: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزداد في سيّئاته، ولا أن يؤخذ بذنب غيره، ولا أن يعاقب بغير جرم، وقيل:
رَهَقاً: مكروها يغشاه، وقيل: ذهاب كله نظيره قوله سبحانه وتعالى: فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً «1» .
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون العادلون عن الحق. يقال: أقسط الرجل فهو مقسط إذا عدل، قال الله سبحانه: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ «2» ، وقسط يقسط قسوطا إذا جاد. قال الشاعر:
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ... عمرا وهم قسطوا على النعمان «3»
وأنشد ابن زيد:
قسطنا على الأملاك في عهد تبّع ... ومن قبل ما أدرى النفوس عقابها «4»
ونظيره في الكلام المترب: الفقير، والمترب: الغني.
فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي قصدوا وأعدّوا وتوخّوا ومنه بتحرّى القبلة لمن عميت عليه. وقال امرؤ القيس:
ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرّى وتدر «5»
أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً.
[سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 28]
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20)
قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
__________
(1) سورة طه: 112.
(2) سورة الحجرات: 9.
(3) تفسير القرطبي: 19/ 17.
(4) جامع البيان للطبري: 29/ 141.
(5) الصحاح: 4/ 1512.(10/52)
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا قراءة العامة لو: بكسر الواو. وقرأ الأعمش: لَوُ اسْتَقامُوا بضم الواو.
عَلَى الطَّرِيقَةِ اختلف المفسرون في تأويلها، فقال قوم: معناها وأن لو استقاموا على طريقة الحقّ والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين. لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً، قال عمر رضي الله عنه في هذه الآية: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة، يعني أعطيناهم مالا كثيرا وعيشا رغيدا ووسعنا عليهم في الرزق وبسطنا لهم في الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم كيف شكرهم فيما خوّلوا وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء بن رياح والضحاك وقتادة وعبيد بن عمير وعطية ومقاتل والحسن، قال: كان والله أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين لله مطيعين فتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر، ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه يعني عثمان بن عفان.
ودليل هذا التأويل قوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «1» وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «2» وقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «3» وقوله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً «4» الآيات.
وقال آخرون: معناها وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى طريقة الكفر والضلالة وكانوا كفّارا كلهم لأعطيناهم مالا كثيرا ولوسّعنا عليهم لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ عقوبة لهم واستدراجا، حتّى يفتنوا فيعذبهم.
وهذا قول الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وابن مجلد، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ «5» .
__________
(1) سورة المائدة: 66.
(2) سورة الأعراف: 96.
(3) سورة النحل: 97.
(4) سورة نوح: 10- 11.
(5) سورة الأنعام: 44.(10/53)
وقوله سبحانه وتعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ «1» .
وقوله سبحانه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ «2» .
وقوله سبحانه وتعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «3» .
وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ قرأ أهل الكوفة ويعقوب وأيوب بالياء وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد. وقرأ مسلم بن جندب: نُسْلِكْهُ بضم النون وكسر اللام. وقرأ الآخرون بفتح النون وضم اللام وهما لغتان سلك واسلك بمعنى واحد أي يدخله.
عَذاباً صَعَداً قال ابن عباس: شاقا. السدي: مشقة. قتادة: لا راحة فيه. مقاتل: لا فرج فيه. الحسن: لا يزداد إلّا شدّة.
ابن زيد: متعبا. والأصل فيه أن الصعود يشقّ على الإنسان، ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعد في خطبة النكاح، أي ما شقّ عليّ. وقال عكرمة: هو جبل في النار. وقال الكلبي: يكلّف الوليد بن المغيرة أن يصعد في النار جبلا من صخرة ملساء حتّى يبلغ أعلاها يجذب من أمامه بالسلاسل، ويضرب بمقامع الحديد حتّى يبلغ أعلاها ولا يبلغه في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها أجر إلى أسفلها، ثمّ يكلف أيضا صعودها فذلك دأبه أبدا، وهو قوله: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً «4» .
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ
قال سعيد بن جبير: قالت الجن لنبي الله كيف لنا أن نأتي المسجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً.
قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أن يخلصوا له الدعوة إذا دخلوا المساجد، وأراد بها المساجد كلّها.
وقال الحسن: أراد بها البقاع كلها وذلك، أن الأرض جعلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم مسجدا، وكان المسلمون بعد نزول هذه الآية إذا دخل أحدهم المسجد قال: أشهد أن لا إله إلّا الله والسلام على رسول الله.
وقال سعيد بن جبير وطلق بن حبيب: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد وهي سبعة: القدمان والركبتان واليدان والوجه. وسمعت محمد بن الحسن السلمي يقول:
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبو القيّم البزاز يقول: قال ابن عطاء: مساجدك أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها.
__________
(1) سورة الزخرف: 33.
(2) سورة الشورى: 27.
(3) سورة العلق: 6- 7. [.....]
(4) سورة المدّثّر: 17.(10/54)
وأخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن زكريا غير مرة، قال: أخبرنا ابن الشرقي، قال:
حدّثنا حمدان السلمي، قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل ومعلّى بن أسيد ومسلم بن إبراهيم، قالوا: حدّثنا وهيب، قال: حدّثنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أسجد على سبعة: أعظم الجبهة- وأشار بيده إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين، وأن لا أكف شعرا ولا ثوبا [39] «1» .
وأخبرنا أبو بكر الجوزقي، قال: أخبرنا عمرو بن عبد الله البصري، قال: حدّثنا أحمد بن سلمة، قال: حدّثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدّثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سجد العبد سجد معه سبعة»
[40] «2» فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجد بكسر الجيم، وإن جعلت الأعضاء فواحدها مسجد بفتح الجيم. وقال الحسن: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ يعني الصلوات فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً أي أفردوا له التوحيد وأخلصوا له العبادة. وقيل: معناه فردّوها لذكر الله وعبادته فلا تتخذوها متجرا ولا مجلسا ولا طرقا ولا تجعلوا فيها لغير الله نصيبا.
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلّم يَدْعُوهُ يقول: لا إله إلّا الله ويدعوا إليه ويقرأ القرآن كادُوا يعني: الجن يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي يركبون بعضهم بعضا، ويزدحمون ويسقطون حرصا منهم على استماع القرآن. قاله الضحاك ورواه عطية عن ابن عباس.
سعيد بن جبير عنه: هذا من قول النفر من الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له واهتمامهم به في الركوع والسجود واقتدائهم به في الصلاة.
وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني لما قام عبد الله بالدعوة تلبّدت الجن والإنس، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحقّ الذي جاءهم به، ويطفئوا نور الله فأبى الله إلّا أن يتم هذا الأمر وينصره ويظهره على من ناواه.
وأصل اللبد: الجماعات بعضها فوق بعض، ومنه قيل للجراد الكبير: لبد، وتلبد الشعر إذا تراكم. ومنه سمي اللبد لبدا، كما ويقال للشعر على الأسد: لبدة وجمعها لبد، قال زهير:
لدى أسد شاك السلاح خبان ... له لبد أظفاره لم تقلّم «3»
وفيه أربع لغات: لبد بكسر اللام وفتح الباء و [هي] قراءة العامة واختيار أبي عبيدة وأبي
__________
(1) مسند أحمد: 1/ 292.
(2) كتاب المسند للشافعي: 40.
(3) تفسير القرطبي: 19/ 24.(10/55)
حاتم واحدتها لبدة بكسر اللام، ولبد بضم اللام وفتح الباء وهي قراءة مجاهد وابن محيص وواحدتها لبدة بضم اللام، ولبد بضم اللام والباء وهي قراءة أبي حيوة واحدتها لبيد، ولبّد بضم اللام وتشديد الباء وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وواحدها لابد مثل راكع ركع وساجد وسجد.
قالَ يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبه قرأ أكثر القرّاء، وقرأ أبو جعفر والأعمش وعاصم وحمزة قُلْ على الأمر إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ أميل إليه وقال قتادة:
نصرا. الكلبي: مدخلا في الأرض مثل السرب، السدي: جرزا.
قال مقاتل: قال كفار قريش للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّك أتيت بأمر عظيم لم يسمع بمثله، وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا الأمر، فنحن نجزيك، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات.
وفي قراءة أبي (عنّا ولا رشدا) .
إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ فإن فيه الحوار والأمن والنجاة قاله الحسن.
وقال قتادة: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ فذلك الذي أملكه بعون الله وتوفيقه، فإمّا الكفر والإيمان فلا أملكهما.
وقيل: لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً لكن أبلغ بلاغا من الله، إنّما أنا مرسل ومبلّغ لا أملك إلّا ما ملكت.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ يعني العذاب.
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ يعني العذاب وقيل: القيامة أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أجلا وغاية تطول مدتها عالِمُ الْغَيْبِ رفع على نعت قوله رَبِّي، وقيل: هو عالم الغيب. فَلا يُظْهِرُ يطلع عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى اصطفى مِنْ رَسُولٍ فإنه يصطفيه ويطلعه على ما يشاء من الغيب. فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ذكر بعض الجهات دلالة على جميعها رَصَداً حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين واستماع الجن ليلا يسترقوه فيلقوه إلى كهنتهم.
قال سعيد بن المسيب: رَصَداً أربعة من الملائكة حفظة. قال مقاتل وغيره: كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة جبرائيل يخبره، فبعث الله مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشيطان، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك، قالوا: هذا شيطان فاحذر، وإذا جاءه ملك، قالوا: هذا رسول ربّك.(10/56)
لِيَعْلَمَ قرأ ابن عباس ويعقوب بضم الياء، أي ليعلم الناس أن الرسل قد بلّغوا، وقرأ الآخرون بفتح الياء أي لِيَعْلَمَ الرسول أن الملائكة أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ عندهم وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً فلم يخف عليه شيئا «1» ونصب عددا على الحال وإن شئت على المصدر أي عد عددا.
__________
(1) في المخطوط: عليهم شيء.(10/57)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
سورة المزمل
هي مكيّة إلّا قوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إلى آخر السورة، وهي ثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفا، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وعشرون آية في الكوفي
أخبرني أبو الحسن الماوردي، قال: حدّثنا أبو محمد بن أبي حامد، قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الأصفهاني، قال: حدّثنا المؤمل بن إسماعيل، قال: حدّثنا سفيان الثوري، قال: حدّثنا أسلم المعري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن ابزي عن أبيه عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة المزمّل رفع عنه العسر في الدنيا والآخرة» [41] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ المتلفف بثوبه، وأصله المتزمل فأدغم التاء في الزاء، ومثله يقال: تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى به، وزمل غيره إذا غطّاه.
قال امرؤ القيس:
كبير أناس في بجاد مزمّل «2»
قال أبو عبد الله الجدلي: سألت عائشة عن قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ما كان تزميله ذلك؟ قالت: كان مرطا طوله أربع عشر ذراعا نصفه عليّ وأنا نائمة ونصفه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يصلّي.
قال أبو عبد الله: فسألتها ما كان؟
قالت: والله ما كان جزّا ولا قزّا ولا مرعزي ولا إبريسم ولا صوفا كان سداه شعرا ولحمته وبرا.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 157.
(2) لسان العرب: 10/ 255.(10/58)
وقال السدي: أراد يا أيها النائم قم فصلّ. وقال عكرمة: يعني: يا أيّها الذي زمّل هذا الأمر أي حمّله، وكان يقرأ الْمُزَمَّلُ بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها. وقالت الحكماء: إنّما خاطبه بالمزمل والمدثر في أوّل الأمر لأنّه لم يكن أدّى بعد شيئا من تبليغ الرسالة.
قُمِ اللَّيْلَ قراءة العامة بكسر الميم، وقرأ أبو السماك العدوي: بضمه لضمة القاف إِلَّا قَلِيلًا ثمّ بين فقال: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا إلى الثلث أَوْ زِدْ عَلَيْهِ على النصف إلى الثلثين، خيّره بين هذه المنازل، فلما نزلت هذه الآية صلّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه واشتد ذلك عليهم وكان الرجل لا يدري متى ثلث الليل ومتى النصف ومتى الثلثان فكان يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ حتى شقّ عليهم وانتفخت أقدامهم وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله سبحانه وخفف عنهم ونسخها بقوله: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى «1» الآية. وكان بين أوّل السورة وآخرها سنة.
وقال سعيد بن جبير: لمّا نزل قوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ مكث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله تعالى، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله سبحانه بعد عشر سنين إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى «2» الآية. فخفف عنهم بعد عشر سنين.
وقال مقاتل وابن كيسان: كان هذا قبل أن يفرض الصلوات الخمس، ثمّ نسخ ذلك بالصلوات الخمس. وقال ابن عباس: لما نزل أول المزمّل كانوا يقومون نحو من قيامهم في شهر رمضان، وكان بين أولها وآخرها سنة.
وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة، قالت:
كنت أجعل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصيرا يصلّي عليه من الليل، فتسامع الناس به، فاجتمعوا فلمّا تكثر جماعتهم، كره ذلك وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فدخل البيت كالمغضب، فجعلوا يتنحنحون ويشتغلون حتّى خرج إليهم، فقال: «يا أيّها الناس اكلفوا «3» من الأعمال ما تطيقون، فإنّ الله لا يملّ من الثواب حتّى تملّوا من العمل وإنّ خير العمل أدومه وان قلّ» [42] «4» فنزلت عليه: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ فكتبت عليهم وأنزلت بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به، فمكثوا ثمانية أشهر، فلمّا رأى الله ما يكلّفون ويبتغون به وجه الله ورضاه رحمهم فوضع ذلك عنهم فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ الآية. فردّهم إلى الفريضة ووضع عنهم قيام الليل إلّا ما تطوعوا به.
وقال الحسن: في هذه الآية الحمد لله تطوع بعد فريضة.
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. قال الحسن: اقرأه قراءة، بيّنه تبيانا، وعنه أيضا: اقرأه على
__________
(1) سورة المزمل: 20.
(2) سورة المزمل: 20.
(3) أكلفوا: تحمّلوا: النهاية لابن الأثير.
(4) تفسير القرطبي: 19/ 37.(10/59)
هينتك ثلاث آيات وأربعا وخمسا. قتادة: تثبت فيه تثبيتا. ابن كيسان: تفهّمه تاليا له. وقيل:
فصّله تفصيلا ولا تعجل في قراءته، وهو من قول العرب: ثغّر رتّل ورتل إذا كان مفلجا. أبو بكر ابن طاهر: دبّر في لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالإقبال عليه.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك، قال: حدّثنا عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدّثنا عبد الرحمن عن سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرأها» [43] «1» .
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قال الحسن: إنّ الرجل ليهدّ السورة ولكن العمل به ثقيل.
وقال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده. ابن عباس: شديدا. أبو العالية: ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام. محمد بن كعب: ثقيلا على المنافقين. الفرّاء: ثَقِيلًا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربّنا. عبد العزيز بن يحيى: مهيبا، ومنه يقال للرجل العاقل: هو رزين راجح.
وسمعت الأستاذ أبا القيّم بن جندب يقول: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول: سمعت الحسين بن الفضل وسئل عن هذه الآية، فقال: معناها إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا خفيفا على اللسان ثَقِيلًا في الميزان. وقال أبو بكر بن طاهر: يعني قولا لا يحمله إلّا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزيّنة بالتوحيد. وقال القيّم: في هذه الآية سماع العلم من العالم مرّ واستعماله ثقيل لكنه يأتي بالفرح إذا استعمله العبد على جد السنّة وتمام الأدب. وقيل: عنى بذلك أن القرآن عليه ثقيل محمله. قال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا يثقل في الموازين يوم القيامة.
أخبرنا أبو الحسين ابن أبي الفضل القهندري، قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا محمد بن يحيى فقال: وفيما قرأت على عبد الله عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الحرث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّ عليّ فينفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل الملك رجلا فأعرف ما يقول» [44] «2» .
قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وان جبينه ليرفض عرقا.
__________
(1) فتح الباري: 13/ 349، السنن الكبرى: 5/ 22، ح 8056.
(2) مسند أحمد: 6/ 158، تفسير القرطبي: 19/ 39.(10/60)
وأخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى العبدي، قال: حدّثنا أحمد بن نجدة، قال: حدّثنا يحيى الحماني، قال: حدّثنا ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فيضرب بجرافها.
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي ساعاته كلّها، وكل ساعة منه فهي ناشئة سميت بذلك لأنها تنشأ، ومنه نشأت السحابة إذا بدت أنشأها الله وجمعها ناشيات.
أنبأني عقيل، قال: أخبرنا المعافى، قال: أخبرنا ابن جرير، قال: حدثني يعقوب، قال:
حدّثنا ابن عليّة قال: أخبرنا حاتم بن صفيرة، قال: قلت لعبد بن أبي مليكة: ألا تحدثني أيّ الليل ناشئة؟ فقال: على الثبت سقطت سألت عنها ابن عباس فزعم أنّ الليل كلّه ناشئة. وسألت ابن الزبير عنها فأخبرني مثل ذلك. وقال سعيد بن جبير وابن زيد: أي ساعة قام من الليل فقد نشأ، وهو بلسان الحبش نشأ إذا قام. وقال عكرمة: ما قمت من أوّل الليل فهو ناشئة.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة، قال: حدّثنا ابن أيوب، قال: حدّثنا ابن أبي زياد، قال: حدّثنا سيار، قال: حدّثنا جعفر عن الجرير عن بعض أشياخه عن عليّ بن الحسين أنّه كان يصلّي بين المغرب والعشاء ويقول: أما سمعتم قول الله سبحانه: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هذا ناشئة الليل.
وقال أبو مجلد وقتادة: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة. وقال عبيد بن عمير: قلت لعائشة:
رجل قام من أوّل الليل أيقال له قام ناشئة؟ قالت: لا، إنّما الناشئة القيام بعد النوم. وقال يمان وابن كيسان: هي القيام من آخر الليل.
هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قرأ أبو عمرو وابن عامر وابن محيص: وِطأ بكسر الواو ممدودا، واختاره أبو عبيد على معنى المواطاة والموافقة، وهو أن يواطئ قلبه وسمعه وبصره لسانه. وقرأ الباقون بفتح الواو مقصورا، أي فراغا للقلب. قال ابن عباس: كانت صلواتهم أوّل الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً، يقول: هو أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من القيام، وذلك أنّ الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ.
وقال قتادة: أثبت في الخير أحفظ للقراءة. الفرّاء: أثبت قياما. القرطبي: أشدّ على المصلّي من صلاة النهار، دليله
قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ أشدد وطأتك على مضر» [45] .
ابن زيد: أفرغ له قلبا من النهار، لأنّه لا تعرض له حوائج ولا شيء. الحسن، أَشَدُّ وَطْئاً في الخير وأمنع من الشيطان.
وَأَقْوَمُ قِيلًا وأصوب قراءة، وعبادة الليل أشدّ نشاطا وأتم إخلاصا وأكثر بركة.(10/61)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
[سورة المزمل (73) : الآيات 7 الى 20]
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11)
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا قراءة العامة: بالحاء غير معجمة، أي فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك، وأصل السبح سرعة الذهاب. ومنه السباحة في الماء، وفرس سابح شديد الجري. قال الشاعر:
أباحوا لكم شرق البلاد وغربها ... ففيها لكم يا صاح سبح من السبح
وقرأ يحيى بن يعمر: سبخا بالخاء المعجمة، أراد خفة وسعة واستراحة، ومنه
قول النبيّ لعائشة وقد دعت على سارق سرقها: «لا تسبخي عنه بدعائك عليه»
[46] أي لا تخففي، والتسبيخ توسيع القطن والصوف وتنفيشها، يقال للمرأة: سبّخي قطنك، ويقال لقطع القطن إذا ندف: سابخ.
قال الأخطل يصف القناص والكلاب:
فأرسلوهن يذرين التراب كما ... يذري سبائخ قطن ندف أوتار «1»
قال تغلب: السبح التردد والاضطراب والسبخ السكون ومنه
قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحمى من قيح جهنم فسبّخوها بالماء»
[47] «2» أي سكنوها.
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بالتوحيد والتعظيم، وقال سهل اقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في ابتداء صلواتك توصلها بركة قرابها إلى ربّك وتقطعك عن كل ما سواه.
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا قال ابن عباس وأكثر الناس: أخلص إليه إخلاصا. الحسن: اجتهد.
ابن زيد: تفرّغ لعبادته. شفيق: توكل عليه توكلا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 43. [.....]
(2) تفسير القرطبي: 19/ 43.(10/62)
وسمعت محمد بن الحسن السليمي، يقول: سمعت منصور بن عبد الله، يقول: سمعت أبا القيّم البزاز يقول: قال ابن عطاء: انقطع إليه انقطاعا، وهو الأصل في هذا الباب، يقال:
بتلت الشيء أي وقطعته، وصدقة بتة بتلة أي بائنة مقطوعة من صاحبها لا سبيل له عليها، ودار تبتيل أي منقطعة عن الدور، قال امرؤ القيس:
تضيء الظلام بالعشاء كأنّها ... منارة ممسى راهب متبتّل
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبتّل
ومنه قيل لمريم العذراء البتول.
وقال أبو القيّم: اتصل به اتصالا ما رجع من رجع إلّا من الطريق، ما وصل إليه أحد فرجع عنه.
محمد بن عليّ: ارفع اليدين في الصلاة.
زيد بن أسلم: التبتل: رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله «1» .
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وأيوب وحفص برفع الباء على الابتداء. وقيل: على إضمار هو، وقرأ الباقون بالخفض على نعت الربّ في قوله سبحانه:
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ الآية.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا قيّما بأمورك ففوّضها إليه وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا نسختها آية القتال.
أخبرني الحسن قال: حدّثنا السني، قال: حدّثنا حاتم بن شعيب، قال: حدّثنا سريح بن يونس، قال: حدّثنا سعيد بن محمد الورّاق عن الأحوص بن حكيم عن أبيه عن أبي الزاهرية أنّ أبا الدرداء قال: إنا لنكشّر في وجوه أقوام ونضحك إليهم، وإنّ قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم.
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا نزلت في صناديد قريش المكذبين المشتهرين. وقال مقاتل بن حيان: نزلت في المطعمين ببدر وهم عشرة- ذكرناهم في الأنفال- والنعمة التنعم والنعمة المروة والمنّة أيضا، والنعمة بضم النون: الميسرة يقال: نعم ونعمة عيّن ونعمى عين.
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا عندنا في الآخرة قيودا عظاما لا تفكّ أبدا واحدها نكل، قال الشعبي:
ترون أن الله يجعل الأنكال في أرجل أهل النار لأنّه خشي أن يفروا؟ ولكن إذا أراد أن يرتفعوا استفلت بهم. وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ غير سائغة تأخذ بالحلق لا هو نازل ولا هو خارج وهو الغسلين والزقوم والضريع. وَعَذاباً أَلِيماً.
أخبرني عقيل: أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدّثنا أبو كريب، قال: حدّثنا
__________
(1) راجع تفسير القرطبي: 19/ 44.(10/63)
وكيع عن حمزة الزيّات عن حمران بن أعين أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ فصعق.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا ابن ماجة، قال: حدّثنا الحسن بن أيوب، قال: حدّثنا عبد الله بن أبي زياد، قال: حدّثنا سيار، قال: حدّثنا صالح، قال: حدّثنا خالد بن حسان، قال: أمسى عندنا الحسن وأمسى صائما، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً فقال: ارفع الطعام، فلما كانت الليلة الثانية أتيناه أيضا بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعه، فلمّا كانت الليلة الثالثة أتيته فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعوا، فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم بحديثه، فجاءوا معه فلم يزالوا به حتّى شرب شربة من سويق. يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي تتحرك وتضطرب بمن عليها وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً وهو الرمل المجتمع مَهِيلًا سائلا متناثرا إذا مسّته تتابع، وأصله مهيول وهو مفعول من قول القائل: هلت الرمل فأنا أهيله، وذلك إذا حرّك أسفله فانهال عليه من أعلاه، يقال: مهيل ومهيول ومكيل ومكيول ومعين ومعيون،
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم يشكون الجدوبة: «أتكيلون أم تهيلون» ؟
قالوا: نهيل.
قال: «كيلوا ولا تهيلوا» [48] «1» .
وقال الشاعر:
وإخال أنّك سيّد معيون «2»
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا شديدا صعبا ثقيلا، ومنه يقال: كلأ مستوبل وطعام مستوبل إذا لم يستمرأ، ومنه الوبال وقالت الخنساء:
لقد أكلت بجيلة يوم لاقت ... فوارس مالك أكلا وبيلا «3»
وتقول العرب: لقد أوبل عليه الشراء أي توبع.
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ أي فكيف لكم بالتقوى في القيامة إذا كفرتم في الدنيا، يعني:
لا سبيل لكم إلى التقوى ولا تنفعكم التقوى إذا وافيتم القيامة. وقيل: معناه فكيف تتّقون عذاب يوم، وكيف تنجون منه إذا كفرتم. وقرأ ابن مسعود وعطيّة: فكيف يتّقون يوما يجعل الولدان شيبا أن كفرتم.
__________
(1) الفائق في غريب الحديث: 3/ 416.
(2) الصحاح: 6/ 2171.
(3) تفسير القرطبي: 19/ 49.(10/64)
وقرأ أبو السماك العدوي: فكيف يتّقون بكسر النون على الإضافة.
يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ الصبيان شِيباً شمطا من هوله وشدّته وذلك حين يقال لآدم: قم فابعث بعث النار من ذرّيتك.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر، قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي الخطيب، قال: حدثني محمد بن غالب، قال: سمعت عثمان بن الهيثم، يقول: مررت بابن السري وهو قائم في الطريق، فسأله إنسان يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً، قال: هم أولاد الزنا.
وقيل: أولاد المشركين.
السَّماءُ مُنْفَطِرٌ مثقل مشقق بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا إِنَّ هذِهِ السورة أو هذه الآيات تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بالإيمان والطاعة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى أقرب مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ روى هشام عن أهل الشام ثُلْثَيِ مخفف غير مشبع وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ نصبها أهل مكة والكوفة على معنى وتقوم نصفه وثلثه، وخففهما الباقون عطفا على ثُلُثَيِ ... وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ أيضا يقومونه.
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ تطيقوا قيام الليل فَتابَ عَلَيْكُمْ تجاوز عنكم ورجع لكم إلى التخفيف عليكم فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ قال السدي: مائة آية. قال الحسن: من قرأ مائة آية في ليله لم يحاجّه القرآن. وقال كعب: من قرأ في ليله مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسون آية. وروى الربيع بن صبيح عن الحسن: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ قال: يعني في صلاة المغرب والعشاء.
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فسوى بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعلى العيال وللإحسان والإفضال.
أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا ابن سلم، قال: حدّثنا أبو بكر بن عبد الخالق، قال:
حدّثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد الحجاج، قال: حدثني أبو الفتح، قال: قال أبو نصر بشر بن الحرث، قال: حدّثنا المعافى بن عمران وعيسى بن يونس عن فرقد السبخي عن إبراهيم عن ابن مسعود، قال: أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله سبحانه بمنزلة الشهداء، ثمّ قرأ عبد الله وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا موسى بن محمد بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن عثمان ابن أبي شيبة، قال: حدّثنا عبد الحميد بن صالح، قال: حدّثنا أبو عقيل عن القيّم بن عبيد الله(10/65)
عن أبيه، قال: سمعت ابن عمر، يقول: ما خلق الله عزّ وجلّ موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحبّ إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله.
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ
سمعت محمد بن الحسن السلمي، يقول: سمعت منصور بن عبد الله، يقول: سمعت أبا القيّم الأسكندراني، يقول: سمعت أبا جعفر الملطي، يقول: عن عليّ ابن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد في هذه الآية، قال: ما تَيَسَّرَ لكم مِنْهُ خشوع القلب وصفاء السر [49] «1» .
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً من الشح والتقصير وَأَعْظَمَ أَجْراً من ذلك الذي قدّمتموه لو لم تكونوا قدّمتموه، ونصب خَيْراً وَأَعْظَمَ على المفعول الثاني، وهو فصل في قول البصريين، وعماد في قول الكوفيين لا محل له من الإعراب. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 169.(10/66)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
سورة المدثر
مكّية، وهي ألف وعشرة أحرف، ومائتان وخمسون كلمة، وست وخمسون آية
أخبرني محمد بن القاسم بن أحمد قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: حدّثنا أبو عمر والخيري وعمرو بن عبد الله البصري قالا: حدّثنا محمد بن عبد الوهاب قال: حدّثنا أحمد ابن عبد الله بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المدثر أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بمحمد وكذبه بمكة» [50] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ: أي المدّثّر في قطيفه.
أخبرنا ابو نعيم الاسفرائيني، بها قال: أخبرنا أبو عمران بن موسى بن العباس الارادواري بها، قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي ببيروت قال: أخبرني أبي قال: حدّثنا أبو عمرو الأوزاعي قال: حدّثنا، أبو نصر يحيى ابن أبي كبير العطار اليماني قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أي القرآن أنزل قبل؟ قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني جاورت بحراء شهرا فلما قضت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت بين يدي وخلفي وعن يميني وشمالي فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء فأخذتني وحشة، فأمرتهم فدثّروني فأنزل الله سبحانه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، حتى بلغ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» [51] «2» .
وأخبرنا أبو نعيم قال: حدّثنا أبو عمران قال: حدّثنا جعفر بن عامر البغدادي قال: حدّثنا سعد أبو محمد قال: حدّثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 171.
(2) صحيح مسلم: 1/ 99. بتفاوت.(10/67)
أخبرني جابر بن عبد الله إنّ أوّل شيء نزل من القرآن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وقال جابر: ألا أخبرك ما سمعت عن النبي (عليه السلام) سمعته يقول: «جاورت بحراء فلما قضيت جواري أقبلت في بطن الوادي فناداني مناد فنظرت عن يميني وشمالي وخلفي وأمامي فلم أر شيئا، ثم ناداني فنظرت فوقي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض فجثثت منه فرقا فأقبلت إلى خديجة، فقلت: دثروني وصبّوا عليّ ماءا باردا فأنزل الله سبحانه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» [52] «1» .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن يزيد الصيرفي قال: حدّثنا عليّ بن حرب الموصلي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن يحيى المدني عن يونس عن الزهري قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: أخبرني جابر أنه سمع رسول الله (عليه السلام) يقول: «فنزعني الوحي مرّة فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي أتاني بحراء قاعد على الكرسي بين السماء والأرض فجثثت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت زمّلوني فأنزل الله سبحانه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» [53] «2» .
قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قال: عكرمة سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال: معناه لا يلبسها على معصية ولا على غدرة ثم قال: قول غيلان بن سلمة الثقفي:
إني بحمد لله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
والعرب تقول للرجل إذا وفي وصدق: إنه طاهر الثياب، وإذا غدر ونكث: إنه لدنس الثياب.
وقال أبي بن كعب: لا يلبسها على غدر ولا على ظلم ولا على أكم «3» البسها وأنت طاهر، وقال قتادة وإبراهيم والضحاك والشعبي والزهري ويمان: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ من الذنب والإثم والمعصية، وقال أهل المعاني: أراد طهّر نفسك عن الذنوب فكنى عن الجسم بالثياب لأنها تشتمل عليه، كقول عنترة:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم «4»
أي نفسه، وقال آخر:
ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم بيض المسافر غران «5»
__________
(1) جامع البيان للطبري: 29/ 179.
(2) سنن الترمذي: 5/ 100، أسباب نزول الآيات: 7. بتفاوت.
(3) الأكم: المتّسخ قال أبو نخيلة: بين النقاء والأكم المستأكم، لسان العرب: 12/ 21.
(4) لسان العرب: 4/ 506.
(5) لسان العرب: 1/ 246.(10/68)
أي أنفس بني عوف.
وقال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحا: إنّه لطاهر الثياب، وإذا كان فاجرا: إنه لخبيث الثياب. قال الشاعر:
لا هم إن عامر بن جهم ... أو ذم حجا في ثياب دسم «1»
يعني متدنس بالخطايا.
أبو زوق عن الضحاك: وعملك فأصلح، وهي رواية فضيل بن عياض عن منصور عن مجاهد.
سعيد بن جبير: وقلبك وبيتك فطهّر، ودليل هذا التأويل قول امرؤ القيس:
وإن تك قد ساءتك منّي خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل «2»
أي قلبي من قلبك.
وقال الحسن والمقرظي: وخلقك فحسّن، ودليلهما قول الشاعر:
ويحيى لا يلام بسوء خلق ... ويحيى طاهر الأثواب حر «3»
أي حسن الأخلاق.
عطية عن ابن عباس: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائل، وقال ابن زيد وابن شريك نقّ ثيابك واغسلها بالماء وطهّرها من النجاسة وذلك أنّ المشركين كانوا لا يتطهرون فأمره أن يطهّر ثيابه.
قال الفراء: وسمعت بعضهم يقول: طهّرها بالأشنان.
وقال طاوس: وثيابك فقصّر وشمّر، لأن تقصير الثياب طهرة لها، وقيل: وأهلك فطهّره من الخطايا بالوعظ والتأديب والعرب تسمّي الأهّل ثوبا ولباسا وإزارا، وقد مضى ذكره. يحيى ابن معاد: طهّر قلبك من مرض الخطايا وأشغال الدنيا تجد حلاوة العبادة، فإن من لم يصن الجسم لا يجد شهوة الطعام، وقيل: طهّر قلبك عما سوى الله.
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قرأ الحسن وعكرمة ومجاهد وحميد وأبو جعفر وشيبة ويعقوب (وَالرُّجْزَ) بضم الراء ومثله روى الفضل وحفص عن عاصم واختاره أبو حاتم وقرأ الباقون بكسر الراء واختاره أبو عبيد قال لأنها أفشى اللغتين وأكثرهما، وهما لغتان لمعنى واحد.
__________
(1) الصحاح: 5/ 2050. والدسم: المتلطّخ بالذنوب. [.....]
(2) تفسير ابن كثير: 4/ 470. والدسم: المتلطّخ بالذنوب.
(3) تفسير القرطبي: 19/ 64.(10/69)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
قال ابن عباس: اترك المأثم، مجاهد وقتادة وعكرمة والزهري وابن زيد: والأوثان فاهجر ولا تقربها وهي رواية الوالبي عن ابن عباس، وقيل الزاي فيه منقلبة عن السين والعرب تعاقب بين الزاي والسين لقرب مخرجهما ودليل هذا التأويل قوله سبحانه: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» .
أبو العالية والربيع: الرجز بالضم الصّنم، وبالكسر: النجاسة والمعصية، وقال الضحاك:
يعني الشرك، ابن كيسان: يعني الشيطان، وقال الكلبي: يعني العذاب، ومجاز الآية: أهجر ما أوجب لك العذاب من الأعمال، وقيل: أتسقط حب الدنيا عن قلبك فإنها رأس كلّ خطيئة، وقيل: ونفسك فخالفها.
وَلا تَمْنُنْ قراءة العامة بإظهاره التضعيف وقرأ أبو السماك العدوى ولا تمنّ مدغمة مفتوحة مؤكدة تَسْتَكْثِرُ قرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو ردي لأنه ليس بجواب.
وقرأ الأعمش بالنصب على توهّم لام كي كأنه قال: لتستكثر، وقرأ الآخرون بالرفع واختلفوا في معنى الآية فقال أكثر المفسرين ولا تعط شيئا لتعطى أكبر منه، قال قتادة: لا تعط شيأ طمعا لمجازاة الدنيا ومقارضتها، القرظي: لا تعط مالك مصانعة، قال الضحاك ومجاهد:
كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقال الضحاك: هما رياءان: حلال وحرام، فأما الحلال فالهدايا وأما الحرام فالربا.
وقال الحسن: وَلا تَمْنُنْ على الله بعملك فتستكثره، الربيع: لا يكثرن عملك في عينك فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل، ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك أنّما عملك منّة من الله سبحانه عليك، إذ جعل لك سبيلا إلى عبادته [فله] «2» بذلك الشكر أن هداك له، خصيف عن مجاهد: ولا تضعف أن تستكثر من الخير من قولهم: حبل متين إذا كان ضعيفا، ودليله قراءة ابن مسعود ولا تمنن أن تستكثر، وقال ابن زيد: معناه ولا تمنّ بالنبوة على الناس فنأخذ عليها منهم أجرا وعرضا من الدنيا. زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربّك واصبر حتى يكون هو الذي يثيبك عليها، وقال مجاهد: واصبر لله على ما أوذيت، ابن زيد: حملت أمرا عظيما محاربة العرب ثم العجم فاصبر عليه لله، وقيل: على أوامر الله ونواهيه، وقيل: فَاصْبِرْ تحت موارد القضاء لأجل الله، وقيل: فارق الملامة والسآمة، وقيل: فَاصْبِرْ على البلوى فإنه يمتحن أحباءه وأصفياءه.
[سورة المدثر (74) : الآيات 8 الى 31]
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12)
وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27)
لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)
__________
(1) سورة الحج: 30.
(2) في المخطوط: فعليه.(10/70)
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي نفخ في الصّور.
حدثنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الحفوظي قال: حدّثنا عبد الله بن هشام قال: حدّثنا أسباط بن محمد القرشي عن مطرف عن عطية عن ابن عباس في قوله سبحانه: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يستمع متى يؤمر فينفخ» [54] «1» وقال أصحاب رسول الله كيف نقول؟
قال: «قولوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» [55] «2» .
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ أخبرنا أبو جعفر [محمد] الحلقاني «3» قال: حدّثنا أبو العباس أحمد بن هارون الفقيه قال:
حدّثنا عمران بن موسى قال: حدّثنا هدية بن خلد القيسي، قال: حدّثنا أبو حباب القصاب قال:
أمّنا زرارة بن أوفى فلما بلغ فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ الآية: خرّ ميتا «4» .
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ أي خلقته في بطن أمه وَحِيداً فريدا لا مال له ولا ولد. نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي. قال ابن عباس وكان يسمى: الوحيد في قومه.
وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أي كثيرا وقيل: ما يمدّ بالنماء كالزرع والضرع والتجارة واختلفوا في مبلغه. فقال: مجاهد وسعيد بن جبير: ألف دينار. قتادة: أربعة آلاف دينار. سفيان الثوري: ألف ألف. النعمان بن سالم: كان ماله أرضا. ابن عباس: سبعة آلاف مثقال فضة.
مقاتل: كان له بستانا بالطائف لا ينقطع ثماره شتاء ولا صيفا، دليله وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «5» .
__________
(1) مسند أحمد: 1/ 326.
(2) مسند أحمد: 1/ 326.
(3) كذا في المخطوط ولعله: الزرقاني.
(4) تفسير القرطبي: 19/ 70، وتفسير الثعالبي: 5/ 512.
(5) سورة الواقعة: 30.(10/71)
وروى ابن جريح عن عطاء عن عمر في قوله سبحانه: وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً قال:
غلّة شهر. بشهر.
وَبَنِينَ شُهُوداً حضورا معه بمكة لا يغيبون عنه. قال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولدا. مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. مقاتل: كانوا سبعة كلّهم رجال، وهم: الوليد بن الوليد وخالد بن الوليد وعماره بن الوليد وهشام بن الوليد والعاص بن الوليد وقيس بن الوليد وعبد شمس بن الوليد، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة، قالوا: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك.
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي بسطت له في العيش بسطا، وقال ابن عباس: يعني المال بعضه على بعض كما تمهد الفرش ثُمَّ يَطْمَعُ يرجو أَنْ أَزِيدَ مالا وولدا أو تمهيدا في الدنيا كَلَّا قطع الرجاء عمّا كان يطمع فيه ويكون متّصلا بالكلام الأوّل وقيل: قسم أي حقا وتكون ابتداء آية.
إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً معنادا سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأكلّفه مشقّة من العذاب لا راحة له منها.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن سعيد قال: حدّثنا أحمد بن صالح قال: حدّثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي (عليه السلام) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قال: «هو جبل في النار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت وإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت» [56] «1» .
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ الآيات، وذلك
أن الله سبحانه لما أنزل على النبي (عليه السلام) حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ «2» قرأها النبي (عليه السلام) في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي (عليه السلام) لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حذاء مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق وإنّه يعلو وما يعلى.
ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبا والله الوليد والله ليصبأنّ قريش كلّهم وكان يقال للوليد: ريحانة قريش، فقال: لهم أبو جهل أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينا، فقال: له الوليد ما لي أراك حزينا يا ابن أخي، قال: وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 472.
(2) سورة غافر: 1- 2- 3.(10/72)
لك نفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنّك [تؤمن] بكلام محمد وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم، فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني أكثرهم مالا وولدا وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال لهم: تزعمون أن محمدا مجنونا فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه يتكهّن قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا. قال: تزعمون أنه كذّاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ قالوا: لا، وكان رسول الله (عليه السلام) يسمّى: الأمين قبل النبوة من صدقه.
فقالت: قريش: فما هو؟ فتفكّر في نفسه ثم نظر وعبس فقال: ما هو إلّا ساحرا، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر، وما يقوله سحر.
فذلك قوله سبحانه إِنَّهُ فَكَّرَ في محمد والقرآن وَقَدَّرَ في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما. فَقُتِلَ لعن، وقال الزهري: عذّب كَيْفَ قَدَّرَ على طريق التعجّب والإنكار والتوبيخ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ كلح ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا ما هذا الذي يقرأه محمد إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يروى ويحكى.
إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ يعني يسارا وجبرا فهو مأثرة عنهما. وقيل: يرويه عن مسيلمة صاحب اليمامة، وقيل: يرويه عن أهل بابل.
سَأُصْلِيهِ سأدخله سَقَرَ لم يصرفه، لأنه اسم من أسماء جهنم.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا سعدان قال: حدّثنا أحمد بن صالح قال: حدّثنا ابن وهب قال: أخبرنا عمرو أن أبا السمح حدّثه عن ابن حجرة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال موسى لربّه عزّ وجلّ: أي عبادك أفقر؟ قال: صاحب سقر» [57] «1» .
وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ فيها شيئا إلّا أكلته وأهلكته قال مجاهد: يعني لا تميت ولا تحيي يعني أنها لا تُبْقِي من فيها حيّا وَلا تَذَرُ من فيها ميتا، ولكنها تحرقهم كلّما جدد خلقهم، وقال السدي: لا تُبْقِي لهم لحما وَلا تَذَرُ لهم عظما، وقال الضحاك: إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئا وإذا أعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم، ولكل شيء فترة وملالة إلّا لجهنم.
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ مغيّرة للجلود. تقول العرب: لاحته الشمس ولوّحته. قال الشاعر:
تقول لشيء لوحته السمائم «2»
وقال رؤبة:
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 77.
(2) فتح القدير: 5/ 327 ومطلعه: وتعجب هذا أن رأتني شاحبا.(10/73)
لوح منه بعد بدّن وسق ... تلويحك الضامر يطوى للسبق «1»
قال مجاهد: يلفح الجد فتدعه أشدّ سوادا من الليل، وقال ابن عباس وزيد ابن أسلم:
محرقة للجلد، وقال الحسن وابن كيسان: يعني تلوح لهم جهنم متى يروها عيانا. نظيره وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ «2» ، ولَوَّاحَةٌ رفع على النعت، سقر في قوله وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ وقرأ عطية العوفي في لَوَّاحَةً لِلْبَشَرِ بالنصب والبشر جمع بشره وجمع البشر أبشار.
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ من الخزنة ويحتمل أن يكونوا تسعة عشر صنفا ويحتمل أن يكونوا تسعة عشر صفا، ويحتمل أن يكونوا تسعة عشر نقيبا، ويحتمل أن يكونوا تسعة عشر ملكا بأعيانهم وعلى هذا أكثر المفسّرين. ولا يستنكر هذا فإن ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلق كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلق.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن لؤلؤ قال: أخبرنا الهيثم بن خلف قال: حدّثنا إبراهيم ابن إبراهيم قال: حدّثنا حجاج بن جريح قال: حدّثنا مرفوعا إلى النبي (عليه السلام) «إنّه نعت خزنة النار فقال: كأن أعينهم البرق، وكإن أفواههم الصياصي يجرّون أشعارهم، لأحدهم من القوة مثل قوة الثقلين يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرميهم في النار، ويرمي بالجبل عليهم» [58] «3» .
وقال عمرو بن دينار: إن واحدا منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. قال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل: لقريش ثكلتكم أمهاتكم اسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم ألدّهم- أي الشجعان- أفتعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم، فقال أبو الاشدين كلدة بن خلف بن أسد الجمحي: أنا أكفيكم منهم سبعة عشرة على ظهري وسبعة على بطني واكفوني أنتم اثنين.
فأنزل الله سبحانه وتعالى وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً لا رجالا إذ من فمن ذا يغلب الملائكة وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ عددهم إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لتكذيبهم بذلك وقول بعضهم أنا أكفيكموه. لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لأنّه مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر.
وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك ونفاق قاله أكثر المفسرين، وقال الحسين بن الفضل: السورة مكيّة ولم يكن بمكة البتة نفاق فالمرض في هذه الخلاف لا النفاق.
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 78. [.....]
(2) سورة الشعراء: 91.
(3) تفسير القرطبي: 19/ 79.(10/74)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا إنما قاله مشركو مكّة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ جموع ربك إِلَّا هُوَ قال مقاتل: هذا جواب أبي جهل حين قال:
أما لمحمد أعوان إلّا تسعة عشر.
أخبرنا الحسين قال: حدّثنا عمران أحمد بن القاسم قال: حدّثنا محمد بن أحمد الصباح قال: حدّثنا محمد بن عبيدة الوراق أبو مخدورة قال: حدّثنا حسين بن الحسن الأشقر قال:
حدّثنا هاشم عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسّم غنائم حنين وجبرئيل إلى جنبه، فأتاه ملك فقال: إنّ ربّك يأمرك بكذا وكذا قال: فخشي النبي عليهم أن يكون شيطان فقال: «يا جبريل أتعرفه» [59] «1» قال: هو ملك، وما كل ملائكة ربّك أعرف.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا عبد بن مرداس قال: حدّثنا سلمة ابن شعيب قال: حدّثنا عبد القدوس قال: سمعت الأوزاعي يقول: قال موسى عليه السلام: يا ربّ من معك في السماء؟ قال: ملائكتي، قال: كم عددهم؟ قال: إثنا عشر سبطا، قال: كم عدة كل سبط؟ قال: عدد التراب.
وَما هِيَ يعني النار إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ عضة للناس.
[سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 56]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ يعني ولّى ذاهبا، واختلفت القراءة فيه فقرأ ابن محيصن ونافع وحمزة وخلف ويعقوب وحفص إِذْ بغير ألف. أَدْبَرَ بالألف، غيرهم هم ضده، واختاره أبو عبيد قال: لأنها أشدّ موافقه للحرف الذي يليه، ألا تراه قال: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ فكيف يكون في أحدهما إذا وفي الآخر إذ، وأبو حاتم قال: لأنه ليس في القرآن لجنبه إذ وأنما الأقسام بجنبها إذا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 83.(10/75)
قال قطرب من قرأ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ: يريد أقبل، من قول العرب دبر فلان أي جاء خلفي، فكأنّه دبر خلف النهار. قال أبو الضحى: كان ابن عباس يعيب على من يقرأ دبر ويقول:
إنما يدبّر ظهر البعير، وقال الفراء: هما لغتان دبّر وأدبر. قال الشاعر:
صدعت غزالة قلبه بفوارس ... تركت مسامعه كأمس الدابر «1»
وقال أبو عمرو: دبّر لغة قريش.
وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ قرأه العامة بالألف أي أضاء وأقبل، وقرأ ابن السميع وعيسى ابن الفضل سفر بغير ألف، وهما لغتان يقال: سفر وجه فلان وأسفر، إذا أضاء، ويجوز أن يكون من قولهم: سفرت المرأة إذا ألقت خمارها عن وجهها، ويحتمل أن يكون معناه نفي الظلام كما سفر البيت أي يكنس ويقال للمكنسة المسفرة.
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ يعني أن سفر لإحدى الأمور العظام وواحد الكبر كبرى: نَذِيراً لِلْبَشَرِ يعني أنّ النار نذير للبشر قال الحسن: والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها، وهو نصب على القطع من قوله: لَإِحْدَى الْكُبَرِ لأنها معرفة ونَذِيراً نكرة.
قال الخليل: النذير مصدر كالنكير، فلذلك وصف به المؤنث، وقيل: هو من صفة الله سبحانه مجازه: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ... ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ أي إنذارا لهم. قال أبو رزين:
أنا لكم منها نذير فاتقوها، وقيل: هو صفة محمد (عليه السلام) ، ومعنى الكلام: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قم نَذِيراً لِلْبَشَرِ فأنذر، وهو معنى قول ابن زيد، وقرأ إبراهيم عن أبي غيلة نذيرٌ للبشر بالرفع على إضمار هو.
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ في الخير والطاعة أَوْ يَتَأَخَّرَ عنها في الشر والمعصية نظيره ودليله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ يعني في الخير وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ عنه قاله الحسن، وهذا وعيد لهم كقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «2» يعني أنّه نذير لهما جميعا. كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ مرتهنة بكسبها مأخوذة بعملها. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فإنهم لا يحاسبون ولا يرتهنون بذنوبهم ولكن يغفرها الله لهم ويتجاوزها عنهم كما وعدهم. قال قتادة: غلق الناس كلّهم إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ واختلفوا فيهم.
فأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن [شنبه] «3» قال: حدّثنا رضوان بن أحمد قال: حدّثنا أحمد بن عبد الجبار قال: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي اليقظان عن زاذان عن علي في قوله: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ قال: هم أطفال المسلمين.
__________
(1) بلاغات النساء: 129. وفيه: مناظره كأمس الدائر، وفي تاريخ دمشق (43/ 497) : قرعت العابر.
(2) سورة الكهف: 29.
(3) غير مقروءة في المخطوط والظاهر ما أثبتناه.(10/76)
تدل عليه ما
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حسن قال: حدّثنا البغوي قال: حدّثنا علي ابن الجعد قال: أخبرنا أبو عقيل عن نهيّة عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المؤمنين أين هم؟ قال: في الجنة وسألته عن ولدان المشركين فقال: إن شئت سمّعتك تضاغيهم في النار [60] «1» .
وقال أبو ظبيان: عن ابن عباس: هم الملائكة،
وروى أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر قال: نحن وشيعتنا أصحاب اليمين
، وقال مقاتل: هم أهل الجنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق حين قال لهم الله سبحانه: هؤلاء في الجنة ولا أبالي.
وقال الحسن: هم المسلمون المخلصون، وعنه أيضا: هم الذين كانوا ميامين على أنفسهم. ابن كيسان هم المؤمنون الصالحون ليسوا مرتهنين لأنهم أدّوا ما كان عليهم. يمان: هم الذين أمكنوا رهونهم، وقال الحكيم: هم الذين أختار الله سبحانه بخدمته فلم يدخلوا في الرهن، لأنهم خدّام الله سبحانه وصفوته وكسبهم لم يضرهم، وقال القاسم: كلّ نفس مأخوذة بكسبها من خير وشر إلّا من اعتمد الفضل والرحمة دون الكسب والخدمة فكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به ومن اعتمد على الفضل فإنّه غير مأخوذ.
وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمرو البخاري يقول: في قوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ قال: فأين الفرار من القدر وكيف القرار على الخطر؟.
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ المشركين ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ في الباطل. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ يعني الموقن به وهو الموت.
قال الله سبحانه وتعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ قال عبد الله بن مسعود: يشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلّا أربعة ثم تلا قوله سبحانه: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلى قوله بِيَوْمِ الدِّينِ قال الحسن: كنا نتحدّث أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن ماهان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد قال: حدّثنا ثابت عن الحسن أن رسول الله (عليه السلام) قال:
«يقول الرجل من أهل الجنة يوم القيامة أي ربي عبدك فلان سقاني شربة من الماء في الدنيا فشفّعني فيه، فيقول اذهب فأخرجه من النار فيذهب فيتجسس النار حتى يخرجه منها» [61] «2» .
__________
(1) فتح الباري: 3/ 195.
(2) تفسير مجمع البيان: 10/ 188.(10/77)
وبإسناد عن حماد عن خالد الحذاء عن عبد الله ابن شفيق عن رجل من بني تميم قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليشفعن رجل من أمتي لأكثر من بني تميم» [62] «1» .
وأخبرنا الحسن قال: حدّثنا عمر بن نوح البجلي قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن شاهين قال: حدّثنا عبد الله بن عمر قال: حدّثنا أبو معاوية قال: حدّثنا داود بن أبي هند عن عبد الله بن قيس الأسدي عن الحرث بن أقشن قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أمتي من سيدخل الله بشفاعته الجنة أكثر من مضر» [63] «2» .
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ نصب على الحال، وقيل: صاروا معرضين. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ جمع حمار مُسْتَنْفِرَةٌ قرأ أهل المدينة والشام وأيوب بفتح الفاء أي منفرة مذعورة، ومثله روى المفضل عن عاصم وأختاره أبو عبيد، وقرأ الآخرون بالكسر أي نافرة يقال: نفرت واستنفرت بمعنى واحد، وأنشد الفراء:
أمسك حمارك إنه مستنفر ... في الثر أحمرة عمدن لغرت «3»
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا أبو حامد المستملي قال: حدّثنا محمد بن حاتم الذمي قال: حدّثنا محمد بن سلام الجمحي قال: سألت أبا سراب الغنوي وكان أعرابيا فصيحا قارئا للقرآن فقلت: حمر ماذا؟ قال: حمر مستنفرة طردها قسورة، قلت: إنّما هي فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ فقال: أفَرَّتْ، قلت: نعم قال: ف مُسْتَنْفِرَةٌ.
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ اختلفوا فيه فقال مجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان: هم الرماة وهي رواية عطاء عن ابن عباس وأبي ظبيان عن أبي موسى الأشعري، وقال سعيد بن جبير: هم القناص وهي رواية عطية عن ابن عباس.
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدّثنا محمد بن أيوب قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا وكيع عن شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال: عصب الرجال.
وأخبرني عقيل قال: أخبرنا المعافى قال: أخبرنا محمد بن جرير قال: حدّثنا ابن المثنى قال: حدّثني عبد الصمد بن عبد الوارث قال: سمعت أبي تحدث قال: حدّثني داود قال: حدّثني عباس بن عبد الرحمن مولى بني هاشم قال: سئل ابن عباس عن القسورة فقال: هي جمع الرجال ألم تسمع ما قالت فلانة في الجاهلية:
__________
(1) مسند أحمد: 5/ 366 بتفاوت.
(2) مسند أحمد: 5/ 313 بتفاوت.
(3) جامع البيان للطبري: 29/ 210.(10/78)
يا بنت كوني خيرة لخيرة ... أخوالها الحي وأهل القسورة «1»
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن عمرو وعن عطاء عن ابن عباس في قوله سبحانه فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال: هي ركز الناس.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبش قال: حدّثنا أبو يعلي الموصلي قال: حدّثنا يحيى بن معين قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسماعيل بن مسلم العبدي عن أبي المتوكّل في قوله سبحانه: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال: هو لغط القوم، وقال أبو هريرة: هي الأسد.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن ماهان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سليمان بن قتة عن ابن عباس فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال: هو بلسان العرب: الأسد، وبلسان الحبش: القسورة، وبلسان فارس: شير، وبلسان النبط: أريا. وقيل: هو فعولة من القسر وهو القهر، سمي بذلك لأنه يقهر السباع كلّها.
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا محمد بن صالح بن ذريح قال: حدّثنا حبارة بن مغلس قال: حدّثنا عبد الأعلى بن أبي المساور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال: من حبال الصيادين، وقال عكرمة: من ظلمة الليل، وقيل: هي سواد أول الليل ولا يقال لسواد آخر الليل: قسورة، وقال زيد بن أسلم:
أي من رجال أقوياء، وكلّ ضخم شديد عند العرب فهو قسور وقسورة. قال لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ... أتانا الرجال العائذون القساور «2»
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً وذلك أنهم قالوا: يا محمد إن سرّك أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان من ربّ العالمين نؤمر فيه باتباعك، نظيره قوله: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «3» . بادان عن ابن عباس يقول: كان المشركون يقولون: لو كان محمد صادقا فليصح عند كل رأس رجل منا صيحة فيها براءته وأمنه من النار.
قال مطر الوراق: كانوا يريدون أن يؤتوا براءة من غير عمل، وقال الكلبي: إن المشركين قالوا:
يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل يصبح مكتوب عند رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك، فكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله سبحانه هذه الآية كَلَّا ليس كما تقولون وتريدون وقيل:
حقا وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ كَلَّا إِنَّهُ يعني القرآن تَذْكِرَةٌ وليس بسحر فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ وَما يَذْكُرُونَ بالتاء نافع، يعقوب وغيرهما بالياء إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
__________
(1) فتح القدير: 5/ 333.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 89.
(3) سورة الإسراء: 93. [.....](10/79)
هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر لمن اتقاه.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل قال:
حدّثنا هدية بن خالد قال: وحدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق وهارون بن محمد قالا: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا هدية قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا الحسن ابن علي المعمري قال: حدّثنا هدية قال: حدّثنا سهيل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذه الآية: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ: قال ربكم عزّ وجلّ: أنا أهل أن اتقى ولا يشرك بي غيري وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له» [64] «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثنا أبي قال:
حدّثنا عبد القدوس بن بكر قال: سمعت محمد بن النظر الجارقي يذكر في قوله سبحانه: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ قال: أنا أهل أن يتقيني عبدي فإن لم يفعل كنت أنا أهلا أن أغفر له.
__________
(1) سنن ابن ماجة: 2/ 1437.(10/80)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
سورة القيامة
مكيّة، وهي ستمائة واثنان وخمسون حرفا، ومائة وتسع وتسعون كلمة، وأربعون آية
أخبرني محمد بن القيم الفقيه قال: حدّثنا محمد بن يزيد المعدّل قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال: حدّثنا محمد بن منصور قال: حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدّثني أبي عن مجاهد عن عبد الواحد عن الحجاج بن عبد الله عن أبي الخليل وعن علي ابن زيد وعطاء بن أبي ميمونة عن زرين حبش عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنه كان مؤمنا بيوم القيامة وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة» [65] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ قراءة العامة مقطوعة الألف مهموزة.
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ مثلها، وقرأ الحسن وعبد الرحمن الأعرج لأقسم بغير ألف موصله. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ بالألف مقطوعة على معنى أنه أقسم باليوم ولم يقسم بالنفس، ومثله روى القواس عن شبل عن ابن بكير، والصحيح أنه قسم بهما جميعا ومعنى قوله لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ اختلفوا فيه فقال: بعضهم لا صلة أي أقسم بيوم القيامة وإليه ذهب سعيد بن جبير وقال أبو بكر بن عباس: هو تأكيد للقسم كقولك لا والله، وقال الفراء في قوله لا: رد لكلام المشركين ثم ابتدأ القسم فقال أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، وقال: وكل يمين قبلها رد فلا بد من تقديم (لا) قبلها ليفرّق بين اليمين التي تكون جحدا واليمين التي تستأنف، ألا ترى أنك تقول مبتدئا: والله إن الرسول لحق، فإذا قلت: لا والله إن الرسول لحق، فكأنك أكّدت قوما أنكروه.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 190.(10/81)
أخبرنا عقيل أن المعافى أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا وكيع عن سفيان ومسعر عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال: لا يقولون القيامة القيامة وإنما قيامة أحدهم موته، وبه عن سفيان ومسعر عن أبي قيس قال: شهدت جنازة فيها علقمة فلما دفن قال: أما هذا فقد قامت قيامته.
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال: سعيد بن جبير وعكرمة: تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء والضراء. مجاهد: تندم على ما فات وتلوم عليه وتقول لو فعلت ولو لم أفعل.
قتادة: اللوامة: الفاجرة. ابن عباس: هي المذمومة، وقال الفراء: ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلّا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا قالت: هلّا زدت، وإن كانت عملت سوءا قالت: يا ليتني لم أفعل. الحسن: هي نفس المؤمن، قال: إنّ المؤمن والله ما تراه إلّا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلتي ما أردت بحديث نفسي وإنّ الفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه ولا [يعاتبها] «1» . مقاتل: هي نفس الكافر تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا، وقيل: لومها قوله سبحانه: يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي «2» ويا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «3» أي في أمر الله. سهل: هي الإمارة بالسوء وهي قرينة الحرص والأمل.
أبو بكر الورّاق: النفس كافرة في وقت منافقه في وقت مرائية على الأحوال كلّها هي كافرة لأنها لا تألف الحق، وهي منافقة لأنها لا تفي بالعهد، وهي مرائية لأنها لا تحبّ أن تعمل عملا ولا تخطو خطوة إلّا لرؤية الخلق، فمن كانت هذه صفاته فهي حقيقة بدوام الملامة لها.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ
نزلت في عدي بن ربيعة بن أبي سلمة حليف بني زهرة ختن الأخنس ابن شريف حليف بني زهرة وكان النبي (عليه السلام) يقول: «اللهم اكفني جاري السوء» يعني عديا والأخنس [66] «4» وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي (عليه السلام) فقال: يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون، وكيف يكون أمرها وحالها فأخبره النبي (عليه السلام) بذلك، فقال:
لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك ولم أؤمن به، أويجمع الله العظام؟
فأنزل الله سبحانه أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ يعني الكافر.
أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بعد تفريقها وبلائها فنجيبه ونبعثه بعد الموت، يقال: إنّه ذكر
__________
(1) في المخطوط: ولا يعاتبه.
(2) سورة الفجر: 24.
(3) سورة الزمر: 56.
(4) تفسير القرطبي: 19/ 93.(10/82)
العظام، والمراد بها نفسه كلّها لأن العظام قالب الخلق ولن يستوي الخلق إلّا باستوائها، وقيل:
هو خارج على قول المنكر أو يجمع الله العظام كقول الآخر: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «1» .
ثم قال سبحانه: بَلى قادِرِينَ أي نقدر استقبال صرف إلى الحال، قال الفراء:
قادِرِينَ نصب على الخروج من نَجْمَعَ كأنك قلت في الكلام: أيحسب أن لن يقوى عليك، بَلى قادِرِينَ على أقوى منك، يريد بلى نقوى مقتدرين على أكثر من ذا «2» ، وقرأ ابن أبي غيلة قادرون بالرفع، أي بلى نحن قادرون، ومجاز الآية: بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك، وهو: عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أنامله فيجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحد كخف البعير، أو كظلف الخنزير، أو كحافر الحمار، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء، ويقبض إذا شاء ويبسط إذا شاء فحسّنا خلقه. هذا قول عامة المفسرين.
وقال القبيسي: ظن الكافر أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام البالية، فقال الله سبحانه: بَلى قادِرِينَ أن نعيد السلاميات على صغرها ونؤلف بينها حتى نسوي البنان، ومن يقدر على هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر! وهذا كرجل قلت له: أتراك تقدر على أن تؤلف من هذا الحنظل في خيط ويقول نعم وبين الخردل.
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يقول تعالى ذكره: ما يجهل ابن آدم أن ربّه قادر على جمع عظامه بعد الموت، ولكنّه يريد أن يفجر أمامه، أي يمضي قدما في معاصي الله راكبا رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب، هذا قول مجاهد والحسن وعكرمه والسدي، وقال سعيد بن جبير: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، يقول: سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله، وقال الضحاك: هو الأمل يأمل الإنسان يقول: أعيش وأصيب من الدنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت، وقال ابن عباس وابن زيد: يكذّب بما أمامه من البعث والحساب، وقال ابن كيسان: يريد أن تأتيه الآخرة التي هي أمامه فيراها في دار الدنيا.
وأصل الفجور: الميل، ومنه قيل للكافر والفاسق والكافر: فاجر، لميلهم عن الحق، وقال السدي أيضا: يعني ليظلم على قدر طاقته، وقيل: يركب رأسه في هواه ويهتم حيث قادته نفسه.
يَسْئَلُ أَيَّانَ متى يَوْمُ الْقِيامَةِ فبيّن الله له ذلك فقال عزّ من قال: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ قرأ أبو جعفر ونافع وابن أبي إسحاق: بَرَقَ بفتح الراء وغيرهم بالكسر.
__________
(1) سورة يس: 78.
(2) تفسير الطبري: 29/ 219.(10/83)
أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسن بن الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: حدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا حجاج عن هارون قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عنها فقال:
بَرِقَ بالكسر يعني جار قال: وسألت عنها عبد الله بن أبي إسحاق فقال: بَرَقَ بالفتح، وقال: إنّما برق الحنظل اليابس، وبرق البصر قال: فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال: إنما برق الحنظل والنار والبرق، وأما البصر فبرق عند الموت، قال: فأخبرت بذلك ابن أبي إسحاق فقال: أخذت قراءتي عن الأشياخ نصر بن عاصم وأصحابه فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال: لكني لا آخذ عن نصر ولا عن أصحابه كأنه يقول أخذ عن أهل الحجاز فقال: قتادة ومقاتل: شخص البصر فلا يطرف مما يرى من العجائب مما كان يكذب به في الدنيا إنّه غير كائن، وقال الفراء والخليل:
بَرِقَ بالكسر فزع، وأنشدا لبعض العرب:
فنفسك قانع ولا تتغي ... وداو الكلوم ولا تبرق
أي لا تفزع من الجرح الذي بك.
قال ذو الرمّة:
ولو أن لقمان الحكيم تعرّضت ... لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق «1»
وبَرَقَ بفتح الراء: شقّ عينه وفتحها، وأنشد أبو عبيدة:
لما أتاني ابن عمير راغبا ... أعطيته عيسا صهابا فبرق «2»
أي فتح عينه، ويجوز أن يكون من البرق.
وَخَسَفَ الْقَمَرُ أظلم وذهب ضوءه، قال ابن كيسان: ويحتمل أن يكون بمعنى غاب كقوله سبحانه فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ «3» ، وقرأ [ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج] : وَخُسِفَ بالضم لقوله: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «4» أسودين مكوّرين كأنهما ثوران عقيران، وهي في قراءة عبد الله: وجمع بين الشمس والقمر، وقيل: وجمع بينهما في ذهاب الضياء، وقال عطاء بن يسار: يجمعان يوم القيامة، ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى،
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس: يجعلان في نور الحجب.
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ المهرب، وقرأها العامة الْمَفَرُّ بفتح الفاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قالا: لأنه مصدر، وقرأ ابن عباس والحسن بكسر الفاء، قال الكسائي: هما
__________
(1) لسان العرب: 10/ 15.
(2) الأبيات في تفسير القرطبي: 19/ 96 مورد الآية.
(3) سورة القصص: 81.
(4) سورة القيامة: 9.(10/84)
لغتان مثل مدب ومدب ومصح ومصح، وقال الآخرون: بالفتح المصدر وبالكسر موضع الفرار مثل المطلع والمطلع.
كَلَّا لا وَزَرَ لا حصن ولا حرز ولا ملجأ، قال السدي: لا جبل، وكانوا إذا فزعوا نحوا إلى الجبل فتحصّنوا به فقال الله سبحانه: لا جبل يومئذ يمنعهم.
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
أي مستقر الخلق وأعمالهم وكل شيء، وقال مقاتل: المنتهى فلا يجد عنه مرحلا نظيره وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى وقال يمان: المصير والمرجع، وهو قول ابن مسعود نظيره إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
«1» وإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ «2» وقوله سبحانه أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «3» .
يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
«4» قال ابن مسعود وابن عباس: قدم قبل موته من عمل صالح أو طالح وما أخر بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها. عطية عن ابن عباس:
بِما قَدَّمَ
من المعصية وَأَخَّرَ
من الطاعة. مجاهد: بأول عمل عمله وآخره. قتادة: بِما قَدَّمَ
من طاعة الله وَأَخَّرَ
من حقّ الله فضيّعه. ابن زيد: بِما قَدَّمَ
من عمل من خير أو شر وما أَخَّرَ
من العمل بطاعة الله فلم يعمل به.
عطاء: بِما قَدَّمَ
في أول عمره وما أَخَّرَ
في آخر عمره. زيد بن أسلم: بِما قَدَّمَ
من أمواله لنفسه وما أَخَّرَ
خلّف للورثة، نظيره عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ «5» .
سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا سعيد بن أبي بكر بن أبي عثمان يقول:
سمعت أبي يقول: سمعت أبا عثمان يقول: خمس مصائب في الذنب أعظم من الذنب:
أوّلها: خذلان الله لعبده حتى عصاه ولو عصمه ما عصاه.
والثانية: أن سلبه حلية أوليائه وكساه لباس أعدائه.
والثالثة: أن أغلق عليه أبواب رحمته وفتح عليه أبواب عقوبته.
والرابعة: نظر إليه وهو يعصيه.
والخامسة: وقوفه بين يديه يعرض عليه ما قدّم وأخّر من قبائحه.
فهؤلاء المصائب الخمس في الذنب أعظم من الذنب.
__________
(1) سورة العلق: 8.
(2) سورة آل عمران: 28. [.....]
(3) سورة الشورى: 53.
(4) سورة القيامة: 13.
(5) سورة الإنفطار: 5.(10/85)
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)
[سورة القيامة (75) : الآيات 14 الى 28]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28)
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
قال عكرمة ومقاتل والكلبي: معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقبا يرقبونه بعمله ويشهدون عليه به وهي: سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجميع جوارحه وهذه رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
قال القبسي: أقام جوارحه مقام نفسه لذلك رأت ويجوز أن يكون تأنيثه للإضافة إلى النفس كما تقول في الكلام: ذهبت بعض أصابعه، وبَصِيرَةٌ
مرفوعة بخبر حرف الصفة وهي قوله عَلى نَفْسِهِ
، ويحتمل أن يكون معناه بل الإنسان على نفسه ببصيرة، ثم حذفت حرف الجر كقوله: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ «1» أي لأولادكم، ويصلح أن يكون نعتا لاسم مؤنث أي بل للإنسان على نفسه عين بصيرة وأنشد الفراء:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة ... بمقعده أو منظر هو ناظره
يحاذر حتّى يحسب الناس كلهم ... من الخوف ولا تخفى عليه سرائره «2»
قال أبو العالية وعطاء: بل الإنسان على نفسه شاهد، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والهاء في بَصِيرَةٌ
للمبالغة، وقال الأخفش: هي كقولك فلان عبرة وحجة، ودليل هذا التأويل قول الله تعالى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً «3» وقال ابن تغلب: البصيرة والبينة والشاهد والدليل واحد.
ر حتّى يحسب الناس كلهم ... من الخوف ولا تخفى عليه سرائره «2»
قال أبو العالية وعطاء: بل الإنسان على نفسه شاهد، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والهاء في بَصِيرَةٌ
للمبالغة، وقال الأخفش: هي كقولك فلان عبرة وحجة، ودليل هذا التأويل قول الله تعالى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً «3» وقال ابن تغلب: البصيرة والبينة والشاهد والدليل واحد. وَلَوْ أَلْقى عليه مَعاذِيرَهُ
يعني أنه يشهد عليه الشاهد ولو أعتذر وجادل عن نفسه.
نظيره قوله سبحانه: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ «4» وقوله: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «5» وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وأبو العالية وعطا. قال الفراء: ولو اعتذر
__________
(1) سورة البقرة: 233.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 100.
(3) سورة الإسراء: 14.
(4) سورة غافر: 51.
(5) سورة المرسلات: 36.(10/86)
فعليه من نفسه من يكذّب عذره. مقاتل: ولو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك.
ومعنى الإلقاء: القول نظيره: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ «1» وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ «2» . الضحاك والسدي: يعني ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب، قال: وأهل اليمن يسمّون الستر المعذار، وقال بعض أهل المعاني: المعاذير إحالة بعضهم على بعض.
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
وذلك
أن رسول الله (عليه السلام) كان لا يفتر من قراءة القرآن مخافة أن ينساه، وكان إذا نزل عليه جبرائيل بالقرآن لم يفرغ جبرائيل من الآية حتى يقرأ رسول الله (عليه السلام) أولها ويحرك لسانه بها في نفسه مخافة أن ينساها فأنزل الله سبحانه وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «3» وأنزل سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى
«4» وأنزل لا تُحَرِّكْ بِهِ
أي بالوحي لِسانَكَ
به أي تلاوته لتحفظه ولا تنساه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
في صدرك حتى تحفظه وَقُرْآنَهُ
وقراءته عليك حتى تعيه وقيل أراد بقوله: وَقُرْآنَهُ
وجمعه في صدرك وهو مصدر كالرجحان والنقصان.
فَإِذا قَرَأْناهُ
عليك فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أي ما فيه من الأحكام ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ بما فيه من الحدود والحلال والحرام. كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ قرأهما أهل المدينة والكوفة بالتاء وغيرهم بالياء أي يختارون الدنيا على العقبى نظيرها في سورة الإنسان إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا «5» .
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة ناضِرَةٌ. قال ابن عباس: حسنة. قال الحسن: حسّنها الله بالنظر إلى ربها. مجاهد: مسرورة. ابن زيد: ناعمة. مقاتلان: بيض يعلوها النور. السدي:
مضيئة. يمان: مسفرة. الفراء: مشرقة بالنعيم. الكسائي: بهجة. قال الفراء والأخفش: يقال نضر الله وجه فلان فلا يتنضر نضيرا فنضر وجهه ننضّر نضرة ونضارة قال الله سبحانه: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «6»
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نضّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها»
[67] «7» ، ونظر في هذه الآية قوله سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ «8» .
إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وأكثر الناس تنظر إلى ربّها عيانا.
__________
(1) سورة النحل: 86.
(2) سورة النحل: 87.
(3) سورة طه: 114.
(4) سورة الأعلى: 6.
(5) سورة الإنسان: 27.
(6) سورة المطفّفين: 24. [.....]
(7) مسند أحمد: 4/ 80.
(8) سورة عبس: 39.(10/87)
قال الحسين بن واقد: أخبرني يزيد بن عكرمة وإسماعيل بن أبي خالد وأشياخ من أهل الكوفة قالوا: تنظر إلى ربّها نظرا، وقال الحسن: تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق، وقال عطية العوفي: ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم، فذلك قوله سبحانه: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «1» ودليل هذا التأويل ما
أخبرنا الحسن بن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن مندة الأصفهاني قال: حدّثنا الحسين بن حفص قال: حدّثنا إسرائيل بن يونس عن ثوير بن أبي فاختة قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وزوجاته ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف عام، وإن أكرمهم على الله لمن ينظر إلى وجهه تبارك وتعالى غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله (عليه السلام) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» [68] «2» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو النفخ محمد بن الحسن الأزدي الموصلي قال:
حدّثني أحمد بن عيسى بن السكين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي قال:
حدّثنا قال: أخبرنا رباح بن زيد الصنعاني قال: أخبرني ابن جريح قال: أخبرني زياد بن سعد أن أبا الزبير أخبره عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتجلّى ربّنا عزّ وجل حتى ينظروا إلى وجهه فيخرّون له سجدا فيقول: ارفعوا رؤسكم فليس هذا بيوم عبادة» [69] «3» .
وروى الحسن عن عمار بن ياسر قال: كان من دعاء النبي (عليه السلام) : «اللهم أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلّة»
[70] «4» يعني أنّها تنتظر الثواب من ربّها ولا تراه من خلفه شيء.
قلت: وهذا تأويل مدخول لأنّ العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا: نظرته، كما قال الله سبحانه: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ «5» هل ينظرون إلّا نار الله؟ وما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً «6» وإذا أردت به التفكّر والتدبير قالوا: نظرت فيه فأمّا إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى وذكر الوجه فلا يكون إلّا بمعنى الرؤية والعيان.
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ عابسة كالحة متغيّرة مسودة تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ قال مجاهد: داهية، سعيد بن المسيب: قاصمة الظهر وأصلها الفقرة والفقار، يقال: فقره إذا كسر فقاره، كما يقال: رأسه إذا ضرب رأسه، وقال قتادة: الفاقرة: الشرّ، وقال ابن زيد: تعلم أنها
__________
(1) سورة الأنعام: 103.
(2) سنن الترمذي: 4/ 93.
(3) تفسير القرطبي: 19/ 109.
(4) السنن الكبرى: 1/ 388.
(5) سورة محمّد صلى الله عليه وسلم: 18.
(6) سورة يس: 49.(10/88)
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
ستدخل النار، وقال أبو عبيدة: الفاقرة: الداهية يقال: عمل بها الفاقرة وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو بنار حتى يخلص إلى العظم، وقال الكلبي: منكرة من العذاب وهي الحجاب.
كَلَّا إِذا بَلَغَتِ يعني النفس كناية عن غير مذكور التَّراقِيَ فيحشرج بها عند الموت، والتراقي: العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال، وقال دريد بن الصمة:
وربّ عظيمة دافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي «1»
وَقِيلَ
وقال من حضره مَنْ راقٍ
هل من طبيب يرقيه ويداويه فيشفيه. قال قتادة:
التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء شيئا.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا السني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال: حدّثنا مسدّد بن مسرهد عن خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كوى غلاما له فقلت أتكوى قال: نعم هوّدوا العرب.
أخبرنا ابن مسعود أن رسول الله (عليه السلام) قال: «إن الله سبحانه لم ينزل داء إلّا وقد أنزل معه دواء جهله من جهله وعلمه من علمه»
[71] «2» ، وقال سليمان التيمي ومقاتل بن سليمان: هذا من قول الملائكة يقول بعضهم لبعض من يرقى بروحه فيصعد بها ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وهذه رواية أبي الجوزاء عن ابن عباس. قال أبو العالية: يختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيّهم يترقّى بروحه.
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق.
أخبرنا الربيع بن محمد الخاتمي ومحمد بن عقيل الخزاعي قالا: أخبرنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني قال: أخبرنا الخضر بن أبان القرشي قال: حدّثنا ابن ميثم بن هدية عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (عليه السلام) : «إنّ العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وإنّ مفاصله يسلّم بعضها على بعض يقول عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة» [72] «3» .
[سورة القيامة (75) : الآيات 29 الى 40]
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
__________
(1) بلاغات النساء: 197، تفسير القرطبي: 19/ 111.
(2) مسند أحمد: 1/ 446.
(3) كنز العمال: 15/ 563 ح 42183.(10/89)
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ قال الربيع بن أنس: الدنيا بالآخرة، وهي رواية أبي الجوزاء وعطية عن ابن عباس، ورواية عوف ومنصور عن الحسن، وروى الوالي وبادان عن ابن عباس قال: أمر الدنيا بأمر الآخرة، فكان في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال: إسماعيل ابن أبي خالد: عمل الدنيا بعمل الآخرة، وقال الضحاك: الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه، وروى سفيان عن رجل عن الحسن عن مجاهد قالا: اجتمع فيه الحياة والموت. قتادة: الشدّة بالشدّة. بشر بن المهاجر عن الحسن قال: هما ساقاك إذا لفّتا في الكفن، وإليه ذهب سعيد بن المسيّب.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو محمد المزني قال: حدّثنا مطين قال: حدّثنا نصر بن علي فقال: حدّثنا خالد بن قيس عن قتادة عن الحسن قال: ماتت رجلاه ولم تحملاه وكان عليهما جوّالا، وروى شعبة عن قتادة قال: أمر أتاه إذا ضرب برجله الأخرى. أبو مالك:
يلبسهما عند الموت. عكرمة: خروج من الدنيا إلى الآخرة. أبو يحيى عن مجاهد: بلاء ببلاء.
القرطبي: الأمر بالأمر. زيد بن أسلم: ساق الكفن بساق الميت. سعيد بن جبير: تتابعت عليه الشدائد. السدي: لا يخرج من كرب إلّا جاءه أشدّ منه، والعرب لا تذكر الساق إلّا في المحن والشدائد، ومنه مثلهم السائر: (لا يرسل الساق إلّا ممسكا ساقا) ، وقال أميّه بن أبي الصّلت:
وقد أرقت لهمّ بات يطرقني ... والنفس ذات حزازات وطرّاق
مستجذ بالقراة حين ... آرقني ليل التمام أقاسيه على ساق
أي على تعب وشدة.
وقال ابن عطاء: اجتمع عليه شدّة مفارقة الوطن من الدنيا والأهل والولد وشدّة القدوم على ربّه لا يدري بماذا يقدم عليه لذلك قال عثمان بن عفان: ما رأيت منظرا إلّا والقبر أفضع منه لأنّه آخر منازل الدنيا وأول منازل الآخرة، وقال يحيى بن معاذ: إذا دخل الميت القبر قام على شفير قبره أربعة أملاك واحد عند رأسه والثاني عند رجليه والثالث عن يمينه والرابع عن يساره، فيقول الذي عند رأسه: يا ابن آدم انفضّت الآجال وانقطعت الآمال، ويقول الذي عن يمينه: ذهبت الأموال وبقيت الأعمال، ويقول الذي عن يساره: ذهب الأشغال وبقي الوبال، ويقول الذي عند الأموال وبقيت الأعمال، ويقول الذي عن يساره: ذهب الأشغال وبقي الوبال، ويقول الذي عند رجليه: طوبى لك من كسبك إن كان كسبك من الحلال وكنت مشتغلا بخدمة ذي الجلال.
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ المنتهى والمرجع تسوق الملائكة روحه حيث أمرهم الله سبحانه وتعالى. فَلا صَدَّقَ يعني أبا جهل وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر، قال زيد بن أسلم: هي مشية بني مخزوم وأصله من المطا وهو الظهر أي يلوي مطاه تبخترا، وقيل: أصله يتمطط أي يتمدد، والمط هو المد فجعلت أحدى الطاءات يا، وقد مضت هذه المسألة وتمطى الإنسان إذا قام من منامه فتمدّد.(10/90)
أخبرني الحسين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن علي بن الحسين الهمداني قال: حدّثنا محمد بن علي بن مخلد الفرقدي قال: حدّثنا سليمان بن داود الشاذكوني قال: حدّثنا سفيان بن عتبة عن يحيى بن سعيد الأنصاري سمع شيخا قديما يقال له بجنس مولى الزبير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم الروم وفارس سلط بعضهم على بعض» [73] «1» قال سفيان: فأخبرت بهذا الحديث ابن أبي نجيح فقال هل تدرون ما المطيطاء؟ هو مثل قوله سبحانه: ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر.
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى هذا وعيد من الله سبحانه على وعيد أبي جهل وهي كلمة موضوعة للتهدّد والوعيد قالت الخنساء:
هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها «2»
وأنشدني أبو القيّم السدوسي قال: أنشدني أبو محمد عبد الله بن محمد البلوي الأدبي قال: أنشدنا أحمد بن يحيى بن تغلب:
يا أوس لو نالتك أرماحنا ... كنت كمن تهوى به الهاوية «3»
القيتا عيناك عند القفا ... أولى فأولى لك ذا واقيه
وقال بعض العلماء: معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحقّ وأولى، يقال للرجل يصيبه مكروه يستوجبه، وقيل: هو كلمة يقولها العرب لمن قاربه المكروه وأصلها من الولي وهو القرب، قال الله سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ «4» ويقال ثمّ الذي يليه أي يقرب منه. قال الشاعر:
فصالوا صولة فيمن يليهم ... وصلنا صولة فيمن يلينا «5»
وقال آخر:
هجرت غضوب وحب من يتجنّب ... وعدت عواد دون وليك تشعب «6»
وحكى لنا الأستاذ أبو القيم الحلبي أنه سمع أبا الهيثم الجمي وكان عارفا بالمعاني يقول حاكيا عن بعض العلماء: أن قوله أَوْلى من المقلوب مجازه: أويل من الويل، كما يقال: ما أطيبه وأيطبه وعاقني وعقاني وأيم وأيامي وأصله أيايم وقوس وقسي وأصله قؤوس، ومعنى الآية
__________
(1) المعجم الأوسط: 1/ 48.
(2) لسان العرب: 15/ 412.
(3) تاج العروس: 1/ 165، وهو لعمر بن ملقط الطائي. [.....]
(4) سورة التوبة: 123.
(5) تاريخ دمشق: 10/ 143.
(6) لسان العرب: 1/ 292.(10/91)
كأنه يقول لأبي جهل: الويل لك يوم تموت، والويل لك يوم تبعث، والويل لك يوم تدخل النار وتخلد فيها.
وقال قتادة: ذكر لنا أن النبي (عليه السلام) لمّا نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فقال أبو جهل: أتوعدني يا محمد والله ما تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا وأني لأعزّ من مشى بين جبليها، فلمّا كان يوم بدر أشرف عليهم وقال: لا نعبد الله بعد اليوم «1» ، فصرعه الله شرّ مصرع، وقتله أسوأ قتلة، أقعصه ابنا عفراء وأجهز عليه ابن مسعود «2» ، قال: وذكر لنا أن أبا جهل كان يقول: لو علمت أن محمدا رسول الله ما أتبعت غلاما من قريش قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنّ لكل أمّة فرعونا وأن فرعون هذه الأمة أبو جهل» [74] «3» .
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً هملا لا يؤمر ولا ينهى يقال: أسديت حاجتي أي ضيّعتها، وأبل سدى ترعى حيث شاءت بلا راع. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى قرأ الحسن وابن محيص وأبو عمرو ويعقوب وسلام بالياء وهي رواية المفضل وحفص عن عاصم واختيار أبي عبيد لأجل المنى، وقرأ الباقون بالتاء لأجل النطفة وهو اختيار أبي حاتم.
ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى خلقه فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ الذي فعل هذا بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا الكندي قال: حدّثنا سعيد بن بنان الصفار قال: حدّثنا شعبة قال: حدّثني يونس الطويل جليس لأبي إسحاق الهمداني عن البراء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قال رسول الله (عليه السلام) : «سبحانك وبلى» [75] «4» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الربيعي قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله ابن أيوب المخزومي قال: حدّثنا صالح بن مالك قال: حدّثنا أبو نوفل علي بن سليمان قال:
حدّثنا أبو إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال: من قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «5» إماما كان أو غيره فليقل: سبحان ربي الأعلى، ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فإذا انتهى إلى آخرها فليقل: سبحانك اللهم بلى «6» ، إماما كان أو غيره.
__________
(1) تفسير الطبري: 10/ 29 ح 12575 وفيه زيادة ... قسوة وعتوا.
(2) تفسير الطبري: 9/ 275.
(3) تفسير الدر المنثور: 6/ 296 مورد الآية.
(4) جامع البيان للطبري: 29/ 250.
(5) سورة الأعلى: 1.
(6) كذا في المخطوط وتفسير القرطبي (19/ 117) وبهامشه عن نسخة: سبحانك اللهم وبحمدك.(10/92)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
سورة الإنسان (الدهر)
مكية، وهي ألف وأربع مائة وخمسون حرفا، ومائتان وأربعون كلمة، وإحدى وثلاثون آية
أخبرني نافل بن راقم قال: حدّثنا محمد بن شادة قال: حدّثنا أحمد بن الحسن قال:
حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا مسلم بن قتيبة عن شعبة عن عاصم عن زرّ عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جَنَّةً وَحَرِيراً» [76] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6)
هَلْ أَتى قد أتى عَلَى الْإِنْسانِ آدم (عليه السلام) ، وهو أول من سمّي به حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ أربعون سنة ملقى بين مكة والطائف قبل أن ينفخ الروح فيه لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به، وروى أن عمر سمع رجلا يقول هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فقال عمر: ليتها تمت، وقال عون بن عبد الله: قرأ رجل عند ابن مسعود الآية فقال: إلّا ليت ذلك.
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني ولد آدم مِنْ نُطْفَةٍ يعني من منيّ الرجل ومنيّ المرأة، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة: هل أنت إلّا نطفة، وجمعها نطاف ونطف، وأصلها من نطف إذا قطر. أَمْشاجٍ أخلاط، واحدها مشج مشيج مثل حذن وحذين قال رؤبة:
يطرحن كلّ معجّل نسّاج ... لم يكس جلدا في دم أمشاج «2»
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 206.
(2) جامع البيان للطبري: 29/ 252.(10/93)
ويقال مشجت هذا بهذا أي خلطته فهو ممشوج ومشج، مثل مخلوط وخليط، قال أبو دوم:
كأن الريش والفوقين منه ... خلاف النصل سبطيه مشيج
قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد والربيع: يعني ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما جميعا الولد، وماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له، وقال قتادة: هي أطوار الخلق: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحما ثم عظاما ثم يكسوه لحما ثم ينشئه خلقا آخر.
وقال الضحاك: أراد اختلاف ألوان النطفة نطفة، الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وحمراء فهي مختلفة الألوان، وهي رواية الوالي عن ابن عباس وابن أبي نجح عن مجاهد، وكذلك قال عطاء الخراساني والكلبي: الأمشاج الحمرة في البياض والبياض في الحمرة أو الصفرة.
وقال عبد الله بن مسعود وأسامة بن زيد: هي العروق التي تكون في النطفة، وروى ابن جريح عن عطاء قال: الأمشاج الهن الذي كأنه عقب، وقال الحسن: نعم والله خلقت من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة فإذا حبلت أرفع الحيض، وقال يمان: كل لونين اختلطا فهما أمشاج، وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط، لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان ذا طبائع مختلفة، وقال أهل المعاني: بناء الأمشاج بناء جمع وهو في معنى الواحد لأنه نعت النطفة وهذا كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق ونحوهما «1» .
وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: سئلت وأنا بمكّة عن قول الله سبحانه: أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فقلت ابتلى الله الخلق تسعة أمشاج: ثلاث مفتنات وثلاث كافرات وثلاث مؤمنات، فأما الثلاث المفتنات فسمعه وبصره ولسانه، وأما الثلاث الكافرات فنفسه وهواه وشيطانه، وأما الثلاث المؤمنات فعقله وروحه وملكه، فإذا أيّد الله العبد بالمعونة فقرّ العقل على القلب فملكه واستأسرت النفس والهوى فلم يجد إلى الحركة سبيلا، فجانست النفس الروح وجانس الهوى العقل وصارت كلمة الله هي العليا: قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ «2» .
نَبْتَلِيهِ نختبره بالأمر والنهي وقال بعض أهل العربية: هي مقدمة معناها التأخير مجازها:
فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلّا بعد تمام الخلقة. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ
__________
(1) راجع لسان العرب: 6/ 339، وتاج العروس: 4/ 342.
(2) سورة البقرة: 193.(10/94)
أي بيّنا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة وعرّفناه طريق الخير والشرّ وهو كقوله وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1» . إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً أما مؤمنا سعيدا وأما كافرا شقيّا يعني خلقناه أما كذا وأما كذا، وقيل معنى الكلام: الجزاء، يعني بيّنا له الطريق إن شكر وكفر، وهو إختيار الفرّاء، ثم بين الفريقين فقال عز من قال إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ كل سلسلة سبعون ذراعا.
وَأَغْلالًا وَسَعِيراً قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم عن حفص والأعمش والكسائي وأيوب كلهن: سَلاسِلَ بإثبات الألف في الوقف والتنوين في الأصل، وهو اختيار أبي عبيد، ورواية هشام عن أهل الشام، ضده حمزة وخلف [وقنبل] ويعقوب برواية [....] «2» وزيد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: قَوارِيرَا الأولى بالألف والثاني بغير ألف.
قال أبو عبيد: ورأيت في مصحف الإمام عثمان قَوارِيرَا الأولى بالألف مبنية والثانية كانت بالألف فحكّت، ورأيت أثرها بيّنا هناك «3» .
إِنَّ الْأَبْرارَ يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربّهم، وقال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذر ولا ينصبون الشرّ، وأحدهم بار، مثل شاهد وأشهاد وناصر وأنصار وصاحب وأصحاب ويراد بها مثل نهر وأنهار وضرب وأضراب.
يَشْرَبُونَ في الآخرة مِنْ كَأْسٍ خمر كانَ مِزاجُها كافُوراً قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك، وقال عكرمة: مزاجها طعمها، وقال أهل المعاني: أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده، لأن الكافور لا يشرب، وهو كقوله حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً «4» أي كنار، وقال ابن كيسان: طيّبت بالكافور والمسك والزنجبيل، وقال الفرّاء: ويقال: إنّ الكافور اسم لعين ماء في الجنة، وفي مصحف عبد الله من كأس صفراء كان مزاجها قافورا والقاف والكاف يتعاقبان لأنّهما لهويتان، وقال الواسطي: لمّا اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة فكأس الكافور برّدت الدنيا في صدورهم.
عَيْناً نصب لأنها تابعة للكافور كالمفسر له وقال الكسائي: على الحال والقطع، وقيل:
يشربون عينا، وقيل من عين، وقيل: أعني عينا، وقيل: على المدح وهي لهذه الوجوه كلّها محتملة.
يَشْرَبُ بِها أي شربها والباء صلة وقيل منها. عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أي يقودونها حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم كما يفجر الرجل منكم النهر يكون له في الدنيا هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد.
__________
(1) سورة البلد: 10. [.....]
(2) بياض بالمخطوط.
(3) تفسير القرطبي مفصلا: 19/ 123.
(4) سورة الكهف: 96.(10/95)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
[سورة الإنسان (76) : الآيات 7 الى 13]
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11)
وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قال قتادة: بما فرض الله سبحانه عليهم من الصلاة والزكاة والحج والعمرة وغيرها من الواجبات، وقال مجاهد وعكرمة: يعني إذا بدروا في طاعة الله وفوا به.
وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ممتدا قاسيا يقال استطار الصدع في الزجاجة واستطال إذا امتد، ومنه قول الأعشى:
وبانت وقد أسأرت في الفؤاد ... صدعا على نأيها مستطيرا «1»
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ قال ابن عباس: على قلّته وحسبهم إياه وشهوتهم له، وقال الداري: على حبّ الله، وقال الحسين بن الفضل: على حبّ إطعام الطعام. مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً وهو الحربي يؤخذ قهرا أو المسلم يحبس بحق. قال قتادة: بعد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وأنّ أسراءهم يومئذ لأهل الشرك فأخوك المسلم أحقّ أن تطعمه، وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعطا: هو المسجون من أهل القبلة.
أخبرني الحسن قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال: حدّثنا عباد بن أحمد العرزمي قال: حدّثنا عمي عن أبيه عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي (عليه السلام) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً قال: «فقيرا» وَيَتِيماً قال: «لا أب له» وَأَسِيراً قال: «المملوك والمسجون»
، وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة، ودليل هذا التأويل
قول النبي (عليه السلام) : «استوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان» [77] «2» .
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً فيه وجهان: أحدهما أن يكون جمع الشكر كالفلوس بجمع الفلس، والكفور بجمع الكفر، والآخران يكون بمعنى المصدر كالفعول والدخول والخروج.
قال مجاهد وسعيد بن جبير: أمّا أنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب.
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً في يوم عَبُوساً تعبس فيه الوجوه من شدّته وكثرة مكارهه
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 128.
(2) سنن ابن ماجة: 1/ 594.(10/96)
فنسب العبوس إلى اليوم كما يقال: يوم صائم وليل نائم، وقال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وقيل: وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدّة والهول كالرجل الكالح البائس.
قَمْطَرِيراً روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: العبوس: الضيق، والقمطرير:
الطويل. الكلبي: العبوس: الذي لا انبساط فيه والقمطرير: الشديد. وقال قتادة ومجاهد ومقاتل: القمطرير: الذي يقلّص الوجوه ويقبض الحياة وما بين الأعين من شدته. قال الأخفش:
القمطرير أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء يقال: يوم قمطرير وقماطر إذا كان شديدا لكربها. قال الشاعر:
ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها ... ولج بها اليوم العبوس القماطر «1»
وأنشد الفرّاء:
بني عمّنا هل تذكرون بلانا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر «2»
وقال الكسائي: اقمطرّ القوم وازمهرّ اقمطرارا وازمهرارا وهو الزمهرير والقمطرير، ويوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا. قال الهذلي:
بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة ... فمن تلق منا ذلك اليوم يهرب «3»
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ الذي يخافون وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً في وجوههم وَسُرُوراً في قلوبهم وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا على طاعة الله وعن معصيته، وقال الضحاك: على الفقر.
القرطبي: على الصوم. عطاء: على الجوع.
وروي سعيد بن المسيب عن عمر قال: سئل رسول الله (عليه السلام) عن الصبر فقال:
«الصبر أربعة أولها الصبر عند الصدمة الأولى والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب»
[78] «4» . جَنَّةً وَحَرِيراً قال الحسن: أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. مُتَّكِئِينَ نصب على الحال فِيها في الجنة عَلَى الْأَرائِكِ السرر في الحجال لا تكون أريكة إذا اجتمعا. قال الحسن: وهي لغة أهل اليمن كان الرجل العظيم منهم يتخذ أريكة فيقال: أريكه فلان.
وقال مقاتل: الأرائك: السرر في الحجال من الدر والياقوت موضونة بقضبان الذهب والفضة وألوان الجواهر. لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً أي شتاء ولا قيضا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 135.
(2) الصحاح: 2/ 797.
(3) المصدر السابق، وفي تاج العروس (3/ 507) رواه: بها مقمطرة، فمن يلق يلق سيد مدرّب.
(4) تفسير القرطبي: 19/ 136.(10/97)
قال قتادة: علم الله سبحانه أن شدّة الحر تؤذي وشدة القرّ تؤذي فوقّاهم الله أذاهما جميعا، وقال مرة الهمداني: الزمهرير البرد القاطع. مقاتل بن حيّان: هو شي مثل رءوس الابر ينزل من السماء في غاية البرد. ابن سمعود: هو لون من العذاب وهو البرد الشديد.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر أحمد بن عمران السوادي يقول:
سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلب وسئل عن قوله لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً قال الزمهرير القمر بلغة طيئ. قال شاعرهم:
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر «1»
أي لم يطلع القمر.
واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآيات فقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا وكانت قصته.
أخبرنا ابن فتجويه قال: حدّثنا محمد بن خلف بن حيّان قال: حدّثنا إسحاق بن محمد بن مروان قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا على بن علي بن أبي حمزة الثمالي قال: بلغنا أن مسكينا أتى رسول الله (عليه السلام) فقال: يا رسول الله أطعمني فقال: «والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب» فأتى رجلا من الأنصار وهو يتعشى وامرأته فقال له: أني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: أطعمني فقال: ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب، فقال:
الأنصاري لامرأته: ما ترين؟ فقالت: أطعمه وأسقه ثم أتى رسول الله (عليه السلام) يتيم فقال يا رسول الله أطعمني فقال: «ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب» فأتى اليتيم الأنصاري الذي أتاه المسكين فقال له: أطعمني فقال لامرأته: ما ترين؟ قالت: أطعمه فأطعمه، ثم أتى رسول الله (عليه السلام) أسير فقال: يا رسول الله أطعمني، فقال: «والله ما معي ما أطعمك ولكن أطلب» [79] «2» فأتى الأسير الأنصاري فقال له: أطعمني، فقال: لامرأته ما ترين فقالت: أطعمه، وكان هذا كلّه في ساعة واحدة، فأنزل الله سبحانه فيما صنع الأنصاري من إطعامه المسكين واليتيم والأسير وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً.
وقال غيرهما: نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة وجارية لهما يقال لها فضة وكانت القصة فيه.
وأخبرنا الشيخ أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن علي الشيباني العدل قراءة عليه في صفر سنة سبع وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا محبوب بن حميد النصري
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 138.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 130.(10/98)
قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الخوار ابن عم اللأحنف بن قيس سنة ثمان وخمسين ومائتين وسأله عن هذا الحديث روح بن عبادة قال: حدّثنا القيم بن مهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن سهيل بن علي بن مهران الباهلي بالبصرة قال: حدّثنا أبو مسعود عبد الرحمن بن فهد بن هلال قال: حدّثنا الغنيم بن يحيى عن أبي علي القيري عن محمد بن السائر عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أبو الحسن بن مهران وحدّثني محمد بن زكريا البصري قال: حدّثني سعيد بن واقد المزني قال: حدّثنا القاسم بن بهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله سبحانه وتعالى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً قال: مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعادهما عامّة العرب فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا وكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء.
فقال علي رضي الله عنه: إن برأ ولداي مما بهما صمت ثلاثة أيام شكرا، وقالت فاطمة رضي الله عنها: إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام شكرا ما لبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي رضي الله عنه إلى شمعون بن جابا الخيبري، وكان يهوديا فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، وفي حديث المزني عن ابن مهران الباهلي فانطلق إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له: شمعون بن جابا، فقال: هل لك أن تعطيني جزّة من الصوف تغزلها لك بنت محمد صلى الله عليه وسلم بثلاثة أصوع من الشعير قال: نعم، فأعطاه فجاء بالسوق والشعير فأخبر فاطمة بذلك فقبلت وأطاعت قالوا: فقامت فاطمة رضي الله عنها إلى صاع فطحنته واختبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصا وصلى علي مع النبي (عليه السلام) المغرب، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم من موائد الجنة، فسمعه علي رضي الله عنه فأنشأ يقول:
فاطم ذات المجد واليقين ... يا ابنة خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين ... قد قام بالباب له حنين
يشكوا إلى الله ويستكين ... يشكوا إلينا جائع حزين
كل امرء بكسبه رهين ... وفاعل الخيرات يستبين
موعدنا جنة عليين ... حرمها الله على الضنين
وللبخيل موقف مهين ... تهوى به النار إلى سجين
شرابه الحميم والغسلين ... من يفعل الخير يقم سمين
ويدخل الجنة أي حين(10/99)
فأنشأت فاطمة:
أمرك عندي يا ابن عمّ طاعة ... ما بي من لؤم ولا وضاعه
غذيت من خبز له صناعة ... أطعمه ولا أبالي الساعة
أرجو إذا أشبعت ذا المجاعة ... أن ألحق الأخيار والجماعه
وأدخل الخلد ولي شفاعه «1»
قال: فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح، فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع فطحنته فاختبزته وصلّى علي مع النبي (عليه السلام) ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فأتاهم يتيم فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين، استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله على موائد الجنة فسمعه علي رضي الله عنه فأخذ يقول:
فاطم بنت السيد الكريم ... بنت نبي ليس بالزنيم
لقد أتى الله بذي اليتيم ... من يرحم اليوم يكن رحيم
موعده في جنّة النعيم ... قد حرّم الخلد على اللئيم
ألا يجوز الصراط المستقيم ... يزل في النار إلى الجحيم «2»
فأنشأت فاطمة:
أطعمه اليوم ولا أبالي ... وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعا وهم أشبالي ... أصغرهم يقتل في القتال
بكربلا يقتل باغتيال ... للقاتل الويل مع الوبال
تهوى به النار إلى سفال ... وفي يديه الغل والأغلال
كبوله زادت على الأكبال.
قال: فأعطوه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح، فلمّا كان في اليوم الثالث قامت فاطمة رضي الله عنها إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته وصلى علي مع النبي (عليه السلام) ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسرونا [وتشدوننا] ولا تطعمونا، أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله على موائد الجنة، فسمعه علي فأنشأ يقول:
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 132.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 133.(10/100)
فاطم يا بنة النبي أحمد ... بنت نبي سيد مسوّد
هذا أسير للنبي المهتد ... مكبّل في غلّه مقيّد
يشكو إلينا الجوع قد تمدد ... من يطعم اليوم يجده من غد
عند العلي الواحد الموحّد ... ما يزرع الزارع سوف يحصد
فأنشأت فاطمة تقول:
لم يبق مما جاء غير صاع ... قد ذهبت كفي مع الذراع
ابناي والله من الجياع ... يا رب لا تتركهما ضياع
أبوهما للخير ذو اصطناع ... يصطنع المعروف بابتداع
عبل الذراعين طويل الباع ... وما على رأسي من قناع
إلّا قناعا نسجه انساع «1»
قال: فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح فلما أن كان في اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم أخذ علي رضي الله عنه بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع فلمّا نضر به النبي (عليه السلام) قال: يا أبا الحسن ما أشدّ ما يسؤني ما أرى بكم، أنطلق إلى ابنتي فاطمة فانطلقوا إليها وهي في محرابها وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رآها النبي (عليه السلام) قال: «وا غوثاه بالله، أهل بيت محمد يموتون جوعا» فهبط جبرائيل (عليه السلام) فقال:
يا محمد خذها، هنّأك الله في أهل بيتك قال: «وما أخذنا يا جبرائيل» [80] «2» فاقرأه هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ إلى قوله وَلا شُكُوراً إلى آخر السورة.
قتادة بن مهران الباهلي في هذا الحديث: فوثب النبي (عليه السلام) حتى دخل على فاطمة فلما رأى ما بهم انكب عليهم يبكي، ثم قال: أنتم من منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم، فهبط جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآيات إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً قال: هي عين في دار النبي (عليه السلام) تفجر إلى دور الأنبياء (عليهم السلام) والمؤمنين.
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ يعني عليا وفاطمة والحسن والحسين وجاريتهم فضة وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ يقول على شهوتهم للطعام، وإيثارهم مسكينا من مساكين المسلمين ويتيما من يتامى المسلمين، وأسيرا من أسارى المشركين، ويقولون إذا
__________
(1) النسخ: سير يضفر على هيئة أعنة النعال تشدّ به الرحال. [.....]
(2) تفسير القرطبي: 19/ 134. ومناقب الخوارزمي: 270.(10/101)
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
أطعموهم إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً قال: والله ما قالوا لهم هذا بألسنتهم، ولكنهم أضمروه في نفوسهم، فأخبر الله سبحانه بإضمارهم يقولون: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً، فيتمنون علينا به ولكنا أعطيناكم لوجه الله وطلب ثوابه قال الله سبحانه: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً في الوجوه وَسُرُوراً في القلوب وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً يسكنونها وَحَرِيراً يلبسونه ويفترشونه مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً.
قال ابن عباس: وبينا أهل الجنة في الجنة إذا رأوا ضوءا كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان لها فيقول أهل الجنة: يا رضوان قال: ربّنا عزّ وجل لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً فيقول: لهم رضوان: ليست هذه بشمس ولا قمر ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا ضحكا أشرقت الجنان من نور ضحكهما، وفيهما أنزل الله سبحانه: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ إلى قوله: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً.
وأنشدت فيه:
أنا مولى لفتى ... أنزل فيه هل أتى «1»
وعلى هذا القول تكون السورة مدنية، وقد اختلف العلماء في نزول هذه السورة فقال مجاهد وقتادة: هي كلّها مدنية، وقال الحسن وعكرمة: منها آية مكيّة وهي قوله سبحانه: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً والباقي مدني، قال الآخرون: هي كلّه مكيّة والله أعلم.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 14 الى 24]
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها أي قريبة منهم ظلال أشجارها، وفي نصب الدانية أوجه: أحدها العطف بها على قوله مُتَّكِئِينَ، والثاني على موضع قوله: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً ويرون دانية، والثالثة على المدح، وأتت دانية لأن الظلال جمع وفي قراءة عبد الله ودانيا عليهم ليقدم الفعل، وفي حرف أبيّ ودان رفع على الاستئناف.
وَذُلِّلَتْ سخّرت وقرّبت قُطُوفُها ثمارها تَذْلِيلًا يأكلون من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين ينالونها ويتناولونها كيف شاءوا على أي حال كانوا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 138.(10/102)
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمد قال: حدّثنا موسى بن إسحاق قال:
حدّثنا أبي قال: حدّثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: أرض الجنة من ورق وترابها مسك وأصول شجرها ذهب وفضّة وأفنانها لؤلؤ وزبرجد وياقوت، والورق والثمر تحت ذلك فمن أكل قائما لم يؤذه [ومن أكل جالسا لم يؤذه] ومن أكل مضطجعا لم يؤذه فذلك قوله سبحانه: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا.
وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قال المفسرون:
أراد بياض الفضة في صفاء القوارير فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة «1» .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال: حدّثنا سفيان وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن حمدويه قال: حدّثنا محمود ابن آدم قال: حدّثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس في قوله سبحانه: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم تر الماء من ورائها، ولكن قوارير الجنة في بياض الفضة في صفاء القارورة.
وقال الكلبي والثمالي: إن الله سبحانه جعل قوارير كلّ قوم من تراب أرضهم وإن تراب الجنة من فضة فجعل من تلك الفضة قوارير يشربون فيها. قَدَّرُوها تَقْدِيراً على قدر رتبهم لا يزيد ولا ينقص، وقال الربيع والقرطبي: على قدر الكفّ، وقراءة العامّة بفتح القاف والدال قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم.
وأخبرني بن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا أبو حامد المستملي قال: أخبرنا محمد بن حاتم الرقي قال: أخبرنا هشام قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الشعبي قال: سمعته قرأها قُدِّرُوها بضم القاف وكسر الدال أي قدرت عليهم فلا زيادة فيها ولا نقصان. قال:
وسمعت غيره قدّروها في أنفسهم فأتتهم على ما قدروا لا يزيد ولا ينقص.
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا سوق ومطرب من غير لدع، والعرب تستحب الزنجبيل قال شاعرهم:
كأن جنيا من الزنجبيل خالط ... فاها وأريا مشورا «2»
وقيل: هو عين في الجنّة توجد منها طعم الزنجبيل.
قال قتادة: شربها المقرّبون صرفا ويمزج لسائر أهل الجنة.
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا قال قتادة: سلسة منقادة لهم يصرفونها حيث شاءوا، وقال
__________
(1) المصنّف لابن أبي شيبة: 8/ 67، وتفسير القرطبي: 19/ 139 مورد الآية.
(2) كتاب العين للفراهيدي: 6/ 280 والبيت للأعشى.(10/103)
مجاهد: حديدة الجرية «1» . يمان: طيبة الطعم والمذاق، تقول العرب: هذا شراب سلس وسلسل وسلسبيل، أبو العالية ومقاتل بن حيان: سميت سلسبيلا لأنها يتسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن الى أهل الجنان على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك، ومعنى تُسَمَّى توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيل صفة الإسم.
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً وهو أن أدناهم- يعني أهل الجنة- منزلة ينظر من ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل: هو استئذان الملائكة عليهم، وقيل: وَمُلْكاً لا زوال له.
قال أبو بكر الورّاق: ملكا لا يتعقبه هلك، وقال محمد بن علي الترمذي: يعني ملك التكوين إذا أراد شيئا كان.
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ قرأ قتادة ومجاهد وابن سيرين وعون العقيلي وابن محيص وأبو جعفر ونافع والأعمش وحمزة وأيوب عالِيهُمْ بتسكين الياء على أنه اسم موصوف بالفعل يقول علاهم فهو عاليهم، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما (عاليتهم) ، وتفسير ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها، وقرأ الباقون بنصب الياء على الصفة أي فوقهم وهو نصب على الظرف، وقيل: هو كقوله: لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ «2» وقد مضى، ذكرنا تقديم الصفة على الموصوف، وقيل: معناه عاليا لهم ثيابها كقوله:
هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «3» ونحوها.
خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ اختلف القراء فيهما فقرأ ابن كثير وابو بكر والمفضل خُضْرٍ بالخفض على نعت السندس والإستبرق بالرفع على نعت الثياب، وقرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بضده واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ نافع وأيوب وحفص كليهما بالرفع، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف كليهما بالجر.
وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً طاهر من الأقذار لم تدنسه الأيدي ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا قال أبو قلابة وإبراهيم: يعني أنه لا يصير نجسا ولكنه يصير رشحا في أيديهم كريح المسك، وأن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا وأكلهم ونهمتهم، فإذا أكل ما شاء سقي شرابا طهورا فيطهر بطنه ويصير ما أكل رشحا يخرج من جلده أطيب ريحا من المسك الأذفر ويضمر بطنه وتعود شهوته، وقيل: يطهرهم من الذنوب والأدناس والأنجاس ويرشحهم للجنّة.
__________
(1) تفسير الطبري: 29/ 271، وتفسير القرطبي: (19/ 142) وفيه: حديدة الجرية تسيل في حلوقهم انسلالا.
(2) سورة الأنبياء: 3.
(3) سورة المائدة: 95.(10/104)
وقال جعفر: يطهّرهم به عن كلّ شيء سواه، إذ لا طاهر من تدنّس شيء من الأكوان.
وقال أبو سليمان الداراني سقاهم ربّهم على حاشية بساط الود، فأرواهم من صحبة الخلق وأراهم رؤية الحقّ، ثمّ أقعدهم على منابر القدس وحيّاهم بتحيّة المزمّل وأمطر التأييد، فسالت عليهم أودية الشوق فكفاهم هموم الفرقة وحيّاهم بسرور القربة.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا عبد الله محمّد بن علي الشاشي يقول:
سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول سئل أبو يزيد البسطامي عن قوله سبحانه وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً قال: طهّرهم به عن محبّة غيره ثم قال: إنّ لله شرابا ادّخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتّصلوا فهم فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت طيّب الحمّال يقول: صلّيت خلف سهل بن عبد الله العتمة فقرأ قوله: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً فجعل يحرّك فمه كأنّه يمصّ، فلمّا فرغ من صلاته قيل له: أتشرب أم تقرأ؟ قال: والله لو لم أجد لذّته عند قراءته كلذّتي عند شربه ما قرأته.
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا هارون قال: حدّثنا حازم بن يحيى الحلواني قال حدّثنا محمّد ابن عبد الله بن عمار الموصلي قال: حدّثنا عفيف بن سالم عن أيّوب بن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى النبي (عليه السلام) عليه السلام يسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سل واستفهم» .
فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوّة أفرأيت إن آمنت بمثل ما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به أأني لكائن معك في الجنّة؟ قال: «نعم» ثمّ قال النبي (عليه السلام) :
«والذي نفسي بيده ليرى بياض الأسود في الجنّة مسيرة ألف عام» ، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال لا إله إلّا الله كان له بها عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة» .
قال رجل: كيف نهلك بعدها يا رسول الله؟
قال: «إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة لو وضع على جبل لأثقله، قال: فتقوم النعمة من نعم الله سبحانه فيكاد أن تستنفد ذلك كلّه إلّا أن يتطوّل «1» الله تعالى برحمته» قال: ثمّ نزلت هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ إلى قوله وَمُلْكاً كَبِيراً الآيات.
قال الحبشي: وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنّة.
__________
(1) عند ابن كثير: يتغمده، وعند القرطبي: يلطف.(10/105)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
قال النبي (عليه السلام) : «نعم» فاشتكى الحبشي حتى فاضت نفسه. فقال ابن عمر: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيده [81] «1» .
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا قال ابن عبّاس: متفرّقا آية بعد آية ولم ينزله جملة فلذلك قال (نَزَّلْنا) ...
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً يعني وكفورا. الألف صلة، وقال الفرّاء: أو معنى [....] «2» كقول الشاعر:
لا وجد ثكلى كما وجدت ولا ... وجد عجول أضلها ربع «3»
أو وجد شيخ أضلّ ناقته ... يوم توافي الحجيج فاندفعوا
أراد: ولا وجد شيخ.
قال قتادة: الآثم: الكفور، نهى الله سبحانه وتعالى نبيّه عن طاعة أبو جهل لما فرضت على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، وهو يومئذ بمكّة نهاه أبو جهل عنها وقال: لئن رأيت محمدا يصلي لوطأت على عنقه. فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتل: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ يعني من مشركي مكّة أنها تعني عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صنعت ما صنعت من أجل النساء فقد علمت قريش أن بناتي من أجملها بنات فأنا أزوّجك بنتي وأسوقها إليك بغير مهر وأرجع عن هذا الأمر «4» .
أَوْ كَفُوراً يعني الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد إن كنت صنعت من أجل المال فقد علمت قريش أني من أكثرهم مالا فأنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر، فأنزل الله سبحانه وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ [آثِماً] أنها تعني عتبة أَوْ كَفُوراً تعني ولا كفورا وهو الوليد بن المغيرة.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 25 الى 31]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29)
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 536، وتفسير القرطبي: 19/ 148.
(2) غير مقروءة في المخطوط.
(3) العجول من النساء التي فقد ولدها.
(4) تفسير القرطبي: 19/ 149 وله تكملة.(10/106)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ تعني صلاتي العشاء وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا يعني التطوّع إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ أمامهم وقدّامهم كقوله:
وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ «1» وقوله سبحانه: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ «2» .
يَوْماً ثَقِيلًا وهو يوم القيامة، نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا. قوّينا وحكمنا. أَسْرَهُمْ قال مجاهد وقتادة ومقاتل: خلقهم، وهي رواية عطية عن ابن عباس يقال: رجل حسن الاسّر أي الخلق، وفرس شديد الأسّر، وقال أبو هريرة والربيع: مفاصلهم، وقال الحسن: أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ قال: الشرج وأصل الأسر الشكّ يقال: ما أحسن ما أسر قتبه أي شدّه، ومنه قولهم: خذه بأسره إذا أرادوا أن يقولوا: هو لك كلّه كأنهم أرادوا بعكة وشدة لم تفتح ولم تنقص منه. قال لبيد:
ساهم الوجه شديد اسّره ... مغبط الحارك محبوك الكفل «3»
وقال الأخطل:
من كلّ مجتنب شديد أسره ... سلس القياد تخاله مختالا «4»
وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا إِنَّ هذِهِ السورة تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي وسيلة بالطاعة. وَما تَشاؤُنَ. بالياء ابن كثير وأبو عمرو ومثله روى هشام عن أهل الشام، غيرهم بالتاء. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لأن الأمر إليه لا إليكم وفي أمره عند الله إلّا ما شاء الله، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ، وقرأ أبان بن عثمان والظالمون أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
__________
(1) سورة الكهف: 79.
(2) سورة المؤمنون: 100. [.....]
(3) تاج العروس: 5/ 191.
(4) مجنتب: من الجنيبة وهي الفرس تقاد ولا تركب، تفسير القرطبي: 19/ 151.(10/107)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
سورة المرسلات
مكّية، وهي ثمان مائة وستة عشر حرفا، ومائة واحدى وثمانون كلمة، وخمسون آية
أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال: حدّثنا محمد بن زيد العدل قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال: حدّثنا منصور قال: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا أبي عن مخالد عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والمرسلات كتب أنه ليس من المشركين» [82] «1» .
وروى الأسود بن يزيد عن عبد الله بن مسعود: قرأت وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ونحن نسير «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 32]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً يعني الرياح بعضها بعضا كعرف الفرس، وقيل كثيرا. يقول العرب:
الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه فأكثروا، وهذا معنى قول مجاهد وقتادة، ورواية أبي العبيد عن ابن مسعود، والعوفي عن ابن عباس، وقال أبو صالح ومقاتل: يعني الملائكة التي أرسلت بالمعروف اسم واحد من أمر الله ونهيه، وهي رواية مسروق عن ابن مسعود.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 227.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 153.(10/108)
فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً يعني الرياح الشديدات الهبوب.
وَالنَّاشِراتِ نَشْراً يعني الرياح اللينة وقال أبو صالح هي المطرق. قال الحسن: هي الرياح يرسلها الله نشرا بين يدي رحمته اقسم الله بالرياح ثلاث مرات، مقاتل: هم الملائكة ينشرون الكتب.
فَالْفارِقاتِ فَرْقاً قال ابن عباس وأبو صالح ومجاهد والضحاك: يعني الملائكة التي تفرّق بين الحقّ والباطل، وقال قتادة والحسن وابن كيسان: يعني آي القرآن فرّقت بين الحلال والحرام، وقيل: يعني السحابات الماطرة تشبيها بالناقة الفارق، وهي الحامل التي تجزع حين تضع، ونوق فراق.
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً يعني الملائكة التي تنزل بالوحي نظيره قوله سبحانه: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ «1» . عُذْراً أَوْ نُذْراً يعني الأعذار والإنذار واختلف القرّاء فيهما فخففهما الأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي واختاره أبو عبيد قال: لأنهما في موضع مصدرين أنما هو الأعذار والإنذار وليس بجمع فيثقّلا، وثقلهما الحسن، وهي رواية الأعشى والجعفي عن أبي بكر عن عاصم، والوليد عن أهل الشام، وروح عن يعقوب الياقوت بتثقيل النذر وتخفيف العذر وهما لغتان، وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة عذرا ونذرا بالواو العاطفة ولم يجعلا ألف بينهما.
إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ محي نورها، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ شقت وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ قلعت من أماكنها، وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ جمعت لميقات يوم معلوم، واختلف القراء فيه فقرأ ابو عمرو وقّتت بالواو وتشديد القاف وعلى الأصل، وقرأ أبو جعفر بالواو والتخفيف، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: أُقِتَتْ بالألف وتخفيف القاف، وقرأ الآخرون بالألف والتشديد وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم وكّدت واكّرت وورّخت الكتاب وأرّخته وودّشت من القوم وأرّشت ووشاح وأشاح وأكاف ووكاف ووسادة وأسادة، وقال النخعي: رعدت.
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي وقتت من الأجل وقيل: أخّرت لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ من الأمم المكذّبين في قديم الدهر ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب، وقرأ الأعرج نُتْبِعْهُمُ بالجزم وقرأ ابن مسعود سنتبعهم.
كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ وهو وقت الولادة فَقَدَرْنا
قرأ عليّ والحسن
__________
(1) سورة القدر: 4.(10/109)
والسلمي وطلحة وقتادة وأبو إسحاق وأهل المدينة وأيوب بالتشديد من التقدير
وهي اختيار الكسائي، وقرأ الباقون بالتخفيف من القدرة واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ويجوز أن يكون التشديد والتخفيف بمعنى واحد كقوله سبحانه وتعالى نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ «1» فهي بالتخفيف والتشديد، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً وعاء أَحْياءً وَأَمْواتاً تجمعهم أحياء على ظهرها فإذا ماتوا ضمتهم إليها في بطنها وقال [بنان الصفّار] : خرجنا في جبانة مع الشعبي فنظر إلى الجبانة فقال: هذه الأموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء.
وأصل الكفت: الجمع والضمّ، وكانوا يسمّون بقيع الغرقد كفتة لأنه مقبرة تضمّ الموتى، ومثله
قول النبي (عليه السلام) «خمروا آنيتكم وأوّكوا أسقيتكم وأجيفوا الأبواب وأطفئوا المصابيح واكفتوا صبيانكم فإنّ للشيطان انتشارا وخطفة»
[83] «2» يعني بالليل، ويقال للأرض: كافتة.
وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً عذبا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثم أخبر أنه يقال لهم يوم القيامة: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ يعني دخان جهنم إذا ارتفع أشعب، وقيل: أنها عنق يخرج من النار فينشعب ثلاث شعب فأمّا النور فيقف على رؤوس المؤمنين والدخان يقف على رؤس المنافقين واللهب الصافي يقف على رؤس الكافرين، وقال مقاتل: هو السرادق والظل من يحموم.
لا ظَلِيلٍ لا كنين وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّها يعني جهنم تَرْمِي بِشَرَرٍ، وهي ما تطاير من النار إذا التهبت واحدتها شررة كَالْقَصْرِ وقرأ عيسى بشرار وهي لغة تميم واحدها شرارة.
كَالْقَصْرِ وقرأه العامّة بسكون الصاد، وقال ابن مسعود: يعني الحصون والمدائن وهو واحد القصر وهي رواية الوالي عن ابن عباس قال: كالقصر العظيم، وقال القرظي: إنّ على جهنم سورا فما خرج من وراء السور مما يرجع إليه في عظم القصر ولون النار.
وروى سعيد عن عبد الرحمن بن عابس قال: سألت ابن عباس عن قوله سبحانه: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قال هي الخشب العظام المقطعة وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندّخره للشتاء فكنّا نسمّيها القصر، وقال مجاهد: هي حزم الشجر، وقال سعيد ابن جبير والضحاك: هي أصول النخل والشجر العظام واحدتها قصرة مثل تمرة وتمر وجمر
وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس: كَالْقَصَرِ بفتح الصاد أراد أعناق النخل
، والقصرة العنق وجمعها قصر وقصرات، وقرأ سعيد بن جبير كَالْقِصَرِ بكسر القاف وفتح الصاد قال أبو حاتم: ولعله لغة ونظيرها في الكلام حاجة وحوج، كأنه ردّ الكناية إلى اللفظ.
__________
(1) سورة الواقعة: 60.
(2) الفائق في غريب الحديث: 1/ 342.(10/110)
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
[سورة المرسلات (77) : الآيات 33 الى 50]
كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
كأنه جمالات قرأ ابن عباس جمالات بضم الجيم كأنها جمع جماله وهي الشيء المجمّل، وقرأ حمزة والكسائي وخلف جِمالَتٌ بكسر الجيم من غير ألف على جمع الجمل مثل حجر وحجارة، وقرأ يعقوب جُمالة بضم الجيم من غير ألف أراد الأشياء العظام المجموعة، وقرأ الباقون جِمالات بالألف وكسر الجيم على جمع الجمال، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير:
هي جبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال، صُفْرٌ جمع الأصفر يعني لون النار، وقال بعض أهل المعاني: أراد سودا، لأنّ في الخبر أن شرر نار جهنم سود كالقير، والعرب يسمي السود من الإبل صفرا، وقال الشاعر:
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفرا أولادها كالزبيب «1»
أي سودا.
وإنّما سمّيت سود الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها بشيء من صفرة، كما قيل لبيض الظباء:
أدم، لأن بيضها يعلوه كدرة.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ رفع عطف على قوله يُؤْذَنُ ...
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قال أبو عثمان: أمسكتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب، وقال الحسن: وهي عذر لمن أعرض عن منعمه وجحده وكفر بنعمه. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ جمع الظل وقرأها الأعرج في ظلل على جمع الظلة وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ويقال لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا في الدنيا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ مشركون مستخفون للعذاب، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا صلّوا لا يَرْكَعُونَ لا يصلّون،
قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين
__________
(1) لسان العرب: 1/ 355.(10/111)
أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة فقالوا لا نحني فإنها مسبّة علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» [84] «1»
، وقال ابن عباس: إنما يقال لهم: هذا يوم القيامة حين يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا به، وقال أهل المعاني: ليس قوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ تكرارا غير مفيد لأنه أراد بكلّ قول منه غير ما أراد بالقول الاخر كأنه ذكر شيئا ثم قال: ويل للمكذّبين بهذا والله أعلم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 168.(10/112)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
سورة النبأ
مكّية، وهي سبع مائة وسبعون حرفا، ومائة وثلاث وسبعون كلمة، وأربعون آية
أخبرني ابن المعزي قال: أخبرنا ابن مطرّز قال: حدثنا ابن شريك قال: حدّثنا ابن يونس قال: حدّثنا سلام قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبيّ أمامة عن أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ عَمَّ يَتَساءَلُونَ سقاه الله سبحانه وتعالى برد الشراب يوم القيامة» [85] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 30]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19)
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24)
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)
عَمَّ يَتَساءَلُونَ يعني عن أي شيء يتساءلون هؤلاء المشركين وذلك أنهم اختلفوا واختصموا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ قال مجاهد هو القرآن. دليله قوله سبحانه قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ «2» [الآية] وقال قتادة: هو البعث، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ فمصدّق ومكذّب كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وهذا وعيد لهم، وقال الضحاك كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يعني الكافرين، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يعني المؤمنين، وقراءة العامة بالياء فيهما، وقرأ الحسن ومالك بن دينار بالتاء فيهما.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 237.
(2) سورة ص: 67.(10/113)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أصنافا ذكورا وإناثا.
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً راحة لأبدانكم، والنائم مسبوت لا يعلم ولا يعقل كأنّه ميّت، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً غطاء وغشاء يلبس كل شيء بسواده وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً سببا لمعاشكم والتصرّف في مصالحكم فسمّاه به كقول الشاعر:
وأخو الهموم إذا الهموم تحضّرت ... [جنح] الظلام وساده لا يرقد «1»
فجعل الوسادة هي التي لا ترقد والمعنى لصاحب الوسادة.
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً مضيئا منيرا وقّادا حارّا وهي الشمس. وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ قال مجاهد ومقاتل وقتادة: يعني الرياح التي تعصر السحاب، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ومجازه على هذا التأويل بالمعصرات مِنَ بمعنى الباء كقوله سبحانه: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ «2» وكذلك كان عكرمة يقرأها وأنزلنا بالمعصرات وروى الأعمش عن المنهال عن ابن عمرو وعن قيس بن سكن قال: قال عبد الله في قوله:
وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً قال: بعث الله سبحانه الريح فحمل الماء من الماء فتدرّ كما تدر اللقحة «3» ثم يبعث الماء كأمثال العزالي فتضرب به الرياح فينزل متفرّقا «4» .
قال المؤرّخ: المعصرات: ذوات الأعاصير، وقال أبو العالية والربيع والضحاك: هي السحاب التي تجلب المطر ولم تمطر كالمرأة المعصر، وهي التي دنا حيضها، قال أبو النجم:
قد أعصرت أو قد دنا اعصارها.
وهذه رواية الوالي عن ابن عباس. قال المبرّد: المعصرات الفاطرات، وقال ابن كيسان:
المغيثات من قوله يَعْصِرُونَ وقال أبي بن كعب والحسن وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان: مِنَ الْمُعْصِراتِ أي من السموات.
ماءً ثَجَّاجاً أي صبابا، وقال مجاهد: مدرارا، قتادة: متتابعا يتلوا بعضه بعضا، وقال ابن زيد: كثيرا.
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً مجتمعه ملتفة بعضه ببعض وواحدها ألفّ في قول [نحاة] البصرة وليس بالقوى وفي قول الآخرين واحدها لف ولفيف وقيل: هو جمع الجمع يقال: جنّة لفا [وبنت] لف وجنان لف بضم اللام ثم تجمع اللف ألفافا.
__________
(1) تفسير الطبري: 30/ 6 مورد الآية.
(2) سورة القدر: 4- 5.
(3) في نسخة المصدر: ناقة. [.....]
(4) السنن الكبرى للبيهقي: 3/ 364.(10/114)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً لما وعد الله سبحانه يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [ ... ] «1» ،
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن منصور الكسائي قال: حدّثنا محمد بن عبد الجبار قال: أخبرنا محمد بن زهير عن محمد بن المهتدي عن حنظلة الدّوري عن أبيه عن [البزا] بن عازب قال: كان معاذ بن جبل جالسا قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيوب الأنصاري فقال معاذ: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً فقال: «معاذ سألت عن عظيم من الأمر، ثم أرسل عينيه ثم قال: تحشرون عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميّزهم الله تعالى من جماعة المسلمين وبدّل صورهم فبعضهم على صور القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكبّين أرجلهم فوق ووجوههم أسفل يسحبون عليها، وبعضهم عمي يتردّدون، وبعضهم صُمٌّ بُكْمٌ ... لا يَعْقِلُونَ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلّاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يقذّرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلّبين على جذوع من نار، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف، وبعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم، فأما الذين على صورة القردة فالقتّات من الناس- يعني النّمام- وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت، والمنكسين على وجوههم فأكلة الربا، والعمي من يجور في الحكم، والصمّ والبكم المعجبون بأعمالهم، والذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم، والمقطّعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران، والمصلّبين على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ومنعوا حق الله سبحانه من أموالهم، والذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» [86] «2» .
وَفُتِحَتِ السَّماءُ قرأ أهل الكوفة بالتخفيف وغيرهم بالتشديد. فَكانَتْ أَبْواباً أي شقت لنزول الملائكة، وقيل: شقت حتى جعلت كالأبواب قطعا، وقيل: تنحلّ وتتناثر حتى تصير فيها أبواب وطرق وقيل: إنّ لكل عبد بابين في السماء: باب لعمله وباب لرزقه، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب.
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ عن وجه الأرض فَكانَتْ سَراباً كالسراب إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً طريقا وممرا فلا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار، وقال مقاتل: محبسا لِلطَّاغِينَ للكافرين مَآباً لابِثِينَ قرأه العامة بالألف وقرأ علقمة وحمزة: لبثين بغير ألف وهما لغتان فِيها أَحْقاباً جمع حقب والحقب جمع حقبة كقول متمم:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا «3»
__________
(1) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
(2) الدر المنثور: 6/ 307.
(3) تاج العروس: 3/ 119.(10/115)
واختلف العلماء في معنى الحقب فقال قوم: هو اسم للزمان والدّهر وليس له حدّ، وروى أبو الضحى عن ابن مسعود قال: لا يعلم عدد الأحقاب إلّا الله عزّ وجل، وقال آخرون: هو محدود. ثم اختلفوا في مبلغ مدّته فقال طارق بن عبد الرحمن: دعاني شيخ بين الصفا والمروة فإذا عنده كتاب عبد الله بن عمرو لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ان الحقب أربعون سنة كلّ يوم منها ألف سنة،
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد وابن حسن قالا: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا ابن المقري وأبو عبيد الله قالا: حدّثنا [محمد بن يحيى] العرني عن سفيان عن عمّار الدهني قال: قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري: ما يجدون في الحقب في كتاب الله المنزل قال: يجده في كتاب الله ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهرا لكل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن الفتح قال: حدّثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي قال: حدّثنا زياد بن أبي يزيد قال: حدّثنا سليمان بن مسلم عن سليمان الحتمي عن نافع عن [ابن عمر] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكونوا فيها أحقابا، والحقب بضع وثمانين سنة، والسنة ثلاثمائة وستون ويوما، كل يوم ألف سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فلا يتّكلنّ أحد على أن يخرج من النار» [87] «1» .
وقال أبي بن كعب: بلغني أن الحقب ثلاثمائة سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كلّ يوم ألف سنة، وقال الحسن: إنّ الله سبحانه لم يذكر شيئا إلّا وجعل له مدّة ينقطع إليها ولم يجعل لأهل النار مدّة بل قال: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً فو الله ما هو إلّا أنه إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر ثم آخر كذلك إلى أبد الآبدين فليس للأحقاب عدة إلّا الخلود في النار ولكن قد ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة كل يوم منها ألف سنة ممّا نعده، وقال مقاتل بن حيان: الحقب الواحد سبع عشرة ألف سنة، وقال وهذه الآية منسوخة فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً «2» يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل، وقال بعض العلماء مجاز الآية لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً: لا يذوقون في تلك الأحقاب إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً ثم يلبثون أحقابا يذوقون حرّ الحميم، والغساق من أنواع العذاب، فهو توقيت لأنواع العذاب لا بمكثهم في النار.
لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً يشفيهم من الحر إلّا الغسّاق وهو الزمهرير، وقيل صديد أهل السعير، وقال الثمالي: دموعهم، وقال شهر بن حوشب: الغسّاق واد في النار فيه ثلاثمائة وثلاثون شعبا في كل شعب ثلاثمائة وثلاثون بيتا في كل بيت أربع زوايا في كلّ زاوية شجاع كأعظم ما خلقه الله سبحانه من خلقه في رأس كل شجاع سم.
__________
(1) الدر المنثور: 6/ 308.
(2) سورة: النبأ: 30.(10/116)
وَلا شَراباً يرويهم من العطش، إِلَّا حَمِيماً وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمد قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حماد قال: حدّثنا محمد بن علي الحسن الشقيقي قال: سألت أبا معاذ النحوي الفضل بن خالد المروزي يقول في قوله سبحانه: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً قال: البرد: النوم، ومثله قال الكسائي وأبو عبيده وانشدوا فيه:
بردت مراشفها عليّ فصدّني ... عنها وعن قبلاتها البرد «1»
والعرب تقول: منع البرد البرد، يعني أذهب البرد النوم، قال الفراء: إنّ النوم ليبرّد صاحبه وإنّ العطشان لينام فيبرد غليله فلذلك سمي النوم بردا، قال الشاعر:
وان شئت حرّمت النساء سواكم ... وان شئت لم أطعم نقاخا «2» ولا بردا «3»
وقال الحسن وعطاء: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً أي روّحا وراحة.
جَزاءً نصب على المصدر، مجازه: جازيناهم جزاء.
وِفاقاً وافق أعمالهم وفاقا كما نقول: قاتل قتالا عن الأخفش، وقال الفراء: هو جمع وفق والوفق واللفق واحد، قال الربيع: جزاء بحسب أعمالهم، الضحاك: على قدر أعمالهم، مقاتل: وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ولا عذاب أعظم من النار، الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة فأثابهم الله بما يسوءهم.
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ يخافون حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً تكذيبا قال الفراء: هي لغة يمانية فصيحة، يقولون: كذّب كذّابا، وخرّقت القميص خرّاقا، كل فعّلت فمصدرها فعّال في لغتهم مشدّد، قال: وقال لي إعرابي منهم: علي المروّة ستفتيني الحلاق أحب إليك أم القصاب وأنشدني بعض بني كلاب:
لقد طال [ما ثبطتني] عن صحابي ... وعن حوج قضاؤها من شفائنا «4»
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً
أخبرني ابن فنجويه قال:
حدّثنا السنّي قال: أخبرني ابن منجويه قال: حدّثنا أبو داود الحراني قال: حدّثنا شعيب بن حيان قال: حدّثنا مهدي بن ميمون قال: حدّثنا وسمعت الحسن بن دينار سأل الحسن عن أشد آية في القرآن على أهل النار فقال الحسن: سألت أبا برزة الأسلمي فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» .
__________
(1) جامع البيان للطبري: 30/ 17.
(2) النقاخ: الماء البارد الصافي.
(3) الصحاح: 2/ 446.
(4) تفسير الطبري: 30/ 22.(10/117)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 40]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً فوزا ونجاة من النار الى الجنة، وقال ابن عباس والضحاك: متنزّها.
حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ نواهد قد تكعبت ثديهنّ واحدتها كاعب، قال بشر بن أبي حازم:
[وكم من حصان قد حوينا كريمة] ... ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر «1»
أَتْراباً مستويات في السنّ وَكَأْساً دِهاقاً قال الحسن وابن عباس وقتادة وابن زيد:
مترعة مملوة، وقال سعيد بن جبير ومجاهد: متتابعة
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً تكذيبا وهي قراءة العامة، وخفّفه الكسائي وهي قراءة أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه
، وهما مصدران للتكذيب.
وقال قوم: الكذاب بالتخفيف مصدر الكاذبة وقيل: هو الكذب، قال الأعشى:
فصدقتها وكذبتها ... والمرء تنفعه كذابه
وإنّما خففها هنا لأنها ليست بمقيّدة بفعل يصيّرها مصدرا له، وشدد قوله: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً لأن كذبوا يقيد الكذاب بالمصدر «2» .
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً كثيرا كافيا وافيا يقال: أحسبت فلانا أي أعطيته ما يكفيه حتى قال: حسبي. قال الشاعر:
ونقفي وليد الحيّ إن كان جائعا ... ونحسبه إن كان ليس بجائع «3»
أي يعطيه حتى يقول حسبي.
وقيل: جزاء بقدر أعمالهم وقرأ أبو هاشم عَطاءً حِساباً بفتح الحاء وتشديد السين على وزن فعّال أي كفافا. قال الأصمعي: تقول العرب حسّبت الرجل بالتشديد إذا أكرمته، وأنشد:
إذا أتاه ضيفه يحسّبه ... من حاقن «4» أو من صريح يحلبه «5»
__________
(1) سقط في المخطوط واستدركناه عن تفسير القرطبي: 19/ 183.
(2) في تفسير القرطبي (19/ 184) : يقيد المصدر بالكذاب.
(3) تفسير القرطبي: 19/ 184.
(4) حقن اللبن: جمعه في السقاء. [.....]
(5) تفسير مجمع البيان: 10/ 246.(10/118)
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا الطهراني قال: أخبرنا يحيى بن الفضل قال: حدّثنا وهب بن عمر قال: أخبرنا هارون بن موسى عن حنظلة عن شهر عن ابن عباس أنه قرأ (عطاء حسنا) بالنون.
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ قرأ ابن مسعود والأشهب وأبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو سلام ويعقوب برفع الباء والنون، وقرأ ابن عامر وعيسى وعاصم كلاهما خفضا واختاره أبو حاتم، وقرأ ابن كثير ومحيض ويحيى وحمزة والكسائي رَبِّ خفضا والرحمنُ رفعا، واختاره أبو عبيد، وقال: هذه أعدلها عندي أن يخفض الأوّل منهما لقربه من قوله: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ فتكون نعتا له ونرفع الرحمنُ لبعده منه.
لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً كلاما وقال الكلبي: شفاعة إلّا بإذنه.
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ اختلفوا فيه،
فأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن خرجة قال: حدّثنا عبد الله بن العباس الطيالسي قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا إبراهيم ابن طهمان عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس قال: أتى نفر من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح ما هو؟ قال: «هو جند من جند الله ليسوا بملائكة، لهم رؤوس وأيد وأرجل يأكلون الطعام ثم قرأ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا الآية، قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند» [88] «1» .
وقال ابن عباس: هو من أعظم الملائكة خلقا، وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا المسيب قال: حدّثنا ثابت أبو حمزة عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود قال: الروح ملك أعظم من السموات ومن الجبال وأعظم من الملائكة، وهو في السماء الرابعة تسبح كلّ يوم اثني عشر تسبيحة يخلق من كل تسبحه ملك يجيء يوم القيامة صفا وحده، وقال الشعبي والضحاك: هو جبريل، وروى الضحاك عن ابن عباس قال: إنّ عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل جبريل (عليه السلام) فيه كل فجر فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعظما إلى عظمه، ثم ينتفض فيخرج الله سبحانه من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كلّ يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور في الكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة، وقال وهب: إنّ جبريل (عليه السلام) واقف بين يدي الله سبحانه ترعد فرائصه يخلق الله سبحانه وتعالى من كلّ رعدة ألف ملك، فالملائكة صفوف بين يدي الله منكّسوا رؤوسهم، فإذا أذن الله سبحانه لهم في الكلام قالوا: لا إله إلّا أنت وهو قوله سبحانه: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 187.(10/119)
لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً يعني لا إله إلّا الله، وقال مجاهد: هم خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون، أبو صالح: خلق يشبهون الناس وليسوا، وقال الحسن وقتادة: هم بنو آدم، قال قتادة: وهذا مما كان يكتمه ابن عباس، وروى ابن مجاهد عن ابن عباس قال: الروح خلق من الله وصورهم على صور بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلّا ومعه واحد من الروح، عطية: هي أرواح الناس يقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الأرواح الى الأجساد، وقال ابن زيد: كان أبي يقول: هو القرآن وقرأ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «1» .
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قال الشعبي: هما سماطا ربّ العالمين يوم القيامة سماطا من الروح وسماطا من الملائكة لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً قال: لا إله إلّا الله في الدنيا.
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً مرجعا وسبيلا إلى طاعته، نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
يعني القيامة وقيل القتل ببدر.
ْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
قال عبد الله بن عمر: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مدّ الأديم وحشرت الدواب والبهائم والوحش ثم يجعل القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء نطحتها، فإذا فرغ من القصاص قال لها:
كوني ترابا، فعند ذلك قُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
. قال مجاهد: يقاد يوم القيامة للمنقورة وللمنطوحة من الناطحة، وقال المقاتلان: إنّ الله سبحانه وتعالى يجمع الوحوش والهوام والطير كلّ شيء غير الثقلين فيقول: من ربّكم فيقولون: الرحمن الرحيم، فيقول لهم الرب تبارك وتعالى بعد ما يقضي بينهم حتّى يقتص للجماء من القرناء: أنا خلقتكم وسخّرتكم لبني آدم وكنتم مطيعين أيام حياتكم فارجعوا إلى الذي كنتم كونوا ترابا فيكونون ترابا، فإذا التفت الكافر إلى شيء صار ترابا يتمنى فيقول: يا ليتني كنت في الدنيا في صورة خنزير رزقي كرزقه وكنت اليوم في الآخرة ترابا. قال عكرمة: بلغني أنّ السباع والوحوش والبهائم إذا رأين يوم القيامة بني آدم وما هم فيه من الغمّ والحزن قلن: الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم فلا جنّة نرجو ولا نارا نخاف، وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا الحسن بن موسى قال: حدّثنا يعقوب بن عبد الله قال: حدّثنا جعفر عن عبد الله بن ذكوان أبي الزياد قال: إذا قضي بين الناس وأمر أهل الجنة إلى الجنّة وأهل النار إلى النار قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجنّ: عودوا ترابا فيعودون ترابا، فعند ذلك يقول الكافر حيث يراهم قد عادوا ترابا: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
، وبه قال ليث بن سليم: مؤمنوا الجن يعودون ترابا،
__________
(1) سورة الشورى: 52.(10/120)
وقال عمر بن عبد العزيز: إن مؤمنين الجن حول الجنّة في ريض ورحاب وليسوا فيها.
وسمعت أبا القاسم بن جبير يقول: رأيت في بعض التفاسير أن الكافر هاهنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب وافتخر بأنه خلق من النار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والراحة والرحمة ورأى ما هو وذويه فيه من الشدّة والعذاب تمنّى أنه بمكان آدم فيقول حينئذ: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً.
وقال أبو هريرة: فيقول التراب للكافر: لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي.(10/121)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
سورة النازعات
مكيّة: وهي ستة وأربعون آية، ومائة وتسع وسبعون كلمة، وثلاثة وسبع مائة وخمسون حرفا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً قال مسروق: هي الملائكة التي تنزع نفوس بني آدم، وهي رواية أبي صالح وعطية عن ابن عباس،
قال أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه: هي الملائكة تنزع أرواح الكافر والكفرة «1»
، وقال ابن مسعود: يريد أنفس الكفّار ينزعها ملك الموت من أجسادهم من تحت كلّ شعرة ومن تحت الأظافير وأصول القدمين ثم يفرّقها ويردّدها في جسده بعد ما تنزع حتى إذا كادت تخرج ردّها في جسده فهذا عمله بالكفار، وقال مقاتل: هم [ملك الموت] وأعوانه ينزعون روح الكافر كما ينزع السّفود الكثير الشعب من الصوف المبتل فتخرج نفسه كالغريق في الماء.
سعيد بن جبير: نزعت أرواحهم ثم غرّقت ثم حرّقت ثم قذف بها في النار، وقال مجاهد هو الموت ينزع النفوس، السندي: هي النفس حين تغرق في الصدر، وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنه يغرق، الحسن وقتادة وابن كيسان وأبو عبيدة والأخفش: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب، عطاء وعكرمة: هي القسيّ، وقيل: الغزاة، الرماة، ومجاز الآية:
والنازعات إغراقا كما يغرق النازع في القوس إذا بلغ بها غاية المد [ ... ] «2» الذي عند النصل الملفوف عليه، ويقال لقشرة البيضة الداخلة غرقي، وأراد بالإغراق المبالغة في النزع وهو سابغ في جميع وجوه تأويلها.
__________
(1) كذا في المخطوط.
(2) كلمة غير مقروءة في المخطوط.(10/122)
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً قال ابن عباس: يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلّ عنها وحكى الفرّاء هذا القول ثم قال: والذي سمعت من العرب أن يقولوا: أنشطت، وكأنما أنشط من عقال، وربطها نشطا، والرابط: الناشط، وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نشطته وأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت منشط.
وعن ابن عباس أيضا: هي أنفس المؤمنين عند الموت، ينشط للخروج وذلك أنه ليس من مؤمن يحضره الموت إلّا عرضت عليه الجنّة قبل أن يموت فيرى فيها أشباها من أهله وأزواجه من الحور العين فهم يدعونه إليها، فنفسه إليهم نشيطة ان تخرج فتأتيهم،
وقال علي ابن أبي طالب: هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أجوافها بالكرب والغمّ
، وقال مجاهد: هو الموت ينشط نفس الإنسان، وقال السندي: حين ينشط من القدمين، عكرمة وعطا: هي الأدهان، قتادة والأخفش: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي تذهب، يقال: حمارنا ناشط ينشط من بلد إلى بلد أي يذهب، ويقال لبقر الوحش نواشط، لأنها تذهب من موضع إلى موضع. قال الطرماح:
وهل بحليف الخيل ممّن عهدته ... به غير أحدان النواشط روّع «1»
والهموم تنشط بصاحبها، قال هميان بن قحافة:
أمست همومي تنشط المناشطا ... الشام بي طورا وطورا واسطا «2»
وقال الخليل: النشط والإنشاط «3» مدّك شيئا إلى نفسك حتى تنحل.
وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً
قال علي: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين
، وقال الكلبي: هم الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع يسلونه سلا رفيقا ثم يدعونها حتى يستريح، وقال مجاهد وأبو صالح: هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كما يقال للفرس الجواد، سابح إذا أسرع في جريه، وقيل: هي خيل الغزاة. قال امرؤ القيس:
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن الغبار بالكديد المركل «4»
وقال قتادة: هي النجوم والشمس والقمر. قال الله سبحانه: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «5» وقال عطا: هي السفن.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 30/ 38.
(2) لسان العرب: 7/ 415.
(3) النشط: هو الإيثاق، والإنشاط هو الحلّ، تاج العروس: 5/ 231.
(4) كتاب العين: 3/ 16.
(5) سورة يس: 40.(10/123)
فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً قال مجاهد وأبو روق: سقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، مقاتل:
هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، ابن مسعود: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله ورحمته وكرامته، عطا: هي الخيل، قتادة: النجوم تسبق بعضها بعضا في المسير.
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً يعني الملائكة.
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعفر بن الطيب قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص قال: حدّثنا محمد بن خلف قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا الأعمش عن عمرو ابن مرّة عن عبد الرحمن بن سابط قال: يدبّر أمر الدنيا أربعة: جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل (عليهم السلام) ، فأما جبريل فوكّل بالرياح، وأما ميكائيل فوكّل بالقطر والنبات وأمّا ملك الموت فوكّل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم.
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني النفخة الأولى التي يتزلزل ويتحرّك لها كلّ شيء تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ وهي النفخة الأخيرة وبينهما أربعون سنة، قال قتادة: هما صيحتان: أما الأولى فتميت كلّ شيء بإذن الله، وأمّا الأخرى فتحيي كلّ شيء بإذن الله، وقال مجاهد: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني تزلزل الأرض والجبال تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ حين تنشق السماء ويحمل الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، عطا: الرَّاجِفَةُ: القيامة، والرَّادِفَةُ البعث، ابن زيد: الرَّاجِفَةُ:
الموت، والرَّادِفَةُ: الساعة، وأصل: الراجفة: الصوت والحركة ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها، وكلّ شيء ولى شيئا وتبعه فقد ردفه.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال: حدّثنا محمد بن هارون الحضرمي قال: حدّثنا الحسن بن عرفة قال: حدّثنا قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري عن عبد الله ابن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيّ بن كعب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال: «يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله جاءت الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه» [89] «1» .
واختلف العلماء في جواب القسم فقال بعض نحاة الكوفة: جوابه مضمر مجازه: لتبعثن ولتحاسبن، وقال بعض نحاة البصرة: هو قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى وقيل: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ... وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً.
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ خائفة، مجاهد: وجلة، السدي: زائلة عن أماكنها، نظيره إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ «2» ، المؤرّخ: قلقة، قطرب: مستوفرة، يمان: غير هادئة ولا ساكنة، أبو
__________
(1) سنن الترمذي: 4/ 53.
(2) سورة غافر: 18.(10/124)
عمرو بن العلا: مرتكضة، المبرد: مضطربة من وجيف الحركات يقال: وجف القلب ووجب فهو يجف ويجب وجوفا ووجيفا ووجوبا ووجيبا.
أَبْصارُها خاشِعَةٌ يَقُولُونَ يعني هؤلاء المكذّبين للبعث من مشركي مكّة إذا قيل لهم:
إنكم مبعوثون بعد الموت.
إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أي إلى أوّل الحال وابتداء الأمر فراجعون أحياء كما كنّا قبل حياتنا وهو من قول العرب: رجع فلان على حافرته إذا أرجع من حيث جاء، وقال الشاعر:
أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار «1»
ويقال: البعد عند الحافر وعند الحافرة أي في العاجل عند ابتداء الأمر وأول سومه، والتقى القوم فاقتتلوا عند الحافرة أي عند أول كلمة.
أخبرنا أبو بكر الجمشادي قال: أخبرنا أبو بكر القطيعي قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: حدّثنا عمر بن مرزوق قال: أخبرنا عمران القطان قال: سمعت الحسن يقول: إنّا لمردودون إلى الدنيا فنصير أحياء كما كنا، قال الشاعر:
آليت لا أنساكم فاعلموا ... حتى يرد الناس في الحافرة «2»
وقال بعضهم: الحافرة الأرض التي فيها تحفر قبورهم فسمّيت حافرة وهي بمعنى المحفورة كقوله سبحانه: ماءٍ دافِقٍ «3» وعِيشَةٍ راضِيَةٍ «4» ومعنى الآية إنّا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقا جديدا ثم مردودون في قبورنا أمواتا، وهذا قول مجاهد والخليل بن أحمد، وقيل: سمّيت الأرض حافرة، لأنها مستقر الحوافر كما سمي القدم أرضا، لأنها على الأرض ومجاز الآية: نرد فنمشي على أقدامنا، وهذا معنى قول قتادة، وقال ابن زيد: الحافرة النار، وقرأ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ قال: هي اسم من أسماء النار وما أكثر أسمائها.
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قرأ أهل الكوفة وأيوب ناخرة بالألف، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس وابن الزبير وابن مسعود وأصحابه، واختاره الفراء وابن جرير لوفاق رؤوس الآي، وقرأ الباقون بجرة بغير الألف، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال أبو عبيد إنما اخترناه لحجتين: إحداهما: أن الجمهور الأعظم من الناس عليها، منهم أهل تهامة والحجاز والشام والبصرة، والثانية: إنّا قد نظرنا في الآثار التي فيها ذكر العظام التي قد نخرت
__________
(1) لسان العرب: 4/ 205، تفسير القرطبي: 19/ 197.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 197. [.....]
(3) سورة الطارق: 6.
(4) سورة الحاقّة: 21.(10/125)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
فوجدناها كلّها العظام النخرة، ولم أسمع في شيء منها الناخرة، وكان أبو عمرو يحتج بحجة ثالثة قال: إنّما يكون تناخره إلى تنخرها، ولم يفعل، وهما لغتان في قول أكثر أهل اللسان مثل:
الطمع والطامع والبخل والباخل والفره والفاره والجذر والجاذر، وفرّق بينهما فقالوا: النخرة:
البالية، والناخرة: المجوّفة التي تمرّ فيها الريح فتخرّ أي تصوّت.
قالُوا يعني المنكرين تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ رجعة غابنة قال الله سبحانه: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ صيحة ونفخة واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ يعني وجه الأرض صاروا على ظهر الأرض بعد ما كانوا في جوفها، والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، قال أئمة أهل اللغة تراهم سمّوا ذلك بها [لأنّ فيها نوم الحيوان] سهّرهم فوصف بصفة ما فيه، واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية بن أبي الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم «1»
أي لهم البر والبحر، وقال امرؤ القيس:
ولاقيتم بعده غبّها ... فضاقت عليكم به الساهرة
وقال ابو ذؤيب:
يرتدن ساهرة كأن حميمها ... وعميمها أسداف ليل مظلم «2»
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن لمهان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا جهاد عن أبي سنان عن أبي المنية فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ جبل عند البيت المقدّس، وروى الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ قال الصقع الذي بين جبل حسان وجبل أريحا يمدّه الله كيف يشاء، وقال سفيان: هي أرض الشام، وقال قتادة: هي جهنم.
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 46]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39)
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44)
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
__________
(1) تفسير الطبري: 10/ 252 والبيت وصف الجنة.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 199.(10/126)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى قرأ أهل الحجاز وأيوب ويعقوب بتشديد الزاي أي تتزكّى ومثله روى العباس عن أبي عمرو، غيرهم بتخفيفه ومعناه تسلّم وتصلح وتطهّر.
وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: أخبرنا ابن زنجويه قال: حدّثنا مسلمة قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن التيمي عن عبيد الله بن أبي بكر قال: حدّثني صخر بن جويرية قال: لما بعث الله تعالى موسى (عليه السلام) إلى فرعون فقال له: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى إلى فَتَخْشى ولن يفعل. قال موسى (عليه السلام) : يا رب وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لن يفعل؟ فأوحى الله تعالى إليه أن أمض إلى من أمرت به فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر فلم يبلغوه ولم يدركوه.
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى وهي العصا واليد البيضاء.
فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ تولى وأعرض عن الإيمان.
يَسْعى يعمل بالفساد فَحَشَرَ فجمع السحرة وقومه فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى يقول ليس ربّ فوقي، وقيل: أراد أن الأصنام أرباب وأنا ربّها وربكم، وقيل: أراد القادة والسادة فَأَخَذَهُ اللَّهُ فعاقبه الله نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى يعني في الدنيا والآخرة، الأولى بالغرق وفي الآخرة بالنار، وقيل: نكال كلمته الأولى وهي قوله سبحانه ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وكلمته الآخرة هي قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وكان بينهما أربعون سنة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى أَأَنْتُمْ أيها المنكرون للبعث أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ إن الذي قدر على خلق السماء قادر عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وقوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «1» .
بَناها رَفَعَ سَمْكَها سقفها، قال الفراء: كل شيء حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك وبناء وسموك فَسَوَّاها بلا شطور ولا فطور وَأَغْطَشَ أظلم لَيْلَها والغطش أشد الظلمة ورجل أغطش أي أعمى وَأَخْرَجَ ضُحاها أبرز وأظهر نهارها ونوره.
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها اختلفوا في معنى الآية، فقال ابن عباس: خلق الله سبحانه
__________
(1) سورة غافر: 57.(10/127)
الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، ثم دحا الأرض بعد ذلك أي بسطها، قال ابن عباس وعبد الله بن عمرو: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام فدحيت الأرض من تحت البيت، وقيل معناه: والأرض مع ذلك دحاها كما يقال للرجل: أنت أحمق وأنت بعد هذا لئيم الحسب، أي مع هذا، قال الله عزّ وجل: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «1» أي مع ذلك، وقال الشاعر:
فقلت لها عني إليك فإنني ... حرام وإني بعد ذاك لبيب «2»
يعني مع ذلك.
ودليل هذا التأويل قراءة مجاهد والأرض عند ذلك دحاها وقيل بعد بمعنى قبل كقوله سبحانه: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ «3» أي من قبل الذكر وهو القرآن، وقال الهذلي:
حملت الهي بعد عروة إذا نجا خراش وبعض الشراهون من بعض زعموا أن خراشا نجا قبل عروة.
وقراءة العامة وَالْأَرْضَ بالنصب، وقرأ الحسن والأرض رفعها بالابتداء الرجوع الهاء وكلا الوجهين سائغان في عائد الذكر، والدّحو البسط والمدّ، ومنه أدحي النعامة لأنها تدحوه بصّدرها، يقال: دحا يدحوا دحوا ودحا يدحا دحيا لغتان مثل قولهم طغى يطغو أو يطغي وصغا يصغو ويصغي، ومحا يمحو ويمحي ولحي العود يلحوا أو يلحي، فمن قال: يدحو قال دحوت، ومن قال يدحا قال: دحيت.
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها قال القتيبي: أنظر كيف دلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنعام من العشب والشجر والحبّ والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح، لأنّ النار من العيدان والملح من الماء.
وَالْجِبالَ أَرْساها قراءة العامة بالنصب وقرأ عمرو بن عبيد بالرفع. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى وهي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كلّ هائلة من الأمور فتغمر ما سواها بعظم هولها أي يغلب، والطامة عند العرب الناهية التي لا تستطاع، وإنّما أخرت من قولهم طمّ الفرس طميمها إذا استفرغ جهده الجري.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا هناد ابن السهى قال: حدّثنا أبو أسامة عن ملك بن مغول عن القاسم الهمداني فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى قال الحسن: يسوق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.
__________
(1) سورة القلم: 13.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 205.
(3) سورة الأنبياء: 105.(10/128)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى عمل في الدنيا من خير أو شر وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها متى ظهورها وثبوتها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها علمها عند الله ولست من علمها في شيء
قالت عائشة:
لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الآيات.
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها قراءة العامة بالإضافة وقرأ أبو جعفر وابن محيض منذر بالتنوين، ومثله روى العباس عن أبي عمرو.
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا قيل: في قبورهم، إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها قال الفراء: ليس للغاشية ضحى إنّما الضحى لصدر النهار ولكن هذا ظاهر من كلام العرب أن تقولوا أتتك العشية أو عداتها إنما معناه آخر يوم أو أوّله قال وأنشد بعض بني عقيل:
نحن صبّحنا عامرا في دارها ... جردا تعاطى طرفي نهارها «1»
عشية الهلال أو سرارها.
بمعني عشية الهلال أو عشية سرار العشية.
__________
(1) لسان العرب: 2/ 503.(10/129)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
سورة عبس
مكيّة وهي إحدى وأربعون آية، ومائة وثلاثون كلمة، وخمس مائة وثلاثة وثلاثون حرفا
أخبرنا ابن المقري قال: أخبرنا ابن مطر قال: حدّثنا ابن شريك قال: حدّثنا ابن يونس قال: حدّثنا سلام قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة عَبَسَ وَتَوَلَّى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر» [90] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 32]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24)
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29)
وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
عَبَسَ كلح. وَتَوَلَّى وأعرض عنه بوجهه أَنْ لأن جاءَهُ الْأَعْمى وهو ابن مكتوم واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي، وذلك
أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبيا وأمية ابني خلف ويدعوهم إلى الله سبحانه ويرجوا إسلامهم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرئني وعلّمني مما علّمك الله، فجعل يناديه ويكرّر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد فعبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه وأقبل على القوم يكلّمهم، فأنزل الله
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 263.(10/130)
سبحانه هذه الآيات، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه وإذا رآه قال: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول: «هل لك من حاجة» [91] «1» واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما قال أنس بن مالك: فرأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سوداء
، قال ابن زيد كان يقال: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الوحي لكتم هذا.
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي يتطهّر من ذنوبه ويتّعظ ويصلح، وقال ابن زيد: يسلم.
أَوْ يَذَّكَّرُ يتعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى الموعظة، وقراءة العامة فَتَنْفَعُهُ بالرفع نسقا على قوله يَزَّكَّى ويَذَّكَّرُ، وقرأ عاصم في أكثر الروايات بالنصب على جواب لعل بالفاء.
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى اثرى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى تتعرّض وتصغي إلى كلامه قال الراعي:
تَصَدَّى لوضّاح كان جبينه سراج الدجى تجبى إليه الأساور، وقرأ أهل الحجاز وأيوب تصّدى بتشديد الصاد على معنى يتصدى، وقرأ الباقون بالتخفيف على الحذف.
وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أن لا يسلم إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يمشي يعني الأعمى وَهُوَ يَخْشى الله سبحانه فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى تعرض وتتغافل وتتشاغل بغيره كَلَّا ردع وزجر أي لا تفعل مثلها بعدها فليس الأمر كما فعلت من إقبالك على الغني الكافر وإعراضك [عن] «2» الفقير المؤمن.
إِنَّها يعني هذه الموعظة، وقيل: هذه السورة، وقال مقاتل: آيات القرآن تَذْكِرَةٌ موعظة وتبصرة فَمَنْ شاءَ من عباد الله ذَكَرَهُ اتّعظ به، وقال مقاتل: فمن شاء الله ذكّره، أي فهّمه واتعظ به إذا شاء الله منه ذلك وذكّره وفهمه، والهاء في قوله: ذَكَرَهُ راجعة إلى القرآن والتنزيل والوحي أو الوعظ.
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ يعني اللوح المحفوظ، وقيل: كتب الأنبياء (عليهم السلام) ، دليله قوله سبحانه: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى «3» .
مَرْفُوعَةٍ رفيعة القدر عند الله مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قال ابن عباس ومجاهد: كتبة وهم الملائكة الكرام الكاتبون واحدهم سافر، ويقال: سفرت أي كتبت ومنه قيل للكتاب سفر، وجمعه أسفار، ويقال للورّاق سفّرا بلغة العبرانية وقال قتادة: هم القرّاء، وقال الباقون: هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير وهو الرسول، وسفير القوم هو الذي يسعى بينهم للصلح، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم، قال الشاعر:
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 213.
(2) في المخطوط: على.
(3) سورة الأعلى: 18.(10/131)
فما ادع السفارة بين قومي ... ولا أمشي بغير أب نسيب «1»
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا علي بن الحسين قال: حدّثنا الصلت بن مسعود قال: حدّثنا جعفر بن سلمان قال: حدّثنا عبد الصمد بن معقل قال: سمعت عمّي وهب بن منبّه بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قال: هم أصحاب محمد.
كِرامٍ بَرَرَةٍ جمع بار وبرّ مثل كافر وكفرة وساحر وسحرة.
قُتِلَ الْإِنْسانُ لعن الكافر سمعت السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول:
سمعت أبا القاسم البزاز يقول: قال ابن عطا: منع الإنسان عن طريق الخيرات بجهله بطلب رشده وسكونه إلى ما وعد الله له، قال مقاتل: نزلت في عتبة بن أبي لهب ما أَكْفَرَهُ بالله وأنعمه مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده على طريق التعجّب، وقال الكلبي ومقاتل: هو (ما) الاستفهام تعني أي شيء يحمله على الكفر.
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي طريق خروجه من بطن أمّه، وقال الحسن ومجاهد: يعني طريق الحق والباطل بيّن له ذلك وسهل له العمل به، دليله قوله سبحانه: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «2» وقال أبو بكر بن طاهر: يسّر على كل أحد ما خلقه له وقدّر عليه، دليله
قوله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له» [92] «3» .
ثُمَّ أَماتَهُ قبض روحه فَأَقْبَرَهُ صيّره بحيث يقبر ويدفن يقال: قبرت الميت، إذا دفنته، وأقبره الله أي صيّره بحيث يقبر وجعله ذا قبر ويقول العرب: بترت ذنب البعير والله أبتره، وعضبت قرن الثور والله أعضبه، وطردت فلانا والله أطرده أي صيّره طريدا، وقال الفراء: معناه جعله مقبورا، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير ولا ممن يلقى في النواويس، فالقبر مما أكرم به المسلم، وقال أبو عبيدة فَأَقْبَرَهُ أي أمر بأن يقبر، قال: وقالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لما قتل صالح بن عبد الرحمن: أقبرنا صالحا فقال: دونكموه.
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أحياه بعد موته.
كَلَّا ردّ عليه أي ليس الأمر كما تقول ونظر هذا الكافر، وقال الحسن: حتما.
لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي لم يفعل ما أمره به ربّه ولم يؤدّ ما فرض عليه فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ كيف قدر ربّه ودبّره وليكون له آية وعبرة، وقال مجاهد: إلى مدخله ومخرجه.
أخبرنا ابن فتحويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا
__________
(1) فتح القدير: 5/ 383. [.....]
(2) سورة البلد: 10.
(3) مسند أحمد: 1/ 82.(10/132)
أحمد بن عبد الملك قال: حدّثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد بن جدعان عن الضحاك بن سفيان الكلابي: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا ضحاك ما طعامك؟» قال: يا رسول الله اللحم واللبن، قال:
«ثم يصير إلى ماذا؟» قال: إلى ما قد علمت. قال: «قال الله سبحانه وتعالى: ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا» [93] «1» .
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى قال: حدّثنا أبو حذيفة قال: حدّثنا سفيان عن يونس عن عبيد عن الحسن عن عتيّ عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وان قزحه «2» وملحه فانظر إلى ما يصير» [94] .
وأخبرني ابن فنحويه قال: حدّثنا ابن صقلاب قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا سهل بن عامر قال: حدّثنا عمر بن سليمان عن ابن الوليد قال: سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر إلى ما يخرج منه، قال: يأتيه الملك فيقول انظر إلى ما بخلت به إلى ما صار؟ «3» أَنَّا قرأ الكوفيون بفتح الألف على نية تكرير الخافض، مجازه: ولينظر إلى أنّا، غيرهم بالكسر على الاستئناف «4» .
صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا يعني الغيث ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا بالنبات فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً قال ابن عباس والضحاك: يعني الرطبة، وأهل مكة يسمون القتّ القضيب، قال ثعلب:
سمي بذلك لأنه يقضب في كل أيام أي يقطع، وقال الحسن: القضب العلف.
وَزَيْتُوناً وهو الذي منه الزيت وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً غلاظ الأشجار واحدها أغلب ومنه قيل لغليظ الرقبة أغلب، وقال مجاهد: ملتفة، ابن عباس: طوالا، قتادة: الغلب النخل الكرام، عكرمة: عظام الأوساط، ابن زيد: عظام الجذوع والرقاب.
وَفاكِهَةً وَأَبًّا يعني الكلاء والمرعى، وقال الحسن: هو الحشيش وما تأكله الدواب ولا تأكله الناس، قتادة: أما الفاكهة فلكم وأما الأب فلأنعامكم، أبو رزين: النبات، يدل عليه ما روى ابن جبير عن ابن عباس قال: ما أنبتت الأرض مما تأكل النَّاسُ وَالْأَنْعامُ. علي بن أبي طلحة عنه: الأبّ: الثمار الرطبة. الضحّاك: هو التبن. عكرمة: الفاكهة: ما يأكل الناس، والأب: ما يأكل الدواب.
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 425.
(2) قزحه: تبله وهو الذي يوضع في القدور والأوعية من الكمون والكزبرة يقال: توابل.
(3) تفسير القرطبي: 19/ 220.
(4) راجع زاد المسير: 8/ 185.(10/133)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد قال: حدّثنا داود بن سليمان قال:
حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا محمد بن عبيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي إن أبا بكر سئل عن قوله وَفاكِهَةً وَأَبًّا فقال: أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
وأخبرنا ابن حمدون قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال: أخبرنا أبي عن صالح عن ابن شاب عن أنس بن مالك أخبره أنه سمع هذه الآية ثم قال: كلّ هذا قد عرّفنا فما الأب ثم رفض عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكليف وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ثم قال: اتبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه.
مَتاعاً لَكُمْ يعني الفاكهة وَلِأَنْعامِكُمْ يعني العشب.
[سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يعني صيحة القيامة، سمّيت بذلك لأنها تصخّ الأسماع أي تبالغ في إسماعها حتى كاد تصمّها.
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لا يلتفت إلى واحد منهم لشغله بنفسه وقيل: حذرا من مطالبتهم إيّاه لما بينه وبينهم من التبعات والمظالم، وقيل: لعلمه بأنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه من الله شيئا.
سمعت السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت عبد الله بن طاهر الأبهري يقول في هذه الآية: يفر منهم إذا ظهر له عجزهم وقلّة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد سوى ربّه الذي لا يعجزه شيء، ويمكن من فسحة التوكّل واستراح في ظل التفويض.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلّد قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرني شيخ لنا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: أول من يفر يوم القيامة من أبيه إبراهيم وأول من يفر من أمه إبراهيم وأول من يفر من ابنه نوح، وأول من يفر من أخيه هابيل بن آدم، وأول من يفر من صاحبته نوح ثم لوط، ثم تلا هذه الآية يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وقال يروون أن هذه الآية نزلت فيهم.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس قال: أخبرنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن(10/134)
خالد قال: حدّثنا أبو حنيفة محمد بن عمرو قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا خليد بن دعلج عن قتادة في قول الله سبحانه يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ قال: يفرّ هابيل من قابيل وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، قال:
يفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه وإبراهيم من أبيه وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، قال: لوط من صاحبته ونوح من ابنه.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ يشغله عن شأن غيره قال خفاف.
ستغنيك حرب بني مالك ... عن الفحش والجهل في المحفل
قال الفراء: وقرأ بعض القراء وهو ابن محيض (بعينه) وهو شاذ.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال:
حدّثنا ابن أبي أوس قال: حدّثنا أبي عن محمد بن عياش عن عطاء بن بشار عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبعث الناس حفاة عراة عزلا قد ألجمهم العرق، وبلغ شحوم الآذان» .
فقلت يا رسول الله وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال: «قد شغل الناس لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» [95] «1» .
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ مشرقة مضيئة، يقال: أسفر الصبح إذا أضاء ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ فرحة.
أخبرنا الحسين قال: حدّثنا أبو علي الحسين بن أحمد الفامي قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال: حدّثنا يحيى بن معين قال: أخبرنا إسحاق بن الأشعث عن شمر بن عطية عن عطاء في قول الله سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ قال: من طول ما اغبرت في سبيل الله.
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ غبار، ذكر أن البهائم التي يصيّرها الله سبحانه ترابا بعد القضاء بينها حوّل ذلك التراب في وجوه الكفرة تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ظلمة وكآبة وكسوف وسواد، قال ابن عباس: يغشاها ذلّة، قال ابن زيد: الفرق بين الغبرة والقترة أن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء، والغبرة ما كان أسفل في الأرض أُولئِكَ الذين يصنع بهم هذا هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ.
__________
(1) مجمع الزوائد: 10/ 333.(10/135)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
سورة التكوير
مكيّة وهي تسع وعشرون آية، ومائة وأربع كلمات، وخمس مائة وثلاثون حرفا
حدّثنا الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن علي بن سهل الماسرخي إملاء قال: أخبرنا أبو الوفاء المؤمّل بن عيسى الماسرخي قال: حدّثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: حدّثنا إبراهيم بن خالد قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله بن القاص قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد الصناعي يقول:
سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» [96] «1» .
وأخبرني سعيد بن محمد قال: أخبرنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال:
حدّثنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد عن مسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أعاذه الله سبحانه وتعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته» [97] «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أظلمت، عطية عنه:
ذهبت، مجاهد: اضمحلت، قتادة: ذهب ضوؤها، سعيد بن جبير: عوّرت وهي بالفارسية كوريكرد. أبو صالح: نكست، وعنه أيضا: ألقيت، يقال: طعنه فكوّره، أي: ألقاه، ربيع بن هيثم: رمي بها. واصل التكوّر في كلام العرب جمع بعض الشيء إلى بعض كتكوير العمامة، وهو لفّها على الرأس، وتكوير الكارة من النبات، وهو جمع بعضها إلى بعض ولفّها، فمعنى
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 27، تفسير القرطبي: 19/ 226.
(2) تفسير مجمع البيان: 10/ 273.(10/136)
قوله إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ: جمع بعضها إلى بعض، ثم لف فرمي بها وإذا فعل ذلك بها ذهب ضوئها، دليله ونظيره قوله سبحانه وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «1» .
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي تناثرت من السماء فتساقطت على الأرض ويقال: انكدر الطائر أي سقط عن عشّه.
قال العجاج:
أبصر ضربان فضاء فانكدر «2» .
وانكدر القوم إذا جاءوا أرسالا حتى انصبوا عليهم «3» ، قال ذو الرمّة:
فانصاع جانبه الوحشي وانكدرت ... يلجبن لا يأتلي المطلوب والطّلب «4»
ابن عباس: تغيّرت.
وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ عن وجه الأرض فصارت هباء منبثا وَإِذَا الْعِشارُ وهي النوق الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر واحدتها عشراء، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزّها عليهم. عُطِّلَتْ سيّبت وأهملت تركها أربابها وكانوا [....] «5» لأذنابها فلم تركب ولم تحلب، ولم يكن في الدنيا مال أعجب إليهم منها «6» . لإتيان ما يشغلهم عنها.
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ.
أخبرنا عبد الخالق قال: أخبرنا ابن حبيب قال: حدّثنا أبو العباس البرتي قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا سفيان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ قال:
حشرها موتها، وقال ابن عباس: حشر كلّ شيء الموت غير الجنّ والإنس فإنهما يوقفان يوم القيامة، وقال أبيّ بن كعب وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي اختلطت. قتادة: جمعت، وقيل:
بعثت ليقضي الله [بينها] «7» .
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قرأ أهل مكّة والبصرة بالتخفيف وغيرهم بالتشديد، واختلفوا في معناه فقال ابن زيد وشمر بن عطيّة وسفيان ووهب: أوقدت فصارت نارا.
__________
(1) سورة القيامة: 9.
(2) أي فانصب، وهو في لسان العرب: 4/ 518.
(3) كتاب العين: 5/ 326.
(4) لسان العرب: 1/ 560.
(5) غير مقروءة في المخطوط. [.....]
(6) تفسير القرطبي: 30/ 83، وتفسير الدر المنثور: 6/ 318.
(7) في المخطوط: بينهما.(10/137)
قال ابن عباس: يكوّر الله الشمس والقمر والنجوم في البحر فيبعث عليها ريحا دبورا فينفخه حتى يصير نارا.
وقال مجاهد ومقاتل والضحّاك: يعني فجر بعضها في بعض العذب والملح فصارت البحور كلّها بحرا واحدا.
قال الحلبي: ملئت، ربيع بن حيثم: فاضبّت، الحسن: يبست، قتادة: ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة، وقتل: صارت مياهها بحرا واحد له من الحميم لأهل النار.
وأخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا الحسن بن الحريث قال:
حدّثنا الفضل موسى عن الحسين بن واقد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: حدّثني أبيّ بن كعب قال: ستّ آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فجردت واضطربت واحترقت وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش وماج بعضهم في بعض فذلك قوله سبحانه وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ قال: اختلطت وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ قال: أهملها أهعلها وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قال: قالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحر فإذا هي نار تأجج.
قال: فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة العليا، قال: فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم «1» .
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ
أخبرنا الحسن قال: أخبرنا السني قال: أخبرنا أبو يعلي قال:
حدّثنا محمد بن بكار قال: حدّثنا الوليد بن أبي نور عن سماك عن النعمان بن بشير أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال: [الضرباء] كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله» [98] «2» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن خالد قال:
حدّثنا أحمد بن خالد الوهبي قال: حدّثنا إسماعيل عن سماك بن حرب إنّه سمع النعمان بن بشير يقول: قال عمر بن الخطاب: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال: الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح، قال ابن عباس: ذلك حتى يكون الناس أَزْواجاً ثَلاثَةً، وقال الحسن وقتادة: ألحق كلّ امرئ بشيعته، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى، الربيع بن خيثم يحشر المرء مع صاحب عمله: مقاتل: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين نظيرها احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ «3» ، وقيل: زوجت النفوس بأعمالها.
__________
(1) تفسير الطبري: 30/ 80.
(2) جامع البيان للطبري: 30/ 88.
(3) سورة الصافات: 22.(10/138)
وأخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا حمد بن الأزهر قال: حدّثنا أسباط عن أبيه عن عكرمه في قوله سبحانه: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال زوّجت الأرواح في الأجساد.
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ وهي الجارية المقتولة المدفونة حيّة سمّيت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيؤدها أي يثقلها حتى تموت، قالوا: وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحيها ألبسها جبّة من صوف أو شعر ترعى الإبل والغنم في البادية وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال أبوها لأمها طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فإذا بلغ بها البئر قال لها: انظري إلى هذا البئر فيدفعها من خلفها في البئر لم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض، فذلك قوله سبحانه وتعالى أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ «1» وقال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت وكان أوان ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاما حبسته، وكانت طوائف من العرب يفعلون ذلك وفيه يقول قائلهم:
سميتها إذ ولدت تموت ... والقبر صهر ضامن رميت «2»
وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه فعاب الله تعالى ذلك عليهم وأوعدهم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان أن قال: حدّثنا الفراتي قال: حدّثنا محمد بن مهدي الأبلي ويحيى بن موسى قالا: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا إسرائيل بن يونس عن سماك ابن حرب عن النعمان بن بشير قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في قول الله سبحانه:
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ قال: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وأدت ثمان بنات في الجاهلية، قال: «فأعتق عن كلّ واحدة منهم رقبة» .
قال: يا رسول الله إني صاحب إبل. قال: «فانحر عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت» [99] «3» .
سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ قراءة العامة على الفعل المجهول فيهما، ولها وجهان: أحدهما:
سُئِلَتْ هي فقيل لها: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وبأي فجور قتلت؟ كما يقال: قال عبد الله إنه ذاهب وإني ذاهب، وقال عبد الله بأي ذنب ضربت وبأي ذنب ضرب، كلاهما سائغ جائز، والآخر: سئل عنها الذين وأدوها كأنّك قلت: طلبت منهم فقيل: أين أولادكم وبأي ذنب قتلتموهم.
__________
(1) سورة النحل: 59.
(2) الصحاح: 1/ 249.
(3) كنز العمال: 2/ 546.(10/139)
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
وأخبرنا الحسن بن محمد بن عبد الله المقرئ قال: أخبرنا البغوي ببغداد قال: حدّثنا ابن أبي شيبة قال: حدّثنا زياد بن أيوب دلويه قال: حدّثنا هشام عن رجل ذكروا أنه هارون، قال زياد: ولم اسمعه أنا من هاشم عن جابر بن زيد أنه كان يقرأ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ومثله قرأ أبو الضحى ومسلم بن صبح.
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ قرأ أهل المدينة والشام والبصرة إلّا أبا عمرو بالتخفيف غيرهم بالتشديد لقوله سبحانه صُحُفاً مُنَشَّرَةً «1» .
أخبرني الحسين قال: حدّثنا هارون قال: حدّثنا اليسيري قال: حدّثنا سعيد بن سليمان عن عبد الحمد بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن أبي موسى عن عطاء بن بشار عن أم سلمة قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة» قالت يا رسول الله كيف بالنساء؟ قال: «شغل الناس يا أم سلمة» قالت: وما شغلهم قال: «نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل» [100] «2» .
[سورة التكوير (81) : الآيات 11 الى 29]
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ أي فعلت ونزعت وجذبت عن أماكنها ثم طويت، وفي قراءة عبد الله: قشطت بالقاف وهما لغتان، والقاف والكاف في كلام العرب يتعاقبان مخرجيهما كما يقال: الكافور والقافور والقف والكف.
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ قرأ أهل المدينة بالتشديد غيرهم بالتخفيف واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنها واحدة واختلف فيه بن عاصم وبن عامر، ومعناه: أوقدت، قال قتادة: سعّرها غضب الله وخطايا بني آدم.
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ قرّبت لأهلها نظيرها قوله: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ «3» عَلِمَتْ عند ذلك نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ من خير أو شرّ وهو جواب لقوله: إِذَا الشَّمْسُ وما بعدها كما
__________
(1) سورة المدثر: 52.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 234.
(3) سورة الشعراء: 90.(10/140)
يقال: إذا قام زيد قعد عمر، وقال ابن عباس في قوله: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قوله:
عَلِمَتْ: اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا وستة في الآخرة.
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ قال قوم: هي النجوم الخمسة الذراري السيارة تخنس في مجارتها فترجع ورائها ويكنس في وقت اختفائها غروبها كما يكنس الظباء في مغارها، وقال قتادة: هي النجوم تبدوا بالليل وتخفى بالنهار فلا ترى ودليل هذا التأويل ما
روى شعبة عن سماك عن خالد بن عرعرة أن رجلا من مراد قال لعلي: ما الخنس الْجَوارِ الْكُنَّسِ؟ قال: هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى وتكنس بالليل فتأوي إلى مجاريها، وهي بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري
، قال ابن زيد: معنى الخنس: أنها تخنس أي تتأخر عن مطالعها كل سنة لها في كل عام تأخر يتأخره عن تعجيل ذلك الطلوع يخنس عنه والكنس يكنسن بالنهار فلا ترى.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن النواب قال: حدّثنا رضوان بن أحمد بن عبد الجبار قال: حدّثنا أبو معونة عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله في قوله سبحانه: الْجَوارِ الْكُنَّسِ قال: هي بقر الوحش، وإليه ذهب إبراهيم وجابر بن زيد وقال سعيد بن جبير: هي الظباء وهي رواية العوفي عن ابن عباس.
وأصل الخنس الرجوع إلى وراء، والكنوس أن يأوي إلى مكانسها، وهي المواضع التي يأوي إليها الوحش قال الأعشى:
فلما لحقنا الحي أتلع أنس ... كما أتلعت تحت المكانس ربرب «1»
ويقال لها الكنائس أيضا، قال طرفه بن العبد:
كأن كناسي ضالة يكنفانها ... وأطرقسي تحت صلب مؤيد «2»
وقال أوس بن حجر:
ألم تر أن الله أنزل مزنه ... وعفر الظباء في الكناس تقمع «3»
وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ قال الحسن: أقبل بظلامه، وقال الآخرون: أدبر، يقول العرب:
عسعس الليل وسعسع إذا أدبر ولم يبق منه إلّا اليسير، قال علقمة بن فرط:
حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا «4»
وقال رؤبة:
__________
(1) جامع البيان للطبري: 30/ 96.
(2) جامع البيان للطبري: 30/ 96.
(3) المصدر السابق. [.....]
(4) جامع البيان للطبري: 30/ 99.(10/141)
يا هند ما أسرع ما تسعسعا ... من بعد أن كان فتى سرعرعا «1»
من بعد إن كان فتى سرعرعا.
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أقبل وأضاء وبدأ أوله وقيل: أمتد وارتفع. إِنَّهُ يعني القرآن لَقَوْلُ لتنزيل رَسُولٍ كَرِيمٍ وهو جبريل (عليه السلام) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ في السماء يطيعه الملائكة أَمِينٍ على الوحي وَما صاحِبُكُمْ محمد بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ يعني جبريل على صورته بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق الذي يجيء منه النهار، قاله مجاهد وقتادة.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلد قال: حدّثنا ابن علويه قال: حدّثنا إسماعيل قال:
حدّثنا إسحاق بن بشر قال: حدّثنا ابن جريح عن عكرمة، ومقاتل عن عكرمة عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «إني أحبّ أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء» قال:
لن تقوى على ذلك، قال: «بلى» قال: فأين تشاء أن أتخيل لك؟ قال: «بالأبطح» قال: لا يسعني قال: «فبمنى» قال: لا يسعني قال: «فبعرفات» [101] «2» قال: ذاك بالحرى أن يسعني، فواعده فخرج النبي صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو بجبريل (عليه السلام) قد أقبل من جبال عرفات بخشخشه وكلكله قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ورأسه في السماء ورجله في الأرض، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم خرّ مغشيا عليه فتحوّل جبريل في صورته فضمّه إلى صدره، وقال: يا محمد لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في النجوم السابعة، وإن العرش لعلى كاهله، وإنّه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله عزّ وجل حتى يصير مثل الوضع- يعني العصفور- حتى ما يحمل عرش ربك إلّا عظمته.
وَما هُوَ يعني محمد صلى الله عليه وسلم. عَلَى الْغَيْبِ أي الوحي وخبر السماء وما اطّلع عليه من علم الغيب بظنين قرأ زيد بن ثابت والحسن وابن عمرو والأشهب وعاصم والأعمش وحمزة وأهل المدينة والشام بالضاد، وكذلك في حرف أبيّ بن كعب ومصحفه، وهي قراءة ابن عباس برواية مجاهد واختيار أبي حاتم ومعناه: يبخل يقول: [يأتيه] علم الغيب وهو منقوش فيه فلا يبخل به عليكم بل يعلّمكم ويخبركم به، يقول العرب: ضننت بالشيء بكسر النون أضن به ضنا وضنانة فأنا ضنين، أي بخيل، قال الشاعر:
أجود بمضنون التلاد وانني ... بسرك عمن سالني لضنين «3»
وقرأ الباقون بالظاء وكذلك هو في حرف ابن مسعود ومصحفه وهي قراءة عبد الله وعروة
__________
(1) الصحاح: 3/ 1229.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 241.
(3) شرح شافية ابن الحاجب 2: 265، وفي الهامش.(10/142)
ابني الزبير وعمر بن عبد العزيز وأبي عبد السلمي ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ومعناه يتهمهم يقال: فلان يظن بمال ويزن بمال أي يتّهم به، والظنّة: التهمة، قال الشاعر:
أما وكتاب الله لا عن شناءة ... هجرت ولكن الظنين ظنين «1»
واختار أبو عبيد هذه القراءة وقال: أنهم لم يبخّلوه فيحتاج أن ينفى عنه ذلك البخل، وإنما كذّبوه واتهموه، ولأنّ الأكثر من كلام العرب ما هو بظنين بكذا ولا يقولون على كذا إنّما يقولون: ما أنت على كذا بمتهم، وقيل بظنين. بضعيف حكاه الفراء والمبرّد يقال: رجل ظنين أي ضعيف، وبئر ضنون إذا كانت ضعيفة الماء، قال الأعشى:
ما جعل الجد الظنون الذي ... جنّب صوب اللجب الماطر
مثل الفراتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر «2»
وَما هُوَ يعني القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ يعني قال: أين تعدلون عن هذا القرآن، وفيه الشفاء والبيان، قال الكسائي: سمعت العرب تقول: انطلق به الغور، وحكى الفراء عن العرب: ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق، أي [ ... ] «3» قال سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة وأنشدني بعض بني عقيل:
تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا ... وأي الأرض تذهب بالصياح «4»
يريد إلى أي الأرض تذهب.
وقال الواسطي: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ من ضعف إلى ضعف ارجعوا إلى فسحة الربوبيّة ليستقر بكم القرار، وقال الجنيد: معنى هذه الآية مقرون بآية اخرى وهو قوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ «5» فأين يذهبون.
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أي يتبع الحق ويعمل به ويقيم عليه ثم قال: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أخبرنا أبو بكر بن عبدوس المزكى قال:
أخبرنا أبو حامد بن بلال البزاز قال: حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي قال: حدّثنا أبو مسهر قال:
حدّثني سعيد عن سليمان بن موسى قال: لما أنزل الله سبحانه وتعالى لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 242.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 242، والجد: البئر، والفراتي: نسبة للفرات، والبوصي: ضرب من السفن، والماهر: السابح.
(3) بياض في المخطوط.
(4) تفسير القرطبي: 19/ 243.
(5) سورة الحجر: 21.(10/143)
قال أبو جهل بن هشام: ذاك إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله سبحانه وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا [الفرمي] «1» قال: حدّثني مالك بن سليمان قال: حدّثنا بقية عن عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال: لمّا أنزل الله سبحانه على رسوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قالوا: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فأنزل الله سبحانه وتعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن عمر بن مهران قال: حدّثنا أبو مسلم الكنجي قال: حدّثنا جعفر بن جبير بن فرقد قال: سمعت رجلا سأل الحسن عن قول الله سبحانه وتعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فقال الحسن: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها.
وأخبرني الحسن قال: حدّثنا أحمد بن علي بن الحسين قال: حدّثنا علي بن أحمد بن بسطام قال: حدّثنا إبراهيم بن الحجاج الشامي قال: حدّثنا حماد بن سلمة قال: حدّثنا أبو سنان عن وهب بن منبّه قال: الكتب التي أنزلها الله سبحانه على الأنبياء بضع وتسعون كتابا قرأت منها بضعا وثمانين كتابا فوجدت فيها (من جعل لنفسه شيئا من المشيئة فقد كفر) .
قال الواسطي: أعجزك في جميع أوصافك فلا تشاء إلّا مشيئته ولا تعمل إلّا بقوته ولا تطيع إلّا بفضله ولا تعصي. إلّا بخذلانه فماذا يبقى لك وماذا تفتخر من أفعالك وليس من فعلك شيء؟.
__________
(1) هو أبو علي الفرمي نسبة (الفر) إلى مدينة على ساحل مصر (معجم البلدان) .(10/144)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
سورة الإنفطار
مكيّة، وهي تسع عشر آية، وثمانون كلمة، وثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا
أخبرني محمد بن القاسم قال: أخبرنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال:
حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أعطاه الله سبحانه من الأجر بعدد كل قبر حسنة وبعدد كل قطرة ماء حسنة وأصلح الله له شأنه يوم القيامة» [102] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ انشقت وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ تساقطت وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ أي فجر بعضها في بعض عدنها في ملحها وملحها في عدنها فصارت بحرا واحدا، وقال الحسن: ذهب ماؤها، وقال الكلبي: مليت.
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ بحثت ونثرت وأثيرت فاستخرج ما في الأرض من الكنوز ومن فيها من الموتى أحياء، يقال: بعثرت الحوض وبحثرته إذا هدمته فجعلت أسفله أعلاه، وهذا من أشراط الساعة أن تخرج الأرض أفلاذ كبدها من ذهبها وفضّتها وأموالها عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ من عمل صالح أو طالح.
وَأَخَّرَتْ من سنّة حسنة أو سيئة، وقال عكرمة: ما قَدَّمَتْ من الفرائض التي أدّتها وَأَخَّرَتْ من الفرائض التي ضيّعتها، وقيل: ما قَدَّمَتْ من الأعمال وَأَخَّرَتْ من المظالم، وقيل:
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 283.(10/145)
ما قَدَّمَتْ من الصدقات وَأَخَّرَتْ من التركات، وقيل ما قَدَّمَتْ من الاسقاط والإفراط وما أَخَّرَتْ من الأولاد وهذا جواب إذا.
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ.
أخبرنا عبد الله الفتحوي قال: حدّثنا أبو علي المقرئ قال: حدّثنا أبو القاسم ابن الفضل المقرئ قال: حدّثنا علي بن الحسين قال: حدّثنا المقدّمي وعلي بن هاشم قالا: حدّثنا كثير بن هشام قال: حدّثنا جعفر بن برقان قال: حدّثني صالح بن مسمار قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ قال: جهله، وقال قتادة: غرّة شيطانه عدوه المسّلط عليه.
وحدّثني الحسن بن محمد بن الحسن قال: حدّثني أبي عن جدّي عن علي بن الحسن الهلالي عن إبراهيم بن الأشعث قال: قيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله سبحانه وتعالى يوم القيامة بين يديه فقال: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ماذا كنت تقول؟ قال: أقول غرني ستورك المرخاة، نظمه محمد ابن السماك فقال:
يا كاتم الذنب أما تستحي ... الله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربّك إمهاله ... وستره طول مساويكا «1»
وقال: مقاتل: غرّه عفو الله حين لم يعجّل عليه بالعقوبة، وتلا [نصر] بن مغلس هذه الآية فقال: غرّه رفق الله به.
وسمعت أبا القاسم الحلبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن محمد الورّاق يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: لو أقامني الله سبحانه بين يديه فقال: ما غرّك بي؟ قلت:
غرّني بك برّك بي سابقا وآنفا.
وسمعته يقول: أخبرنا عبد الله بن محمد بن صالح المغافري يقول: سمعت حماد بن بكر يحكي عن بعضهم أنه قال: لو سألني عن هذا ربي لقلت: غرّني حلمك، وسمعته يقول: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن يزيد النسقي يقول: سمعت أبا عبد الله حسن أبي بكر الورّاق يقول:
سمعت أبا بكر الورّاق يقول: لو قال لي ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ لقلت: غرّني كرم الكريم.
قال أهل الإشارة: إنّما قال: بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ دون سائر أسمائه وصفاته لأنه كان لفتة الإجابة حتى يقول: غرّني كرم الكريم، قال منصور بن عمار لو قيل: ما غرّك بي؟ قلت: يا رب ما غرّني إلّا ما علمته من فضلك على عبادك وصفحك عنهم، وروى أبو وائل عن ابن مسعود
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 246.(10/146)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
قال: ما منكم من أحد إلّا سيخلو الله سبحانه وتعالى به يوم القيامة فيقول: يا ابن آدم ما غرّك بي يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟.
وسمعت أبا القاسم النيسابوري يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبيد الله الشامي وأبا الحسن محمد بن الحسين القاضي الجرجاني يقولان: سمعنا إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر.
وأنشدني الحسن بن جعفر البابي يقول: أنشدني منصور بن عبد الله الأصفهاني يقول:
أنشدنا أبو بكر بن طاهر الأبهري في هذا المعنى:
يا من غلا في الغنى والتيه ... وغرّه طول تماديه
أملى لك الله فبارزته ... ولم تخف غبّ معاصيه «1»
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ قرأ أهل الكوفة بتخفيف الدال أي صرفك وأمالك إلى أي صورة شاء قبيحا أو جميلا وقصيرا أو طويلا، وقرأ الباقون بالتشديد أي قوّمك وجعلك معتدل الخلق، وهو اختيار الفراء وأبي عبيد لقوله سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «2» .
فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ قال مجاهد: في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم.
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن العسكري قال: حدّثنا عبد الرحمن بن محمّد بن منصور قال: حدّثنا مطهر بن الهيثم قال: حدّثنا موسى بن علي عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ ... ] «3» :
«وما ولد لك» قال: يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إمّا غلام وإما جارية. قال صلى الله عليه وسلم:
«من شبه» قال: فمن شبه أمه وأباه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقل هكذا إنّ النطفة إذا استقرت في الرحم أحضر الله كلّ نسب بينهم وبين آدم، أما قرأت هذه الآية فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» قال صلى الله عليه وسلم: «إن شاء في صورة إنسان وإن شاء في صورة حمار وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة كلب وإن شاء في صورة خنزير» [103] «4» .
[سورة الانفطار (82) : الآيات 9 الى 19]
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18)
يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
__________
(1) المصدر السابق، وفيه: غلا في العجب.
(2) سورة التين: 4. [.....]
(3) بياض في المخطوط.
(4) تفسير مجمع البيان: 10/ 287.(10/147)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ قراءة العامة بالتاء لقوله سبحانه وَإِنَّ عَلَيْكُمْ وقراءة أبو جعفر بالياء وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ رقباء يحفظون عليكم أعمالكم.
كِراماً على الله كاتِبِينَ يكتبون أقوالكم وأفعالكم.
يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ إِنَّ الْأَبْرارَ يعني الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله واجتناب معاصيه،
وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى العدل قال: حدّثنا علي المؤمل قال: حدّثنا أحمد بن عثمان قال: حدّثنا هشام بن عامر قال: حدّثنا سعد بن يحيى بن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن [دثار] عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما سماهم الله الأبرار لأنّهم برّوا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق» [104] «1» .
لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يدخلونها يَوْمَ الدِّينِ يوم القيامة وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً قراءة أهل مكّة والبصرة برفع الميم ردّا على اليوم الأول، وقراءة غيرهم بالنصب أي في يوم، واختاره أبو عبيد قال: لأنها اضافة غير محضة وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 125.(10/148)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
سورة المطففين
مدنية، وهي ست وثلاثون آية، ومائة وتسع وستون كلمة، وسبع مائة وثلاثون حرفا
أخبرنا كامل بن أحمد المفيد قال: أخبرنا محمد بن مطر العدل قال: حدّثنا ابن إبراهيم بن شريك الأسدي قال: حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المطفّفين سقاه الله سبحانه من الرحيق المختوم يوم القيامة» [105] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ يعني الذين ينقصون الناس ويبخسون حقوقهم في الكيل والوزن، وأصله من الشيء الطفيف وهو النزر القليل، وإناء طفاف إذا لم يكن ملآن، ومنه قيل للقوم الذين يكونون سواء في حسبة أو عدد: هم كطف الصاع، يعني ذلك: كقرب الملء منه ناقص عن الملء «2» .
الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا أخذوا عَلَى النَّاسِ أي منهم، وعلى ومن تتعاقبان في هذا الموضع يَسْتَوْفُونَ حقوقهم منه وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، يقال: وزنتك حقّك، وكلتك طعامك بمعنى وزنت لك وكلت لك، قال الفراء: وهي لغة أهل الحجاز ومن جاوزهم من [......] «3» قال: وسمعت أعرابية تقول: إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 289.
(2) تفسير الطبري: 30/ 113.
(3) كلمة غير مقروءة في المخطوط.(10/149)
قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين حرفين ويقف على: كالوا ووزنوا، ثمّ يبتدئ فيقول: هم يخسرون، قال: وأحسب قراءة حمزة أيضا كذلك، قال أبو عبيد: والاختيار أن يكون كلمة واحدة من جهتين: إحداهما: الخط، وذلك أنهم كتبوها بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا كالوا ووزنوا بالألف على ما كتبوا الأفعال كلّها مثل: فاؤُ وجاؤُ [ ... ] «1»
المصاحف إلّا على إسقاطها.
والجهة الأخرى: أنه يقال: كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك ووزنت لك، وهو كلام عربي كما يقال: صدتك وصدت لك وكسبتك وكسبت لك ومثله كثير.
يُخْسِرُونَ ينقصون.
حدّثنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال:
حدّثنا علي بن الحسين بن واقد، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني يزيد النحوي أن عكرمة حدّثه عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله سبحانه وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل.
وقال القرطبي: كان بالمدينة تجار يطفّفون وكانت بياعتهم كشبه القمار والمنابذة والملامسة والمخاطرة فأنزل الله سبحانه هذه الآية. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق وقرأها عليهم
، وقال السدي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن يوسف قال: حدّثنا ابن عمران قال: حدّثنا أبو الدرداء، عبد العزيز [بن منيب] قال: حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان عن أبيه عن الضحاك ومجاهد وطاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس لخمس» قالوا: يا رسول الله وما خمس لخمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلّا سلّط عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت، ولا طفّفوا الكيل إلّا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر» [106] «2» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة قال: حدّثنا ابن أيوب قال: حدّثنا القصواني قال: حدّثنا سنان بن حاتم قال: حدّثنا حفص قال: حدّثنا مالك بن دينار قال: دخلت على جار لي وقد نزل به الموت فجعل يقول: جبلين من نار جبلين من نار، قال: قلت: ما تقول أتهجر؟
قال: يا أبا يحيى كان لي مكيالان، كنت أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر، قال: فقمت فجعلت
__________
(1) بياض بالمخطوط.
(2) المعجم الكبير: 11/ 38.(10/150)
أضرب أحدهما بالآخر فقال: يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر إزداد عظما فمات في وجعه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن صقلان قال: حدّثنا محمد بن النفاخ الباهلي قال: حدّثنا بركة بن محمد الحلبي عن عثمان بن عبد الرحمن عن النضر بن عدي قال:
سمعت عكرمة يقول: أشهد على كلّ كيّال أو وزّان أنّه في النار، قيل له: إنّ ابنك كيال أو وزان، قال: أنا أشهد أنه في النار.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا الفضل بن الفضل قال: حدّثني عبد الله بن زكريا القاضي قال: حدّثنا العباس بن عبد الله بن أحمد قال: حدّثنا المبرد قال: حدّثنا الرياسي عن الأصمعي قال: قال لي إعرابي: لا تلتمس الحوائج ممن مروءته في رؤس المكاييل والسن الموازين، وروى عبد خير أن عليّا مرّ على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح، فكفا الميزان، ثم قال: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت، وقال نافع كان ابن عمر يمرّ بالبائع فيقول: اتّق الله وأوف الكيل والوزن، فإن المطفّفين يوقفون يوم القيامة حتى أن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم.
أَلا يَظُنُّ يستيقن أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا وكيع عن هشام صاحب [الدستواني] عن القمر بن أبي [ابزى] قال: حدّثني من سمع ابن عمر قرأ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فلما بلغ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بكى حتى خرّوا وامتنع من قراءة ما بعده.
كَلَّا قال الحسن: حقا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ الذي كتب فيه أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ قال عبد الله بن عمر ومغيث بن سمي وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد: هي الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفّار وأعمالهم، يدلّ عليه ما
أخبرنا الحسين قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا المسيّب قال: حدّثنا الأعمش عن المنهال عن زادان عن البرك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سجين أسفل سبع أرضين»
[107] «1» :
وأخبرني أبو عبد الله الفنجوي قال: حدّثنا أبو علي المقرئ قال: حدّثنا أبو [القاسم بن] الفضل قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري قال: حدّثنا حفص ابن حميد عن سمر بن عطية قال: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: أخبرني عن قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ فقال: إنّ روح الفاجر يصعد بها إلى السماء
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 292، وقريب منه في تفسير القرطبي: 19/ 258.(10/151)
فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فيهبط تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجّين، وهي حدّ إبليس، فيخرج لها من سجين من تحت حدّ إبليس رق فيرقم ويختم ويوضع تحت حدّ إبليس بمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة، وإليه ذهب سعيد بن جبير قال: سجّين تحت حدّ إبليس، وقال عطاء الخراساني: هي الأرض السفلى وفيها إبليس وذريته.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا الفضل قال: حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: قراءتي على يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: وحدّثني عمارة بن عيسى عن يونس بن يزيد عمّن حدّثه عن ابن عباس أنه قال لكعب الأحبار: أخبرني عن سجّين وعليّين، فقال كعب:
والذي نفسي بيده لأخبرنّك عنها إلّا بما أجد في كتاب الله المنزل، أما سجّين فإنّها شجرة سوداء تحت الأرضين السبع مكتوب فيها كلّ اسم شيطان، فإذا قبضت نفس الكافر عرج بها إلى السماء فغلقت أبواب السماء دونها، ثم رمى بها إلى سجين فذلك سجين، وأما عليّيون فإنّه إذا قبضت نفس المسلم عرج بها إلى السماء وفتحت لها أبواب السماء حتى تنتهي إلى العرش، قال: فيخرج كفّ من العرش فيكتب له نزله وكرامته فذلك عليّون.
وقال الكلبي: هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء خضرة السموات منها، يجعل كتاب الفجار تحتها، وقال وهب: هي آخر سلطان إبليس.
وأخبرني عقيل: إن المعافى أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثني إسحاق بن وهب الواسطي قال: حدّثنا مسعود بن موسى بن مشكان قال: حدّثنا نصر بن خزيمة عن شعيب بن صفوان عن القرطي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال. «الفلق جبّ في جهنم مغطّى وأما سجين جبّ في جهنم مفتوح» [108] «1» .
وأخبرنا أبو القمر الصفار قال: أخبرنا حاجب بن أحمد قال: حدّثنا محمد بن حماد قال:
حدّثنا يحيى بن سليم الطائفي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله سبحانه: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ قال: سجّين صخرة تحت الأرض السابعة تقلب فيجعل كتاب الفجّار تحتها، وقال عكرمة: أي لفي خسار وضلال، والمعنى أنه أراد بطلان أعمالهم وذهابها بلا محمدة ولا ثواب وهذا سائغ مستفيض في كلام الناس، يقولون لمن خمل ذكره وسقط قدره قد لزق بالحضيض، وقال الأخفش: لفي حبس ضيق شديد، وهو فعّيل من السجن كما يقال فسّيق وشرّيب قال ابن مقبل:
ورفقه يضربون البيض ضاحيّة ... ضربا تواصت به الأبطال سجّينا «2»
__________
(1) جامع البيان للطبري: 30/ 120، الدر المنثور: 6/ 325.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 258.(10/152)
وَما أَدْراكَ يا محمد ما سِجِّينٌ أي ذلك الكتاب الذي في السجّين ثم منّ فقال:
كِتابٌ أي هو كتاب مَرْقُومٌ مكتوب مثبت عليهم كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به وقال قتادة: رقم لهم بشرّ وقيل: مختوم بلغة حمير. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قراءة العامة تُتْلى، وقرأ أبو حيان بالياء لتقديم الفعل.
قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ
أخبرنا الحسين قال:
حدّثنا الفضل قال: حدّثنا أبو الحسن أحمد بن مكرم التربي ببغداد قال: حدّثنا علي المكرمي قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت محمد بن عجلان يقول: حدّثني القعقاع بن حكم أن أبا صالح السمّان قال أن أبا هريرة حدّثه أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ العبد إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب صقل قلبه وإن عاد زادت حتى يسوّد قلبه»
[109] «1» قال:
فذلك قوله سبحانه كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ وكذا قال المفسرون: هو الذنب على الذنب حتى يسوّد القلب، وقال حذيفة بن اليمّان: القلب مثل الكفّ فإذا أذنب العبد انقبض وقبض إصبعا من أصابعه ثم إذا أذنب انقبض وقبض إصبعا أخرى، ثم إذا أذنب انقبض وقبض أصابعه ثم يطبع عليه فكانوا يرون أنّ ذلك هو الرين، ثمّ قرأ هذه الآية.
وقال بكر بن عبد الله: إنّ العبد إذا أصاب الذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة ثمّ إذا أذنب ثانيا صار كذلك فإذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل أو كالغربال، وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى لعله يصدئ القلب، وقال ابن عباس: طبع عليها، عطا: غشيت على قلوبهم فهوت بها فلا يفزعون ولا يتحاشون «2» ، وقيل: قلبها فجعل أسفلها أعلاها، نظيره قوله سبحانه وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ «3» وأصل الرين الغلبة، يقال: رانت الخمر على عقله إذا غلبت عليه فسكر، وقال أبو زبيد الطائي:
ثم إذا رآه رانت به الخمر ... وأن لا يرينه باتّقاء
وقال الراجز:
لم نرو حتى هجّرت ورين بي ... ورين بالسّاقي الذي أمسى معي «4»
معنى الآية غلب على قلوبهم وأحاطت بها حتى غمرتها وغشيتها.
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 297، تحفة الاحوذي: 1/ 25، جامع البيان للطبري: 30/ 123 بتفاوت.
(2) تفسير الطبري: 30/ 124.
(3) سورة الأنعام: 110. [.....]
(4) جامع البيان للطبري: 30/ 122.(10/153)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
[سورة المطففين (83) : الآيات 15 الى 36]
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19)
كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال بعضهم: من كرامته ورحمته ممنوعون، وقال قتادة: هو أن لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ... وَلا يُزَكِّيهِمْ، وقال أكثر المفسرين: عن رؤيته، قال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته.
أخبرنا الحسن بن محمد بن جعفر قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن هاني قال:
حدّثنا الحسين بن الفضل قال: حدّثنا عفان بن مسلم الصفار عن الربيع بن صبيح وعبد الواحد بن زيد قالا: قال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربّهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا، وقال يحيى بن سليمان: بن نضلة: يسئل مالك بن أنس عن هذه الآية قال:
لها حجب أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه، وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا علي الحسن بن أحمد [الشبوي] «1» بها يقول: سمعت أبا نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: كنت ذات يوم عند الشافعي رضي الله عنه وجاءه كتاب من الصعيد يسألونه عن قول الله سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فكتب فيه: لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا، فقلت له: أوتدين بهذا يا سيدي؟
فقال: والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أن يرى ربّه في المعاد لما عبده في الدنيا.
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ لداخلو النار ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ
أخبرني الحسين قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا المسيّب عن الأعمش عن النهال عن زادان عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليين في السماء السابعة تحت العرش» [110] «2»
وقال ابن عباس هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها، وقال كعب وقتادة: هو قائمة العرش
__________
(1) كذا في المخطوط.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 262.(10/154)
اليمنى، مقاتل: ساق العرش، علي ابن أبي طلحة وعطاء عن ابن عباس: هو الجنة، عطية عنه:
أعمالهم في كتاب الله في السماء، الضحاك: سدرة المنتهى، وقال أهل المعاني: علو بعد علو وشرف بعد شرف، ولذلك جمعت بالياء والنون لجمع الرجال إذا لم يكن له نبأ من واحد ولا ثانية، قال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع لا واحد له من لفظه كقولك عشرين وثلاثين، وقال يونس النحوي: واحدها عليّ وعليّه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن حمدان قال: حدّثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق الملحمي قال: حدّثنا محمد بن يونس قال: حدّثنا عفان قال: حدّثنا عفان قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن عصام ابن يهدله عن خيثمة عن عبد الله بن عمرو في قوله سبحانه: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ قال: إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كذا فإذا أشرف رجل أشرقت الجنة وقالوا: قد طلع علينا رجل من أهل عليين.
وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ رقم له بخير وفي الآية تقديم وتأخير، مجازها:
إنّ كتاب الأبرار مرقوم في عليين وهي محل الملائكة، ومثله إن كتاب الفجّار كتاب مرقوم وهي سجين، وهي محل إبليس وجنوده.
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ الملائكة إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي ما أعطاهم الله تعالى من الكرامة والنعمة، الأرائك: كلّ ما يتكئ عليه، وقيل: السرير في الحجلة، وقال مقاتل: ينظرون إلى [أعدائهم] «1» كيف يعذّبون، وقال ابن عطاء: على أرائك المعرفة ينظرون إلى المعروف وعلى أرائك القربة ينظرون إلى الرؤوف.
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي عصارته وبريقه ونوره يقال أنضر النبات إذا أزهر ونوّر، وقراءة العامة تَعْرِفُ بفتح التاء وكسر الراء نَضْرَةَ نصب، وقرأ أبو جعفر ويعقوب بضم التاء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل.
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ خمر صافية طيبة وقيل: هي الخمر العتيقة، مقاتل: الخمر البيضاء.
قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردا يصفّق بالرحيق السلسل «2»
وقال آخر:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره ... أشهى إليّ من الرحيق السلسل «3»
__________
(1) في المخطوط: عدوّهم.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 143، والبريص: نهر بدمشق، وبردى: نهر بدمشق أيضا، ويصفق: يمزج، والرحيق:
الخمر البيضاء.
(3) لسان العرب: 11/ 343.(10/155)
مَخْتُومٍ ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس أو تنالها يد إلى أن يفكّ ختمها الأبرار يوم القيامة، وقال مجاهد: مطيّن.
خِتامُهُ طينة مِسْكٌ قال ابن زيد: خِتامُهُ عند الله سبحانه: مِسْكٌ وختامها اليوم في الدنيا طين، وقال ابن مسعود: مختوم ممزوج، ختامه خلط ومسك، وقال علقمة: طعمه وريحه مسك، وقال الآخرون: عاقبته وآخر طعمه مسك، قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك، وروى عبد الرحمن بن سابط عن أبي الدرداء في قوله سبحانه خِتامُهُ مِسْكٌ قال:
شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلّا وجد طيبها.
وختم كلّ شيء الفراغ منه، ومنه ختم القرآن، والأعمال بخواتيمها، وقراءة العامة (خِتامُهُ) بتقديم التاء
وقرأ الكسائي (خاتمه) وهي قراءة علي وعلقمة.
أخبرنا محمد بن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن الجهم قال: أخبرنا يحيى بن زرارة الفراء قال: حدّثني محمد بن الفضل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه قرأ خاتمه مسك.
وباسناده عن الفراء قال: حدّثني أبو الأحوص عن أشعث بن أبي الشعثاء المحاربي قال:
قرأ علقمة بن قيس (خاتمه مسك) وقال: أما رأيت المرأة تقول للعطار: اجعل لي خاتمه مسكا، تريد آخره، والخاتم والختام واحد كما يقال للرجل الكريم: الطابع والطباع، وقال الفرزدق:
فبتن بجانبي مصرّعات ... وبتّ أفض أغلاق الختام «1»
وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله، وقال مجاهد فليعمل العاملون، نظيره قوله سبحانه: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ «2» ، مقاتل بن سليمان:
فليتنازع المتنازعون، ابن حيان: فليتسارع المتسارعون، عطا: فليستبق المتسابقون، زيد بن أسلم: فليتشاح المتشاحون، ابن جرير: فليجدوا في طلبه وليحرصوا عليه، وأصله من الشيء النفيس، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس، ويطلبه ويتمناه ويريده كل واحد منهم لنفسه وينفس به على غيره أي يضن.
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ شراب ينصب عليه من علو، ومنه سنام البعير وتسنيم القبور قال الضحاك: هو شراب اسمه تسنيم وهو أشرف الشراب، مقاتل: يسمى تسنيما لأنه يتسنّم فيصب عليه انصبابا من فوقهم في غرفهم ومنازلهم تجري من جنّة عدن إلى أهل الجنان، قال ابن مسعود وابن عباس: هو خالص للمقربين يشربونها صرفا ويمزج لساير أهل الجنة.
__________
(1) لسان العرب: 10/ 291.
(2) سورة السجدة: 17.(10/156)
وأخبرنا عبد الله بن حامد في آخرين قالوا: أخبرنا مكيّ قال: حدّثنا عمار بن رجاء قال:
حدّثنا سويد بن عمرو الكلبي قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يونس بن مهران عن ابن عباس وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال: هذا مما قال الله سبحانه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» ، وعن بعضهم: أنها عين تجري في الهواء متسنما فتصب في أواني أهل الجنّة على مقدار ملئها، فإذا امتلأت أمسك الماء حتى لا يقع منه قطرة على الأرض فلا يحتاجون إلى الاستقاء وهو معنى قول قتادة، وأصل الكلمة مأخوذ من علوّ المكان والمكانة، فيقال للشيء المرتفع: سنام، وللرجل الشريف: سنام وهو اسم معرفة مثل التنعيم وهو اسم جبل.
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا أي منها، وقيل يشربها الْمُقَرَّبُونَ قال الحريري والواسطي: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صرفا على بساط القرب في مجلس الأنس ورياض القدس بكأس الرضا على مشاهدة الحقّ سبحانه وتعالى.
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أشركوا أبا جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم من مترفي مكّة كانُوا مِنَ الَّذِينَ عمّار وخبّاب وصهيب وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين.
يَضْحَكُونَ وبهم يستهزءون ومن إسلامهم يتعجبون.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) وذلك أنه جاء في نفر من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات قبل أن يصل عليّ وأصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [111] «2» .
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
يغمز بعضا ويشيرون بالأعين وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ حين يأتون محمد يرون أنهم على شيء وَما أُرْسِلُوا يعني المشركين عَلَيْهِمْ يعني على المؤمنين حافِظِينَ لأعمالهم موكلين بأحوالهم.
فَالْيَوْمَ يعني يوم القيامة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ كما ضحك الكفار منهم في الدنيا وذلك أنّه يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم أخرجوا إليها فإذا وصلوا إليه أغلق دونهم يفعل بهم ذلك مرارا ويضحك المؤمنون منهم وهم عَلَى الْأَرائِكِ من الدر والياقوت يَنْظُرُونَ إليهم كيف يعذبون، قال كعب: بين الجنة والنار كوى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له كان في الدنيا اطّلع من بعض تلك الكوى، دليله قوله سبحانه فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «3» هَلْ ثُوِّبَ جوزي الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ثوّب وأثاب بمعنى واحد.
__________
(1) سورة الصافّات: 61.
(2) تفسير مجمع البيان: 10/ 298، وقريب منه في شواهد التنزيل 2: 428.
(3) سورة الصافات: 55.(10/157)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
سورة الإنشقاق
مكيّة. وهي خمس وعشرون آية، ومائة وسبع كلمات، وأربع مائة وأربع وثلاثون حرفا
أخبرني سعيد بن محمد وكامل بن أحمد ومحمد بن القاسم قالوا: أخبرنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال:
حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة انشقت أعاذه الله سبحانه أن يعطيه كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» [112] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي سمعت أمر ربها بالانشقاق وطاعته وَحُقَّتْ أي وحق لها أن تطيع ربّها وحق الله ذلك عليه.
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ مدّ الأديم العكاظي وزيد في سعتها. وَأَلْقَتْ أخرجت ما فِيها من الموتى والكنوز وَتَخَلَّتْ وخلت فليس في باطنها شيء. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ، واختلفوا في جواب قوله إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فقيل جوابه متروك لأنّ المعنى مفهوم، وقيل جوابه يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ومجازه: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ لقي كل كادح ما عمله، قال المبرّد: فيه تقديم وتأخير تقديره يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 301.(10/158)
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وقيل: جوابه وَأَذِنَتْ، وحينئذ يكون الواو زائدة.
ومعنى قوله كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً أي عامل واصل به إلى ربّك عملا فملاقيه ومجازى به خيرا كان أو شرا، وقال القتيبي ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك، والكدح: السعي والجهد في الأمر حتى يكدح ذلك فيه، أي يؤثّر ومنه
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سأل وله ما يغنيه جاءت مسئلته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوحا في وجه»
[113] «1» أي أثر الخدش، قال ابن مقبل:
وما الدهر إلّا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح «2»
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال:
حدّثنا إسحاق بن بشر عن سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«النادم ينتظر الرحمة والمعجب ينتظر المقت وكل عامل سيقدم على ما سلف» [114] «3» .
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ ديوان أعماله بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مندة قال: حدّثنا محمد بن غالب قال:
حدّثني سعيد بن سليمان قال: حدّثنا مبارك بن فضالة عن أيوب عن أبي مليكة عن عائشة قالت:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يحاسب يعذّب» قالوا: يا رسول الله أليس قد قال الله سبحانه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال: «ذاكم العرض ولكن من نوقش الحساب عذّب» [115] «4» .
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فتغلّ يده اليمنى إلى عنقه وتجعل يده الشمال وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره، وقال مجاهد: يخلع يده وراء ظهره.
فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ينادى بالويل والهلاك وَيَصْلى سَعِيراً قرأ أبو جعفر وأيوب وكوفي غير الكسائي بفتح الياء والتخفيف واختاره أبو عبيد لقوله سبحانه: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ «5» ، وقوله يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى «6» وقرأ الباقون بضم الياء وتشديد اللام، واختاره أبو حاتم لقوله سبحانه ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ «7» وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ «8» إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً
__________
(1) سنن ابن ماجة: 1/ 589.
(2) جامع البيان للطبري: 21/ 40. [.....]
(3) كنز العمال: 15/ 936، ح 43607.
(4) مسند أحمد: 6/ 127.
(5) سورة الصافّات: 163.
(6) سورة الأعلى: 12.
(7) سورة الحاقّة: 31.
(8) سورة الواقعة: 94.(10/159)
سمعت السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم المصري يقول: قال ابن عطاء لنفسه متابعا ساعيا.
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ يرجع إلينا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك من الحور بعد الكور»
[116] «1» وقال ابن عباس: كنت لا أدري ما معنى يحور حتى سمعت إعرابية تدعوا بنية لها فتقول: حوري حوري أي أرجعي، وقال الشاعر:
وما المرء إلّا كالشهاب وضوءه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع «2»
ثم قال: بَلى، أي ليس كما ظن بلى يحور إلينا ويبعث.
إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ قال مجاهد وغيره: هو النهار كلّه، عكرمة:
ما بقي من النهار، وقال ابن عباس وأكثر الناس: هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس وبغيبوبته يتعلّق أول وقت العشاء الآخرة وإليه ذهب من الصحابة ابن مسعود وابن الزبير وعمر وابنه وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأنس بن مالك وأبو قتادة الأنصاري وأبو هريرة وجابر بن عبد الله ومن التابعين سعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير وطاوس وعبد الله بن دينار ومكحول، ومن الفقهاء مالك والأوزاعي والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وابن عبيد وأحمد وإسحاق، وقال قوم: هو البياض، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة، والاختيار القول الأول لإجماع العبادلة عليه، ولأن الشواهد في كلام العرب وأشعارهم تشهد له، قال الفراء:
سمعت بعض العرب يقول: الثور أحمر كأنه الشقق، وقال الشاعر:
أحمر اللون كمحمر الشفق
وقال آخر:
قم يا غلام أعني غير محتشم ... على الزمان بكأس حشوها شفق «3»
ويقال للحفرة الشفق، وزعم الحكماء أنّ البياض لا يغيب أصلا قال الخليل: صعدت منارة اسكندرية فرمقت البياض فرأيته يتردّد من أفق الى أفق ولم أره يغيب، والله أعلم بالصواب.
وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي جمع وجمل، ويقال: وسقته أسقه وسقا، ومنه قيل للطعام المجتمع الكبير: وسق وهو ستون صاعا، وطعام موسّق أي مجموع في غرارة ووعاء، وقال مجاهد: برواية ابن أبي بحج: وما آوي فيه من دابة، منصور عنه: وما لفّ وأظلم عليه ودخل
__________
(1) جامع البيان للطبري: 30/ 148.
(2) الدر المنثور: 6/ 330.
(3) تفسير مجمع البيان: 10/ 303، تفسير القرطبي: 19/ 275، وفيه مرتبك محتشم.(10/160)
فيه، عكرمة: وما جمع فيه منّ دوابه وعقاربه وحيّاته وظلمته، ضحاك ومقاتل: وما ساق من ظلمه فإذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه، وقال الأستاذ أبو القاسم بن حبيب: شيبه أن يكون على هذا القول من المقلوب، لأن أصل ساق يسوق، عثمان: حمل من الظلمة، أبو حيان: أقبل من ظلمة أو كوكب، سعيد بن جبير: وما عمل فيه، وروى ابن أبي مليكة وابن جبير عن ابن عباس: وما جمع قال: ألم تسمع قول الشاعر:
أن لنا قلائصا «1» حقائقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا «2»
الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي أجتمع واستوى وتمّ نوره، قتادة: إذا استدار وقيل: سار، مرّة الهمداني: أرتفع وهو في الأيام البيض، ويقال: اتسق الشيء إذا تتابع، واستوسق من الإبل إذا اجتمعت وانضمت وهو أفتعل من الوسق.
لَتَرْكَبُنَّ قرأ أهل مكة والكوفة إلّا عاصما بفتح التاء، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود وأصحابه وابن عباس وأبي العالية، وقالوا: يعني لتركبن يا محمد سماء بعد سماء ودرجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة، وقيل: أراد به السماء تتغير لون بعد لون فتصير تارة كَالدِّهانِ وتارة كَالْمُهْلِ وتشقق بِالْغَمامِ مرّة ويطوي «3» أخرى «4» ، وقرأ الآخرون بضمّة وأختاره أبو عبيد قال:
لأنّ المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وسلم إنّما ذكر قبل الآية من يؤتى منهم كتابة بيمينه وشماله ثم قال: بعدّها فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وذكر ركوبهم طبقا بعد طبق بينهما.
واختلف المفسرون في معنى الآية فقال أكثرهم: حالا بعد حال وأمرا بعد أمر في مواقف القيامة عن محمد بن مروان عن الكلبي، حيان عنه: مرّة يعرفون ومرة يجهلون، مقاتل: يعني الموت ثم الحياة ثم الموت ثم الحياة، عطا: مرّة فقرأ ومرة غنى، عمرو بن دينار عن ابن عباس: الشدائد والأهوال الموت ثم البعث ثم العرض، والعرب تقول لمن وقع في أمر شديد:
وقع في بنات طبق وفي أخرى بنات طبق، أبو عبيدة: لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالكم، عكرمة: حالا بعد حال، رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ، قالت الحكماء: يشتمل الإنسان من كونه نطفة الى أن يهرم ويموت على سبعة وثلاثين حالا من سبعة وثلاثين اسما:
نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر ثم جنينا ثم وليدا ثم رضيعا ثم فطيما ثم يافعا ثم ناشئا ثم مترعرعا ثم حزورا «5» ثم مراهقا ثم محتلما ثم بالغا ثم أمرد ثم طاردا ثم طارا ثم باقلا ثم مسيطرا ثم مطرخما ثم مختطا ثم صملا ثم ملتحيا ثم مستويا ثم مصعدا ثم مجتمعا- والشاب
__________
(1) في لسان العرب: إبلا نقانقا.
(2) تفسير جامع البيان للطبري: 30/ 150، وتفسير القرطبي: 19/ 277، ولسان العرب: 10/ 380.
(3) في الطبري: وتحمر.
(4) راجع تفسير الطبري: 30/ 155.
(5) هو الغلام إذا اشتد وقوي وخدم، راجع لسان العرب: 4/ 187. [.....](10/161)
يجمع ذلك كلّه ثم ملهوزا ثم كهلا ثم أشمط ثم شيخا ثم أشيب ثم حوقلا ثم صفتانا ثم هرما ثم ميتا، فهذا معنى قوله سبحانه وتعالى: لَتَرْكَبُنَّ.
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ والطبق في اللغة الحال، قال الأقرع بن حابس:
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقني طبق منه الى طبق «1»
فلست أصبو الى خل يفارقني ... ولا تقبض أحشائي من الفرق
وأنشدني أبو القاسم عبد الله بن محمد البابي قال: أنشدني أبو سعيد عثمان بن جعفر بن نصره الموصلي قال: أنشدنا أبو يعلي أحمد بن علي المثنى:
الصبر أجمل «2» والدنيا مفجعة ... من ذا الذي لم يذق من عيشه رنقا
إذا صفا لك من مسرورها طبق ... أهدى لك الدهر من مكروهها طبقا «3»
وقال مكحول في هذه الآية: في كل عشرين عاما يحدثون أمرا لم يكونوا عليه، وهذا أدلّ دليل على حدث العالم وإثبات الصانع، قالت الحكماء: من كان اليوم على حالة وغدا أخرى فليعلم أن يدبيره الى سواه، وقيل لأبي بكر الوراق: ما الدليل على أنّ لهذا العالم صانع فقال:
تحويل الحالات وعجز القوة وضعف الأركان وقهر المنّة وفسخ العزيمة. سمعت أبا القاسم المفسّر يقول: سمعت أبا الفضل أحمد بن محمد بن حمدون النّسوي يقول: سمعت أبا عبد الرحمن الأرزياني يقول: دخل أبو الفم علي بن محمد بن زيد العلوي بطبرستان عائدا فأنشأ يقول:
إني اعتللت ولا كانت بك العلل ... وهكذا الدّهر فيه الصاب «4» والعسل
إنّ الذي لا تحل الحادثات به ... ولا يغير فيه الله لا الرجل
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ لا يخضعون ولا يستكينون له، وقال الكلبي ومقاتل: لا يصلّون.
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف بقراءتي عليه قال: أخبرنا مكّي قراءة عليه سنة تسع عشر وثلاثمائة قال: حدّثني محمد بن يحيى قال: وفيها قرأ علي بن عبد الله بن نافع المدنيّ وحدّثني مطرف بن عبد الله عن مالك بن أنس عن عبد الله بن زيد مولى الأسود بن سفيان عن
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 280.
(2) في المصدر: أحمد.
(3) الرنق الكدر، واليتان في مجمع البيان: 10/ 303.
(4) الصاب: العلقم وهو شجر مرّ.(10/162)
أبي سلمة بن عبد الرحمن بن أحمد أنّ أبا هريرة قرأ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «1» فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها.
وأخبرنا أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن نوح قرأه عليه سنة ست وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو العباس السراج قال: حدثنا قتيبة عن الليث عن بكر عن نعيم بن عبد الله بن محمد قال: صليت مع أبي هريرة فوق هذا المسجد فقرأ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فيها وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ قال مجاهد: يكتمون، قتادة: يُوعُونَ في صدورهم، ابن زيد يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة. فَبَشِّرْهُمْ أخبرهم بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. غير منقوص ولا مقطوع.
__________
(1) سورة الإنشقاق: 1.(10/163)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
سورة البروج
مكية، هي اثنان وعشرون آية، كلمها مائة وتسع كلمه، وحروفها أربع مائة وثمانية وخمسون حرفا
أخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا إسماعيل بن بخير قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال: حدّثنا سعيد بن حفص قال: قرأت على معقل بن عبد الله عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أعطاه الله عز وجل من الأجر بعدد كل يوم جمعة وكلّ يوم عرفة يكون في دار الدنيا عشر حسنات» [117] «1» .
وعن ابن الأنباري أنه قال: روي أن من قرأها أعطاه الله سبحانه وتعالى بعدد كل جمعة وعرفة ما سأل في الدنيا ويكونان مائة مائة حسنة ومائة درجة ويشفع يوم القيامة في عدد أهل منى حتّى يدخلهم الجنّة وله بعدد فرعون وعاد وثمود الذين كفروا منهم واللوح المحفوظ بعدد كل واحد منهم عتق رقبة مع ماله من المزيد.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ:
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الطيّب قال: أخبرنا أبو سعيد عمرو بن منصور قال: أخبرنا أبو بكر محمّد بن سليمان بن الحسن قال: حدّثنا عبد الله بن موسى.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن بهلويه قال: حدّثنا محمّد بن الصباح قال: أخبرنا مروان بن معاوية قال «2» : أخبرنا موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد الأنصاري عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم الموعود
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 310.
(2) في المخطوط: قالا.(10/164)
يوم القيامة، والمشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة، ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله فيها بخير إلّا استجاب له ولا يستعيذه من سوء إلا أعاذه منه» [118] «1» .
وأخبرنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد قال: حدّثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حليم قال: أخبرنا أبو الموحة قال: أخبرنا عيدان قال: حدّثنا عبد الوارث عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم القيامة، ثم تلا هذه الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «2» ثم قال: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ.
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا محمد بن الحسن القطيني قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثني سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شاهد يوم الجمعة ومشهود يوم عرفة» [119] «3» .
وأخبرنا الحسين قال: حدّثنا الكندي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن النعمان قال:
حدثنا أبو طاهر سهل بن عبد الله قال: حدّثنا عمرو بن سواد بن الأسود قال: حدّثنا ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن سعيد بن أبي الهلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسيء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنّه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإنّ أحدا لا يصلّي عليّ إلّا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ منها» .
قال: قلت: وبعد الموت قال: «إنّ الله سبحانه حرّم على الأرض أن يأكل أجساد الأنبياء فنبيّ الله حيّ يرزق» [120] «4» .
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم النورقي قال: حدّثنا أبو غسان مالك بن ضيغم الراسبي قال: حدّثنا أبو سهل المنذراني عن خبّاب عن رجل قال: دخلت مسجد المدينة فإذا أنا برجل يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس حوله فقلت: أخبرني عن شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قال: نعم أمّا الشاهد فيوم الجمعة وأما المشهود فيوم عرفة، فجزته الى آخر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني عن شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ. قال: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر، فجزتهما الى غلام كأنّ وجهه الدينار
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي: 3/ 170.
(2) سورة النساء: 41.
(3) كتاب المسند: 60.
(4) البداية والنهاية: 5/ 297، تفسير ابن كثير: 3/ 522.(10/165)
وهو يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني عن شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قال: نعم أما الشاهد فمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمّا المشهود فيوم القيامة أما سمعته يقول: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً «1» وقال عز وجل: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «2» فسألت عن الأول فقالوا: ابن عباس، وسألت عن الثاني فقالوا: ابن عمر، وسألت الثالث فقالوا:
الحسن بن علي «3» .
وأخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن علي الدورقي بقراءتي عليه فأقرّ به قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن الحسن الشرقي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر العبدي قال: حدّثنا يزيد ابن هارون قال: أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن ابن أبي نجح عن مجاهد في قوله سبحانه وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قال: الشاهد آدم والمشهود يوم القيامة. ليث عنه: الشاهد ابن آدم والمشهود يوم القيامة.
وقال الوالي عن ابن عباس: الشاهد الله والمشهود يوم القيامة، عكرمة: الشاهد الإنسان والمشهود يوم القيامة وعنه أيضا: الشاهد الملك يشهد على آدم والمشهود يوم القيامة وتلا هاتين الآيتين وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ وذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «4» ، جابر بن عبد الله: الشاهد يوم القيامة والمشهود الناس.
محمد بن كعب: الشاهد أنت والمشهود هو الله، عطاء بن يسار: الشاهد آدم وذريته والمشهود يوم القيامة، الحسن: الشاهد الجمعة والمشهود يوم القيامة يشهده الأولون والآخرون، أبو ملك: الشاهد عيسى والمشهود أمّته، بيانه قوله سبحانه: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ «5» عبد العزيز بن يحيى: الشاهد محمّد والمشهود أمّته، بيانه قوله سبحانه:
وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «6» . الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم، بيانه قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «7» . سعيد بن المسيب: الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة، وقال سالم بن عبد الله: سألت سعيد بن حسن عن قوله سبحانه وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، فقال: الشاهد هو الله والمشهود محمد بيانه قوله سبحانه:
وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «8» ، وقوله سبحانه: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
__________
(1) سورة الأحزاب: 45.
(2) سورة هود: 103.
(3) تفسير مجمع البيان: 10/ 315. [.....]
(4) سورة ق: 21.
(5) سورة المائدة: 117.
(6) سورة النساء: 41.
(7) سورة البقرة: 143.
(8) سورة النساء: 79.(10/166)
«1» ، وقيل: الشاهد أعضاء ابن آدم والمشهود ابن آدم بيانه قوله سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ «2» الآية، وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن نحيد القطان البلخي يقول: الشاهد الحجر الأسود والمشهود الحجاج، وقيل: الشاهد الليالي والأيام والمشهود بنو آدم، دليله
الخبر المروي: «ما من يوم إلّا وينادي إني يوم جديد وإنّي على ما تفعل منّي شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة» [121] .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الصديق يقول:
سمعت أبا وائلة عبد الرحمن الحسيني المزني يقول: سمعت مطرفا يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: خبّرت عن الحسن بن علي إنّه قال:
مضى أمسك الماضي شهيدا معدلا ... وأصبحت في يوم عليك شهيد
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة ... فثنّ بإحسان وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير يوما إلى غد ... لعل غدا يأتي وأنت فقيد
فيومك إن أعتبته عاد نفعه ... عليك وماضي الأمس ليس يعود «3»
محمد بن علي الترمذي: الشاهد الحفظة والمشهود بني آدم، أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبي، قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري ببغداد في كتاب الزاهر:
إنّ من يركب الفواحش سرا ... حين يخلو بذنبه غير خالي
كيف يخلوا وعنده كاتباه ... حافظاه وربه ذو المحال
وقيل: الشاهد الأنبياء والمشهود محمد صلى الله عليه وسلم بيانه قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ «4» إلى قوله: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «5» ، وقيل: الشاهد الله عزّ وجل وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ والمشهود لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «6» بيان قوله سبحانه شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «7» ، وقيل: الشاهد الخلق والمشهود الحق وفيه يقول الشاعر:
أيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة ... وفي كل تسكينة شاهد
__________
(1) سورة الأنعام: 18.
(2) سورة النور: 24.
(3) اقتضاء العلم والعمل للخطيب البغدادي: 111.
(4) سورة آل عمران: 81.
(5) سورة آل عمران: 81.
(6) سورة الصافّات: 35.
(7) سورة آل عمران: 18.(10/167)
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنّه واحد «1»
وقيل: الشاهد يوم الإثنين والمشهود يوم الجمعة، وقيل: الشاهد الحق والمشهود الخلق، وقيل: الشاهد أفعال العبد والمشهود العبد.
[سورة البروج (85) : الآيات 4 الى 22]
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
قُتِلَ لعن، قال ابن عباس: كل شيء في القرآن قتل فهو لعن.
أَصْحابُ الْأُخْدُودِ: الشق واختلفوا فيهم
فأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن بن جعفر قال: حدّثنا الحاكم أبو محمد يحيى بن منصور وأبو القاسم منصور بن العباس بنو شنج وأبو الحسن محمد بن محمود بن عبيد الله بمرو وأبو بكر أحمد بن محمد بن عبيد الله الطاهري [....] «2» واللفظ له قالوا: حدّثنا الحسن بن شيبان بن عامر الشيباني أن هدية بن خالد القيسي حدثهم قال: حدّثنا حماد بن سلمة، وحدثت عن محمد بن جرير قال: حدّثني محمد بن معمر قال: حدّثني حرمي بن عمارة قال: حدّثنا حماد بن سلمة قال: حدّثنا ثابت بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت فابعث إليّ غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه راهب فقعد إليه الغلام وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتي الساحر ضربه وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب فسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه، فشكى ذلك إلى الراهب فقال: إذا احتبست على الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا احتبست على أهلك فقل:
حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الساحر خير أم الراهب، فأخذ حجرا ثم قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذا الدابة حتى يمضي الناس، فرمى بها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما قد أرى وإنك ستبتلى فإذا ابتليت
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 316.
(2) كلمة غير مقروءة في المخطوط. [.....](10/168)
فلا تدل علي، وكان الغلام يبري الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك قد كان عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: لك هذا إن أنت شفيتني فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله عز وجل فشفاك، فآمن بالله تعالى فشفاه الله فأتى الملك يمشي فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: وسأله بما شفيت قال: بدعاء الغلام، فأرسل إلى الغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب فجيء بالراهب فقيل له:
ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبي فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به فإذا بلغ ذروته فإن رجع عن دينه وإلّا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم كيف شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له: ما فعل أصحابك؟ فقال: أكفانيهم الله عز وجل فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال احملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فلجوا به فإن رجع عن دينه وإلّا فاقذفوه فيه.
فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا به، فجاء يمشي الى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: أكفانيهم الله عز وجل، فقال للملك: إنّك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قل: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم تضع السهم في كبد القوس ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في صدغه فوضع الغلام يده في موضع السهم فمات، فقال الناس:
آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام ثلاثا ثلاثا، فأتي الملك فقيل له: أريت ما كنت تحذره قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس كلهم. فأمر [بحفر] الأخدود بأفواه السكك وأضرم النيران وقال:
من لم يرجع عن دينه فاقذفوه فيها، أو قيل له اقتحم، ففعلوا ذلك حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام: يا أمّه اصبري فإنك على حق» [122] «1» .
محمد بن يحيى قال: حدّثنا مسلم بن قتيبة قال: حدّثنا جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة في قول الله سبحانه: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ قال: كانوا من قومك من النبط، وقال الكلبي: هم نصارى أهل نجران وذلك ان ملك نجران أخذ بها قوما مؤمنين فخدّ لهم في الأرض سبعة أخاديد طول كل واحد أربعون ذراعا وعرضه اثنتا عشرة ذراعا ثم طرح فيها [النفط] «2» والحطب ثم عرضهم عليها فمن أبى قذفوه في النار، فبدأ برجل يقال له عمرو بن زيد فسأله
__________
(1) الآحاد والمثاني للضحاك: 1/ 219- 221 ح 187، وصحيح مسلم: 8/ 231.
(2) كذا في المخطوط.(10/169)
ملكهم، فقال: من علمك هذا- يعني التوحيد- فأبى أن يخبره فأتى الملك الذي علمه التوحيد فقال: أيّها الملك أنا علمته، واسمه عبد الله بن شمر فقذفه في النار، ثم عرض على النار واحدا واحدا حتى إذا أراد أن يتبع بقيّة المؤمنين فصنع ملكهم صنما من ذهب ثم أمر على كل عشرة من المؤمنين رجلا يقول لهم إذا سمعتم صوت المزامير فاسجدوا للصنم فمن لم يسجد ألقوه في النار، فلما سمعت النصارى بذلك سجدوا للصنم، وأما المؤمنون فأبوا فخدّ لهم وألقاهم فيها [فارتفعت] «1» النار فوقهم اثني عشرة ذراعا.
قال مقاتل: كانت [الأخاديد] «2» ثلاثة: واحدة بنجران باليمن، والاخرى بالشام، والاخرى بفارس، حرّقوا بالنار أمّا التي بالشام فهو أنطياخوس بن ميسر الرومي، أمّا التي بفارس فهو بخت نصر، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف بن ذي نواس، فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله سبحانه فيهما قرآنا وأنزل في التي كانت بنجران، وذلك أن رجلين مسلمين ممّن يقرءون الإنجيل أحدهما بأرض تهامة والآخر بنجران اليمن فأجّر أحدهما نفسه في عمل يعمله وجعل يقرأ الإنجيل، فرأت بنت المستأجر النور يضيء في قراءة الإنجيل فذكرت ذلك لأبيها فرمقه حتى رآه، فسأله فلم يخبره فلم يزل به حتى أخبره بالدين والإسلام فتابعه هو وسبعة وثمانون إنسانا بين رجل وامرأة وهذا بعد ما رفع عيسى إلى السماء، فسمع ذلك يوسف بن ذي نواس بن شراحيل بن تبع بن اليسوح الحميري فخدّ لهم في الأرض فأوقد فيها فعرضهم على الكفر فمن أبى منهم أن يكفر قذفه في النار ومن رجع عن دين عيسى لم يقذف في النار، وإن امرأة جاءت ومعها ولد لها صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار فضربت حتى تقدمت فلم تزل كذلك ثلاث مرات فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها: يا أماه إني أرى أمامك نارا لا تطفأ فلما سمعت ابنها يقول ذلك قذفا جميعا أنفسهما في النار فجعلها الله وابنها في الجنة فقذف في النار في يوم واحد سبع وسبعون إنسانا.
قال ابن عباس: من أبى أن يقع في النار ضرب بالسياط، فأدخلت أرواحهم في الجنة قبل أن تصل أجسامهم إلى النار، وذكر محمد بن إسحاق بن يسار، عن وهب بن منبّه: إنّ رجلا كان بقي على دين عيسى فوقع إلى نجران فدعاهم فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير وخيّرهم بين النار واليهودية فأبوا عليه فخدّ الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفا، وقال الكلبي:
كان أَصْحابُ الْأُخْدُودِ سبعين ألفا، قال وهب: لما علت أرباط على اليمن خرج ذو نواس هاربا فاقتحم البحر بفرسه فغرق وفيه يقول عمرو بن معدي كرب:
__________
(1) في المخطوط: فارتفع.
(2) في المخطوط: الأخدود.(10/170)
أتوعدني كأنك ذو رعين ... بأنعم عيشه أو ذو نواس «1»
وكائن كان قبلك من نعيم ... وملك ثابت في الناس راس
قديم عهده من عهده عاد ... عظيم قاهر الجبروت قاس
أزال الدّهر ملكهم فأضحى ... ينقّل في أناس من أناس
قال الكلبي: وذو نواس هو الذي قتل عبد الله بن التامر وقد مضت القصّة في الحديث المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومما يزيده وضوحا ما روى عطاء عن ابن عباس إنّه قال: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شراحبيل بن شراحيل في الفترة قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بتسعين سنة.
عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا عمر بن محمد بن بحير قال: حدّثنا عبد الحميد بن حميد الكشي، عن الحسن بن موسى قال: حدّثنا يعقوب بن عبد الله القمي قال: حدّثنا جعفر بن أبي المغيرة عن ابن [ابزي] قال: لما هزم المسلمون أهل أسفندهان انصرفوا فجاءهم- يعني عمر- فاجتمعوا، فقالوا: أي شيء تجري على المجوس من الأحكام فأنهم ليسوا بأهل كتاب وليسوا من مشركي العرب، فقال: علي بن أبي طالب: بل هم أهل الكتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمر قد أحلّت لهم فتناولها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول أخته فوقع عليها فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها: ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه؟.
قالت: المخرج منه أن تخطب الناس، فتقول: يا أيّها الناس إنّ الله أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب [هذا] «2» في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته، فقام خطيبا، فقال: يا أيّها الناس إنّ الله أحلّ نكاح الأخوات فقال الناس جماعتهم: معاذ الله أن نؤمن بهذا أو نقرّ به ما جاءنا به نبي ولا أنزل علينا في كتاب فرجع إلى صاحبته فقال: ويحك إنّ الناس قد أبوا عليّ قالت: إذا أبّوا عليك فأبسط فيهم السوط قال: فبسط فيهم السوط، فأبى الناس أن يقرّوا فرجع إليها فقال: قد بسطت فيهم السوط فأبوا أن يقرّوا قالت: فجرّد فيهم السيف، قال: فجرّد فيهم السيف فأبوا أن يقرّوا، وقال لها: ويحك إنّ الناس قد أبوا أن يقرّوا، قالت: خدّ لهم أخدودا ثم أوقد فيها النيران ثم اعرض عليها أهل مملكتك فمن تابعك فخلّ عنه ومن أبى فأقذفه في النار، فخدّ لهم أخدودا فأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذف في النار ومن أجاب خلّى سبيله، فأنزل سبحانه فيهم: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إلى قوله:
عَذابُ الْحَرِيقِ «3» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 292.
(2) في المخطوط: ذا.
(3) تفسير الطبري بتفاوت بسيط: 30/ 166.(10/171)
وقال الضحاك: أَصْحابُ الْأُخْدُودِ من بني إسرائيل أخذوا رجالا ونساء فخدّ لهم أخدودا ثم أوقد فيها النيران فأقاموا المؤمنين عليها، فقال تكفرون أو نقذفكم في النار، ويزعمون أنه دانيال وأصحابه، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا عمر بن محمد بن بحير، قال: حدّثنا عبد بن حميد، عن يونس، عن شيبان عن قتادة في قوله سبحانه:
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ قال: حدّثنا أنّ علي بن أبي طالب كان يقول: هم أناس كانوا بمدراع اليمن اقتتل مؤمنوهم وكفارهم فظهر مؤمنوهم على كفارهم ثم اقتتلوا الثانية فظهر مؤمنوهم على كفارهم ثم أخذ بعضهم على بعض عهودا ومواثيق لا يغدر بعضهم ببعض، فغدر بهم كفارهم فأخذوهم ثمّ أنّ رجلا من المؤمنين قال لهم: هل لكم إلى [خير] توقدون نارا ثم تعرضوننا عليه، فمن تابعكم على دينكم فذلك الذي تشتهون ومن لا اقتحم النار فاسترحتم منه قال: فأججوا نارا وعرضوهم عليها فجعلوا يقتحمونها حتى بقيت عجوز فكأنها تلكأت، فقال لها طفل في حجرها:
أمضي ولا تنافقي «1» فقص الله عليهم نبأهم وحديثهم «2» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو محمد المزني قال: حدّثنا مطين قال: حدّثنا عثمان قال: حدّثنا معاوية بن هشام، عن شريك عن جابر عن أبي طفيل، عن علي قال: كان أَصْحابُ الْأُخْدُودِ نبيهم حبشي، قال علي: بعث نبي من الحبشة إلى قومه، ثم قرأ عليّ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «3» ، فدعاهم النبي فتابعه أناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذ فأوثق فأفلت منهم، فخدّ أخدودا فملأها نارا فمن تبع النبي رمي فيها ومن تابعهم تركوه فجاءوا بامرأة معها صبي رضيع فجزعت فقال: يا أماه مرّي ولا تنافقي «4» .
وبه عن مطين قال: حدّثنا أبو موسى وقال: وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر وكان أبوه سلّمه إلى معلم يعلّمه السحر فكره الغلام ذلك ولم يجد بدّا من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم، وكان في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت فأعجبه ذلك وكان يأتي المعلم آخر الغلمان ويضربه المعلم ويقول: من الذي حبسك وإذا انقلب إلى أبيه دخل على الراهب فضربه أبوه ويقول: لما أبطأت، فشكى الغلام ذلك إلى الراهب فقال له الراهب: إذا أتيت المعلم فقل حبسني أبي وإذا أتيت أباك فقل: حبسني المعلم، وكان في تلك البلاد حيّة
__________
(1) في المصدر: ولا تقاعسي.
(2) تفسير الدر المنثور: 6/ 332، وتفسير القرطبي: 19/ 289.
(3) سورة غافر: 78.
(4) المصدر السابق وفيه: امضي ولا تجرعي.(10/172)
عظيمة قطعت الطريق على الناس فمر بها الغلام فرماها فقتلها فأحس الراهب بذلك فازداد به عجبا وقال أنت قتلتها قال: نعم قال: إنّ لك لشأنا، وكان للملك ابن مكفوف البصر، فسمع بالغلام وقتله الحية فجاءه مع قائد فقال: أنت قتلت الحيّة؟ قال: لا، قال: ومن قتلها؟
قال: الله، قال: من الله؟ قال: ربّ السموات والأرض وما بينهما وربّ الشمس والقمر والليل والنهار والدنيا والآخرة، قال: فان كنت صادقا فادع ربّك حتى يرد عليّ بصري، قال:
الغلام أرأيت إن ردّ الله سبحانه عليك بصرك أتؤمن به؟
قال: نعم، قال: اللهم إن كان صادقا فاردد عليه بصره، فردّ الله تعالى عليه بصره فرجع إلى منزله بلا قائد، ثم دخل على الملك فلما رآه تعجب منه فقال: من صنع هذا، قال: الله، قال: ومن الله؟
قال: ربّ السموات والأرض وما بينهما وربّ المشرق والمغرب وربّ الشمس والقمر والليل والنهار والدنيا والآخرة، فقال له الملك: أخبرني من علّمك هذا، ودلّه على الغلام فدعاه فكلّمه فإذا غلام عاقل، فسأله عن دينه فأخبره بالإسلام ومن آمن معه، فهمّ الملك بقتلهم مخافة أن يبدل دينه فأرسل بهم إلى ذروة جبل وقال: ألقوهم من رأس الجبل، فذهبوا بالغلام إلى أطول جبل فدعا الغلام ربّه فأهلكهم الله سبحانه، فغاظ الملك ذلك، ثم أرسل معهم رجالا إلى البحر فقال: غرّقوهم فدعا الغلام ربّه فأغرقهم ونجا هو وأصحابه، فدخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك الذين أرسلتهم معك؟
فقال: أهلكهم الله ونجّاني فقال: اقتلوه بالسيف فنبا السيف عنه، وفشا خبره بأرض اليمن وعرفه الناس فعظّموه وعلموا إنه وأصحابه على الحق فقال الغلام للملك: إنّك لا تقدر على قتلي إلّا أن تفعل ما أقول، قال: فكيف أقتلك، قال: تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم باسم إلهي، ففعل الملك ذلك ثم رماه باسم إله الغلام فأصابه فقتله، فقال الناس:
لا إله إلّا إله عبد الله بن ثامر ولا دين إلّا دينه، فغضب الملك وأغلق الباب وأخذ أفواه السكك وخدّ أخدودا وملأه نارا ثم عرضهم رجلا رجلا فمن رجع عن الإسلام تركه ومن قال ديني دين عبد الله ألقاه في الأخدود فأحرقه، وكان في مملكته امرأة أسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع، فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلّا ألقيك في النار وأولادك معك، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها: ارجعي إلى دينك فأبت فألقى الثاني في النار ثم قال لها: ارجعي عن دينك فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمّت المرأة بالرجوع فقال الصبي: يا أماه لا ترجعي عن الإسلام فأنك على الحق ولا بأس عليك فألقي الصبي في النار وألقيت أمه على أثره فذلك قوله سبحانه قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ «1» .
__________
(1) بتفاوت في تفسير القرطبي: 19/ 289.(10/173)
وقال الضحاك: أحرق بخت نصر قوما من المسلمين.
والأخدود: الحفرة والشق المستطيل في الأرض كالنهر وجمعه أخاديد وهو أفعول من الخد يقال خددت في الأرض خدّا أي شققت وحفرت.
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ قراءة العامة بفتح الواو وهو الخطب، وقرأ أبو رجاء العطاردي بضم الواو على المصدر وقراءة العامة النَّارِ ذاتِ بالكسر فهما على نعت الْأُخْدُودِ، وقرأ أشهب العقيلي بالرفع فيهما على معنى أحرقتهم النَّارُ ذاتُ الْوَقُودِ.
قال الربيع بن أنس: كان أَصْحابُ الْأُخْدُودِ قوما مؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة، وأن جبّارا من عبدة الأوثان أرسل إليهم فعرض عليهم الدخول في دينه فأبوا فخدّ أخدودا وأوقد فيه نارا ثم خيّرهم بين الدخول في دينه وبين إلقائهم في النار فاختاروا إلقاءهم في النار على الرجوع عن دينهم فألقوا في النار، فنجّى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار بأن قبض أرواحهم قبل أن تمسّهم النار وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم.
إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ: حضور، وقال مقاتل: يعني يشهدون إنّ المؤمنين حين تركوا عبادة الصنم وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ: أي وما علموا فيهم عيبا ولا وجدوا لهم جرما ولا رأوا منهم سوءا. إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا: يعني إلّا لأن ومن أجل أن آمنوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا: عذّبوا وأحرقوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ نظيره قوله سبحانه وتعالى:
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «1» ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ في الآخرة وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ في الدنيا وذلك إنّ الله سبحانه أحرقهم بتلك النار التي أحرقوا بها المؤمنين، هذا قول ربيع وأصحابه، وقال الآخرون: هما واحد.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن محمد بن لؤلؤ الوراق قال: حدّثنا أبو عبيد محمد ابن أحمد بن المؤمل الصيرفي قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن جعفر الأحول المعروف باللقوق قال: حدّثنا منصور بن عمّار قال: حدّثنا سعيد بن أبي توبة عن عبد الرحمن بن الجهم يبلغ به حذيفة بن اليمان قال: أسرّ إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا في النار فقال: «يا حذيفة إن في جهنم لسباعا من نار وكلابا من نار وكلاليب من نار وسيوفا من نار وأنه يبعث ملائكة يعلّقون أهل النار بتلك الكلاليب بإحناكهم ويقطعونهم بتلك السيوف عضوا عضوا ويلقونها إلى تلك الكلاب والسباع كلما قطعوا عضوا عاد مكانه عضوا جديد» [123] «2» .
__________
(1) سورة الذاريات: 13.
(2) الدر المنثور: 2/ 174. [.....](10/174)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ واختلف العلماء في جواب القسم فقال بعضهم: جوابه قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وفيه إضمار يعني لقد قتل، وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ.
وقال قتادة: جوابه قوله: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ أي أخذه بالعذاب والانتقام.
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ: يعني الخلق عن أكثر العلماء، وروى عطية العوفي عن ابن عباس: يُبْدِئُ العذاب في الدنيا للكفار ثم يُعِيدُ عليهم العذاب في الآخرة.
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ: قال ابن عباس: التودد إلى أوليائه بالمغفرة. علي عنه: الحبيب، مجاهد: الواد، ابن زيد: الرحيم، وقيل: بمعنى المودود كالحلوب والركوب، وقيل: معناه يغفر ويودّ أن يغفر.
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ: السرير العظيم وقال: ابن عباس وقتادة: الكريم، واختلف القرّاء فيه فقرأ يحيى وحمزة والكسائي وخلف بجر الدال على نعت العرش. غيرهم بالرفع على صفة الغفور.
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ، خبر الجموع الهالكة ثم بين من هم فقال:
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا، من قومك يا محمد. فِي تَكْذِيبٍ: [واستجاب للتعذيب] «1» كدأب من قبلهم، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أحوالهم بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ كريم شريف كثير الخير وليس كما زعم المشركون، وقال عبد العزيز بن يحيى:
مجيد يعني غير مخلوق، وقرأ ابن السميقع: بَلْ هُوَ قُرْآنُ مَجِيدٍ بالإضافة، أي قرآن ربّ مجيد.
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.
قرأ يحيى بن يعمر: فِي لُوحٍ بضم اللام، أي إنّه بلوح وهو ذو نور وعلو وشرف.
وقرأ الآخرون: بفتح اللام لَوْحٍ مَحْفُوظٍ. قرأ نافع وابن مخيضر: بضم الظاء على نعت القرآن، وقرأ الباقون: بالكسر على نعت اللوح.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلد قال: حدّثنا ابن خلويه قال: حدّثنا إسماعيل قال:
حدّثنا إسحاق بن بشر، قال: أخبرني مقاتل وابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن في صدر اللوح لا إله إلّا الله وحده، ودينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عزّ وجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة. قال: فاللوح لوح من درة بيضاء طويلة طوله ما بين
__________
(1) كذا في المخطوط.(10/175)
السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق إلى المغرب، وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور، وكلامه بر معقود بالعرش، وأصله في حجر ملك يقال له ماطريون محفوظ من الشياطين، فذلك قوله بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ لله عزّ وجل فيه في كلّ يوم ثلاث مائة وستون لحظة يحيي ويميت ويعزّ ويذل ويَفْعَلُ ما يَشاءُ.
أخبرني عقيل إنّ المعافي أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدّثنا عمرو بن علي قال:
سمعت قرّة بن سليمان قال: حدّثنا حرب بن سريح قال: حدّثنا عبد العزيز بن صهّيب عن أنس بن مالك: في قوله هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ. قال: إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في جبهة إسرافيل. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش.(10/176)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
سورة الطارق
مكيّة، وهي سبع عشرة آية، واحدي وستون كلمة، ومائتان وتسع وثلاثون حرفا.
أخبرني أبو عثمان بن أبي بكر المقرئ قال: أخبرنا أبو عمرو بن أبي الفضل الشروطي قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك الأسدي قال: حدّثنا أبو عبد الله بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله من الأجر بعدد كلّ نجم في السماء عشر حسنات» [124] «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن نصرويه قال: حدّثنا أبو العباس إسحاق بن الفضل الزيات قال: حدّثنا يوسف بن موسى القطان قال: حدّثنا الضحّاك بن مخلد عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي بن كعب عن عبد الرحمن بن خالد بن جبلة أو ابن أبي جبلة- شك أبو عاصم «2» - عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على قوس في مشرقة ثقيف فقرأ:
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ حتى ختمها، فحفظتها في الجاهلية، قال: فمررت في مجلس ثقيف وفيهم قوم من قريش فمنهم عتبة وشيبة وأبناء ربيعة فاستقرءوني فقرأتها عليهم فقال الثقفيون: ما نرى هذا إلّا حقا، فقال القرشيون: نحن أعلم بصاحبنا لو علمنا أنه حق لتبعناه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ.
نزلت في أبي طالب وذلك لأنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتحفه بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذا بخط نجم فامتلأ ماء ثمّ نارا ففزع أبو طالب وقال: أي شيء هذا، فقال رسول الله (عليه السلام) «هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله تعالى» [125] «3» .
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 320.
(2) كذا في المخطوط.
(3) أسباب نزول الآيات: 299.(10/177)
فعجب أبو طالب، فأنزل الله سبحانه وتعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ
، والمعنى: يعني النجم يظهر ليلا ويخفى نهارا، أو كل ما جاء ليلا فقد طرق.
ومنه
حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله وقال: «تستعد المغيبة وتمتشط الشعثة»
[126] «1» ، وقالت هند بنت عتبة يوم أحد:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
تريد أن أبانا نجم في شرفه وعلوه.
وأنشدنا أبو القاسم المفسّر قال: أنشدني أبو الحسن محمد بن محمد بن الحسن قال:
أنشدني أبو عبد الله محمد بن الرومي قال:
يا راقد الليل مسرورا بأوّله ... إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا
لا تفرحن بليل طاب أوّله ... فرب آخر ليل أجج النارا «2»
وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ثم فسره فقال عزّ من قائل: النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي المضيء المنير، يقول العرب: أثقب نارك أي أضئها. مجاهد: المتوهج، عطا: الثاقب الذي يرمي به الشياطين فيثقبهم: قال ابن زيد: كانت العرب تسمّي الثريا النجم، وقيل: هو زحل سمي بذلك لارتفاعه، وتقول العرب للطائر إذا لحق ببطن السماء ارتفاعا: قد ثقب.
وروى أبو الحوراء عن ابن عباس قال: الطارق: نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل فهو طارق حين ينزل وطارق حين يصعد.
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ جواب القسم لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ قرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة لَمَّا بتشديد الميم، يعنون ما كل نفس إلّا عليها حافظ، وهي لغة هذيل يقولون: يسديك الله لما قمت، يعنون: إلّا قمت، وقرأ الآخرون: بالتخفيف جعلوا (ما) صلة مجازه: إنّ كل نفس لعليها حافظ.
أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسن بن أيوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال:
حدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا معاذ عن ابن عون قال: قرأت عند ابن سيرين: (إنّ كلّ نفس لما) فأنكره وقال: سبحان الله سبحان الله فتأويل الآية كلّ نفس عليها حافظ من ربّها يحفظ عملها ويحصي عليها ما يكتسب من خير وشر.
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 298.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 2 مورد الآية.(10/178)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
قال ابن عباس: هم الحفظة من الملائكة، وقال قتادة: هم حفظة يحفظون عملك ورزقك وأجلك إذا توفيته يا ابن آدم قبضت إلى ربّك، وقال الكلبي [وحصين] : حافظ من الله يحفظ قولها وفعلها ويحفظ حتى يدفعها ويسلمها إلى المقادير ثم تخلى عنها «1» .
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الحطاب قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل قال:
حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا يحيى بن صالح قال: حدّثنا عمر بن معدان عن سلم بن عامر عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وكّل بالمؤمن ستون ومائة ملك يذبّون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبّون عنه كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب [في اليوم الصائف وما لو بدا لكم لرأيتمونه على جبل وسهل كلهم باسط يديه فاغرفاه وما] «2» لو وكلّ العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» [127] «3» .
[سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 17]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ أي من أي شيء خلقه ربّه، ثم بيّن جل ثناؤه فقال سبحانه وتعالى: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ أي مدفوق مصبوب في الرحم وهو المني، فاعل بمعنى مفعول كقولهم سرّ كاتم، وليل نائم، وهمّ ناصب، وعِيشَةٍ راضِيَةٍ، قال الفراء: أعان على ذلك أنها رؤوس الآيات التي معهنّ.
والدفق: الصب، تقول العرب للموج إذا علا وانحط: تدفق واندفق وأراد من مائين: ماء الرجل وماء المرأة لأن الولد مخلوق منهما، ولكنه جعله ماء واحدا لامتزاجهما.
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ يعني صلب الرجل وترائب المرأة، واختلفوا في الترائب، فقال ابن عباس: موضع القلادة، الوالي عنه: بين ثدي المرأة، وعن العوفي عنه: يعني بالترائب اليدين والرجلين والعينين، وبه الضحاك، وعن ابن عليّة عن أبي رجاء قال: سئل عكرمة عن التَّرائِبِ فقال: هذه- ووضع يده على صدره بين ثدييه-. سعيد بن جبير: الجيد. ابن زيد:
الصدر. مجاهد: ما بين المنكبين والصدر. سفيان: فوق الثديين. يمان: أسفل من التراقي.
قتادة: النحر. جعفر بن سعيد: الأضلاع التي أسفل الصلب. ليث عن معمر بن أبي حبيبة المدني قال: عصارة القلب، ومنه يكون الولد، والمشهور من كلام العرب أنهما عظام النحر والصدر، وواحدتها تربية. قال الشاعر:
__________
(1) تفسير القرطبي: 320 بتفاوت.
(2) زيادة عن المصدر.
(3) مجمع الزوائد: 7/ 209.(10/179)
وبدت كان ترائبا نحرها ... جمر الغضا في ساعة يتوقّد
وقال آخر:
والزعفران على ترائبها ... شرق به اللّبات والصدر «1»
وقال المثقب العبدي:
ومن ذهب يسن على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون «2»
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال قتادة: إنّ الله سبحانه على بعث الإنسان وإعادته بعد الموت قادر، وقال عكرمة: إن الله سبحانه على ردّ الماء إلى الصلب الذي خرج منه لقادر، وعن مجاهد: على ردّ النطفة في الإحليل، وعن الضحاك: إنه على ردّ الإنسان ماء كما كان قبل لقادر، مقاتل بن حيان عنه: يقول: إنّ شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبى، ومن الصبى إلى النطفة، وعن ابن زيد: أنه على حبس ذلك الماء لقادر حتى لا يخرج.
وأولى الأقاويل: بالصواب تأويل قتادة لقوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي تظهر الخفايا، وقال قتادة ومقاتل وسعيد بن جبير عن عطاء بن أبي رياح: السرائر: فرائض الأعمال كالصّوم والصلاة والوضوء وغسل الجنابة، ولو شاء العبد أن يقول قد صمت وليس بصائم وقد صلّيت ولم يصلّ وقد اغتسلت ولم يغتسل لفعل.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة وابن البواب قال: حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال:
حدّثنا إسماعيل عن عبد الله بن إسماعيل عن ابن زيد يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ قال: السرائر: الصلاة والصيام وغسل الجنابة، ودليل هذا التأويل ما
أخبرنا الحسين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: أخبرني عروبة قال: حدّثنا هاشم بن القاسم الحراني قال: حدّثنا عبد الله بن وهب عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الجبلي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ثلاث من حافظ عليها فهو وليّ الله حقا، ومن اختانهن فهو عدو الله حقا، الصلاة والصوم والغسل من الجنابة» [128] «3» .
فَما لَهُ: يعني الإنسان الكافر مِنْ قُوَّةٍ تمنعه وَلا ناصِرٍ: ينصره وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي ترجع بالغيث وأرزاق العباد كلّ عام، لولا ذلك لهلكوا وهلكت معايشهم، وقال ابن عباس: هو السحاب فيه المطر.
وأخبرنا ابن عبدوس قال: أخبرنا ابن محفوظ قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 5، وفيه: والنحر بدل: الصدر.
(2) المصدر السابق.
(3) تفسير القرطبي: 20/ 9.(10/180)
عبد الرحمن بن مهدي عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ قال: ذات المطر. وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ قال: النبات، وقال أبو عبيدة: الرجع الماء، وأنشد المنحل الهذلي في صفة السيف:
أبيض كالرجع رسوب إذا ... ما ثاج في محتفل يختلي «1»
وقال ابن زيد: يعني بالرجع ان شمسها وقمرها يغيب ويطلع وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ، أي ينصدع عن النبات والأشجار والثمار والأنهار، نظيره قوله سبحانه شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً إلى آخرها «2» ، وقال مجاهد: هما السدّان بينهما طريق نافذ مثل [ماري] عرفة.
إِنَّهُ: يعني القرآن لَقَوْلٌ فَصْلٌ: حق وجد وجزل يفصل بين الحق والباطل. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ: باللعب والباطل. إِنَّهُمْ: يعني مشركي مكّة. يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً:
وأريد بهم أمرا. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً: قليلا فأخذوا يوم بدر.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 10، وثاخت القدم في الوحل إذا خاضت وغابت.
(2) سورة عبس: 26- 28. [.....](10/181)
سورة الأعلى
مكيّة، وهي: تسع عشرة آية، واثنان وسبعون كلمة، ومائتان واحدي وتسعون حرفا.
أخبرني كامل بن أحمد وسعيد بن محمد بن القاسم قالوا: حدّثنا محمد بن مطر قال:
حدّثنا إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كبير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله من الأجر عشر حسنات، بعدد كل حرف أنزل الله سبحانه على إبراهيم وموسى ومحمد» [129] «1» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن عمر بن أبان قال: حدّثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال:
«سبحان ربي الأعلى» [130] «2» ، وكذلك روى عن علي وأبي وموسى وابن عمر وابن عباس وابن الزبير إنهم كانوا يفعلون ذلك
، وروي جويبر عن الضحاك أنه كان يقول ذلك، وكان يقول من قرأها فليقرأها كذلك،
وروي عن علي بن أبي طالب إنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وأول من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«يا جبريل أخبرني عن ثواب من قالها في صلاته أو في غير صلاته» [131] «3» فقال: يا محمد ما من مؤمن ولا مؤمنة يقولها في سجوده أو في غير سجوده إلّا كانت له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا، ويقول الله سبحانه وتعالى: صدق عبدي أنا أعلى فوق كل شيء وليس فوقي شيء أشهدوا ملائكتي إنّي غفرت لعبدي وأدخلته جنتي، فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم فإذا كان يوم القيامة حمله على جناحه فيوقفه بين يدي الله سبحانه فيقول: يا ربّ شفّعني فيه فيقول: شفّعتك فيه اذهب به إلى الجنة.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 326.
(2) عون المعبود: 3/ 98.
(3) تفسير القرطبي: 20/ 14.(10/182)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
وقال عقبة بن عامر: لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» [132] «1» فلما نزل سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم» [133] «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى يعني قل: سبحان ربّي الأعلى، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وقال قوم معناه: نزّه ربّك الأعلى عما يقول فيه الملحدون ويصفه به المبطلون، وجعلوا الاسم صلة، ويجوز أن يكون معناه، نزّه ذات ربّك عما لا يليق به، لأن الاسم والذات والنفس عبارة عن الوجود والإثبات.
وقال آخرون: نزّه تسمية ربّك وذكرك إياه إن تذكره إلّا وأنت خاشع معظّم ولذكره محترم، وجعلوا الاسم بمعنى التسمية، وقال الفراء: سواء قلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أو سبح باسم ربّك إذا أردت ذكره وتسبيحه، وقال ابن عباس: صلّ بأمر ربّك الأعلى.
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى فعدل الخلق وَالَّذِي قَدَّرَ
خفّف عليّ والسلمي والكسائي داله
، وشدّدها الآخرون.
فَهَدى: قال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشر والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراتعها، وقال مقاتل والكلبي: عرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى، وعن عطاء قال:
جعل لكل دابة ما يصلحها وهذا حاله، وقيل: هدى لاكتساب الأرزاق والمعاش، وقيل: خلق المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لوجه استخراجها منه، وقيل: هدى لدينه من يشاء من خلقه.
قال السدي: قدر الولد في الرحم تسعة أشهر، أقل، أو أكثر، وهدى للخروج من الرحم.
وقال الواسطي: قدّر السعادة والشقاوة عليهم ثم يسّر لكل واحد من الطالعين سلوك ما قدّر عليه، وقيل: قدّر الأرزاق فهداهم لطلبها، وقيل: قدّر الذنوب على عباده ثم هداهم الى التوبة.
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى النبات من بين أخضر وأصفر وأحمر وأبيض.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 326.
(2) تفسير مجمع البيان: 10/ 326.(10/183)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
فَجَعَلَهُ غُثاءً هشيما باليا، أَحْوى أسود إذا هاج وعتق. سَنُقْرِئُكَ: سنعلمك ويقرأ عليك جبريل، فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن تنساه وهو ما ننسخه من القرآن، وهذا معنى قول قتادة،
وقال مجاهد والكلبي: كان النبي (عليه السلام) إذا نزل جبريل بالقرآن لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوله مخافة أن ينساها فأنزل الله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى فلم ينس بعد ذلك شيئا
، ووجه الاستثناء على هذا التأويل ما قاله الفراء: لم يشأ أن ينسى شيئا، وهو كقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «1» ، وأنت تقول في الكلام لأعطينّك كل ما سألت إلّا ما شاء أن أمنعك والنية أن لا تمنعه، وعلى هذا مجاري الأيمان يستثنى فيها ونية الحالف النمّام.
وسمعت محمد بن الحسن السلمي يقول: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول:
سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: كان يغشي الجنيد في مجلسه أهل النسك من أهل العلوم وكان أحد من يغشاه ابن كيسان النحوي، وكان في وقته رجلا جليلا فقال له يوما: يا أبا القاسم ما تقول في قوله سبحانه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى فأجابه مسرعا كأنه تقدم له السؤال قبل ذلك بأوقات: لا تنسى العمل به، فأعجب ابن كيسان به إعجابا شديدا وقال: لا يفضض الله فاك مثلك من يصدر عن رأيه «2» .
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ من القول والفعل وَما يَخْفى: قال محمد بن حامد: يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى لعمل الجنّة، وقيل: هو متصل بالكلام الأول معناه:
نعلم الْجَهْرَ مما تقرأه يا محمد على جبريل إذا فرغ من التلاوة عليك، وَما يَخْفى ما تقرأه في نفسك مخافة ان تنساه. ثم وعده فقال: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي يهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه وتعمل به، وقيل: ويوفقك للشريعة اليسرى، وهي الحنفية السمحة.
فَذَكِّرْ عظ بالقرآن إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى التذكر سَيَذَّكَّرُ سيتّعظ مَنْ يَخْشى الله سبحانه يَتَجَنَّبُهَا
يعني ويتجنب التذكرة ويتباعد عنها. َْشْقَى
الشقي في علم الله سبحانه. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَلا يَحْيى أي حياة تنفعه.
وسمعت السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزاز يقول:
قال ابن عطا: لا يَحْيى! فيستريح عن القطيعة وَلا يَحْيى فيصل إلى روح الوصلة.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
__________
(1) سورة هود: 107.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 19.(10/184)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى: أي تطهّر من الشرك وقال: لا إله إلّا الله، هذا قول عطاء وعكرمة ورواية الوالي عن ابن عباس وسعيد بن جبير عنه أيضا، وقال الحسن: من كان عمله زاكيا، وعن قتادة: عمل صالحا وورعا، وعن أبو الأحوص: رضح من ماله وأدّى زكاة ماله، وكان ابن مسعود يقول: رحم الله امرءا تصدّق ثم صلّى ثم يقرأ هذه الآية، وقال آخرون: هو صدقة الفطر، وروى أبو هارون عن أبي سعيد الخدري، في قوله سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قال:
أعطى صدقة الفطر.
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قال: خرج إلى العيد فصلى.
وروى عبيد الله بن عمر عن نافع قال: كان ابن عمر إذا صلّى الغداة- يعني من يوم العيد- قال: يا نافع أخرجت الصدقة فإن قلت نعم مضى إلى المصلّى وإن قلت لا قال: فالآن فأخرج، فإنما نزلت هذه الآية في هذا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى: وروى مروان بن معاوية عن أبي خالد قال: دخلت على أبي العالية فقال لي: إذا غدوت غدا إلى العيد فمرّ بي، قال: فمررت به فقال: هل طمعت شيئا؟ قلت: نعم، قال: أفضت على نفسك من الماء، قلت:
نعم، قال: فأخبرني ما فعلت زكاتك؟ قلت: قد وجهتها قال: إنما أردتك لهذا ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى وقال: إنّ أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء، ودليل هذا التأويل ما
أخبرني الحسين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن علي الهمداني قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن إسحاق الأصبهاني قال: حدّثنا حاتم بن يونس الجرجاني قال: حدّثنا دحيم قال: حدّثنا عبد الله بن نافع عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قال: «أخرج زكاة الفطر، وخرج إلى المصلى فصلّى» [134] «1» .
قلت: ولا أدري ما وجه هذا التأويل، لأن هذه السورة مكيّة بالإجماع ولم يكن بمكّة عيد، ولا زكاة فطر والله أعلم.
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ: أي وذكر ربّه، وقيل: وذكر تسمية ربّه، وقيل: هو تكبير العيد، فصلّى صلاة العيد، وقيل: الصلوات الخمس. يدل عليه ما
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد ابن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله قال: حدّثنا عباد بن أحمد العمري قال: حدّثنا عمّي محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عطاء بن السائب عن ابن سابط عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قال: «من شهد أن لا إله إلّا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 21 بتفاوت.(10/185)
الله» وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قال: «هي الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حين ينادى بها، والاهتمام بمواقيتها [135] «1»
، وقيل: الصلاة هاهنا الدعاء.
بَلْ تُؤْثِرُونَ، قراءة العامة: بالتاء وتصديقهم قراءة أبيّ بن كعب، بل وأنتم تؤثرون، وقرأ أبو عمرو بالياء، يعني الاشقين. قال عرفجة الأشجعي: كنا عند ابن مسعود، فقرأ هذه الآية، فقال لنا: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة. قلنا: لا، قال: لأن الدنيا أحضرت لنا، وعجّل لنا طعامها وشرابها نساؤها [ولذتها وبهجتها، وإن الآخرة غيبت لنا وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل] «2» .
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى إِنَّ هذا الذي ذكرت في هذه السورة، وقال الكلبي: يعني من قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إلى آخر السورة، وقال ابن زيد يعني قوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى قال قتادة: تتابعت كتب الله كما تسمعون إنّ الآخرة خَيْرٌ وَأَبْقى.
الضحّاك: إِنَّ هذا القرآن، لَفِي الصُّحُفِ الكتب الْأُولى واحدتها صحيفة، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى يقال: إنّ في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شأنه،
وقال أبو ذر: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قال: قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟
قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء» قلت: أكان آدم نبيا؟ قال: نعم كلمه الله سبحانه وخلقه بيده، يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب: هود وصالح وشعيب ونبيك. قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟
قال: «مائة وأربع كتب، منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ، وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أوّل من خطّ بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان» [136] «3» .
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 331، ومجمع الزوائد: 10/ 236 وفيه: الآخرة غيبت عنّا.
(2) بتمامه في تفسير مجمع البيان: 10/ 332، وبتفاوت في تفسير ابن كثير: 1/ 600.
(3) الدر المنثور: 6/ 339.(10/186)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
سورة الغاشية
مكّية، وهي ست وعشرون آية، واثنتان وتسعون كلمة، وثلاثمائة وأحد وثمانون حرفا
أخبرني محمّد بن القاسم قال: حدّثنا إسماعيل بن مجيد قال: حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن سعيد قال: حدّثنا سعيد بن حفص قال: قرأت على معقل بن عبد الله عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله حِساباً يَسِيراً» [137] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ يعني القيامة يغشي كلّ شيء إلّا هو، هذا قول أكثر المفسّرين.
وقال سعيد بن جبير ومحمّد بن كعب: الغاشية النار. دليله قوله سبحانه: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ...
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة، وقيل: في النار خاشِعَةٌ ذليلة عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قال بعضهم: يعني عامِلَةٌ في النار ناصِبَةٌ فيها، قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله سبحانه وتعالى في الدنيا، فأعملها وأنصبها في النار لمعالجة السلاسل والأغلال، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس قال قتادة: نكرت في الدنيا من طاعة فأعملها وأنصبها في النار.
وقال الكلبي: يجرّون على وجوههم في النار. الضحّاك: يكلّفون ارتقاء جبل من حديد في النار، والنّصب الدؤوب في العمل.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 333.(10/187)
وقال عكرمة والسدّي: عامِلَةٌ في الدنيا بالمعاصي، ناصِبَةٌ في النار يوم القيامة، وقال سعيد ابن جبير وزيد بن أسلم: هم الرهبان وأصحاب الصوامع، وهي رواية أبي الضحى عن ابن عبّاس.
تَصْلى ناراً حامِيَةً قال ابن مسعود: تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل.
قراءة العامّة بفتح التاء، وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر بضمّها اعتبارا بقوله: تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ حارّة. قال قتادة: قد أتى طبخها منذ خلق الله السماوات والأرض.
لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قال محمد وعكرمة وقتادة: وهو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض تسمّيه فرش الشرق، فإذا هاج سمّوه الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس، الوالي عنه: هو شجر من نار، وقال ابن زيد: أمّا في الدنيا فإنّ الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق، تدعوه العرب الضريع، وهو في الآخرة شوك من نار.
وقال الكلبي: لا تقربه دابّة إذا يبس، ولا يرعاه شيء، وقال سعيد بن جبير هو الحجارة، عطاء عن ابن عبّاس: هو شيء يطرحه البحر المالح، يسمّيه أهل اليمن الضريع،
وقد روي عن ابن عبّاس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الضريع شيء يكون في النار شبه الشوك، أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشدّ حرّا من النار»
[138] «1» سمّاه النبيّ ضريعا، وقال عمرو بن عبيد: لم يقل الحسن في الضريع شيئا، إلّا أنّه قال: هو بعض ما أخفى الله من العذاب، وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون منه ويذلّون ويتضرّعون إلى الله سبحانه، وعلى هذا التأويل يكون المعنى المضرّع.
وقال أبو الدرداء والحسن: يقبّح الله سبحانه وجوه أهل النار يوم القيامة يشبهها بعملهم «2» القبيح في الدنيا، ويحسن وجوه أهل الجنّة يشبّهها بأعمالهم الحسنة في الدنيا، وأنّ الله سبحانه يرسل على أهل النار الجوع حتّى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ويستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة، فيذكرون أنّهم كانوا يخبزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون بعطشهم ألف سنة، ثمّ يسقون من عين آنية لا هنيّة ولا مريّة، فكلّما أدنوه من وجوههم سلخ جلود وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطّعها، فذلك قوله سبحانه:
وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ.
قال المفسّرون: فلمّا نزلت هذه الآية قال المشركون: إنّ إبلنا لتسمن على الضريع، فأنزل الله سبحانه: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ويقول: فإنّ الإبل ترعاه ما دام رطبا، فإذا يبس فلا يأكله شيء ورطبه يسمّى شبرقا لا ضريعا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 30.
(2) في المخطوط: بعمله. [.....](10/188)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها في الدنيا راضِيَةٌ في الآخرة حين أعطيت الجنّة بعملها ومجازات لثواب سعيها في الآخرة راضية فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً لغو وباطل، وقيل: حلف كاذب. فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ ووسائد ومرافق مَصْفُوفَةٌ بعضها بجنب بعض، واحدتها نمرقة. قال الشاعر:
كهول وشبّان حسان وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق «1»
وَزَرابِيُّ يعني البسط العريضة. قال ابن عبّاس: هي الطنافس التي لها خمل رقيق، واحدتها زريبة. مَبْثُوثَةٌ مبسوطة وقيل: متفرّقة في المجالس. أَفَلا يَنْظُرُونَ الآية، قال المفسّرون لمّا نعت الله ما في الجنّة في هذه السورة عجب من ذلك أهل الكفر والضلالة وكذبوا بها، فذكرهم الله سبحانه صنعه فقال عزّ من قائل: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ.
وكانت الإبل من عيش العرب ومن حولهم، وتكلّمت الحكماء في وجه تخصيص الله سبحانه الإبل من بين سائر الحيوانات، فقال مقاتل: لأنّهم لم يروا قط بهيمة أعظم منها، ولم يشاهدوا الفيل إلّا الشاذّ منهم، وقال الكلبي: لأنّها تنهض بحملها وهي باركة لأنّه وليس شيء من الحيوانات سابقها ولا سائقها غيرها، وقال قتادة: ذكر الله سبحانه ارتفاع سرر الجنّة وفرشها فقالوا: كيف نصعد؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وسئل الحسن عن هذه الآية وقيل له: الفيل أعظم في الأعجوبة؟ فقال: أمّا الفيل فالعرب بعيدو «2» العهد بها، ثمّ هو خنزير لا يركب ظهرها ولا يأكل لحمها ولا يحلب درها، والإبل من أعزّ مال العرب وأنفسه.
وقال الحسن: إنّما يأكلون النوى والقت ويخرج «3» اللبن، وقيل: لأنّها في عظمة تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف حتّى أنّ الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث يشاء.
وحكى الأستاذ أبو القاسم بن حبيب أنّه رأى في بعض التفاسير أنّ فأرة أخذت بزمام ناقة، فجعلت تجرّ بها والناقة تتبعها، حتّى دخلت الجحر فجرّت الزمام فتحرّكت فجرّته فقربت فمها من جحر الفأر. فسبحان الذي قدّرها وسخّرها.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن العلاء قال:
حدّثنا وكيع عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن شريح أنّه كان يقول: اخرجوا بنا إلى الكناسة حتّى ننظر إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 34.
(2) في المخطوط: بعيد.
(3) هكذا في المخطوط.(10/189)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
وقيل: الإبل هاهنا السحاب، ولم أجد لذلك أصلا في كتب الأئمّة وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ بسطت،
وقال أنس بن مالك:
صلّيت خلف علي بن أبي طالب فقرأ افلا تنظرون إلى الإبل كيف خلقتُ وكذلك رفعتُ ونصبتُ وسطحتُ برفع التاء
، وقرأ الحسن سطّحت بالتشديد.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 21 الى 26]
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ بمسلّط جبّار يكرههم على الإيمان، ثمّ نسخ ذلك بآية القتال وقرأها هارون بِمُسِيْطَرٍ (بفتح الطاء) وهي لغة تميم.
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ اختلفوا في وجه هذا الاستثناء، فقال بعضهم: هو راجع إلى قوله:
فَذَكِّرْ ومجاز الآية: فَذَكِّرْ قومك إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ منهم، فإنّه لا ينفعه التذكير، وقيل معناه لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إلّا على مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فانّك تقاتله حتّى يسلم، وقيل: هو راجع إلى ما بعده، وتقديره: لكن مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ.
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وهو النار، وانّما قال: الْأَكْبَرَ لأنّهم عذّبوا في الدنيا بالجوع، والقحط، والقتل، والأسر، ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فإنّه يعذّبه الله العذاب الأكبر) . إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ رجوعهم ومعادهم، وقرأ أبو جعفر بتشديد الياء، قال أبو حاتم: لا يجوز ذلك ولو جاز فيه لجاز في الصيام والقيام. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ.(10/190)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
سورة الفجر
مكّية، وهي خمسمائة وسبعة وتسعون حرفا ومائة وتسع وثلاثون كلمة، وثلاثون آية.
أخبرني نافل بن راقم بن أحمد البابي قال: حدّثنا محمد بن محمد بن سادة قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسن قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا سلمة بن قتيبة عن شعبة عن عاصم بن هدله عن زر بن حبيش عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة وَالْفَجْرِ في الليالي العشر غفر له ومن قرأها سائر الأيّام كانت له نورا يوم القيامة» [139] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
وَالْفَجْرِ قال ابن عبّاس: يعني النهار كلّه، عطية عنه، صلاة الفجر، عثمان بن محصن عنه: فجر المحرّم ومثله قال قتادة: هو أوّل يوم من المحرّم تتفجر منه السنة. ضحاك: فجر ذي الحجّة لأنّ الله سبحانه قرن الأيّام بها. عكرمة وزيد بن أسلم: الصبح. مقاتل: عداه جميع كلّ سنة. القرظي: انفجار الصبح من كلّ يوم إلى انقضاء الدّنيا. في بعض التفاسير: أنّ الفجر الصخور والعيون تتفجّر بالمياه.
وَلَيالٍ عَشْرٍ قال مجاهد وقتادة والضحّاك والكلبي والحلبي: هي عشر ذي الحجّة، عكرمة: ليالي الحجّ، وقال مسروق: هي أفضل أيّام السنة. أبو روق عن الضحّاك: هي العشر الأول من شهر رمضان، أبو ظبيان عن ابن عبّاس قال: هي العشر الأواخر من شهر رمضان، يمان بن رباب: العشر الأولى من المحرّم التي عاشرها يوم عاشوراء.
أخبرني الحسن قال: حدّثنا بن حمدان قال: حدّثنا موسى بن إسحاق الأنصاري قال:
حدّثنا منجاب بن الحرث قال: أخبرنا بشر بن عمارة قال: حدّثنا عمر بن حسّان عن عطية
العوفي في قوله سبحانه: وَالْفَجْرِ قال: هو الفجر الذي تعرفون، قلت: وَلَيالٍ عَشْرٍ قال:
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 341.(10/191)
عشر الأضحى، قلت: وَالشَّفْعِ قال: خلقه، يقول الله سبحانه: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً، قلت: وَالْوَتْرِ قال: الله وتر، قلت له: هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: عمّن؟ قال: عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم [140] «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن نصرويه قال: حدّثنا ابن وهب قال: حدّثنا أحمد بن يحيى بن سعيد القطان وعبدة بن عبد الله بن النعمان قالا: حدّثنا أبو الحسين زيد بن الحبّاب العكلي قال: حدّثنا عبّاس بن عقبة قال: حدّثني حسين بن نعيم الحضرمي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله سبحانه: وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ قال:
«عشر النحر، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر» [141] «2» .
وبه عن ابن وهب قال: حدّثنا يوسف بن عبد الرحمن قال: حدّثنا سعيد بن مسلمة الأموي قال: حدّثنا واصل بن السائب الرقاشي قال: حدّثني أبو سودة قال: حدّثني أبو أيّوب الأنصاري قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله سبحانه وتعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قال: «الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر ليلة النحر» [142] «3» .
وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل الفهندري قال: حدّثنا أبو الطاهر المحمدآبادي قال:
حدّثنا عثمان بن سعيد قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا خالد بن قيس وهمام بن يحيى قالا: حدّثنا قتادة عن عمران بن عاصم عن عمران بن حصين أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فقال: «هي الصلاة منها الشفع ومنها الوتر» [143] «4» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن لؤلؤ قال: حدّثنا الهيثم قال: حدّثنا الدّورقي قال:
حدّثنا حجّاج عن ابن جريح قال: أخبرني محمد بن المرتفع أنّه سمع ابن الزبير يقول: وَالشَّفْعِ النفر الأوّل وَالْوَتْرِ [يوم] النفر الآخر.
وأخبرني الحسن قال: حدّثنا محمّد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا أحمد بن كثير القيسي قال: حدّثنا محمد بن عبد الله المقرئ قال: حدّثنا مروان بن معاوية الفزاري عن أبي سعيد بن عوف قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول على المنبر: يا معشر الحاجّ إنّكم جئتم من القريب والبعيد على الضعيف والشديد، فأسهرتم الأعين وأنصبتم الأنفس وأتعبتم الأبدان، فلا يبطلنّ أحدكم حجّه وهو لا يشعر، ينظر نظرة بعينه أو يبطش بطشة بيده، أو يمشي مشية برجله.
__________
(1) تفسير الطبري: 30/ 214، وتفسير القرطبي: 20/ 40.
(2) السنن الكبري: 2/ 445.
(3) زاد المسير لابن الجوزي: 8/ 238.
(4) زاد المسير لابن الجوزي: 8/ 239.(10/192)
يا أهل مكّة وسّعوا عليهم ما وسّع الله عليكم وأعينوهم ما استعانوكم عليه، فإنّهم وفد الله وحاجّ بيت الله ولهم عليكم حقّ، فاسألوني فعلينا كان التنزيل، ونحن حصرنا التأويل، فقام إليه رجل من ناحية زمزم فقال: دخلت فأرة جرابي وأنا محرم؟ فقال: اقتلوا الفويسقة، فقام آخر فقال: أخبرنا ب الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ والليالي العشر فقال: أمّا الشفع والوتر فقول الله سبحانه: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فهما الشفع والوتر، وأمّا الليالي العشرة فالثمان وعرفة والنحر، فقام آخر فقال: أخبرنا عن يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؟ فقال: هو يوم النحر ثلاث تتلوها.
وقال مجاهد ومسروق وأبو صالح: الشَّفْعِ الخلق كلّه، قال الله سبحانه: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ «1» الكفر والإيمان والشقاوة والسعادة والهدى والضلالة والليل والنهار والسماء والأرض والبرّ والبحر والشمس والقمر والجنّ والإنس، وَالْوَتْرِ الله سبحانه، قال الله تعالى:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
الحسن وابن زيد: أراد ب الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ الخلق كلّه، منه شفع ووتر.
عطية عن ابن عبّاس: الشَّفْعِ صلاة الغداة وَالْوَتْرِ صلاة المغرب. قتادة عن الحسن: هو العدد منه شفع ومنه وتر. مقاتل: الشَّفْعِ هو آدم وحواء، وَالْوَتْرِ هو الربّ تبارك وتعالى، وقيل:
الْوَتْرِ آدم شفّعه الله بزوجته حواء.
إبراهيم والقرظي: الزوج والفرد. الربيع عن أبي العالية: الشَّفْعِ ركعتان من صلاة المغرب وَالْوَتْرِ الركعة الثالثة، وقيل: الشَّفْعِ الصفا والمروة وَالْوَتْرِ البيت، الحسين بن الفضل: الشَّفْعِ درجات الجنان لأنّها ثمان وَالْوَتْرِ دركات النار لأنّها سبع، كأنّه الله- سبحانه وتعالى- أقسم بالجنّة والنار.
مقاتل بن حيان: الشَّفْعِ الأيّام والليالي، وَالْوَتْرِ اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع الشجري يقول:
سمعت أبا زيد حاتم بن محبوب السامي يقول: سمعت عبد الجبّار بن العلاء العطّار يقول:
سمعت سفيان بن عيينة يقول: الوتر هو الله عزّ وجلّ وهو الشفع أيضا لقوله: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ «2» وسمعت أبا القاسم يقول: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد ابن يزيد يقول: سمعت أبا عبد الله بن أبي بكر الورّاق يقول: سئل أبو بكر عن الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فقال: الشَّفْعِ تضاد أوصاف المخلوقين العزّ والذلّ والقدرة والعجز والقوّة والضعف والعلم
__________
(1) سورة الذاريات: 49.
(2) سورة المجادلة: 7.(10/193)
والجهل والبصر والعمى، وَالْوَتْرِ انفراد صفات الله سبحانه عزّ بلا ذلّ، وقدرة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وبصر بلا عمى وحياة بلا موت وما إزاءها.
وقيل: الشَّفْعِ مسجد مكّة والمدينة، وَالْوَتْرِ مسجد بيت المقدس، وقيل: الشَّفْعِ القرآن في الحجّ والتمتّع فيه، وَالْوَتْرِ الإفراد فيه، وقال ابن عطاء وَالْفَجْرِ محمّد صلّى الله عليه لأنّ به تفجّرت أنوار الإيمان وغابت ظلم الكفر.
وَلَيالٍ عَشْرٍ ليالي موسى التي أكمل بها ميعاده بقوله تعالى: وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ «1» ، وَالشَّفْعِ: الخلق وَالْوَتْرِ: الحقّ، وقيل: الشَّفْعِ الفرائض وَالْوَتْرِ السنن، وقيل: الشَّفْعِ الأفعال وَالْوَتْرِ النيّة، وهو الإخلاص، وقيل: الشَّفْعِ العبادة التي تتكرّر، كالصلاة والصوم والزكاة، وَالْوَتْرِ: العبادة التي لا تتكرّر كالحجّ، وقيل: الشَّفْعِ النفس والروح إذا كانتا معا، وَالْوَتْرِ الروح بلا نفس والنفس بلا روح، فكأنّ الله سبحانه أقسم بها في حالتي الاجتماع والافتراق «2» .
واختلف القرّاء في الْوَتْرِ، فقرأ يحيى «3» بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف:
بكسر الواو، وهو اختيار أبي عبيد، قال: لأنّها أكثر في العامّة وأفشى، ومع هذا إنّا تدبّرنا الآثار التي جاء فيها ذكر وتر الصلاة فوجدنا كلّها بهذه اللغة ولم نسمع في شيء منه الوتر بالفتح، ووجدنا المعنى في الوتر جميعا الذي في الصلاة والذي في السورة، وإن تفرّقا في الفرع فإنّهما في الأصل واحد إنّما تأويله الفرد الذي هو ضدّ الشفع، وقرأ الباقون بفتح الواو، وهي لغة أهل الحجاز واختيار أبي حاتم وهما لغتان مستفيضتان.
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قال أكثر المفسّرين: يعني إذا سار فذهب، وقال قتادة: إذا جاء وأقبل.
قال مجاهد وعكرمة والكلبي: هي ليلة المزدلفة.
واختلف القرّاء في قوله: يَسْرِ فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعيسى بالياء في الوصل، وهي اختيار أبي حاتم ورواية قتيبة ونصير والشرياني عن الكسائي قال أبو عبيد: كان الكسائي فترة يقول: أثبت الياء بالوصل واحذفها في الوقف لمكان الكتاب، ثمّ رجع إلى حذف الياء في الحالين جميعا لأنّها رأس آية، وهي قراءة ابن عامر وعاصم واختيار أبي عبيد اتباعا للخط، وقرأ ابن كثير ويعقوب الياء في الحالين على الأصل، قال الخليل بن أحمد: أسقط الياء منه وفاقا لرؤوس الآي.
وقال أكثر أهل المعاني: يعني يسري فيه كقولهم: ليل نائم ونهار صائم وسر كاتم. قال الفراء: يحذف العرب الياء ويكتفي بكسر ما قبلها. أنشدني بعضهم:
__________
(1) سورة الأعراف: 142.
(2) راجع للأقوال في معنى الشفع والوتر مقدمة فتح الباري: 136.
(3) لعله: الجني.(10/194)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
كفّاك كفّ ما تلقي درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما «1»
وقال آخر:
ليس يخفى سادتي قدر قوم ... ولعل يخف سئمتي إعساري
وقال المؤرّخ: سألت الأخفش عن العلّة في سقوط الياء من يسر، فقال: لا أجيبك ما لم تبت على باب داري سنة. فبتّ سنة على باب داره ثمّ سألته فقال: الليل لا يسري، وانّما يسرى فيه وهو مصروف فلمّا صرفه بخسه حظّه من الإعراب، ألا ترى إلى قوله: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «2» ؟ ولم يقل بغية لأنّه صرّفه من باغية.
هَلْ فِي ذلِكَ الذي ذكرت قَسَمٌ أي مقنع ومكتف «3» في القسم لِذِي حِجْرٍ عقل سمّي بذلك لأنّه يحجر صاحبه ممّا لا يحلّ ولا يجمل كما سمّي عقلا لأنّه يعقله عن القبائح والفضائح، ونهي لأنّه نهى عمّا لا ينبغي، وأصل الحجر المنع، يقال للرجل إذا كان مالكا قاهرا ضابطا له: إنّه لذو حجر، ومنه قولهم: حجر الحاكم على فلان.
[سورة الفجر (89) : الآيات 6 الى 14]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ قرأته العامّة بالتنوين وقرأ الحسن (بعادِ إرم) على الإضافة وقرأت العامّة: (إِرَمَ) بكسر الألف، وقرأ مجاهد بفتحه، قال المؤرّخ: من قرأ بفتح الألف شبههم بالآرام، وهي الأعلام واحدها ارم.
واختلف العلماء في معنى قوله إِرَمَ فأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى الباقرحي قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا إسحاق بن بشير عن محمد بن إسحاق عمّن يخبره أنّ سعيد بن المسيّب كان يقول: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ دمشق.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن مروان، قال: حدّثنا علي بن حرب الطائي قال: حدّثنا أبو الأشهب هود عن عوف الإعرابي عن خالد الربعي إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ قال: دمشق، وبه قال عكرمة وأبو سعيد المقبري.
__________
(1) تفسير الطبري: 12/ 151. [.....]
(2) سورة مريم: 28.
(3) في المخطوط: ومكتفي.(10/195)
وقال القرظي: هي الإسكندرية، وقال مجاهد: هي ارمة ومعناها القديمة. قتادة: هم قبيلة من عاد، وقال أبو إسحاق: هو جدّ عاد، وهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح.
وقال مقاتل: ارم قبيلة من قوم عاد كان فيهم الملك وكانوا موضع مهرة، وكان عاد أباهم فنسبهم إليه، وهو ارم بن عاد بن شمر بن سام بن نوح.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثنا أبو الطيّب المروزي قال: حدّثنا محمّد بن علي قال: أخبرنا فضل بن خالد قال: حدّثنا عبيد بن سليمان عن الضحّاك بن مزاحم أنّه كان يقرأ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ بفتح الألف والراء، والإرم الهلاك فقال: ارم بنو فلان أي هلكوا، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس.
وروي عن الضحّاك أنّه قرأ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ أي أهلكهم وجعلهم رميما، والصواب أنّها اسم قبيلة أو بلدة فلذلك لم يجرّ «1» .
قوله: ذاتِ الْعِمادِ قال قوم: يعني ذات الطول والقوّة والشدّة.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا أبو حاتم قال: حدّثنا أبو صالح كاتب الليث قال: حدّثني معاوية بن صالح عمّن حدّثه عن المقدام عن النبيّ صلّى الله عليه أنّه ذكر «إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ» فقال: «كان الرجل منهم يأتي بالصخرة فيحملها على [كاهله فيلقيها على أي حي أراد] فيهلكهم» [144] «2» .
وقال الكلبي: كان طول الرجل منهم أربع مائة ذراع، وقال ابن عبّاس: يعني طولهم مثل العماد، ويقول العرب للرجل الطويل: معمّدا، وقال مقاتل: كان طول أحدهم اثني عشر ذراعا، وقال آخرون: إنّما قيل لهم: ذات العماد لأنّهم كانوا أهل عمد سيارة ينتجعون الغيث وينتقلون إلى الكلأ، حيث كان ثمّ يرجعون إلى منازلهم ولا يقيمون في موضع.
قال الكلبي: ارم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود وأهل السواد وأهل الجزيرة، كان يقال: عاد ارم وثمود ارم، فأهلك الله سبحانه عادا، ثمّ ثمود وبقي أهل السواد وأهل الجزيرة، وكان أهل عمد وخيام وماشية في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم فكانوا أهل جنان وزروع ومنازلهم كانت بوادي القرى، وهي التي يقول الله سبحانه: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ.
وقيل: سمّوا ذات العماد لبناء بناه بعضهم، فشيّد عمده ورفع بناءه، والعماد والعمد والعمد جمع عمود، وهو:
ما أخبرنا أبو القاسم المفسّر قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفّار
__________
(1) تفسير الطبري: 30/ 220.
(2) تفسير الدر المنثور: 6/ 347، وفتح الباري: 8/ 538.(10/196)
الأصبهاني قال: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن مهدي بن رستم الأصبهاني قال: حدّثنا عبد الله بن صالح المصري قال: حدّثني ابن لهيعة وأخبرنا أبو القاسم قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي قال: أخبرنا عثمان بن سعيد الدارجي قال: أخبرنا عبد الله بن صالح قال: حدّثني ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنّه خرج في طلب إبل له شردت، فبينما هو في صحاري عدن إذا هو قد وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كبيرة وأعلام طوال، فلمّا دنى منها ظنّ أنّ فيها أحدا يسأله عن إبله فلم ير خارجا ولا داخلا فنزل عن دابته وعقلها وسلّ سيفه ودخل من باب الحصن، فلمّا دخل في الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما، والبابان مرصّعان بالياقوت الأبيض والأحمر فلمّا رأى ذلك دهش وأعجبه ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا قصور كل قصر معلّق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت وفوق كلّ قصر منها غرف:
[اعتبر يا أيها المغرور بالعمر المديد ... أنا شداد بن عاد صاحب الحصن المشيد
] وأخو القوّة والبأساء والملك الحشيد ... دار أهل الأرض لي من خوف وعيدي ووعيد
وملكت الشرق والغرب بسلطان شديد ... وبفضل الملك والعدّة فيه والعديد
فأتى هود وكنّا في ضلال قبل هود ... فدعانا لو قبلناه إلى الأمر الرشيد
وعصيناه ونادى هل من محيد ... فأتتنا صيحة تهوي من الأفق البعيد
فتوافينا كزرع وسط بيداء حصيد
وَثَمُودَ أي وثمود الَّذِينَ جابُوا قطّعوا وخرقوا الصَّخْرَ الحجر واحدتها صخرة بِالْوادِ يعني بوادي القرى، فنحتوا منها بيوتا كما قال الله سبحانه: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ «1» .
قال أهل السير: أوّل من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود، فبنوا من الدور والمنازل ألفي ألف وسبع مائة ألف كلّها من الحجارة، وأثبت أبو جعفر وأبو حاتم وورش الياء في الوادي وصلا، وأثبتها في الوصل والوقف ابن كثير برواية البزي والعواش ويعقوب على الأصل، وحذفها الآخرون في الحالتين لأنّها رأس آية.
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ اختلفوا فيه فقال بعضهم: أراد ذا الجنود والجموع الذين يقوّون أمره «2» ويسدّدون مملكته، وسمّي الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتّدونها في أسفارهم، وهي رواية عطية عن ابن عبّاس.
__________
(1) سورة الحجر: 82.
(2) في المخطوط: أمره.(10/197)
وقال قتادة: سمّي ذا الأوتاد لأنّه كانت له مظال وملاعب وأوتاد يضرب له فتلعب له تحتها، وقال محمد بن كعب: يعني ذا البناء المحكم، وقال سعيد بن جبير: كان له منارات يعذّب الناس عليها، وقال مجاهد وغيره: كان يعذّب الناس بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحد مدّه على الأرض وأوتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلد قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال:
حدّثنا إسحاق بن بشير عن ابن سمعان عن عطاء عن ابن عبّاس أنّ فرعون لمّا قيل له: ذو الأوتاد أنّه كان امرأة- وهي امرأة خازنه خربيل «1» بن نوحابيل وكان مؤمنا كتم إيمانه مائة سنة «2» ، وكان لقي من لقى من أصحاب يوسف، وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون- فبينما هي ذات يوم تمشّط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت: تعس من كفر بالله، فقالت بنت فرعون: وهل لك من إله غير أبي؟ فقالت: إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له.
فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي قال: ما يبكيك؟ قالت: الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهك وإلهها وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له. فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت:
صدقت. فقال لها ويحك: اكفري بإلهك وأقري أني إلهك، قالت: لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب فقال لها: اكفري بالله وإلّا عذبتك بهذا العذاب شهرين، قالت: والله لو عذّبتني سبعين شهرا ما كفرت بالله تعالى.
قال: وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها، وقال لها: اكفري بالله وإلّا ذبحت ابنتك الصغرى على فيك، وكانت طفلة رضيعة تجد بها وجدا شديدا فقالت: لو ذبحت من على الأرض على فيّ ما كفرت بالله تعالى.
قال: فأتى بابنتها فلمّا أن قدّمت منها وأضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلّمت وهي من الأربعة الذين تكلّموا أطفالا، فقالت: يا أمّاه لا تجزعي فإنّ الله سبحانه قد بنى لك بيتا في الجنّة، اصبري فإنّك تمضين إلى رحمة الله سبحانه وكرامته، قال: فذبحت فلم تلبث أن ماتت وأسكنها الله سبحانه الجنّة.
قال: وبعث في طلب زوجها خربيل فلم يقدروا عليه، فقيل لفرعون: إنّه قد رئي في موضع كذا وكذا في جبال كذا وكذا، فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلّي وثلاثة صفوف من الوحش خلفه يصلّون، فلمّا رأيا ذلك انصرفا، وقال خربيل: اللهم إنّك تعلم أنّي كتمت إيماني مائة سنة، ولم يظهر عليّ أحد فأيّما هذين الرجلين كتم عليّ فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤله، وأيّما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجّل عقوبته في الدّنيا، واجعل مصيره في العاقبة إلى
__________
(1) ذكر القرطبي في تفسيره (15/ 306) عن الثعلبي أن اسمه: حزقيل.
(2) كما ذكره في تاج العروس (7/ 302) وقيل ستمائة سنة ذكره الجزائري في القصص: 253.(10/198)
النار، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأمّا أحدهما فاعتبر وآمن، وأمّا الآخر فأخبر فرعون بالقصّة على رؤوس الملأ، فقال له فرعون: وهل كان معك غيرك؟ قال: نعم.
قال: ومن كان معك؟ قال: فلان. فدعى به. فقال: حقّ ما يقول هذا؟ قال: لا، ما رأيت ممّا قال شيئا. فأعطاه فرعون وأجزل، وأمّا الآخر فقتله ثمّ صلبه.
قال: وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسيا بنت مزاحم، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت: وكيف يسعني أن أصبر على ما أتى فرعون وأنا مسلمة وهو كافر، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها فقالت: يا فرعون أنت شرّ الخلق وأخبثه عمدت إلى الماشطة فقتلتها، فقال: فلعلّ بك الجنون الذي كان بها.
قالت: ما بي من جنون، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فمزّق عليها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما فقال لهما الأمر، بأنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها فقالت: أعوذ بالله من ذلك، إنّي أشهد أنّ ربّي وربّك وربّ السماوات والأرض واحد لا شريك له، فقال أبوها: يا آسية ألست خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق؟ قالت: أعوذ بالله من ذلك إن كان ما تقول حقّا، فقولا له: يتوّجني تاجا يكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله، فقال لهم فرعون: أخرجا عنّي فمدّها بين أربعة أوتاد يعذّبها، وفتح الله سبحانه لها بابا إلى الجنّة ليهوّن عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ يعني من جماع فرعون وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني من فرعون وشيعته، فقبض الله سبحانه روحها وأسكنها الجنّة «1» .
وقيل: الأوتاد عبارة عن ثبات مملكته وطول مدّته وشدّة هيبته، كثبوت الأوتاد في الأرض كقول الأسود:
في ظل ملك ثابت الأوتاد «2»
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ قال قتادة: يعني لونا من العذاب صبّه عليهم، وقال السّدي: كلّ يوم لون آخر من العذاب، وقيل:
وجع العذاب، وقال أهل المعاني: هذا على الاستعارة لأنّ السوط عندهم غاية العذاب، فجرى ذلك لكلّ عذاب. قال الشاعر:
__________
(1) القصة بتفاوت في الأحاديث الطوال للطبراني: 115، وتفسير ابن كثير: 4/ 420.
(2) معاني القرآن للنحاس: 6/ 85، ومعجم البلدان: 1/ 272 ومطلعه: ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة.(10/199)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
ألم تر أنّ الله أظهر دينه ... وصبّ على الكفّار سوط عذاب «1»
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قال ابن عبّاس: سبحانه يرى ويسمع، وقال مقاتل: ترصد الناس على الصراط، فجعل رصدا من الملائكة معهم الكلاليب والمحاجن والحسك، وقال الضحّاك:
بمرصد لأهل الظلم والمعصية، وقيل: معناه مرجع الخلق ومصيرهم إلى حكمه وأمره، وقال الحسن وعكرمة: ترصد أعمال بني آدم، وعن مقاتل أيضا: ممرّ الناس عليه. عطاء ابن أبي رياح: لا يفوته أحد. يمان: لا محيص عنه. السدي: أرصد النار على طرقهم حتّى تهلكهم، والمرصاد والمرصد الطريق وجمع المرصاد مراصيد وجمع المرصد مراصد.
وروى مقسم عن ابن عبّاس قال: إنّ على جهنّم سبع مجاسر يسأل العبيد عند أوّلهنّ عن شهادة أن لا إله إلّا الله، فإن جاء بها تامّة جاز بها إلى الثاني، فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث، فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامّة جاز إلى الرابع، فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تامّا جاز إلى الخامس، فيسأل عن الحجّ فإن جاء به تامّا جاز إلى السادس، فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامّة جاز إلى السابع، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها وإلّا يقال انظروا، فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله، فإذا فرغ به انطلق به إلى الجنّة.
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ امتحنه رَبُّهُ بالنعمة والوسعة. فَأَكْرَمَهُ بالمال وَنَعَّمَهُ بما وسّع عليه من الأفضال فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ فيفرح بذلك ويسر ويحمد عليه ويشكر، وإِذا مَا ابْتَلاهُ بالفقر فَقَدَرَ وضيّق وقتّر عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ أذلّني بالفقر، ولم يشكر الله على ما أعطاه من سلامة الجوارح ورزقه من العافية والصحّة. قال قتادة: ما أسرع كفر ابن آدم.
وقراءة العامّة فَقَدَرَ بتخفيف الدال، وقرأ أبو جعفر وابن عامر بالتشديد، وهما لغتان وكان أبو عمرو يقول: قدر بمعنى قتّر وقدر هو أن يعطيه ما يكفيه ولو فعل ذاك ما قال: رَبِّي أَهانَنِ، ثمّ ردّ عليه فقال: كَلَّا لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ ولم ابتله بالفقر لهوانه عليّ
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 49.(10/200)
وأنّ الفقر والغنى من تقديري وقضائي. فلا أكرم من أكرمته بالغنى وكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنته بالفقر وقلّة الدنيا، ولكني إنّما أكرم من أكرمته بطاعتي، وأهين من أهنته بمعصيتي، وقال الفراء: معنى كلا لم ينبغ «1» له أن يكون هذا ولكن ينبغي أن يحمده على الأمرين على الغنى والفقر.
ثم قال: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ يعني أهنت من أهنت من أجل أنّه لا يكرم اليتيم.
واختلف القرّاء في هذه الآية فقرأ أهل البصرة يكرمون وما بعده كلّه بالياء، وقرأها الآخرون بالتاء وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ قرأ أبو جعفر وأهل الكوفة تَحَاضُّونَ بالألف وفتح التاء، وروى الشذري عن الكسائي (تُحَاضُّونَ) بضم التاء، غيرهم (تحضّون) بغير الألف. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ الميراث أَكْلًا لَمًّا شديدا، قال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب غيره. بكر بن عبد الله: اللّمّ الاعتداء في الميراث يأكل ميراثه وميراث غيره. ابن زيد: الأكل اللمّ الذي يأكل كلّ شيء يجده ولا يسأل عنه أحلال أم حرام، ويأكل الذي له والذي لغيره، وذلك أنّهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان، وقرأ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ الآية قال أبو عبيدة يقال: لممت ما على الخوان إذا أتيت على ما عليه وأكلته كلّه أجمع.
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا كثيرا يقال جمّ الماء في الحوض إذا كثر واجتمع. كَلَّا ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر ثمّ أخبر ممن تلهّفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال عزّ من قائل:
إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا مرّة بعد مرّة فيكسر كلّ شيء على ظهرها.
وَجاءَ رَبُّكَ قال الحسن: أمره وقضاؤه، وقال أهل الإشارة: ظهر قدرة ربّك وقد استوت الأمور وأنّ الحقّ لا يوصف يتحوّل من مكان إلى مكان وأنّى له التجوّل والتنقّل ولا مكان له ولا أوان ولا تجري عليه وقت وزمان لأنّ في حرمان الوقت على الشيء فوت الأوقات، ومن فاته شيء فهو عاجز، والحقّ ينزّه أن تحوي صفاته الطبائع أو تحيط به الصدور.
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة قال: حدّثنا يعقوب بن يوسف القروي قال: حدّثنا القاسم بن الحكم قال: حدّثنا عبيد الله بن الوليد قال: حدّثنا عطية عن أبي سعيد قال: لمّا نزلت هذه الآية وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ تغيّر لون رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرق في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله فانطلق بعضهم إلى عليّ رضي الله عنه فقالوا: يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله صلى الله عليه وسلم. فجاء عليّ فاحتضنه من خلفه ثمّ قبّل بين عاتقيه ثمّ قال: يا نبي الله بأبي أنت وأمّي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيّرك؟
قال: «جاء جبريل (عليه السلام) فأقرأني هذه الآية: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ قلت: فكيف يجاء بها؟
__________
(1) في المخطوط: ينبغي.(10/201)
قال: «يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثمّ تعرض لي جهنّم فتقول: ما لي وما لك يا محمّد فقد حرّم الله لحمك ودمك عليّ، فلا يبقى أحد إلّا قال: نفسي نفسي وأنّ محمّدا يقول: أمّتي أمّتي، فيقول الله سبحانه إلى الملائكة: ألا ترون الناس يقولون: ربّ نفسي نفسي وأنّ محمّد يقول: أمّتي أمّتي؟» [145] «1» .
وقال عبد الله بن مسعود ومقاتل في هذه الآية: تقاد جهنّم بسبعين ألف زمان كلّ زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيّظ وزفير حتّى تنصب على يسار العرش.
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ في حياتي لِحَياتِي في الآخرة فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ قرأ العامّة بكسر الذال والثاء على معنى لا يعذّب أحد في الدنيا كعذاب الله يومئذ.
قال الفراء وقيل: إنّه رجل مسمّى بعينه وهو أميّة بن خلف الجمحي: يعني لا يعذّب كعذاب هذا الكافر أحد ولا يوثق كوثاقه أحد، واختار أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة لما
أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيّوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا هيثم وعناد بن عباد عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عمّن أقرأه النبيّ- صلّى الله عليه- فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثَقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ يعني بنصب الذال والثاء.
ويروى أنّ أبا عمرو رجع في آخر عمره إلى قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
معنى الآية لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب والوثاق، وهو الإشارة في السلاسل والأغلال.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال:
حدّثنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا شعبة عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عمّن سمع النبيّ- صلّى الله عليه- يقرأ فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ يعني يفعل به.
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلى ما وعد الله المصدّقة بما قال.
مجاهد: المنيبة المخبتة التي قد أيقنت أنّ الله سبحانه ربّنا، وضربت لأمره جأشا.
المسيّيب: سمعت الكلبي وأبا روق يقولان: هي التي يبيّض الله وجهها ويعطيها كتابها بيمينها فعند ذلك تطمئن. الحسن: المؤمنة الموقنة. عطية: الراضية بقضاء الله. حيّان عن
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 56.(10/202)
الكلبي: الآمنة من عذاب الله تعالى «1» .
أخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا خلّاد بن أسلم قال: أخبرنا النضر عن هارون القارئ قال: حدّثني هلال عن أبي شيخ الهنائي قال: في قراءة أبي يا أيّتها النفس الآمنة المطمئنة.
وأخبرني أبو محمّد الحسين بن أحمد الشعبي قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا محمد بن إسحاق السراج قال: حدّثنا سوار بن عبد الله قال: حدّثنا المعمر بن سليمان عن إبراهيم بن إسماعيل عن ابن أبي نجاح عن مجاهد يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ قال: الراضية بقضاء الله التي قد علمت أنّ ما أصابها لم يكن ليخطئها وأنّ ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وقال ابن كيسان:
المخلصة. ابن عطاء: هي العارفة بالله سبحانه التي لا تصبر عنه طرفة عين، وقيل: المطمئنة بذكر الله. بيانه: وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وقيل: هي المتوكّلة على الله تعالى الواثقة بما ضمن لها من الرزق «2» .
ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ اختلف العلماء في تأويل هذه الآية، ووقت هذه المقالة فقال قوم:
يقال ذلك لها عند الموت: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ وهو الله عزّ وجلّ.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال: حدّثنا محمّد ابن سهل العسكري قال: حدّثنا العطاردي قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله سبحانه: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً قال: هذا عند خروجها من الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل: فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفراتي قال: حدّثنا أحمد بن خالد قال: حدّثنا روح بن عبادة قال: حدّثنا زهير بن محمد قال: حدّثنا زيد ابن أسلم عن عبد الرحمن بن السليماني عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إذا توفّي العبد المؤمن أرسل الله سبحانه ملكين وأرسل إليه تحفة من الجنّة فيقال لها: اخرجي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اخرجي إلى روح وريحان وربّ عنك راض، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في نفسه قط، والملائكة على أرجاء السماء.
فيقولون: قد جاء من الأرض روح طيّبة ونسمة طيّبة، فلا يمرّ بباب إلّا فتح له ولا ملك إلّا صلّى عليه، حتّى يؤتي به الرحمن، ثمّ تسجد الملائكة ثمّ يقولون: ربّنا هذا عبدك فلأن توفيته كان يعبدك لا يشرك بك شيئا فيقول: مروه فليسجد، وتسجد النسمة، ثمّ يدعى ميكائيل فيقول:
اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتّى أسألك عنها يوم القيامة، ثمّ يؤمر فيوسع عليه قبره
__________
(1) تفسير الطبري: 30/ 238. [.....]
(2) راجع تفسير القرطبي: 20/ 57.(10/203)
سبعون ذراعا عرضه وسبعون ذراعا طوله وينبت له فيه الريحان. إن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، وإن لم يكن معه جعل له مثل الشمس في قبره، ويكون مثله كمثل العروس، ينام فلا يوقظه إلّا أحبّ أهله إليه، فيقوم من نومته كأنّه لم يشبع منها، وإذا توفّي الكافر أرسل الله سبحانه وتعالى ملكين وأرسل قطعة من سجّاد أنتن وأخشن من كلّ خشن، فيقال: أيّها النفس الخبيثة اخرجي إلى حميم وعذاب أليم وربّ عليك غضبان.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا المسوحي قال: حدّثنا عمرو بن العلاء الحنفي قال: حدّثنا ابن يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد قال: قرأ رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ قال أبو بكر: ما أحسن هذا! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أمّا أنّ الملك سيقولها لك [عند الموت] » [146] «1» .
حدّثنا أحمد بن محمد بن يعقوب القصري بها قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ببغداد قال: حدّثنا الحسن بن عرفة قال: أخبرني مروان بن شجاع الجزري، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا محمد بن علي بن سالم قال: حدّثنا أحمد بن منبع قال: حدّثنا مروان عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: مات ابن عبّاس بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه، فدخل نعشه ثمّ لم ير خارجا منه فلمّا دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يرى من تلاها: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي وقال آخرون: انّما يقال ذلك لها عند البعث: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ، أي صاحبك وجسدك فيأمر الله سبحانه الأرواح أن ترجع إلى الأجساد، وإلى هذا القول ذهب عكرمة وعطاء والضحّاك وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس.
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيّوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: حدّثنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا حجّاج عن هارون عن أبان بن أبي عيّاش عن سليمان بن قته عن ابن عبّاس أنّه قراها فادخلي في عبدي على التوحيد.
وقال الحسن: معناه ارْجِعِي إِلى ثواب رَبِّكِ وكرامته. ابن كيسان: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أي أمثالك من عباد ربّك الصالحين.
وقال بعض أهل الإشارة يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلى الدنيا ارْجِعِي إلى الله بتركها والرجوع إلى الله هو سلوك سبيل الآخرة. راضِيَةً عن الله بما أعدّ لها مَرْضِيَّةً رضي عنها ربّها. فَادْخُلِي فِي عِبادِي قال بعضهم: يعني مع عبادي جنّتي في معنى الآية تقديم وتأخير، وإليه ذهب مقاتل والقرظي وأبو عبيدة. وَادْخُلِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ يعني مع أنبيائنا في الجنّة، وقال الأخفش: أي في حزبي، وقال أمر الأرواح بعودها إلى أجسادها والله
__________
(1) كنز العمال: 12/ 485 ح 35591 وما بين معكوفين منه.(10/204)
أعلم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا المسيّب قال: حدّثنا إبراهيم عن صالح بن حيان عن ابن بريدة في هذه الآية يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ قال: نفس حمزة بن عبد المطّلب نزلت فيه يوم استشهد يوم أحد، بل نزلت نفسه عند ربّ العالمين، مكرمة مشرفة على من عنده حتّى يردها الله سبحانه إلى حمزة في دعة، وسكون وكرامة.
وقد نزلت في حبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكّة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال:
اللهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك. فحوّل الله سبحانه وجهه نحو القبلة من غير أن يحوّله أحد، فلم يستطيع أحد أن يحوّله وحكمها عام لجميع المؤمنين المطمئنين.(10/205)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
سورة البلد
مكية، وهي ثلاثمائة وعشرون حرفا، واثنتان وثمانون كلمة، وعشرون آية.
أخبرنا نافل بن ارضم بن عبد الجبّار قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد الصفّار قال:
حدّثنا عمرو بن محمد قال: حدّثنا سباط بن اليسع قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله السلمي قال:
حدّثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم عن عليّ بن زيد عن زرّ عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ أعطاه الله الأمن من غضبه يوم القيامة» [147] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
لا أُقْسِمُ يعني أقسم بِهذَا الْبَلَدِ يعني مكّة وَأَنْتَ يا محمّد حِلٌّ حلال بِهذَا الْبَلَدِ تصنع ما تريد من القتل والأسر، وذلك
أنّ الله سبحانه أحلّ لنبيّه صلى الله عليه وسلم مكّة يوم الفتح حتّى قاتل وقتل، وأحلّ ما شاء وحرم ما شاء، وقتل ابن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة، ومقيّس بن صبابة وغيرهما ثمّ قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» «2» فأحلّ دم ابن خطل وأصحابه وحرّم دار أبي سفيان، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله حرّم مكّة يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحلّ لأحد قبلي ولا يحلّ لأحد بعدي ولم يحلّ لي إلّا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها ولا نختلي خلالها ولا نفر صيدها ولا يحلّ لقطتها إلّا المنشد» .
فقال العبّاس: يا رسول الله إلّا الإذخر فإنّه لقيوننا وقتورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إلّا الإذخر» [148] «3» .
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 357.
(2) مسند أحمد: 2/ 538.
(3) مسند أحمد: 1/ 253 بتفاوت.(10/206)
وقال شرحبيل بن سعد: معنى قوله: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ قال: يحرّمون أن تقتلوا بها صيدا أو يعضدوا بها شجرة، ويستحلّون إخراجك وقتلك. وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قال عكرمة وسعيد ابن جبير: (الوالد) الذي يولد له (وَما وَلَدَ) العاقر الذي لا يولد له، وروياه عن ابن عبّاس وعلي، هذا القول تكون ما بقيا، وهو يعبد «1» ولا تصحّ إلّا بإضمار. عطية عنه: الوالد وولده.
مجاهد وقتادة والضحّاك وأبو صالح: وَوالِدٍ آدم وَما وَلَدَ ولده.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا برهان بن علي قال: حدّثنا عبد الله بن الوليد العكبري قال: حدّثنا محمد بن موسى الحرشي قال: حدّثنا جعفر بن سلميان قال: سمعت أبا عمران الخولي قرأ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قال إبراهيم وما ولد. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي نصّب.
عن الوالبي عن ابن عبّاس الحسن: يكابد مصايب الدنيا وشدائد الآخرة. قتادة: في مشقّة فلا يلقاه إلّا يكابد أمر الدنيا والآخرة. سعيد بن جبير: في شدّة، وعن الحسن أيضا: يكابد الشكر على السراء، والصبر على الضرّاء فلا يخلو منهما. عطية عن ابن عبّاس: في شدّة خلق حمله وولادته ورضاعه وفصاله ومعاشه وحياته وموته. عمرو بن دينار عنه: نبات أسنانه. يمان: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم وهو مع ذلك أضعف الخلق، وعن سعيد بن جبير أيضا في ضيق معيشته. ابن كيسان: المكابدة مقاساة الأمر وركوب معظمه، وأصله الشدّة وهو من الكبد. قال لبيد:
عين هلا بكيت اربد ... إذ قمنا وقام الخصوم في كبد «2»
وقال مجاهد وإبراهيم وعكرمة وعبد الله بن شدّاد وعطية والضحّاك: يعني منتصبا قائما معتدل القامة، وهي رواية مقسم عن ابن عبّاس قال: خلق كلّ شيء يمشي على الأرض على أربعة إلّا الإنسان، فإنّه خلق منتصبا قائما على رجلين. مقاتل: في قوّة نزلت في ابن الاسدين واسمه أسيد بن كلده بن أسيد بن خلف، وكان شديدا قويّا يضع الأدم العكاظي تحت قدميه، فيقول: من أزالني عنه فله كذا وكذا، فلا يطاق أن تنزع من تحت قدميه إلّا قطعا ويبقى موضع قدمه، ويقال: هو شدّة الأمر والنهي والثواب والعقاب، وقال ابن زيد: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني آدم في كبد أي وسط السماء وذلك حين رفع إلى الجنّة. أبو بكر الوراق: يعني لا يدرك هواه ولا يبلغ مناه. خصيف في معناه ومقاساة وانتقال أحوال نطفة ثمّ علقة إلى آخر تمام الخلق. ابن كيسان: منتصبا رأسه فإذا أذن الله سبحانه في إخراجه انقلب رأسه إلى رجلي أمّه، وقيل: جريء القلب غليظ الكبد مع ضعف خلقته ومهانة مادّته.
جعفر: أي في بلاء ومحنة.
ابن عطاء: في ظلمة وجهل.
__________
(1) كذا في المخطوط.
(2) لسان العرب: 3/ 376.(10/207)
محمد بن علي الترمذي: مضيّعا لما يعنيه مشتغلا بما لا يعنيه.
أَيَحْسَبُ يعني بالأشدين من قوّته. أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يعني الله سبحانه وتعالى، وقيل: هو الوليد بن المغيرة. أخبرني أبو الضحى عن ابن عبّاس. يَقُولُ أَهْلَكْتُ أنفقت مالًا لُبَداً بعضه على بعض، وهو من التلبّد في عداوة محمّد.
وقال مقاتل: نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وذلك أنّه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يكفّر وقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات منذ دخلت في دين محمّد.
واختلف القرّاء في قوله لُبَداً فقرأ أبو جعفر بتشديد الباء على جمع لابد وراكع، وقرأ مجاهد بضمّ اللام والباء مخفّفا كقولك: أمر بكر ورجل جنب، وقرأ الباقون بضمّ اللام وفتح الباء مخفّفين، ولها وجهان: أحدهما جمع لبدة، والثاني على الواحد، مثل قثم وحطم وليس بمعدول.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني الله سبحانه وقيل: محمّد (عليه السلام) فيعلم مقدار نفقته، وكان كاذبا لم ينفق جميع ما قال، وقال سعيد بن جبير وقتادة: أيظنّ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ فيسأله عن هذا المال من أين اكتسبه وأين أنفقه؟
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدّثني الهيثم بن خلف الدوري قال: حدّثني محمد بن يزيد بن سليمان مولى بني هاشم قال: حدّثنا حسين بن الحسين يعني الأشقر قال: حدّثنا هشام بن شبر عن أبي هاشم عن مخالد عن ابن عبّاس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتّى يسئل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه وعن حبّنا أهل البيت» [149] «1» .
قال ابن خرجة: ما سمعت هذا الحديث إلّا من الهيثم.
وأخبرنا الحسين قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن هارون بن محمد قال: حدّثنا موسى بن هارون بن عبد الله قال: حدّثنا أبو الربيع الزهراني قال: حدّثنا نعيم بن ميسرة، قال: أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: أخبرني رجل من بني عامر عن أبيه قال: صلّيت خلف النبيّ صلّى الله عليه فسمعته يقول: أَيَحْسِبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَيَحْسِبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني بكسر السين.
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ قال قتادة: نعم والله متظاهرة لقهرك بها كتما لشكر.
__________
(1) كنز العمال: 14/ 379 ح 39012، ح 39013.(10/208)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا عمر بن يحيى قال: حدّثنا جيغويه قال: حدّثنا صالح بن محمد قال: حدّثنا عبد الحميد المدني عن أبي حازم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق» [150] «1» .
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال أكثر المفسّرين: يعني بيّنا له طريق الخير والشرّ والحقّ والباطل والهدى والضلالة كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً «2» .
ودليل هذا التأويل ما
أخبرني عبد الله بن حامد- إجازة- قال: أخبرني أحمد بن يحيى قال: حدّثنا محمّد بن يحيى قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن قرّة بن خالد عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «إنّما هما نجدان نجد الخير ونجد الشرّ، فما يجعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير» [151] «3» .
وأخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: حدّثنا أبي عن عمرو بن أبي بكر القرشي عن محمّد بن كعب عن ابن عبّاس في قوله سبحانه: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال: الثديين، وإليه ذهب سعيد بن المسيب والضحّاك، والنجد الطريق في ارتفاع. قال الشاعر:
غداة غدوا فسألك بطن نخلة ... وآخر منهم جازع نجد كبكب «4»
[سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ يعني فلم يجاوز بهذا الإنسان العقبة فيأمر. قال الفراء أفرد قوله:
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ بذكر لا مرّة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي، وفي مثل هذا الموضع حتّى يعيدوها عليه في كلام آخر، كما قال: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى «5»
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 65، وفي كنز العمال بتفاوت: 15/ 856 ح 43407.
(2) سورة الإنسان: 3.
(3) مجمع الزوائد: 10/ 256.
(4) الصحاح: 2/ 542.
(5) سورة القيامة: 31.(10/209)
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «1» ، وانّما فعل ذلك كذلك في هذا الموضع استغناء بدلالة آخر الكلام على معناه من إعادتها مرّة واحدة، وذلك أنّه فسّر اقتحام العقبة بأشياء فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ الآية، فكأنه قال في أوّل الكلام فلا فعل ذا ولا ذا ولا ذا.
وقال بعضهم: معنى الكلام الاستفهام، تقديره أفلا اقتحم العقبة، وإليه ذهب ابن زيد وجماعة من المفسّرين، يقول: فهلّا أنفق ماله في فك الرقاب وإطعام السغبان ليتجاوز بها العقبة ويكون خيرا له من إنفاقه على عداوة محمّد، ويقال: إنّه شبّه عظم الذنب وثقلها على مرتكبها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحا كان مثله مثل من اقتحم تلك العقبة، وهي الذنوب حتّى تذهب وتذوب، كمن يقتحم عقبة فيستوي عليها ونحوها.
وذكر عن ابن عمران: أنّ هذه العقبة جبل في جهنّم، وقال كعب: هي سبعون دركة في جهنّم، وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله سبحانه، وقال مجاهد والضحّاك والكلبي: هي الصراط يضرب على جهنّم كحدّ السيف مسيرة ثلاثة آلاف سهلا وصعودا وهبوطا، وأنّ لجنبتيه كلاليب وخطاطيف كأنّها شوك السعدان، فناج مسلم وناج مخدوس ومكردس في النار منكوس، فمن الناس من يمرّ عليه كالبرق الخاطف، ومنهم من يمرّ عليه كالريح العاصف، ومنهم من يمرّ عليه كالفارس، ومنهم من يمرّ عليه كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفا، ومنهم الزالّون والزالّات، ومنهم من يكردس في النار، واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء.
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله سبحانه يقول: إنّ المعتق والمطعم تقاحم نفسه وشيطانه مثل من يتكلّف صعود العقبة، وقال ابن زيد يقول: فهلّا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير ثمّ بيّن ما هي فقال:
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ قال سفيان بن عينية: كلّ شيء قال: وَما أَدْراكَ فإنّه أخبره به، وما قال: (وما يدريك) فإنّه لم يخبر به.
فَكُّ رَقَبَةٍ فمن أعتق رقبة كان فداه من النار، قرأ أبو رجاء والحسن وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بنصب الكاف والميم على الفعل كقوله: ثُمَّ كانَ، وقرأ غيرهم بالإضافة على الاسم واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لأنّه تفسير لقوله (وَما أَدْراكَ) ، ثم أخبر ما هي فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ مجاعة.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبيد الله بن أبي سمرة قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله المستعيني قال: حدّثنا علي بن الحسين البصري قال: حدّثنا حجّاج قال: حدّثنا جرير بن حازم
__________
(1) سورة البقرة: 38. [.....](10/210)
قال: سمعت الحسن وأبا رجاء يقرآن: فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ قد لصق بالتراب من الفقر فليس له مأوى إلّا التراب.
وسمعت أبا القاسم الحلبي يقول: سمعت أبا حامد الخازرجي يقول: المتربة هاهنا من التربة وهي شدّة الحال، وأنشد الهذلي:
وكنّا إذا ما الضيف حلّ بأرضنا ... سفكنا دماء البدن في تربة المال «1»
أخبرني الحسن قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدّثنا موسى بن إسحاق الأنصاري قال: حدّثنا عبد الحميد بن صالح قال: حدّثنا عيسى بن عبد الرحمن عن طلحة بن مصرف عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علّمني عملا يدخلني الجنّة فقال: «لئن أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة وفكّ الرقبة» ، قال: أوليسا واحدا!؟
قال: «لا، عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفكّ الرقبة أن تعين في ثمنها، والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذاك فاطعم الجائع واسق الظمآن، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذاك فكفّ لسانك إلّا من خير» [152] «2» .
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا قيل: ثمّ بمعنى الواو وَتَواصَوْا أوصى بعضهم بعضا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ برحمة الناس. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ قرأ أبو عمرو وعيسى وحمزة ويعقوب بالهمزة هاهنا، وفي سورة الهمزة وغيرهم بلا همزة، وهما لغتان. المطبقة، قال الفراء وأبو عبيدة يقال: أصدت وأوصدت إذا أطبقت وقيل: معنى الهمزة المطبقة وغير الهمزة المغلقة، ومنه قيل للباب: وصيد.
__________
(1) لسان العرب: 11/ 191.
(2) كنز العمال: 6/ 437 ح 16429.(10/211)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
سورة الشمس
مكية، وهي مائتان وسبعة وأربعون حرفا وأربع وخمسون كلمة وخمس عشرة آية
أخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم الفارسي قال: أخبرنا أبو محمد بن أبي حامد قال:
حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الأصبهاني قال: حدّثنا المؤمل بن إسماعيل قال: حدّثنا سفيان الثوري قال: حدّثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن ايزي عن أبيه عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة وَالشَّمْسِ فكأنّما تصدّق بكلّ شيء طلعت عليه الشمس والقمر» [153] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
وَالشَّمْسِ وَضُحاها قال مجاهد: ضوؤها. قتادة: هو النهار كلّه. مقاتل: حرّها كقوله سبحانه في طه: وَلا تَضْحى «2» يعني ولا يؤذيك الحرّ.
وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها تبعها فأخذ من ضوئها وسار خلفها، وذلك في النصف الأوّل من الشهر إذا أغربت الشمس تلاها القمر طالعا.
وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها جلّى الشمس وكشفها بإضاءتها، وقال الفراء وجماعة من العلماء:
يعني والنهار إذا جلى الظلمة، فجازت الكناية عن الظلمة ولم [تذكر في أوله] لأنّ معناها معروف وهو ألا ترى أنّك تقول: أصبحت باردة وأمست عرية وهبّت شمالا فكنّي عن مؤنثات لم يجر لهن ذكر لأنّ معناهنّ معروف.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 367.
(2) سورة طه: 119.(10/212)
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي يخشى الشمس حتّى تغيب فتظلم الآفاق «1» .
وَالسَّماءِ وَما بَناها أي ومن خلقها، وهو الله سبحانه وتعالى، كقوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ «2» ، وقيل: هو ما المصدر أي وبنائها كقوله: بِما غَفَرَ لِي رَبِّي «3» . وَالْأَرْضِ وَما طَحاها خلق ما فيها، عن عطية عن ابن عبّاس والوالبي عنه:
قسمها. غيره بسطها. وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها عدل خلقها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قال ابن عبّاس برواية الوالبي: يبيّن لها الخير والشرّ.
وقال العوفي عنه: علّمها الطاعة والمعصية. الكلبي: أعلمها ما يأتي وما ينبغي، وقال ابن زيد وابن الفضل: جعل فيها ذلك يعني بتوفيقه إيّاها للتقوى وخذلانه إيّاها للفجور.
أخبرني الحسن قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن سنان قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا عزرة بن ثابت الأنصاري قال: حدّثنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي قال ب قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل فيه الناس ويتكادحون فيه؟ أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون ممّا آتاهم به نبيّهم- صلّى الله عليه- وأكّدت عليهم الحجّة؟ قلت: كلّ شيء قد قضى عليهم. قال: فهل يكون ذلك ظلما؟ قال: ففزعت منه فزعا شديدا وقلت: إنّه ليس شيء إلّا وهو خلقه وملك يده لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «4» . فقال لي: سدّدك الله، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه؟ أشيء قضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون ممّا آتاهم به نبيّهم صلى الله عليه وسلم وأكّدت به عليهم الحجّة؟
فقال: في شيء قد قضى عليهم. قال: فقلت فيتمّ العمل إذا قال من كان الله سبحانه خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها.
قَدْ أَفْلَحَ سعد وفاز، وهاهنا موضع القسم. مَنْ زَكَّاها أي أفلحت نفس زكّاها الله أي أصلحها وطهّرها من الذنوب ووفّقها للتقوى، وَقَدْ خابَ خسرت نفس مَنْ دَسَّاها دسسها الله فأهملها وخذلها ووضع منها وأخفى محلّها حين عمل بالفجور وركب المعاصي، والعرب تفعل هذا كثير فيبدّل في الحرف المشدّد بعض حروفه ياء أو واو كالتقضي والتظنّي وبابهما.
__________
(1) راجع لسان العرب: 14/ 153 لفظة أجلى.
(2) سورة النساء: 3.
(3) سورة يس: 27.
(4) سورة الأنبياء: 23.(10/213)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
أخبرنا أبو بكر بن عيلوس قال: أخبرنا أبو الحسن المحفوظي قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن خصيف عن سعيد بن جبير ومجاهد:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها قال: أحدها أصلحها، وقال الآخر: طهّرها.
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها قال أحدهما: أغواها، وقال الآخر: أضلّها، وقال قتادة: دسّها آثمها وأفجرها، وقال ابن عبّاس: أبطلها وأهلكها، وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو محمد المزني قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا عثمان قال: حدّثنا أبو الأحوص عن محمد بن السائب عن أبي صالح: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها قد أفلحت نفس زكّاها الله، وخابت نفس أفسدها الله عزّ وجلّ.
وقال الحسن: معناه قد أفلح من زكّى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عزّ وجلّ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها قال: من أهلكها وأضلّها وحملها على معصية الله عزّ وجلّ، فجعل الفعل للنفس.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا اليقطيني قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال:
حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وقف ثمّ قال: «اللهمّ آت نفسي تقواها أنت وليّها ومولاها وزكّها أنت خير من زكّاها» [154] «1» .
[سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها بطغيانها وعداوتها.
وروى عطاء الخراساني عن ابن عبّاس قال: اسم العذاب الذي جاءهم الطغوى، فقال:
كذّبت ثمود بعذابها «2» .
وقرأه العامّة بفتح الطاء، وقرأ الحسن وحمّاد بن سلمة بِطُغْواها بضمّ الطاء، وهي لغة كالفتوى والفتوى والفتيا إِذِ انْبَعَثَ قام أَشْقاها وهو قدار بن سالف عاقر الناقة وكان رجلا أشقر أزرق قصيرا ملتزق الخلق واسم أمّه قديرة.
أخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا عبد الرحمن قال: حدّثنا سفيان قال: حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن زمعة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقر الناقة
__________
(1) مسند أحمد: 6/ 209.
(2) تفسير الطبري: 30/ 268.(10/214)
وقال: «انتدب لها رجل ذو عزّ ومنعة في قومه كأبي زمعة» وذكر الحديث [155] «1» .
فَقالَ [لَهُمْ] رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ إغراء وتحذير، أي احذروا عقر ناقة الله، كقولك:
الأسد الأسد.
وَسُقْياها شربها وسقيها من الماء، فلا تزاحموها فيه، كما قال الله سبحانه: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.
فَكَذَّبُوهُ يعني صالحا (عليه السلام) ، فَعَقَرُوها يعني الناقة فَدَمْدَمَ دمّر عَلَيْهِمْ وأهلكهم رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ بتكذيبهم رسوله وعقرهم ناقته.
فَسَوَّاها فسوّى الدمدمة عليهم جميعا، عمّهم بها، فلم يفلت منهم أحد. وقال المروج:
الدمدمة: إهلاك باستئصال، وقال بعض أهل اللغة: الدمدمة: الإدامة. تقول العرب: ناقة مدمومة أي سمينة مملوءة، وقرأ عبد الله بن الزبير (فدهدم عليهم) بالهاء، وهما لغتان، كقولك امتقع لونه واهتقع إذا تغير.
وَلا يَخافُ قرأ أهل الحجاز والشام فلا بالفاء وكذلك هو في مصاحفهم، الباقون بالواو، وهكذا في مصاحفهم عُقْباها عاقبتها.
واختلف العلماء في معنى ذلك، فقال الحسن: يعني ولا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقال الضحّاك والسدي والكلبي: هو راجع إلى العاقر، وفي الكلام تقديم وتأخير معناه: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها ولا يَخافُ عُقْباها.
__________
(1) كنز العمال: 2/ 47، ومسند الحميدي: 1/ 258.(10/215)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)
سورة والليل
مكية، وهي ثلاثمائة وعشرة أحرف، وإحدى وسبعون كلمة، وإحدى وعشرون آية
أخبرني [محمد بن القاسم] بن أحمد قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: أخبرنا أبو عمرو وأبو عثمان البصري قال: حدّثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامه، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة وَاللَّيْلِ أعطاه الله حتى يرضى، وعافاه الله سبحانه من العسر ويسّر له اليسر» «1» [156] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13)
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى النهار فيذهب بضوءه وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى يعني ومن خلق.
أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيوب قال: حدّثنا علي بن عبد العزيز قال:
أخبرنا أبو عبيد قال: حدّثنا حجاج، عن هارون، عن إسماعيل، عن الحسن: أنه كان يقرأ: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، فيقول: والذي خلق، قال هارون قال أبو عمر وأهل مكة: يقول للرعد:
سبحان ما سبّحت له. وقيل: وخلق الذكر والأنثى، وذكر أنّها في قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء: والذكر والأنثى.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: أخبرنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا أبو معونة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قدمنا الشام، فأتانا أبو الدرداء، فقال:
أمنكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبد الله؟ قال: فأشاروا إليّ، فقلت: نعم أنا، فقال: فكيف سمعت
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 373.(10/216)
عبد الله يقرأ هذه الآية، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى؟ قال: قلت: سمعته يقرأها (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى والذكر والأنثى) .
قال لنا: والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها وهؤلاء يريدونني أن أقرأ وَما خَلَقَ فلا أتابعهم «1» .
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إنّ عملكم لمختلف [وقال عكرمة وسائر المفسرين: السعي: العمل] ، فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها، يدل عليه
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها» [157] «2» .
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى ماله في سبيل الله وَاتَّقى ربّه واجتنب محارمه وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى اي بالخلف أيقن بأن الله سبحانه سيخلف هذه، وهذه رواية عكرمة وشهر بن حوشب، عن ابن عباس، يدلّ عليه ما
أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم، عن محمد بن جرير قال: حدّثني الحسن بن أبي سلمة بن أبي كبشة قال: حدّثنا عبد الملك بن عمرو قال: حدّثنا عباد بن راشد، عن قتادة قال: حدّثنا خليل العصري، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم غربت شمسه إلّا وبعث بجنبتها ملكان يناديان، يسمعهما خلق الله تعالى كلهم إلّا الثقلين، اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا، فأنزل في ذلك القرآن، فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى - الى قوله- لِلْعُسْرى» [158] «3» .
وقال أبو عبد الرحمن السلمي والضحّاك: وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، ب (لا إله إلّا الله) . وهي رواية عطية، عن ابن عباس. وقال مجاهد: بالجنة، ودليله قوله سبحانه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ «4» ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي: بموعود الله الذي وعده أن يثيبه.
فَسَنُيَسِّرُهُ فسنهيّئه في الدنيا، تقول العرب: يسّرت غنم فلان إذا ولدت أو تهيّأت للولادة، قال الشاعر:
هما سيدانا يزعمان وإنما ... يسوداننا إن يسّرت غنماهما «5»
لِلْيُسْرى للخلّة اليسرى، وهي العمل بما يرضاه الله سبحانه، وقيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
__________
(1) وهو في صحيح مسلم: 2/ 206 ط. دار الفكر، وقال ابن العربي في أحكام القرآن: هذا مما لا يلتفت إليه بشر إنما المعول عليه ما في المصحف فلا تجور مخالفته- عن هامش تفسير القرطبي: 20/ 81.
(2) مسند أحمد: 3/ 321، والمستدرك: 4/ 422. [.....]
(3) تفسير القرطبي: 20/ 83.
(4) سورة يونس: 26.
(5) جامع البيان للطبري: 29/ 70.(10/217)
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بالنفقة في الخير وَاسْتَغْنى عن ربّه فلم يرغب في ثوابه وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي للعمل بما لا يرضى الله حتى يستوجب به النار، فكأنه قال:
نخذله ونؤذيه إلى الأمرّ العسير، وهو العذاب. وقيل: سندخله جهنم، والعسرى اسم لها.
فإن قيل: فأي تيسير في العسرى؟ قيل: إذا جمع بين كلامين أحدهما ذكر الخير والآخر ذكر الشر جاز ذلك، كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن ماهان محمد بن صي قال:
حدّثنا شعبة، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكث في الأرض، فقال: «ما منكم من أحد إلّا قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار» ، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتّكل؟
فقال «اعملوا فكلّ ميسّر» ، ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الآيات «1» .
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى قال مجاهد: مات، وقال قتادة وأبو صالح: هو لحد في جهنم، قال الكلبي: نزلت في أبي سفيان بن حرب.
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي بيان الحق من الباطل، وقال الفرّاء: يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله، كقوله سبحانه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، يقول: من أراد الله فهو على السبيل القاصد. وقيل: معناه: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى والإضلال، كقوله: بِيَدِكَ الْخَيْرُ وسَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ.
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى فمن طلبها من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.
[سورة الليل (92) : الآيات 14 الى 21]
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18)
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى تتوقد وتتوهج، وقرأ عبيد بن عمير (تتلظى) على الأصل، وغيره على الحذف لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى قرأ أبو هريرة: ليدخلنّ الجنة إلّا من يأبى، قالوا: يا أبا هريرة، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ فقرأ قوله سبحانه: الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا برهان بن علي الصوفي قال: حدّثنا أبو خليفة قال: حدّثنا القعنبي قال: حدّثنا مالك قال: صلّى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب، فقرأ فيها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى
__________
(1) مسند أحمد: 1/ 132. صحيح البخاري: 6/ 84.(10/218)
، فلمّا أتى على هذه الآية فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى وقع عليه البكاء فلم يقدر أن [يتعدّاها] من البكاء، وقرأ سورة أخرى «1» .
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى قال أهل المعاني: أراد الشقي والتقي، كقول طرفة:
تمنى رجال أن أموت، فإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد «2»
أي بواحد.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الله المقري قال: حدّثنا جدّي قال: حدّثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن سالم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن يوسف قال: حدّثنا ابن عمران قال: حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنّ أبا بكر رضي الله عنه أعتق من كان يعذّب في الله: بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وبنتها وزنيرة وأم عميس وأمة بني المؤمّل.
فأما زنيرة فكانت رومية وكانت لبني عبد الدار، فلمّا أسلمت عميت، فقالوا: أعمتها اللات والعزى.
فقالت: هي تكفر باللات والعزى، فردّ الله إليها بصرها، ومرّ أبو بكر بها وهي تطحن وسيّدتها تقول: والله لا أعتقك حتى يعتقك صباتك، فقال أبو بكر فحلى إذا يا أم فلان فبكم هي إذا؟ قالت: بكذا وكذا أوقية، قال: قد أخذتها، قومي، قالت: حتى أفرغ من طحني.
وأما بلال فاشتراه، وهو مدفون بالحجارة، فقالوا: لو أبيت إلّا أوقية واحدة لبعناك، فقال أبو بكر: لو أبيتم إلّا مائة أوقية لأخذته، وفيه نزلت يعني أبا بكر، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى إلى آخرها، وأسلم وله أربعون ألفا فأنفقها كلّها، يعني أبا بكر.
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو سعيد الحسن بن أحمد بن جعفر اليزدي قال:
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن أبي عبد الرحمن المقري قال: حدّثنا سفيان، عن عتبة قال: حدّثني من سمع ابن الزبير على المنبر وهو يقول: كان أبو بكر يبتاع الضعفة فيعتقهم، فقال له أبوه: يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، قال: [إنما أريد ما أريد] «3» فنزلت فيه وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى إلى آخر السورة «4» ، وكان اسمه عبد الله بن عثمان.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 87 مورد الآية.
(2) تاج العروس: 2/ 527، ونسبه إلى الإمام الشافعي. وكذا فعل ابن كثير في تفسيره: 3/ 187.
(3) عن تفسير القرطبي: 20/ 83 وفي المخطوط تشويش.
(4) الآحاد والمثاني: 1/ 203، وأسباب النزول للواحدي: 301 وفيه: ما منع ظهري أريد.(10/219)
عن عطاء، عن ابن عباس، في هذه الآية أن بلالا لما أسلم ذهب إلى الأصنام فسلح عليها، وكان المشركون وكلوا امراة تحفظ الأصنام، فأخبرتهم المرأة، وكان بلال عبدا لعبد الله ابن جدعان، فشكوا إليه، فوهبه لهم ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء، وهو يقول: أحدا أحد، فمرّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ينجيك أحد أحد، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن بلالا يعذّب في الله، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب فابتاعه به «1» .
وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر حين قال له أبو بكر:
أتبيعه؟ قال: نعم أبيعه بنسطاس، وكان نسطاس عبدا لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري ومواشي، وكان مشركا [وحمله] أبو بكر على الإسلام على أن يكون [له] ماله، فأبى فأبغضه أبو بكر، فلمّا قال له أمية: أتبيعه بغلامك نسطاس؟ اغتنمه أبو بكر وباعه به، فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك لبلال إلّا ليد كانت لبلال عنده، فأنزل الله سبحانه وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ من أولئك الذين أعتقهم مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى يد نكافئه عليها إِلَّا لكن ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى بثواب الله في العقبى عوضا مما فعل في الدنيا.
وأخبرنا أبو القاسم يعقوب بن أحمد بن السري العروضي في درب الحاجب قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله العماني الحفيد قال: حدّثنا أحمد بن نصر بن خفيف القلانسي الرقّاء قال: حدّثنا محمد بن جعفر بن سوّار بن سنان في سنة خمس وثمانين ومائتين قال: حدّثنا علي ابن حجر، عن إسحاق بن نجح، عن عطاء قال: كان لرجل من الأنصار نخلة، وكان له جار، فكان يسقط من بلحها في دار جاره، فكان صبيانه يتناولون، فشكا ذلك الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي (عليه السلام) «بعنيها بنخلة في الجنة» [159] ، فأبى قال: فخرج، فلقيه أبو الدحداح، فقال: هل لك أن تبيعها بجبس «2» ؟ يعني حائطا له، فقال: هي لك، قال: فأتى النبي (عليه السلام) ، فقال: يا رسول الله اشترها منّي بنخلة في الجنة، قال: نعم، قال: هي لك، فدعا النبي (عليه السلام) جار الأنصاري، فأخذها، فأنزل الله سبحانه وتعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أبو الدحداح والأنصاري صاحب النخلة.
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى أبو الدحداح وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى يعني الثواب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى يعني الجنة.
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى يعني الأنصاري وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى يعني الثواب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى يعني النار، وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى يعني به إذا مات كما في قوله:
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 301.
(2) في تفسير القرطبي: بحسن.(10/220)
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى صاحب النخلة وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى يعني أبا الدحداح الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى يعني أبا الدحداح وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى يكافئه بها، يعني أبا الدحداح إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى إذا أدخله الجنة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بذلك بجبس وعذوقه دانية، فيقول: «عذوق وعذوق لأبي الدحداح في الجنة» «1» .
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 20/ 90، مع تفاوت.(10/221)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
سورة والضحى
مكية، وهي مائة واثنان وسبعون حرفا، وأربعون كلمة، وإحدى عشرة آية
أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال: حدّثنا محمد بن يزيد المعدّل قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال: حدّثنا محمد بن منصور قال: حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدّثنا أبي، عن مخالد بن عبد الواحد، عن الحجاج بن عبد الله، عن أبي الخليل، عن علي ابن زيد، وعطاء بن أبي ميمونة، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من قرأ سورة وَالضُّحى، كان فيمن يرضاه الله عزّ وجلّ لمحمد أن يشفع له، وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم» [160] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)
وَالضُّحى
قال المفسّرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح، فقال: سأخبركم غدا ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي «1» .
وقال زيد بن أسلم: كان سبب احتباس جبرائيل (عليه السلام) كون جرو في بيته، فلمّا نزل عليه جبرائيل عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبطائه، فقال: يا محمد أما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة «2» ؟
واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه، فقال ابن حريج: اثني عشر يوما، وقال ابن عباس:
خمسة عشر يوما، وقيل: خمسة وعشرين يوما، وقال مقاتل: أربعين يوما. قالوا: فقال
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 385 و 20/ 93.
(2) أسباب النزول: 127. وتفسير القرطبي: 20/ 93. والدر المنثور: 2/ 259.(10/222)
المشركون: إنّ محمدا ودّعه ربّه وقلاه، ولو كان أمره من الله لتتابع عليه كما كان يفعل بمن قبله من الأنبياء.
وقال المسلمون: يا رسول الله أما ينزل عليك الوحي؟ فقال: «وكيف ينزل عليّ الوحي وأنتم لا تنقون براجمكم ولا تقلّمون أظفاركم «1» » ، فأنزل الله سبحانه جبرائيل (عليه السلام) بهذه السورة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا جبرائيل ما جئت حتى اشتقت إليك» [161] ، فقال جبرائيل (عليه السلام) : وأنا كنت إليك أشدّ شوقا ولكني عبد مأمور وما ننزل إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا الحسن بن علي بن عفان قال: حدّثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، أنه سمع جندب بن سفيان يقول: رمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر في إصبعه، فقال:
«هل أنت إلّا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت» [162]
فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم [الليل] ، فقالت له امرأة: يا محمد ما أرى شيطانك إلّا قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ليال. وقيل: إنّ المرأة التي قالت ذلك أم جميل امرأة أبي لهب، فأنزل الله سبحانه وَالضُّحى. يعني النهار كلّه
، دليله قوله وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فقابله بالليل، نظيره قوله أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى أي نهارا، وقال قتادة ومقاتل: يعني وقت الضحى، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس، واعتدال النهار من الحر والبرد في الشتاء والصيف، وقيل: هي الساعة التي كلّم الله فيها موسى، وقيل: هي الساعة التي ألقي السحرة فيها سجّدا، بيانه قوله سبحانه: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله:
بإضمار الربّ مجازه: وربّ الضحى.
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى قال الحسن: أقبل بظلامه، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، الوالبي عنه: إذا ذهب الضحّاك: غطّى كلّ شيء، مجاهد وقتادة وابن زيد: سكن بالخلق واستقر ظلامه، يقال: ليل ساج، وبحر ساج إذا كان ساكنا، قال الراجز:
يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النسّاج «2»
وقال أعشى بني ثعلبة:
فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكم ... وبحرك ساج ما يواري الدّعا مصا «3»
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني: 11/ 341 وفيه: ولا تنقون رواجبكم. وتفسير ابن كثير: 3/ 137. [.....]
(2) زاد المسير: 8/ 268. كتاب العين: 6/ 161. لسان العرب: 5/ 113.
(3) لسان العرب: 7/ 36. تاج العروس: 10/ 170.(10/223)
ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى أي ما تركك منذ اختارك، ولا أبغضك منذ أحبّك، وهذا جواب القسم.
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ من الثواب، وقيل: من النصر والتمكن وكثرة المؤمنين فَتَرْضى.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا ابو عبد الله محمد بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا عمر بن بحر قال: حدّثنا عبد بن حميد، عن قتيبة، عن سفيان، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبد الله، عن علي بن عبد الله بن عباس [عن أبيه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ما هو مفتوح على أمتي من بعدي كفرا كفرا» [163] فسرّني ذلك، فنزلت وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال: أعطي في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابها المسك، في كل قصر ما ينبغي له «1» .
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج، أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثني عبّاد بن يعقوب قال:
حدّثنا الحكم بن ظهر، عن السدي، عن ابن عباس: في قوله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال: رضا محمد ان لا يدخل أحد من أهل بيته النار، وقيل: هي الشفاعة في جميع المؤمنين.
أخبرنيه أبو عبد الله القنجوي قال: حدّثنا أبو علي المقري قال: حدّثنا محمد بن عمران بن أسد الموصلي قال: حدّثنا محمد بن أحمد المدادي قال: حدّثنا عمرو بن عاصم قال: حدّثنا حرب بن سريح البزاز قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن علي قال: حدّثني عمي محمد بن علي بن الحنفية، عن أبيه علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أشفع لأمتي حتى ينادي ربي عزّ وجلّ: رضيت يا محمد، فأقول: ربّ رضيت» ثم قال لي: إنّكم معشر أهل العراق تقولون: إن أرجى آية في القرآن يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ قلت: انا لنقول ذلك، قال: ولكنّا أهل البيت نقول: إنّ أرجى آية في كتاب الله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وهي الشفاعة [164] «2» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا أبو عامر بن سعدان قال: حدّثنا أحمد بن صالح المصري، قال: حدّثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدّثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله سبحانه في إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وقول عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فرفع يديه ثم قال:
«اللهمّ أمّتي أمّتي» وبكى.
__________
(1) المعجم الكبير: 10/ 277. جامع البيان للطبري: 30/ 292.
(2) شواهد التنزيل: 2/ 446.(10/224)
فقال الله سبحانه: يا جبرائيل اذهب إلى محمد- وربّك أعلم- فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبرائيل، فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله سبحانه: يا جبرائيل اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك «1» .
ويروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمّا نزلت هذه الآية: «إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار» [165] «2» .
وقال جعفر بن محمد: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضي الله عنها وعليها كساء من جلد الإبل، وهي تطحن بيدها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أبصرها، فقال: «يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل الله عليّ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [166] «3» .
ثم أخبر الله سبحانه، عن حاله (عليه السلام) التي كان عليها قبل الوحي، وذكّره نعمه، فقال عزّ من قائل: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى.
أنبأني عبد الله بن حامد الأصبهاني قال: أخبرنا محمد بن عبد الله النيسابوري قال: حدّثنا محمد بن عيسى، قال: حدّثنا أبو عمر الحوصي، وأبو الربيع الزهراني، عن حمّاد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته، قلت: يا ربّ إنك آتيت سليمان بن داود ملكا عظيما، وآتيت فلانا كذا، وآتيت فلانا كذا، قال: يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك؟ قلت: بلى أي رب، قال:
ألم أجدك ضالا فهديتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت: بلى أي رب» [167] «4» .
ومعنى الآية: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً صغيرا فقيرا ضعيفا حين مات أبواك، ولم يخلفا لك مالا، ولا مأوى، فجعل لك مأوى تأوي إليه، ومنزلا تنزله، وضمّك إلى عمّك أبي طالب حتى أحسن تربيتك، وكفاك المؤونة.
سمعت الأستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الأصفهاني يقول: سمعت أبا القاسم الاسكندراني يقول: سمعت أبا جعفر الملطي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن موسى الرضا يقول: سمعت أبي يقول: سئل جعفر بن محمد الصادق:
لم أوتم النبي صلى الله عليه وسلم عن أبويه؟ فقال: لئلّا يكون عليه حق لمخلوق «5» .
__________
(1) صحيح مسلم: 1/ 132. جامع البيان للطبري: 13/ 300.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 96.
(3) شواهد التنزيل: 2/ 445. فتح القدير: 5/ 460.
(4) أسباب نزول الآيات: 303. مستدرك الحاكم: 2/ 526.
(5) مسند زيد بن علي: 503. كشف الغمّة: 2/ 318.(10/225)
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري يحكي بإسناد له لا أحفظه، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه أنه قال في قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى: هو من أقوال العرب: درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل وقد جاء في الشعر:
لا ولا درّة يتيمة بحر ... تتلالأ في جونة البياع
فمجاز الآية: أَلَمْ يَجِدْكَ واحدا في شرفك، وفضلك، لا نظير لك، فآواك إليه.
وقرأ أشهب العقيلي فأوى بالقصر: أي رحمك. تقول العرب: آويت لفلان أية ومأواة أي رحمته.
وَوَجَدَكَ ضَالًّا عما أنت عليه اليوم، فهداك إلى الذي أنت عليه اليوم.
قال السدي: كان على أمر قومه أربعين عاما، وقال الكلبي: وجدك في قوم ضلال فهداك إلى التوحيد، والنبوة، وقيل: فهداهم بك، وقال الحسن والضحّاك وشهر بن حوشب وابن كيسان: وَوَجَدَكَ ضَالًّا عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة غافلا عنها، فهداك إليها، نظيره ودليله قوله سبحانه وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ وقوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وقيل: ضَالًّا في شعاب مكّة، فهداك الى جدّك عبد المطلب، وردّك إليه.
روى أبو الضحى، عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضل، وهو صبي صغير في شعاب مكّة، فرآه أبو جهل، منصرفا من أغنامه، فردّه إلى جدّه عبد المطلب، فمنّ الله سبحانه عليه بذلك، حين ردّه إلى جدّه على يدي عدوّه.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عبدوس قال: حدّثنا عثمان بن سعيد قال: حدّثنا عمرو بن عوف قال: أخبرنا خالد، عن داود بن أبي هند، عن العباس بن عبد الرحمن، عن بشر بن سعيد، عن أبيه قال: حججت في الجاهلية، فإذا أنا برجل يطوف بالبيت، وهو يرتجز، ويقول:
يا ربّ ردّ راكبي محمدا ... ردّ إليّ واصطنع عندي يدا
فقلت: من هذا؟ قيل: عبد المطلب بن هاشم، ذهبت أبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها، ولم يرسله في حاجة قط إلّا جاء بها، وقد احتبس عليه، قال: فما برحت أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل، فقال: يا بنيّ لقد حزنت عليك حزنا لا يفارقني أبدا «1» .
وفي حديث كعب الأحبار، في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدء أمره أن حليمة لمّا قضت حق الرضاع، جاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم لتردّه إلى عبد المطلب، قالت حليمة: فأقبلت أسير حتى أتيت
__________
(1) التاريخ الكبير للبخاري: 3/ 454. أسد الغابة: 2/ 305.(10/226)
الباب الأعظم من أبواب مكّة، فسمعت مناديا ينادي: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد عليك النور والدين والبهاء والجمال، قالت: ثم وضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقضي حاجة وأصلح ثيابي، فسمعت هدّة شديدة، فالتفت فلم أره، فقلت: معاشر الناس أين الصبي؟ فقالوا: أي الصبيان؟
قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي نضّر الله به وجهي، وأغنى عيلتي، ربّيته حتى إذا أدركت فيه سروري وأملي أتيت به لأردّه، وأخرج هذا من أمانتي، اختلس من بين يدي قبل أن يمس قدمه الأرض، واللات والعزى لئن لم أره لأرمينّ بنفسي من شاهق الجبل، فلأقطعنّ إربا إربا.
قالوا: ما رأينا شيئا، فلمّا آيسوني وضعت يدي على أم رأسي، وقلت: وا محمداه وا ولداه، فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي، وضجّ الناس معي بالبكاء حرقة لي، فإذا أنا بشيخ كالفاني يتوكأ على عصا، قال: ما لك أيتها السعدية؟
قلت: فقدت ابني محمدا، فقال: لا تبكي أنا أدلّك على من يعلم علمه، وإن شاء أن يردّه فعل، قلت: فدتك نفسي، ومن هو؟ قال: الصنم الأعظم هبل.
قالت: فدخل وأنا أنظر، فطاف بهبل وقبّل رأسه وناداه: يا سيداه، لم تزل منتك على قريش قديمة، وهذه السعدية تزعم أن ابنا لها قد ضلّ، فردّه إن شئت، وأخرج هذه الوحشة عن بطحاء مكة، فإنها تزعم أن ابنها محمدا قد ضلّ، قال: فانكب هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام، وقالت: إليك عنّا أيها الشيخ. إنما هلاكنا على يدي محمد.
قالت: فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاكا، ولركبته ارتعادا، وقد ألقى عكازته من يده وهو يقول: يا حليمة إن لابنك ربا لا يضيّعه فاطلبيه على مهل، قالت: فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي، فقصدته فلمّا نظر إليّ، قال: أسعد نزل بك أم نحوس؟، قلت: بل النحس الأكبر، ففهمها منّي، وقال: لعلّ ابنك ضلّ منك، قالت: قلت: نعم فظنّ أن بعض قريش قد اغتاله، فسلّ عبد المطلب سيفه لا يثبت له أحد من شدة غضبه، ونادى بأعلى صوته: يا آل غالب، يا آل غالب، وكانت دعوتهم في الجاهلية فأجابته قريش بأجمعها، وقالوا: ما قصتك؟، قال: فقد ابني محمد، قالت قريش: اركب نركب معك، فإن تسنّمت جبلا تسنماه معك، وان خضت بحرا خضناه معك، فركب وركبت قريش معه فأخذ على أعلى مكة وانحدر على أسفلها، فلمّا أن لم ير شيئا ترك الناس واتشح وارتدى بآخر، وأقبل الى البيت الحرام، فطاف اسبوعا ثم أنشأ يقول:
يا ربّ ردّ راكبي محمدا ... ردّه ربي واتخذ عندي يدا
يا ربّ إن محمد لم يوجدا ... مجمع قومي كلّهم مبدّدا
فسمعنا مناديا ينادي من الهواء: معاشر الناس لا تضجوا، فان لمحمد ربّا لا يخذله ولا(10/227)
يضيّعه، قال عبد المطلب: يا أيها الهاتف ومن لنا به وأين هو؟، قال بوادي تهامة عند شجرة اليمن.
فأقبل عبد المطلب راكبا متسلحا، فلمّا صار في بعض الطرق تلقّاه ورقة بن نوفل فصارا جميعا يسيران، فبينما هم كذلك إذ النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يجذب الأغصان ويعبث بالورق، قال له عبد المطلب: من أنت يا غلام؟
قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال عبد المطلب: فدتك نفسي وأنا جدّك، ثم حمله على قربوس سرجه وردّه إلى مكة واطمأنت قريش بعد ذلك «1» .
وقال سعيد بن المسيب: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة، فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء على ناقة إذ جاء إبليس، وأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق، فجاء جبرائيل فنفخ إبليس نفخة وقع منها الى الحبشة وردّه الى القافلة، فمنّ الله عليه بذلك.
وقيل: وَجَدَكَ ضَالًّا ليلة المعراج حين انصرف عنك جبرائيل لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثني ابن حبيش قال: قال بعض أهل الكلام في قوله:
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى: إن العرب إذا وجدت شجرة في فلاة من الأرض وحيدة ليس معها ثانية يسمونها: ضالة، فيهتدون بها إلى الطريق.
قال: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى أي وحيدا ليس معك نبي غيرك فهديت بك الخلق إليّ، وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن علي الترمذي: ووجدك خاملا لا تذكر ولا تعرف من أنت، فهداهم إليك حتى عرفوك، وأعلمهم بما منّ به عليك.
قال بسام بن عبد الله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا نفسك لا تدري من أنت فعرّفك نفسك وحالك، وقال أبو بكر الورّاق وغيره: وَوَجَدَكَ ضَالًّا بحب أبي طالب فهداك إلى حبّه، وغيره: وجدك محبّا فهداك إلى محبوبك، دليله قوله سبحانه، إخبارا عن إخوة يوسف إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «2» وقوله سبحانه: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ «3» اي فرط الحب ليوسف.
وقيل: وجدناك ناسيا شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، دليله قوله أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما «4» أي تنسى، وقال سهل: وجد نفسك نفس الشهوة
__________
(1) تاريخ مدينة دمشق: 3/ 478.
(2) سورة يوسف: 8.
(3) سورة يوسف: 95.
(4) سورة البقرة: 282. [.....](10/228)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
والطبع، فغيّره إلى سبيل المعرفة والشرع، قال جنيد: وجدك متحيرا في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه، لقوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ «1» وقوله لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ «2» .
قال بندار بن الحسين: ليس قائما مقام الاستدلال فتعرفت إليك، وأغنيتك بالمعرفة عن الشواهد والأدلة، وقيل: وجدك طالبا لقبلتك ضالا عنها فهداك إليها.
وَوَجَدَكَ عائِلًا فقيرا عديما فأغناك بمال خديجة، ثم بالغنائم، وقال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق، وقرأ ابن السميقع: وجدك عيّلا بتشديد الياء من غير ألف على وزن فيعل، كقولك: طاب يطيب فهو طيّب. وعن ابن عطاء: وجدك فقير النفس، وقيل: فقيرا إليه فأغناك به، وقيل: غنيا بالمعرفة فقيرا عن أحكامها، فأغناك بأحكام المعرفة حتى تم لك الغنى.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش، عن بعضهم أنه قال: وَجَدَكَ عائِلًا تعول الخلق بالعلم فأغناك بالقرآن والعلم والحكمة، وقال الأخفش: وجدك ذا عيال. دليله
قوله صلى الله عليه وسلم:
وابدأ بمن تعول.
عن ابن عطاء: لم يكن معك كتاب ولا شريعة فأغناك بهما، وقيل: وَجَدَكَ عائِلًا عن الصحابة محتاجا إليهم، فأكثرنا لك الاخوان والأعوان، وحذف الكاف من قوله فَآوى وأختيها لمشاكلة رؤوس الآي، ولأن المعنى معروف.
[سورة الضحى (93) : الآيات 9 الى 11]
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ واذكر يتمك، وقرأ النخعي والشعبي: فلا تكهر، بالكاف، وكذلك هو في مصحف عبد الله، والعرب تعاقب بين القاف والكاف، يدل عليه حديث معاوية بن الحكم الذي تكلّم في الصلاة قال: ما كهرني، ولا ضربني.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال:
حدّثنا إسحاق بن عيسى قال: حدّثنا مالك، عن ثور بن زيد الدبلي قال: سمعت أبا الغيث يحدّث، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كافل اليتيم- له أو لغيره- أنا وهو كهاتين في الجنّة إذا اتقى الله سبحانه» [168] «3» وأشار مالك بالسبابة والوسطى.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن [يوسف] «4» قال: حدّثنا الحسن بن علي بن نصر
__________
(1) سورة النحل: 44.
(2) سورة النحل: 64.
(3) مسند أحمد: 2/ 375.
(4) وهو عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك.(10/229)
الطوسي قال: حدّثنا جعفر بن محمد بن الفضل برأس العين قال: حدّثنا إبراهيم بن زكريا قال:
حدّثنا الحسين بن أبي جعفر، عن علي، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله سبحانه لملائكته: يا ملائكتي! من أبكى هذا اليتيم الذي غيّب أباه في التراب؟ فيقول الملائكة: ربنا أنت أعلم، فيقول الله: يا ملائكتي! فإني أشهدكم أنّ لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة» فكان عمر إذا رأى يتيما مسح رأسه، وأعطاه شيئا [169] «1» .
وأخبرني عبد الله بن حامد الأصفهاني، حدّثنا صالح بن محمد قال: حدّثنا سليمان بن عمرو، عن أبي حزم، عن أنس بن مالك قال: من ضمّ يتيما فكان في نفقته وكفاه مؤونته كان له حجابا من النار يوم القيامة، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة.
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ فلا تزجر لكن بدّل يسيرا وردّ جميلا، واذكر فقرك.
وأخبرنا عبد الله بن حامد فيما أجاز لي روايته عنه قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الحلواني قال: حدّثنا العباس بن عبد الله قال: حدّثنا سعيد أبو عمرو البصري قال: حدّثنا سهل ابن أسلم العنبري، عن الحسن في قوله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ قال: أما انه ليس بالسائل الذي يأتيك لكن طالب العلم.
وأخبرني عبد الله بن حامد الأصفهاني قال: حدّثني العباس بن محمد بن قوهيال «2» قال:
حدّثنا حاتم بن يونس قال: حدّثني عبيد بن نعيش قال: سمعت يحيى بن آدم يقول: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، قال: إذا جاءك الطالب للعلم فلا تنهره.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو حذيفة قال: حدّثنا أبو عروبة قال: حدّثنا يحيى بن حكيم والحسين بن سلمة بن أبي كبشة قالا: حدّثنا أبو قتيبة قال: حدّثنا الحسن بن علي الهاشمي، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعن أحدكم السائل أن يعطيه إذا سأل وأن رأى في يده قلبين من ذهب» [170] «3» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد الكسائي قال:
حدّثنا أحمد بن ثابت بن غياث قال: حدّثنا إبراهيم بن الشماس قال: حدّثنا أحمد بن أيوب الضبي، عن إبراهيم بن أدهم قال: نعم القوم السّؤّال، يحملون زادنا إلى الآخرة.
وقال إبراهيم: السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل توجهون إلى أهليكم بشيء.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 101.
(2) لعله: بن موهار، قوهيار.
(3) كنز العمال: 6/ 407 ح 16289. والقلب: السوار.(10/230)
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا الحسن بن علي بن زكريا القرشي قال: حدّثنا هدية بن خالد قال: حدّثنا صبان بن علي قال: حدّثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رددت السائل ثلاثا فلم يرجع فلا عليك أن تزبره» [171] «1» .
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ يعني النبوّة، عن مجاهد ابن أبي نجيح عنه قال: القرآن، وإليه ذهب الكلبي. وحكم الآية [عام] في جميع الإنعام.
أخبرني الغنجوي قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني ابو عمرو الأزدي قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا نوح بن قيس قال: حدّثني نصر بن علي قال:
كان عبد الله بن غالب إذا أصبح يقول: لقد رزقني الله البارحة خيرا، قرأت كذا وصلّيت كذا، وذكرت الله كذا وفعلت كذا، فيقال له: يا أبا فراس إن مثلك لا يقول مثل هذا فيقول: الله سبحانه يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ وتقولان أنتم: لا تحدّث بنعمة ربك.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا شبر بن موسى قال: حدّثنا عبد الله ابن يزيد المقري قال: حدّثنا أبو معمر، عن بكر بن عبد الله المزني أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من أعطي خيرا فلم ير عليه سمّي بغيض الله معاديا لنعمه» [172] «2» .
وأخبرنا الحسن قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: حدّثنا أبو القاسم بن منيع قال: حدّثنا منصور بن أبي مزاحم قال: حدّثنا وكيع، عن أبي عبد الرحمن يعني القاسم بن وليد، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «من لم يشكر القليل، ومن لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» [173] «3» .
__________
(1) كنز العمال: 6/ 400 ح 16253. والزبر: الزجر والمنع.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 102، والشكر لله لابن أبي الدنيا: 92.
(3) مسند أحمد: 4/ 278.(10/231)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
سورة الشرح
مكية، وهي مائة وثلاثة أحرف وسبع وعشرون كلمة، وثماني آيات
أخبرنا أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن علي الجرجاني قال: حدّثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إبراهيم قال: حدّثني أبو بكر أحمد بن إسحاق بن إبراهيم البصري قال:
حدّثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال: حدّثنا أبو عوانة، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ ابن حبيش، عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرّج عنّي» [174] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ألم نفتح ونوسّع ونليّن لك قلبك بالإيمان والنبوّة والعلم والحكمة.
وَوَضَعْنا وحططنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أثقل ظهرك فأوهنه، ومنه قيل للبعير إذا كان رجيع سفر قد أوهنه وأنضاه: نقض. وقال الفرّاء: كسر ظهرك حين سمع نقيضه:
أي صوته، قال الحسن وقتادة والضحّاك: يعني ما سلف منه في الجاهلية، وقال الحسين بن الفضل: يعني الخطأ والسهو، وقيل: ذنوب أمتك فأضافها إليه لاشتغال قلبه بها واهتمامه لها، وقال عبد العزيز بن يحيى وأبو عبيدة: يعني خفّفنا عليك أعباء النبوة والقيام بأمرها، وقيل:
وعصمناك عن احتمال الوزر.
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ
أخبرنا عبد الخالق بقراءتي عليه قال: حدّثنا ابن جنب قال: حدّثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل قال: حدّثنا صفوان يعني ابن صالح الثقفي أبو عبد الملك قال:
حدّثنا الوليد يعني ابن مسلم قال: حدّثني عبد الله بن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي(10/232)
سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبرائيل عن هذه الآية وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، قال: «قال الله سبحانه: إذا ذكرت، ذكرت معي» [175] «1» .
وحدّثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ قال: حدّثنا إسماعيل بن أحمد الجرجاني قال: أخبرنا عمران بن موسى قال: حدّثنا أبو معمر قال: حدّثنا عباد، عن عوف، عن الحسن في قوله وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، قال: إذا ذكرت ذكرت معي، وقال قتادة: يرفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلّا ينادي بها: أشهد ان لا إله إلّا الله، وأن محمدا رسول الله، وقال مجاهد: يعني بالتأذين، وفيه يقول حسان بن ثابت يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
أغرّ عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهور يلوح ويشهد
وضمّ الإله اسم النبي الى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد «2»
وقال ابن عطاء: يعني جعلت تمام الإيمان بي بذكرك، وقيل: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ عند الملائكة في السماء، وقيل: بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله، وقال ذو النون: همم الأنبياء تجول حول العرش وهمّة محمد صلى الله عليه وسلم فوق العرش، لذلك قال: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، فذكره ذكره، ومفزع الخلق يوم القيامة إلى محمد صلى الله عليه وسلم كمفزعهم إلى الله، لعلمهم بجاهه عنده.
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أي مع الشدّة التي أنت فيها من جهاد المشركين، ومزاولة ما أنت بسبيله يسرا ورخاء بأن يظهرك عليهم، حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به طوعا وكرها.
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً كرّره لتأكيد الوعد وتعظيم الرجاء، وقيل: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً: في الدنيا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً: في الآخرة.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله قال:
حدّثنا عثمان قال: حدّثنا ابن عليّة، عن يونس، عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عسر يسرين» [176] «3» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا علي بن مرداراد الخياط قال: حدّثنا قطن بن بشير قال: حدّثنا جعفر بن سليمان، عن رجل، عن إبراهيم النخعي قال:
قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنّه لن يغلب عسر يسرين، إنّه لن يغلب عسر يسرين.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 30/ 297.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 106.
(3) صحيح البخاري: 6/ 87، جامع البيان للطبري: 30/ 297.(10/233)
قال العلماء في معنى هذا الحديث: لأنه عرّف العسر ونكّر اليسر، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسما معرفة ثم أعادته فهو هو، وإذا نكرّته ثم كررته فهما اثنان، وقال الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني صاحب كتاب (النظم) وهو يكلم الناس في
قوله (عليه السلام) : «لن يغلب عسر يسرين»
[177] : فلم يحصل غير قولهم: إن العسر معرفة واليسر نكرة مكررة، فوجب أن يكون [عسر] واحد ويسران، وهذا قول مدخول [إذ] لا يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إنّ مع الفارس سيفا إنّ مع الفارس سيفا أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنين، ولا يصح هذا في نظم العربية.
فمجاز
قوله: «لن يغلب عسر يسرين»
إن الله بعث نبيّه (عليه السلام) مقلّا مخففا فعيّره المشركون لفقره، حتى قالوا أنجمع لك مالا؟ فاغتمّ، فظنّ أنهم كذّبوه لفقره، فعزّاه الله سبحانه وتعالى وعدد عليه نعماءه ووعده الغنى فقال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ إلى قوله ذِكْرَكَ، فهذا ذكر امتنانه عليه، ثم ابتدأ ما وعده من الغنى ليسلّبه مما خامر قلبه، فقال فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، والدليل عليه دخول الفاء في قوله (فَإِنَّ) ولا يدخل الفاء أبدا إلّا في عطف أو جواب.
ومجازه: لا يحزنك ما يقولون فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً في الدنيا عاجلا، ثم أنجزه ما وعده وفتح عليه القرى العربية، ووسّع ذات يده، حتى يهب المائتين من الإبل، ثم ابتدأ فضلا آخر من الآخرة فقال تأسية له: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، والدليل على ابتدائه تعرّيه من الفاء والواو وحروف النسق فهذا عام لجميع المؤمنين، ومجازه: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ في الدنيا للمؤمنين يُسْراً في الآخرة لا محالة،
فقوله: «لن يغلب عسر يسرين»
! أي لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين في الدنيا، واليسر الذي وعدهم في الآخرة، إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا، فأمّا يسر الآخرة فدائم غير زايل اي لا يجمعهما في الغلبة،
كقوله (عليه السلام) «شهرا عيد لا ينقصان»
اي لا يجتمعان في النقصان.
وقال أبو بكر الوراق: مع [أختها] بالدنيا جزاء الجنة، قال القاسم: [بردا هذه السعادة من أسحار] «1» الدنيا إلى رضوان العقبى، وقراءة العامة بتخفيف السينين، وقرأ أبو جعفر وعيسى، بضمهما، وفي حرف عبد الله: إنّ مع العسر يسرا، مرة واحدة غير مكررة.
أخبرني أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن محمد الرمجاري وأبو الحسن علي بن محمد ابن محمد البغدادي قالا: حدّثنا محمد بن يعقوب الأصم قال: حدّثنا أحمد بن شيبان الرملي قال: حدّثنا عبد الله بن ميمون القداح قال: حدّثنا شهاب بن خراش، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن عباس قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة، أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر، ثم أردفني
__________
(1) كذا في المخطوط. [.....](10/234)
خلفه، ثم سار بي مليّا، ثم التفت اليّ فقال لي: «يا غلام» ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال:
«احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف الى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك، لما قدروا عليه، ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتبه الله عليك ما قدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإنّ لم تستطع فاصبر، فإنّ في الصبر على ما يكره خيرا كثيرا، واعلم أنّ مع الصبر النصر، وأنّ مع الكرب الفرج وإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [178] «1» .
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن الحسن النيسابوري يقول: سمعت أبا علي محمد ابن عامر البغدادي يقول: سمعت عبد العزيز بن يحيى يقول: سمعت عمي يقول: سمعت العتبي يقول: كنت ذات يوم في البادية بحالة من الغم فألقي في روعي بيت شعر فقلت:
أرى الموت لن أصبح ولاح ... مغموما له أروح
فلمّا جنّ الليل سمعت هاتفا يهتف، من الهواء:
ألا يا أيّها المرء ... الذي الهمّ به برّح
وقد أنشد بيتا لم ... يزل في فكره يسنح
إذا اشتدّ بك العسر ... ففكّر في ألم نشرح
فعسر بين يسرين ... إذا فكّرتها فافرح
قال: فحفظت الأبيات، وفرّج الله غمّي «2» .
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو محمد أحمد بن محمد بن إسحاق الجيزنجي قال: أنشدنا إسحاق بن بهلول القاضي:
فلا تيأس وإن أعسرت يوما ... فقد أيسرت في دهر طويل
ولا تظننّ بربك ظنّ سوء ... فإنّ الله أولى بالجميل
فإنّ العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كلّ قيل «3»
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني محمد بن سليمان بن معاد الكرخي قال: أنشدنا أبو بكر الأنباري:
إذا بلغ العسر مجهوده ... فثق عند ذاك بيسر سريع
__________
(1) بتفاوت في مسند أحمد: 1/ 293، وتمامه في كتاب الدعاء للطبراني: 34.
(2) زاد المسير: 8/ 273.
(3) حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا: 123، وقد نسبت الأبيات فيه إلى محمود الوراق، وفيه تفاوت يسير.(10/235)
ألم تر بخس الشتاء القطيع ... يتلوه سعد الربيع البديع
ولزيد بن محمد العلوي:
إن يكن نالك الزمان ببلوى ... عظمت شدّة عليك وجلّت
وتلتها قوارع باكيات ... سئمت دونها الحياة وملّت
فاصطبر وانتظر بلوغ مداها ... فالرزايا إذا توالت تولّت
وإذا أوهنت قواك وحلّت ... كشفت عنك جملة فتخلّت
وقال آخر:
إذا الحادثات بلغن المدى ... وكادت تذوب لهنّ المهج
وحلّ البلاء وقلّ الرجاء ... فعند التناهي يكون الفرج «1»
وأنشدني أبو القاسم الحسن بن محمد السلوسي قال: أنشدني أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي النسابة قال: أنشدني سليمان بن أحمد الرقي:
توقع إذا ما عرتك الخطوب ... سرورا [يسيّرها] عنك قسرا
ترى الله يخلف ميعاده ... وقد قال: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ قال ابن عباس: إذا فرغت من صلاتك فَانْصَبْ إلى ربّك في الدعاء، واسأله حاجتك وارغب اليه. ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إذا قمت إلى الصلاة فَانْصَبْ في حاجتك إلى ربّك. الضحّاك: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فَانْصَبْ إلى ربّك في الدعاء، وأنت جالس قبل أن تسلم. قتادة: أمره أن يبالغ في دعائه إذا فرغ من صلاته. عن الحسن: إذا فرغت من جهاد عدوك، فَانْصَبْ في عبادة ربّك. عن زيد بن أسلم: إذا فرغت من جهاد العرب وانقطع جهادهم، فَانْصَبْ لعبادة الله وإليه فَارْغَبْ. عن منصور، عن مجاهد: إذا فرغت من أمر الدنيا فَانْصَبْ في عبادة ربّك وصلّ.
وأخبرنا محمد بن عبوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن الحميم قال: حدّثني الفراء قال: حدّثني قيس بن الربيع، عن أبي حصين قال: مرّ شريح برجلين يصطرعان فقال: ليس بهذا أمر الفارغ، إنما قال الله عزّ وجلّ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ. قال الفراء: فكأنّه في قول شريح: إذا فرغ الفارغ من الصلاة أو غيرها.
وقوله فَانْصَبْ من النصب، وهو التعب والدأب في العمل، وقيل: أمره بالقعود للتشهد إذا فرغ من الصلاة والانتصاب للدعاء. عن حيان، عن الكلبي: إذا فرغت من تبليغ الرسالة،
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 220.(10/236)
فَانْصَبْ: أي اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. عن جنيد: فإذا فرغت من أمر الخلق، فاجتهد في عبادة الحق. عن أبو العباس بن عطاء: فَإِذا فَرَغْتَ من تبليغ الوحي، فَانْصَبْ في طلب الشفاعة.
وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ في جميع أحوالك [لا] إلى سواه، وقيل: إذا فرغت من أشغال الدنيا، ففرّغ قلبك لهموم العقبى.
عن جعفر: اذكر ربّك على فراغ منك عن كل ما دونه
، وقيل:
إذا فرغت من العبادة، فَانْصَبْ إلى الإعراض عنها مخافة ردّها عليك، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ، والاستغفار لعملك كالخجل المستحيي.
أخبرنا الشيخ أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي المقري قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله ابن محمد المزني قال: حدّثنا الوليد بن بيان ويحيى بن محمد بن صاعد ومحمد بن أحمد السطوي قال: حدّثنا ابن أبي برة قال: حدّثنا عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله، فلمّا بلغت إلى وَالضُّحى قال: كبّر حتى نختم مع خاتمة كل سورة، فإني قرأت على شبل بن عباد وعلي بن عبد الله بن كثير، فأمراني بذلك.
قال: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس، فأمره بذلك وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب، فأمره بذلك، وأخبره أبيّ بن كعب أنه قرأ على النبي (صلى الله عليه وآله) ، فأمره بذلك.(10/237)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
سورة التين
مكية، وهي ثمانمائة وخمسون حرفا، وأربع وثلاثون كلمة، وثماني آيات
أخبرني أبو الحسين الخبازي غير مرّة قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن أبي ميثم الجرجاني وأبو الشيخ قال: حدّثنا أبو إسحاق بن ميثم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبيّ ابن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة وَالتِّينِ أعطاه الله سبحانه خصلتين: العافية واليقين ما دام في دار الدنيا، فإذا مات أعطاه الله سبحانه من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم» [179] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي: هو تينكم هذا الذي تأكلون، وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا السني قال: وجدت في كتاب أبي: حدّثنا القاسم بن أبي الحسين الزبيدي قال: حدّثنا سهل بن إبراهيم الواسطي، عن عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: حدّثني الثقة عن أبي ذر قال: أهدي للنبيّ صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: «كلوا، ثم قال: لو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت: هذه، لأنّ فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس» [180] «2» .
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 392.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 110.(10/238)
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا يوسف بن أحمد أبو يعقوب قال:
حدّثنا العباس بن أحمد بن علي قال: حدّثنا معلل بن نقيل الحداني قال: حدّثنا محمد بن محصن، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن عبد الله بن الديلمي، عن عبد الرحمن بن غنم قال:
سافرت مع معاذ بن جبل، [فكان يمرّ] بشجرة الزيتون فيأخذ منها القضيب فيستاك به ويقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول] نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة، يطيّب الفم، ويذهب بالجفر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هي مسواكي ومسواك الأنبياء قبلي» [181] .
وقال كعب الأحبار وقتادة وابن زيد وعبد الرحمن بن غنيم: التِّينِ: مسجد دمشق، وَالزَّيْتُونِ: بيت المقدس. عن الضحّاك: هما مسجدان بالشام. عن محمد بن كعب: التِّينِ:
مسجد أصحاب الكهف، وَالزَّيْتُونِ: مسجد إيليا، ومجازه على هذا التأويل: منابت التين والزيتون. أبو مكين، عن عكرمة: جبلان. عن عطية، عن ابن عباس: التِّينِ: مسجد نوح الذي [بناه] على الجودي، وَالزَّيْتُونِ: بيت المقدس. عن نهشل، عن الضحّاك: التِّينِ: المسجد الحرام.
وَالزَّيْتُونِ: المسجد الأقصى.
وسمعت محمد بن عبدوس يقول: سمعت محمد بن الحميم يقول: سمعت الفرّاء يقول:
سمعت رجلا من أهل الشام وكان صاحب تفسير قال: التِّينِ: جبال ما بين حلوان إلى همدان، وَالزَّيْتُونِ: جبال الشام.
وَطُورِ سِينِينَ يعني جبل موسى، قال عكرمة: السينين: الجسر بلغة الحبشة. الحكم والنضر عنه: كلّ جبل ينبت فهو طور سينين، كما ينبت في السهل كذلك ينبت في الجبل، وعن مجاهد: الطور الجبل، وسينين: المبارك. وعن قتادة: المبارك الحسن.
عن مقاتل: كل جبل فيه شجرة مثمرة فهو سينين وسينا وهو بلغة النبط. عن الكلبي: يعني الجبل المشجر. عن شهر بن حوشب: التِّينِ: الكوفة، وَالزَّيْتُونِ: الشام، وَطُورِ سِينِينَ: جبل فيه ألوان الأشجار.
قال عبد الله بن عمر: أربعة أجبال مقدّسة بين يدي الله سبحانه، طور تينا وطور زيتا وطور سينا وطور يتمانا، فأما طور تينا فدمشق، وأما طور زيتا فبيت المقدس، وأما طور سينا فهو الذي كان عليه موسى، وأما طور يتمانا فمكة.
أخبرنا أبو سفيان الحسين بن محمد بن عبد الله المقري قال: حدّثنا البغوي ببغداد قال:
حدّثنا ابن أبي شيبة قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدّثنا وكيع عن أبيه وسفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو قال: سمعت عمر بن الخطاب يقرأ بمكة في المغرب: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وطور سيناء، قال: فظننت أنه إنما يقرؤها ليعلم حرمة البلد.(10/239)
وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ الآمن، يعني مكة، وأنشد الفرّاء:
ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني ... حلفت يمينا لا أخون أميني
يريد آمني.
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أعدل قامة وأحسن صورة، وذلك أنه خلق كل شيء منكبّا على وجهه إلّا الإنسان. وقال أبو بكر بن ظاهر: مزينا بالعقل، مؤدّبا بالأمر، مهذّبا بالتمييز، مديد القامة، يتناول مأكوله بيده.
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ يعني إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، ينقص عمره ويضعف بدنه ويذهب عقله.
قال ابن عباس: [إنّ] نفرا ردوا إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عذرهم وأخبر أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم.
قال عكرمة: لم يضرّ هذا الشيخ الهرم كبره إذا ختم الله تعالى له بأحسن ما كان يعمل.
قال أهل المعاني: السافلون: الضعفى والهرمى والزمنى، فقوله (أَسْفَلَ سافِلِينَ) نكرة تعمّ الجنس، كما تقول: فلان أكرم قائم، فإذا عرّفت قلت: القائمين.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن مهران قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفراي قال: حدّثنا قتيبة بن سعيد قال: حدّثنا خالد الزيات قال: حدّثنا داود ابو سليمان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمّر بن حزم الأنصاري، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتبت لوالديه، فإن عمل سيئة لم تكتب عليه، ولا على والديه، فإذا بلغ الحنث وجرى عليه القلم، أمر الله الملكين اللذين معه يحفظانه ويسدّدانه، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه الله سبحانه من البلايا الثلاث: من الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين خفف الله حسابه، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه فيما يحب، فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفّعه في أهل بيته، وكان اسمه أسير الله في الأرض، فإذا بلغ أرذل الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً، كتب الله سبحانه له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير، وإن عمل سيئة لم تكتب عليه» [182] «1» .
وقال الحسن ومجاهد وقتادة: يعني ثُمَّ رَدَدْناهُ الى النار. وقال أبو العالية: يعني إلى النار في شر صورة، في صورة خنزير.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 217. كنز العمال: 15/ 766 ح 43011.(10/240)
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله قال:
حدّثنا أحمد بن حواس قال: حدّثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، عن علي قال:
أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض، فيبدأ بالأسفل فيملأ، فهي أسفل السافلين
، وفي مصحف عبد الله، (أسفل السافلين) بالألف. ثم استثنى فقال إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، فزالت عقولهم وانقطعت أعمالهم، فلا تثبت لهم حسنة إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ منهم، فأنه يكتب لهم في حال هرمهم وخرفهم مثل الذي كانوا يعملونه في حال شبابهم وصحتهم وقوّتهم، فذلك قوله سبحانه فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال الضحّاك: أجر بغير عمل، ثم قال: إلزاما للحجة وتوبيخا للكافر.
فَما يُكَذِّبُكَ أيها الإنسان بَعْدُ هذه الحجة والبرهان بِالدِّينِ بالحساب والجزاء.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ
قال قتادة: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: «بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين»
[183] .(10/241)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
سورة العلق
مكية، وهي مائتان وثمانون حرفا، واثنتان وسبعون كلمة، وتسع عشرة آية
أخبرنا الجباري قال: حدّثنا ابن حيّان قال: أخبرنا الفرقدي قال: حدّثنا إسماعيل بن عمرو قال: حدّثنا يوسف بن عطية قال: حدّثنا هارون بن كثير قال: حدّثنا زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فكأنّما قرأ المفصّل كله» [184] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أي الدم، واحدتها علقة، وإنما جمع ولفظ الإنسان واحد، لأنه في معنى الجمع، وهذه أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، وأول ما نزل منها خمس آيات من أولها إلى قوله ما لَمْ يَعْلَمْ، وعلى هذا أكثر العلماء.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون وعبد الله بن حامد قال: أخبرنا ابن الشرقي قال:
حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: أخبرني عروة عن عائشة أنها قالت: أوّل ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب [الله] إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد [في] الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده بمثلها، حتى فجأه الحق، وهو في غار حراء.
قال: فجاءه الملك وقال: اقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فقلت له: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 396.(10/242)
الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقاري، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، حتى بلغ، ما لَمْ يَعْلَمْ» .
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زمّلوني زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: «يا خديجة ما لي؟» [185] وأخبرها الخبر وقال: قد خشيت عليّ؟ قالت له:
كلّا ابشر، فو الله لا يحزنك الله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي بن قصي، وهو ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة بن نوفل: يا بن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو مخرجي هم؟» [186] ، فقال ورقة: نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلّا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا، ثم لم ينشب ورقة ان توفي وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلّما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منها تبدّى له جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا بمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبرائيل فقال له مثل ذلك [187] «1» .
قال الزهري: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجثيت منه رعبا، فرجعت فقلت: زمّلوني، زمّلوني، فدثّروني» [188] «2» وأنزل الله سبحانه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله سبحانه وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. قبل: أن تفرض للصلاة، وهي الأوثان، ثم كان ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن بعد اقرأ والمدثر، ن وَالْقَلَمِ إلى قوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، ثم وَالضُّحى.
__________
(1) صحيح البخاري: 8/ 68 ط. دار الفكر، والعجب من نسبة ذلك للرسول نبي الرحمة! فكيف يعقل أن يصل الاطمئنان إلى ورقة ولا يصل إلى من هو أفضل من ورقة بدرجات؟! كيف يعقل أن يفكر ويهمّ النبي الذي أرسل لتتميم الأخلاق ونبذ المحرمات، بالانتحار وقتل نفسه؟! والأعجب أنهم نسبوا ذلك له صلوات المصلين عليه عدة مرات، ثم يعود لما نهاه عنه جبرائيل! وكأنهم يريدون أن يصوّره كالطفل أو كالساذج!! أو ليس نبينا أفضل أهل زمانه؟ فما بال ورقة أحكم وأهدى وأوعى وأعقل منه؟! عصمنا الله من الزلل.
(2) صحيح البخاري: 1/ 4، وتفسير الطبري: 29/ 179.(10/243)
أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم، عن ابن جرير قال: حدّثنا ابن أبي الشوارب قال:
حدّثنا عبد الواحد قال: حدّثنا سليمان الشيباني قال: حدّثنا عبد الله بن شداد قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ثم أبطأ عليه جبرائيل، فقالت له خديجة: ما أرى إلّا قد قلاك، فأنزل الله سبحانه وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشير قال: حدّثنا سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: إن أول سورة نزلت اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا علي بن حرب قال:
حدّثنا أبو عامر العقدي، عن قرّة بن خالد، عن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى يقرئنا القرآن في هذا المسجد فنقعد له حلقا حلقا، كأني أنظر إليه الآن في ثوبين أبيضين، فعنه أخذت هذه السورة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «1» .
وقال: كانت أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب.
أخبرنا محمد بن حمدويه وعبد الله بن حامد قالا: حدّثنا محمد قال: حدّثنا أحمد بن عبد الجبار قال: حدّثنا يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا» .
فقالت: معاذ الله، ما كان الله عزّ وجلّ ليفعل بك ذاك، فو الله إنّك لتؤدّي الأمانة وتصل الرحم وتصدّق الحديث.
فلمّا دخل أبو بكر رضي الله عنه وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم [في الدار] ثم ذكرت خديجة له وقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل، فلمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده وقال:
انطلق بنا إلى ورقة، فقال: «من أخبرك؟» فقال: خديجة. فانطلقا إليه فقصّ عليه فقال: «إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض» .
فقال له: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني، فلمّا خلا ناداه يا محمد قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» حتّى بلغ وَلَا الضَّالِّينَ «3» قل: لا إله إلّا الله، فأتى ورقة فذكر ذلك له، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر فأنا
__________
(1) سورة العلق: 1.
(2) سورة الفاتحة: 1- 2.
(3) سورة الفاتحة: 7.(10/244)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
أشهد أنّك الذي بشّر به ابن مريم، وأنّك على مثل ناموس موسى، وأنّك نبي مرسل، وأنّك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدنّ معك، فلمّا توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيت القس في الجنة، عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدّقني» [189] «1» يعني ورقة، قالوا: وقال ورقة:
فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيّانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل «2»
يفوز به من فاز عزّ لدينه ... ويشقى به الغاوي الشقيّ المضلل
فريقان منهم فرقة في جنانه ... وأخرى بأغلال الجحيم تغلغل «3»
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ قال الكلبي: يعني الحليم عن جهل العبادة ولا يعجل عليهم بالعقوبة الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ يعني الخط والكتاب.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا ابن ماهان قال: حدّثنا محمد بن أيوب بن هشام المزني قال: حدّثنا أبو الحسن عاصم بن علي بن عاصم وعبد الله بن عاصم الجماني قالا: حدّثنا محمد بن راشد عن مسلم بن موسى قال: أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: قلت: يا نبي الله أكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال: «نعم، فاكتب فإنّ الله عَلَّمَ بِالْقَلَمِ» [190] «4» .
[سورة العلق (96) : الآيات 5 الى 19]
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9)
عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من البيان والعمل، قال قتادة: العلم نعمة من الله، لولا العلم لم يقم دين ولم يصلح عيش عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من أنواع الهدى والبيان. وقيل: عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، وقيل: الإنسان هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم، بيانه وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
«5» .
__________
(1) بتمامه في تفسير القرطبي: 1/ 116. [.....]
(2) البداية والنهاية: 3/ 16.
(3) تفسير مجمع البيان: 10/ 398.
(4) تفسير القرطبي: 20/ 120.
(5) سورة النساء: 113.(10/245)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى «1» ليتجاوز حدّه ويستكبر على ربّه أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى قال الكلبي: يرتفع من منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام وغيرهما،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«أعوذ بك من فقر ينسي ومن غنى يطغي» [191] «2» .
إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
المرجع في الآخرة أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى نزلت في أبي جهل- لعنه الله- نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حتى فرضت عليه.
أخبرنا عبد الله بن حامد فقال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله ابن يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال: حدّثنا معمر بن سليمان عن أبيه قال: حدّثنا نعيم بن أبي مهند عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟
قالوا: نعم، قال: فو الذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن رقبته.
قال فما [فجأهم] منه إلّا يتقي بيديه وينكص على عقبيه، قال: فقالوا له: ما ذاك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة، [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا]
[192] «3» فأنزل الله سبحانه أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ أبو جهل لعنه الله وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ لنأخذن بمقدم رأسه فلنذلّنّه، ثم قال على البدل: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ.
قال ابن عباس: لمّا نهى أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو جهل: أتهدّدني؟ فو الله لأملأن عليك إن شئت هذا خيلا جردا أو رجالا مردا، فأنزل الله سبحانه فَلْيَدْعُ نادِيَهُ «4» أي قومه سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأخذته الزبانية عيانا» [193] «5» .
كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ وصلّ واقترب من الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة العلق: 6.
(2) مسند أبي يعلى: 7/ 313 بتفاوت.
(3) تفسير الطبري: 30/ 324 وما بين معكوفين منه، وصحيح مسلم: 8/ 130 ط. دار الفكر.
(4) سورة العلق: 17.
(5) البداية والنهاية: 3/ 58، تفسير الجلالين: 815.(10/246)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
سورة القدر
مدنيّة في قول أكثر المفسرين، قال علي بن الحسين بن واقد: هي أوّل سورة نزلت بالمدينة، وروى شيبان عن قتادة أنها مكيّة، وهي رواية نوفل ابن أبي عقرب عن ابن عباس وهي مائة واثنا عشر حرفا وثلاثون كلمة وخمس آيات
أخبرنا الجنازي قال: حدّثنا ابن خنيس قال: حدّثني أبو العباس محمد بن موسى الدقّاق الرازي قال: حدّثنا عبد الله بن روح المدائني [عن بكر] بن سواد قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القدر أعطي من الأجر كمن صام رمضان، وأعطي إحياء ليلة القدر» [194] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يعني القرآن كناية عن غير مذكور، جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، فوضعناه في بيت العزّة وأملاه جبرئيل على السّفرة ثم كان ينزله جبرئيل على محمد (عليهما السلام) بنحو ما كان، من أوّله إلى آخره بثلاث وعشرين سنة، ثم عجّب نبيّه (عليه السلام) فقال: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
والكلام في ليلة القدر على خمسة أبواب:
الباب الأوّل: في مأخذ هذا الاسم ومعناه
، واختلف العلماء، فقال أكثرهم: هي ليلة الحكم والفصل يقضي الله فيها قضاء السنة، وهو مصدر من قولهم: قدر الله الشيء قدرا وقدرا لغتان كالنّهر والنّهر والشّعر والشّعر، وقدّره تقديرا له بمعنى واحد، قالوا: وهي الليلة التي قال الله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «2» وإنّما سمّيت ليلة القدر مباركة لأن الله سبحانه ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 403.
(2) سورة الدخان: 3- 4.(10/247)
وروى أبو الضحى عن ابن عباس أن الله عزّ وجلّ يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
روي أنه تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلّا الكاهن أو الساحر أو مدمن خمر أو عاق لوالديه أو مصرّ على الزنا أو [مشاحن] أو قاطع رحم [195] «1» .
وقيل للحسين بن الفضل: أليس قد قدّر الله سبحانه المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: نعم، قال: فما معنى لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قال: سوق المقادير إلى المواقيت وتنفيذ القضاء المقدّر.
أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن ابن جبير قال: حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا مهران عن سفيان عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير قال: يؤذن للحجاج فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا يغادر منهم أحد ولا يزاد ولا ينقص منهم.
وقال الزهري: هي ليلة العظمة والشرف، من قول الناس لفلان عند الأمير قدر أي جاه ومنزلة، يقال: قدرت فلانا أي عظّمته قال الله سبحانه: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2» أي ما عظّموا الله حق عظمته وقال أبو بكر الورّاق: سمّيت بذلك لأنّ من لم يكن ذا قدر وخطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أدركها وأحياها.
وقيل: إنّ كلّ عمل صالح يؤخذ فيها من المؤمن فيكون ذا قدر وقيمة عند الله لكونه مقبولا فيها.
وقيل: لأنّه أنزل كتاب ذو قدر على رسول ذي قدر لأجل أمّة ذات قدر، وقال سهل بن عبد الله: لأنّ الله سبحانه يقدّر الرحمة فيها على عباده المؤمنين.
وقيل: لأنه ينزّل فيها إلى الأرض ملائكة أولو قدر وذوو خطر.
وقال الخليل بن أحمد: سمّيت بذلك لأنّ الأرض تضيق فيها بالملائكة من قوله:
وَيَقْدِرُ ومَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «3» .
الباب الثاني: اختلاف العلماء في وقتها، وأي ليلة هي، وذكر اختلاف الصحابة فيها.
فقال بعضهم: إنّما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفعت.
أخبرني عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الحسن قال: حدّثنا
__________
(1) تاريخ دمشق: 51/ 72 ط. دار الفكر، وراجع تذكرة الموضوعات للفتني: 45.
(2) سورة الأنعام: 91.
(3) سورة الطلاق: 7. [.....](10/248)
أحمد بن يوسف قال: حدّثنا عبد الله قال: أخبرنا سفيان عن الأوزاعي عن مرشد أو عن أبي مرشد قال: كنت جالسا مع أبي ذرّ عند خمرة الوسطى فسئل عن لَيْلَةِ الْقَدْرِ فقال: كنت أسأل الناس عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: يا رسول الله لَيْلَةُ الْقَدْرِ هل هي تكون على عهد الأنبياء (عليهم السلام) ، فإذا مضوا رفعت؟ قال: «لا، بل هي إلى يوم القيامة» [196] «1» .
وأخبرنا عبد الله بن حاطب قال: أخبرنا محمد بن عامر السمرقندي قال: أخبرنا عمر بن الحسين قال: حدّثنا عبد بن حميد عن روح بن عبادة قال: حدّثنا ابن جريج قال: أخبرني داود ابن أبي عاصم عن عبد الله بن عيسى مولى معاوية قال: قلت لأبي هريرة زعموا أنّ ليلة القدر قد رفعت قال: كذب من قال ذلك، قال: قلت هي في كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم.
وقال بعضهم: هي في ليالي السنة كلّها، وإنّ من علّق طلاق امرأته أو عتق عبده ليلة القدر لم يقع الطلاق ولم ينفذ العتاق إلى مضي سنة من يوم حلف، وهي إحدى الروايات عن ابن مسعود قال: من يقم الحول كلّه يصبها.
قال: فبلغ ذلك عبد الله بن عمر، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن أما إنه علم أنها في شهر رمضان؟ ولكن أراد أن لا يتّكل الناس، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة أنها في جميع السنة، وحكي عنه أيضا أنّه قال: رفعت ليلة القدر، وروي عن ابن مسعود أيضا أنه قال: إذا كانت السنة في ليلة كانت العام المقبل في ليلة أخرى، والجمهور من أهل العلم على أنها في شهر رمضان في كل عام.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن عامر قال: أخبرنا عمر بن يحيى قال:
حدّثنا عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن أبي عمير أنه سئل عن لَيْلَةِ الْقَدْرِ: أفي كل رمضان هي؟ قال: نعم.
وأخبرنا عقيل أن المعافى أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدّثني يعقوب قال: حدّثنا ابن عليّة قال: حدّثنا ابن ربيعة بن كلثوم قال: قال رجل للحسين «2» وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي؟ قال: «نعم والله الذي لا إله إلّا هو إنها لفي كلّ رمضان، وإنّها ليلة يفرق فيها كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، فيها يقضى كلّ أجل وعمل، ورزق وخلق إلى مثلها» [197] «3» .
واختلفوا في أول ليلة هي منها، فقال أنور بن العقيلي: هي أول ليلة من شهر رمضان، وقال الحسن: هي ليلة سبع عشرة، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر.
__________
(1) صحيح ابن خزيمة: 3/ 321.
(2) في المصدر: للحسن.
(3) تفسير الطبري: 30/ 329 والدر المنثور: 6/ 25.(10/249)
والصحيح أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه، يدلّ عليه ما
أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد الشيباني قال: أخبرنا عبد الله بن مسلم، قال:
حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، وقال: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن ابن مسلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر» [198] «1» .
وأخبرنا أبو بكر العباسي قال: أخبرنا أبو الحسن المحفوظي قال: حدّثنا عبد الله بن قاسم قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان وشعبة وإسرائيل عن ابن إسحاق عن هبيرة عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشرة الأواخر من رمضان.
وأخبرنا أبو محمد المخلّدي وعبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا عمار بن رجاء قال: حدّثنا أحمد بن أبي طيبة عن عنبسة بن الأزهر عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد قال: سمعت عليّا رضي الله عنه يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان دأب وأدأب أهله» [199] «2»
فدلّت هذه الأخبار على أن ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان.
ثم اختلفوا في أي ليلة فيها فقال أبو سعيد الخدري: هي الليلة الحادية والعشرون، واحتجّ في ذلك بما
أخبرنا أبو نعيم الأزهري قال: حدّثنا أبو عوانة سنة ست عشرة وثلاثمائة، قال:
أخبرنا المزني قال: قال الشافعي: وأخبرنا أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن أحمد المطوعي، وأبو علي السيوري، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله المصيبي قالوا: حدّثنا أبو العباس الأصمّ قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسط من شهر رمضان، فلمّا كانت [ليلة] أحدى وعشرين وهي التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال صلى الله عليه وسلم: «من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، فإني رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها- وقال- وأريتني أسجد في ماء وطين فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر» [200] «3» فأمطرت السماء في تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد.
قال أبو سعيد [فأبصرت عيناي] رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين.
__________
(1) كنز العمال: 8/ 533 ح 24021.
(2) تفسير مجمع البيان: 10/ 406.
(3) سنن أبي داود: 1/ 311.(10/250)
وقال بعضهم هي الليلة الثالثة والعشرون منها «1» .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الهمداني قال: أخبرنا الحسين بن عبد الأعلى قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت في النوم كأن ليلة القدر سابعة تبقى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين، من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين» [201] «2» .
قال معمر: كان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمسّ طيبا.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا أحمد بن حفص قال: حدّثني أبي قال: حدّثني إبراهيم عن عبّاد وهو ابن إسحاق عن الزهري عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس عن أبيه قال: كنت في مجلس من بني سلمة وأنا أصغرهم فقالوا: من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ وذلك صبيحة إحدى وعشرين من رمضان، قال: فخرجت فوافيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب ثم نمت بباب بيته فمرّ بي فقال: «ادخل» فدخلت فأتي بعشائه فرأيتني أكفّ عنه من قلته، فلمّا فرغ قال: «ناولني نعلي» فقام وقمت معه فقال: كان لك حاجة؟ فقلت: أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر فقال: «كم الليلة؟» فقلت: اثنان وعشرون، فقال: «هي الليلة» ثم رجع فقال: «أو الثالثة» «3» يريد ليلة ثلاث وعشرين [202] «4» .
قال أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طفران قال: حدّثنا الحسن بن إسماعيل المحاملي قال: حدّثنا يعقوب الدورقي قال: حدّثنا عبد الله بن إدريس قال: سمعت عاصم بن كليب يروي عن أبيه عن خاله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها ورأيت مسيح الضلالة [فخرجت إليكم لأبيّنها] فرأيت رجلين يتلاحيان فحجزت بينهما فأنسيتهما وسأشدو لكم منها شدوا، فأمّا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فاطلبوها في العشر الأواخر وترا، وأمّا مسيح الضلالة فرجل أجلى الجبهة، ممسوح العين اليسرى، عريض النحر، فيه دمامة «5» كأنّه فلان بن عبد العزى أو عبد العزى بن فلان» [203] «6» .
قال: فذكرت هذا الحديث لابن عباس قال: وما عجبك؟ سأل عمر بن الخطاب أصحاب
__________
(1) صحيح البخاري: 2/ 256 باب الاعتكاف.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 136 بتفاوت يسير.
(3) في المصدر: أو القابلة.
(4) سنن أبي داود: 1/ 311.
(5) في بعض المصادر: دماء، وفي بعضها: دفا، وفسّر بالانحناء.
(6) الدر المنثور: 5/ 354، والمعجم الكبير: 18/ 335، وكنز العمال: 8/ 541.(10/251)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسألني معهم مع الأكابر منهم ويقول لي: لا تتكلم حتى يتكلّموا، فقال:
علمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ اطلبوها في العشر الأواخر وترا» [204] «1» ففي أي الوتر ترون؟
قال: فأكثر القوم في الوتر، فقال: ما لك لا تكلّم ابن عباس؟ قال: قلت: إن شئت تكلّمت، قال: عن رأيك أسألك؟ قال: قلت: رأيت الله سبحانه أكثر ذكر السبع، وذكر السماوات سبعا، والأرضين والطواف سبعة، والجمار سبعة، وما شاء الله من ذلك، خلق الإنسان من سبعة، وجعل رزقه من سبعة.
قال: قلت: خلق الإنسان، فقال: فكلّما ذكرت عرقت، فما قولك خلق الإنسان من سبعة وجعل رزقه من سبعة؟ قال: قلت: خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ «2» إلى قوله: خَلْقاً آخَرَ «3» .
ثم قرأت أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا «4» إلى قوله سبحانه: وَأَبًّا «5» والأبّ ما أنبتت الأرض ممّا لا تأكله الناس، فما أراها إلّا ليلة ثلاث وعشرين لسبع بقين، فقال عمر: غلبتموني أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه.
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن صالح بن محمد قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: أخبرني برأيك في لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قال: فقلت: إن الله سبحانه وتر يحب الوتر، السماوات سبع، والأرضون سبع، وترزق من سبع، وتخرج من سبع، ولا أراها إلّا في سبع بقين من رمضان، فقال عمر: وافق رأيي رأيك، ثم ضرب منكبي وقال: ما أنت بأقل القوم علما.
وقال زيد بن ثابت وبلال: هي ليلة أربع وعشرين، ودليلهما ما أخبرناه عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد قال: حدّثنا علي بن حرب قال: حدّثنا محمد بن معاوية قال: حدّثنا بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن يزيد بن عبد الله عن الضابحي عن بلال قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ ليلة أربع وعشرين» [205] «6» .
وقيل: هي الليلة الخامسة والعشرون، يدلّ عليها ما
أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ في
__________
(1) المصنّف: 2/ 487.
(2) سورة المؤمنون: 12- 13. [.....]
(3) سورة المؤمنون: 14.
(4) سورة عبس: 25.
(5) سورة عبس: 31.
(6) كنز العمال: 8/ 537 ح 24048.(10/252)
آخرين قالوا: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا بحر بن نصر قال: فرأى علي ابن وهب أخبرك خبر أحد منهم مالك بن أنس عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» [206] «1» .
وقال قوم: هي الليلة السابعة والعشرون، وإليه ذهب علي وأبي وعائشة ومعاوية
، يدل عليه ما
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس قال: أخبرنا أبو أحمد حمزة بن العباس ببغداد قال: حدّثنا أحمد بن الوليد الفحام قال: حدّثنا مسوّد بن عامر شاذان قال: أخبرنا شعبة قال:
عبد الله بن دينار أخبرني قال: سمعت ابن عمر يحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم في لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال: «من كان متحرّيا فليتحرّها في ليلة سبع وعشرين» [207] «2» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قراءة عليه قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا الحسن بن علي بن عفّان قال: حدّثنا عمرو العنقري قال: حدّثنا سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال:
أتينا بن مسعود فسألناه عن لَيْلَةِ الْقَدْرِ فقال: من يقم الحول يصبها، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن قد علم أنها في شهر رمضان وأنها في ليلة تسع وعشرين قال: فقال لنا أبا المنذر: إني قد علمت ذلك فقال: بالآية التي أنبأنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفظنا وعددنا، قال: فو الله فإنها لفي ما تستثني، قال: فقلنا: أبا المنذر ما الآية؟ قال: تطلع الشمس عندئذ كأنها طست ليس لها شعاع.
وروي عن أبيّ بن كعب أيضا أنّه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بأذنيّ وإلّا فصمتا أنّه قال: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ ليلة سبع وعشرين» [208] «3» .
وقال بعض الصحابة: قام بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الثالث والعشرين ثلث الليل، فلمّا كانت ليلة الخامس والعشرين قام بنا نصف الليل، فلمّا كانت الليلة السابعة والعشرون قام بنا الليل كلّه.
وقال أبو بكر الورّاق: إنّ الله سبحانه وتعالى قسّم كلمات هذه السورة على ليالي شهر رمضان، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال: هِيَ.
وقال بعضهم: هي ليلة التاسع والعشرين،
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ ليلة السابع والعشرين أو التاسع والعشرين وإن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى» [209] «4» .
__________
(1) كنز العمال: 8/ 536 ح 24038.
(2) السنن الكبرى: 4/ 311.
(3) مسند أحمد: 5/ 130.
(4) تفسير القرطبي: 20/ 137.(10/253)
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا محمد بن سعيد القطان قال:
حدّثنا عيينة بن عبد الرحمن قال: حدّثني أبي قال: ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة فقال: ما أنا بطالبها بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا في العشر الأواخر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«التمسوها في العشر الأواخر في تسع بقين، أو سبع بقين، أو خمس بقين أو ثلاث بقين أو آخر ليلة» [210] «1» وكان أبو بكرة إذا دخل شهر رمضان ظلّ يصلي في سائر السنة، فإذا دخل العشر اجتهد.
وفي الجملة، أخفى الله علم هذه الليلة على الأمّة ليجتهدوا في العبادة ليالي رمضان طمعا في إدراكها كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات، واسمه الأعظم في الأسماء، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، وغضبه في المعاصي، ورضاه في الطاعات، وقيام الساعة في الأوقات، رحمة منه وحكمة، والله أعلم.
الباب الثالث: في علامتها واماراتها
أخبرنا أبو عمر الفراتي قال: أخبرنا أبو نصر السرخسي قال: حدّثنا محمد بن الفضل قال: حدّثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدّثنا النضر عن أشعث عن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «من أماراتها أنها ليلة بلجة سمحة، لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس صبيحتها ليس لها شعاع» [211] «2» .
وقال حميد بن عمر: كنت ليلة السابع والعشرين في البحر فأخذت من مائه فوجدته سلسا.
الباب الرابع: في فضائلها وخصائصها.
حدّثنا أبو بكر محمد بن أحمد الجهني بها قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن ببغداد قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن عيسى قال: حدّثنا محمد بن كثير عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي (عليه السلام) قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» [212] «3» .
وفي الحديث: «إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضيء فجرها، ولا يستطيع أن يصيب فيها أحد بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد، ولا ينفذ فيها سحر ساحر» [213] «4» .
__________
(1) مسند أحمد: 5/ 39.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 137 وقريب منه في كنز العمال: 8/ 538 ح 24052.
(3) سنن أبي داود: 1/ 309.
(4) تفسير القرطبي: 20/ 137.(10/254)
وروي عن ابن عباس أن النبي (عليه السلام) قال: «إذا كانت لَيْلَةُ الْقَدْرِ ينزل الملائكة الذين هم سكّان سدرة المنتهى، ومنهم جبريل، فينزل جبريل ومعه ألوية ينصب لواء منها على قبري، ولواء منها على بيت المقدس، ولواء في المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا يدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلّا سلّم عليه إلّا مدمن الخمر وآكل الخنزير والمتضمخ بالزعفران» [214] «1» .
الباب الخامس: في آدابها وفيما يستحب فيها.
حدّثنا أبو بكر بن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا الحسين بن مكرم قال: حدّثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا كهمس عن عبد الله بن بريدة أنّ عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم:
إن وافت لَيْلَةُ الْقَدْرِ فما أقول؟ قال: «قولي: اللهمّ إنّك عفوّ تحب العفو فاعف عنّي» [215] «2» .
وروى شريح بن هانئ عن عائشة قالت: لو عرفت أيّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ما سألت الله فيها إلّا العافية.
وأخبرنا أبو عمر الفراتي قال: أخبرنا محمد بن إسحاق بن سهل قال: حدّثنا سعيد بن عيسى قال: حدّثنا فارس بن عمر قال: حدّثنا صالح قال: حدّثنا العمري عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلّى المغرب والعشاء الآخرة من لَيْلَةِ الْقَدْرِ [في جماعة] فقد أخذ حظه من لَيْلَةِ الْقَدْرِ» [216] «3» .
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ «4»
أخبرنا أبو عمر الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال:
أخبرنا موسى بن عبد الله: قال: حدّثنا أبو مصعب عن ملك أنه سمع من يثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس تقاصر أعمار أمّته ألّا يبلغوا من الأعمال مثل الذي يبلغ غيره في طول العمر، فأعطاه الله سبحانه: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
واختلفوا في الحكمة الموجبة لهذا العدد،
فأخبرني الحسين قال: حدّثنا الكندي قال:
حدّثنا عبد الرحمن بن حاتم قال: قرئ على [يونس] بن عبد الأعلى: أخبرنا ابن وهبة قال:
حدّثنا مسلمة عن علي بن لهيعة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما، لم يعصوه طرفة عين فذكر: أيّوب، وزكريّا، وحزقيل ابن العجوز، ويوشع بن نون قال: فعجب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وأتاه جبريل فقال: «يا محمد عجبت أمّتك من عبادة
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 137، والتضمخ: التلطخ بالطيب والإكثار منه.
(2) مسند أحمد: 6/ 171. [.....]
(3) تفسير القرطبي: 20/ 138.
(4) سورة القدر: 3.(10/255)
هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين» ، فقال: «أنزل الله تعالى عليك خيرا من ذلك» ، ثم قرأ عليه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ لأن هذا أفضل مما عجبت أنت وأمّتك» قال:
فسرّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والناس معه [217] «1» .
وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا محمد بن إسحاق قال: حدّثنا سعيد بن عيسى قال:
حدّثنا فارس بن عمرو قال: حدّثنا صالح قال: حدّثنا مسلم بن خالد بن أبي نجح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر قال: فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ الذي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله.
ويقال: إنّ ذلك الرجل كان شمشون (عليه السلام) ، وكانت قصته على ما ذكر وهب بن منبه أنّه كان رجلا مسلما وكانت أمّه قد جعلته نذيرا، وكان من أهل قرية من قرى الروم كانوا يعبدون الأصنام، وكان منزله منها على أميال غير كثيرة، فكان يغزوهم وحده، ويجاهدهم في الله فيصيب منهم وفيهم حاجته، ويقتل ويسبي ويصيب الأموال، وكان إذا لقيهم لقيهم بلحي بعير لا يلقاهم بغيره، فإذا قاتلوه وقاتلهم وتعب وعطش انفجر له من الحجر الذي في اللحي ماء عذب فيشرب منه حتى يروى.
وكان قد أعطي قوّة في البطش، وكان لا يوثقه حديد ولا غيره، فكان كذلك، فجاهدهم في الله، يصيب منهم حاجته لا يقدرون منه على شيء حتى قالوا: لن تأتوه إلّا من قبل امرأته، فدخلوا على امرأته فجعلوا لها جعلا فقالت: نعم، أنا أوثقه لكم فأعطوها حبلا وثيقا، وقالوا لها: إذا نام فأوثقي يده إلى عنقه حتى نأتيه فنأخذه، فلمّا نام أوثقت يده إلى عنقه بذلك الحبل، فلما هبّ جذبه بيده فوقع من عنقه.
فقال لها: لم فعلت ذلك؟ فقالت: أجرّب بها قوتك، ما رأيت مثلك، فأرسلت إليهم:
إني قد ربطته بالحبل فلم أغن شيئا، فأرسلوا إليها بجامعة من حديد، وقالوا: إذا نام فاجعليها في عنقه، فلمّا نام جعلتها في عنقه، فلمّا هبّ جذبها فوقعت من يده وعنقه، فقال لها: لم فعلت هذا؟ قالت: أجرّب بها قوتك، ما رأيت مثلك في الدنيا يا شمشون، أما في الأرض شيء يغلبك؟ قال: إلّا شيء واحد، قالت: وما هو؟ قال لها: ها أنا لمخبرك به، فلم تزل تسأله عن ذلك وكان ذا شعر كثير، فقال لها: ويحك إنّ أمّي كانت جعلتني نذيرا فلا يغلبني شيء أبدا، ولا يضبطني إلّا شعري، فلمّا نام أوثقت يده إلى عنقه بشعر رأسه، فأوثقه ذلك وبعثت إلى القوم.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 567.(10/256)
فجاؤا فأخذوه فجدعوا أنفه وانفذوا أذنيه وفقأوا عينيه، ووقفوا بين ظهراني المدينة، وكانت مدينة ذات أساطين، وكان ملكهم قد أشرف عليها بالناس لينظروا إلى شمشون وما يصنع به، فدعا شمشون ربّه حين مثلوا ووقفوه أن يسلّطه عليهم، فأمر أن يأخذ بعمودين من عمد المدينة التي عليها الملك والناس الذين معه فاجتذبهما جميعا فجذبهما، فردّ الله تعالى إليه بصره وما أصابوا من جسده، ووقعت المئذنة بالملك ومن عليها من الناس، فهلكوا فيها هدما «1» .
وقيل: هو أن الرجل فيما مضى كان لا يستحق أن يقال له: عابد، حتى يعبد الله ألف شهر وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فجعل الله سبحانه لأمّة محمد (عليه السلام) ليلة خيرا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ كانوا يعبدون فيها.
وقال أبو بكر الورّاق: كان ملك سليمان خمسمائة شهر وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فيحتمل أن يكون معنى الآية: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ لمن أدركها مما ملكه سليمان وذو القرنين (عليهما السلام) .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن الأشقر قال:
حدّثنا زيد بن أخرم قال: حدّثنا أبو داود قال: حدّثنا علقمة بن الفضل عن يوسف بن مازن الراسبي قال: قام رجل إلى الحسن بن علي فقال: سوّدت وجوه المؤمنين، عمدت إلى هذا الرجل فبايعته يعني معاوية فقال: «لا تؤنّبني [رحمك الله فإن] رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أري بني أميّة يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك فنزلت إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ونزلت إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تملكه بنو أميّة.
قال القاسم: اللهمّ فحسبنا ملك بني أميّة فإذا هو ألف شهر لا يزيد ولا ينقص» [218] «2» .
وقال المفسّرون: عمل صالح في ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ عمل أَلْفِ شَهْرٍ ليس فيها ليلة القدر، وروى الربيع عن أبي العالية قال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ عمر أَلْفِ شَهْرٍ، وقال مجاهد: سلام الملائكة والروح عليك تلك الليلة خير من سلام الخلق عليك ألف شهر فذلك [قوله] سبحانه تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ.
قرأ طلحة بن مصرف تنزل خفيفة، من النزول، وَالرُّوحُ يعني جبرئيل في قول أكثر المفسّرين يدلّ عليه ما
روى قتادة عن أنس أن رسول الله (عليه السلام) قال: «إذا كان لَيْلَةُ الْقَدْرِ نزل جبرئيل في كبكبة من الملائكة يصلّون ويسلّمون على كلّ عبد قائم أو قاعد يذكر الله سبحانه» [219] «3» .
__________
(1) بطوله في تاريخ الطبري: 1/ 465.
(2) مستدرك الصحيحين: 3/ 170، وتحفة الأحوذي: 9/ 197.
(3) زاد المسير: 8/ 287.(10/257)
وقال كعب ومقاتل بن حيان: الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّا تلك الليلة، ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
وقال الواقدي: هو ملك عظيم [من أعظم الملائكة خلقا] «1» يخلق من الملائكة.
فِيها أي في ليلة القدر بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ قدّره الله سبحانه وقضاه في تلك السنة إلى قابل، لقوله سبحانه في الرعد: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ «2» أي بأمر الله.
وقد أخبرنا محمد بن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن الجهم قال: حدّثنا يحيى بن زياد الفرّاء قال: حدّثني أبو بكر بن عباس عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنّه كان يقرأ من كل امرئ سلام، ورويت هذه القراءة أيضا عن علي بن أبي طالب وعكرمة
، ولها وجهان:
أحدهما: إنّه وجّه معناه إلى الملك أي من كلّ ملك سلام.
والثاني: أن يكون من بمعنى على تقديره: على كل امرئ من المسلمين سلام من الملائكة كقوله سبحانه: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ «3» أي على القوم، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة لإجماع الحجّة من القراءة عليها ولموافقتها خطّ المصاحف لأنه ليس فيها ياء.
وقوله: سَلامٌ هِيَ تمام الكلام عند قوله: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ثم ابتدأ فقال سبحانه:
سَلامٌ هِيَ أي ليلة القدر سلام وخير كلّها ليس فيها شر.
قال الضّحاك: لا يقدر الله سبحانه في تلك الليلة إلّا السلامة، فأمّا في الليالي الأخر فيقضي الله تعالى فيهنّ البلاء والسلامة، قال مجاهد: هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أن يحدث فيها أذى.
وقال الشعبي ومنصور بن زاذان: هو تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، يمرون على كلّ مؤمن ويقولون: السلام عليك يا مؤمن.
حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ حتى حرف غاية، مجازها إلى مطلع الفجر. قرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي وخلف بكسر اللام، غيرهم بفتحه وهو الاختيار لأن المطلع بفتح اللام بمعنى الطلوع يقال: طلعت الشمس طلوعا ومطلعا، فأمّا المطلع بكسر اللام فإنّه موضع الطلوع، ولا معنى للاسم في هذا الموضع، إنّما هو لمعنى المصدر، والله أعلم.
__________
(1) عن تفسير ابن كثير: 4/ 496.
(2) سورة الرعد: 11.
(3) سورة الأنبياء: 77.(10/258)
سورة البيّنة (المنفكّين)
مدنيّة، وهي ثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفا وأربع وتسعون كلمة وثماني آيات
أخبرنا السلمي والخبازي قالا: أخبرنا محمد بن محمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن موسى بن النعمان قال: حدّثنا فهد بن سليمان قال: حدّثنا إسحاق بن بشير قال: حدّثنا مالك بن أنس عن محمد بن سعيد عن سعيد بن المسيّب عن أبي الهاد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لعطّلوا الأهل والمال وتعلّموها» فقال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول الله؟ قال رسول الله (عليه السلام) : «لا يقرأها منافق أبدا ولا رجل في قلبه شكّ في الله عزّ وجلّ، والله إن الملائكة المقرّبين ليقرأونها منذ خلق الله السماوات والأرض لا يفترون من قراءتها، وما من عبد يقرأها بليل إلّا بعث الله سبحانه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه، ويدعون الله له بالمغفرة والرحمة، فإن قرأها نهارا أعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار وأظلم عليه الليل» .
فقال رجل من قيس عيلان: زدنا من هذا الحديث فداك أبي وأمّي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلّموا عَمَّ يَتَساءَلُونَ «1» وتعلّموا ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «2» وتعلّموا وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ «3» وتعلّموا وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ «4» وإنّكم لو تعلمون ما فيهن لعطّلتم ما أنتم فيه وتعلّمتموهنّ وتقرّبتم إلى الله سبحانه بهنّ فإن الله يغفر بهنّ كل ذنب إلّا الشرك بالله.
واعلموا أنّ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ «5» [تجادل عن صاحبها] وتستغفر له من الذنوب» [220] «6» .
وأخبرني الخبازي قال: حدّثنا ظفران قال: حدّثنا بن أبي داود قال: حدّثنا محمد بن
__________
(1) سورة النبأ: 1.
(2) سورة ق: 1.
(3) سورة البروج: 1.
(4) سورة الطارق: 1.
(5) سورة الملك: 1. [.....]
(6) تفسير مجمع البيان: 10/ 411.(10/259)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
عاصم قال: حدّثنا شبابة بن سوار قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن زر عن أبيّ قال: قال رسول الله (عليه السلام) : «من قرأ سورة لَمْ يَكُنِ كان يوم القيامة مع خير البرية مسافرا أو مقيما» [221] «1» .
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن علي قال: حدّثنا أبو يعلى الموصلي قال: حدّثنا محمد بن المثنى قال: حدّثنا عبد ربّه قال: حدّثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدّث عن أنس قال: قال رسول الله (عليه السلام) لأبيّ بن كعب: «إن الله عزّ وجلّ أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» قال: وسمّاني؟ قال: «نعم» فبكى [222] «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم اليهود والنصارى، والمشركون وهم عبدة الأوثان، مُنْفَكِّينَ منتهين عن كفرهم وشركهم، وقال أهل اللغة: زائلين، يقول: العرب: ما انفكّ فلان يفعل كذا، أي ما زال، وأصل الفكّ الفتح، ومنه فكّ الكتاب، وفكّ الخلخال، وفكّ البيالم وهي خورنق العطر، قال طرفة:
وآليت لا ينفك كشحي بطانة ... لعضب رقيق الشفرتين منهد «3»
حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الحجّة الواضحة وهي محمد (عليه السلام) أتاهم بالقرآن فبيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم، وهداهم إلى الإيمان، وقال ابن كيسان معناه لم يكن هؤلاء الكفار تاركين صفة محمد (عليه السلام) حتى بعث، فلمّا بعث تفرّقوا فيه.
ثم فسّر البيّنة فقال: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ. فأبدل النكرة من المعرفة كقوله: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «4» .
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 411.
(2) مسند أحمد: 3/ 130.
(3) لسان العرب: 2/ 572.
(4) سورة البروج: 15- 16.(10/260)
يَتْلُوا يقرأ صُحُفاً كتبا مُطَهَّرَةً من الباطل فِيها كُتُبٌ من الله قَيِّمَةٌ مستقيمة عادلة وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ في أمر محمد (عليه السلام) فكذّبوه إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ البيان في كتبهم أنه نبيّ مرسل.
قال العلماء: من أول السورة إلى قوله: فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ حكمها في من آمن من أهل الكتاب والمشركين، وَما تَفَرَّقَ حكمه في من لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج عليها.
قال بعض أئمّة أهل اللغة قوله: مُنْفَكِّينَ أي هالكين من قوله انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن تنفصل ولا يلتئم فهلك، ومعنى الآية: لم يكونوا هالكين أي معذّبين إلّا بعد قيام الحجّة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتب.
وقرأ الأعمش (والمشركون) رفعا، وفي مصحف عبد الله (لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكّين) وفي حرف أبيّ (ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة رسولا من الله) بالنصب على القطع والحال.
وَما أُمِرُوا يعني هؤلاء الكفار إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ يعني إلّا أن يعبدوا الله مخلصين لَهُ الدِّينَ التوحيد والطاعة حُنَفاءَ مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.
وقال ابن عباس: حجاجا، وقال قتادة: الحنيفية هي الختان وتحريم الأمّهات والبنات والأخوات والعمّات والخالات، وإقامة المناسك.
وقال سعيد بن حمزة: لا تسمي العرب حنيفا إلّا من حجّ واختتن وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ الذي ذكرت دِينُ الْقَيِّمَةِ المستقيمة فأضاف الدين إلى القيّمة وهو أمر فيه اختلاف اللفظين وأنّث القيّمة لأنّه رجع بها إلى الملّة والشريعة، وقيل: الهاء فيه للمبالغة.
سمعت أبا القاسم الحنبلي يقول: سمعت أبا سهل محمد بن محمد بن الأشعث الطالقاني يقول: إن القيّمة هاهنا الكتب التي جرى ذكرها، والدين مضاف إليها على معنى: وَذلِكَ دِينُ الكتب الْقَيِّمَةِ فيما يدعو إليه ويأمر به، نظيرها قوله سبحانه: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ «1» .
وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن قوله سبحانه: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ فقال: القيّمة جمع القيّم، والقيّم [والقائم] واحد ومجاز الآية: وذلك دين القائمين لك بالتوحيد «2» .
__________
(1) سورة البقرة: 213.
(2) تفسير مجمع البيان: 10/ 414.(10/261)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ الخليقة، قرأ نافع البرئة بالهمزة في الحرفين ومثله روى ابن ذكوان عن أهل الشام على الأصل لأنه من قولهم: برأ الله الخلق يبرؤهم برءا، قال الله سبحانه: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها، وقرأ الآخرون بالتشديد من غير همزة، ولها وجهان:
أحدهما أنه ترك الهمزة وأدخل الشبه به عوضا منه.
والآخر أن يكون (فعيلة) من البراء وهو التراب، تقول العرب: بفيك البراء فمجازه:
المخلوقون من التراب.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ.
قال الصادق رضي الله عنه: بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق، ورضوا عنه بما منّ عليهم بمتابعتهم لرسوله، وقبولهم ما جاءهم به، أي أن بيان رضا الخلق عن الله رضاهم بما يرد عليهم من أحكامه ورضاه عنهم أن يوفّقهم للرضا عنه» [223] .
محمد بن الفضيل: الرّوح والراحة في الرضا واليقين، والرضا باب الله الأعظم ومستراح العابدين. محمد بن حقيق: الرضا ينقسم قسمين: رضا به ورضا عنه، فالرضا به ربّا ومدبّرا، والرضا عنه فيما يقضي ويقدّر.
وقيل: الرضا رفع الاختيار. ذي النون: الرضا: سرور القلب لمرّ القضاء. حارث: الرضا سكون القلب تحت جريان الحكم. أبو عمرو الدمشقي: الرضا نهاية الصبر. أبو بكر بن طاهر:
الرضا خروج الكراهية من القلب حتى لا يكون إلّا فرح وسرور. الواسطي: هو النظر إلى الأشياء يعني الرضا حتى لا يسخطك شيء إلّا ما يسخط مولاك. ابن عطاء: هو النظر إلى قديم إحسان الله للعبد فيترك السخط عليه.
سمعت محمد بن الحسين بن محمد يقول: سمعت محمد بن أحمد بن إبراهيم يقول:
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت علي بن عبد الحميد يقول: سمعت السهمي يقول: إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك؟.(10/262)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
سورة الزلزلة
مكّيّة، وهي مائة وتسعة وأربعون حرفا، وخمس وثلاثون كلمة، وثماني آيات
أخبرنا يعقوب بن أحمد بن السهمي العروضي في درب الحاجب قال: أخبرنا محمد بن عبد الله العثماني قال: حدّثنا أبا القاسم الطائي قال: حدّثني أبي قال: حدّثني علي بن موسى الرضا قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد قال: حدّثني أبي محمد بن علي قال: حدّثني أبي علي بن الحسين قال: حدّثني أبي الحسين بن علي قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ إِذا زُلْزِلَتِ أربع مرّات كان كمن قرأ القرآن كلّه» [224] «1» .
وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثني أبو بكر محمد بن عبد الله قال: حدّثنا الحسن بن سفيان قال: حدّثنا علي بن حجر قال: حدّثنا يزيد بن هارون قال: حدّثنا اليمان بن المغيرة عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله (عليه السلام) : «إِذا زُلْزِلَتِ تعدل نصف القرآن، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» تعدل ثلث القرآن وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «3» تعدل ربع القرآن» [225] «4» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6)
إِذا زُلْزِلَتِ حرّكت الْأَرْضُ حركة شديدة لقيام الساعة زِلْزالَها تحركها وقراءة العامّة بكسر الزاي.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 146.
(2) سورة الإخلاص: 1.
(3) سورة الكافرون: 1.
(4) كنز العمال: 1/ 584.(10/263)
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا [الباقرجي] قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن ياسين البغدادي قال: حدّثنا جميل بن الحسن قال: حدّثنا أحمد بن موسى صاحب اللؤلؤ قال: سمعت عاصم الجحدري يقرأ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زَلْزالَها الزاي مفتوحة وهو مصدر أيضا كالوسواس والقلقال والجرجار، وقيل: الكسر المصدر والفتح الاسم.
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها موتاها وكنوزها فيقلبها على ظهرها وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها فيقول الْإِنْسانُ: ما لَها.
قال المفسّرون: تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شرّ فتقول للمؤمن يوم القيامة:
جدّ عليّ وصام وصلّى واجتهد وأطاع ربّه، فيفرح المؤمن بذلك، وتقول للكافر: شرك عليّ وزنى [وسرق] وشرب الخمر فيوبّخ بالمشهد، وتشهد عليه الجوارح والملائكة مع علم الله سبحانه به حتى يودّ أنه سيق إلى النار مما يرى من الفضوح.
حدّثنا أبو بكر محمد بن عبدوس المزكى إملاء قال: أخبرنا أبو نصر محمد بن حمدويه بن سهل المروزي قال: حدّثنا عبد الله بن حمّاد الآملي قال: حدّثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدّثنا رشد بن سعد قال: حدّثنا يحيى بن أبي سلمى عن أبي حازم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عمل على ظهرها» قال: وتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» حتى بلغ «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» قال: «أتدرون ما أخبارها؟
إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عمل على ظهرها» [226] «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن الحسن بن مطرف الجراحي قال: حدّثنا أبو عيسى عبد الرحمن بن عبد الله الأنباري قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدّثنا خالد بن يزيد العمري قال: حدّثنا شعبة عن يحيى بن سليم أبي بلج عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أن النبي (عليه السلام) ذكر هذه الآية: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» فقال: «تدري ما أخبارها؟» قال: الله ورسوله أعلم.
قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها من شيء، تقول:
عمل على ظهري كذا وكذا، أو حملت على ظهري كذا وكذا يوم كذا لكذا وكذا، فهذه أخبارها» [227] «2» .
وفي حرف ابن مسعود يومئذ تبني أخبارها.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا المطرفي قال: حدّثنا بشر بن مطر قال: حدّثنا سفيان
__________
(1) الدر المنثور: 6/ 380، بتفاوت يسير.
(2) سنن الترمذي: 4/ 41.(10/264)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه- وكان أبوه يتيما في حجر أبي سعيد الخدري- قال: قال لي يعني أبا سعيد: يا بنيّ إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان فإني سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يسمعه جنّ ولا إنس ولا حجر إلّا يشهد له» [228] «1» .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا ابن الحسين قال: حدّثنا علي بن حميد عن إبراهيم عن أبيه قال: رأيت أبا أميّة صلّى في المسجد الحرام المكتوبة، ثم تقدم فجعل يصلي هاهنا وهاهنا، فلمّا فرغ قلت: يا أبا أميّة ما هذا الذي رأيتك تصنع؟ قال قرأت هذه الآية: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها فأردت أن تشهد لي يوم القيامة.
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي أمرها بالكلام واذن لها فيه، قال [العجاج يصف الأرض] :
أوحى لها القرار فاستقرّت ... وشدّها بالراسيات الثبّت
أي أمرها بالقرار.
وقال ابن عباس والقرظي وابن زيد: أوحى إليها. ومجاز الآية: يوحي الله إليها.
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً عن موقف الحساب، أشتاتا: متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنة، وآخذ ذات الشمال إلى النار لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ قيل: في هذه الآية تقديم وتأخير تقديرها يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً! وقراءة العامّة لِيُرَوْا بضم الياء،
وقرأ الحسن والأعرج بفتح الياء وروي ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 7 الى 8]
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ أي يرى ثوابه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا ولا شرا في الدنيا إلّا أراه الله إياه، أما المؤمن فيرى حسناته وسيّئاته، فيغفر له سيئاته ويثيبه لحسناته، وأما الكافر فترد حسناته ويعذبه بسيّئاته.
وقال محمد بن كعب في هذه الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً من كافر يرى ثوابه في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند الله شر.
ودليل هذا التأويل ما
أخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثني أبو
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 6، بتفاوت، تفسير مجمع البيان: 10/ 419، بدون تفاوت. [.....](10/265)
الخطاب الجنائي قال: حدّثنا الهيثم بن الربيع قال: حدّثنا سماك بن عطية عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال: كان أبو بكر يأكل مع النبي (عليه السلام) فنزلت هذه الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فرفع أبو بكر- رضي الله عنه- يده وقال:
يا رسول الله أنّى أخبر بما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال: «يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرّ الشرّ، ويدّخر الله لك مثاقيل ذر «1» الخير حتى توفّاه يوم القيامة» [229] «2» .
له عن محمد بن جرير قال: حدّثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا بن وهب قال:
حدّثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال:
نزلت إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وأبو بكر الصديق- رضي الله عنه- قاعد فبكى حين أنزلت، فقال له رسول الله (عليه السلام) : «ما يبكيك يا أبا بكر؟» قال: أبكتني هذه السورة، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «والله لو أنكم لا تخطئون ولا تذنبون ويغفر الله لكم لخلق الله أمّة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم» [230] «3» .
وقراءة العامّة يَرَهُ بفتح الياء في الحرفين، وقرأ خالد بن نشيط وعاصم الجحدري بضم الياءين لقوله: لِيُرَوْا.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزل وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ «4» كان أحدهما يأتيه السائل فيستقلّ أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ونحوها ويقول: ما هذا بشيء إنّما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه يقول الله سبحانه: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ فما أحب لنا هذا فرده غفران، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، الكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول: ليس عليّ من هذا شيء إنّما وعد الله سبحانه النار على الكبائر، وليس في هذا إثم، فأنزل الله سبحانه يرغّبهم في القليل من الخير أن يعطوه، فإنّه يوشك أن يكثر، ويحذّرهم اليسير من الذنب فإنّه يوشك أن يكبر، فالإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعلى من الجبال، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء فقال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
سئل ثعلبة عن الذرّة قال: إن مائة مثل وزن حبّة والذرّة واحد منها. وقال يزيد بن [مروان] : زعموا أن الذرّة ليس لها وزن، ومعنى المثقال الوزن، وهو مفعال من الثقل، وقال
__________
(1) في الأصل: مثاقيل الخير.
(2) تفسير ابن كثير: 4/ 577.
(3) مجمع الزوائد: 7/ 141، بتفاوت يسير.
(4) سورة الدهر: 8.(10/266)
ابن مسعود: أحكم آية في القرآن فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمّيها «الجامعة الفاذة» [231] «1»
، وتصدق سعد بن أبي وقّاص بتمرتين وقبض السائل يده فقال سعد: ويحك تقبل الله منّا مثقال الذرّة والخردلة وكأين في هذه من مثاقيل.
وتصدّق عمر بن الخطّاب وعائشة بحبة من عنب وقالا فيها مثاقيل ذرّ كثر.
وروى المطّلب بن [عبد الله عن عائشة] أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ في مجلس ومعهم أعرابي جالس فقال رسول الله (عليه السلام) : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» فقال الأعرابي: يا رسول الله مثقال ذرّة؟ قال له: «نعم» ، فقال الأعرابي: يا رسول الله مثقال ذرّة؟ قال له «نعم» ، فقال الأعرابي: وا سوأتاه منّا إذا، ثم قام وهو يقولها فقال رسول الله (عليه السلام) : «لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان» [232] «2» .
وأخبرنا عبد الله بن حاطب قال: أخبرنا محمد بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا عمر بن يحيى قال: حدّثنا عبد بن حميد عن وهب بن جرير عن أبيه قال: سمعت الحسن يقول: «قدم صعصعة عمّ الفرزدق على النبي (عليه السلام) فلمّا سمع فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قال: حسبي ما أبالي ولا أسمع من القرآن غير هذا» [233] «3» .
وقال الربيع بن صبيح: مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السورة، فلمّا بلغ آخرها قال:
«حسبي قد أتممت الموعظة» فقال الحسن: «لقد فقه الرجل» [234] .
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسّر قال: أنشدني أبو الفضل أحمد بن محمد بن حمدون الفقيه قال: أنشدني أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الحواربي بواسط:
إنّ من يعتدي ويكسب إثما ... وزن مثقال ذرّة سيراه
ويجازى بفعله الشر شرّا ... وبفعل الجميل أيضا جزاه
هكذا قوله تبارك ربّي ... في إذا زلزلت جلّ ثناه «4»
__________
(1) صحيح البخاري: 3/ 79.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 152 والدر المنثور: 6/ 381.
(3) تفسير القرطبي: 20/ 153 وتفسير مجمع البيان: 10/ 420.
(4) تفسير القرطبي: 20/ 152.(10/267)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
سورة العاديات
مكّيّة، وهي مائة وثلاثة وستون حرفا، وأربعون كلمة، وإحدى عشرة آية
أخبرنا الجنازي قال: حدّثنا ابن حبيش قال: أخبرنا أبو العباس الدقّاق قال: حدّثنا عبد الله بن روح قال: حدّثنا شبابة قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن يزيد عن زر عن أبي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة العاديات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا» [235] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5)
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والحسن والكلبي وأبو العالية والربيع وعطية وقتادة ومقاتل وابن كيسان: هي الخيل التي تعدو في سبيل الله وتضبح وهو صوت أنفاسها إذا أجهدت في الجري فيكثر الربو في أجوافها من شدة العدو، قال ابن عباس:
ليس شيء من الدواب يضج غير الفرس والكلب والثعلب.
قال أهل اللغة: أصل الضبح والضباح للثعالب فاستعير في الخيل، وهو من قول العرب:
ضبحته النار إذا غيّرت لونه، وإنّما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيّرت حالها من تعب أو فزع أو طمع، ونصب قوله: ضَبْحاً على المصدر ومجازه: والعاديات تضبح ضبحا قال الشاعر:
لست بالتبّع اليماني إن لم ... تضبح الخيل في سواد العراق «1»
وقال آخر:
والعاديات أسابي الدماء بها ... كأن أعناقها أنصاب ترجيب «2» «3»
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 154.
(2) البيت لسلامة بن جندل، والاسابي: الطرق من الدم، وأسابي الدماء: طرائقها، والترجيب: دعم الشجرة إذا كثر حملها.
(3) لسان العرب: 1/ 413.(10/268)
يعني الخيل.
قال مقاتل: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية إلى حي من كنانة واستعمل عليهم المنذر بن عمر الأنصاري أحد النقباء فتأخر خبرهم، وقال المنافقون: قتلوا جميعا فأخبره الله سبحانه عنها فقال: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً يعني تلك الخيول غدت حتى ضبحت
، وهو صوت ليس بصهيل ولا حمحمة، وقال الحكماء: هو تقلقل الجرذان في القنب. وقيل: هو صوت إرخاء مشافرها إذا عدت، قال أبو الضحى: وكان ابن عباس يقول: ضباحها أج أج. وقال قوم: هي الإبل.
أنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد قال: حدّثنا الحسن بن محمد بن الصباح قال: حدّثنا مروان بن معاوية قال: حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله سبحانه: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قال: ما رأى فيه عكرمة؟ فقال عكرمة: قال ابن عباس: هي الخيل في القتال، فقلت أنا: (قال علي: هي الإبل في الحجّ) ، وقلت: مولاي أعلم من مولاك.
وقال الشعبي تمارى علي ابن عباس في قوله: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فقال ابن عباس: هي الخيل، ألا تراه يقول: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فهل تثير إلّا بحوافرها، وهل تضبح الإبل؟ وإنما تضبح الخيل، فقال علي: ليس كما قلت لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلّا فرس أبلق للمقداد بن الأسود.
وفي رواية أخرى وفرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي.
وأخبرني عقيل بن أبي الفرج، أخبرهم عن أبي جرير قال: حدّثني يونس قال: أخبرنا بن وهب قال: حدّثنا أبو صخر عن أبي لهيعة البجلي عن سعيد بن حسين عن ابن عباس حدّثه قال:
بينما أنا في الحجر جالس أتاني رجل فسأل عن الْعادِياتِ ضَبْحاً، فقال له: الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم، فانفتل عني وذهب إلى علي بن أبي طالب وهو تحت سقاية زمزم وسأله عن العاديات ضبحا فقال: «سألت عنها أحدا قبلي» .
قال: نعم، سألت عنها ابن عباس وقال: هي الخيل تغير في سبيل الله قال: «اذهب فادعه لي» ، فلمّا وقف على رأسه قال: «تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر، وما كان معنا إلّا فرسان: فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات الخيل، بل العاديات ضبحا الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى» [236] «1» .
قال ابن عباس: فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي
، وإلى قول علي ذهب ابن مسعود ومحمد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 423.(10/269)
وقال بعضهم: من قال: هي الإبل قال ضبحا يعني ضبعا بمدّ أعناقها في السير وضبحت وضبعت بمعنى واحد، قالت صفية بنت عبد المطّلب:
فلا والعاديات غداة جمع ... بأيديها إذا سطع الغبار
فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قال عكرمة وعطاء والضّحاك: هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة والأرض المحصبة.
وقال مقاتل والكلبي: والعرب تسمي تلك النار نار أبي حباحب.
وكان أبي حباحب شيخا من مضر في الجاهلية وكان من أبخل الناس، وكان لا يوقد نارا لخبز ولا غيره حتى تنام كل ذي عين، فإذا نام أصحابه وقد نويرة تقد مرّة وتخمد مرّة، فإذا استيقظ بها أحد أطفأها كراهية أن ينتفع بها أحد، فشبّهت العرب هذه النار بناره، أي لا ينتفع به كما لا ينتفع بنار أبي حباحب.
ومجاز الآية: والقادحات قدحا فخالف بين الصدر والمصدر.
وقال قتادة: هي الخيل تهيج للحرب ونار العداوة بين أصحابها وفرسانها.
وروى سعيد بن حسن عن ابن عباس قال: هي الخيل تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم.
مجاهد وزيد بن أسلم: هي مكر الرجل والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر لصاحبه قال: أما والله لأقدحنّ لك ثم لأورينّ لك.
سعيد بن جبير: يعني رجال الحرب. عكرمة: هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلّم به.
ابن جريج عن بعضهم: فالمنجّحات عملا كنجاح الوتد إذا أوريّ. محمد بن كعب: هي النيران بجمع.
فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً يعني الخيل، تغير بفرسانها على العدو وقت الصبح، هذا قول أكثر المفسّرين.
قال القرظي: هي الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى، والسنّة أن لا يدفع حتى يصبح، والإغارة سرعة السير، ومنه قولهم: أشرق ثبير كما نغير.
فَأَثَرْنَ فيهيّجن. وقرأ أبو حيوة فأثرن بالتشديد من التأثير بِهِ أي بذلك المكان الذي انتهين إليه كناية عن غير مذكور لأن المعنى مفهوم مشهور.
نَقْعاً أي غبارا فَوَسَطْنَ بِهِ أي دخلن به وسطهم يقال: وسطت القوم، بالتخفيف،(10/270)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
ووسّطتهم بالتشديد، وتوسطتهم كلّها بمعنى واحد، وقرأ قتادة فوسّطن، بالتشديد جَمْعاً أي جمع العدو وهم الكتيبة، وقال القرظي: يعني جمع منى.
[سورة العاديات (100) : الآيات 6 الى 11]
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10)
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع: لكفور جحود لنعم الله تعالى. قال الكلبي: هو بلسان كندة وحضرموت، وبلسان معد كلهم: العاصي، وبلسان مضر وربيعة وقضاعة: الكفور، وبلسان بني مالك البخيل.
وروى شعبة عن سماك أنه قال: إنما سميت كندة لأنها قطعت أباها.
وقال ابن سيرين: هو اللوّام لربه. وقال الحسن: هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم، أخذه الشاعر فقال:
يا أيها الظالم في فعله ... والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى ... تشكو المصيبات وتنسى النّعم «1»
وأخبرنا أبو القمر بن حبيب في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعد الرازي قال: حدّثنا العباس بن حمزة قال: حدّثنا أحمد بن محمد قال:
حدّثنا صالح بن محمد قال: حدّثنا سلمة عن جعفر بن الزبير عن القميّ عن أبي أمامة عن رسول الله (عليه السلام) في هذه الآية: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ قال رسول الله (عليه السلام) :
«أتدرون ما الكنود؟» ، فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «الكنود [قال: هو الكفور الذي] يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده» [237] «2» .
وقال عطاء: الكنود الذي لا يعطي في النائبة مع قومه. وقال أبو عبيدة: هو قليل الخير، والأرض الكنود التي لا تنبت شيئا «3» ! قال أبو ذبيان:
إن نفسي ولم أطب عنك نفسا ... غير أنّي أمنى بدهر كنود «4»
وقال الفضيل بن عياض: الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 160 مورد الآية.
(2) تفسير الدر المنثور: 6/ 384، وكنز العمال: 2/ 48 ح 3064. [.....]
(3) راجع تفسير الطبري: 30/ 353.
(4) فتح القدير: 5/ 483 بتفاوت.(10/271)
وقال أبو بكر الورّاق: الكنود الذي يرى النعمة من نفسه وأعوانه. محمد بن علي الترمذي: هو الذي يرى النعمة ولا يرى المنعم، وقال أبو بكر الواسطي: هو الذي ينفق نعم الله سبحانه في معاصي الله، وقال بسّام بن عبد الله: هو الذي يجادل ربّه على عقد العوض. ذو النّون: تفسير الهلوع والكنود قوله: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً «1» .
وقيل: هو الذي يكفر باليسير ولا يشكر الكثير، وقيل: الحقود، وقيل: الحسود. وقيل:
جهول القدر. وفي الحكمة من جهل قدره هتك ستره. وقال بعضهم والحسن: رأسه على وسادة النعمة وقلبه في ميدان الغفلة. وقيل: يرى ما منه ولا يرى ما إليه، وجمع الكنود كند. قال الأعشى:
أحدث لها [تحدث] لوصلك أنّها ... كند لوصل الزائر المعتاد «2»
وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ قال أكثر المفسّرين: وإن الله على كنود هذا الإنسان وصنيعه لشاهد، وقال ابن كيسان: ال (هاء) راجعة إلى الإنسان، يعني أنّه شاهد على نفسه بما يصنع، وإِنَّهُ يعني الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ أي المال.
وقال ابن زيد: سمّى الله المال خيرا وعسى أن يكون خبيثا وحراما ولكن الناس يعدّونه خيرا فسمّاه الله خيرا لأن الناس يسمّونه خيرا وسمي الجهاد سوءا فقال: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ «3» أي قتال. وليس هو عند الله بسوء ولكن سمّاه الله سوءا لأنّ الناس يسمّونه سوءا.
ومعنى الآية وإنه من أجل حبّ المال لَشَدِيدٌ بخيل، ويقال للبخيل: شديد ومتشدّد، قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدّد «4»
والفاحش: البخيل أيضا قال الله سبحانه: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ «5» أي البخل، وقيل:
معناه: وإنّه لحب الخير لقويّ، وقال الفرّاء: كان موضع الحب أن يكون بعد شديد وأن يضاف شديد إليه فيقال: وإنّه لشديد الحبّ للخير، فلمّا يقدم الحبّ قبل شديد وحذف من آخره لمّا جرى ذكره في أوله، ولرؤوس الآيات كقوله سبحانه: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «6» والعصوف لا يكون
__________
(1) سورة المعارج: 20- 21.
(2) تفسير الطبري: 30/ 353.
(3) سورة آل عمران: 174.
(4) لسان العرب: 3/ 234.
(5) سورة البقرة: 268.
(6) سورة إبراهيم: 18.(10/272)
للأيّام إنّما يكون للريح، فلمّا جرى ذكر الريح قبل اليوم طرحت من آخره كأنه قيل: في يوم عاصف الريح.
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ يحث وأثير، قال الفرّاء: وسمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ: بحثر بالحاء وقال: هما لغتان.
ما فِي الْقُبُورِ فأخرجوا منها وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أي ميّز وأبرز ما فيها من خير أو شرّ، وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير حَصَلَ بفتح الحاء وتخفيف الصاد أي ظهر.
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ جمع الكناية لأنّ الإنسان اسم الجنس.
يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ عالم، والقراءة بكسر الألف لأجل اللام، ولولاها لكانت مفتوحة بوقوع العلم عليها. وبلغني أن الحجاج بن يوسف قرأ على المنبر هذه السورة يحضّ الناس على الغزو فجرى على لسانه: أنّ ربهم بفتح الألف ثم استدركها من جهة العربية فقال: خبير، وأسقط اللام.(10/273)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
سورة القارعة
مكّيّة، وهي مائة واثنان وخمسون حرفا، وست وثلاثون كلمة، واحدى عشرة آية
أخبرني ابن المقري قال: أخبرنا ابن مطر قال: حدّثنا ابن شريك قال: حدّثنا ابن يونس قال: حدّثنا ابن سليم قال: حدّثنا ابن شبر عن ابن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ القارعة ثقّل الله سبحانه بها ميزانه يوم القيامة» [238] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وهي الطير التي تتساقط في النار، المبثوث: المتفرّق. قال الفرّاء: الغوغاء: الجراد يركب بعضه بعضا من الهول.
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ كالصوف المصبوغ المبلل.
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ مرضيّة في الجنة.
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ مسكنه ومأواه النار. قال قتادة: هي كلمة عربية، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد قال: هوت أمّه، وقال بعضهم: أراد أمّ رأسه، يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم، وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح.
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ أي من؟ فقال: نارٌ حامِيَةٌ.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 426.(10/274)
وأخبرنا ابن حامد قال [حدّثنا] صالح بن محمد قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد عن جعفر ابن زيد عن أنس بن مالك قال: إن ملكا من ملائكة الله عزّ وجلّ موكّل يوم القيامة بميزان ابن آدم، فيجاء به حتى يوقف بين كفتي الميزان، فيوزن عمله فإن ثقل ميزانه نادى الملائكة بصوت يسمع جميع الخلق باسم الرجل: ألا سعد فلان سعادة لا شقاوة بعدها، وإن خفّت موازينه ينادي الملائكة: ألا شقي فلان شقاوة لا سعادة بعدها.(10/275)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
سورة التكاثر
مكّيّة، وهي مائة وعشرون حرفا، وثمان وعشرون كلمة، وثماني آيات
أخبرني محمد بن القثم قال: حدّثنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال:
حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «من قرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ لم يحاسبه بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية» [239] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ يقول: شغلتكم المباهاة والمفاخرة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربّكم وما ينجيكم من سخطه عليكم حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي متّم فدفنتم فيها.
قال قتادة: نزلت في اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلّالا. وقال ابن بريدة: نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا. مقاتل والكلبي: نزلت في حيّين من قريش: بني عبد مناف وبني قصي، وبني سهم بن عمرو بن هصيص ابن كعب، كان بينهم لحاء فتعادّوا السادة والأشراف أيّهم أكثر فقال بنو عبد مناف: نحن أكثر سيّدا وأعزّ عزيزا وأعظم نفرا وأكثر عددا.
وقال بنو سهم مثل ذلك فكثرهم بنو عبد مناف ثم قالوا: نعدّ موتانا حتى زاروا القبور فعدّوهم، وقالوا: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان، فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 430.(10/276)
أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن جعفر، وأبو بكر أحمد بن الحسن بن أحمد الحبريان قالا: أخبرنا أبو محمد حاجب بن أحمد بن [سفيان] قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مسيّب قال: حدّثنا النضر بن شميل قال: أخبرنا شعبة عن قتادة عن مطرف بن عبد الله عن النخير عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله (عليه السلام) وهو يقرأ هذه الآية: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قال: يقول ابن آدم: ما لي ما لي، وهل لك إلّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت.
وروى زر بن حبيش عن علي بن أبي طالب قال: ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتى نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ إلى كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني في القبر.
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وعيد لهم ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ والتكرير على التأكيد، وقال الضحّاك: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني الكفّار ثمّ كلّا سوف يعلمون يعني المؤمنين، وكذلك كان يقرأها: الأولى بالتاء والثانية بالياء ثم كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي علما يقينا فأضاف العلم إلى اليقين لقوله سبحانه: إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «1» قال قتادة: كنّا نحدّث أن علم اليقين أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت.
ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ يصلح أن يكون في معنى المضي جوابا ل (لو) ، تقديره: لو تعلمون العلم اليقين لرأيتم الجحيم بقلوبكم، ثم رأيتموها بالعين اليقين.
وقيل: معناه لو تعلمون علم اليقين لشغلكم عن التكاثر والتفاخر، ثم استأنف لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ على نيّة القسم، وإلى هذا ذهب مقاتل، وقيل: معناه: لو علمتم يقينا أنكم ترون النار لشغلكم ذلك عما أنتم فيه.
وقيل: ذكر (كلّا) ثلاث مرّات أراد: تعلمون عند النزوع، وتعلمون في القبر، وتعلمون في القيامة، ثم ذكر في الثالثة علم اليقين لأنّه صار عيانا ما كان مغيّبا.
وقراءة العامّة لَتُرَوُنَّ بضم التاء في الحرفين،
وضمّ الكسائي التاء في الأولى منهما وفتح الأخرى، ورواه عن علي رضي الله عنه.
أخبرنا محمد بن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن الجهم قال:
حدّثنا الفرّاء قال: أخبرني محمد بن الفضل عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي أنه قرأ لَتُرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها بضم التاء الأولى وفتح الثانية
، وقال الفرّاء: الأول أشبه بكلام العرب لأنّه تغليظ فلا ينبغي أن يختلف لفظه.
__________
(1) سورة الواقعة: 95.(10/277)
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ «1» اختلفوا فيه وأكثروا،
فأخبرنا أبو علي الحسين بن محمد ابن علي بن إبراهيم السراج بقراءتي عليه في الجامع يوم الجمعة في المحرم سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن علي بن مهران الخشّاب، قال حدّثنا علي بن سعيد العسكري قال: حدّثنا الحسين بن معاذ الأخفش مستملي أبي حفص الفلاس قال: حدّثنا إبراهيم ابن أبي سويد الذارع قال: حدّثنا سويد أبو حاتم عن قتادة عن عبد الله بن سفيان عن أبي هريرة عن النبي (عليه السلام) لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: «عن الماء البارد» [240] «2» .
وحدّثنا أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين بن القيّم الحسني السّني قال: حدّثنا أحمد ابن علي بن مهدي بن صدقة بالرملة قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا علي بن موسى الرضا قال:
حدّثني أبي موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد قال: حدّثني أبي محمد بن علي، قال حدّثني أبي علي بن الحسين قال: حدّثني أبي الحسين بن علي قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله (عليه السلام) في قول سبحانه: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال:
«الرطب والماء البارد» «3» .
وقال عبد الله بن عمر: هو الماء البارد في الصيف، ودليل هذا التأويل
الخبر المأثور:
«أن أول ما يسأل الله سبحانه العبد يوم القيامة أن يقول له: ألم أصحّ جسمك وأروك من الماء البارد» [241] «4» .
وقال أنس بن مالك: ضاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المقداد بن الأسود فقدم إليه طعاما فأكله ثم سقاه ماء باردا فاستطابه وقال: «يا بردها على الكبد» ، ثم قال: «إذا شرب أحدكم الماء فليشرب أبرد ما يقدر عليه» قيل ولم؟ قال «أطيب للمعدة، وأنفع للعلّة، وأبعث على الشكر» [242] «5» .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا زكريّا العنبري يقول: سمعت أبا العباس الأزهري يقول: سمعت أبا حاتم يقول: الماء البارد العذب يستخرج الحمد من جوف القلب.
وقال مالك بن دينار: قال رجل للحسن: إنّ لنا جارا لا يأكل الفالود ويقول: لا أقوم بشكره، فقال: ما أجهل جاركم بنعمة الله عليه بالماء البارد أكثر من نعمة بجميع الحلاوي!
وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد [بن محمد الرومي] قال: حدّثنا أبو حفص محمد بن حفص البصري قال: حدّثنا
__________
(1) سورة التكاثر: 8.
(2) الدر المنثور: 6/ 391.
(3) تفسير نور الثقلين: 5/ 665. [.....]
(4) المعجم الأوسط: 1/ 26 وكنز العمال: 3/ 254 ح 6416 بتفاوت يسير.
(5) سبيل الهدى والرشاد: 12/ 104 عن المصنف.(10/278)
عبد الله بن سلمة بن عياش قال: حدّثنا الأشعث بن نزار عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة أن النبي (عليه السلام) في قول الله جلّ ثناؤه ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: «من أكل خبز البرّ، وشرب الماء المبرّد، وكان له ظل، فذلك النعيم الذي يسأل عنه» [243] «1» «2» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني الوليد بن شجاع قال: حدّثنا محمد بن سعيد الأصبهاني عن ابن أبي ليلى عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: «الأمن والصحة» «3» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن برزة قال: حدّثنا محمد بن غالب بن حرب قال:
حدّثني زكريّا بن يحيى الرقاشي المنقري قال: حدّثنا عبد الله بن عيسى بن خلف قال: حدّثنا يونس بن عبد عن عكرمة عن ابن عباس أنّه سمع عمر بن الخطاب يقول: خرج علينا رسول الله (عليه السلام) عند الظهيرة فوجد أبا بكر في المسجد فقال: «يا أبا بكر ما أخرجك في هذه الساعة؟» قال: يا رسول الله أخرجني الذي أخرجك.
قال: وجاء عمر فقال له رسول الله: «يا أبا الخطّاب ما أخرجك؟» قال: يا رسول الله الذي أخرجكما. وقعد معهما عمر قال: فأقبل رسول الله (عليه السلام) يحدّثهما ثم قال: «هل لكما من قوّة فتنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان طعاما وشرابا وظلّا؟» قلنا: نعم، قال: «مرّوا بنا إلى أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري» فتقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أيدينا فاستأذن وسلّم عليهم ثلاث مرّات، وأمّ الهيثم تسمع الكلام من وراء الباب، وتريد أن يزيدهم رسول الله (عليه السلام) ، فلمّا أراد رسول الله (عليه السلام) أن ينصرف خرجت أمّ الهيثم تسعى خلفهم فقالت: يا رسول الله لقد سمعت تسليمك ولكنّي أردت أن تزيدنا من سلامك.
فقال لها رسول الله (عليه السلام) : «أين أبو الهيثم؟» قالت: يا رسول الله هو قريب، ذهب يستعذب لنا من الماء، ادخلوا فإنه يأتي الساعة إن شاء الله.
وبسطت لهم بساطا تحت شجرة حتى جاء أبو الهيثم، ففرح بهم أبو الهيثم وقرّت عينه، وصعد أبو الهيثم على نخلة يصرم لهم عذقا، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حسبك يا أبا الهيثم» قال: يا رسول الله تأكلون من بسره ومن رطبه وتذنوبه «4» ثم أتاهم فشربوا عليه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا من النعيم الذي تسألون عنه» .
__________
(1) مسند أحمد: 5/ 39.
(2) كنز العمال: 2/ 555 ح 4715 وتفسير الدر المنثور: 6/ 388 مورد الآية وفيه: وشرب ماء الفرات باردا- وكان له منزل يسكنه.
(3) تفسير الطبري: 30/ 365.
(4) التذنوب: الذي بدأ فيه الأرطاب من قبل ذنبه.(10/279)
ثم قام أبو الهيثم إلى شاة لهم ليذبحها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إياك واللبون» وقامت أمّ الهيثم تعجن لهم وتخبز فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر رؤوسهم للقائلة، فانتبهوا وقد أدرك طعامهم فوضع بين أيديهم الطعام فأكلوا وشبعوا وحمدوا الله عزّ وجلّ، ثمّ ردّ عليهم أبو الهيثم بقية الأعذاق فأكلوا من رطبه [ومن تذنوبه] فسلّم عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعا لهم بخير [244] «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفريابي قال: حدّثنا منصور بن أبي مزاحم قال: حدّثنا أبو سعيد المؤذّن وهو محمد بن مسلم بن أبي للوضّاح عن محمد بن عمر عن صفوان بن سليم عن محمود بن لبيد قال: لمّا نزلت هذه الآية: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قالوا: يا رسول الله عن أيّ نعيم نسأل وإنّما هما هذان الأسودان التمر والماء، وسيوفنا على عواتقنا؟ قال: «إنّ ذاك لكائن» [245] «2» .
وأخبرنا الفنجوي قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا عنّان قال: حدّثنا يزيد بن إبراهيم قال: أخبرنا يوسف ابن أخت ابن سيرين عن أبي قلابة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قول الله سبحانه: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: «ناس من أمّتي يعقدون السمن والعسل بالنقي فيأكلونه» [246] «3» .
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفريابي قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله قال: أخبرنا هيثم قال: أخبرنا منصور بن زاذان عن ابن سيرين عن ابن عمر قال: لا يدخل الحمّام فإنّه ممّا أحدثوا من النعيم، قال: وكان منصور لا يدخل الحمّام.
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا [أحمد بن جعفر بن حمدان] قال: حدّثنا محمود «4» بن الفرج قال: حدّثنا ابن أبي الشوارب قال: حدّثنا أبو عوانة عن ابراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال: «إن الله سبحانه ليعدد نعمه على العبد في المصدر: [يوم القيامة حتى يعد عليه] : سألتني فلانة أن أزوجكها، يسمّيها باسمها فزوجتكها» [247] «5» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن صقلاب قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب قال: حدّثني محمد بن عيسى قال: حدّثنا فضل بن سهل قال: حدّثنا حفص بن عمر قال: حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: لمّا نزلت ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قالت الصحابة: يا رسول الله
__________
(1) المعجم الكبير: 19/ 254، مجمع الزوائد: 10/ 317، ومسند أبي يعلى: 1/ 215 ح 250.
(2) مجمع الزوائد: 7/ 142 بتفاوت يسير.
(3) الدر المنثور: 6/ 388 وفتح القدير: 5/ 490.
(4) رواه في غير موضع: أحمد بن الفرج.
(5) تفسير القرطبي: 20/ 177.(10/280)
وأي نعيم نحن فيه. وإنما نأكل في أنصاف بطوننا الشبع؟ فأوحى الله سبحانه إلى نبيّه: قل لهم: «أليس تحتذون النعال، وتشربون الماء البارد؟ فهذا من النعيم» [248] «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال حدّثنا أبو زرعة الرازي قال: حدّثنا أبو الحسن الأشناني القاضي قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد الخراز قال: حدّثني أبي قال: حدّثني محمد بن مروان عن أبان بن تغلب عن أنس بن مالك قال: لما نزلت لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ جاء رجل محتاج فقال: يا رسول الله هل عليّ من النعمة شيء؟ قال: «نعم، النعلان، والظل، والماء البارد» [249] «2» .
وأخبرنا محمد بن محمد بن هانئ قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن محمد الرواساني قال: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ قال: حدّثنا ابن نمير عن ابن جريج عن مجاهد لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: عن كل لذّة من لذات الدنيا.
وأنبأني عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا محمد بن الحسن قال: حدّثنا علي بن الحسن بن أبي عيسى قال: حدّثنا يحيى بن يحيى قال: حدّثنا أبو عامر بن أساف اليمامي عن يحيى وهو عبد لابن أبي كثير قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ على أصحابه فلمّا بلغ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: «هل تدرون ما ذاك النعيم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «بيت يقلّك، وخرقة تواري عورتك، وكسرة تشد بها صلبك ما سوى ذلك نعيم» [250] «3» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى المكّي قال: حدّثني أبو بكر محمد بن جعفر المقري بشمشاط قال: حدّثنا أحمد بن سفيان بن علقمة بن عبد الله المقدمي قال: حدّثنا عمرو بن خالد قال: حدّثنا النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس قال:
قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قال: «تكاثر الأموال: جمعها من غير حقّها، ومنعها عن حقّها، وشدّها في الأوعية، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ حتى دخلتم قبوركم كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ لو قد دخلتم قبوركم ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ لو قد خرجتم من قبوركم إلى محشركم كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لو قد تطايرت الصحف فشقيّ وسعيد لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ- قال: - وذلك حين يؤتى بالصراط فينصب بين حفرتي جهنم «4» ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال عن خمس: عن شبع البطون، وبارد الشراب، ولذّة النوم، وظلال المساكن، واعتدال الخلق» [251] .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 584 والدر المنثور: 6/ 388.
(2) ذكر أخبار أصبهان: 2/ 277 وفيه: الظلل بدل الظل.
(3) تفسير الطبري: 20/ 176 بتفاوت. [.....]
(4) تفسير نور الثقلين: 5/ 662.(10/281)
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله قال: حدّثنا الحسن بن زياد قال: حدّثنا أبو خلد الأحمر عن مفضل عن مغيرة عن إبراهيم قال:
من أكل فسمّى الله وفرغ فحمد الله لم يسئل عن نعيم ذلك الطعام.
وقال ابن عباس: النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار، قال: يسأل الله العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله سبحانه: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «1» ،
أبو جعفر: العافية.
وأنبأني عقيل قال: أخبرنا المعافى قال: أخبرنا ابن جرير قال: أخبرنا بن حميد قال:
حدّثنا مهران عن إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن الحرث التميمي عن ثابت البناني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «النعيم المسؤول عنه يوم القيامة: كسرة تقوّيه، وماء يرويه، وثوب يواريه» [252] «2» .
وبه عن مهران عن سفيان عن بكر بن [عتيق] العامري قال: أتي سعيد بن جبير بشربة عسل فقال: أما إنّ هذا من النعيم الذي يسئل عنه «3» .
وقال محمد بن كعب: يعني عمّا أنعم عليكم بمحمد (عليه السلام) ، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها، عكرمة: عن الصحة والفراغ.
سعيد بن جبير: عن الصحة والفراغ والمال، ودليله ما
روى ابن عباس عن النبي (عليه السلام) أنّه قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» [253] «4» .
وقال عروة بن محمد: كنّا مع وهب بن منبه فرأينا رجلا أصمّ أعمى مقعدا مجذوما مصابا فقلنا: هل بقي على هذا شيء من النعيم؟ قال: نعم، أعظمه بشبعه ما يأكل ويشرب ويسهل عليه إذا خرج لذلك.
قال بكر عن عبد الله المزني: يا لها من نعمة يأكل لذّة ويخرج سرجا!. أبو العالية: عن الإسلام والستر. الحسين بن الفضل: تخفيف الشرائع وتيسير القرآن. أبو بكر الورّاق: عن الآلاء والنعماء.
__________
(1) سورة الإسراء: 36.
(2) تفسير الطبري: 30/ 369 مورد الآية ح 29334.
(3) المصدر السابق.
(4) مسند أحمد: 1/ 344.(10/282)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
سورة العصر
مكّيّة، وهي ثمانية وستون حرفا، وأربع عشرة كلمة، وثلاث آيات
أخبرنا كامل بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال:
حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن مسلم، عن أمّه، عن أبي أمامة، عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة وَالْعَصْرِ ختم الله له بالصبر، وكان مع أصحاب الحق يوم القيامة» [254] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
وَالْعَصْرِ قال ابن عباس: والدهر. ابن كيسان: الليل والنهار ويقال لهما: العصران وللغداة والعشي أيضا: عصران. قال حميد بن ثور:
ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما «2»
الحسن: بعد زوال الشمس إلى غروبها. قتادة: آخر ساعة من ساعات النهار. مقاتل:
صلاة العصر وهي الوسطى.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فانّهم ليسوا في خسر.
وَتَواصَوْا وتحاثّوا وأوصى بعضهم بعضا. بِالْحَقِّ بالقرآن عن الحسن وقتادة.
مقاتل: بالإيمان والتوحيد. وقيل: على العمل بالحق.
وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ على أداء الفرائض وإقامة أمر الله، وروى ابن عون عن إبراهيم قال:
أراد أن الإنسان إذا عمّر في الدنيا وهرم لفي نقص وضعف وتراجع إلّا المؤمنين فإنّهم يكتب لهم أجورهم والمحاسن التي كانوا يعملونها في حال شبابهم وقوّتهم وصحّتهم، وهي مثل قوله
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 434.
(2) لسان العرب: 4/ 576.(10/283)
سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «1» الآية
قال: [كان علي رضي الله عنه يقرأ ذلك] : إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ وإنه فيه إلى آخر الدهر
، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود،
وكان علي يقرأها: وَالْعَصْرِ، ونوائب الدهر، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، وإنّه فيه إلى آخر الدهر «2» .
والقراءة الصحيحة ما عليه العامّة والمصاحف.
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن حمدان الخطيب قراءة عليه في رجب سنة ست وثمانين وثلاثمائة قال: حدّثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن دلان قال: أخبرنا القاضي منصور بن محمد قال: حدّثنا محمد بن أحمد البزاز قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن داود بن سليمان الدينوري قال: حدّثنا علي بن إسماعيل قال: حدّثنا الحسن بن علقمة قال:
حدّثنا سباط بن محمد عن القاسم بن رفيعة عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قرأت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وَالْعَصْرِ فقلت: بأبي وأمّي يا رسول الله وما تفسيرها؟
فقال: «وَالْعَصْرِ قسم من الله أقسم لكم بآخر النهار» إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ قال:
«أبو جهل بن هشام» إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «أبو بكر الصديق» وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «عمر بن الخطّاب» وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ «عثمان بن عفّان» وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ «علي بن أبي طالب» [255] «3» .
وأخبرنا عبد الخالق [بن علي] قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن يوسف بن حاتم بن نضر قال: حدّثنا الحسن بن عثمان قال: حدّثنا أبو هشام محمد بن يزيد بن رفاعة قال: حدّثنا عمّي علي بن رفاعة عن أبيه رفاعة قال: حججت فوافيت علي بن عبد الله بن عباس يخطب على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أبو جهل ابن هشام إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا أبو بكر الصديق وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عمر بن الخطّاب وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ عثمان بن عفّان وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ علي بن أبي طالب [256] «4» .
__________
(1) سورة التين: 4- 6.
(2) تفسير الطبري: 30/ 371 مورد الآية.
(3) تفسير القرطبي: 20/ 180.
(4) تفسير القرطبي: 20/ 180.(10/284)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
سورة الهمزة
مكّيّة، وهي مائة وثلاثون حرفا، وثلاث وثلاثون كلمة، وتسع آيات
أخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا إسماعيل بن نحيل قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي قال سعيد بن حفص قال: قرأت على معقل بن عبد الله عن عكرمة ابن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) : «من قرأ سورة وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد وأصحابه» [257] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال ابن عباس: هم المشّاءون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون، البراء: العنت. سعيد بن جبير وقتادة: الهمزة الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم، واللمزة: الطعّان عليهم. مجاهد: الهمزة: الطعّان في الناس، واللمزة: الطعّان في أنساب الناس «1» .
وقال أبو العالية والحسن وعطاء بن أبي رباح: الهمزة الذي يغيب ويطعن في وجه الرجل إذا أقبل، واللمزة الذي يغتابه من خلفه إذا أدبر وغاب. ضده مقاتل. مرّة: يعني كل طعّان عيّاب مغتاب للمرء إذا غاب، دليله قول زياد بن الأعجم:
إذا لقيتك عن شحط تكاشرني ... وإن تغيّبت كنت الهامز اللمزة «2»
ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ويغيبهم.
__________
(1) تفسير الطبري: 30/ 375.
(2) لسان العرب: 5/ 426، وتفسير القرطبي: 20/ 182 مورد الآية.(10/285)
سفيان الثوري: يهمز بلسانه ويلمز بعينه. ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ، واللمزة الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير برأسه، ويومض بعينه، ويرمز بحاجبه، وهما لغتان للفاعل نحو سخرة وضحكة للذي يسخر ويضحك من الناس.
وروي عن أبي جعفر والأعرج بسكون الميم فيهما، فإن صحّت القراءة فهي في معنى المفعول، وهو الذي يتعرّض للناس حين يهمزوه ويضحكون منه، ويحملهم على الاغتياب.
وقرأ عبد الله والأعمش ويل للهمزة اللمزة، وأصل الهمز الكسر والعض على الشيء بالعنف، ومنه همز الحرف، ويحكى أنّ أعرابيّا قيل له: أتهمز الفارة؟ فقال: الهرّة تهمزها، وقال الحجاج:
ومن همزنا رأسه تهشما «1»
واختلف المفسّرون فيمن نزلت هذه الآية، فقال قوم: نزلت في جميل بن عامر الجمحي، وإليه ذهب ابن أبي الجمح، وقال الكلبي: نزلت في الأخنس بن شريق ووهب بن عمرو الثقفي وكان يقع في الناس ويغتابهم مقبلين ومدبرين.
وقال محمد بن إسحاق بن مسار: ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أميّة بن خلف الجمحي.
وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يغتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ويطعن في وجهه.
وقال مجاهد وغيره: ليست بخاصّة لأحد، بل كل من كانت هذه صفته «2» .
الَّذِي جَمَعَ مالًا قرأ شيبة ونافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو وأيّوب بتخفيف الميم، واختاره أبو حاتم، غيرهم بالتشديد واختاره أبو عبيد، واختلف فيه عن يعقوب.
وَعَدَّدَهُ أحصاه وقال مقاتل: استعدّه وذخره وجعله عتادا له، وقرأ الحسن وَعَدَدَهُ بالتخفيف وهو بعيد، وقد جاء مثل ذلك في الشعر لمّا أبرزوا التضعيف خفّفوه، قال الشاعر:
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... إني أجود الأقوام وإن ضننوا «3»
يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ في الدنيا كَلَّا رد عليه.
أخبرني بن فتحويه قال: حدّثنا خنيس قال: حدّثنا أبو الهيثم بن الفضل قال: حدّثنا أبو زرعة قال: حدّثنا ابن السرح قال: أخبرنا ابن وهب قال: حدّثني حرملة بن عمر أنه سمع عمر
__________
(1) لسان العرب: 5/ 425. [.....]
(2) راجع تفسير القرطبي: 20/ 183.
(3) الصحاح: 6/ 2156.(10/286)
ابن عبد الله مولى غفرة يقول: إذا سمعت الله سبحانه يقول: كَلَّا فإنما يقول: كذبت.
لَيُنْبَذَنَّ ليقذفنّ ويطرحنّ، وقرأ الحسن لينبذان بالألف على التثنية يريد هو وماله فِي الْحُطَمَةِ وهي النار سمّيت بذلك لأنّها تحطم أي تكسر وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ يعني يبلغ ألمها ووجعها القلوب، والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى، وحكي عن بعض العرب سماعا: متى طلعت أرضنا بمعنى بلغت، ومعنى الآية أنها تأكل شيئا منه حتى تنتهي إلى فؤاده.
قال القرظي والكلبي: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ مطبقة مغلقة فِي عَمَدٍ، قرأ أهل الكوفة بضمّتين، غيرهم بالنصب، واختاره أبو حاتم لقوله: رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها «1» وهما جمعان للعمود مثل أديم وأدم، وأفيق وأفق، وقضيم وقضم، قال الفرّاء: وقال أبو عبيد: هو جمع عماد مثل أهاب وأهب وأهب.
مُمَدَّدَةٍ قراءة العامّة بالخفض على نعت العمد، وقرأ عاصم الجحدري مُمَدَّدَةٌ بالرفع جعلها نعتا للموصدة.
واختلفوا في معنى الآية، فقال ابن عباس: أدخلهم في عمد، فمدّت عليهم بعماد وفي أعناقهم السلاسل، فسدّت عليهم بها الأبواب.
وقال قتادة: بلغنا أنّها عمد يعذّبون بها في النار، وقيل: هي عمد موتّدة على أبوابها [ليتأكد أياسهم] منها، وقيل: معناه إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ بعمد، وكذلك هي في قراءة عبد الله:
بعمد، بالباء «2» .
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن كيّس فطن حذر وقاف ثبت، لا يعجل، عالم ورع، والمنافق همزة لمزة حطمة، [لا يقف عند شبهة ولا عند محرم] «3» كحاطب الليل لا يبالي من أين كسب ولا فيما أنفق» [258] «4» .
__________
(1) سورة الرعد: 2.
(2) راجع لتفصيل ذلك تفسير القرطبي: 20/ 186.
(3) في المصدر: لا يقف عند شبهة ولا عند محرم.
(4) كنز العمال: 1/ 162.(10/287)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
سورة الفيل
مكّيّة، وهي ستة وتسعون حرفا، وعشرون كلمة، وخمس آيات
أخبرنا ناقل بن راقم قال: حدّثنا محمد بن شادة قال: حدّثنا أحمد بن الحسن قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال حدّثنا سالم بن قتيبة عن شعبة عن عاصم عن زر عن أبيّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الفيل عافاه الله عزّ وجلّ أيام حياته في الدنيا من القذف والمسخ»
[259] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ.
القصة وبالله التوفيق.
قال محمد بن إسحاق: كان من قصة أصحاب الفيل فيما ذكر بعض أهل العلم عن سعيد ابن جبير وعكرمة عن ابن عباس، وعمّن لقي من علماء أهل اليمن وغيرهم أن ملكا من ملوك حمير يقال له زرعة ذو نواس كان قد تهوّد واستجمعت معه حمير على ذلك، إلّا ما كان من أهل نجران، فإنّهم كانوا على النصرانيّة على أصل حكم الإنجيل، ولهم رأس يقال له عبد الله بن التامر، فدعاهم إلى اليهوديّة فأبوا فخيّرهم فاختاروا القتل فخدّ له أخدودا وصنّف لهم أصناف القتل.
فمنهم من قتل صبرا، ومنهم من خدّ لهم فألقاه في النار إلّا رجلا من أهل سبأ يقال له دوس بن ثعلبان، فذهب على فرس له فركض حتى أعجزهم في الرمل، فأتى قيصر فذكر له ما بلغ منهم واستنصره فقال: بعدت بلادك عنّا ولكنّي سأكتب لك إلى ملك الحبشة، فإنّه على ديننا فينصرك، فكتب إلى النجاشي يأمره بنصره.
فلمّا قدم على النجاشي بعث معه رجلا من أهل الحبشة يقال له: ارياط، فلمّا بعثه قال:
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 441.(10/288)
إن دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها، واضرب ثلث بلادها وابعث إليّ بثلث سباياها، فلمّا دخلها ناوش شيئا من قتال فتفرّقوا عن ذي نواس وخرج به فرسه، فاستعرض به البحر فضربه فهلكا جميعا فكان آخر العهد، ودخلها أرياط فعمل بما أمر به النجاشي، فقال ذو حدر الحميري فيما أصاب أهل اليمن وترابهم:
وعيني لا أبا لك لم تطيقي ... نجاك الله قد أنزفت ريقي
لدى عزف القيان إذ انتشينا ... وإذ نسقى من الخمر الرحيق
وشرب الخمر ليس عليّ [عارا] ... إذا لم يشكني فيها رفيقي
وغمدان الذي حدثت عنه ... بنوه ممسكا في رأس نيق
مصابيح السليط تلوح فيه ... إذا يمسي كتوماض البروق
فأصبح بعد جدّته رمادا ... وغيّر حسنه لهب الحريق
واسلم ذو نواس مستميتا ... وحذّر قومه ضنك المضيق «1»
قال: فأقام أرياط باليمن، وكتب إليه النجاشي: أن اثبت بجندك ومن معك، فأقام حينا ثم إنّ أبرهة بن الصباح ساخطة في أمر الحبشة حتى انصدعوا صدعين فكانت معه طائفة ومع أبرهة طائفة، ثم تراجفا، فلمّا دنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى أرياط: لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها بعضا شيئا حتى تلقاني، ولكن اخرج إليّ فأيّنا قتل صاحبه انضمّ إليه الجند، فأرسل إليه:
إنّك قد أنصفت.
وكان أرياط جسيما عظيما وسيما، في يده حربته، وكان أبرهة رجلا قصيرا حاذرا لحيما، وكان ذا دين في النصرانيّة وخلّف إبراهة [فيها غلام] يقال له: عتودة، فلمّا دنوا رفع أرياط الحربة فضرب بها رأس أبرهة فوقعت على جبينه فشرمت عينه وجبينه وأنفه وشفته فبذلك سمّي الأشرم.
وحمل عتودة على أرياط فقتله، فاجتمعت الحبشة لأبرهة وقال عتودة: أنا عتودة من خلفه أرده لا أب ولا أم بحده، وقال أبرهة: ما كان لك قبله يا عتودة ولا ديته قال: فبلغ النجاشي ما صنع أبرهة فغضب وحلف لا يدع أبرهة حتى يجرّ ناصيته ويطأ بلاده، وكتب إلى أبرهة: إنّك عدوت على أميري فقتلته بغير أمري.
وكان أبرهة رجلا ماردا، فلمّا بلغه ما كان من قول النجاشي حلق رأسه وملأ جرابا من تراب أرضه وكتب إلى النجاشي: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، اختلفنا في أمرك وكنت أعلم بالحبشة وأسوس لها، وقد كنت أردته أن يعتزل وأكون أنا أسوسه فأبى فقتلته، وقد بلغني الذي حلف عليه الملك، وقد حلقت رأسي فبعثت به إليه، وبعثت إليه بجراب من تراب
__________
(1) الأبيات بتمامها في تفسير الطبري: 1/ 547.(10/289)
أرضه ليضعه تحت قدمه [ومن يهينه] ، فلمّا انتهى إليه ذلك رضي عنه فأقرّه على عمله، وكتب إليه أن يثبت بمن معه من الجند.
ثم إن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء يقال لها: الفليس، وكتب إلى النجاشي: قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها قط، ولست منتهيا حتى أصرف إليها حجيج العرب. فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة فخرج إلى القليس فدخلها ليلا وقعد فيها، فبلغ أبرهة ذلك، ويقال: إنه أتاها ناظرا إليها فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة، فقال: من اجترأ عليّ؟ فقيل صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت، سمع بالذي قلت فصنع هذا، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرنّ إلى الكعبة حتى يهدمها.
فخرج سائرا في الحبشة وخرج معه بالفيل، فسمعت بذلك العرب فأعظموه [وفظعوا به] ورأوا جهاده حقّا عليهم، فخرج ملك من ملوك حمير يقال له: ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فقابله فهزمه وأخذ ذو نفر فأتى به، فقال: أيها الملك لا تقتلني فإنّ استبقائي خير لك من قتلي، فاستبقاه وأوثقه.
وكان أبرهة رجلا حليما، ثم خرج سائرا حتى دنا من بلاد خثعم فخرج نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم شهدان وأهش ومن اجتمع إليه من قبايل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ النفيل، فقال نفيل: أيّها الملك إني دليل بأرض العرب فلا تقتلني وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقاه، وخرج معه يدلّه حتى [إذا] مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال: أيّها الملك إنّما نحن عبيدك ليس لك عندنا من خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد- يعنون اللّات- إنما تريد البيت الذي بمكّة، نحن نبعث من يدلّك عليه، فبعثوا أبا رغال مولى لهم فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال، وهو الذي يرجم قبره.
وبعث أبرهة من المغمس رجلا من الحبس يقال له: الأسود بن مقصود على مقدّمة خيله فجمع إليه أموال الحرم وأصاب لعبد المطّلب مائتي بعير، فقال عبد الله بن عمر بن مخزوم:
اللهم اخز الأسود بن مقصود ... الآخذ الهجمة فيها التقليد
بين حراء وبثير فالبيد ... يحبسها وهي أولات التطريد
فضمها إلى طماطم سود ... قد أجمعوا أو يكون معبود
ويهدموا البيت الحرام المعمود ... والمروتين والمشاعر السود
أضفره يا رب وأنت محمود «1»
__________
(1) الهجمة: القطعة الضخمة من الإبل، والتقليد: وضع علامة للهدي، والبيد: جمع البيداء هي الفلاة. وحراء وبثير: جبلان بمكة، وتطريد الإبل: تتابعها، والطماطم: العلوج.(10/290)
ثم إن أبرهة بعث حائلة الحميري إلى أهل مكّة فقال: سل عن شريفها، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه، أخبره أني لم آت لقتال وإنّما لأهدم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكّة فلقي عبد المطّلب بن هاشم فقال: إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال إلّا أن تقاتلوه، وإنّما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم.
فقال عبد المطّلب: ما له عندنا وما لنا به نزال، سنخلّي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم (عليه السلام) ، فإن يمسّه فهو بيته وحرمه وإن يخلّ بينه وبين ذلك فو الله ما لنا به قوّة، قال: فانطلق معي إلى الملك، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة له كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى قدم العسكر.
وكان ذو نفر صديقا لعبد المطلب فأتاه فقال: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟
فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة وعشية، ولكنّي سأبعث لك إلى أنيس سائس الفيل فإنّه لي صديق فاسأله أن يصنع لك مثل الملك ما استطاع من خير، ويعظّم خطرك ومنزلتك عنده.
قال: فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له: إن هذا سيّد قريش وصاحب عير مكّة، يطعم الناس في السهل والوحوش وفي رؤوس الجبل، وقد أصاب له الملك مائتي بعير فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه، فإنه صديق لي أحبّ ما يوصل إليه من الخير، فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيّها الملك هذا سيّد قريش وصاحب عير مكّة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، يستأذن عليك، وأنا أحب أن تأذن له فيكلّمك، وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك فأذن له.
وكان عبد المطّلب جسيما وسيما عظيما، فلمّا رآه أبرهة أعظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على سريره وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه فأجلسه معه، ثم قال لترجمانه قل له: حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان ذلك.
فقال عبد المطّلب: حاجتي إلى الملك أن يردّ علي مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة لترجمانه: أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت فيك. قال: لم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم لأهدمه لم تكلّمني فيه، وتكلّمني في مائتي بعير أصبتها؟ قال عبد المطّلب: أنا ربّ هذه الإبل ولهذا البيت ربّ سيمنعه.
قال: ما كان ليمنعه منّي، قال: فأنت وذاك. فأمر بإبله فردّت عليه.
قال ابن إسحاق: وكان فيما زعم بعض أهل العلم قد ذهب إلى أبرهة بعمر بن ناثة «1» بن
__________
(1) هكذا في المخطوط، ولعله: ليث.(10/291)
عدي بن الويل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد بني كنانة، وخويلد بن وائلة الهذلي وهو يومئذ سيد بني هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت، فأبى عليه، فلمّا ردت الإبل على عبد المطّلب خرج فأخبر قريش الخبر، وأخبرهم أن يتفرّقوا في الشعاب، وتحرزوا في رؤوس الجبال تخوّفا عليهم من معرّة الجيش إذا دخل، ففعلوا وأتى عبد المطّلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول:
يا ربّ لا أرجو لهم سواكا ... يا ربّ فامنع منهم حكاكا
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك
جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا ... فأمر ما بدا لك «1»
ثم ترك عبد المطّلب الحلقة وتوجّه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيّأ للدخول وعبّأ جيشه وهيّأ فيله وكان اسم الفيل محمود، وكان فيل النجاشي بعثه إلى أبرهة، وكان فيلا لم ير مثله في الأرض عظما وجسما وقوّة.
ويقال: كانت معه اثنا عشر فيلا، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه وقال: ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام فبرك الفيل فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول على رأسه فأبى، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى، فوجّهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فصرفوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم، وخرج الفيل يشتد حتى أصعد في الجبل.
وأرسل الله طيرا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طاير منها ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره أمثال الحمّص والعدس، فلمّا أغشين أرسلها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلّا هلك.
وليس كلّ القوم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلّهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم «2» المغلوب غير الغالب؟ «3»
__________
(1) زاد المسير: 8/ 310، وتاريخ الطبري: 1/ 554.
(2) الأشرم: هو أبرهة سمي بذلك لأنه جاءه حجر فشرم أنفه.
(3) تاريخ الطبري: 1/ 555.(10/292)
وقال نفيل أيضا في ذلك:
ألا حييت عنا يا ردّينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا
رديّنة لو رأيت ولم تريه ... لدى جنب المحصّب ما رأينا
إذا لعذرتني وحمدت رأيي ... ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ عاينت طيرا ... وخفت حجارة تلقى علينا
فكلّ القوم يسأل عن نفيل ... كأن عليّ للحبشان دينا «1»
ونفيل ينظر إليهم من بعض الجبال وقد صرخ القوم وهاج بعضهم في بعض، وخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ويهلكون على كل منهل، وبعث على أبرهة داء في جسده، فجعل تتساقط أنامله، كلّما سقطت أنملة أتبعتها مدة من قيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك.
وزعم مقاتل بن سليمان أنّ السبب الذي جرّ حديث أصحاب الفيل هو أنّ قبيلة من قريش خرجوا تجّارا إلى أرض النجاشي، فساروا حتى دنوا من ساحل البحر وفي حقف من أحقافها بيعة النصارى يسمّيها قريش: الهيكل، ويسمّى النجاشي وأهل أرضة: اطاسر حنان، فبرك القوم في سدّها فجمعوا حطبا ثم أجّجوا نارا فاشتووا، فلمّا ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فعجّت الرياح فاضطرم الهيكل نارا، فانطلق الصريخ إلى النجاشي فأخبره فأسف عند ذلك غضبا للبيعة، فبعث أبرهة لهدم الكعبة [وما لقيه] .
وكان بمكّة يومئذ أبو مسعود الثقفي، وكان مكفوف البصر يصيّف بالطائف ويشتو بمكّة، وكان رجلا نبيها نبيلا يستسقم الأمور برأيه، وهو أول راتق وأول فاتق، وكان خليلا لعبد المطّلب، فقال عبد المطلب: يا أبا مسعود ماذا عندك؟ هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك.
فقال أبو مسعود لعبد المطّلب: اعمد إلى مائة من الإبل فاجعلها حرما لله، وقلّدها نعلا ثم أثبتها في الحرم لعلّ بعض هذه السودان تعقر منها فيغضب ربّ هذا البيت فيأخذهم، ففعل ذلك عبد المطّلب، فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها فجعل عبد المطلب يدعو.
فقال أبو مسعود: [قال عبد المطلب] : إنّ لهذا البيت لربّا يمنعه، فقد نزل تبع ملك اليمن بصخر هذا البيت وأراد هدمه، فمنعه الله وابتلاه وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلمّا رأى ذلك تبّع كساه القباطي البيض وعظّمه ونحر له جزرا، فانظر نحو البيت.
__________
(1) المصدر السابق: 1/ 555، وتفسير القرطبي: 20/ 199، والبداية والنهاية: 2/ 216. [.....](10/293)
فنظر عبد المطّلب فقال: أرى طيرا بيضا نشأت من شاطئ البحر قال: ارمقها ببصرك أين قرارها؟ قال: أراها قد أزرّت على رؤوسنا. قال: هل تعرفها؟ قال: والله ما أعرفها ما هي نجديّة ولا تهاميّة ولا عربية ولا شامية وإنها لطير بأرضنا غير مؤنسة.
قال: ما قدّها؟ قال: أشباه اليعاسيب في منقارها حصى كأنها حصى الحذق قد أقبلت كاليلل تكسع بعضها بعضا، أمام كل طير، يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، فجاءت حتى إذا حاذت بعسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم.
فلمّا توافت الرعال كلها أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها، مكتوب في كلّ حجر اسم صاحبه، ثم إنها انصاعت من حيث جاءت، فلمّا أصبحا انحطّا من ذروة الجبل، فمشيا رتوة فلم يؤنسا أحدا ثم دنيا رتوة فلم يسمعا حسّا فقالا: بات القوم سامدين فأصبحوا نياما، فلمّا دنيا من عسكر القوم فإذا هم خامدون.
وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى تقع في دماغه وتخرق الفيل والدّابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه، فعمد عبد المطّلب فأخذ فأسا من فؤوسهم فحفر حتى أعمق في الأرض فملأه من الذهب الأحمر والجوهر الجيّد، وحفر لصاحبه فملأه ثم قال لأبي مسعود: هات خاتمك فاختر، إن شئت أخذت حفرتي وإن شئت أخذت حفرتك وإن شئت فهما لك معا.
فقال ابن مسعود: اخترتني على نفسك، فقال عبد المطّلب: إني لم آل أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهو لك، وجلس كل واحد منهم على حفرته ونادى عبد المطّلب في الناس فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعا، وساد عبد المطّلب بذلك قريش، وأعطته المقادة فلم يزل عبد المطّلب وأبو مسعود في أهلهما في غنى من ذلك المال، ودفع الله عن كعبته وقبلته، فسلّط جنودا لا قبل لهم بها.
وقال الواقدي بأسانيده: وجّه أبرهة أرياط أبا ضخمة في أربعة آلاف إلى اليمن فغلب عليها فأكرم الملوك واستذلّ الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له: أبرهة الأشرم أبو يكسوم فدعا إلى طاعته فأجابوه، فقتل أرياط وغلب على اليمن، فرأى الناس يتجهّزون للحج فقال: أين يذهب الناس؟ قال: يحجّون بيت الله بمكّة.
قال مما هو؟ قال: من حجارة. قال فما كسوته؟ قال مما يأتي من هنا وهناك.
قال: والمسيح لأبنينّ لكم خيرا منه فبنى لهم بيتا عمله بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وحلّاه بالذهب والفضة، وحفّه بالجواهر وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة، وجعل له حجّابا، وكان يوقد بالمندلي ويلطخ جدره بالمسك فيسودها حتى تغيب الجواهر، وأمر الناس بحجّه، فحجّه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيه رجال يتعبّدون ويتألّهون ونسكوا له.(10/294)
وكان نفيل الخثعمي يورّض له ما يكره فأمهل، فلمّا كان ليلة من الليالي لم ير أحدا يتحرّك، فقام فجاء بعذرة فلطّخ بها جبهته، وجمع جيفا وألقاها فيه، فأخبر أبرهة بذلك فغضب غضبا شديد وقال: إنما فعلت العرب غضبا لبيتهم، لأنقضنّه حجرا حجرا، وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ويسأله أن يبعث إليه بفيله محمود، وكان فيلا لم ير مثله في الأرض عظما وجسما وقوة، فبعث به إليه.
فلمّا قدم عليه الفيل سار أبرهة بالناس ومعه ملك حمير ونفيل بن حبيب الخثعمي، فلمّا دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نعم الناس، فأصابوا إبلا لعبد المطّلب، وكان نفيل صديقا لعبد المطّلب فكلّمه في إبله، فكلّم نفيل أبرهة فقال: أيّها الملك قد أتاك سيّد العرب وأفضلهم قدرا وأقدمهم شرفا، يحمل على الجياد، ويعطي الأموال، ويطعم الناس، فأدخله على أبرهة، فقال: حاجتك؟ قال: تردّ عليّ إبلي. فقال ما أرى ما بلغني عنك إلّا الغرور، وقد ظننت أن تكلّمني في بيتكم الذي هو شرفكم. فقال عبد المطّلب: اردد عليّ إبلي ودونك البيت فإن له ربّا سيمنعه.
فأمر بردّ إبله عليه، فلمّا قبضها قلّدها النعال وأشعرها وجعلها هديا وثبتها في الحرم لكي يصاب منها شيء، فيغضب ربّ الحرم، وأوفى عبد المطّلب على خيل ومعه عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم بن مطعم بن عدي، وأبو مسعود الثقفي، فقال عبد المطّلب: اللهم إن المرء يمنع رحله وحلاله فامنع حلالك.
قال: فأقبلت الطير من البحر أبابيل، مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، وقذفت الحجارة عليهم، لا تصيب شيئا إلّا هشمته إلّا فقط ذلك الموضع، فكان ذلك أوّل ما رؤي من الجدري والحصبة والأشجار المرّة فأهمدتهم الحجارة، وبعث الله سيلا عاتيا فذهب بهم إلى البحر فألقاهم فيه، وولّى أبرهة ومن بقي معه هرابا، فجعل أبرهة يسقط عضوا عضوا.
وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم فنجا، وأمّا الفيل الآخر فشجع فحصب، ويقال: كانت اثني عشر فيلا.
قال ابن إسحاق: ولمّا ردّ الله الحبشة عن مكّة عظمت العرب قريشا وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم، وقال عبد الله بن عمر بن مخزوم في قصة أصحاب الفيل:
أنت الجليل ربنا لم تدنس ... أنت حبست الفيل بالمغمّس
من بعد ما هم بشر مبلس ... حبسته في هيئة المكركس
وما لهم من فرج ومنفس(10/295)
والمكركس: المنكوس المطروح «1» . وقال أبو الصلت بن أميّة بن مسعود في ذلك أيضا:
إن آيات ربنا باقيات ... ما يماري فيهنّ إلّا الكفور
حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظلّ يحبو كأنه معقور
حوله من ملوك كندة [أبطال] ... ملاويث في الحروب صقور
غادروه ثم انذعروا سراعا ... كلّهم عظم ساقه مكسور «2»
وقال الكلبي ومقاتل: كان صاحب الجيش أبرهة، وكان أبو يكسوم من وزرائه وندمائه، فلمّا أهلكهم الله سبحانه بالحجارة لم يفلت منهم إلّا أبو يكسوم، فسار وطاير يطير فوقه ولم يشعر به حتى دخل على النجاشي فأخبره بما أصابهم، فلمّا استتمّ كلامه رماه الطائر فسقط فمات، فأرى الله النجاشي كيف كان هلاك أصحابه «3» .
وقال الآخرون: أبو يكسوم هو أبرهة بن الصباح. وقال الواقدي: كان أبرهة جدّ النجاشي الذي كان في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
واختلفوا في تاريخ عام الفيل، فقال مقاتل: كان أمر الفيل قبل مولد رسول الله (عليه السلام) بأربعين سنة، وقال الكلبي وعبيد بن عمير: كان قبل مولد النبي (عليه السلام) بثلاث وعشرين سنة.
وروي أنّه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله (عليه السلام) ، وعليه أكثر العلماء، يدل عليه ما
أخبرنا أبو بكر الخورقي قال: أخبرنا أبو العباس الدعولي قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة، قال: حدّثنا إبراهيم بن المنذر الجراحي قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي ثابت قال: حدّثنا الزبير بن موسى عن أبي الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني الليثي: يا قباث، أنت أكبر أم رسول الله؟ قال: رسول الله أكبر منّي، وأنا أسنّ منه، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمّي على روث الفيل.
وقالت عائشة: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكّة عميين مقعدين يستطعمان.
التفسير:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ قال مقاتل: كان معهم فيل واحد، وقال الضّحاك: كانت ثمانية، وإنّما وجد على هذا التأويل لوفاق رؤوس الآي، أو يقال: نسبهم إلى الفيل الأعظم واسمه محمود.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 196.
(2) تفسير ابن كثير: 4/ 591.
(3) ذكرها الطبري في تفسيره بشكل مفصّل: 1/ 550- 557.(10/296)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ عما أرادوا من تخريب الكعبة: وقيل: في بطلان وأباطيل، وقال مقاتل: في خسار.
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ من البحر طَيْراً أَبابِيلَ كثيرة متفرقة، يتبع بعضها بعضا.
قال عبد الرحمن بن ايزي: أقاطيع كالإبل المقبلة. قال الأعشى:
طريق وجبار رواء أصوله ... عليه أبابيل من الطير تنعب «1»
وقال امرؤ القيس:
تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم ... أبابيل طير تحت دجن مسخن «2»
وقال آخر:
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي ... أن سالت الأرض بالجرد الأبابيل «3»
واختلفوا في واحدها، فقال الفرّاء: لا واحد لها مثل الشماطيط والعباديد والشعارير، كل هذا لا يفرد له واجد، قال: وزعم أبو الرواسي وكان ثقة مأمونا أنه سمع واحدها إبالة ولقد سمعت من العرب من يقول: ضغث على إبالة يريدون خصب على خصب.
قال: ولو قال قائل: واحدها إبالة كان صوابا مثل دينار ودنانير، ويقال: للفضلة التي تكون على حمل الحمار أو علف البعير إبالة، وقال الكسائي: كنت أسمع النحويين يقولون:
واحدها إبّول مثل عجّول وعجاجيل. وحكى محمد بن جرير عن بعض النحويين أن واحدها أبيل، يقال: جاءت الخيل أبابيل من هاهنا وهاهنا.
قال ابن عباس: لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكفّ الكلاب.
عكرمة: لها رؤوس كرءوس السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده.
ربيع: لها أنياب كأنياب السباع، وقالت عائشة: أشبه شيء بالخطاطيف.
سعيد بن جبير: طير خضر لها مناقير صفر، قال أبو الجوزاء: أنشأها الله سبحانه في الهواء في ذلك الوقت.
تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ قراءة العامة بالتاء للطير، وقرأ طلحة وأشهب العقيلي يرميهم بالياء، وهو اختيار أبي حنيفة، يعنون الله سبحانه، كقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «4» ويجوز أن يكون راجعا إلى الطير لخلوّها من علامات التأنيث.
__________
(1) الصحاح: 2/ 608، والنعب: صوت الطائر، والجبار من النخل: ما طال.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 197.
(3) فتح القدير: 5/ 496.
(4) سورة الأنفال: 17.(10/297)
مِنْ سِجِّيلٍ قال ابن مسعود: صاحب الطير وترميهم بالحجارة، وبعث الله سبحانه ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدّة، فما وقع منها حجر على رجل إلّا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره.
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كزرع أكلته الدواب فراثته فيبس وتفرّقت أجزاؤه، شبّه تقطّع أوصالهم يفرق أجزاء الروث.
قال مجاهد: العصف: ورق الحنطة. قتادة: هو التبن، قال الحسن: كنا ونحن غلمان بالمدينة نأكل الشعير إذا قصّب وكان يسمّى العصف. سعيد بن جبير: هو الشعير النابت الذي يؤكل ورقه.
الفرّاء: أطراف الزرع قبل أن يسنبل ويبتك. عكرمة: كالجبل إذا أكل فصار أجوف. ابن عباس: هو القشر الخارج الذي يكون على حبّ الحنطة كهيئة الغلاف له.
المؤرّخ: هو ما يقصف من الزرع فسقطت أطرافه، وقال ابن السكّيت: هو العصف والعصيفة والجل، وقيل: كزرع قد أكل حبّه وبقي تبنه، وقال الضحّاك: كطعام مطعوم.(10/298)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
سورة قريش
مكّيّة، وهي ثلاثة وسبعون حرفا، وسبع عشرة كلمة، وأربع آيات
أخبرني نافل بن راقم بن أحمد بن عبد الجبار البابي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي قال: حدّثنا عمر بن محمد بن محمد الكرمي قال: حدّثنا أسباط بن اليسع قال:
حدّثنا يحيى بن عبيد الله السلمي قال: حدّثنا نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة لِإِيلافِ قُرَيْشٍ أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها» [260] «1» .
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا حازم بن يحيى الحلواني قال: أخبرنا أبو مصعب عن إبراهيم بن يحيى بن ثابت قال: أخبرني عبد الله بن أبي عتيق عن سعيد بن عمر بن جعدة عن أبيه عن جدته أمّ هانئ بنت أبي طالب قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضّل الله قريشا بسبع خصال لم يعطها أحدا قبلهم، ولا يعطاها أحدا بعدهم: فضلّ الله قريشا أني منهم، وأنّ النبوة فيهم وأنّ الحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصرهم على الفيل، وعبدوا الله سبحانه عشرين سنة لا يعبده غيرهم، وأنزل الله سبحانه فيهم سورة لم يذكر فيها أحد غيرهم [261] «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ.
اختلفت القرّاء فيها فقرأ عبد الله بن عامر (لألاف) مهموزا مختلسا بلا ياء، وقرأ أبو جعفر (ايلاف) بغير همز وإنما ذهب إلى طلب الخفّة (لإيلاف) بالياء مهموزة مشبعة، وأما قولهم:
(إيلاف) فروى العمري عن أبي جعفر والبلخي عن ابن كثير (إلفهم) ساكنة اللام يغير ياء وتصديق
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 449.
(2) كنز العمال: 12/ 27.(10/299)
هذه القراءة ما
أخبرنا الحسين بن فنجويه قال: حدّثنا ابن خنيس قال: حدّثنا أبو خديجة أحمد ابن داود قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا مهران عن سفيان بن ليث عن شمر بن حوشب عن أسماء قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم [يقرأ] : «إلفهم رحلة الشتاء والصيف» [262] «1» .
وروى الفضل بن شاذان بإسناده عن أبي جعفر، والوليد عن أهل الشام (إلافهم) مهموزة مختلسة بلا ياء
، وروى محمد بن حبيب الحموي عن أبي يوسف الأعشى عن أبي بكر عن عاصم (إِأْلافهم) بهمزتين الأولى مكسورة والثانية ساكنة الباقون (إِيلافِهِمْ) .
وأخبرني سعيد بن المعافى، أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدّثنا أبو كرنب قال:
حدّثنا وكيع عن أبي مكّي عن عكرمة أنه كان يقرأ (إليالف قريش الفهم) .
وعدّ بعضهم السورتين واحدة منهم أبيّ بن كعب ولا فصل بينهما في مصحفه.
وقال سفيان بن عيينة: كان لنا امام لا يفصل بينهما ويقرأهما معا، وقال عمرو بن ميمون الأودي صلّيت المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأ في الأولى وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وفي الثانية أَلَمْ تَرَ ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ.
واختلفوا في العلّة الجالبة لهذه اللام فقال الفرّاء: هي متّصلة بالسورة الأولى وذلك أنه [تعالى] ذكّر أهل مكّة عظيم نعمته عليهم في ما صنع بالحبشة، ثم قال: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منّا على قريش أي نعمتنا عليهم في رحلتهم الشتاء والصيف، فكأنّه قال: نعمة إلى نعمة فتكون اللام بمعنى (إلى) .
وقال الرازي والأخفش: هي لام التعجب يقول: عجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة ربّ هذا البيت، ثم أمرهم بعبادته.
وهذا كما يقول في الكلام: لزيد وإكرامنا إيّاه، على وجه التعجب أي: أعجب لذلك، والعرب إذا جاءت بهذه اللام اكتفوا بها دليلا على التعجّب لإظهار الفعل فيه كقول الشاعر:
أغرّك أن قالوا لقرة شاعرا ... فيا أباه من عريف وشاعر
أي أعجبوا لقرة شاعرا «2» .
وقيل هي لام (كي) مجازها فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ليؤلف قريشا، فكان هلاك أصحاب الفيل سببا لبقاء إيلاف قريش، ونظام حالهم وأقوام مالهم، وقال الزجّاج: هي مردودة إلى ما بعدها، تقديره: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
لإيلاف رحلة الشتاء والصيف.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 30/ 394.
(2) جامع البيان للطبري: 30/ 395.(10/300)
وقريش هم ولد النضر بن كنانة، فمن ولده النضر فهو قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمّنا، ولا ننتفي من أبينا» [263] «1» .
وأخبرنا أبو بكر الجوزي قال: أخبرنا الرعولي قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا أبو المغيرة قال: حدّثنا الأوزاعي قال: حدّثنا أبو عمار شداد عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله (عليه السلام) : «إن الله عزّ وجلّ اصطفى بني كنانة من بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» [264] «2» .
وسمّوا قريشا من التقرش، وهو التكسّب والتقلّب والجمع والطلب، وكانوا قوما على المال والإفضال حراصا.
وسأل معاوية عبد الله بن عباس: لم سمّيت قريش قريشا؟ فقال: لدابّة في البحر يقال لها:
القرش، تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلا. قال: وهل يعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال:
نعم:
وقريش هي التي تسكن البحر بها ... سميت قريش قريشا
سلطت بالعلو في لجّة البحر ... على ساير البحور جيوشا
تأكل الغثّ والسمين ولا تترك فيه ... لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبيّ ... يكثر القتل فيهم والخموشا
يملأ الأرض خيله ورجالا ... يحسرون المطيّ حسرا كشيشا «3»
وقوله: إِيلافِهِمْ بدل من الإيلاف الأوّل ويرخمه له، ومن أسقط الياء من الإيلاف احتج بقول ابي طالب يوصي أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولا تتركنه ما حييت لمعظم ... وكن رجلا ذا نجدة وعفاف
تذود العدا عن عصبة «4» هاشمية ... إلا فهم في الناس خير إلاف «5»
__________
(1) مسند أحمد: 5/ 211.
(2) كتاب السنّة: 618، ومسند أبي يعلى: 13/ 472.
(3) تفسير القرطبي: 20/ 203، وفتح الباري: 6/ 388، والخموس: الخدوش في البدن، والكميش:
السريع. [.....]
(4) في التاريخ: ذروة.
(5) تفسير القرطبي: 20/ 202.(10/301)
رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ اختلفوا في وجه انتصاب الرحلة فقيل: نصبت على المصدر أي ارتحالهم رحلة، وإن شئت نصبته بوقوع إيلافهم عليه، وإن شئت على الظرف بمعنى: على رحلة، وإن شئت جعلتهما في محل الرفع على معنى هما رحلتا الشتاء والصيف، والأول أعجب وأحبّ إليّ لأنّها مكتوبة في المصاحف بغير ياء.
وأمّا التفسير: فروى عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا يشتون بمكّة ويصيفون بالطائف، فأمرهم الله سبحانه أن يشتوا بالحرم ويعبدوا ربّ البيت.
وقال أبو صالح: كانت الشام فيها أرض باردة وفيها أرض حارة، وكانوا يرتحلون في الشتاء إلى الحارة، وفي الصيف إلى الباردة وكانت لهم رحلتان كلّ عام للتجارة: أحدهما في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ، والأخرى في الصيف إلى الشام، وكان الحرم واديا جدبا لا زرع فيه ولا ضرع، ولا ماء ولا شجر، وإنّما كانت قريش تعيش بها بتجارتهم ورحلتهم، وكانوا لا يتعرض لهم بسوء.
وكانوا يقولون: قريش سكان حرم الله وولاة بيته، فلولا الرحلتان لم يكن لأحد بمكّة مقام، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرّف، فشقّ عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام، وأخصبت تبالة وجرش والجند من بلاد اليمن، فحملوا الطعام إلى مكّة، أهل الساحل في البحر على السفن، وأهل البر على الإبل والحمر، فألقى أهل الساحل بجدّة وأهل البرّ بالمحصّب، وأخصبت الشام فحملوا الطعام إلى مكّة، فحمل أهل الشام إلى الأبطح، وحمل أهل اليمن إلى الجدّة، فامتاروا من قريب وكفاهم الله مؤونة الرحلتين وأمرهم بعبادة ربّ البيت.
أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد قال: أخبرنا أبو الوليد حسان بن محمد قال: حدّثنا القاسم بن زكريّا المطرّز قال: حدّثنا محمد بن سليمان قال: حدّثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: مرّ رسول الله (عليه السلام) ومعه أبو بكر بملئهم ينشدون:
يا ذا الذي طلب السماحة والندى ... هلّا مررت بآل عبد الدار «1»
هلّا مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من جهد ومن إقتار
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أهكذا قال الشاعر يا أبا بكر؟» [265] قال: لا، والذي بعثك بالحق، بل قال:
يا ذا الذي طلب السماحة والندى ... هلّا مررت بآل عبد مناف
لو أن مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من جهد ومن إيجاف
الرائشين وليس يوجد رائش ... والقائلين هلمّ للأضياف
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 452.(10/302)
والخالطين غنيّهم بفقيرهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي
والقائلين بكل وعد صادق ... ورجال مكّة مسنتين عجاف
سفرين سنّهما له ولقومه ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف
قال الكلبي: وكان أوّل من حمل السمراء من الشام ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف.
ْيَعْبُدُوا
لام الأمر رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ.
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد قال: حدّثنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد قال: حدّثنا جعفر قال: سمعت ابن ملك بن دينار يقول: ما سقطت أمة من عين الله سبحانه إلّا ضرب أكبادها بالجوع.
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ وذلك أنهم كانوا يقولون: نحن قطّان حرم الله سبحانه، فلا يعرض لهم أحد في الجاهلية، وإن كان الرجل ليصاب في الحي من أحياء العرب فقال: حرمي حرمي فيخلّى عنه وعن ماله تعظيما للحرم، وكان غيرهم من قبائل العرب إذا خرج أغير عليه.
وقال الضحّاك والربيع وشريك وسفيان: وآمنهم من الجذام، فلا يصيبهم ببلدهم الجذام.
وأخبرنا أيضا أبو الحسن المقري قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عيسى المقري البروجردي ببغداد قال: حدّثنا أبو سعيد عمر بن مرداس قال: حدّثنا محمد بن بكير الحضرمي قال: حدّثنا القاسم بن عبد الله عن [أبي] بكر بن محمد عن سالم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«غبار المدينة يبرئ من الجذام» [266] «1» .
وقال علي كرم الله وجهه: وَآمَنَهُمْ مِنْ [خوف] أن تكون الخلافة إلّا فيهم [267] «2» .
__________
(1) كنز العمال: 12/ 236 عن ابن السني وأبي نعيم في الطب.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 209، وما بين معكوفين منه.(10/303)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
سورة الماعون
مكية، وهي مائة وخمسة وعشرون حرفا، وخمس وعشرون كلمة، وسبع آيات
أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال: حدّثنا أبو محمد بن أبي حامد قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الأصفهاني قال: حدّثنا مؤمل بن إسماعيل قال: حدّثنا سفيان الثوري، قال:
حدّثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه عن أبي بن كعب قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة أَرَأَيْتَ غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا» [268] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ قال مقاتل والكلبي: نزلت في العاص بن وائل السهمي، السدي ومقاتل بن حيان وابن كيسان: يعني الوليد بن المغيرة، الضحاك: في عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم، وقيل: هيبرة بن أبي وهب المخزومي، ابن جريح: كان أبو سفيان بن حرب ينحر كل أسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصاه، فأنزل الله سبحانه فيه أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ أي يقهره ويزجره ويدفعه عن حقّه، الدع: الدفع في جفوة.
قرأ أبو رجاء يَدَعُ الْيَتِيمَ أي يتركه ويقصر في حقه وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ
حدّثنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا ابن الشرقي قال:
حدّثنا محمد ابن إسحاق الصعالي ببغداد قال: حدّثنا عمرو بن الربيع بن طارق قال: حدّثنا عكرمة بن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير عن مصعب بن سعيد عن سعيد قال: سألت رسول
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 454.(10/304)
الله صلى الله عليه وسلم عن قوله سبحانه: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قال ابن عباس: هم المنافقون يتركون الصلاة في السرّ إذا غاب الناس ويصلونها في العلانية إذا حضروا.
بيانه قوله سبحانه:
وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ
«1» الآية، مجاهد: لاهون غافلون عنها متهاونون بها، وقال قتادة: ساه عنها لا يبالي صلى أم لم يصل.
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا معاوية بن هشام عن شيبان النحوي عن جابر الجعفي قال: حدّثني رجل عن أبي بردة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ: «الله أكبر هذه خير لكم من أن لو أعطى كل رجل منكم مثل جميع الدنيا هو الذي إن صلى لم يرج خير صلواته وأن تركها لم يخف ربه»
[269] «2» وبه عن ابن جرير قال: حدّثني أحمد بن عبد عبد الرحيم البرقي قال: حدّثنا عمرو بن أبي مسلمة قال سمعت عمر بن سليمان يحدّث عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ولم يقل في صلاتهم، الحسن: هو الذي إن صلّاها صلاها رياء وأن فاتته لم يندم، أبو العالية: لا يصلونها لمواقيتها ولا يتمّون ركوعها ولا سجودها، وعنه أيضا: هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا وهكذا ملتفتا، الضحاك: هم الذين يتركون الصلاة. وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ
أخبرنا أبو بكر الجمشادي حدّثنا أبو بكر القطيعي قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: حدّثنا أبو عمر الضرير قال: حدّثنا أبو عوانة عن إسماعيل السهمي عن أبي صالح عن علي رضي الله عنه وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قال: هي الزكاة
، وإليه ذهب ابن عمر والحسن وقتادة وابن الحنفية والضحاك.
وأخبرنا الجمشادي قال: أخبرنا العطيفي قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال:
حدّثنا أبو عمر الضرير قال: حدّثنا حماد عن عاصم عن زر عن عبد الله في الماعون قال:
الفاس والدلو والقدر وأشباه ذلك وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، مجاهد عنه: هو العارية ومتاع البيت، عطية عنه: هو الطاعة، محمد بن كعب والكلبي: الماعون المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم، سعيد بن المسيب والزهري ومقاتل: الماعون: المال بلغة قريش، قال الأعشى:
بأجود منه بماعونه ... إذا ما سماؤهم لم تغم «3»
وأخبرنا محمد بن عبدوس في آخرين قالوا: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفراء قال: سمعت بعض العرب يقول: الماعون هو الماء، وأنشدني فيه:
__________
(1) سورة النساء: 142.
(2) جامع البيان للطبري: 30/ 404.
(3) لسان العرب: 13/ 410.(10/305)
يمج صبيرة الماعون صبا «1» والصبير: المنجاب.
وقال أبو عبيد والمبرد: الماعون في الجاهلية: كلّ منفعة وعطية وعارية، وهو في الإسلام: الطاعة والزكاة، قال حسان بن قحافة: لا يحرم الماعون منه خابطا، ويقول العرب:
[ولقد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعا] «2» تعطيك الماعون، أي الطاعة والانقياد، قال الشاعر:
متى يجاهدهن بالبرين ... يخضعن أو يعطين بالماعون «3»
وحكى الفراء أيضا عن بعضهم أنه قال: ماعون من الماء المعين، وقال قطرب: أصل الماعون من القلّة، يقول العرب: ماله سعنة ولا معنة أي شيء قليل، فسمّى الزكاة والصدقة والمعروف ماعونا، لأنه قليل من كثير، وقيل: الماعون ما لا يحل منعه مثل الماء والملح والنار، يدلّ عليه ما
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا عمرو بن مرداس قال: حدّثنا محمد بن بكر قال: حدّثنا عثمان بن مطر عن الحسن بن أبي جعفر عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيّب عن عائشة أنّها قالت: يا رسول الله ما الذي لا يحلّ منعه قال: «الماء والملح والنار» .
فقالت: يا رسول الله هذا الماء فما بال النار والملح؟ فقال لها: يا حميراء «من أعطى نارا فكأنما تصدّق بجميع ما طبخ بذلك «4» النار، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيّب بذلك الملح، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء فكأنما أعتق (ستين نسمة) «5» ، ومن سقى «6» شربه ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحيا نفسا»
[270] «7» قال الراعي:
قوم على الإسلام لمّا يمنعوا ... ماعونهم ويمنعوا التهليلا «8»
__________
(1) الصحاح: 6/ 2205، تفسير القرطبي: 20/ 214.
(2) عن تاج العروس: 9/ 347، وعبارة المخطوط مشوشة.
(3) تفسير القرطبي: 20/ 215، وفيه متى تصادفهن.
(4) في المصدر: انضجت تلك.
(5) في المصدر: رقبة. [.....]
(6) في المصدر: مسلما.
(7) سنن ابن ماجة: 2/ 826.
(8) الصحاح: 6/ 2205، ولسان العرب: 11/ 704.(10/306)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
سورة الكوثر
مكية وهي اثنان وأربعون حرفا، وعشر كلمات، وثلاث آيات
أخبرني الأستاذ أبو الحسين الفارسي الماوردي قال: حدّثنا أبو محمد الشيباني قال:
حدّثنا أبو عمرو الحبري وأبو عثمان البصري قالا: حدّثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي قال:
حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ سقاه الله من أنهار الجنة وأعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل قربان قرّبة العباد في يوم عيد ويقربون من أهل الكتاب والمشركين» [271] «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا أبو علي حمزة بن محمد الكاتب قال: حدّثنا نعيم بن حماد قال: حدّثنا نوح بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «من قرأ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ كان له ما بين المشرق والمغرب أبعرة على كل بعير كراريس، كل كراسة مثل الدنيا وما فيها كتب له بدقة الشعر ليس فيها إلّا صفة قصوره ومنازله في الجنة [272] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ
قال ابن عباس: نزلت هذه السورة في العاص بن وائل ابن هشام بن سعيد بن سهم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدّثا وأناس من صناديد قريش في المسجد جلوس، فلما دخل العاص قالوا له: من الذي كنت تحدث؟ قال: ذاك الأبتر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد توفى قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من خديجة، وكانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر، فسمّته قريش عند موت ابنه أبتر وصنبورا فأنزل الله سبحانه إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 458.(10/307)
قراءة العامة بالعين، وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف (أنطيناك) بالنون، وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أخبرناه أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن علي المطوعي بقراءتي عليه قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار الأصفهاني قال: أخبرنا أبو المثنى معادين المثنى بن معاد ابن نصر العبيدي قال: حدّثنا عمرو بن المحرّم أبو قتادة البصري قال: حدّثنا عبد الوارث بن عمرو عن الحسن عن أمّه عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: إنّا أنطيناك الكوثر.
والكوثر فوعل من الكثرة كنوفل من النفل وحوقر من الحقر، والعرب يسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير في المقدار الخطر: كوثرا. قال سفيان بن عيينة: قيل لعجوز رجع ابنها من السفر بم آب ابنك؟ قالت آب بكوثر، يعني بمال كثير «1» .
واختلفوا في المراد به هاهنا
فحدّثنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا أبو العباس الثقفي قال: حدّثنا أبو همام الوليد بن شجاع السكوني وعبد الله بن عمر بن أبان قالا: حدّثنا عبد الرحمن بن سلمان عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا إذ أغفى إغفاءة أو أغمى عليه، فرفع رأسه مبتسما فقال: «هل تدرون ممن ضحكت» فقالوا الله ورسوله أعلم، قال: «إنه نزل عليّ سورة» فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فقرأ حتى ختم السورة فلما قرأها قال: «أتدرون ما الكوثر؟ أنه نهر في الجنة وعدنيه ربّي عز وجلّ فيه خير كثير، لذلك النهر حوض يرد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب [فيختلج] منهم فأقول:
ربّ إنّه من أمتي فيقال: أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» [273] «2» .
وأخبرنا أبو سعيد بن حمدون قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال: حدّثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصي قال: حدّثنا أيوب بن سويد قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم عن عمّه العباس بن عبد الله بن معيد عن ابن عباس قال: لما نزلت إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها على الناس، فلما نزل قالوا: يا رسول الله ما هذا الذي قد أعطاكه الله سبحانه؟ قال: «نهر في الجنة أشدّ بياضا من اللبن، وأشد استقامة من القدح حافتاه قباب الدر الدر والياقوت ترده طير خضر لها أعناق كأعناق البخت» قالوا: يا رسول الله ما أنعم هذا لطائر؟
قال «أفلا أخبركم بأنعم منه؟» قالوا بلى: قال: «من أكل الطائر وشرب الماء فاز «3» برضوان الله سبحانه» [274] «4» .
__________
(1) راجع تفسير القرطبي: 20/ 216.
(2) السنن الكبرى: 2/ 43، صحيح مسلم: 1/ 12، بتفاوت.
(3) في المخطوط: وفاز.
(4) تفسير نور الثقلين: 5/ 680.(10/308)
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر المطيري قال: حدّثنا علي بن حرب قال: حدّثنا ابن فضيل قال: حدّثنا عطاء عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من الذهب ومجراه على الدر والياقوت وتربته أطيب من المسك وماءه أحلى من العسل وأشد بياضا من الثلج»
[275] «1» وقالت عائشة رضى الله عنها:
الكوثر نهر في الجنّة يخرخر «2» في الحوض فمن أحب أن يسمع خريره فليجعل إصبعيه في أذنيه.
وقال بعضهم: هو الحوض بعينه، وصفته على ما
جاء في الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وصف حوض الكوثر فقال: «حصباؤه الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والدر والمرجان وحمأته المسك الأذفر وترابه الكافور، وماءه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج، يخرج: من أصل السدرة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب، حافتاه الزعفران وقباب الدر والمرجان، من دخله أمن من الغرق، ولا يشرب منه أحد فيظمأ، ولا يتوضأ منه أحد فيشعث، فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر» فقال أبو بكر وعمر: إنها لناعمة فقال: «أكلها أنعم منها» [276] .
وفي خبر آخر: «لتزدحمنّ هذه الأمة على الحوض ازدحام واردات الحمر» [277] «3» .
وأخبرنا أبو القاسم بن حبيب في سنة ست وثلاثمائة: قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفار الأصفهاني قال: أخبرنا أبو عبد الله العمري الكوفي بالكوفة قال:
حدّثنا بشر بن داود القرشي قال: حدّثنا مسعود بن سابور عن علي بن عاصم عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ لحوضي أربعة أركان: فأول ركن منها في يد أبي بكر والثاني في يد عمر والثالث في يد عثمان والرابع في يد علي، فمن أحب أبا بكر وأبغض عمر لم يسقه أبو بكر ومن أحب عمر وأبغض أبا بكر لم يسقه عمر ومن أحب عثمان وأبغض عليا لم يسقه عثمان ومن أحب عليا وأبغض عثمان لم يسقه علي، ومن أحسن القول في أبي بكر فقد أقام الدين، ومن أحسن القول في عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحسن القول في عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحسن القول في علي فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، من أحسن القول في أصحابي فهو مؤمن ومن أساء القول في أصحابي فهو منافق» [278] .
وقال قطر بن خليفة: سألت عطاء عن الكوثر ونحن نطوف في البيت فقال: حوض أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم في الجنة، وروى حميد عن أنس قال: دخلنا على عبيد الله بن زياد وهم يتذاكرون الحوض فقلت: ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض،
__________
(1) كنز العمّال: 14/ 423، ح 39146.
(2) في المخطوط: يقرقر.
(3) كنز العمال: 14/ 425، ح 39155.(10/309)
لقد تركت خلفي عجائز ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض محمد وفيه يقول الشاعر:
يا صاحب الحوض من يدانيكا ... وأنت حقا حبيب باريكا «1»
وقال سعيد بن جبير ومجاهد: هو الخير الكثير، وقال الحسن: هو القرآن العظيم، عكرمة: النبوة والكتاب، محمد بن إسحاق هو العظيم من الأمر وذكر بيت لبيد
صاحب ملحوب فجعنا بفقده ... وعند الرداع بيت آخر كوثر «2»
يقول: أي عظيم.
وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن ذياب: هو كثرة الأصحاب والأشياع، ابن كيسان: هو كلمة من الكتب الأولى ومعناها الإيثار، الحسين بن الفضل: الكوثر شيئان تيسير القرآن وتخفيف الشرائع،
جعفر الصادق: الكوثر نور في قبلك دلّك عليّ، وقطعك عما سواي
، وعنه أيضا:
الشفاعة
، وقيل: معجزات أكثرت بها أهل الإجابة لدعوتك، هلال بن يساق: هو قول لا اله الله محمد رسول الله، وقيل: الفقه في الدين، وقيل: الصلوات الخمس.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال محمد بن كعب: يقول: إن ناسا يصلّون لغير الله وينحرون لغير الله ف إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فلا تكن صلاتك ونحرك إلّا لي، وقال عكرمة وعطاء وقتادة: فَصَلِّ لِرَبِّكَ صلاة العيد يوم النحر، قال سعيد بن جبير ومجاهد: فَصَلِّ لِرَبِّكَ صلاة الغداة المفروضة بجمع وَانْحَرْ البدن بمنى.
وقال بعضهم: نزلت هذه الآية يوم الحديبية حين حضر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصدّوا عن البيت فأمره الله سبحانه أن يصلي وينحر البدن وينصرف، وفعل ذلك
، وهو رواية أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن يوسف قال: حدّثنا حجاج قال: حدّثنا حماد عن عاصم الجحدري عن أبيه عن عقبة بن ظبيان عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال: وضع اليد اليمنى على ساعده اليسرى ثم وضعها على صدره.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا علي ابن إبراهيم بن أحمد العطار قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا هاشم بن الحرث المروزي قال: حدّثنا محمد بن ربيعة قال:
حدّثنا يزيد بن ذياب بن أبي السعد عن عاصم الجحدري عن عقبة بن ظهير عن علي بن أبي
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 217.
(2) لسان العرب: 2/ 15 وفيه: فجعنا بيومه.(10/310)
طالب في قوله فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
وأخبرنا عبد الخالق قال: حدّثنا ابن جنب قال: حدّثنا يحيى بن أبي طالب قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: حدّثنا روح بن المسيّب قال: أخبرني عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قول الله سبحانه فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر.
يدلّ عليه ما
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا علي بن حرب قال: حدثنا المعافى بن داود قال: حدثنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب بإحدى يديه على الأخرى في الصلاة.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا عبد الرحمن قال: أخبرنا سفيان عن سماك عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعا يمينه على شماله في الصلاة، هلب لقب وأسمه يزيد بن قتادة.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا ابراهيم بن الحرث قال: حدّثنا يحيى بن أبي بكر قال: حدّثنا زهير بن معاوية قال: حدّثنا أبو إسحاق عن عبد الجبار بن وائل عن وائل بن حجر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة قريبا من الرفع، ويرفع يديه حتى يبلغا أذنيه.
وأخبرنا عبد الله قال: أخبرنا محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن يوسف قال: حدّثنا حجاج قال: حدّثنا هشيم عن الحجاج بن أبي زينب السلمي قال: حدّثنا أبو عثمان النهدي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وهو يصلي واضعا يده اليسرى على اليمنى فنزع اليسرى عن اليمنى ووضع اليمنى على اليسرى.
وأخبرنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا أبو الفضل يعقوب بن يوسف بن عاصم البخاري الفقيه قال: حدّثنا الحسين بن الفضل النصراني قال: حدّثنا وهب بن إبراهيم الرازي قال: حدّثنا أبو عبد الله إسرائيل بن حاتم المروزي وكان ثقة مأمونا قال: أخبرنا مقاتل بن حيان عن أصبغ ابن نباتة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه السورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: «ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟» [279] «1» قال:
ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يدك إذا كبرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت، فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع وإن لكل شيء زينة وأن زينة الصلاة رفع الأيدي عند التكبيرة.
__________
(1) كنز العمال: 2/ 557، ح 4721. [.....](10/311)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفع الأيدي في الصلاة من الاستكانة» قلت: فما الاستكانة؟ قال:
«ألا تقرأ هذه الآية: فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ «1» » قال: هو الخضوع [280] «2» .
يدل عليه ما
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال قال:
حدّثنا أبو زرعة الرازي قال: حدّثنا عبد الجبار بن سعيد بن سليمان بن نوفل بن مساحق العامري قال: حدّثنا ابن أبي الزياد عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان إذا قام الى الصلاة المكتوبة كبّر ورفع يديه حذو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ويضعه إذا رفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد.
وأخبرنا الشيخ الصالح أبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن علوية بن سلوس العبدوي في رجب سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن الأزهر الأزهري وعبد الله بن يحيى بن أحمد بن مهران المذكر قالا: سمعنا أبا إسماعيل الترمذي وحدّثنا أبو محمّد المخلدي إملاء قال: أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن يحيى بن أحمد المذكر قال: حدّثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي قال: صلّيت خلف أبي عارم- أي النعمان- فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع، فقلت ما هذا؟ فقال: صليت خلف حماد بن زيد فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع، فقلت له: ما هذا؟ فقال: صليت خلف أيوب السجستاني فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع، فقلت له: ما هذا؟ قال: صلّيت الى جنب عطاء بن أبي رياح فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع، فقلت له: ما هذا؟ قال: صليت خلف أبي بكر الصديق فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع، فقلت له: ما هذا؟ قال: صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع.
وأنبأني عقيل قال: أخبرنا المعافى قال: أخبرنا ابن جرير قال: حدّثنا أبو كريب قال:
حدّثنا وكيع عن إسرائيل عن جابر عن أبي جعفر فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال: يرفع يديه أول ما يكبّر في الافتتاح الى النحر.
وأخبرنا محمد بن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفراء قال: يقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أي أستقبل القبلة بنحرك، سمعت بعض العرب يقول: منازلنا تتناحر، أي هذا ينحر هذا، أي قبالته، وأنشدني بعض أسد:
__________
(1) سورة المؤمنون: 76.
(2) كنز العمال: 2/ 557، ح 4721، وتاريخ بغداد: 14/ 422.(10/312)
أبا حكم هل أنت عم مجالد ... وسيّد أهل الأبطح المتناحر «1»
أي ينحر بعضه بعضا، وإليه ذهب الضحاك والكلبي،
وقال واصل بن السائب: سألت عطاء عن قوله سبحانه وَانْحَرْ قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدوا نحره
، سليمان التيمي: يعني وأرفع يديك بالدعاء الى نحرك، ذو النون: أي أذبح هواك في قلبك.
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ يعني أن عدوك ومبغضك هو الأقل الأذلّ المنقطع دابره، نزلت في العاص بن وائل، وقال شمر بن عطية: هو عقبة بن أبي معيط، وقال عكرمة عن ابن عباس:
نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من قريش، وذلك أنه لما قدم كعب مكّة قالت له قريش:
نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيّد أهل المدينة فنحن خير أم هذا الصنبور المنبتر من قومه؟
فقال: بل أنتم خير منه. فنزلت في كعب أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ «2» الآية ونزلت في الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أبتر.
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ يعني المنقطع من كل خير، قال الجنيد: المنقطع عن بلوغ أمله فيك.
__________
(1) لسان العرب: 5/ 197.
(2) سورة آل عمران: 23.(10/313)
سورة الكافرون
مكية. وهي أربعة وتسعون حرفا، وست وعشرون كلمة، وست آيات
أخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: أخبرنا أبو عمر الحرشي قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدّثنا يعقوب بن حميد قال: حدّثنا إسماعيل بن داود عن سليمان بن بلال عن أبي جبير عن الحكم بن عبد الله بن سعد أن محمد ابن سعيد بن جبير بن مطعم حدّثهم أنه سمع جبير بن مطعم يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أتحب يا جبير أن تكون إذا خرجت سفرا من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زادا» ؟ قال: قلت:
نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: «فأقرأ بهذه السور: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وإِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وأفتح قراءتك ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» [281] «1» قال: فقال جبير: وكنت غنيا كثير المال وكنت أخرج مع من شاء الله أن أخرج معه في السفر فأكون أبذّهم هيئة وأقلّهم زادا فما زالت منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأتهن أكون من أحسنهم هيئة وأكثرهم زادا حتى أرجع من سفري ذلك «2» .
وأخبرنا أبو العباس السليطي قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدثنا أحمد بن يوسف قال:
حدثنا عبد الرزاق ومحمد بن يوسف قالا: حدّثنا سفيان عن أبي إسحاق عن فروة بن نوفل الأشجعي يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل: «اقرأ عند منامك قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فإنها براءة من الشرك» [282] «3» .
وأخبرنا أحمد بن أبي قال: أخبرنا منصور بن محمد قال: حدّثنا محمد بن أيوب قال:
حدّثنا القصيني قال: حدّثنا سلمة بن وردان قال سمعت أنسا يقول: قال صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ربع القرآن» [283] «4» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 224، مجمع الزوائد: 10/ 133، وفيه افتتح كلّ سورة، بدل أفتتح قراءتك.
(2) مسند أبي يعلى: 13/ 414.
(3) تفسير مجمع البيان: 10/ 462.
(4) مجمع الزوائد: 7/ 148.(10/314)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
وأخبرنا محمد بن القاسم قال: حدّثنا محمد بن زيد المعدل قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال: حدّثنا محمد بن منصور قال: حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:
حدّثني أبي عن مخالد عن الحجاج بن عبد الله عن أبي الجليل عن زر عن أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فكأنما قرأ ربع القرآن، وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرئ من الشرك ويعافى من الفزع الأكبر» [284] «1» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا صبيانكم فليقرءوها عند المنام فلا يعرض لهم شيء» [285] .
وقال ابن عباس: ليس في القرآن سورة أشد لغيظ إبليس من هذه السورة لأنها توحيد وبراءة من الشرك.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ الى آخر السورة
نزلت في رهط من قريش منهم الحرث بن قيس السهمي والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب بن أسد وأميّة بن خلف قالوا: يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك في أمرنا كلّه تعبد آلهتنا سنة ونعبد الهك سنة فأن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وأن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه، فقال: «معاذ الله أن أشرك به غيره» [286] «2» .
فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك فقال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي فانزل الله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ الى آخر السورة فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فيئسوا عنه عند ذلك وآذوه وآذوا أصحابه.
وأما وجه تكرار الكلام فأن معنى الآية لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ في الحال وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ في الحال وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ في الاستقبال وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ في الاستقبال وهذا خطاب لمن سبق في علم الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، وقال أكثر أهل المعاني:
نزل القرآن بلسان العرب وعلى مجاري خطابهم ومن مذاهبهم التكرار إرادة التوكيد والإفهام،
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 462.
(2) أسباب نزول الآيات: 307، تفسير مجمع البيان: 10/ 463.(10/315)
كما أن مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز لإن إتيان المتكلّم والخطيب وخروجه من شيء الى شيء آخر أفضل من اقتصاره في المقام على شيء واحد، قال الله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «1» وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ «2» في غير موضع من سورة واحدة وقال سبحانه:
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ «3» وقال: تعالى وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ «4» وقال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً «5» كل هذا أراد به التأكيد، ويقول القائل: ارم ارم، عجّل عجل، ومنه
الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر ذات يوم فقال: «إن بني مخزوم استأذنوا أن ينكحوا فتاتهم عليا فلا آذن ثم لا آذن، لأنّ فاطمة بضعة مني يسرّها ما يسرّني ويسوءها ما يسوءني» [287] .
ومنه قول الشاعر:
هلا سألت جموع كندة ... يوم ولوا أين أينا «6»
وقال آخر:
يا علقمه يا علقمه يا علقمه ... خير تميم كلّها وأكرمه «7»
وقال آخر:
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيان «8»
ثم قال في عدة أبيات من هذه القصيدة:
لقحت حرب وائل عن حيان
وأنشدني أبو القاسم بن حبيب قال: أنشدني أبو القاسم عبد الرحمن بن المظفر الأنباري قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن أحمد بن القاسم الأنباري لبعض نساء الإعراب.
يقول رجال زوجها لعلها ... تقر وترضى بعده بحليل
فأخفت في النفس التي ليس دونها ... رجاء وان الصدق أفضل قيل
أبعد ابن عمي سيد القوم مالك ... أزفّ الى بعل ألدّ كليل
__________
(1) سورة الرحمن.
(2) سورة المرسلات: 15.
(3) سورة النبأ: 4- 5.
(4) سورة الانفطار: 17. [.....]
(5) سورة الشرح: 5- 6.
(6) تفسير القرطبي: 20/ 227.
(7) فتح القدير: 5/ 507.
(8) لسان العرب: 7/ 82.(10/316)
وحدّثني أصحابه أن مالكا ... أقام ونادى صحبه برحيل
وحدّثني أصحابه أن مالكا ... صروم كماضي الشفرتين صقيل
وحدّثني أصحابه أن مالكا ... جواد بما في الرحل غير بخيل
وقال القتيبي: وفيه وجه آخر وهو أنّ قريشا قالوا: إن سرّك أن ندخل في دينك عاما فأدخل في ديننا عاما فنزلت هذه السورة، فتكرار الكلام لتكرار الوقت، وقال: فيه وجه آخر وهو أن القرآن نزل شيء بعد شيء وآية بعد آية فكأنهم قالوا اعبد آلهتنا سنة فقال الله سبحانه: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ثم قالوا بعد ذلك: استلم بعض آلهتنا فانزل الله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ الشرك وَلِيَ دِينِ الإسلام.
وهذه الآية منسوخة بآية السيف، وقرأ أهل المدينة وعيسى بن عمر وَلِيَ دِينِ بفتح الياء ومثله روى حفص عن عاصم وهشام عن أهل الشام، غيرهم بجزمه وأبو حاتم بجر.(10/317)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
سورة النصر
مدنيّة وهي سبعة وتسعون حرفا، وست عشر كلمة، وثلاث آيات
أخبرني أبو الحسين الحياري عن مرة قال: أخبرنا الإمام أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني وأبو الشيخ الحافظ الأصبهاني قالا: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أبي شريك قال: حدّثنا أبو عبد الله اليربوعي قال: حدّثنا سلام قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفتح فكأنما شهد مع محمد فتح مكّة» [288] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ على من عاداك وناوأك وَالْفَتْحُ قال يمان: فتح المدائن والقصور، وقال عامة المفسرين: فتح مكة،
وكانت قصته على ما ذكره محمد بن إسحاق بن بشار والعلماء من أصحاب الأخبار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح قريش عام الحديبية كان فيما اشترطوا أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بينهما شرّ قديم، وكان السبب الذي هاج ما بين بكر وخزاعة أن رجلا من الحضرمي يقال له مالك بن عماد خرج تاجرا، فلما توسّط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزين الديلي وهم من أشراف بكر فقتلوه بعرفة عند أنصاب الحرم، فبينا بكر وخزاعة على ذلك من الشر حجز بينهم الإسلام وتشاغل الناس به، فلما كان صلح الحديبيّة ووقعت تلك الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم بأولئك النفر الذين أصابوا منهم بني الأسود بن رزين، فخرج نوفل بن معونة الديلي في بني الديل، وهو يومئذ قائدهم حتى بيّت خزاعة وهم على الوتير- ماء لهم بأسفل مكة-، فأصابوا
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 466.(10/318)
منهم رجلا وتحاوروا واقتتلوا، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا حتى جاوزوا خزاعة الى الحرم، وكان ممن أعان من قريش بني بكر على خزاعة ليلتين بأنفسهم مشتركين صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ومع عبيدهم قالوا: فلما انتهوا الى الحرم قالت بنو بكر: يا نوفل إنا دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: أنه لا إله اليوم [يا بني بكر] أصيبوا ثأركم فيه فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه «1» .
فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا الى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ودار مولى لهم يقال له رافع، فلما تظاهرت قريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد لما استحلّوا من خزاعة، وكانوا في عقدة، خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك مما هاج فتح مكة فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس فقال لهم: إني بايعت محمدا وذكر الأبيات كما ذكرها في سورة التوبة الى قوله:
هم بيتونا بالوتير هجّدا ... فقتلونا ركعا وسجدا «2»
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد نصرت يا عمرو بن سالم، ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء فقال: «إن هذه السحابة لتستهلّ بنصر بني كعب» [وأمر رسول الله الناس بالجهاز وكتمهم مخرجه] » .
وقد قال حسن: بلغه إسلام أم هاني بنت أبي طالب وأسمها هند:
أشاقتك هند أم ناك سؤالها ... كذاك النوى أسبابها وانفتالها «3»
القصيدة.
قال ابن إسحاق، وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف من بني غفار أربعمائة ومن أسلم أربعمائة ومن مزينة ألف ومن بني سلم سبعمائة ومن جهينة ألف وأربعمائة رجل وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم وقيس واسد.
قالوا: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشر ليلة يقصر الصلاة، ثم خرج الى هوازن وثقيف وقد نزلوا حنين.
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً زمرا وأرسالا «4» القبيلة بأسرها، والقوم بأجمعهم من غير قتال.
__________
(1) تاريخ الطبري: 2/ 324.
(2) تاريخ الطبري: 2/ 325.
(3) تاريخ الطبري: 2/ 340، والبداية والنهاية: 4/ 318.
(4) الأرسال: فرقة بعد فرقة واحدها: رسل.(10/319)
قال الحسن: لمّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قالت العرب بعضها لبعض: أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم وقد كان الله سبحانه أجارهم من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان، فكانوا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً
، وقال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن،
قال ابن عباس وأبو هريرة:
لما نزلت هذه السورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» [289] «1» وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا محمد بن مصفر قال: حدّثنا بقيّة بن الوليد قال: حدّثنا الأوزاعي قال: حدّثنا شدّاد أبو عمار قال: حدّثني جار لجابر قال: غدا جابر ليسلم عليّ فجعل يسألني عن حال الناس فجعلت أخبره نحوا مما رأيت من اختلافهم وفرقتهم فجعلت أخبره وهو يبكي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أن الناس دخلوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً وسيخرجون من دين الله أفواجا» [290] «2» .
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً فأنك حينئذ لاحق به وذائق الموت كما ذاق من قبلك من الرسل، وعند الكمال يرتقب الزوال كما قيل.
إذا تم أمر «3» نقصه ... توقع زوالا إذا قيل تم «4»
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فقال عبد الرحمن بن عوف: أتأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله، فقال: إنه ممن قد علمتم، قال ابن عباس: فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله سبحانه:
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ الآية ولا أراه سألهم إلّا من أجلي، فقال بعضهم: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه، فسألني فقلت: ليس كذلك ولكن أخبر نبي الله صلى الله عليه وسلم بحضور أجله ونعيت إليه نفسه، فذلك علامة موته. فقال عمر: ما أعلم منها إلّا مثل ما تعلم، ثم قال:
كيف تلومونني عليه بعد ما ترون «5» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر المطيري قال: حدّثنا ابن فضل قال: حدّثنا عطاء عن سعيد عن ابن عباس قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعيت إليّ نفسي» بأنّه مقبوض في تلك السنة [291] «6»
، وقال مقاتل وقتادة: عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين.
__________
(1) موارد الظمآن: 572، وفيه: الله أكبر الله أكبر.
(2) مسند أحمد: 3/ 343.
(3) في المصدر: بدا.
(4) تفسير مجمع البيان: 10/ 467.
(5) مسند أحمد: 1/ 338، بتفاوت بسيط. [.....]
(6) مسند أحمد: 1/ 217.(10/320)
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا علي بن حرب قال:
حدّثنا أبو عامر العقدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي عبدة عن عبد الله قال: لما نزلت فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول «سبحانك اللهم وبحمدك «1» أغفر لي إنك أنت التواب» [292] «2» .
وأخبرنا عبد الله قال: أخبرني مكي قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن يموت: «سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك» فقلت: يا رسول الله ما هؤلاء الكلمات التي أراك قد أحدثتها بقولها؟ قال: «جعلتها علامة في أمتي «3» أذا رأيتها قلتها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» [293] «4» الى آخر السورة.
وبه عن ابن هاشم قال: حدّثنا عبد الله بن نمير قال: أخبرنا الأعمش عن مسلم وهو ابن صبيح عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ الى آخرها ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة ألا قال: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم أغفر لي» [294] «5» .
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال: حدّثنا حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن الشعبي عن أم سلمة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم بآخره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال: «سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» فقلنا: يا رسول الله لا تقوم ولا تقعد ولا تجيء ولا تذهب إلا قلت: سبحان الله أستغفر الله وأتوب إليه قال: «فإني أمرت بها» [295] «6» ثم قرأ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حتى ختمها.
وقال: مقاتل: لما نزلت هذه الآية قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وفيهم أبو بكر وعمر وسعيد بن أبي العاص ففرحوا واستبشروا، وسمعها العباس فبكى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يبكيك يا عم» قال: نعيت إليك نفسك قال: «إنه لكما تقول» [296] «7» فعاش بعدها سنتين ما رئي فيهما ضاحكا مستبشرا
، وهذه السورة تسمّى سورة التوديع.
__________
(1) في المصدر: اللهم اغفر.
(2) مسند أحمد: 1/ 434.
(3) في المصدر: جعلت لي علامة لأمّتي.
(4) كنز العمّال: 2/ 561، ح 4731.
(5) مسند أحمد: 6/ 230.
(6) جامع البيان للطبري: 30/ 435.
(7) تفسير القرطبي: 20/ 232.(10/321)
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا محمد بن عمران قال:
حدّثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب قال: حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان قال: حدّثني أبي عن عكرمة عن ابن عباس قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين فنزل عليه إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ السورة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي ويا فاطمة بنت محمد قد جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً سبحان ربي وبحمده وأستغفره إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ويا علي بن أبي طالب إنه يكون من بعدي في المؤمنين الجهاد» ، فقال على ما نجاهد المؤمنين الذين يقولون آمنا؟ قال: «على الإحداث في الدين إذا عملوا بالرأي، ولا رأي في الدين إنّما الدين من الرب أمره ونهيه» .
فقال علي: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت إن عرض لنا أمر لم يبيّن الله فيه قرآنا ولم ينصّ فيه سنّة منك؟ قال: «تجعلونه شورى بين العابدين «1» ولا تقضون برأي خاصة ولو كنت مستخلفا أحدا لم يكن أحد أحق منك لقدمك في الإسلام وقرابتك من رسول الله وصهرك وعندك فاطمة سيدة نساء المؤمنين، وقبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب إياي حين نزل القرآن فأنا حريص على أن أرعى ذلك في ولده» [297] «2» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا أحمد بن منصور المروزي أبو صالح قال: حدّثني أحمد بن المصعب المروزي قال: حدّثنا عمر بن إبراهيم قال: حدّثنا عيسى ابن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ جاء العباس الى علي رضي الله عنه فقال: أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان هذا الأمر من بعده لنا لم تشاحنا عليه قريش، وإن كان للغير سألته الوصاة بنا، قال: سأفعل، قال: فدخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرّا فذكر ذلك له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عباس يا عم رسول الله إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله سبحانه ووحيه فاسمعوا له تفلحوا وأطيعوه ترشدوا» [298] «3» .
قال ابن عباس: فقعدوا والله فرشدوا.
__________
(1) في المصدر: من المؤمنين.
(2) مجمع الزوائد: 1/ 180، المعجم الكبير: 11/ 295. بتفاوت بسيط.
(3) كنز العمّال: 11/ 550، ح 32586.(10/322)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)
سورة تبت (المسد)
مكية، وهي سبعة وسبعون حرفا، وعشرون كلمة، وخمس آيات
أخبرنا الحراثي قال: حدّثنا أبو الشيخ الحافظ قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة تبّت رجوت أن لا يجمع الله سبحانه بينه وبين أبي لهب في دار واحدة» [299] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3)
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا عبد الله بن نمير قال: حدّثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أنزل الله سبحانه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «2» أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى: يا صباحاه، فاجتمع إليه الناس بين رجل يجيء وبين رجل يبعث رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني عدي أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذ الجبل يريد أن تغير عليكم صدّقتموني؟» قالوا: نعم، قال: «فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» [300] «3» فقال أبو لهب: تبا لكم سائر هذا اليوم، وما دعوتموني إلا لهذا؟ فأنزل تَبَّتْ أي خابت وخسرت، يَدا أَبِي لَهَبٍ أي تب
هو أخبر عن يديه والمراد به نفسه على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كلّه كقوله سبحانه: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «4»
و
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 474.
(2) سورة الشعراء: 214.
(3) تفسير جامع البيان للطبري 19/ 147 وصحيح البخاري: 3/ 190. [.....]
(4) سورة الشورى: 30.(10/323)
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ «1» ونحوها، وقيل: اليد صلة يقول العرب: يد الدّهر ويد الرزايا والمنايا، قال الشاعر:
لما أكبّت يد الرزايا ... عليه نادى ألا مجير «2»
وقيل: المراد به ماله وملكه يقال: فلان قليل ذات اليد، يعنون به المال.
والتباب الخسار والهلاك، سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت محمد بن مسعود السوري قال: سمعت نفطويه قال: سمعت المنقري عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال:
لما قتل عثمان رضي الله عنه سمعوا صوت هاتف من الجن يبكي.
لقد خلّوك وانصرفوا ... فما عطفوا «3» ولا رجعوا
ولم يوفوا بنذرهم ... فتبّا للذي «4» صنعوا «5»
وأبو لهب هو ابن عبد المطلب واسمه عبد العزي فلذلك لم يسمّه، وقيل اسمه كتيبة، قال: مقاتل كنّي أبا لهب لحسنه وإشراق وجهه، وكانت وجنتاه كأنهما تلتهبان.
وَتَبَّ أبو لهب الواو فيه واو العطف، وقرأ عبد الله وأبي (وقد تب) فالأول دعاء والثاني كما يقال غفر الله لك، وقد فعل وأهلكه الله وقد فعل، والواو فيه واو الحال.
وقراءة العامة أَبِي لَهَبٍ بفتح الهاء، وقرأ أهل مكة بجزمها، ولم يختلفوا في قوله:
ذاتَ لَهَبٍ أنه مفتوح الهاء لأنهم راعو فيه رءوس الآي.
أخبرنا الحسين بن محمد قال: حدّثنا السني قال: حدّثنا حامد بن محمد بن شعيب البلخي قال: حدّثنا شريح بن يونس قال: حدّثنا هشيم قال: أخبرنا منصور عن الحكم عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: لما خلق الله القلم قال: أكتب ما هو كائن فكتب فمما كتب: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ.
وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن قال: أخبرنا أبو الطيب محمد بن عبد الله ابن المبارك الثعيري قال: حدّثنا محمد بن أشرس السلمي قال: حدّثنا عبد الصمد بن حسان المروّالروذيّ عن سفيان عن منصور قال: سئل الحسن عن قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ هل كان في أم الكتاب وهل كان يستطيع أبو لهب أن لا يصلى النار؟ فقال الحسن: والله ما كان يستطيع أن لا يصليها وإنها لفي كتاب الله قبل أن يخلق أبو لهب وأبواه «6» .
__________
(1) سورة البقرة: 95.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 236، وفتح القدير: 5/ 511.
(3) في المصدر: آبوا.
(4) في المصدر: فيا تبّا لما.
(5) تفسير القرطبي: 20/ 235.
(6) تفسير القرطبي: 20/ 237.(10/324)
ويؤيد هذا ما
أخبرنا أبو طاهر بن خزيمة في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال:
أخبرنا جدّي أمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدّثنا محمد بن يحيى قال:
حدثنا معاوية بن عمرو قال: حدثنا زائدة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت الذي خلقك الله سبحانه بيده ونفخ فيك من روحه أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: وأنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه تلومني على عمل أعمله كتبه الله عليّ قبل أن يخلق السموات والأرض، قال: فحج آدم موسى» [301] «1» .
وأخبرنا محمد بن الفضل قال: أخبرنا جدي قال: حضر مجلس إسحاق بن إبراهيم وأنا على نمير الركاب فقرأ علينا قال: أخبرنا النظر بن شميل قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن عمار ابن أبي عمار مولى بني هاشم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقي موسى آدم فقال: أنت آدم الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته فأخرجت ولدك من الجنة، قال له: يا موسى أنت الذي اصطفاك برسالته وكلّمك، فأنا أقدّم أم الذكر؟ قال: الذكر، فحجّ آدم موسى فحج آدم موسى» [302] «2» .
وأخبرنا محمد بن الفضل قال: أخبرنا جدّي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد الزهري قال:
حدّثنا سفيان قال: حدّثنا أبو الزياد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنة قال: آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدّره الله تعالى قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدم موسى فحج آدم موسى» [303] «3» .
ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ
قال: ابن مسعود: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرباءه الى الله سبحانه قال أبو لهب لأصحابه: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأني أفتدي نفسي وملكي وولدي، فأنزل الله سبحانه ما أَغْنى أي ما يغني، وقيل: أي شيء أغنى عَنْهُ مالُهُ من عذاب الله.
قال: أبو العالية: يعني أغنامه، وكان صاحب سائمة ومواش، وَما كَسَبَ: يعني ولده.
قرأ الأعمش (وما أكتسب) ، ورواه عن ابن مسعود.
أخبرنا الحسين بن محمد قال: حدّثنا أحمد بن حنبل قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 398.
(2) مسند ابن راهويه: 1/ 172، مسند ابن الجعد: 164، بتفاوت.
(3) صحيح البخاري: 7/ 214.(10/325)
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
معمر عن ابن خيثم عن أبي الطفيل قال: كنت عند ابن عباس يوما فجاء بنو أبي لهب يختصمون في شيء بينهم فاقتتلوا عنده في البيت فقام يحجز بينهم فدفعه بعضهم فوقع على الفراش فغضب ابن عباس فقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث، يعني ولده أنهم كسبة «1» .
دليل هذا التأويل ما
أخبرني ابن فنجويه [ ... ] «2» .
أبو حمزة قال: حدّثني عمارة بن عمير التميمي عن عمته سودة قال: قالت لعائشة آكل من مال ولدي فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أطيب ما أكل أحدكم «3» من كسبه وأن ولده من كسبه» [304] «4» .
سَيَصْلى هو سين سوف وقيل سين الوعد.
وقراءة العامة بفتح الياء الاولى وقرأ أبو رجاء بضم الياء، وقرأ شهب العقيلي بضم الياء وتشديد اللام.
ناراً ذاتَ لَهَبٍ.
[سورة المسد (111) : الآيات 4 الى 5]
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
وَامْرَأَتُهُ أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان، وكانت عوراء. حَمَّالَةَ الْحَطَبِ يقال: الحديث والكذب قال: ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: كانت تمشي بالنميمة، يقول العرب: فلان يحطب على فلان إذا ورشى «5» وأغزى، قال: شاعرهم:
من البيض لم يصطد «6» على ظهر لامة ... ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب «7»
يعني لم يمش بالنمائم، وقال آخر:
فلسنا كمن يرجى المقالة شطره ... يفرق العصاة الرطب والغيل اليبس «8»
وروى معمر عن قتادة قال: كانت تعيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر وكانت تحتطب فعيّرت
__________
(1) مستدرك الصحيحين: 2/ 539، وتفسير عبد الرزاق: 3/ 406.
(2) بياض في مصوّرة المخطوط.
(3) في المصدر الرجل بدل أحدكم.
(4) كنز العمال: 4/ 9، ح 9233. [.....]
(5) التوريش: التحريش.
(6) في المصدر: تصطه.
(7) لسان العرب: 1/ 322، تاج العروس: 1/ 217.
(8) كذا في المخطوط.(10/326)
بذلك، وهذا قول غير قوي، لأن الله سبحانه وصفهم بالمال والولد وحمل الحطب ليس بعيب، وقال: الضحاك وابن زيد: كانت تأتي بالشوك والعصاة فتطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعقرهم، وهي رواية عطية عن ابن عباس، قال الربيع بن أنس: كانت تنشر السعدان على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطؤه كما يطأ الحرير والفرند.
مرة الهمداني: كانت أم جميل تأتي كل يوم بإبالة من الحسك فتطرحه على طريق المسلمين فبينما هي ذات يوم حاملة حزمة أعيت فقعدت على حجر تستريح فأتاها ملك فحدّثها من خلفها فأهلكها.
وقال سعيد بن جبير: حمالة الخطايا. دليله قوله سبحانه: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «1» ، وقول العرب: فلان يحطب على ظهره إذا أساء، فلان حاطب قريته إذا كان الجاني فيهم، وفلان محطوب عليه إذا كان مجنيا عليه.
وقراءة العامة بالرفع فيهما وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم ولها وجهان: أحدهما: سَيَصْلى ناراً هو وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، والثاني: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ في النار أيضا.
وحجّة الرافعين ما أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيوب قال: أخبرنا علي ابن عبد العزيز قال: أخبرنا أبو عبيد قال: حدّثنا حجاج بن هارون قال: في قراءة عبد الله وامرأته حمالةُ للحطب، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محتضر والأعرج وعاصم حَمَّالَةَ بالنصب ولها وجهان: أحدهما الحال والقطع لأن أصله وامرأته الحمالة الحطب فلما ألقيت الألف واللام نصب الكلام، والثاني على الذم والشتم كقوله سبحانه: مَلْعُونِينَ «2» .
وروى ابن أبي الزياد عن أبيه قال: كان عامة العرب يقرءون حَمَّالَةَ الْحَطَبِ وقرأ أبو قلابة وامرأته حمالةُ الحطب على فاعله، والحطب جمع واحدتها حطبة.
وقال: بعض أهل اللغة: الحطب ها هنا جمع الحاطب وهو الجانب المذنب يعني أنّها كانت تحملهم بالنميمة على معاداته، ونظيره من الكلام راصد ورصد وحارس وحرس وطالب وطلب وغائب وغيب، والعلة في تشبيههم النميمة بالحطب هي أن الحطب يوقد ويضرم كذلك النميمة، قال: أكثم بن صيفي لبنيه: أياكم والنميمة فإنّها نار محرقة وأن النمام ليعمل في ساعة ما لا يعمل الساحر في شهر، فأخذه الشاعر فقال:
أن النميمة نار ويك محرقة ... فعد «3» عنها وحارب «4» من تعاطاها «5»
__________
(1) سورة الأنعام: 31.
(2) سورة الأحزاب: 61.
(3) في المصدر: ففر.
(4) في المصدر: وجانب.
(5) تفسير القرطبي: 20/ 239.(10/327)
ولذلك قيل: نار الحقد لا تخبوا.
والعلة الثانية: أن الحطب يصير نارا والنار سبب التفريق فكذلك النميمة، وأنشدني وأبو القاسم [الحبيبي] قال: أنشدني أبو محمد الهاراني الجويني قال:
إنّ بني الأدرم حمالو الحطب ... هم الوشاة في الرضا وفي الغضب «1»
عليهم اللعنة تترى والحرب «2» .
فِي جِيدِها عنقها، قال ذو الرمة:
فعينك عينها ولونك لونها ... وجيدك الا أنها غير عاطل «3»
وجمعها أجياد، قال: الأعمش:
وبيداء تحسب آرامها ... رجال إياد بأجيادها «4»
حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ اختلفوا فيه فقال ابن عباس وعروة بن الزبير: سلسلة من حديد ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً يدخل من فيها فيخرج من دبرها ويلوى سائرها في عنقها، وقال السدي: خلق الحديد وهي السلسلة تختلف في جهنم كما يختلف الحبل والدلو في البئر، وروى الأعمش عن مجاهد: من حديد، منصور عنه: المسد: الحديدة التي تكون في البكرة، ويقال له المحور، وإليه ذهب عطاء وعكرمة، الشعبي ومقاتل: من ليف، ضحاك وغيره: في الدنيا من ليف وهو الحبل الذي كانت تحطب به فخنقها الله تعالى به فأهلكها، وفي الآخرة من نار، قتادة: قلادة من ردع، الحسن: إنما كانت خرزات في عنقها، سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة في عنقها فاخرة فقالت لأنفقها في عداوة محمد، ابن زيد: حبال من شجر ينبت في اليمن يقال لها:
المسد وكانت تفتل، المروج من شهر الحرم والسلم والمسد في كلام العرب كل حبل غيروا أمر ليفا كان أو غيره، وأصله من المسد وهو الفتل، ودابة ممسودة الخلق إذا كانت شديدة الأسر، قال: الشاعر:
مسد أمر من أيانق ... ليس بأنياب ولا حقائق «5»
وجمعها أمساد قال: الأعشى:
تمسي فيصرف بابها من دوننا ... غلقا صريف محالة الأمساد «6»
__________
(1) فتح القدير: 5/ 512، وفيه: الرضا والغضب.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 239.
(3) جامع البيان للطبري: 30/ 443، وفيه: فعيناك عيناها.
(4) لسان العرب: 3/ 138.
(5) لسان العرب: 3/ 402. [.....]
(6) تفسير الطبري: 30/ 445.(10/328)
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد ابن ملجان البصري يقول: سمعت بشر بن موسى الأسدي يقول: سمعت الأصمعي يقول: صلّى أربعة من الشعراء خلف إمام اسمه يحيى فقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فيتعتع فيها فقال أحدهم:
أكثر يحيى غلطا ... في قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
فقال الثاني:
قام طويلا ساكتا ... حتى إذا أعيا سجد
فقال الثالث:
يزجر في محرابه ... زجير حبلى لولد
فقال الرابع:
كأنّما لسانه ... شدّ بحبل من مسد
وفي هذه السورة دلالة واضحة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن الله سبحانه أخبر عن مصير أبي لهب وامرأته الى النار وكانا من أحرص الناس على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يحملهما ذلك على اظهار الإيمان حتى يكذبا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل داما على كفرهما حتى علم أن وعيد الله سبحانه إياهما وإخباره عن مصيرهما إلى النار حق وصدق.(10/329)
سورة الإخلاص
مكية، وهي سبعة وأربعون حرفا، وخمس عشر كلمة، وأربع آيات
أخبرنا الإمام أبو بكر محمد بن الحسن الأصبهاني بقرائتي عليه قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال: حدّثنا يونس بن حبيب قال: حدّثنا أبو داود الطيالسي قال: حدّثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معد ابن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة» قلت: يا رسول الله ومن يطيق ذاك؟ قال: «اقرءوا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» [305] «1» .
وأخبرني أبو عبد الله الحسين محمد بن الفرج قال: حدّثنا محمد بن الزيرقان قال: حدّثنا مروان بن سالم عن أبي عمر مولى جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حين يدخل منزله نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل والجيران» [306] «2»
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن صقلاب قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا سعيد بن المغيرة قال: حدّثنا محمد بن مروان عن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مرة بورك عليه، ومن قرأها مرّتين بورك عليه وعلى أهله، فإن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى أهله وعلى جميع جيرانه، فإن قرأها اثنتي عشر مرة بني له اثنتي عشر قصرا في الجنة ويقول الحفظة: انطلقوا بنا ننظر الى قصر أخينا، فإن قرأها مائة كفّر عنه ذنوب خمس وعشرون سنة ما خلا الدماء والأموال، فإن قرأها أربع مائة مرة كفّرت عنه ذنوب أربعمائة سنة ما خلاء الدماء والأموال، فإن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه في الجنة أو يرى له» [307] «3» .
وأخبرنا أبو عمر وأحمد بن أبي الفراتي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب قال:
حدّثنا عبد الله بن جامع الحلواني قال: حدّثنا محمد بن العباس قال: حدّثنا عمر بن سعد العطار الفلزمي قال: حدّثنا ابن أبي ذئب قال: حدّثنا محمد بن غيلان عن أبي حازم عن سهل
__________
(1) مسند أحمد: 6/ 442.
(2) مجمع الزوائد: 10/ 128.
(3) بتمامه في تفسير مجمع البيان: 10/ 479.(10/330)
ابن سعد قال: جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الفقر وضيق المعاش فقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وان لم يكن فيه أحد فسلّم (عليّ) «1» وأقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مرة واحدة» [308] «2» ففعل الرجل فأدرّ الله عليه رزقا حتى أفاض على جيرانه.
وأخبرنا أبو الحسين عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم بن يحيى قال: حدّثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن بشر قال: حدّثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني قال: حدّثنا يزيد بن هارون قال: حدّثنا العلاء أبو محمد الثقفي قال: سمعت أنس بن مالك قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فطلعت الشمس بضياء وشعاع ونور لم أرها طلعت فيما مضى فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا جبريل مالي أرى الشمس اليوم طلعت بضياء ونور وشعاع لم أرها طلعت فيما مضى فقال: ذاك أن معاوية بن معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم فبعث الله سبحانه إليه سبعين ألف ملك يصلّون عليه قال: وفيم ذاك؟ قال: كان يكثر قراءة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ بالليل والنهار وفي ممشاه وقيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه قال: «نعم» [309] «3» فصلى عليه ثم رجع.
وأخبرنا أحمد بن أبي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن عيسى بن يزيد قال: حدّثنا سليمان بن داود المنقري قال: حدّثنا عبد العزيز بن محمد عن عبد الله بن عمر عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رجلا كان يصلي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يقرأ في الصلاة إلا قرأ في أثرها قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على لزومها» ؟ فقال: يا رسول الله، إني أحبها.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حبك إياها يدخلك الجنة» [310] «4» .
وأخبرنا ناقل بن راقم بن أحمد البابي قال: حدّثنا علي بن الحسن بن بختيار قال: حدّثنا أبو إبراهيم القطان قال: حدّثنا عثمان بن عبد الله القرشي قال: حدّثنا سلمة بن سنان عن محمد ابن المنكدر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نزل ملك من السماء السابعة وخرج من الأرض السابعة ملك فالتقيا على هذه الأرض فقال الذي نزل من السماء: قد رفعت اليوم عملا لم أرفع مثله، قال: الذي خرج من تحت الأرض: ما ذاك؟ قال: قرأ رجل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مائة مرة قال:
ما صنع به؟ قال: غفر الله له» [311] .
وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال:
__________
(1) غير موجودة في المصدر.
(2) تفسير نور الثقلين: 5/ 705.
(3) مجمع الزوائد: 9/ 377.
(4) سنن الترمذي: 4/ 243، بتفاوت بسيط.(10/331)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
حدّثنا محمد بن الأزهر قال: حدّثنا أبو عامر العقدي عن مالك بن أنس عن عبد الله بن عبد الرحمن عن ابن جبير عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال:
«وجبت» قيل: يا رسول الله وما وجبت؟ قال: «وجبت له الجنة» [312] «1» .
وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن الدشت قال:
حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسن بن قريش قال: حدّثنا معاذ بن يوسف التاجر قال: حدّثنا مسدد ابن مسرهد قال: حدّثنا حمدان بن رزام قال: حدّثنا محمد بن عبد الله عن مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مرة واحدة أعطاه الله من الثواب ما يحمل ثوابه سبعين قنطارا من ياقوت فيفوح منه الروح يحملون كتبه كتبا واحدا أشد تقرطا من شعر الزنجي وأرق من الشعر» [313] .
وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: أخبرنا أبو حسان العثماني قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال: حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال:
حدثنا ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ابن كعب قال: سئل النبي (عليه السلام) عن ثواب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال: «من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تناثر الخير على مفرق رأسه من عنان السماء، ونزلت عليه السكينة وتغشّاه الرحمن وازدوي حول العرش، ونظر الله سبحانه إلى قارئها فلا يسأله شيء إلا أعطاه إياه ويجعله في كلائه وحرزه» [314] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
أخبرنا الشيخ أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزكى قال: أخبرنا الإمام أبو بدر محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا أحمد بن منيع ومحمود بن خداش قالا: حدثنا أبو سعد الصغاني قال: حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله (عليه السلام) : انسب لنا ربك، فأنزل الله سبحانه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ الى آخر السورة.
وروى أبو ضبيان وأبو صالح عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر: الى ما تدعونا يا محمد؟ قال: «الى الله سبحانه» فقالا: صفه لنا، أذهب
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 302.(10/332)
هو أم فضة أم حديد أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة، فأرسل الله سبحانه الصاعقة إلى أربد فأحرقته وطعن عامر في خنصره فمات، وقد ذكرت قصتهما في سورة الرعد.
وقال الضحاك وقتادة ومقاتل: جاء ناس من أحبار اليهود الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد صف لنا ربّك لعلنا نؤمن بك فإن الله أنزل نعته في التوراة فأخبرنا به من أي شيء هو من أي جنس أمن ذهب هو أو نحاس أم صفر أم حديد أم فضة؟ وهل يأكل ويشرب؟ وممّن ورث الدنيا؟ ومن يورثها؟ فأنزل الله سبحانه هذه السورة وهي نسبة الله خاصة.
وأخبرني عقيل أن أبا فرج البغدادي أخبرهم عن أبي جعفر الطرفي قال: حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا سلمة قال: حدّثني ابن إسحاق عن محمد بن سعيد قال: أتى رهط من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلقه؟ فغضب النبي حتى امتقع لونه ثم ساورهم غضبا لربه، فجاءه جبرائيل فسكّنه وقال: أخفض عليك جناحك يا محمد، وجاءه من الله سبحانه بجواب ما سألوه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ السورة، فلما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له:
صف لنا ربك كيف خلق وكيف عضده وذراعه؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأوّل وساورهم، فأتاه جبرائيل فقال: له مثل مقالته وأتاه بجواب ما سألوه ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» .
وقال الضحاك عن ابن عباس: إنّ وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أساقفة من بني الحرث بن كعب فيهم السيد والعاقب، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: صف لنا ربك من أي شيء هو؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ ربي ليس من شيء وهو بائن من «2» الأشياء» [315] فأنزل الله سبحانه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أي واحد.
ولا فرق بين الواحد والأحد عند أكثر أصحابنا يدل عليه قراءة عبد الله قُلْ هُوَ اللَّهُ [ ... ] «3» .
وفرق قوم بينهما فقال بعضهم: الواحد للفصل والأحد للغاية، وقيل: واحد بصفاته أحد بذاته، وقيل: إنّ الواحد يدلّ على أزليته وأوّليته، لأنّ الواحد في الأعداد ركنها وأصلها وميدانها، والأحد يدل على بينونته من خلقه في جميع الصفات، ونفي أبواب الشرك عنه، فالأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد، والواحد أسم لمفتتح العدد، فأحد صلح في الكلام في موضع الجحود، والواحد في موضع الإثبات تقول: لم يأتني منهم أحد وجاءني منهم واحد،
__________
(1) سورة الزمر: 67.
(2) في سبل الهدى للشامي (3/ 396) : وهو بائن خالق الأشياء.
(3) بياض في مصوّرة المخطوط.(10/333)
فالمعنى أنه لم يأتني اثنان، وقال ابن الأنباري: أجد في الأصل واحد كما قالوا للمرأة أناة والأصل وناة من الوني وهو الفتور قال الشاعر:
رمته أناة من ربيعة عامر ... نؤوم الضحى في مأتم أي مأتم «1»
وقال النابغة في الواحد:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنس وحد «2»
سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزاز يقول: سمعت ابن عطاء يقول في قوله سبحانه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ: هو المنفرد بإيجاد المفقودات والمتّحد بإظهار الخفيّات.
وقراءة العامة أَحَدٌ بالتنوين، وقرأ الحسن ونصر بن عاصم وابن إسحاق وأبان بن عثمان وهارون بن عيسى أحدُ الله بلا تنوين طلبا للخفة وفرارا من التقاء الساكنين كقراءة من قرأ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ «3» بغير تنوين.
وأما قوله: اللَّهُ الصَّمَدُ فأختلفوا فيه فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير:
الذي لا جوف له، وأما سعيد بن المسيب: الذي لا حشو له، الشعبي: الذي لا يأكل ولا يشرب، وإليه ذهب الفرضي، وقيل: يفتره ما بعده.
أخبرنا محمد بن الفضل قال: أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا أحمد بن منبع ومحمود بن خراش قال: حدّثنا أبو سعد الصعالي قال: حدّثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب قال: الصَّمَدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت وليس يرث إلا سيورث وأن الله لا يموت ولا يورث.
وقال أبو وائل شفيق بن سلمة: وهو السيّد الذي قد انتهى سؤدده، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع الشرف والسؤدد.
غيره: هو السيد المقصود في الحوائج، يقول العرب: صمّدت فلانا أصمده وأصمده صمدا بسكون الميم إذا قصدته، والمصمود صمد كالقبض والنفض، ويقال: بيت مصمود ومصمّد إذا قصده الناس في حوائجهم قال طرفة:
وأن يلتقي الحي الجميع تلاقني ... الى ذروة البيت الرفيع المصمد «4»
__________
(1) الصحاح: 5/ 1857.
(2) تاج العروس: 7/ 261. [.....]
(3) سورة التوبة: 30.
(4) تفسير مجمع البيان: 10/ 483.(10/334)
وأنشد الأئمة في الصمد:
ألا بكر الناعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد «1»
وقال قتادة: الصَّمَدُ: الباقي بعد خلقه، عاصم ومعمر: هو الدائم،
علي بن موسى الرضا:
هو الذي أيست العقول عن الإطلاع على كيفيته
، محمد بن علي الترمذي: هو الأزلي بلا عدد، والباقي بلا أمد، والقائم بلا عمد، الحسين بن الفضل: هو الأزلي بلا أبتداء، وقيل: هو الذي جلّ عن شبه المصورين وقيل: هو بمعنى نفي التجزؤ والتأليف عن ذاته، ميسرة: المصمت، ابن مسعود: الذي ليست له أحشاء،
أبو إسحاق الكوفي عن عكرمة: الصَّمَدُ الذي ليس فوقه أحد، وهو قول علي عليه السّلام.
السدي: هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب، يمان: الذي لا ينام، كعب الأحبار: الذي لا يكافئه من خلقه أحد. ابن كيسان: الذي لا يوصف بصفته أحد، مقاتل ابن حيان: الذي لا عيب فيه، ربيع: الذي لا تعتريه الآفات، سعيد بن جبير أيضا: الكامل في جميع صفاته وأفعاله، الصادق: وهو الغالب الذي لا يغلب، أبو هريرة: المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد، مرّة الهمداني: الذي لا يبلى ولا يغنى، الحسين بن الفضل أيضا: هو الذي يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ويَفْعَلُ ما يَشاءُ ... لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ولا راد لقضائه.
محمد بن علي: الصَّمَدُ: الذي لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ولا تحويه الأفكار ولا تبلغه الأقطار وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ.
ابن عطاء: الصَّمَدُ: الذي لم يتبيّن عليه أثر فيما أظهر،
جعفر: الذي لم يعط لخلقه من معرفته الا الاسم والصفة
، جنيد: الذي لم يجعل لأعدائه سبيلا الى معرفته، وقيل: هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته وصفاته فلا يتسع له اللسان ولا يشير إليه البيان، ابن عطاء: هو المتعالي عن الكون والفساد، وقال الواسطي: الذي لا يسحر ولا يستغرق ولا تعترض عليه القواطع والغلل.
وقال جعفر أيضا: الصَّمَدُ خمس حروف: فالألف دليل على أحديّته، واللام دليل على إلهيته وهما مدغمان لا يظهران على اللسان ويظهران في الكتابة، فدلّ على أحديته وإلهيّته خفية لا يدرك بالحواس، وأنّه لا يقاس بالناس فخفاءه في اللفظ دليل على أن العقول لا تدركه ولا تحيط به علما، وإظهاره في الكتابة دليل على أنه يظهر على قلوب العارفين، ويبدو لأعين المحبين في دار السلام، والصاد دليل على صدقه، فوعده صدق وقوله صدق وفعله صدق ودعا عباده الى الصدق، والميم دليل على ملكه فهو الملك على الحقيقة، والدال علامة دوامه في أبديته وأزليته.
__________
(1) لسان العرب: 3/ 258.(10/335)
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أختلف القراء فيه، فقرأ حمزة ويعقوب ساكنة الفاء مهموزة ومثله روى العباس عن أبي عمرو وإسماعيل عن نافع، وقرأ شيبة مشبعة غير مهموزة ومثله روى حفص عن عاصم، وقرأ الآخرون مثقلا مهموزا وكلّها لغات صحيحة فصيحة ومعناه المثل.
أَحَدٌ أي هو واحد، وقيل: على التقديم والتأخير مجازه: ولم يكن له أحد كفوا.
وقال عبد خير: سأل رجل علي بن أبي طالب عليه السّلام عن تفسير هذه السورة قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ بلا تأويل عدد، اللَّهُ الصَّمَدُ لا يتبعض بدد، لَمْ يَلِدْ فيكون هالكا، وَلَمْ يُولَدْ فيكون إلها مشاركا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ من خلقه كُفُواً أَحَدٌ [316] «1» .
وأخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي بقراءتي قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: وجدنا أنواع الشرك ثمانية: النقص والتقلّب والكثرة والعدد وكونه علّة أو معلولا، والأشكال والأضداد، فنفى الله تعالى عن صفته نوع الكثرة والعدد بقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ونفى التنقّص والتقلّب بقوله: اللَّهُ الصَّمَدُ ونفى العلل والمعلول بقوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ونفى الأشكال والأضداد بقول: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ فحصلت الوحدانية البحت لذلك سمّيت سورة الإخلاص.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 489.(10/336)
(
سورة الفلق والناس [المعوذتين] )
سورة الفلق
مدنية، وهي أربع وسبعون حرفا، وثلاث وعشرون كلمة، وخمس آيات
أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال: أخبرنا مكي بن عيدان قال: حدّثنا سليمان بن داود قال: حدّثنا أحمد بن نصر قال: حدّثنا أبو معاذ عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم عن زيد العمي عن أبي نصرة عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ المعوذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلّها» [317] «1» .
وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد العدل قال: حدّثنا أبو العباس محمد ابن يعقوب قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مريد قال: أخبرني أبي قال: حدّثنا الأوزاعي قال:
حدّثني يحيى بن أبي كثير قال: حدّثني محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوذت» «2» قلت: بلى، قال: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» [318] «3» .
وأخبرنا الحباري قال: حدّثنا ابن عدي قال: حدّثنا إبراهيم بن رحيم قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا هشام بن الغانم عن يزيد بن يزيد بن جابر عن القاسم أبي عبد الرحمن عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عقبة ألا أعلمك سورتين هما أفضل القرآن أو من أفضل القرآن» قلت: بلى يا رسول الله، فعلّمني المعوذتين ثم قرأهما في صلاة الغداة، وقال: لي «اقرأهما كلما قمت ونمت» [319] «4» .
وأخبرنا أبو العباس أحمد بن عمرو العصفري قال: حدّثنا عمر بن عبد المجيد قال: حدّثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب عن كثير بن مرّة عن عبد العزيز بن مروان قال:
سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك لن تقرأ سورة أحب الى الله
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 10/ 491.
(2) في المصدر: ما تعوّذ به المتعوّذون.
(3) السنن الكبرى: 4/ 440.
(4) المعجم الكبير: 17/ 336.(10/337)
عزّ وجلّ ولا أقرب عنده «1» من قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فأن استطعت أن لا تدعها في صلاة فأفعل» [320] «2» .
وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب المزكى قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي قال: حدّثنا معاذ بن نجدة بن العريان قال: حدّثنا خلاد- يعني ابن يحيى- قال: حدّثنا سفيان عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنزل علي الله سورتان لم أسمع لمثلهن ولم أرى مثلهن: المعوذتين» [321] «3» .
القصة:
قال ابن عباس وعائشة رضى الله عنهما- دخل حديث بعضهما في بعض: كان غلام اليهود يخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدبّت إليه اليهود فلم يزلوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلّى الله عليه وسلم وعدّة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك رجل منهم يقال له لبيد بن أعصم ثم دسّها في بئر لبني زريق يقال له ذروان، فمرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه، ولبث ست أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وجعل يذوب ولا يدري ما عراه، فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فقعد أحدهم عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما بال الرجل؟ قال: طب قال: وما طب؟ قال: سحر، قال: ومن سحره؟ قال: لبيد ابن أعصم اليهودي، قال: وبم طبّه؟ قال: بمشط ومشاطة قال: وأين هو؟ قال في [جفّ «4» طلعة ذكر] تحت راعوفة في بئر ذروان «5» .
والجف: قشر الطلع، والراعوفة: حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح، فانتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم مذعورا وقال: «يا عائشة أما شعرت أن الله سبحانه أخبرني بدائي» [322] «6» ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليا والزبير وعمار بن ياسر فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحنّاء، ثم رفعوا الصخرة وأخرجوا الجف فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطة وإذا فيه وتر معقود فيه إثنا عشر عقدة مغروزة بالإبر فأنزل الله سبحانه هاتين السورتين فجعل كلّما يقرأ آية أنحلت عقدة، ووجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم خفّة حين أنحلت العقدة الأخيرة فقام كأنما أنشط من عقال، وجعل جبرائيل (عليه السلام) يقول: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من حاسد وعين والله يشفيك، قال: فقالوا: يا رسول الله أفلا نأخذ الخبيث فنقلته، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن أثير على الناس شرا» [323] «7» .
__________
(1) في المصدر: ولا أبلغ.
(2) المعجم الأوسط: 6/ 149.
(3) المعجم الكبير: 17/ 350، وفيه: آيات بدل: سورتان.
(4) الجفّ: غشاء على الطلع للأنثى وللذكر.
(5) في تفسير القرطبي: أوران.
(6) زاد المسير: 8/ 332، تفسير القرطبي: 20/ 253. [.....]
(7) بطوله في تفسير ابن كثير عن الثعلبي: 4/ 615، وصحيح مسلم: 7/ 13.(10/338)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
قالت عائشة: ما غضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم غضبا ينتقم من أحد لنفسه قط إلّا أن يكون شيئا هو لله سبحانه، فيغضب لله سبحانه وتعالى وينتقم.
(التفسير:)
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ قال ابن عباس: هو سجن في جهنم، وحدّثنا يعقوب عن هشيم قال: أخبرنا العوام عن عبد الجبار الجولاني قال: قدم رجل من أصحاب النبي عليه السلام الشام فنظر الى دور أهل الذمة وما فيها من العيش والنضارة، وما وسع عليهم في دنياهم فقال:
لا أبالي، أليس من ورائهم الفلق؟ قال: قيل: وما الفلق؟ قال: بيت إذا انفتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه «1» .
وقال أبو عبد الرحمن الحبلي: الفلق هي جهنم، وقال جابر بن عبد الله والحسن وسعيد ابن جبير ومجاهد وقتادة والقرظي وابن زيد: الفلق: الصبح، وإليه ذهب ابن عباس، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ.
الضحّاك والوالبي عن ابن عباس: معنى الْفَلَقِ: الخلق. وهب: هو باب في جهنم «2» .
الكلبي: هو واد في جهنم، وقال عبد الله بن عمرو: شجرة في النار، وقيل: الفلق الجبال والصخور تنفلق بالمياه أي تتشقق «3» ، وقيل، هو الرحم تنفلق عن الحيوان، وقيل: الحبّ والنوى تنفلق عن التراب، دليله قوله سبحانه وتعالى: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى والأصل فيه الشق.
وقال محمد بن علي الترمذي في هذه: كشف الله تعالى على قلوب خواص عباده فقذف النور فيها، فانفلق الحجاب وانكشف الغطاء.
مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو برزة أو أحد بني شريك البزار قال: حدّثنا آدم بن أبي أياس قال: حدّثنا ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: أخذ رسول الله عليه السلام بيدي فأشار الى القمر فقال: «يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا فإنّ هذا الغاسق إِذا وَقَبَ» [324] «4» .
__________
(1) تفسير الطبري: 30/ 455.
(2) المصدر السابق: 30/ 457.
(3) تفسير القرطبي: 20/ 254.
(4) تفسير الطبري: 30/ 459.(10/339)
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا عبد الرحمن بن خرزاد البصري بمكة قال: حدّثنا نصر بن علي قال: حدّثنا بكار بن عبد الله قال: حدّثنا ابن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى:
وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ قال: النجم إذا طلع.
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والقرظي والفرّاء وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجّاج «1» :
الليل.
قال ابن زيد: يعني والثريا إذ سقطت، قال: وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها «2» ، وأصل الغسق الظلمة والوقوف [ ... ] «3» إذا دخل وقال: أمان سكن نظلامه «4» .
وقيل: سمّي الليل غاسقا لأنه أبرد من النهار، والغاسق: البارد، والغسق: البرد «5» .
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها، والنفث: وشبه النفخ كما يعمل من يرقي. قال عنترة:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإنّ يفقد محقّ له العقود «6»
وقرأ عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن سابط: من شرّ النافثات في وزن: فاعلات «7» .
مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ قال الحسين بن الفضل: إنّ الله جمع الشرور في هذه الآية وختمها بالحسد ليعلم أنه أخسّ الطبائع.
__________
(1) مستدرك عن زاد المسير لابن الجوزي: 8/ 334.
(2) زاد المسير: 8/ 334.
(3) كلمة غير مقروءة.
(4) كذا في المخطوط.
(5) تفسير القرطبي: 20/ 256.
(6) تفسير القرطبي: 20/ 257.
(7) تفسير القرطبي: 20/ 259.(10/340)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
سورة الناس
مدنية، وهي سبعة وسبعون حرفا، وعشرون كلمة، وست آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ يعني الشيطان، ويكون مصدرا واسما «1» .
بحمد الله تعالى ومننه تمّ كتاب «الكشف والبيان» للمفسّر المشهور الثعلبي
__________
(1) وهذا آخر المخطوط، والحمد لله.(10/341)
محتوى الجزء العاشر من كتاب تفسير الثعلبي
سورة القلم 5 سورة الحاقة 25 سورة المعارج 34 سورة نوح 43 سورة الجن 49 سورة المزمل 58 سورة المدثر 67 سورة القيامة 81 سورة الإنسان (الدهر) 93 سورة المرسلات 108 سورة النبأ 113 سورة النازعات 122 سورة عبس 130 سورة التكوير 136 سورة الإنفطار 145 سورة المطففين 149 سورة الإنشقاق 158 سورة البروج 164 سورة الطارق 177 سورة الأعلى 182 سورة الغاشية 187 سورة الفجر 191 سورة البلد 206 سورة الشمس 212 سورة والليل 216 سورة والضحى 222(10/343)
سورة الشرح 232 سورة التين 238 سورة العلق 242 سورة القدر 247 سورة البيّنة (المنفكّين) 259 سورة الزلزلة 263 سورة العاديات 268 سورة القارعة 274 سورة التكاثر 276 سورة العصر 283 سورة الهمزة 285 سورة الفيل 288 سورة قريش 299 سورة الماعون 304 سورة الكوثر 307 سورة الكافرون 314 سورة النصر 318 سورة تبت (المسد) 323 سورة الإخلاص 330 سورة الفلق والناس [المعوذتين] 337 سورة الناس 341(10/344)