وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدّثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدّثنا عبد الرزاق قال: وأخبرنا محمد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا أبو سعيد بن حمدون، قال:
أخبرنا ابن الشرقي «1» ، قال: حدّثنا محمد بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه دخل على عمّه أبي طالب في مرضه الذي مات فيه وعنده أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية فقال: «يا عمي قل: لا إله إلّا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله» [134] «2» .
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب؟
فقال: بل على ملّة عبد المطلب «3» . فأنزل الله سبحانه إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
أخبرني «4» ابن فنجويه، قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن مالك، قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الطيالسي، قال: حدّثنا الحسين بن علي بن يزيد المدايني، قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا الفضل بن العباس الهاشمي، قال: حدّثنا عبد الوهاب ابن عبد المجيد الثقفي، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن الزهري، عن محمد بن [جبير عن] مطعم، عن أبيه قال: لم يستمع أحد الوحي يلقى على رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلّا أبو بكر الصديق، فإنّه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فوجده يوحى إليه فسمع إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ الآية
نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنّه قال للنبي (عليه السلام) أنّا لنعلم إنّ الذي تقول حقّ، ولكن يمنعنا اتباعك أنّ العرب
__________
(1) في نسخة أصفهان: أبو حامد الشرقي.
(2) سنن النسائي: 4/ 90.
(3) وقد كانت ملة عبد المطلب التوحيد وعبودية الواحد الأحد، وقيل: بل كان مؤمنا برسول الله صلى الله عليه وسلّم على ما فصّله السيوطي في رسالة: إحياء آباء النبي، ورسالة إسلام أبوي النبي.
(4) في نسخة أصفهان: أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه.(7/255)
تتخطّفنا من أرضنا، لإجماعهم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم، فأنزل الله سبحانه وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا مكة.
قال الله سبحانه: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً وذلك أنّ العرب في الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض، فيقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ يجلب ويجمع، قرأ أهل المدينة ويعقوب (تجبى) بالتاء لأجل الثمرات واختاره أبو حاتم وقرأ غيرهم بالياء كقوله كُلِّ شَيْءٍ واختاره أبو عبيد قال: لأنّه قد حال بين الاسم المؤنث والفعل حائل رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، أي أشرت وطغت، فكفرت بربّها، قال عطاء بن رياح: أي عاشوا في البطر والأشر وأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام، وجعل الفعل للقرية وهو في الأصل للأهل، وقد مضت هذه المسألة فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا يعني فلم يعمر منها إلّا أقلها، وأكثرها خراب، قال ابن عباس: لم يسكنها إلّا المسافر ومار الطريق يوما أو ساعة وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ نظيره قوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها «1» وقوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» .
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بكفر أهلها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها يعني مكة رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ كافرون وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ بالياء أبو عمرو، يختلف عنه الباقون بالتاء.
__________
(1) سورة مريم: 40.
(2) سورة ال عمران: 180.(7/256)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
[سورة القصص (28) : الآيات 61 الى 75]
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً يعني الجنة فَهُوَ لاقِيهِ مدركه ومصيبه كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ في النار، نظيره قوله سبحانه: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ «1»
قال مجاهد: نزلت في النبي (عليه السلام) وفي أبي جهل بن هشام.
محمد بن كعب: في حمزة وعلي وفي أبي جهل.
السدي: عمار والوليد بن المغيرة.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ في الدنيا أنّهم شركائي قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وجب عليهم العذاب وهم الرؤوس عن الكلبي، غيره: الشياطين رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ لبني آدم الكفار ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ جواب (لو) مضمر، أي لو كانوا يهتدون لما رأوا العذاب، وقيل معناه: ودّوا إذا رأوا العذاب لو أنّهم كانوا يهتدون.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ فخفيت واشتبهت عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يعني الأخبار والأعذار والحجج يَوْمَئِذٍ لأنّ الله سبحانه قد أعذر إليهم في الدنيا، فلا يكون لهم حجة ولا عذر يوم القيامة فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يجيبون، قتادة: لا يحتجّون، وقيل:
يسكتون، لا يسئل بعضهم بعضا، مجاهد: لا يَتَساءَلُونَ بالأنساب كما كانوا يفعلون في الدنيا، نظيره قوله سبحانه: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ «2» .
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ وهذا جواب لقول الوليد بن المغيرة: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «3» أخبر الله سبحانه أنّه لا يبعث «4» الرسل باختيارهم.
وهذا من الجواب المفصول، وللقراء في هذه الآية طريقان:
أحدهما: أن يمرّ على قوله: وَيَخْتارُ، ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ويجعل (ما) إثباتا بمعنى الذي، أي ويختار لهم ما هو الأصلح والخير.
__________
(1) سورة الصافات: 57.
(2) سورة الصافات: 57.
(3) سورة الزخرف: 31.
(4) في نسخة أصفهان: لا يرسل.(7/257)
والثاني: أن يقف على قوله: وَيَخْتارُ ويجعل ما نفيا أي ليس إليهم الاختيار، وهذا القول أصوب وأعجب إليّ كقوله سبحانه: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ «1» ، وأنشدني أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، قال: أنشدني أبو جعفر محمد بن صالح، قال: أنشدنا حماد بن علي «2» البكراوي لمحمود بن الحسن الوراق:
توكل على الرحمن في كلّ حاجة ... أردت فإنّ الله يقضي ويقدر «3»
إذا ما يرد ذو العرش أمرا بعبده ... يصبه وما للعبد ما يتخيّر
وقد يهلك الإنسان من وجه؟؟؟؟ حذره ... وينجو بحمد الله من حيث يحذر
وأنشدني الحسين بن محمد، قال: أنشدني أبو الفوارس حنيف بن أحمد بن حنيف الطبري:
العبد ذو ضجر والربّ ذو قدر ... والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختار خالقنا ... وفي اختيار سواه اللؤم والشوم «4»
روى سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلّم، قال: «إنّ الله عز وجل اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي «رضوان الله عليهم أجمعين» فجعلهم خير أصحابي، وفي كلّ أصحابي خير، واختار أمتي على سائر الأمم، واختار لي من أمتي أربعة قرون بعد أصحابي:
القرون الأول والثاني والثالث تترى والرابع فردي» [135] «5» .
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة، قال: حدّثنا جعفر بن أحمد الواسطي، قال:
حدّثنا محمد بن عبيد قال: حدّثنا يوسف بن يعقوب السلمي، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن وهب بن منبه، عن أخيه في قوله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ قال:
اختار من الغنم الضأن ومن الطير الحمام.
سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ دائما لا نهار «6» معه.
__________
(1) سورة الأحزاب: 36.
(2) في نسخة أصفهان: حماد بن عيسى. [.....]
(3) تفسير القرطبي: 13/ 306.
(4) تفسير القرطبي: 13/ 306.
(5) كنز العمال: 13/ 236 ح 36708.
(6) في نسخة أصفهان: لا ليل فيه و ...(7/258)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا ليل فيه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. وَنَزَعْنا وأخرجنا وأحضرنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ يعني التوحيد والصدق والحجة البالغة وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 88]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85)
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى كان ابن عمه لأنّه قارون بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران بن فاهث، هذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن إسحاق: تزوّج يصهر ابن فاهث شميت بنت تباويت بن بركيا بن يقشان بن إبراهيم فولدت له عمران بن يصهر وقارون ابن يصهر، فنكح [عمران] نجيب بنت سمويا «1» بن بركيا بن رمنان «2» بن بركيا فولدت له هارون
__________
(1) في نسخة أصفهان: شمويل.
(2) في نسخة أصفهان: نفشان.(7/259)
ابن عمران وموسى بن عمران (عليهم السلام) ، فموسى على قول ابن إسحاق: ابن اخي قارون وقارون عمه لأبيه وأمه، قال قتادة: وكان يسمّى المنوّر لحسن صورته ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري.
فَبَغى عَلَيْهِمْ أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا موسى بن محمد، قال: حدّثنا الحسن بن علوية، قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى، عن المسيّب إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ قال: كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل وكان يبغي عليهم ويظلمهم، قال ابن عباس:
كان فرعون قد ملّكه على بني إسرائيل حين كان بمصر، سعيد، عن قتادة: فَبَغى عَلَيْهِمْ بكثرة ماله وولده، سفيان «1» عنه: بالكبر والبذخ، عطاء الخراساني وشهر بن حوشب: زاد عليهم في الثياب شبرا وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ وهي جمع المفتح، وهو الذي يفتح به الباب لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ أي لتثقل بهم إذا حملوها لثقلها، يقال: ناء ينوء نوءا إذا نهض بثقل، قال الشاعر:
تنوء بأخراها فلأيا قيامها ... وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر «2» «3»
واختلفوا في مبلغ عدد العصبة في هذا الموضع، فقال مجاهد: ما بين العشرة إلى خمسة عشر، قتادة: ما بين العشرة إلى أربعين، أبو صالح: أربعون رجلا، عكرمة منهم من يقول:
أربعون، ومنهم من يقول: سبعون، الضحّاك عن ابن عباس: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل:
ستون.
روى جرير، عن منصور، عن خيثمة، قال: وجدت في الإنجيل أنّ مفاتيح خزائن قارون توقر ستين بغلا غرّاء محجّلة، ما يزيد منها مفتاح على إصبع، لكل مفتاح منها كنز «4» ، مجاهد:
كانت المفاتيح من جلود الإبل، ويقال: كان قارون [أينما] ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه، وكانت من حديد، فلمّا ثقلت عليه جعلت من خشب، فثقلت عليه فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا.
وقال بعضهم: أراد بالمفاتيح الحرّاس «5» وإليه ذهب أبو صالح. وروى حصين، عن أبي زرين قال: لو كان مفتاح واحد لأهل الكوفة كان كافيا إنّما يعني كنوزه، فإن قيل: فما وجه قوله: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ «6» وإنّما العصبة هي التي تنوء بها، قيل فيه قولان: أحدهما
__________
(1) في نسخة أصفهان: شيبان.
(2) في نسخة أصفهان: فنبهر.
(3) غريب الحديث: 1/ 321.
(4) في نسخة أصفهان: كثره.
(5) في نسخة أصفهان: الخزائن.
(6) في نسخة أصفهان: أولي القوة.(7/260)
يميل بهم ويثقلهم حملها، والآخر قال أهل البصرة: قد يفعل العرب هذا، تقول للمرأة: إنّها لتنوء بها عجيزتها، وإنّما هي تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله، وقال الشاعر:
فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوك إلّا ما أطيق «1»
والمعنى فديت بنفسي ومالي نفسه، وقال آخر:
وتركب خيلا لا هوادة بينها ... وتشقي الرماح بالضياطرة الحمر «2»
وإنّما يشقي الضياطرة بالرماح، والخيل هاهنا: الرجال.
إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ من بني إسرائيل لا تَفْرَحْ لا تأشر ولا تمرح، ومنه قول الله سبحانه:
إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ «3» ، وقال الشاعر:
ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتحول «4»
أراد: لست بأشر لأن السرور غير مكروه ولا مذموم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ الأشرين البطرين المتكبرين الذين لا يشكرون الله سبحانه على ما أعطاهم.
أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا منصور بن جعفر النهاوندي، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى النهاوندي، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى بن الجارود، قال: حدّثنا محمد بن عمرو بن حيان عن نفته «5» قال: حدّثنا مبشر بن عبد الله في قول الله سبحانه وتعالى: لا تَفْرَحْ قال: لا تفسد إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ المفسدين، وقال الشاعر:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أفرحتك الودائع «6»
يعني أفسدتك.
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا قال مجاهد وابن زيد: لا تترك أن تعمل في دنياك لآخرتك حتى تنجو من عذاب الله، وهي رواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس،
وقال علي «رضي الله عنه» : لا تنس صحتك وقوتك وشبابك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة
، وقال الحسن: ولا تنس أن تطلب فيها كفايتك وغناك مما أحل الله لك منها.
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمد، قال: حدّثنا أحمد بن علي
__________
(1) لسان العرب: 5/ 316.
(2) لسان العرب: 4/ 489. [.....]
(3) سورة هود: 10.
(4) زاد المسير: 6/ 112.
(5) كذا في الأصل.
(6) كتاب العين: 3/ 213.(7/261)
الحران «1» ، قال: حدّثنا سعيد بن سلمة، قال: حدّثنا خلف بن خليفة، عن منصور بن زادان في قوله: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا قال: قوتك وقوة أهلك. وقيل: هو الكفن لأنّه حظه من الدنيا عند خروجه منها.
وَأَحْسِنْ إلى الناس كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ ولا تطلب الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ قارون إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ على فضل علم عِنْدِي علمنيه الله، ورآني لذلك أهلا، ففضلني بهذا المال عليكم لفضلي عليكم بالعلم وغيره، وقيل: هو علم الكيمياء، قال سعيد بن المسيب: كان موسى (عليه السلام) يعلم الكيمياء، فعلّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم، وعلّم كالب بن نوفيا «2» ثلثه، وعلم قارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، وفي خبر آخر أنّ الله سبحانه وتعالى علّم موسى علم الكيمياء، فعلّم موسى أخته، فعلّمت أخته قارون، فكان ذلك سبب أقواله، وقيل: على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وسائر أنواع المكاسب والمطالب، وقيل: في سبب جمعه تلك الأموال، ما أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد قال: حدّثنا محمد بن موسى الحلواني قال: حدّثنا خزيمة بن أحمد، قال: حدّثنا أحمد بن أبي الجواري، قال: سمعت أبا سلمان الداراني يقول: يبدي إبليس لقارون وكان قارون قد أقام في جبل أربعين سنة يتعبد حتى إذا غلب بني إسرائيل في العبادة بعث إليه إبليس شياطينه، فلم يقدروا عليه، فتبدى هو له وجعل يتعبد، وجعل قارون وجعل إبليس يقهره بالعبادة ويفوقه، فخضع له قارون، فقال له إبليس: يا قارون قد رضينا بهذا الذي نحن فيه، لا تشهد لبني إسرائيل جماعة، ولا تعود مريضا، ولا تشهد جنازة، قال: فحذره من الجبل إلى البيعة، فكانوا يؤتون بالطعام، فقال إبليس: يا قارون قد رضينا الآن أن يكون هكذا كلا على بني إسرائيل، فقال له قارون:
فأي شيء الرأي عندك؟ قال: نكسب يوم الجمعة ونتعبد بقية الجمعة، قال: فكسبوا يوم الجمعة وتعبدوا بقية الجمعة.
فقال: إبليس لقارون: قد رضينا أن يكون هكذي. فقال له قارون: فأي شيء الرأي عندك، قال: نكسب يوما ونتعبد يوما ونتصدق ونعطي، قال: فلمّا كسبوا يوما وتعبدوا يوما خنس إبليس وتركه، ففتحت على قارون الدنيا، فبلغ ماله، ما أخبرنا ابن فنجويه، قال: أخبرنا موسى، قال: حدّثنا الحسن ابن علويه، قال: حدّثنا إسماعيل بن موسى، عن المسيب بن شريك ما إِنَّ مَفاتِحَهُ قال: أوعيته وكانت أربعمائة ألف ألف في أربعين جرابا.
قال الله سبحانه: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ الكافرة
__________
(1) في نسخة أصفهان: الخزاز.
(2) في نسخة أصفهان: يوفنا.(7/262)
مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ قال قتادة: يدخلون النار بغير حساب، مجاهد: يعني: إنّ الملائكة لا تسأل عنهم لأنّهم يعرفونهم بسيمائهم، الحسن: لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ليعلم ذلك من قبلهم فأن سئلوا سؤال تقريع وتوبيخ.
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال جابر «1» بن عبد الله: في القرمز، النخعي والحسن: في ثياب حمراء، مجاهد: على براذين بيض عليها سروج الأرجوان، عليهم المعصفرات، قتادة:
على أربعة ألف دابة عليهم وعلى دوابهم [الأرجوان] ، ابن زيد: في سبعين ألفا عليهم المعصفرات، قال: وكان ذلك أول يوم رؤيت المعصفرات فيما كان يذكر لنا، مقاتل: على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعلى دوابهم الأرجوان، ومعه ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحليّ والثياب الحمر على البغال الشهب.
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من المال وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها ولا يلقن ويوفق لهذه الكلمة إِلَّا الصَّابِرُونَ على طاعة الله وعن زينة الدنيا.
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ قال العلماء بأخبار القدماء: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون، وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم ولكنه نافق السامري فبغى على قومه، واختلف في معنى هذا البغي، فقال ابن عباس: كان فرعون قد ملك قارون على بني إسرائيل حين كان بمصر، وعن المسيب بن شريك: أنه كان عاملا على بني إسرائيل وكان يظلمهم، وقيل: زاد عليهم في الثياب شبرا، وقيل: بغى عليهم بالكبر، وقيل: بكثرة ماله، وكان أغنى أهل زمانه وأثراهم. واختلف في مبلغ عدة العصبة في هذا الموضع فقال مجاهد: ما بين العشرة إلى خمسة عشر، وقال قتادة: ما بين العشرة إلى أربعين، وقال عكرمة: منهم من يقول أربعون ومنهم من يقول سبعون، وقال الضحاك: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: هم ستون.
وروي عن خثيمة قال: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غراء محجلة ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح منها كنز، ويقال: كان أينما يذهب تحمل معه وكانت من حديد، فلمّا ثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت عليه فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، فكانت تحمل معه على أربعين بغلا، وكان أول طغيانه أنه تكبر واستطال على الناس بكثرة الأموال فكان يخرج في زينته ويختال كما قال تعالى فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ.
قال مجاهد: خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان وعليهم المعصفرات.
وقال عبد الرحمن: خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات، وقال مقاتل: على بغلة
__________
(1) في نسخة أصفهان: حماد بن عبد الله.(7/263)
شهباء عليها سرج من الذهب عليها الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثة آلاف جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب، فتمنى أهل الجهالة مثل الذي أوتيه كما حكى الله فوعظهم أهل العلم بالله أن اتقوا الله فإن ثواب الله (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) .
قال: ثم إن الله أوحى إلى نبيه موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أخضر لونه لون السماء، فدعا موسى بني إسرائيل وقال لهم: إن الله تعالى يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا خضرا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها، وإنه تعالى ينزل من السماء كلامه عليكم، فاستكبر قارون وقال: إنما تفعل هذه الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا من غيرهم.
ولما قطع موسى (عليه السلام) ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة وهي رئاسة المذبح وبيت القربان لهارون فكان بنو إسرائيل يأتون بهديتهم ويدفعونه إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله، فوجد قارون في نفسه من ذلك وأتى موسى وقال: يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك، وأنا أقرأ للتوراة منكما لا صبر لي على هذا، فقال موسى: والله ما أنا جعلتها في هارون بل الله تعالى جعلها له فقال قارون: والله لا أصدقك في ذلك حتى تريني بيانه، قال: فجمع موسى (عليه السلام) رؤساء بني إسرائيل وقال: هاتوا عصيكم، فجاءوا بها فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله تعالى فيها وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا، فأصبحت عصا هارون (عليه السلام) قد اهتز لها ورق أخضر، وكانت من ورق شجر اللوز، فقال موسى: يا قارون ترى هذا؟
فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر.
فذهب قارون مغاضبا واعتزل موسى بأتباعه وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما، وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد كل يوم إلا كبرا ومخالفة ومعاداة لموسى (عليه السلام) حتى بنى دارا وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه.
قال ابن عباس: ثم إن الله سبحانه وتعالى أنزل الزكاة على موسى (عليه السلام) فلمّا أوجب الله سبحانه الزكاة عليهم أبى قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، وعن كل ألف شيء شيئا، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال لهم: يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلا على أن تقذفه(7/264)
بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فاسترحنا منه، فأتوا بها فجعل لها قارون ألف درهم وقيل: ألف دينار، وقيل: طستا من ذهب، وقيل: حكمها، وقال لها: إني أموّلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل، فلمّا أن كان الغد جمع قارون بني إسرائيل، ثم أتى موسى فقال له: إن بني إسرائيل قد اجتمعوا ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم وتبين لهم أعلام دينهم وأحكام شريعتهم فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض فقام فيهم خطيبا ووعظهم [فكان] فيما قال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت، فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال قارون: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال: أنا، قال: نعم، قال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت، فلمّا أن جاءت قال لها موسى: يا فلانة إنما أنا فعلت لك ما يقول هؤلاء، وعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت، فلمّا ناشدها تداركها الله بالتوفيق وقالت في نفسها: لئن أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول الله، فقالت: لا كذبوا، ولكن جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فلمّا تكلمت بهذا الكلام سقط في يده قارون ونكس رأسه وسكت الملأ وعرف أنه وقع في مهلكة وخرّ] «1» موسى ساجدا يبكي ويقول: اللهم إن كنت رسولك، فاغضب لي، فأوحى الله سبحانه إليه: مر الأرض بما شئت، فإنها مطيعة لك، فقال موسى: يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليثبت مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزل قارون ولم يبق معه إلّا رجلان، ثم قال موسى:
يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدّة غضبه عليه.
ثم قال: يا أرض خذيهم، فانطبقت عليهم الأرض، وأوحى الله تعالى إلى موسى: يا موسى ما أفظك. استغاثوا بك سبعين مرة فلم ترحمهم ولم تغثهم، أما وعزتي لو إياي دعوا لوجدوني قريبا مجيبا.
قال قتادة: وذكر [لنا] أنّه يخسف به كلّ يوم قامة وأنّه يتخلخل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة، قالوا: وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أنّ [موسى] إنّما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله، فدعا الله موسى حتى يخسف بداره وأمواله الأرض.
وأوحى الله سبحانه إلى موسى: إنّي لا أعبّد الأرض لأحد بعدك أبدا، فذلك قوله تعالى:
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ، فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ
__________
(1) إلى هنا السقط مستدرك من بحار الأنوار: 13/ 254- 257.(7/265)
الممتنعين وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ العرب تعبّر بأضحى وأمسى وأصبح عن الصيرورة والفعل، فتقول: أصبح فلان عاملا وأمسى حزينا وأضحى معدما، إذا صاروا بهذه الأحوال وليس ثمّ من الصبح والمساء والضحى شيء.
يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ اختلف العلماء في هذه اللفظة، فقال مجاهد: معناه: ألم تعلم؟
قتادة: ألم تر؟، الفرّاء: هي كلمة تقرير كقول الرجل: أما ترى إلى صنع الله وإحسانه؟ وذكر أنّه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنّه وراء البيت، يعني أما ترينه وراء البيت؟ ابن عباس والحسن: هي كلمة ابتداء وتحقيق، تقديره إنّ الله يبسط الرزق المؤرّخ:
هو تعجّب، قطرب: إنّما هو ويلك فأسقط منه اللام، قال عنترة:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قول الفوارس ويك عنتر أقدم «1»
وقيل: هو تنبيه بمنزلة ألا وأما. قال بعض الشعراء:
ويكأن من يكن له نشب ... يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ «2»
وقال القتيبي: معناه رحمة بلغة حمير، وقال سيبويه: سألت الخليل عنه، فقال: وي كلمة تنبيه منفصلة من كأن فكأن في معنى الطب والعلم.
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ يقتّر لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا قرأ يعقوب وبعض أهل الشام والكوفة بفتح الخاء والسين، وقراءة العامة بضم الخاء وكسر السين، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ تكبرا وتجبرا فيها، وَلا فَساداً عملا بالمعاصي عن ابن جريج ومقاتل وعكرمة ومسلم البطين «3» :
الفساد: أخذ المال بغير حق، الكلبي: الدعاء إلى غير عبادة الله.
وَالْعاقِبَةُ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ قال قتادة: الجنة مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أنزله عن أكثر المفسرين، وقال عطاء بن أبي رباح: فرض عليك العمل بالقرآن لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قال [الضحاك و] مجاهد: إلى مكة، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، قال [ابن قتيبة] «4» : معاد الرجل: بلده لأنّه ينصرف ثم يعود إلى بلده.
قال مقاتل: خرج النبي (عليه السلام) من الغار ليلا ثم هاجر من وجهه إلى المدينة، فسار
__________
(1) تفسير القرطبي: 13/ 319.
(2) الصحاح: 6/ 2557.
(3) كذا في الأصل.
(4) في المخطوط كلمة تشبه: القتيبي، وما أثبتناه من (زاد المسير) : 6/ 120.(7/266)
في غير الطريق مخافة الطلب، فلمّا أمن ورجع إلى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد آبائه، فأتاه جبريل (عليه السلام) ، فقال:
أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟
قال: «نعم» [136] «1» ، قال: فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ إلى مكة ظاهرا عليها.
قال مقاتل: قال الضحاك: قال ابن عباس: إنّما نزلت بالجحفة ليس بمكة ولا المدينة،
وروي جابر عن أبي جعفر، قال: انطلقت أنا وأبي إلى أبي سعيد الخدري، فسأله عن هذه الآية: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ، قال: إلى الموت.
وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال الحسن والزهري وعكرمة: إلى يوم القيامة، وقال أبو مالك وأبو صالح: إلى الجنة.
أخبرنا عبد الخالق بن علي، قال: أخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: حدّثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا عمار «2» بن كثير، قال: أخبرنا فضيلة «3» ، عن ليث، عن مجاهد في قوله:
لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قال: إلى الجنة.
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال بعض أهل المعاني: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ.
فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ. وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وهذا «4» حين دعا إلى دين آبائه وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ يعني إلّا هو، عن مجاهد،
الصادق: دينه
، أبو العالية: إلّا ما أريد به وجهه.
أخبرنا ابن «5» شاذان، قال: أخبرنا جيعويه، قال: حدّثنا صالح بن محمد، عن جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن شهر بن حوشب، عن عبادة بن الصامت، قال: يجاء بالدنيا يوم القيامة، فيقال: ميزوا ما كان لله منها، قال: فيماز ما كان لله منها، ثم يؤمر بسائرها فيلقى في النار.
وبه عن صالح، عن سليمان بن عمرو، عن سالم الأفطس، عن الحسن وسعيد بن جبير،
__________
(1) زاد المسير: 6/ 117.
(2) في نسخة: حماد بن كثير. [.....]
(3) في نسخة: عن فضل.
(4) في نسخة أصفهان: وذلك.
(5) في نسخة أصفهان: عبد الله بن حامد الوزان عن ابن شاذان.(7/267)
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ رجلا سأله، فلم يعطه شيئا، فقال: أسألك بوجه الله، فقال له علي: كذبت، ليس بوجه الله سألتني، إنّما وجه الله الحق، ألا ترى قوله سبحانه وتعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ يعني الحق؟ ولكن سألتني بوجهك الخالق «1» كلّ شيء هالك إلّا الله والجنة والنار والعرش [137] .
ابن كيسان: إلّا ملكه. لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
__________
(1) في نسخة أصفهان: الخالق الضحاك.(7/268)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
سورة العنكبوت
مكية، وهي أربعة ألف ومائة وخمسة وتسعون حرفا، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة، وتسع وستون آية
أخبرنا الخباري «1» قال: أخبرنا ابن حيان، قال: أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال:
حدثنا إسماعيل بن عمرو قال: حدثنا يوسف بن عطية قال: حدثنا هارون بن كثير قال: حدثنا زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ المؤمنين والمنافقين» [138] «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
الم. أَحَسِبَ أظن وأصله من الحساب النَّاسُ يعني الذين جزعوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أذى المشركين أَنْ يُتْرَكُوا بغير اختبار ولا ابتلاء بأن قالوا: آمَنَّا كلا لنختبرنهم لنتبين الصادق من الكاذب، (إن) الأولى منصوبة ب أَحَسِبَ والثانية خفض بنزع الخافض، أي لأن يقولوا، والعرب لا تقول: تركت فلانا أن يذهب، إنّما تقول: تركته يذهب،
__________
(1) في نسخة أصفهان: أبو الحسين الخباري.
(2) تفسير مجمع البيان: 8/ 5.(7/269)
معه جوابان: أحدهما يشتركوا لأن يقولوا «1» ، والثاني: على التكرير تقديره: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أحسبوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ لا يبتلون ليظهر المخلص من المنافق، وقيل:
يُفْتَنُونَ يصابون بشدائد الدنيا، يعني: أنّ البلاء لا يدفع عنهم في الدنيا لقولهم: آمَنَّا.
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن جريج وابن عمير: نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذّب في الله.
وقال الشعبي: نزلت هاتان الآيتان في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة إنّه لا يقبل منكم إقرار بإسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عائدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم إنّه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا، فقالوا: نخرج، فإن اتبعنا أحد قاتلناه. فخرجوا، فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله سبحانه فيهم هاتين الآيتين،
وقال مقاتل:
نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل يوم بدر رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «يومئذ سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» [139] «2» ، فجزع عليه أبواه وامرأته، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية
وأخبر أنّه لا بد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله تعالى، وقيل: وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ بالأوامر والنواهي.
ثم عزّاهم، فقال عز من قائل: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار، وعلمه قديم تام، وإنّما معنى ذلك:
فليظهرنّ الله تعالى ذلك حتّى يوجد معلومة.
قال مقاتل: فليرين الله، الأخفش: فليميزنّ الله.
وقال القتيبي: علم الله سبحانه نوعان: أحدهما: علم شيء كان يعلم إنّه كان، والثاني:
علم شيء يكون، فعلم إنّه يكون وقت كذا ولا يعلمه كائنا واقعا إلّا بعد كونه ووقوعه، بيانه قوله سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ «3» أي نعلم المجاهدين منكم مجاهدين ونعلم الصابرين صابرين، فكذلك هاهنا فليعلمنّ الله ذاك موجودا كائنا وهذا سبيل علم الله في الاستقبال.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الشرك «4» أَنْ يَسْبِقُونا يعجزونا ويقولوا ما بأنفسهم
__________
(1) في نسخة أصفهان: أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا.
(2) تفسير القرطبي: 13/ 324.
(3) سورة محمّد: 31.
(4) في نسخة أصفهان: أي السوء.(7/270)
فلا يقدر على الانتقام منهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي ساء حكمهم الذي يحكمون مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ قال ابن عباس ومقاتل: من كان يخشى البعث. سعيد بن جبير: من كان يطمع في ثواب الله فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب الكائن وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ له ثوابه. إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً اختلف النحاة في وجه نصب الحسن، فقال أهل البصرة: على التكرير تقديره ووصيناه حسنا أي بالحسن، كما يقول: وصيته خيرا، أي بخير، وقال أهل الكوفة: معناه ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا، فحذفه لدلالة الكلام عليه كقول الراجز:
عجبت من دهماء إذ تشكونا ... ومن أبي دهماء إذ يوصينا
خيرا بها كأنّنا جافونا
أي يوصينا أن نفعل بها خيرا، وهو مثل قوله: فَطَفِقَ مَسْحاً «1» أي يمسح مسحا.
وقيل معناه: وألزمناه حسنا، وقرأ العامة حُسْناً بضم الحاء وجزم السين، وقرأ أبو رجاء العطاردي بفتح الحاء والسين.
وفي مصحف أبي إحسانا نزلت في سعد بن أبي وقاص الزهري. واسم أبي وقاص:
مالك بن وهبان، وذلك
إنّه لما أسلم قالت له أمه جمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف: يا سعد بلغني إنّك صبوت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد وترجع إلى ما كنت عليه، وكان أحب ولدها إليها، فأبى سعد وصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل بظل، فأتى سعد النبي (عليه السلام) وشكا ذلك إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية والتي في لقمان والأحقاف، فأمره النبي صلى الله عليه وسلّم أن يترضاها ويحسن إليها ولا يطيعها في الشرك وذلك قوله سبحانه: وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنّه لي شريك فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أخبرنا عبد الله بن حامد- قراءة- قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا نمير بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله من أبرّ؟ قال: «أمّك» ، قلت: ثم من؟ قال: «أمّك» ، قلت: ثم من؟ قال: «ثم أمّك» ، قلت: ثم من؟ قال: «ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب» [140] «2» .
__________
(1) سورة ص: 33.
(2) مسند أحمد: 5/ 3.(7/271)
وأخبرنا عبد الله «1» - إجازة- قال: أخبرنا عثمان بن أحمد قال: حدثنا علي بن إبراهيم الواسطي قال: حدثنا منصور بن مهاجر قال: حدثنا أبو النصر الأبار، عن أنس بن مالك قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «الجنة تحت أقدام الأمهات» [141] «2» .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرتهم وجملتهم، وقال محمد بن جرير: أي في مدخل الصالحين «3» وهو الجنة، وقيل: في بمعنى مع، والصالحون هم الأولياء والأنبياء.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ أي أذاهم وعدائهم كَعَذابِ اللَّهِ في الآخرة فارتد عن إيمانه وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ هؤلاء المرتدون إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وهم كاذبون أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ أي ليميّزنهم ويظهر أمرهم بالابتلاء والاختبار والفتن والمحن.
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية:
فقال مجاهد: نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا. الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك. عكرمة عن ابن عباس: نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر، فارتدوا وهم الذين نزلت فيهم إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ «4» ... الآية، وقد مضت القصة. قتادة: نزلت هذه الآية في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة.
وهذه الآيات العشر مدنية إلى هاهنا، وسائرها مكي،
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في العياش بن أبي ربيعة بن مغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، وذلك إنّه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي (عليه السلام) ، فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة ابن أبي جندل بن نهشل التميمي أن لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل لها رأسا ولا تدخل بيتا حتى يرجع إليها، فلما رأى ابناها- أبو جهل والحارث ابنا هشام وهما أخوا عيّاش لأمّه- جزعها وحلفها رهبا في ظلمة حتى أتيا المدينة فلقياه، فقال أبو جهل لأخيه عياش بن أبي ربيعة: قد علمت أنّك أحبّ إلى أمّك من جميع ولدها وكنت بها بارا، وقد حلفت أمك إنّها لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل بيتا حتى ترجع إليها، وأنت تزعم أنّ في دينك بر الوالدين، فارجع إليها فإنّ ربّك الذي تعبده بالمدينة هو ربك بمكة فاعبده بها، فلم يزالا به حتى أخذ
__________
(1) في نسخة أصفهان: عبد الله بن حامد إجازة عن عثمان بن أحمد.
(2) الجامع الصغير: 1/ 563. [.....]
(3) في نسخة أصفهان: أي في زمرتهم.
(4) سورة النساء: 97.(7/272)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)
عليهما المواثيق لا يحركاه ولا يصرفاه عن دينه، فأعطياه ما سأل من المواثيق فتبعهما، وقد صبرت أمه ثلاثة أيام ثم أكلت وشربت، قالا: فلما خرجوا من أهل المدينة أخذاه فأوثقاه وجلده كلّ واحد منهما مائة جلدة حتى تبرأ من دين محمّد (رحمهما الله) جزعا من الضرب وقال ما لا ينبغي، فأنزل الله سبحانه فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ ... الآية.
قالا: وكان الحارث «1» أشدهما عليه وأسوأهما قولا، فحلف عياش بالله لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربنّ عنقه، فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حينا ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنون إلى المدينة، فهاجر عياش وأسلم وحسن إسلامه.
ثم إنّ الله تعالى قذف الإيمان في قلب الحارث «2» بن هشام، فهاجر إلى المدينة وبايع النبي (عليه السلام) على الإسلام ولم يحضر عياش، فلقيه عياش يوما بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه، فضرب عنقه، فقيل له: إنّ الرجل قد أسلم، فاسترجع عياش وبكى، ثم أتى النبي (عليه السلام) وأخبره بذلك، فأنزل الله سبحانه وتعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ... الآية.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 21]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أوزاركم، قال الفراء: لفظة أمر ومعناه: جزاء، مجازه إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم كقوله سبحانه: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ وقوله سبحانه: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ لفظة نهي وتأويله جزاء. وقال الشاعر:
__________
(1) في نسخة أصفهان: الحرث.
(2) في نسخة أصفهان: الحرث.(7/273)
فقلت ادعي وادع فإنّ أندى ... لصوت أن ينادي داعيان «1»
يريد إن دعوت دعوت.
فأكذبهم الله تعالى، فقال: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أوزار أنفسهم وأثقال من أضلوا وصدوا عن سبيل الله وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ نظيرها لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «2» الآية.
روي عوف، عن الحسن أنّ النبي (عليه السلام) قال: «أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة، فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» [142] «3»
ثم قرأ الحسن وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال:
حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن عبد الرحمن بن هلال العنسي «4» ، عن جرير قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحثّنا على الصدقة، فأبطأ الناس حتى رئي وجهه الغضب، ثم إنّ رجلا من الأنصار قام فجاء بصرّة وأعطاها، فتتابع الناس، فأعطوا حتى رئي «5» في وجهه السرور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من سن سنة حسنة كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ سنة سيّئة كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» [143] «6» .
وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ.
قال ابن عباس: بعث نوح (عليه السلام) لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.
فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ. وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً.
ويقولون كذبا، وقال مجاهد: وتصنعون أصناما بأيديكم فتسمونها آلهة، نظيره قوله
__________
(1) لسان العرب: 12/ 560، وتفسير القرطبي: 13/ 330.
(2) سورة النحل: 25.
(3) الدرّ المنثور: 5/ 142.
(4) في نسخة: العبسي.
(5) في المخطوط: يرى.
(6) مسند أحمد: 4/ 362.(7/274)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
سبحانه: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ «1» ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً على المبالغة والكثرة. إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ فاهلكوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَوَلَمْ يَرَوْا بالتاء كوفي غيرهم بالياء كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الله، الْخَلْقَ يعني فانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ولم يتعذر عليه مبدئا فكذلك لا يتعذر عليه إنشائها معيدا.
ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ أي يبدأ البدأة الْآخِرَةَ بعد الموت.
وفيها لغتان: نشأة بالمد وهي قراءة ابن كثير والحسن وأبو عمر وحبيب كانت، ونشأة بالقصر وتسكين السين وهي قراءة الناس «2» ونظيرها الرأفة «3» ، والرأفة إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ تردون.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 22 الى 27]
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ اختلف أهل المعاني في وجهها، فقال الفراء: معناه ولا من في السماء بمعجز، وهو من غامض العربية الضمير الذي لم يظهر في الثاني. كقول حسان بن ثابت:
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء «4»
أراد ومن يمدحه وينصره فأضمر من وإلى هذا التأويل ذهب عبد الرحمن بن زيد قال: لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوا.
__________
(1) سورة الصافّات: 95.
(2) في نسخة أصفهان: الباقين.
(3) هكذا في المخطوط.
(4) تفسير القرطبي: 13/ 337، البداية والنهاية: 4/ 356، وفيه أمن بدل فمن. [.....](7/275)
وقال قطرب: ولا في السماء لو كنتم فيها، كقولك: ما يفوتني فلان بالبصرة ولا هاهنا في بلدي، وهو معك في البلد أي ولا بالبصرة لو صار إليها.
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فأعرض سبحانه بهذه الآيات تذكيرا وتحذيرا لأهل مكة، ثم عاد إلى قصة إبراهيم، فقال عز من قائل: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ قرأ العامة بنصب الباء على خبر كان وإن قالوا: في محل الرفع على اسم كان، وقرأ سالم الأفطس جواب رفعا على اسم كان، وإن موضعه نصب على خبره إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ وجعلها عليه بردا وسلاما، قال كعب: ما حرقت منه إلّا وثاقه.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَقالَ يعني إبراهيم (عليه السلام) لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ اختلف القرّاء فيها، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب مودةُ رفعا بَيْنِكُمْ خفضا بالإضافة، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم على معنى: أنّ الذين اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً هي مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لم تنقطع ولا تنفع في الآخرة كقوله: [لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ثم قال: بَلاغٌ] «1» أي هذا بلاغ، وقوله سبحانه: [لا يُفْلِحُونَ ثم قال: مَتاعٌ] «2» أي هو متاع، فكذلك أضمروا هاهنا هي ويجوز أن تكون خبر إن.
وقرأ عاصم في بعض الروايات مودةُ مرفوعة منونة بينَكم نصبا وهو راجع إلى معنى القراءة الأولى، وقرأ حمزة مَوَدَّةَ بالنصب بَيْنِكُمْ بالخفض على الإضافة بوقوع الاتحاد عليها وجعل إنّما حرفا واحدا وهي رواية حفص عن عاصم، وقرأ الآخرون: مودةَ نصبا منونة بينَكم بالنصب وهي راجعة إلى قراءة حمزة ومعنى الآية أنكم اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا.
مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا تتوادون وتتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها.
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وتتبرأ الأوثان من عابديها وَمَأْواكُمُ جميعا العابدون والمعبودون النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وهو أول من صدق إبراهيم (عليه السلام) حين رأى أنّ النار لم تضرّه.
وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي فهاجر من كوتي- من سواد الكوفة- إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارة، وهو أول من هاجر، قال مقاتل: هاجر إبراهيم (عليه السلام) وهو ابن خمس وسبعين سنة.
__________
(1) سورة الأحقاف: 35.
(2) سورة يونس: 69- 70.(7/276)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 35]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32)
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
وَلُوطاً فأذكر لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ مجلسكم الْمُنْكَرَ.
حدثنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي، قال: حدثنا جدي لأمّي أبو الحسن المحمودي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: أنّ بشر بن معاذ العمقدي حدثهم قال: حدثنا يزيد بن زريع «1» قال: حدثنا حاتم بن أبي صغيرة، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا عمير بن مرداس الدونقي، قال: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال:
حدثنا يحيى بن أبي الحجاج أبو أيوب البصري قال: حدثنا أبو يونس حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب، عن أبي مولى أم هانئ، عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قوله سبحانه: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قلت: ما المنكر الذي كانوا يأتون؟
قال: «كانوا يخذفون أهل الطرق ويسخرون بهم» [144] «2» .
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين، قال: حدثنا موسى بن محمد، قال: حدثنا الحسن بن علوية، قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى، قال: حدثنا المسيب، قال: سمعت زياد بن أبي زياد يحدّث عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كلّ رجل منهم قصعة فيها حصى، فإذا مر بهم عابر سبيل قذفوه، فأيهم أصابه كان أولى به»
[145] «3» وذلك قول الله سبحانه: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إيّاكم
__________
(1) في نسخة أصفهان: برنع.
(2) مسند أحمد: 6/ 341.
(3) تفسير القرطبي: 13/ 342.(7/277)
والخذف فإنّه لا ينكأ العدو ولا يصيب الصيد، ولكن يفقأ العين ويكسر السن» [146] «1» .
وأخبرنا الحسين قال: أخبرنا أبو علي بن حنيش المقري قال: حدثني أبو جعفر محمد بن جعفر المقري، قال: حدثنا إبراهيم بن الحسين الكسائي، قال: حدثنا هارون بن حاتم، قال:
أخبرنا أبو بكر بن أوس المدني، عن أبيه، عن يزيد بن بكر بن دأب، عن القاسم بن محمد وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال: الضراط، كانوا يتضارطون في مجالسهم، وقال مجاهد: كان يجامع بعضهم بعضا في مجالسهم.
أخبرنا أبو جعفر الخلفاني قال: حدثنا أبو العباس التباني «2» قال: حدثنا أبو لبيد «3» السرخسي، قال: حدثنا الحسن بن عمر بن شفيق، قال: حدثنا سليمان بن ظريف عن مكحول، قال: عشرة في هذه الأمة من أخلاق قوم لوط: مضغ العلك، وتطويق الأصابع بالحناء، وحل الإزار، وتنقيص الأصابع والعمامة التي يلف بها على الرأس، والسلينية «4» ، ورمي الجلاهق، والصفير، والخذف، واللوطية.
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ إنّه نازل بنا وذلك إنّه أوعدهم العذاب، قالَ لوط رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ. وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى من الله سبحانه إسحاق ويعقوب: قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعني قوم لوط إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ إبراهيم للرسل: إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً وحسب إنّهم من الإنس سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً عبرة ظاهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وهي الخبر عما صنع بهم، وقال ابن عباس: هي آثار منازلهم الخرباء. أبو العالية وقتادة: هي الحجارة التي ألقاها الله. مجاهد:
الماء الأسود على وجه الأرض.
__________
(1) مسند أحمد: 5/ 54. بتفاوت.
(2) في نسخة أصفهان: التبان.
(3) في نسخة أصفهان: لنيد.
(4) في نسخة أصفهان: السكينة.(7/278)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثني ابن شنبه قال: حدثنا أبو حامد المستملي قال: حدثنا محمد بن حاتم الرمني قال: حدثنا محمد بن سلامة «1» الجمحي قال: قال يوسف «2» النحوي: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ يعني اخشوا وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ في الضلالة، قال مجاهد وقتادة: مُسْتَبْصِرِينَ في ضلالهم معجبين بها. الفراء:
عقلاء ذوي بصائر. ضحاك ومقاتل والكلبي: حسبوا إنّهم على الهدى والحق وهم على الباطل.
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فائتين من عذابنا فَكُلًّا أَخَذْنا عاقبنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ريحا تأتي في الحصباء، وهي الحصى الصغار، وهم قوم لوط وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يعني ثمودا.
وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ قارون وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا فرعون وقومه وقوم نوح.
وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 45]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعني: الأصنام يرجون نصرها ونفعها عند حاجتهم إليها كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً لنفسها كيما يكنّها فلم يغن عنها بناؤها شيئا عند حاجتها إياه، فكما أنّ بيت العنكبوت لا يدفع عنها بردا ولا حرا كذلك هذه الأوثان لا تملك لعابديها نفعا ولا ضرا ولا خيرا ولا شرا.
__________
(1) في نسخة أصفهان: سلام.
(2) في نسخة أصفهان: يونس.(7/279)
وَإِنَّ أَوْهَنَ أضعف الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ قال النحاة: العنكبوت مؤنثة التاء التي فيها، وقد يذكّرها بعض العرب، أنشد الفراء:
على هطالهم منهم «1» بيوت ... كأنّ العنكبوت هو ابتناها «2»
وزنته فعللون.
أخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا ابن شنبه، قال: حدثنا أبو حامد المستملي، قال: حدثنا محمد بن عمران الضبي، قال: حدثني محمد بن سليمان المكي، قال: حدّثني عبد الله بن ميمون القداح، قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي يقول: قال علي بن أبي طالب:
طهّروا بيوتكم من نسيج العنكبوت، فإنّ تركه في البيوت يورث الفقر
، قال: سمعت عليا يقول:
منع الخميرة يورث الفقر.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ بالياء أهل البصرة واختاره أبو عبيد قال: لذكر الأمم قبلها.
واختلف فيها عن عاصم، غيرهم بالتاء.
مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ الأشياء والأوصاف، والمثل:
قول سائر يشبّه حال الثاني بالأول نَضْرِبُها يبيّنها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ. أخبرني
ابن فنجويه، قال: حدثنا ابن مندة «3» قال: حدثنا الحارث «4» بن أبي أسامة قال: حدثنا داود بن المخبر قال: حدثنا عباد بن كثير، عن أبي جريج «5» ، عن عطاء وأبي الزبير، عن جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ فقال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» [147] «6» .
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ قال ابن عمر: تغني. الفراء: أن تنهي عن الفحشاء والمنكر ودليل هذا التأويل قوله: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك. وقال آخرون: هي الصلاة التي فيها الركوع والسجود.
قال ابن مسعود وابن عباس: يقول: في الصلاة: منتهى ومزدجر عن معاصي الله سبحانه وتعالى، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلّا بعدا.
__________
(1) في نسخة أصفهان: منها.
(2) لسان العرب: 1/ 632.
(3) في نسخة أصفهان: ابن برزة. [.....]
(4) في نسخة أصفهان: الحرث.
(5) في نسخة أصفهان: جريح.
(6) تفسير القرطبي: 13/ 346.(7/280)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وإطاعة الصلاة أن تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» [148] «1» .
وروى أبو سفيان عن جابر قال: قيل لرسول الله (صلى الله عليه وسلّم) : إنّ فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل، فقال: «إنّ صلاته لتردعه» [149] «2» .
وقال أنس بن مالك: كان فتى من الأنصار يصلي الصلاة «3» مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم لا يدع شيئا من الفواحش إلّا ركبه، فوصف لرسول الله (عليه السلام) حاله، فقال: «إنّ صلاته تنهاه يوما ما» «4» ، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ألم أقل لكم إنّ صلاته تنهاه يوما ما» [150] .
وقال ابن عون: معناه أنّ الصلاة تنهى صاحبها عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ مادام فيها، وقال أهل المعاني: ينبغي أن تنهاه صلاته كقوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «5» .
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ اختلفوا في تأويله، فقال قوم: معناه وَلَذِكْرُ اللَّهِ إياكم أفضل من ذكركم إياه، وهو قول عبد الله وسلمان ومجاهد وعطية وعكرمة وسعيد بن جبير، ورواية عبد الله بن ربيعة عن ابن عباس، وقد روى ذلك مرفوعا:
أخبرناه الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني، قال: حدثني أحمد بن علي بن الحسين، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود البزكي، قال:
حدثنا الحسين اللهبني، قال: حدثنا صالح بن عبد الله بن أبي فروة، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمّه موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال في قول الله سبحانه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال: «ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه» «6» [151] .
قالت الحكماء: لأنّ ذكر الله سبحانه للعبد على حدّ الاستغناء، وذكر العبد إياه على حدّ الافتقار، ولأنّ ذكره دائم، وذكر العبد مؤقت، ولأنّ ذكر العبد بحد رفع أو دفع ضر، وذكر الله سبحانه إياه للفضل والكرم. وقال ذو النون: لأنّك ذكرته بعد أن ذكرك، وقال ابن عطاء: لأنّ ذكره لك بلا علة، وذكرك مشوب بالعلل. أبو بكر الوراق: لأنّ ذكره تعالى للعبد أطلق لسانه بذكره له، ولأنّ ذكر العبد مخلوق وذكره غير مخلوق. وقال أبو الدرداء وابن زيد وقتادة: معناه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مما سواه وهو أفضل من كل شيء.
__________
(1) الدرّ المنثور: 5/ 146.
(2) تفسير مجمع البيان: 8/ 29.
(3) في نسخة أصفهان: الصلوات.
(4) تفسير القرطبي: 13/ 348.
(5) سورة آل عمران: 97.
(6) جامع البيان للطبري: 20/ 190.(7/281)
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن محمد «1» الثقفي الحافظ قال: حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال: حدثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي، قال: حدثنا عيسى بن يونس قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن جويبر عن الضحاك، عن عبد الله بن مسعود قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال: «ذكر الله على كل حال أحسن وأفضل، والذكر أن نذكره عند ما حرم، فندع ما حرم ونذكره عند ما أحل فنأخذ ما أحل» [152] .
وأخبرني الحسين بن محمد «2» قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا جعفر بن محمد الفرباني قال: حدثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا إسحاق بن سليمان الرازي قال: سمعت موسى بن عبيدة الزيدي يحدث أبي عبد الله القراظ، عن معاذ بن جبل قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم نسير بالدف من حمدان إذ استنبه، فقال «3» : «يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله، من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله سبحانه» [153] «4» .
قال إسحاق بن سليمان: سمعت حريز بن عثمان يحدث «5» ، عن أبي بحرية، عن معاذ بن جبل، قال: ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله سبحانه، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا ولو ضرب بسيفه «6» ، قال الله سبحانه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. وأخبرني الحسين بن محمد، قال: حدثنا ابن شنبه، قال: حدثنا جعفر بن محمد الفرباني، قال: حدثنا يحيى بن عمار المصيصي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي غريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، قال: سمعت أبا الدرداء يقول: ألا أخبركم بخير أعمالكم لكم وأحبها إلى مليككم وأتمها في درجاتكم، وخير من أن تغزوا عدوكم فتضرب رقابكم وتضربون رقابهم، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم، قالوا: وما هو يا أبا الدرداء؟ قال: ذكر الله، قال الله سبحانه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.
وقيل لسلمان: أي العمل أفضل؟ قال: أما تقرأ القرآن وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ لا شيء أفضل من ذكر الله سبحانه.
وأنبأني عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا محمد بن يعقوب، قال: حدثنا حميد بن داود،
__________
(1) في نسخة أصفهان: الحسين بن محمد الثقفي.
(2) في نسخة أصفهان: عن عبد الله بن محمد.
(3) في نسخة أصفهان: فقال: يا معاذ أين السابقون؟ فقلت: قد مضوا وتخلف ناس، فقال: يا معاذ إن السابقين ... إلخ.
(4) المصنّف لابن أبي شيبة: 7/ 72، والدر المنثور: 5/ 205.
(5) في سير أعلام النبلاء (1/ 455) عن المشيخة عن أبي بحرية. [.....]
(6) في المعجم الأوسط (3/ 5) عن جابر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وفي ذيله: إلا أن تضرب بسيفك.(7/282)
قال: حدثني يزيد بن خالد قال: حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، عن أبيه، عن مكحول، عن جبير ابن هبير «1» ، عن مالك بن عامر، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله «: أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟
قال صلى الله عليه وسلّم: «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله» [154] «2» .
وأنبأني عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا سلمة بن محمد ابن أحمد بن مجاشع الباهلي، قال: حدثنا خالد بن يزيد العمري، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلّا ذكر الله عز وجل وما والاه أو عالم أو متعلم» [155] «3» .
قالت الحكماء: وإنّما «4» كان الذكر أفضل الأشياء لأنّ ثواب الذكر الذكر، قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «5» ويؤيد هذا ما
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدثنا عبد الله بن هشام، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقترب إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» [156] «6» .
وأخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا علي، قال: أخبرنا عبد الله بن هاشم، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الأعز أبي مسلم، قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد إنّهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنّه قال: «ما جلس قوم يذكرون الله سبحانه إلّا حفّت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم «7» فيمن عنده» [157] «8» .
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا ابن شيبة، قال: حدّثنا الفرباني، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شنبه، قال: حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
__________
(1) في نسخة أصفهان: نقير.
(2) كنز العمّال: 1/ 414، ح 1752.
(3) فتح القدير: 1/ 8، وكنز العمّال: 3/ 185، ح 6085.
(4) في نسخة أصفهان: فإنّما.
(5) سورة البقرة: 152.
(6) مسند أحمد: 2/ 413.
(7) في نسخة أصفهان: وذكر الله.
(8) مسند أحمد: 3/ 49.(7/283)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
قال: ذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة. ابن عون: معناه: الصلاة التي أنت فيها وذكرك الله فيها أكبر مما نهتك عنه الصلاة من الفحشاء والمنكر، وقال ابن عطاء: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ من أن تبقى معه بالمعصية.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 55]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ الجدال: فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج فيه، وأصله شدة الفتل ومنه قيل للصقر: أجدل لشدة فتل بدنه وقوة خلقه، وقيل: الجدال من الجدالة وهو أن يروم كل واحد من الخصمين قهر صاحبه وصرعه على الجدالة وهي الأرض.
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ألطف وأرفق، وهو الجميل من القول والدعاء إلى الله والبينة على آيات الله وحججه.
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال مجاهد: يعني إن قالوا شرا فقولوا خيرا إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب، فأولئك انتصروا منهم وجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يقرّوا بالجزية. قال سعيد بن جبير: هم أهل الحرب من لا عهد لهم فجادلوهم بالسيف. ابن زيد: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم.
ومجاز الآية: إلّا الذين ظلموكم لأنّ جميعهم ظالم. وقال قتادة ومقاتل: هذه الآية منسوخة بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «1» ... الآية.
__________
(1) سورة التوبة: 29.(7/284)
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، قال:
أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني ابن أبي نملة الأنصاري: إنّ أبا نملة أخبره واسمه [عمّار] «1»
إنّه بينما هو عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالس جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة.
فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الله أعلم» ، فقال اليهودي: إنّها تتكلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلا لم تصدقوهم وإن كان حقا لم تكذبوهم» [158] «2» .
وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ... الآية» [159] «3» .
وروى سفيان ومسعود، عن سعد بن إبراهيم، عن عطاء بن يسار قال: بينما رجل من أهل الكتاب يحدث أصحابه وهم يسبّحون كلما ذكر شيئا من أمرهم، قال: فأتوا رسول الله (عليه السلام) فأخبروه، فقال: «لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ولكن قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ «4» [160] .
وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وَكَذلِكَ أي وكما أنزلنا الكتاب عليهم.
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني مؤمني أهل الكتاب- عبد الله بن سلام وأصحابه.
وَمِنْ «5» هؤُلاءِ الذين هم بين ظهرانيك اليوم من يؤمن به وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ قال قتادة: إنّما يكون الجحود بعد المعرفة.
وَما كُنْتَ تَتْلُوا يا محمد مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل هذا الكتاب الذي أنزلنا عليك مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ تكتبه بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ يعني: لو كنت تكتب أو تقرأ الكتب
__________
(1) في اسد الغابة (5/ 313 عمار بن معان بن زرارة وقيل: عمر.
(2) مسند أحمد: 4/ 136.
(3) السنن الكبرى: 6/ 426.
(4) الدرّ المنثور: 5/ 147، جامع البيان للطبري: 21/ 6. [.....]
(5) في نسخة أصفهان: ومن هؤلاء يعني أهل مكة من يؤمن به وهم مؤمنوا أهل مكة، وقال محمد بن جرير في (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ممن كان قبلك يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ ... إلخ.(7/285)
قبل الوحي إذا لشك المبطلون- أي المشركون- من أهل مكة وقالوا: هذا شيء تعلّمه محمد وكتبه، قاله قتادة.
وقال مقاتل: الْمُبْطِلُونَ هم اليهود، ومعنى الآية: إذا لشكّوا فيك واتهموك يا محمد، وقالوا: إنّ الذي نجد نعته في التوراة هو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
بَلْ هُوَ يعني القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ عن الحسن، وقال ابن عباس وقتادة: بل هو يعني محمد صلى الله عليه وسلّم والعلم بأنّه «1» أمي آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ «2» أهل العلم من أهل الكتاب يجدونها «3» في كتبهم. ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود وابن السميقع بل هي آيات.
وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ. وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ كما أنزل على الأنبياء قبلك، قرأ ابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب وعاصم برواية أبي بكر آية على الواحد، الباقون آياتٌ بالجمع واختاره أبو عبيد لقوله: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ حتى إذا شاء أرسلها، وليست عندي ولا بيدي.
وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هذا جواب لقولهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ،
وروى حجاج، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة أنّ أناسا من المسلمين أتوا نبي الله (عليه السلام) بكتب قد كتبوها فيها بعض ما يقول اليهود فلما أن نظر فيها ألقاها ثم قال: «كفى بها حماقة قوم- أو ضلالة قوم- أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم إلى قوم غيرهم»
«4» [161] ، فنزلت أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ... الآية.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أني رسوله، وأن هذا القرآن كتابه. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ نزلت في النضر بن الحارث «5» حين قال: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ وقال: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا ...
وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى في نزول العذاب، وقال ابن عباس: يعني ما وعدتك أن لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة، بيانه قوله: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ «6» ...
الآية، وقال الضحاك: يعني مدة أعمارهم في الدنيا. وقيل: يوم بدر.
__________
(1) في نسخة أصفهان: لأنه.
(2) في نسخة أصفهان: الذين أوتوا العلم.
(3) في نسخة ثانية: تجدونها في كتابهم.
(4) جامع البيان للطبري: 21/ 10.
(5) في نسخة أصفهان: الحرث.
(6) سورة القمر: 46.(7/286)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ يعني العذاب وقيل: الأجل بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ لا يبقى منهم أحد إلّا دخلها، وقيل: هو متصل بقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ يصيبهم الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني: إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنّم.
وَيَقُولُ بالياء كوفي ونافع وأيوب، غيرهم بالنون ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 69]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
بإرسال الياء عراقي غير عاصم، سائرهم بفتحها إِنَّ أَرْضِي
مفتوحة الياء ابن عامر، غيره ساكنة واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
توحدون من غير طاعة مخلوق في معصيتي، قال سعيد بن جبير: إذا عمل في أرض بالمعاصي، فاهربوا «1» فإنّ أرضي واسعة «2» .
مجاهد: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
فهاجروا وجاهدوا، وقال مقاتل والكلبي: نزلت في المستضعفين المؤمنين الذين كانوا بمكة لا يقدرون على إظهار الإيمان وعبادة الرحمن، يحثهم على الهجرة ويقول لهم: إنّ أرض المدينة واسعة آمنة. وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير:
أَرْضِي واسِعَةٌ
أي رزقي لكم واسع، أخرج من الأرض ما يكون بها.
__________
(1) في نسخة أصفهان: فاخرجوا.
(2) في نسخة أصفهان: عطاء: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا منها فإنّ أرضي واسعة، وراجع تفسير الطبري: 21/ 12.(7/287)
أخبرنا عبد الله بن حامد «1» ، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، قال: حدثنا جيغويه ابن محمد الترمذي، قال: حدثنا صالح بن محمد، عن سليمان، عن عباد بن منصور الناجي، عن الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد (عليهما السلام) » «2» [162] .
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فلا تقيموا بدار المشركين.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً علالي، قرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء، غيرهم بالياء أي لينزلنّهم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَكَأَيِّنْ وكم مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا وذلك
إنّ رسول الله (عليه السلام) قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون: «أخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة فيها» [163] «3» .
فقالوا: يا رسول الله كيف نخرج إلى المدينة ليس لنا بها دار ولا عقار ولا مال، فمن يطعمنا بها ويسقينا؟ فأنزل الله سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ذات حاجة إلى غذاء لا تحمل رزقا فيرفعه لغذائها يعني الطير والبهائم.
اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ يوما بيوم وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم: نخشى لفراق «4» أوطننا العيلة.
الْعَلِيمُ بما في قلوبكم وما إليه صائرة أموركم.
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الرقاق، وقال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا إسماعيل بن زرارة الرقي، قال: حدثنا أبو العطوف الجراح بن المنهال الجوزي «5» ، عن الزهري، عن عطاء بن أبي رياح، عن ابن عمر قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حائطا من حياطان «6» الأنصار، فجعل رسول الله (عليه السلام) يلقط الرطب بيده ويأكل فقال: «كل يا ابن عمر» ، قلت: لا أشتهيها يا رسول الله، قال: «لكنّي أشتهيه وهذه صبحة رابعة لم أزق طعاما ولم أجده» .
فقلت «7» : إنّا لله، الله المستعان، قال: «يا بن عمر لو سألت ربّي لأعطاني مثل ملك
__________
(1) في نسخة أصفهان: عبد الله بن حامد الوزان.
(2) تفسير القرطبي: 5/ 347.
(3) تفسير القرطبي: 13/ 360.
(4) في نسخة أصفهان: بفراق.
(5) في نسخة أصفهان: الجزري. [.....]
(6) في المخطوط: حوائط.
(7) في نسخة أصفهان: فقلت: يا رسول الله.(7/288)
كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة، ولكني أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبّؤون رزق سنة ويضعف اليقين» «1» [164] ، فنزلت على رسول الله (عليه السلام) : وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ... الآية.
أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن حنيش، حدثنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا يحيى من معين، حدثنا يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن علي بن الأرقم «2» وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا قال: لا تدخر شيئا لغد.
قال سفيان: ليس شيء مما خلق الله يخبّئ إلّا الإنسان والفأرة والنملة.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ يعني الدائمة الباقية التي لا زوال لها ولا موت فيها. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ولكنهم لا يعلمون ذلك.
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ وخافوا الغرق والهلاك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ليجحدوا نعمه في إنجائه إياهم وسائر الآية وَلِيَتَمَتَّعُوا جزم لامه الأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب، واختلف فيه عن عاصم ونافع وابن كثير، الباقون بكسر اللام واختاره أبو عبيد لِيَكْفُرُوا لكون الكلام نسقا. ومن جزم احتج بقراءة أبي بن كعب يمتعوا. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
أخبرني أبو محمد عبد الله بن حامد- فيما أذن لي روايته عنه- قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد، قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أسكت، قال: حدثنا عقال، قال: حدثنا جعفر بن سلمان قال: حدثنا ملك بن دينار، قال: سمعت أبو العالية قرأ ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف يعلمون بالياء، فالكسر على كي والجزم على التهديد.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ بالأصنام يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يعني الإيمان يَكْفُرُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعموا أنّ لله شريكا، وقالوا إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها «3» .
__________
(1) الدرّ المنثور: 5/ 149، تفسير القرطبي: 13/ 359، وتفسير ابن كثير: 3/ 430، وبتفاوت في مجمع الزوائد: 10/ 321.
(2) في نسخة أصفهان: الأقمر.
(3) سورة الأعراف: 28.(7/289)
أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ بمحمد والقرآن لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً منزل لِلْكافِرِينَ. وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي والذين قاتلوا لأجلنا أعداءنا لنصرة ديننا لنثبتهم على ما قاتلوا عنه.
قال أبو سورة: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في الغزو لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبيل الشهادة أو المغفرة.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن وهب، قال:
حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغر فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا.
وقال الفضيل بن عياض: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في طلب العلم لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل العمل به.
وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد، قال: حدثني أبو الطيب محمد بن أحمد ابن حمدون، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن إدريس، قال: حدثنا أحمد بن أبي الجواري، قال: قال أبو أحمد- يعني عباس الهمداني- وأبو سليمان الداراني في قوله سبحانه: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم ربّهم إلى ما لا يعلمون.
وعن عمر بن عبد العزيز إنّه تكلم بكلمات وعنده نفر من العلماء، فقال له الوضين بن عطاء: بم أوتيت هذا العلم يا أبا مروان؟ قال: ويحك يا وضين إنّما قصر بنا من علم ما جهلنا بتقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو أنّا عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا.
وعن عبد الله بن الزبير قال: تقول الحكمة: من طلبني فلم يجدني فليطلبني في موضعين:
أن يعمل بأحسن ما يعلمه، أو يدع أسوأ ما يعلمه.
وروي عن ابن عباس: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في طاعتنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل ثوابنا. ضحاك: وَالَّذِينَ جاهَدُوا بالهجرة لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل الثبات على الإيمان، وقيل: وَالَّذِينَ جاهَدُوا بالثبات على الإيمان لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل دخول الجنان، سهل بن عبد الله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في إقامة السنّة لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل الجنة ثم قال: مثل السنّة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى، من دخل الجنة في العقبى سلم، فكذلك من لزم السنّة في الدنيا سلم، وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: والذين هديناهم سبيلنا جاهدوا فينا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
بالنصر والمعونة في دنياهم، وبالثواب والمغفرة في عقباهم.(7/290)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
سورة الروم
مكّية، وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا، وثمانمائة وتسع عشرة كلمة، وستّون آية
أخبرنا المغازي غير مرّة، قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الجرجاني، وأبو الشيخ عبد الله بن أحمد الأصبهاني قالا: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الكوفي، قال: حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي، قال: حدّثنا سلام بن سليمان المدائني، قال: حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «من قرأ سورة الرّوم كان له من الأجر، عشر حسنات بعدد كلّ ملك سبّح لله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيّع في يومه وليلته» [165] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
قوله عزّ وجلّ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ الآية.
قال المفسّرون: كانت في فارس امرأة لا تلد إلّا الملوك والأبطال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ!، فدعاها كسرى فقال: إنّي أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك فأشيري عليّ أيّهم أستعمل؟ فقالت: هذا فلان، أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر «2» ، وهذا فرخان أنفذ من سنان «3» ، وهذا شهريراز «4» هو أحلم من كذا، فاستعمل أيّهم شئت. قال: فإنّي
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 8/ 42.
(2) كتاب الأمثال: 107.
(3) في تفسير القرطبي (14/ 3) : فرخان أحد من سنان وأنفذ من نبل.
(4) في التفاسير: شهربنان، وفي تاريخ الطبري: شهر براز.(7/291)
استعملت الحليم، فاستعمل شهريراز، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم فقتلهم وخرّب مدائنهم وقطع زيتونهم، وكان قيصر بعث رجلا يدعى يحنس «1» وبعث كسرى شهريراذ فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وأصحابه بمكّة فشقّ عليهم، وكان النبيّ صلّى الله عليه يكره أن يظهر الأمّيّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم.
وفرح كفّار مكّة وشمتوا ولقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقالوا: إنّكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أمّيون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم. فإنّكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم.
فأنزل الله عزّ وجلّ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ ... إلى آخر الآيات «2» .
فخرج الصّدّيق رضي الله عنه إلى الكفّار فقال: فرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرّن الله أعينكم، فوالله ليظهرنّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبيّنا، فقام إليه أبيّ بن خلف الجمحي فقال: كذبت يا أبا فضيل، فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدوّ الله، فقال: اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه، والمناحبة: المراهنة على عشر قلائص منّي وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت، ففعل ذلك وجعلوا الأجل ثلاث سنين.
فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وأخبره وذلك قبل تحريم القمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما هكذا ذكرت، إنّما البضع ما بين ثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أبيّا فقال: لعلّك ندمت قال: لا، قال: فتعال أزايدك في الخطر وأمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت فلمّا خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه فقال: إنّي أخاف أن تخرج من مكّة فأقم لي كفيلا، فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر.
فلمّا أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه قال: والله لا أدعك حتّى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا ثمّ خرج إلى أحد، ثمّ رجع أبيّ بن خلف فمات بمكّة من جراحته التي جرحه رسول الله صلّى الله عليه حين بارزه.
وظهرت الروم على فارس يوم الحديبيّة وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم.
هذا قول أكثر المفسّرين.
__________
(1) في تفسير الطبري (21/ 23) : يدعى: قطمة بجيش من الروم.
(2) تفسير القرطبي: 14/ 4.(7/292)
وقال أبو سعيد الخدري ومقاتل: لمّا كان يوم بدر غلب المسلمون كفّار مكّة وأتاهم الخبر أنّ الروم قد غلبوا فارس ففرح المؤمنون بذلك.
قال الشعبي: لم تمض تلك المدّة التي عقدوا المناحبة بينهم، أهل مكّة وصاحب قمارهم أبيّ بن خلف، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر، وذلك قبل تحريم القمار حتّى غلبت الروم فارس وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فقمر أبو بكر أبيّا، وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به يحمله إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلّم:
«تصدّق به» [166] «1» .
وكان سبب غلبة الروم فارس على ما
قال عكرمة وغيره أنّ شهريراز بعد ما غلب الروم لم يزل يطأهم ويخرّب مدائنهم حتّى بلغ الخليج، فبينا أخوه فرخان جالس ذات يوم يشرب فقال لأصحابه: لقد رأيت كأنّي جالس على سرير كسرى، فبلغت كلمته كسرى فكتب إلى شهريراز:
إذا أتاك كتابي فابعث إليّ برأس فرخان.
فكتب إليه: أيّها الملك إنّك لم تجد مثل فرخان، إنّ له نكاية وصوتا في العدوّ فلا تفعل، فكتب إليه: إنّ في رجال فارس خلفا منه فعجّل إليّ برأسه، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس إنّي قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان. ثمّ دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وأمره فيها بقتل شهريراز وقال: إذا ولي فرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطه، فلمّا قرأ شهريراز الكتاب قال: سمعا وطاعة ونزل عن سريره وجلس فرخان فدفع إليه الصحيفة فقال: ائتوني بشهريراز فقدّمه ليضرب عنقه.
قال: لا تعجل حتّى أكتب وصيّتي، قال: نعم، قال: فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف، وقال: كلّ هذا راجعت فيه كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد، فردّ الملك إلى أخيه. فكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم: إنّ لي إليك حاجة لا يحملها البريد ولا تبلغها الصحف فألقني ولا تلقني إلّا في خمسين روميّا فإنّي ألقاك في خمسين فارسيّا.
فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق وخاف أن يكون قد مكر به حتّى أتاه عيونه أنّه ليس معه إلّا خمسون رجلا ثمّ بسط لهما والتقيا في قبّة ديباج ضربت لهما ومع كلّ واحد منهما سكين، فدعيا بترجمان بينهما فقال شهريراز: إنّ الذين خرّبوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا ومكرنا وشجاعتنا، وإنّ كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت.
ثمّ أمر أخي أن يقتلني. فقد خلعناه جميعا فنحن نقاتله معك، قال: قد أصبتما ثمّ أشار أحدهما إلى صاحبه أنّ السرّ بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا، فقتلا الترجمان جميعا بسكّينيهما [فأديلت] الروم على فارس عند ذلك فأتبعوهم يقتلونهم ومات كسرى.
وجاء الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه يوم الحديبية ففرح ومن معه، فذلك قوله عزّ
__________
(1) الدر المنثور: 6/ 479- 480.(7/293)
وجلّ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ يعني أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس وهي أذرعات «1» .
قال ابن عبّاس: طرف الشام. مجاهد: أرض الجزيرة. مقاتل: الأردن وفلسطين، عكرمة: أذرعات وكسكر. مقاتل بن حبان: هي ريف الشام.
وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي غلبتهم فحذفت التاء منه كما حذفت من قوله: وَأَقامَ الصَّلاةَ «2» وانّما هو إقامته.
وقرأ أبو حيوة الشامي (غَلْبِهِمْ) بسكون اللام وهما لغتان مثل الطّعن والطعن.
سَيَغْلِبُونَ فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ وقرأ عبد الله بن عمرو وأبو سعيد الخدري والحسن وعيسى بن عمر غَلَبَتِ بفتح الغين واللام سَيَغْلِبُونَ بضم الواو وفتح اللام.
قالوا: نزلت هذه الآية حين أخبر الله عزّ وجلّ نبيّه صلى الله عليه وسلّم عن غلبة الروم فارس، ومعنى الآية: الم غلبت الروم فارس فِي أَدْنَى الْأَرْضِ إليكم. وقرأ سعيد بن جبير وطلحة بن مصرف في أداني الأرض بالجمع وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سيغلبهم المسلمون. فِي بِضْعِ سِنِينَ وعند انقضاء هذه المدّة أخذ المسلمون في جهاد الروم.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدويه، عن الحسين بن الحسن بن أيّوب، عن علي بن عبد العزيز قال: أخبرني أبو عبيد عن حمّاد بن خالد الخيّاط عن معاوية بن صالح عن مرتد بن سمي قال: سمعت أبا الدرداء يقول: سيجيء قوم يقرءون: الم غَلَبَتِ الرُّومُ وإنّما هي غُلِبَتِ الرُّومُ. قال أبو عبيد بضم الغين يعني الأخيرة.
قوله: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ يعني من قبل دولة الروم على فارس ومن بعد وهما مرفوعان على الغاية. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ الروم لأنّهم أهل كتاب، وبنصر الله المؤمنين على الكافرين يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه عن عبد الله بن محمد بن شنبه، عن علي بن محمد ابن هامان، عن علي بن محمد الطّنافسي عن النعمان بن محمد عن أبي إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فارس نطحة أو نطحتان» ثمّ قال: «لا فارس بعدها أبدا، والروم ذات القرون أصحاب بحر وصخر، كلّما ذهب قرن خلف قرن، هيهات إلى آخر الأبد» [167] «3» .
__________
(1) أذرعات: بين بلاد العرب والشام، وقيل: هي بالأردن وفلسطين.
(2) سورة البقرة: 177. [.....]
(3) المصنف لابن أبي شيبة: 4/ 567.(7/294)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
وَعْدَ اللَّهِ نصب على المصدر لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني أمر معايشهم كيف يكتسبون ويتّجرون ومتى يغرسون ويحصدون وكيف يبنون ويعيشون.
وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ وبها جاهلون ولها مضيّعون، لا يتفكّرون فيها ولا يعملون لها. فعمّروا دنياهم وخرّبوا آخرتهم.
[سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 18]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى يعني ولوقت معلوم إذا انتهت إليه فنيت، وهو يوم القيامة.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ حرثوها وقلّبوها للزراعة والعمارة.
وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فلم يؤمنوا وأهلكهم الله عزّ وجلّ.
فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا العمل السُّواى يعني الخلّة التي تسوؤهم وهي النار. وقيل: (السُّواى) اسم لجهنّم كما أنّ (الْحُسْنى) اسم للجنة.
أَنْ كَذَّبُوا يعني لأن كذّبوا. وقيل: تفسير (السُّواى) ما بعدها وهو قوله: أَنْ كَذَّبُوا يعني: ثمّ كان عاقبة المسيئين التكذيب حملهم تلك السيئات على أن كذّبوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ استهزءوا بها.
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ.
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (يُبْلِسُ) يكتئب. أبو يحيى عنه: يفتضح. قتادة(7/295)
ومقاتل والكلبيّ: بياءين، ابن زيد: المبلس الذي قد نزل به البلاء والشّرّ. الفرّاء: ينقطع كلامهم وحججهم. أبو عبيدة: يندمون، وأنشد:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا ... قال نعم أعرفه وأبلسا «1»
وقرأ السلمي يُبْلَسُ بفتح اللّام، والأوّل أجود. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ أوثانهم التي عبدوها من دون الله ليشفعوا لهم شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ جاحدين وعنهم متبرّين.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ بستان يُحْبَرُونَ قال ابن عبّاس: يكرمون. مجاهد وقتادة: ينعمون. أبو عبيدة: يسرّون، ومنه قيل: كلّ حبرة تتبعها عبرة. وقال العجاج:
فالحمد لله الذي أعطى الحبر ... موالي الحقّ إن المولى شكر
أي السرور. وقال بعضهم: الحبرة في اللغة كلّ نعمة حسنة. والتّحبير: التحسين. ومنه قيل للمداد: حبر لأنّه يحسّن به الأوراق. والعالم: حبر لأنّه متخلّق بأخلاق حسنة، وقال الشاعر: يحبرها الكاتب الحميري. وقيل: يحبرون يلذّذون بالسّماع.
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن حامد بن محمد بن عبد الله عن محمد بن يونس، عن روح عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ قال: السماع في الجنّة.
أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله عن ابن شنبه، عن عمير بن مرداس عن سلمة بن شبيب عن عبد القدّوس بن الحجّاج قال: سمعت الأوزاعي يقول: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ قال:
السّماع. وقال: إذا أخذ في السّماع لم يبق في الجنّة شجرة إلّا ورّدت. وبه عن سلمة بن شبيب عن داود بن الجرّاح، العسقلاني قال: سمعت الأوزاعي يقول: ليس أحد ممّن خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل فإذا أخذ في السّماع قطع على أهل سبع سماوات صلاتهم وتسبيحهم.
وأخبرنا الحسين بن محمد الدينوري، عن أحمد بن الحسن بن ماجة القزويني، عن الحسن ابن أيّوب، عن عبد الله بن عراد الشيباني قالا: أخبرنا القاسم بن مطيب العجلي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الجنّة مائة درجة، ما بين كلّ درجتين منها كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها سموّا وأوسطها محلّه، ومنها تنفجر أنهار الجنّة، وعليها يوضع العرش يوم القيامة» [168] «2» .
فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله إنّي رجل حبّب إليّ الصّوت، فهل في الجنّة صوت حسن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، إنّ الله سبحانه ليوحي إلى شجرة في الجنّة أن أسمعي
__________
(1) الصحاح للجوهري: 3/ 909.
(2) مسند أحمد: 5/ 321، وسنن الترمذي: 4/ 82.(7/296)
عبادي الذين اشتغلوا بعبادتي وذكري عن عزف البرابط والمزامير، فترفع صوتا لم يسمع الخلائق مثله قط من تسبيح الرّبّ وتقديسه.
وأخبرني الحسين بن محمد عن هارون، عن محمّد بن هارون العطّار، عن حازم بن يحيى الحلواني، عن الوليد بن عبد الملك، عن مسروح الحرّاني، عن سليمان بن عطاء، عن سلمة بن عبد الله الجهني، عن عمّه، عن أبي الدرداء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يذكّر الناس فذكر الجنّة وما فيها من الأزواج والنعيم وفي [آخر] القوم أعرابي فجثا لركبتيه وقال: يا رسول الله هل في الجنّة من سماع؟ قال: «نعم يا أعرابي إنّ في الجنّة لنهرا حافتاه الأبكار من كلّ بيضاء خوصانية، يتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها، فذلك أفضل نعيم أهل الجنّة» [169] «1» .
قال: فسألت أبا الدرداء بم يتغنّين؟ قال: بالتسبيح إن شاء الله. قال: والخوصانية:
المرهفة الأعلى الضخمة الأسفل.
وأخبرني الحسين بن محمد عن أحمد بن محمد بن علي الهمداني عن علي بن سعيد العسكري قال: أخبرني أبو بدر عبّاد بن الوليد الغبري، عن محمّد ابن موسى الخراساني عن عبد الله بن عرادة الشيباني، عن القاسم بن مطيب عن مغيرة عن إبراهيم قال: «إنّ في الجنّة لأشجارا عليها أجراس من فضّة فإذا أراد أهل الجنّة السماع بعث الله عزّ وجلّ ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرّك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الأرض لماتوا طربا» [170] «2» .
وأخبرني الحسين، عن أبي شنبه وعبد الله بن يوسف قالا: قال محمد بن عمران، عن محمد بن منصور، قال: أخبرني يحيى بن أبي الحجّاج، عن عبد الله بن مسلم عن مولى لبني أميّة يقال له: سليمان، قال: سمعت أبا هريرة يسأل: هل لأهل الجنّة من سماع؟
قال: نعم، شجرة أصلها من ذهب وأغصانها فضّة وثمرها اللؤلؤ والزّبرجد والياقوت يبعث الله سبحانه وتعالى ريحا فيحكّ بعضها بعضا، فما سمع أحد شيئا أحسن منه.
قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ. فَسُبْحانَ اللَّهِ فصلّوا لله حِينَ تُمْسُونَ وهو صلاة العصر والمغرب وَحِينَ تُصْبِحُونَ صلاة الصبح وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وهو صلاة العشاء الآخرة. أيّ وسبّحوه عشيا وَحِينَ تُظْهِرُونَ صلاة الظهر.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان عن «3» أحمد بن محمد بن الحسين الحافظ، عن محمد بن
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 13.
(2) تفسير القرطبي: 14/ 13.
(3) في نسخة: عن أبي الشرقي عن محمد بن يحيى.(7/297)
يحيى، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين قال نافع بن الأزرق لابن عبّاس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ... إلى قوله: وَحِينَ تُظْهِرُونَ.
حدّثنا أبو بكر بن عبدوس قال: حدّثني أبو بكر الشرقي قال: حدّثني أبو حاتم الرازي قال: حدّثني أبو صالح كاتب الليث، حدّثني الليث، عن سعيد بن بشير، عن محمد بن عبد الرحمن السلماني، عن أبيه، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه قال: «من قال حين يصبح فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ... إلى قوله: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلة» [171] «1» .
وأخبرني محمد بن القاسم بن أحمد قال: كتب إليّ عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي أنّ زيد بن محمد بن خلف القرشي حدّثهم عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب عن عمي، عن الماضي بن محمد عن جويبر، عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قال:
سبحان اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ- هذه الآيات الثلاث من سورة الروم وآخر سورة الصافات- دبر كلّ صلاة يصلّيها كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء وقطر المطر وعدد ورق الشجر وعدد تراب الأرض، فإذا مات أجري له بكلّ حسنة عشر حسنات في قبره» [172] «2» .
وأخبرني عبد الله بن فنجويه، عن ابن شنبه وأحمد بن جعفر بن حمدان والفضل بن الفضل قالوا: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام الزنجاني، عن الحجّاج بن يوسف بن قتيبة بن مسلم، عن بشر بن الحسين، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: سبحان اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ... إلى قوله: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ... إلى قوله: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «3» » [173] «4» .
وأخبرني ابن فنجويه عن عمر بن أحمد بن القاسم عن محمد بن عبد الغفّار عن حبارة بن المغلس عن كثير عن الضحاك قال: من قال: سبحان اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ إلى آخر الآية كان له من الأجر كعدل مائتي رقبة من ولد إسماعيل (عليه السلام) .
وأخبرني ابن فنجويه عن ابن شنبه «5» عن علي بن محمد الطيالسي «6» ، عن يحيى بن آدم عن
__________
(1) سنن أبي داود: 2/ 493 ح 5076.
(2) البحار: 83/ 18.
(3) سورة الصافات: 180. 182.
(4) كنز العمال: 2/ 639، بتفاوت.
(5) في نسخة: عن علي بن محمد بن ماهان عن علي بن محمد الطنافسي.
(6) في نسخة أصفهان: الطنافسي.(7/298)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد العمي، عن محمد بن واسع، عن كعب قال: من قال حين يصبح: سبحان اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ إلى آخر الآية، لم يفته خير كان في يومه ولم يدركه شرّ كان فيه، ومن قالها حين يمسي لم يدركه شرّ كان في ليله «1» ولم يفته خير كان في ليله «2» ، وكان إبراهيم خليل الله صلّى الله عليه يقولها في كلّ يوم وليلة ست مرّات.
[سورة الروم (30) : الآيات 19 الى 27]
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم (عليه السلام) .
ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ يعني ذريته.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً من جنسكم ولم يجعلهنّ من الجنّ، وقيل:
من ضلع آدم وقيل: من نطف الرجال.
وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ألفة ومحبّة وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
أخبرني الحسين بن محمد، عن موسى بن محمد بن علي قال: أخبرني أبو شعيب الحراني، عن يحيى بن عبد الله البابلي، عن صفوان بن عمرو، عن المشيخة أنّ رجلا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: يا نبيّ الله لقد عجبت من أمر وإنّه لعجب، إنّ الرجل ليتزوّج المرأة وما رآها وما رأته قط حتى إذا ابتنى بها اصطحبا وما شيء أحبّ إليهما من الآخر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ فعربي وأعجمي.
__________
(1) في نسخة أصفهان: في يومه.
(2) المصدر السابق. [.....](7/299)
وَأَلْوانِكُمْ أبيض وأسود وأحمر وأنتم ولد رجل واحد وامرأة واحدة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ بكسر اللّام حفص، والياقوت بفتحها.
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وحذف أن من قوله (يُرِيكُمُ) لدلالة الكلام عليه، كقول طرفه:
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى ... وإن اشهد اللذات هل أنت مخلدي «1»
أراد أن أحضر. وقيل: هو على التقديم والتأخير تقديره: ويريكم البرق خوفا، من آياته.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ أي من قبوركم، عن ابن عبّاس إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ منها، وأكثر العلماء على أنّ معنى الآية ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ
من الأرض.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ. وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فقرأ ابن مسعود: يبدي، ودليله قوله: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ «2» .
ودليل العامّة كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ «3» وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ «4» قال الربيع بن خيثم والحسن: وهو هيّن عليه وما شيء عليه بعزيز، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس، وهذا كقول الفرزدق:
إنّ الذي سمك السماء بنا لها ... بيتا دعائمه أعزّ وأطول «5»
أي عزيزة طويلة.
وقال آخر:
لعمرك إنّ الزبرقان لباذل معروفه ... عند السنين وأفضل
أي فاضل.
وقال مجاهد وعكرمة: الإعادة أهون عليه من البدأة أي أيسر. وهي رواية الوالبي عن ابن عبّاس: ووجه هذا التأويل أنّ هذا مثل ضربه الله تعالى، يقول: إعادة الشيء على الخلق أهون
__________
(1) جامع البيان للطبري: 1/ 548، لسان العرب: 13/ 22.
(2) سورة البروج: 13.
(3) سورة الأعراف: 29.
(4) سورة الروم: 27.
(5) البداية والنهاية: 1/ 44.(7/300)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
من ابتدائه فينبغي أن يكون البعث أهون عليه عندكم من الإنشاء. وقال قوم: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، أي على الخلق، يصاح بهم صيحة فيقومون، ويقال لهم: كونوا فيكونون أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثمّ علقا ثمّ مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء. وهذا معنى رواية حسان، عن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عبّاس واختيار قطرب.
وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العليا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عبّاس: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وقال قتادة: مثله أنّه لا إله إلّا هو ولا ربّ غيره. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 35]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من عبيدكم وإمائكم مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من المال فَأَنْتُمْ وهم فِيهِ شرع سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ قال ابن عبّاس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا، وقيل:
تخافون هؤلاء الشركاء أن يقاسموكم أموالكم كما يقاسم بعضكم بعضا، وهذا معنى قول أبي محلز، فإذ لم تخافوا هذا من مماليككم ولم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء؟ وأنتم وهم عبيدي وأنا مالككم جميعا، فكما لا يجوز استواء المملوك مع سيّده فكذلك لا يجوز استواء المخلوق مع خالقه.
ثمّ قال: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ.
دين الله وهو نصب على المصدر أي فطر فطرة. ومعنى الآية: إنّ الدّين الحنيفية، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها وقيل: نصب على الإغراء. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لدين الله، أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل، ظاهره نفي ومعناه نهي، هذا قول أكثر العلماء والمفسّرين.
وقال عكرمة ومجاهد: لا تغيير لخلق الله من البهائم بالخصاء ونحوه.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن(7/301)
يحيى، عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة هل تحسون «1» فيها من جدعاء؟» [174] «2» قال: ثمّ يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها الآية.
وأخبرني عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو بكر محمد بن جعفر المطيري، عن أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدّب عن عبد الرزاق، وأخبرنا أبو سعيد التاجر قال: أخبرني أبو حامد الشرقي، وحدّثنا محمد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر والسلمي، قالوا: قال عبد الرزّاق عن معمر عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه قال: «ما من مولود إلّا يولد على هذه «3» الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه كما تنتجون البهيمة فهل تجدون فيها من جدعاء حتّى تكونوا أنتم تجدعونها؟ قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين» [175] «4» .
وقال الأسود بن سريع: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم أربع غزوات وأنّ قوما تناولوا الذرّية بالقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما بال أقوام قتلوا المقاتلة ثمّ تناولوا الذرّية؟» ، فقال رجل: يا رسول الله إنّما هم أولاد المشركين، فقال (عليه السلام) : «إنّ خياركم أولاد المشركين، والذي نفسي بيده ما من مولود إلّا يولد على الفطرة فما يزال عليها حتّى يبيّن عنه لسانه فأبواه يهوّدانه وينصّرانه» [176] «5» .
وروى قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «إنّ الله «6» أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني في يومي هذا وأنّه قال: إن «7» كلّ مال نحلته عبادي فهو لهم حلال وإنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا»
[177] «8» . وذكر الحديث.
__________
(1) في المصدر: ترى.
(2) صحيح البخاري: 2/ 104.
(3) غير موجودة في المصدر.
(4) صحيح البخاري: 7/ 211.
(5) مسند أحمد: 4/ 24- والمقطع الآخر من الحديث موجود في مستدرك الحاكم: 2/ 123 وكذلك في السنن الكبرى: 9/ 130، بتفاوت يسير.
(6) في المصدر: «ربي» .
(7) «وأنّه قال: إن» غير موجودة في المصدر.
(8) مسند أحمد: 4/ 162.(7/302)
قال أبو بكر الورّاق: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها هي الفقر والفاقة. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
قوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ «1» وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً فرقا كاليهود والنصارى.
أخبرني «2» الحسين بن محمد بن عبد الله الدينوري، عن محمد بن عمر بن إسحاق بن حبيش الكلواذي، عن عبد الله بن سليمان بن الأشعث، عن محمد بن مصفى، عن بقية بن الوليد عن شعبة أو غيره، عن مجالد، عن الشعبي، عن شريح، عن عمر بن الخطّاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعائشة: «يا عائشة إنّ الّذين فارقوا دينهم وَكانُوا شِيَعاً هم أهل البدع والضّلالة من هذه الأمّة، يا عائشة إنّ لكلّ صاحب ذنب توبة إلّا صاحب البدع والأهواء ليست لهم توبة، أنا منهم بريء وهم منّي براء» [178] «3» .
كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قوله: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً ... خصبا ونعمة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وفي مصحف عبد الله وليتمتّعوا أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً. قال ابن عبّاس والضحّاك: حجّة وعذرا. قتادة والربيع: كتابا.
فَهُوَ يَتَكَلَّمُ ينطق بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ يعذرهم على شركهم ويأمرهم به.
__________
(1) في نسخة أصفهان زيادة: راجعين إليه بالتوبة، مقبلين إليه بالطاعة وهو نصب على الحال والقطع أي فأقم وجهك أنت وامّتك منيبين إليه. [.....]
(2) في نسخة أصفهان: أخبرني ابن فنجويه.
(3) الدر المنثور: 3/ 63 مورد الآية، وكتاب السنة لأبي عاصم: 8 ح 4.(7/303)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
[سورة الروم (30) : الآيات 36 الى 53]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً. قرأ ابن كثير (ءاتيتم) مقصور غير ممدود لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ. قرأ الحسن وعكرمة وأهل المدينة لتربوا بضمّ التاء وجزم الواو وعلى الخطاب أي لتربوا أنتم، وهي قراءة ابن عبّاس واختيار يعقوب وأيّوب وأبي حاتم.
وقرأ الآخرون (لّيربوا) بياء مفتوحة ونصب الواو وجعلوا الفعل للربا. واختاره أبو عبيد لقوله: فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ ولم يقل فلا يربى. واختلف المفسّرون في معنى الآية. فقال سعيد ابن جبير ومجاهد وطاوس وقتادة والضحاك: هو الرجل يعطي الرجل العطية ويهدي الهدية ليثاب أكثر منها، فهذا ربا حلال ليس فيه أجر ولا وزر، وهذا للناس عامّة، فأمّا النبيّ صلى الله عليه وسلّم خاصّة فكان هذا عليه حراما لقوله عزّ وجلّ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «1» . وقال الشعبي: هو الرجل يلزق بالرجل فيحف له ويخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله ليجزيه وإنّما أعطاه التماس عونه ولم يرد به وجه الله. وقال النخعي: هذا في الرجل يقول للرجل: لأمولنّك فيعطيه مراعاة، وكان الرجل في الجاهلية يعطي ذا القرابة له المال ليكثر ماله، وهي رواية أبي حسين «2» عن ابن عبّاس. وقال السدي: نزلت في ثقيف كانوا يعطون الربا.
فَلا يَرْبُوا يزكو عِنْدَ اللَّهِ لأنّه لم يرد به وجه الله. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ قال قتادة: هذا الذي يقبله الله ويضاعفه له عَشْرُ أَمْثالِها وأكثر من ذلك. ومعنى قوله: (الْمُضْعِفُونَ) . أهل التضعيف. كقول العرب: أصبحتم مسمنين، إذا
__________
(1) سورة المدثر: 6.
(2) في نسخة أصفهان: أبي حصن.(7/304)
سمنت إبلهم، ومعطشين إذا عطشت. ورجل مقو إذا كانت إبله قويّة، ومضعف إذا كانت ضعيفة، ومنه الخبيث المخبّث أي أصحابه خبّثا.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ أي قحط المطر ونقص الغلّات وذهاب البركة فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تقول: أجدبت البرّ وانقطعت مادّة البحر بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ بشؤم ذنوبهم.
قال قتادة: هذا قبل أن يبعث الله نبيّه (عليه السلام) امتلأت الأرض ظلما وضلالة، فلمّا بعث الله عزّ وجلّ محمّدا (صلى الله عليه وسلّم) رجع راجعون من الناس. فالبرّ أهل العمود والمفاوز والبراري، والبحر أهل الرّيف والقرى. قال مجاهد: أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كلّ قرية على ماء جار فهو بحر. وقال عكرمة: العرب تسمّي الأمصار بحرا. وقال عطية وغيره: البرّ ظهر الأرض، الأمصار وغيرها، والبحر هو البحر المعروف. وقال عطية: إذا قلّ المطر قلّ الغوص.
وقال ابن عبّاس: إذا مطرت السماء تفتح الأصداف فمها في البحر فما وقع فيها من ماء السماء فهو لؤلؤ. وقال الحسن: البحر القرى على شاطئ البحر. قال ابن عبّاس وعكرمة ومجاهد:
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ بقتل ابن آدم أخاه وَالْبَحْرِ بالملك الجائر الذي كان يأخذ كلّ سفينة غصبا واسمه الجلندا، رجل من الأزد.
لِيُذِيقَهُمْ قرأ السلمي بالنون وهو اختيار أبي حاتم. الباقون بالياء بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي عقوبة بعض الذي عملوا من ذنوبهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم وأعمالهم الخبيثة. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتفرّقون، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.. مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ يفرشون ويسوّون المضاجع في القبور. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ثوابه إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ.
قوله: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ نعمته المطر. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ رزقه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أشركوا كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
في العاقبة، فكذلك نحن ناصروك ومظفروك على من عاداك وناواك. قال الحسن: يعني أنجاهم مع الرسل من عذاب الأمم.
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الدينوري، قال أبو العبّاس أحمد بن محمد بن يوسف الصرصري، عن الحسين بن محمد المطبقي، عن الربيع بن سليمان، عن علي(7/305)
ابن معبد عن موسى بن أعين، عن بشير بن أبي سليمان، عن عمرو بن مرّة عن شهر بن حوشب [عن أمّ الدرداء] عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «ما من امرئ يردّ عن عرض أخيه إلّا كان حقّا على الله سبحانه أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة» [179] «1» ، ثمّ تلا هذه الآية: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ.
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً أخبرني ابن فنجويه عن مخلد الباقرحي، عن الحسن بن علوية، عن إسماعيل بن عيسى، عن إسحاق بن بشر، أخبرنا إدريس أبو الياس، عن وهب بن منبه: أنّ الأرض شكت إلى الله عزّ وجلّ أيّام الطوفان لأنّ الله عزّ وجلّ أرسل الماء بغير وزن ولا كيل فخرج الماء غضبا لله عزّ وجلّ فخدش الأرض وخدّدها فقالت: يا ربّ إنّ الماء خدّدني وخدشني، فقال الله عزّ وجلّ فيما بلغني- والله أعلم- إنّي سأجعل للماء غربالا لا يخدّدك ولا يخدشك، فجعل السّحاب غربال المطر. فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ردّ الكناية إلى لفظ السحاب لذلك ذكرها. والسحاب جمع كما يقال: هذا تمر جيّد وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً قطعا متفرّقة. فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وسطه. وقرأ ابن عبّاس من خلله. فَإِذا أَصابَ بِهِ أي بالودق مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كانُوا وقد كانوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ وقيل: وما كانوا إلّا. قال قطرب والفائدة في تكرار قبل هاهنا أنّ الأولى للإنزال والثّانية للمطر، وقيل على التأكيد، كقول الله عزّ وجلّ: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ «2» كرّر تحسبنّ للتأكيد. وقال الشاعر:
إذا أنا لم أؤمن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلّا من وراء وراء «3»
وفي حرف ابن مسعود لا تحسبنّ الّذين يفرحون بما أتوا ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب غير مكرّر، وفي حرفه أيضا: وإن كانوا من قبل أن ينزّل عليهم لمبلسين غير مكرّر.
قوله عزّ وجلّ: فَانْظُرْ إِلى آثارِ بالألف على الجمع- أهل الشام والكوفة. واختلف فيه عن أصم، غيرهم: أثر على الواحد رَحْمَتِ اللَّهِ يعني المطر كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من البعث وغيره.
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً باردة مضرّة فأفسدت ما أنبت الغيث فَرَأَوْهُ يعني الزرع والنبات كناية عن غير مذكور مُصْفَرًّا يابسا بعد خضرته ونضرته لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ وقد رأوا هذه الآيات الواضحات، ثمّ ضرب لهم مثلا فقال: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ
__________
(1) كنز العمال: 3/ 418- بتفاوت يسير.
(2) آل عمران: 188.
(3) الصحاح: 6/ 2523.(7/306)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ.
[سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58)
كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ نطفة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً شبابا ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً هرما وَشَيْبَةً. قرأ يحيى وعاصم والأعمش وحمزة [بفتح] «1» الضاد من الضعف، غيرهم بالضمّ فيها كلّها، واختارها أبو عبيد لأنّها لغة النبي صلى الله عليه وسلّم.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، عن حامد بن محمد، عن علي بن عبد العزيز قال أبو نعيم، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي قال: قرأت على ابن عمر اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً يعني بالضم، ثمّ قال: إنّي قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخذها عليّ كما أخذتها عليك
، وكان عاصم الجحدري يقرأ الله الّذي خلقكم من ضعف ثمّ جعل من بعد ضعف- بالضم- قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً- بالفتح- أراد أن يجمع بين اللغتين. قال الفرّاء: الضمّ لغة قريش والنصب لغة تميم يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ.
وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ يحلف المشركون ما لَبِثُوا في الدنيا غَيْرَ ساعَةٍ «2» استقلّ القوم أجل الدنيا لمّا عاينوا الآخرة. وقال مقاتل والكلبي: يعني ما لَبِثُوا في قبورهم غَيْرَ ساعَةٍ، استقلّوا ذلك لما استقبلوا من هول يوم القيامة، نظيرها قوله عزّ وجلّ:
كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ ومِنْ نَهارٍ ... كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ يكذّبون في الدّنيا.
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ أي فيما كتب الله لكم في سابق علمه. وقيل: في حكم الله، كقول الشاعر:
__________
(1) في نسخة أصفهان: بضم.
(2) سورة يونس: 45.(7/307)
ومال الولاء بالبلاء فملتم ... وما ذاك قال الله إذ هو يكتب «1»
أي يحكم. وقال قتادة ومقاتل: هذا من مقاديم الكلام تأويلها: وقال الّذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان لقد لبثتم إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ في الدنيا أنّه يكون وأنّكم مبعوثون ومجزيّون فكنتم به تكذّبون.
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يسترجعون.
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ما أنتم إلّا على باطل كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ في نصرك وتمكينك حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ يستزلنّك ويستخفنّ رأيك عن حكمك الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ.
__________
(1) غريب الحديث: 1/ 70- تفسير القرطبي: 20/ 143.(7/308)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
سورة لقمان
مكيّة، وهي ألفان ومائة وعشرة أحرف، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة، وأربع وثلاثون آية
أخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن يزيد المعدل قال: أخبرني أبو يحيى البزار، عن محمد بن منصور، عن محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدّثني أبي، عن مخالد بن عبد الواحد، عن الحجّاج بن عبد الله، عن أبي الخليل، عن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة، عن زر بن حبيش، عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا في يوم القيامة وأعطي من الحسنات عشرا بقدر من عمل المعروف، وعمل بالمنكر» «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. هُدىً وَرَحْمَةً قرأ العامة بالنصب على الحال والقطع، وقرأ حمزة (وَرَحْمَةٌ) بالرفع على الابتداء لِلْمُحْسِنِينَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
__________
(1) تفسير نور الثقلين: 4/ 193 ح 2، وتفسير مجمع البيان: 8/ 74.(7/309)
قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ.
قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي، كان يتجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ويحدّث بها قريشا ويقول لهم: إنّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدّثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأعاجم والأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، وقال مجاهد: يعني شراء [القيان] والمغنّين، ووجه الكلام على هذا التأويل يشتري ذات أو ذا لهو الحديث.
أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزكى سنة ثلاث وثمانين، حدّثني جدّي محمد بن إسحاق بن خزيمة] عن علي بن خزيمة] عن علي بن حجرة، عن مستمغل بن ملجان الطائي، عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زجر، عن علي بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ تعليم المغنيات ولا بيعهن، وأثمانهن حرام، وفي مثل هذا نزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... »
[180] «1» إلى آخر الآية.
وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلّا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتّى يكون هو الذي يسكت.
وقال آخرون: معناه يستبدل ويختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن وقال: سبيل الله:
القرآن.
وقال أبو الصهباء البكري: سألت ابن مسعود عن هذه الآية، فقال: هو الغناء والله الذي لا إله إلّا هو يردّدها ثلاث مرّات، ومثله روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. ابن جريج: هو الطبل. عبيد عن الضحّاك: هو الشرك. جويبر عنه: الغناء، وقال: الغناء مفسدة للمال، مسخطة للربّ مفسدة للقلب. وقال ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عبّاس: نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية تغنّيه ليلا ونهارا. وكلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله إلى ما نهى عنه فهو لهو ومنه الغناء وغيره. وقال قتادة: هو كلّ لهو ولعب. قال عطاء: هو الترّهات والبسابس.
وقال مكحول: من اشترى جارية ضرّابة ليمسكها لغناها وضربها مقيما عليه حتّى يموت لم أصلّ عليه، إنّ الله عزّ وجلّ يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ... إلى آخر الآية.
وروى علي بن يزيد عن القاسم بن أبي أمامه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير والأوتار والصّلب وأمر الجاهلية، وحلف ربّي بعزّته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر متعمّدا «2» إلّا سقيته من الصديد مثلها
__________
(1) سنن الترمذي: 2/ 375 بتفاوت، والسنن الكبرى: 6/ 14، وكنز العمال: 4/ 39.
(2) غير موجودة في المصدر.(7/310)
يوم القيامة مغفورا له أو معذّبا، ولا يسقيها صبيّا صغيرا ضعيفا مسلما إلّا سقيته مثلها من الصديد «1» يوم القيامة مغفورا له أو معذّبا، ولا يتركها من مخافتي إلّا سقيته من حياض القدس يوم القيامة. لا يحلّ بيعهن ولا شرائهن ولا تعليمهن ولا التجارة بهن وثمنهنّ حرام» [181] «2» .
يعني الضوارب. وروى حمّاد عن إبراهيم قال: الغناء ينبت النفاق في القلب. وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك يحرقون الدفوف.
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن ابن شاذان، عن جيغويه، عن صالح بن محمد، عن إبراهيم ابن محمد، عن محمد بن المنكدر قال: بلغني أنّ الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أدخلوهم رياض المسك، ثمّ يقول للملائكة: أسمعوا عبادي حمدي وثنائي وتمجيدي وأخبروهم أن لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
قوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب وَيَتَّخِذَها بنصب الذال عطفا على قوله: لِيُضِلَّ وهو اختيار أبي عبيد قال:
لقربه من المنصوب، وقرأ الآخرون بالرفع نسقا على قوله: يَشْتَرِي.
أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ أخبره بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ. خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي نوعا حسنا هذا الذي ذكرت ممّا يعاينون خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ من آلهتكم التي تعبدونها بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
__________
(1) في المصدر: هكذا «من الصديد مثلها» . [.....]
(2) مسند أحمد: 5/ 268.(7/311)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 21]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
قوله: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ يعني العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأمور.
قال محمّد بن إسحاق بن يسار: وهو لقمان بن باعور بن باحور بن تارخ وهو آزر، وقال وهب: كان ابن أخت أيّوب. وقال مقاتل: ذكر أنّ لقمان كان ابن خالة أيّوب.
قال الواقدي: كان قاضيا في بني إسرائيل، واتّفق العلماء على أنّه كان حكيما ولم يكن نبيّا إلّا عكرمة فإنّه قال: كان لقمان نبيّا، تفرّد بهذا القول.
حدّثنا أبو منصور الجمشاذي قال: حدّثني أبو عبد الله محمد بن يوسف، عن الحسين بن محمد، عن عبد الله بن هاشم، عن وكيع عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة قال: كان لقمان نبيّا. وقال بعضهم: خيّر لقمان بين النبوّة والحكمة، فاختار الحكمة.
وروى عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه يقول: «حقّا أقول لم يكن لقمان نبيّا ولكن عبد صمصامة كثير التفكير، حسن اليقين «1» ، أحبّ الله فأحبّه وضمن عليه بالحكمة» [182] «2» .
[وروي أنّ لقمان في ابتداء أمره] «3» كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحقّ؟ فأجاب الصوت فقال: إن خيّرني ربّي قبلت العافية ولم أقبل البلاء، وإن عزم عليّ فسمعا وطاعة. فإنّي أعلم إن فعل ذلك بي عصمني وأعانني، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأنّ الحاكم بأشدّ المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كلّ مكان إن [وفي فبالحري] أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة، ومن يكن في الدنيا ذليلا [وفي الآخرة شريفا] خير من أن يكون] في الدنيا] شريفا [وفي الآخرة ذليلا] .
ومن تخيّر الدنيا على الآخرة تفته «4» الدنيا ولا يصيب الآخرة، فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة. فانتبه يتكلّم بها «5» .
__________
(1) في المصدر: الظن.
(2) كنز العمال: 14/ 34.
(3) زيادة عن المصدر.
(4) في المصدر: تفتنه.
(5) المهذب البارع لابن فهد: 4/ 454، وتاريخ دمشق: 17/ 85.(7/312)
ثمّ نودي داود بعده فقبلها ولم يشرط ما شرط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرّة كلّ ذلك يعفو الله عزّ وجلّ عنه، وكان لقمان يؤازره بحكمته، فقال له داود: طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى. وأعطي داود الخلافة وأبتلي بالبليّة والفتنة.
وحدّثنا الإمام أبو منصور بن الجمشاذي لفظا قال: حدّثني أبو عبد الله بن يوسف عن الحسن بن محمد، عن عبد الله بن هاشم، عن وكيع، عن محمّد بن حسّان، عن خالد الربعي قال: كان لقمان عبدا حبشيّا نجّارا. وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبي عن أسود بن عامر، عن حمّاد، عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب أنّ لقمان كان خيّاطا.
أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ يعني وقلنا له: أن اشكر لله.
وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
قال مجاهد: كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين، متشقّق القدمين. وروى الأوزاعي عن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنّك أسود، فإنّه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر بن الخطّاب ولقمان الحكيم كان أسود نوبيّا من سودان مصر ذا مشافر.
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ واسمه أنعم وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ قال ابن عبّاس: شدّة بعد شدّة. الضحاك: ضعف على ضعف. قتادة: جهدا على جهد. مجاهد وابن كيسان: مشقّة على مشقّة.
وَفِصالُهُ فطامه. وروي عن يعقوب: وفصله فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ أنبأني عبد الله بن حامد الأصفهاني، عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي قال:
أخبرني أبو بكر محمّد بن القاسم البلخي، عن نصير بن يحيى، عن سفيان بن عيينة في قول الله عزّ وجلّ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ قال: من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات فقد شكر للوالدين.
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً عشرة جميلة، وتقديره: بالمعروف.
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ واسلك طريق محمّد وأصحابه.
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ نزلت هاتان الآيتان في سعد بن أبي وقّاص وأمّه، وقد مضت القصّة.(7/313)
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ قال بعض النحاة: هذه الكناية راجعة إلى الخطيئة والمعصية، يعني: إنّ المعصية إن تك. يدلّ عليه قول مقاتل: قال أنعم بن لقمان لأبيه: يا أبة إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال له: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ. وقال آخرون: هذه الهاء عماد، وإنّما أنّث لأنّه ذهب بها إلى الحبّة، كقول الشاعر:
ويشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم «1»
ويرفع المثقال وينصب، فالنّصب على خبر كان والرّفع على اسمها ومجازه: إن تقع وحينئذ لا خبر له: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ قال قتادة: في جبل، وقال ابن عبّاس: هي صخرة تحت الأرضين السبع وهي التي يكتب فيها أعمال الفجّار، وخضرة السماء منها، وقال السدي: خلق الله الأرض على حوت وهو النون الذي ذكره الله عزّ وجلّ في القرآن ن. وَالْقَلَمِ «2» والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك والملك، على صخرة، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، والصخرة على الرّيح.
أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ باستخراجها خَبِيرٌ عالم بمكانها. ورأيت في بعض الكتب أنّ لقمان (عليه السلام) قال لابنه: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ ... إلى آخر الآية. فانفطر من هيبة هذه الكلمة فمات فكانت آخر حكمته.
قوله: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي الأمور الواجبة التي أمر الله بها، وقال ابن عبّاس: حزم الأمور. مقاتل: حقّ الأمور.
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قرأ النخعي ونافع وأبو عمرو وابن محيص ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي تصاعر بالألف.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو حبش قال أبو القاسم بن الفضل قال أبو زرعة: حدّثني نضر بن علي قال: أخبرني أبي عن معلى الورّاق عن عاصم الجحدري وَلا تُصْعِرْ خَدَّكَ بضم التاء وجزم الصاد من أصعر. الباقون تُصَعِّرْ من التّصعير. قال ابن عبّاس:
يقول لا تتكبّر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك. مجاهد: هو الرجل يكون بينه وبينك إحنة فتلقاه فيعرض عنك بوجهه. عكرمة: هو الذي إذا سلّم عليه لوى عنقه تكبّرا. الربيع وقتادة: لا تحقّر الفقراء، ليكن الفقير والغني عندك سواء.
عطاء: هو الذي يلوي شدقه. أخبرنا عبد الله بن حامد، عن حامد بن محمد، عن محمد
__________
(1) الصحاح: 2/ 709.
(2) سورة القلم: 1. 2.(7/314)
ابن صالح، عن عبد الصمد، عن خارجة بن مصعب، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قال: التشديق في الكلام. وقال المؤرّخ: لا تعبس في وجوه الناس.
وأصل هذه الكلمة من الميل، يقال: رجل أصعر إذا كان مائل العنق. وجمعه صعر، ومنه، الصّعر: وهو داء يأخذ الإبل في أعناقها ورؤوسها حتى يلفت أعناقها، فشبّه الرجل المتكبّر الذي يعرض عن الناس احتقارا لهم بذلك. قال الشاعر يصف إبلا:
وردناه في مجرى سهيل يمانيا ... بصعر البري من بين جمع وخادج «1»
أي مائلات البري. وقال آخر:
وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه ... أقمنا له من ميله فتقوّما «2»
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي خيلاء. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ في مشيته فَخُورٍ على الناس.
أخبرني عبد الله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن شاذان، عن جيغويه، عن صالح ابن محمد، عن جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: خرج رجل يتبختر في الجاهلية عليه حلّة، فأمر الله عزّ وجلّ الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة «3» .
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي تواضع ولا تتبختر وليكن مشيك قصدا لا بخيلاء ولا إسراع.
أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران المقرئ سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرني أبو العبّاس محمد بن إسحاق السرّاج وأبو الوفا، المؤيّد بن الحسين بن عيسى قالا: قال عبّاس بن محمد الدوري، عن الوليد بن سلمة قاضي الأردن، عن عمر بن صهبان، عن نافع عن ابن عمران أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «سرعة المشي يذهب بهاء المؤمن» [183] «4» .
وَاغْضُضْ واخفض مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ قال مجاهد وقتادة والضحاك: أقبح، أوّله زفير وآخره شهيق، أمره بالاقتصاد في صوته. عكرمة والحكم بن عيينة:
أشدّ. ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيرا ما جعله للحمير.
أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحري قال: أخبرني أبو حامد أحمد بن عبدون بن عمارة الأعمش قال: أخبرني أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي، عن يحيى بن صالح
__________
(1) غريب الحديث: 1/ 126.
(2) البداية والنهاية: 2/ 149.
(3) مسند أحمد: 2/ 222. كنز العمال: 3/ 537 اختلاف في الحديث.
(4) كنز العمال: 15/ 412 ح 41620.(7/315)
الوحاضي، عن موسى بن أعين قال: سمعت سفيان يقول في قوله عزّ وجلّ: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ يقول: صياح كلّ شيء تسبيح لله عزّ وجلّ إلّا الحمار. وقيل: لأنّه ينهق بلا فائدة.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه عن محمد بن الحسين بن بشر قال: أخبرني أبو بكر ابن أبي الخصيب، عن عبد الله بن جابر، عن عبد الله بن الوليد الحراني، عن عثمان بن عبد الرحمن، عن عنبسة بن عبد الرحمن، عن محمد بن زادان، عن أمّ سعد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ يبغض ثلاثة أصوات: نهقة الحمار، ونباح الكلب، والداعية بالحرب» [184] .
فصل في ذكر بعض ما روي من حكم لقمان
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان الأصفهاني، عن أحمد بن شاذان، عن جيغويه بن محمد [عن صالح بن محمد] عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن محمد بن عجلان قال: قال لقمان: ليس مال كصحّة، ولا نعيم كطيب نفس.
وأخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، عن محمد بن عبد الغفّار الزرقاني، عن أبو سكين زكريا بن يحيى بن عمر بن [حفص «1» ] عن عمّه أبي زجر بن حصن، عن جدّه حميد بن منهب قال: حدّثني طاوس، عن أبي هريرة قال:
مرّ رجل بلقمان والناس مجتمعون عليه فقال: ألست بالعبد الأسود الذي كنت راعيا بموضع كذا وكذا؟ قال: بلى. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني.
وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو الحسين بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله ابن أحمد بن حنبل، عن أبيّ، عن وكيع قال: أخبرني أبو الأشهب، عن خالد الربعي قال: كان لقمان عبدا حبشيّا نجّارا، فقال له سيّده: اذبح لنا شاة، فذبح له شاة، فقال له: ائتني بأطيب المضغتين فيها، فأتاه باللسان والقلب. فقال: ما كان فيها شيء أطيب من هذا؟ قال: لا، قال:
فسكت عنه ما سكت، ثمّ قال له: اذبح لنا شاة، فذبح شاة، فقال: ألق أخبثها مضغتين، فرمى باللسان والقلب، فقال: أمرتك أن تأتيني بأطيبها مضغتين فأتيتني باللّسان والقلب وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت اللسان والقلب؟! فقال: لأنّه ليس شيء بأطيب منهما إذا طابا وأخبث منهما إذا خبثا.
__________
(1) في نسخة أصفهان: حصن.(7/316)
وأخبرني الحسين بن محمد، عن أحمد بن جعفر بن حمدان، عن يوسف بن عبد الله عن موسى ابن إسماعيل، عن حمّاد بن سلمة، عن أنس أنّ لقمان كان عند داود (عليه السلام) وهو يسرد درعا فجعل لقمان يتعجّب ممّا يرى، ويريد أن يسأله، ويمنعه حكمه عن السؤال، فلمّا فرغ منها وجاء بها وصبها قال: نعم درع الحرب هذه! فقال لقمان: إنّ من الحكم الصمت وقليل فاعله.
[وأخبرني الحسين بن محمد بن ماهان عن علي بن محمد الطنافسي «1» ] قال: أخبرني أبو أسامة ووكيع قالا: أخبرنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة قال: كان لقمان من أهون مملوكيه على سيّده. قال: فبعثه مولاه في رقيق له إلى بستان له ليأتوه من ثمره، فجاؤوا وليس معهم شيء، وقد أكلوا الثمر، وأحالوا على لقمان. فقال لقمان لمولاه: إنّ ذا الوجهين لا يكون عند الله أمينا، فاسقني وإيّاهم ماء حميما ثمّ أرسلنا فلنعد، ففعل، فجعلوا يقيئون تلك الفاكهة وجعل لقمان يقيء ماء، فعرف صدقه وكذبهم.
قال: أوّل ما روي من حكمته، أنّه بينا هو مع مولاه، إذ دخل المخرج فأطال فيه الجلوس، فناداه لقمان: إنّ طول الجلوس على الحاجة ينجع منه الكبد، ويورث الباسور، ويصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هونا، وقم هونا، قال: فخرج وكتب حكمته على باب [الحش] «2» .
قال: وسكر مولاه يوما فخاطر قوما على أن يشرب ماء بحيرة، فلمّا أفاق عرف ما وقع فيه فدعا لقمان فقال: لمثل هذا كنت اجتبيتك، فقال: اخرج كرسيّك وأباريقك ثمّ اجمعهم، فلمّا اجتمعوا قال: على أيّ شيء خاطرتموه؟ قالوا: على أن يشرب ماء هذه البحيرة، قال: فإنّ لها موادّ احبسوا موادّها عنها، قالوا: وكيف نستطيع أن نحبس موادها عنها؟ قال لقمان: وكيف يستطيع شربها ولها موادّ؟! وأخبرني الحسين بن محمد، عن عبيد الله بن محمد بن شنبه، عن علي بن محمد بن ماهان، عن علي بن محمد الطنافسي قال: أخبرني أبو الحسين العكلي [عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن داود بن عمر، عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن دينار أنّ لقمان قدم من سفر،] «3» فلقي غلامه في الطريق، فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات، قال: الحمد لله، ملكت
__________
(1) وفي نسخة أصفهان: أخبرني ابن فنجويه عن ابن شنبه قال: حدّثنا علي بن محمد بن ماهان، عن علي بن محمد الطنافسي. [.....]
(2) تفسير الدر المنثور: 5/ 161 مورد الآية.
(3) ورد في نسخة أصفهان: عن أبي الحسين العكلي، عن بكر بن عبد الله المرني، عن أبيه قال: قال لقمان:
ضرب الوالد ولده كالسّماد للزرع. وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثنا داود بن عمرو قال: حدّثنا إسماعيل بن عيّاش، عن عبد الله بن دينار أنّ لقمان قدم من سفر.. الحديث.(7/317)
أمري. قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت. قال: جدّد فراشي، قال: ما فعلت أختي؟ قال:
ماتت، قال: ستر عورتي، قال: ما فعل أخي؟ قال: مات، قال: انقطع ظهري.
وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبي، عن سفيان قال: قيل للقمان: أيّ الناس شرّ؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. وقيل للقمان: ما أقبح وجهك! قال: تعيب بهذا على النقش أو على النقّاش؟
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ.
قرأ نافع وشيبه وأبو جعفر وأبو رجاء العطاردي وأبو محلز وأبو عمرو والأعرج وأيّوب وحفص نعمه بالجمع والإضافة، واختاره أبو عبيد وأبو معاذ النحوي وأبو حاتم، وقرأ الآخرون منوّنة على الواحد ومعناها جمع أيضا، ودليله قول الله عزّ وجلّ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1» وقال مجاهد وسفيان: هي لا إله إلّا الله، وتصديقه أيضا ما أخبرني أبو القاسم [الحبيبي] «2» أنّه رأى في مصحف عبد الله نعمته بالإضافة والتوحيد ظاهِرَةً وَباطِنَةً اختلفوا فيها فأكثروا. فقال ابن عبّاس: أمّا الظاهرة فالدين والرياش، وأمّا الباطنة فما غاب عن العباد وعلمه الله.
مقاتل: الظاهرة تسوية الخلق والرّزق والإسلام، والباطنة ما ستر من ذنوب بني آدم فلم يعلم بها أحد ولم يعاقب عليها. الضحّاك: الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء، والباطنة المغفرة. القرظي: الظاهرة محمّد (عليه السلام) والباطنة المعرفة. ربيع:
الظاهرة بالجوارح والباطنة بالقلب. عطاء الخراساني: الظاهرة تخفيف الشرائع، والباطنة الشفاعة. مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء، والباطنة الإمداد بالملائكة.
أخبرنا الحسين بن محمد بن إبراهيم النيستاني، قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم ابن محمش، قال: أخبرني أبو يحيى زكريا بن يحيى بن الحرب، عن محمد بن يوسف بن محمد ابن سابق الكوفي قال: أخبرني أبو مالك الجبني، عن جويبر، عن الضحاك قال: سألت ابن عبّاس عن قول الله عزّ وجلّ: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً فقال: هذا من محرزي الذي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قلت: يا رسول الله ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة؟ قال: أمّا الظاهرة فالإسلام وما حسن من خلقك وما أفضل عليك من الرزق، وأمّا الباطنة ما ستر من سوء عملك، يا ابن عبّاس يقول الله تعالى: إنّي جعلت للمؤمن ثلثا صلاة المؤمنين عليه بعد انقطاع عمله أكفّر
__________
(1) سورة إبراهيم: 34.
(2) هكذا في الأصل.(7/318)
به عن خطاياه، وجعلت له ثلث ماله ليكفّر به عنه من خطاياه وسترت عليه سوء عمله الذي لو قد أبديته للناس لنبذه أهله فما سواهم.
وقال محمّد بن علي الترمذي: النعمة الظاهرة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي «1» والباطنة قوله: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «2» .
[الحرث بن أسد المحاسبي] «3» : الظاهرة نعيم الدنيا، والباطنة نعيم العقبى. عمرو بن عثمان الصدفي: الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة تضعيف الصنائع.
وقيل: الظاهرة الجزاء، والباطنة الرضا. سهل بن عبد الله: الظاهرة إتباع الرسول، والباطنة محبّته. وقيل: الظاهرة تسوية الظواهر والباطنة تصفية السرائر. وقيل: الظاهرة التبيين، بيانه قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «4» وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ «5» والباطنة التزين قوله:
وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ «6» وقيل: الظاهرة الرزق المكتسب، والباطنة الرزق مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
وقيل: الظاهرة المدخل للغذاء، والباطنة المخرج للأذى. وقيل: الظاهرة الجوارح، والباطنة المصالح. وقيل: الظاهرة الخلق، والباطنة الخلق. وقيل الظاهرة التنعيم، بيانه قوله:
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ «7» والباطنة التعليم. قوله: وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ «8» وقيل: الظاهرة ما أعطى وحبا من النعماء، وقيل الباطنة: ما طوي وزوي من أنواع البلاء، وقيل: الظاهرة الدعوة، بيانه قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ «9» والباطنة الهداية. بيانه قوله: وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ «10» .
وقيل: الظاهرة الإمداد بالملائكة، والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفّار، وقيل: الظاهرة تفصيل الطاعات، وهو أنّه ذكر طاعتك واحدة فواحدة وأثنى عليك بها وأثابك عليها، بيانه قوله:
التَّائِبُونَ «11» وقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «12» وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ «13» إلى آخر الآية. والباطنة إجمال المعاصي وذلك أنّه دعاك منها إلى التوبة باسم الإيمان من غير عدّها وتفصيلها، بيانه قوله: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ «14» وقيل: الظاهرة إنزال الأقطار والأمطار، والباطنة إحياء الأقطار والأمصار.
__________
(1) سورة المائدة: 3.
(2) سورة المائدة: 3.
(3) في نسخة أصفهان: الحرب بن أسد المحاربي.
(4) سورة المائدة: 176.
(5) سورة البقرة: 221.
(6) سورة الحجرات: 7.
(7) سورة الحمد: 7.
(8) سورة البقرة: 151.
(9) سورة يونس: 25.
(10) سورة يونس: 25. [.....]
(11) سورة التوبة: 112.
(12) سورة المؤمنون: 1.
(13) سورة الأحزاب: 35.
(14) سورة النور: 31.(7/319)
وقيل: الظاهرة التوفيق للعبادات، والباطنة الإخلاص والعصمة من المراءاة، وقيل:
الظاهرة ذكر اللسان، والباطنة ذكر الجنان، وقيل: الظاهرة تلاوة القرآن والباطنة معرفته. وقيل:
الظاهرة ضياء النهار للتصرّف والمعاش، والباطنة ظلمة الليل للسكون والقرار. وقيل: الظاهرة النطق، والباطنة العقل، وقيل: الظاهرة نعمه عليك بعد ما خرجت من بطن أمّك، والباطنة: نعمه عليك وأنت في بطن أمّك.
وقيل: الظاهرة الشهادة الناطقة، والباطنة السعادة السابقة. وقيل: الظاهرة ألوان العطايا، والباطنة غفران الخطايا. وقيل: الظاهرة وضع الوزر ورفع الذّكر، والباطنة شرح الصدر.
وقيل: الظاهرة فتح المسالك والباطنة نزع الممالك ممّن خالفك، وقيل: الظاهرة المال والأولاد، والباطنة الهدى والإرشاد، وقيل: الظاهرة القول السديد والباطنة التأييد والتسديد، وقيل: الظاهرة ما يكفّر الله به الخطايا من الرزايا والبلايا، والباطنة ما يعفو عنه ولا يؤاخذ به في الدنيا والعقبى، وقيل: الظاهرة ما بينك وبين خلقه من الأنساب والأصهار، والباطنة ما بينك وبينه من القرب والأسرار والمناجاة في الأسحار، وقيل: الظاهرة العلوّ بيانه قوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ «1» والباطنة الدنوّ بيانه قوله: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «2» .
قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت في النضر بن الحرث حين زعم أنّ الملائكة بنات الله وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا.
قال الله تعالى: أَوَلَوْ كانَ قال الأخفش: لفظه استفهام ومعناه تقرير، وقال أبو عبيدة:
لو هاهنا متروك الجواب مجازه أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي موجباته فيتبعونه.
__________
(1) سورة آل عمران: 139.
(2) سورة الواقعة: 11.(7/320)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
[سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 34]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
قوله: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي يخلص دينه لله ويفوّض أمره إليه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (يسلّم) بالتشديد، وقراءة العامّة بالتخفيف من الإسلام وهو الاختيار لقوله:
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ «1» وأشباه ذلك.
وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أي: اعتصم بالطريق الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه. وقال ابن عبّاس: هي: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ ...
وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ يعني مرجعها. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. نُمَتِّعُهُمْ نعمّرهم ونمهلهم قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ نلجئهم، ونردّهم إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
قوله عزّ وجلّ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية.
قال المفسّرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الرّوح فأنزل الله بمكّة: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «2» الآية، فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود، فقالوا: يا محمّد بلغنا عنك أنّك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، أفعنيتنا أم قومك؟ فقال (عليه السلام) : كلّا قد عنيت. قالوا: ألست تتلوا فيما جاءك: إنّا قد أوتينا التّوراة وفيها علم كلّ شيء؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم. قالوا:
يا محمّد كيف تزعم هذا وأنت تقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «3» فكيف يجتمع هذا قليل وخير كثير؟ فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
أي بريت
__________
(1) سورة البقرة: 112.
(2) سورة الإسراء: 85.
(3) سورة البقرة: 269.(7/321)
أقلاما وَالْبَحْرُ بالنصب ابن أبي إسحاق وأبو عمرو ويعقوب. غيرهم بالرّفع، وحجّتهم: قراءة عبد الله وبحر يَمُدُّهُ أي يزيده وينصب عليه مِنْ بَعْدِهِ من خلفه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ وفي هذه الآية اختصار تقديرها: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ يكتب بها كلام الله ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، وهذه الآية تقتضي أنّ كلامه غير مخلوق لأنّه لا نهاية له ولما يتعلّق به من معناه فهو غير مخلوق.
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هذه الآية على قول عطاء بن يسار: مدنيّة، قال: نزلت بعد الهجرة كما حكينا. وعلى قول غيره: مكّيّة، قالوا: إنّما أمر اليهود وفد قريش أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنه ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكّة، والله أعلم.
قوله: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ يعني إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء وهذا كقوله: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ «1» أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. ذلِكَ الذي ذكرت لتعلموا: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ برحمة الله، لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على أمر الله شَكُورٍ على نعمه. قال أهل المعاني: أراد لكلّ مؤمن، لأنّ الصّبر والشكر من أفضل خصال المؤمنين.
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ قال مقاتل: كالجبال. وقال الكلبي: كالسحاب (والظّلل) جمع ظلّه شبّه الموج بها في كثرتها وارتفاعها- كقول النّابغة في صفة بحر:
يماشيهن أخضر ذو ظلال ... على حافاته فلق الدنان.
وإنّما شبّه الموج وهو واحد بالظلل وهي جمع، لأنّ الموج يأتي شيء بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل. وقيل: هو بمعنى الجمع، وإنّما لم يجمع لأنّه مصدر، وأصله من الحركة والازدحام «2» .
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قال ابن عبّاس: موف بما عاهد الله عليه في البحر. ابن كيسان: مؤمن. مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر.
الكلبي: مُقْتَصِدٌ في القول من الكفّار لأنّ بعضهم أشدّ قولا وأغلى في الافتراء من بعض. ابن
__________
(1) سورة الأحزاب: 19.
(2) تفسير الطبري: 21/ 102 مورد الآية.(7/322)
زيد: المقتصد الذي على صلاح من الأمر. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدّار كَفُورٍ جحود، والختر أسوأ الغدر. وقال عمرو بن معدي كرب:
وإنّك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر «1»
قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي لا يقضي ولا يغني ولا يكفّر والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. قراءة العامّة: بفتح الغين هاهنا وفي سورة الملائكة والحديد وقالوا: هو الشيطان. وقال سعيد بن جبير: هو أن يعمل بالمعصية ويتمنّى المغفرة. وقرأ سماك بن حرب:
بضم الغين ومعناه لا تغتروا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية.
نزلت في الوارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن خصفة من أهل البادية، أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فسأله عن الساعة ووقتها وقال: إنّ أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت أين ولدت فبأيّ أرض تموت؟ فأنزل الله هذه الآية.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن يحيى، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «مفاتيح الغيب خمسة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية» [185] «2» .
وروى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد أنّ رجلا قال: يا رسول الله هل من العلم علم لم تؤته؟ فقال: لقد أوتيت علما كثيرا أو علما حسنا [أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم] «3» ثمّ تلا رسول الله هذه الآية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى قوله: خَبِيرٌ فقال: هؤلاء خمسة لا يعلمهنّ إلّا الله تبارك وتعالى «4» .
وأخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال: أخبرني أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش، عن علي بن حشرم، عن الفضل بن موسى، عن رجل سمّاه قال: بلغ ابن عبّاس أنّ يهوديا خرج من المدينة يحسب حساب النجوم فأتاه فسأله. فقال: إن شئت أنبأتك عن نفسك وعن ولدك. فقال: إنّك ترجع إلى منزلك وتلقى لك بابن محموم، ولا تمكث عشرة أيّام حتّى يموت الصبي، وأنت لا تخرج من الدّنيا حتى تعمى، فقال ابن عبّاس: وأنت يا يهودي؟
قال: لا يحول عليّ الحول حتى أموت، قال: فأين موتك؟ قال: لا أدري. قال ابن عبّاس:
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 80، ومعجم ما استعجم: 2/ 650.
(2) مسند أحمد: 2/ 24 و 2/ 122، وصحيح البخاري: 5/ 193 وكذلك 6/ 21.
(3) زيادة عن تفسير الطبري. [.....]
(4) تفسير الطبري: 21/ 105، ح 21468.(7/323)
صدق الله وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. قال: فرجع ابن عبّاس فتلقّى بابن محموم فما بلغ عشرا حتّى مات الصبي، وسأل عن اليهودي قبل الحول فقالوا: مات، وما خرج ابن عبّاس من الدنيا حتّى ذهب بصره. قال علي: هذا أعجب حديث.
قوله: بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ كان حقه بأيّة أرض، وبه قرأ أبيّ بن كعب، إلّا أنّ من ذكّر قال: لأنّ الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء. وقيل: أراد بالأرض المكان فلذلك ذكّر، وأحتج بقول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا الأرض ابقل ابقالها «1»
__________
(1) تاج العروس: 7/ 84.(7/324)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
سورة السجدة
مكّية، وهي ألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا، وثلاثمائة وثمانون كلمة، وثلاثون آية
أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي الفراتي، عن عمران بن موسى، عن مكي بن عبدان، عن سليمان بن داود، عن أحمد بن نصر قال: أخبرني أبو معاد، عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم، عن زيد العمي عن أبي نضرة، عن ابن عبّاس، عن أبيّ بن كعب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ سورة الم تَنْزِيلُ أعطي من الأجر كأنّما أحيا ليلة القدر» [186] .
وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل الفهنرزي بها، عن حمزة بن محمد بن العبّاس ببغداد، عن عبد الله بن روح عن شبابة] بن سوار] عن المغيرة بن مسلم، عن ابن الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أنّه كان لا ينام حتّى يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ «1» ويقول: «هما تفضلان كلّ سورة في القرآن سبعين حسنة، ومن قرأهما كتبت له سبعون حسنة، ومحي عنه سبعون سيئة، ورفع له سبعون درجة» [187] «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
__________
(1) سورة الملك: 1.
(2) سنن الترمذي: 4/ 239، والمستدرك: 2/ 412.(7/325)
قوله عزّ وجلّ: الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ. أي، بل يقولون وقيل: الميم صلة، أي أيقولون استفهام توبيخ. وقيل: هو بمعنى الواو يعني ويقولون.
وقيل: فيه إضمار مجازه: فهل يؤمنون به، أم يقولون: افْتَراهُ ثمّ قال: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ أي لم يأتهم من نذير مِنْ قَبْلِكَ.
قال قتادة: كانوا أمّة أميّة لم يأتهم نذير قبل محمّد (عليه السلام) . قال ابن عبّاس ومقاتل:
ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمّد (عليهما السلام) .
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي ينزل الوحي مع جبرائيل من السماء إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ يصعد إِلَيْهِ جبرائيل بالأمر في يوم واحد من أيّام الدّنيا، وقدر مسيره ألف سنة، خمسمائة نزوله من السماء إلى الأرض، وخمسمائة صعوده من الأرض إلى السماء. وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة يقول: لو ساره أحد من بني آدم لم يسره إلّا في ألف سنة، والملائكة يقطعون هذه المسافة بيوم واحد، فعلى هذا التأويل نزلت الآية في وصف مقدار عروج الملائكة من الأرض إلى السماء، ونزولهم من السماء إلى الأرض، وأمّا قوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1» فإنّه أراد مدّة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها مقام جبرائيل (عليه السلام) .
يقول: يسير جبرائيل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيّام الدنيا، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة والضحّاك، وأمّا معنى قوله: إِلَيْهِ على هذا التأويل فإنّه يعني إلى مكان الملك الذي أمره الله أن يعرج إليه، كقول إبراهيم (عليه السلام) إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي «2» وإنّما أراد أرض الشام. وقال: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ «3» أي إلى المدينة، ولم يكن الله تعالى بالمدينة ولا بالشام.
أخبرني ابن فنجويه، عن هارون بن محمد بن هارون، عن حازم بن يحيى الحلواني، عن محمد بن المتوكل، عن عمرو بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أتاني ملك برسالة من الله عزّ وجلّ، ثمّ رفع رجله فوضعها فوق السماء، والاخرى في الأرض لم يرفعها» [188] «4» .
وقال بعضهم معناه:
__________
(1) سورة المعارج: 4.
(2) سورة الصافات: 99.
(3) سورة النساء: 100.
(4) كنز العمال: 6/ 136 ح 15153.(7/326)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ مدّة أيّام الدنيا، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ الأمر والتدبير، ويرجع يعود إليه بعد انقضاء الدنيا وفنائها فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وهو يوم القيامة.
وأمّا قوله: خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1» فإنّه أراد على الكافر، جعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة، وعلى المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلّاها في دار الدنيا. ويجوز أن يكون ليوم القيامة أوّل وليس له آخر وفيه أوقات شتّى بعضها ألف سنة وبعضها خمسين ألف سنة. ويجوز أن يكون هذا إخبار عن شدّته وهوله ومشقّته لأنّ العرب تصف أيّام المكروه بالطّول وأيّام السرور بالقصر، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من المفسّرين.
وروي عبد الرزاق عن ابن جريح قال: أخبرني ابن أبي مليكة قال: دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان على ابن عبّاس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية، فقال له ابن عبّاس:
من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان، فقال عبد الله بن عبّاس: أيّام سمّاها الله لا أدري ما هي، وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم. قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر حتّى دخلت على سعيد بن المسيّب فسئل عنها فلم يدر ما يقول، فقلت له: ألا أخبرك ما حضرت من ابن عبّاس، فأخبرته، فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عبّاس قد اتّقى أن يقول فيها وهو أعلم منّي.
قوله: ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قرأ نافع وأهل الكوفة (خَلَقَهُ) بفتح اللّام على الفعل، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ثمّ قالا: لسهولتها في المعنى وهي قراءة سعيد بن المسيب. وقرأ الآخرون بسكون اللام. قال الأخفش: هو على البدل ومجازه: الذي أحسن خلق كلّ شيء.
قال ابن عبّاس: أتقنه وأحكمه، ثمّ قال: أما إنّ است القرد ليست بحسنة ولكنّه أحكم خلقها. وقال قتادة: حسنه. مقاتل: علم كيف يخلق كلّ شيء، من قولك فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه.
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني آدم (عليه السلام) مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ذريته مِنْ سُلالَةٍ من نطفة، سمّيت بذلك لأنّها تنسل من الإنسان، أي تخرج، ومنه قيل للولد: سلالة.
وقال ابن عبّاس: وهي صفو الماء مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ضعيف ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ. وَقالُوا يعني منكري البعث، أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي أهلكنا وبطلنا وصرنا ترابا، وأصله من قول العرب: ضلّ الماء في اللبن إذا ذهب، ويقال: أضللت الميّت أي دفنته. قال الشاعر:
__________
(1) سورة المعارج: 4.(7/327)
وأب مضلوه بغير جلية ... وغودر بالجولان جرم ونائل «1»
وقرأ ابن محيصن بكسر اللام (ضَلِلْنا) وهي لغة.
وقرأ الحسن والأعمش صَلَلْنا [بالصاد] غير معجمة أي أنتنّا، وهي قراءة عليّ رضي الله عنه «2» .
أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شنبه قال: أخبرني أبو حامد المستملي، عن محمد بن حاتم [الكرخي] «3» أبو [عثمان] «4» النحوي، عن المسيب بن شريك، عن عبيدة الضبي، عن رجل، عن علي أنّه قرأ أءذا صللنا أي أنتنّا.
قال محمّد بن حاتم: يقال: صلّ اللّحم وأصل إذا أنتن.
أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ قال الله: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ.
قوله عزّ وجلّ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ بقبض أرواحكم مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ قال مجاهد: حويت له الأرض فجعلت له مثل طست يتناول منها حيث يشاء، وقال مقاتل والكلبي:
بلغنا أنّ اسم ملك الموت عزرائيل وله أربعة أجنحة: جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، وجناح له في أقصى العالم من حيث يجيء ريح الصبا، وجناح من الأفق الآخر. ورجل له بالمشرق، والأخرى بالمغرب، والخلق بين رجليه، ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض، وجعلت له الدنيا مثل راحة اليد، صاحبها يأخذ منها ما أحبّ في غير مشقة ولا عناء، أي مثل اللّبنة بين يديه فهو يقبض أنفس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك عن الخطّاب بن أحمد بن عيسى قال: أخبرني أبو نافع أحمد بن كثير، عن كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم عن ابن عبّاس قال: إنّ خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب.
وأخبرنا الحسين بن محمد، عن عبد الله بن يوسف، عن عبد الرحيم بن محمد، عن سلمة ابن شبيب، عن الوليد بن سلمة الدمشقي، عن ثور بن يزيد عن خالد بن [معد «5» ] ، عن معاذ بن جبل قال: إنّ لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفّح وجوه الناس، فما من أهل بيت إلّا وملك الموت يتفحّصهم في كلّ يوم مرّتين، فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة، وقال: الآن يزار بك عسكر الأموات.
__________
(1) تاج العروس: 10/ 76.
(2) راجع معاني القرآن للنحاس: 1/ 20، وتفسير القرطبي: 14/ 92، ولسان العرب: 11/ 384.
(3) في نسخة أصفهان: الزمي.
(4) في نسخة أصفهان: عمارة.
(5) في نسخة أصفهان: معدان. [.....](7/328)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
وأخبرنا الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد ابن حنبل، عن أبي، عن عبد الله بن نميرة عن الأعمش عن خيثمة وعن شهر بن حوشب قال:
دخل ملك الموت على سليمان، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم إليه النظر، فلمّا خرج قال الرجل: من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته ينظر إليّ كأنّه يريدني، قال: فما تريد؟ قال: أريد أن تحملني على الريح فتلقيني بالهند، فدعا بالريح فحملته عليها فألقته بالهند، ثمّ أتى ملك الموت سليمان (عليه السلام) فقال: إنّك كنت تديم النظر إلى رجل من جلسائي، قال: كنت أعجب منه إنّي أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.
فإن قيل: ما الجامع بين قوله: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا «1» وتَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «2» وقُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «3» وقوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «4» وهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «5» .
قيل: توفّي الملائكة: القبض والنزع. وتوفّي ملك الموت: الدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه ثمّ يأمر أعوانه بقبضها، وتوفّي الله سبحانه: خلق الموت، والله أعلم.
[سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 22]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ أي مطأطئو رؤوسهم عِنْدَ رَبِّهِمْ حياء منه للذي سلف من معاصيهم في الدنيا يقولون: رَبَّنا أَبْصَرْنا ما كنّا به مكذّبين وَسَمِعْنا
__________
(1) سورة الأنعام: 61.
(2) سورة النمل: 28.
(3) سورة السجدة: 11.
(4) سورة الزمر: 42.
(5) سورة الأنعام: 60.(7/329)
منك تصديق ما أتتنا به رسلك فَارْجِعْنا فارددنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ وجواب لو مضمر مجازه: لرأيت العجب وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها رشدها وتوفيقها للإيمان وَلكِنْ حَقَّ وجب وسبق الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وهو قوله لإبليس لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «1» . ثمّ يقال لأهل النار: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي تركتم الإيمان به إِنَّا نَسِيناكُمْ تركناكم في النار وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، عن أحمد بن الحسن بن ماجة القزويني، عن الحسن ابن أيّوب القزويني، عن عبد الله بن أبي زياد القطواني، عن سيار حماد الصفار، عن حجاج الأسود، عن جبلة، عن مولى له، عن كعب قال: إذا كان يوم القيامة يقوم الملائكة فيشفعون، ثمّ يقوم الأنبياء فيشفعون، ثمّ يقوم الشهداء فيشفعون ثمّ يقوم المؤمنون فيشفعون. حتّى انصرمت الشفاعة كلّها فلم يبق أحد، خرجت الرحمة، فتقول: يا ربّ أنا الرحمة فشفّعني، فيقول: قد شفّعتك، فتقول: يا ربّ فيمن؟ فيقول: في من ذكرني في مقام وخافني فيه أو رجاني أو دعاني دعوة واحدة خافني أو رجاني فأخرجيه، قال: فيخرجون فلا يبقى في النار أحد يعبأ الله به شيئا، ثمّ يعظم أهلها بها، ثمّ يأمر بالنار فتقبض عليهم فلا يدخل فيها روح أبدا، ولا يخرج منها غمّ أبدا وقيل: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا «2» .
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان به والسجود له. تَتَجافى أي ترتفع وتنتحي، وهو تفاعل من الجفا، والجفا: التبوّء والتباعد، تقول العرب: جاف ظهرك عن الجدار، وجفت عين فلان عن الغمض إذا لم تنم. جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ.
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن قال: أخبرني أبو عمرو عثمان بن أحمد ابن سمعان الوزان، عن عبد الله بن قحطبة بن مرزوق، عن محمد بن موسى الحرشي، عن الحرث بن وحيه الراسبي قال: سمعت مالك بن دينار يقول: سألت أنس بن مالك عن قول الله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ، فقال أنس: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلّون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، فأنزل الله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ.
أخبرني الحسين بن محمد [عن موسى بن محمد، عن الحسن بن محمد، عن موسى بن محمد] عن الحسن بن علويه، عن إسماعيل بن عيسى، عن المسيب، عن سعيد بن أبي عروبة،
__________
(1) سورة ص: 85.
(2) سورة الجاثية: 34.(7/330)
عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: نزلت فينا معاشر الأنصار: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ الآية، كنّا نصلّي المغرب، فلا نرجع إلى رحالنا حتّى نصلّي العشاء مع النبي صلّى الله عليه وآله.
وأخبرنا الحسين بن محمد عن عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله، عن عبد الله بن محمد بن وهب، عن محمد بن حميد، عن يحيى بن الضريس، عن النضر بن حميد، عن سعيد، عن الشعبي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من عقّب ما بين المغرب والعشاء بني له في الجنّة قصران [ما بينهما] مسيرة [مائة] عام، وفيهما من الشجر، ما لو نزلها «1» أهل المشرق وأهل المغرب لأوسعتهم «2» فاكهة، وهي صلاة الأوّابين وغفلة الغافلين، وإنّ من الدعاء المستجاب الذي لا يرد الدعاء ما بين المغرب والعشاء» [189] «3» .
وقال عطاء: يعني يصلّون صلاة العتمة لا ينامون عنها، يدلّ عليها ما أنبأني عبد الله بن حامد، عن عبد الصمد بن الحسن بن علي بن مكرم، عن السري بن سهل، عن عبد الله بن رشيد قال: أنبأني أبو عبيدة مجاعة بن الزبير، عن أبان قال: جاءت امرأة إلى أنس بن مالك، فقالت:
إنّي أنام قبل العشاء. فقال: لا تنامي. فإنّ هذه الآية نزلت في الذين لا ينامون قبل العشاء الآخرة تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ. وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وابن زيد: هو التهجّد وقيام الليل، ودليل هذا التأويل ما
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه عن أبي بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عن زيد بن الحبّاب، عن حمّاد بن سلمة، عن عاصم، عن شهر بن حوشب، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً قال: قيام العبد في الليل.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني، عن محمّد بن عبد الله بن عبد الواحد الهمداني، عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق بن معمر، عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل، عن معاذ قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سفر فأصبحت قريبا منه ونحن نسير، فقلت: يا نبيّ الله ألا تخبرني بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني من النار؟ قال: يا معاذ، لقد سألت عن عظيم، وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت. ثمّ قال: ألا أدلّك على أبواب الخير. الصوم جنّة من النار والصدقة تطفئ غضب الربّ «4» وصلاة الرجل في جوف الليل ثمّ قرأ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ
__________
(1) في المصدر: يراهما.
(2) في المصدر: لأوصلهم.
(3) كنز العمال: 7/ 392 ح 19450.
(4) في المصدر: الخطيئة، بدل «غضب الربّ» .(7/331)
حتّى بلغ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ثمّ قال: ألا أخبرك «1» بملاك ذلك كلّه. فقلت:
بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه. فقال: «اكفف «2» ، عليك هذا» .
فقلت: يا رسول الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم؟ فقال: «ثكلتك أمّك يا معاذ! وهل يكبّ الناس في النّار على وجوههم أو على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم» [190] «3» .
وقال الضحّاك: هو أن يصلّي الرجل العشاء والغداة في جماعة.
أخبرني الحسين بن فنجويه عن أحمد بن الحسين بن ماجة قال: أخبرني أبو عوانة الكوفي بالري عن منجاب بن الحرث عن علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق كلّهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ثمّ يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ. فيقومون وهم قليل، فيسرحون جميعا إلى الجنّة ثمّ يحاسب سائر الناس» [191] «4» .
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي خبّئ لهم، هذه قراءة العامّة. وقرأ حمزة ويعقوب أُخْفِي مرسلة الياء أي: أنا أخفي وحجّتهما قراءة عبد الله: نخفي بالنون. وقرأ محمّد بن كعب: أخفى بالألف يعني: أخفى الله من قرّة أعين، قراءة العامّة على التوحيد.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، عن مكي بن عبدان، عن عبد الله بن هاشم قال: أخبرني أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ومن بله ما [قد] أطلعتكم عليه، اقرءوا إن شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ من قرّات أعين» [192] «5» . جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ قال: وكان أبو هريرة يقرأ. هكذا: قرّات أعين.
وقال ابن مسعود: إنّ في التوراة مكتوبا:
لقد أعد الله للّذين تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولا يخطر على
__________
(1) في المصدر زيادة: برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، فقلت: بلى يا رسول الله قال: رأس الأمر وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك.
(2) في المصدر: كف.
(3) مسند أحمد: 5/ 231، وسنن ابن ماجة: 2/ 1314 ح 3973. [.....]
(4) تفسير القرطبي: 14/ 102.
(5) سنن ابن ماجة: 2/ 1447 ح 4328، وفي التنزيل: قرة.(7/332)
قلب بشر وما لا يعلمه ملك مقرّب، وإنّه لفي القرآن فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الآية.
قوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ الآية
نزلت في عليّ بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمّه وذلك أنّه كان بينهما تنازع وكلام في شيء، فقال الوليد لعلي: أسكت فإنّك صبيّ، وأنا والله أبسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا، وأشجع جنانا، وأملأ منك حشوا في الكتيبة، فقال له علي: اسكت فإنّك فاسق، فأنزل الله عزّ وجلّ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ
ولم يقل يستويان، لأنّه لم يرد بالمؤمن مؤمنا واحدا، وبالفاسق فاسقا واحدا، وإنّما أراد جميع الفسّاق وجميع المؤمنين. قال الفرّاء: إنّ الاثنين إذا لم يكونا مصمودين لهما ذهب بهما مذهب الجمع.
ثمّ ذكر حال الفريقين ومآلهما، فقال عزّ من قائل: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قال أبي بن كعب وأبو العالية والضحّاك والحسن وإبراهيم: العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وبلاؤها ممّا يبتلي الله به العباد حتّى يتوبوا، وهذه رواية الوالبي عن ابن عبّاس.
عكرمة عنه: الحدود.
عبد الله بن مسعود والحسن بن علي وعبد الله بن الحرث: القتل بالسيف يوم بدر.
مقاتل: الجوع سبع سنين بمكّة حتّى أكلوا الجيف والعظام والكلاب. مجاهد: عذاب القبر. قالوا: والعذاب الأكبر، يوم القيامة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم.
قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ المشركين مُنْتَقِمُونَ قال زيد بن رفيع: عنى بالمجرمين هاهنا أصحاب القدر ثمّ قرأ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «1»
وأخبرنا الحسين بن محمد، عن أحمد ابن محمد بن إسحاق السني قال: أخبرني جماهر بن محمد الدمشقي، عن هشام بن عمّار، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن عبادة بن سني، عن جنادة بن أبي أمية، عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من اعتقد لواء في غير حقّ، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالم لينصره «2» فقد أجرم. يقول الله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» [193] «3» .
__________
(1) سورة القمر: 4947.
(2) ليست موجودة في المصدر.
(3) مجمع الزوائد: 7/ 90.(7/333)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ ليلة المعراج. عن ابن عبّاس، وقال السدّي: من تلقّيه كتاب الله تعالى بالرضا والقبول. قال أهل المعاني: لم يرد باللقاء الرؤية وإنّما أراد مباشرته الحال وتبليغه رسالة الله عزّ وجلّ وقبول كتاب الله. وقيل: من لقاء الله الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلّم والمراد به غيره.
وَجَعَلْناهُ [يعني الكتاب، وقال قتادة: موسى] هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً قادة في الخير يقتدى بهم يَهْدُونَ يدعون بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا قرأ حمزة والكسائي (لِما) بكسر اللام وتخفيف الميم أي لصبرهم، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة عبد الله لما صبروا وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أي حين صبروا.
وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضي بينهم. ويسمّي أهل اليمن القاضي الفيصل يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ آيات الله وعظاته فيتّعظون بها.
قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي اليابسة المغيرة: الغليظة التي لا نبات فيها. وأصله من قولهم: ناقة جراز إذا كانت تأكل كلّ شيء تجده، ورجل جروز، إذا كان أكولا. قال الراجز:
خبّ جروز وإذا جاع بكى ... ويأكل التمر ولا يلقي النوى
وسيف جراز أي قاطع، وجرزت الجراد الزرع إذا استأصلته، فكأن الجرز هي الأرض التي لا يبقى على ظهرها شيء إلّا أفسدته، وفيه أربع لغات: - جرز وجرز وجرز وجرز «1» .
قال ابن عبّاس: هي أرض باليمن. قال مجاهد: هي أبين فَنُخْرِجُ فننبت بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قال بعضهم: أراد
__________
(1) انظر تفسير القرطبي: 14/ 111 مورد الآية.(7/334)
بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الثواب والعقاب والحكم بين العباد.
قال قتادة: قال أصحاب النبيّ صلّى الله عليه: إنّ لنا يوما ننعم فيه ونستريح ويحكم بيننا وبينكم، فقال الكفّار استهزاء: مَتى هذَا الْفَتْحُ؟ أي القضاء والحكم.
قال الكلبي: يعني فتح مكّة. وقال السدي: يعني يوم بدر، لأنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه كانوا يقولون لهم: إنّ الله ناصرنا ومظهرنا عليكم.
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ يوم القيامة لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ومن تأوّل النصر قال: لا ينفعهم إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ قراءة العامّة مُنْتَظِرُونَ بكسر الظاء. وقرأ محمد بن السميقع بفتح الظاء، قال الفرّاء: لا يصحّ هذا إلّا بإضمار مجازه: إنّهم منتظرون ربّهم، قال أبو حاتم: الصحيح كسر الظاء لقوله: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ «1» .
__________
(1) سورة الدخان: 59.(7/335)
محتوى الجزء السابع من كتاب تفسير الثعلبي
سورة الحج 5 سورة المؤمنون 37 فصل في ذكر وجوه الحكمة في خلق الله سبحانه الخلق 60 سورة النور 62 ذكر حكم الآية 71 باب ذكر بعض ما ورد من الأخبار في الترغيب في النكاح 90 فصل فيمن يستحبّ ويختار من النساء 92 فصل في الآداب الواردة في النكاح والزفاف 93 سورة الفرقان 122 سورة الشعراء 155 سورة النّمل 188 ذكر الأخبار الواردة في صفة دابّة الأرض وكيفية خروجها 223 سورة القصص 232 سورة العنكبوت 269 سورة الروم 291 سورة لقمان 309 فصل في ذكر بعض ما روي من حكم لقمان 316 سورة السجدة 325(7/336)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
[الجزء الثامن]
سورة الأحزاب
مدنية، وهي خمسة آلاف وسبعمائة وتسعون حرفا، وألف ومائتان وثمانون كلمة، وثلاث وسبعون آية.
أخبرني محمد بن القاسم بن أحمد بقراءتي عليه قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: أخبرني أبو عمرو الحميري وعمرو بن عبد الله البصري قالا: قال محمد بن عبد الوهاب العبدي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس، عن سلام بن سليم، عن هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن [أبي أمامة] عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «من قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر» [1] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ الآية
نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور عمرو بن [أبي] سفيان السلمي، وذلك أنّهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي رأس المنافقين بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبيّ صلّى الله عليه الأمان على أن يكلّموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق، فقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلم وعنده عمر ابن الخطّاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومنات وقل: إنّ لها شفاعة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربّك، فشقّ على النبي صلّى الله عليه قولهم، فقال عمر بن الخطّاب: ائذن لنا يا رسول
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 8/ 115.(8/5)
الله في قتلهم، فقال النبي (عليه السلام) : «إنّي قد أعطيتهم الأمان» [2] ، فقال عمر بن الخطّاب: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبيّ صلّى الله عليه عمر أن يخرجهم من المدينة فأنزل الله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ] «1» [3] .
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ من أهل مكّة يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة وَالْمُنافِقِينَ عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بالياء. أبو عمرو، وغيره بالتاء.
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا
أخبرني ابن فنجويه، عن موسى بن علي [عن الحسن ابن علويه] ، عن إسماعيل بن عيسى، عن المسيب، عن شيخ من أهل الشام قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وفد من ثقيف فطلبوا إليه أن [يمتعهم] باللات والعزّى سنة وقالوا:
لتعلم قريش منزلتنا منك، فهمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم بذلك «2» ، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ الآيات.
قوله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزلت في أبي معمر جميل [بن معمر] بن حبيب بن عبد الله الفهري، وكان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع، فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلّا وله قلبان. وكان يقول: إنّ لي قلبين أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد، فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم يومئذ أبو معمر تلقّاه أبو سفيان بن حرب، وهو معلّق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله، فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال: انهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك، فقال له أبو معمر: ما شعرت إلّا أنّهما في رجلي، فعرفوا يومئذ أنّه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده «3» .
وقال الزهري ومقاتل: هذا مثل ضربه الله للمظاهر من امرأته، وللمتبنّي ولد غيره، يقول:
فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمّه حتى يكون له أمّان، ولا يكون ولد أحد ابن رجلين.
قوله: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي قرأ أبو جعفر وأبو عمر وورش اللَّاء بغير مدّ ولا همز، ممدودة مهموزة بلا ياء، نافع غير ورش وأيّوب ويعقوب والأعرج، وأنشد:
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 236.
(2) معاذ للنبي صلّى الله عليه وسلم أن يهمّ بذلك، إما لأنه لا ينطق عن الهوى، وإما لأنه ينافي التوحيد فكيف يرضى بعبادة غير الله تعالى.
(3) مجمع البيان: 8/ 117.(8/6)
من اللّاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفّلا «1»
وقرأ أهل الكوفة والشام بالمدّ والهمز وإثبات الياء واختاره أبو عبيد للإشباع واختلف فيه، عن ابن كثير وكلّها لغات معروفة تُظاهِرُونَ بفتح التاء وتشديد الظاء شامي. بفتح التاء وتخفيف الظاء كوفي غير عاصم، واختاره أبو عبيد بضمّ التاء وتخفيف الظاء وكسر الهاء عاصم والحسن.
قال أبو عمرو: هذا منكر لأنّ المظاهرة من التعاون والآية نزلت في أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم أخي عبادة، وفي امرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك يقول الله تعالى: ما جعل نساءكم اللاتي تقولون: هنّ علينا كظهور أمّهاتنا في الحرام كما تقولون، ولكنّها منكم معصية وفيها كفّارة وأزواجكم لكم حلال، وسنذكر القصّة والحكم في سورة المجادلة إن شاء الله.
قوله: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ يعني من تبنّيتموه أَبْناءَكُمْ
نزلت في زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي من بني عبد ودّ، كان عبدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فأعتقه وتبنّاه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطّلب في الإسلام، فجعل الفقير أخا للغني ليعود عليه، فلمّا تزوّج النبي صلّى الله عليه زينب بنت جحش الأسدي وكانت تحت زيد بن حارثة، فقالت اليهود والمنافقون: تزوج محمّد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآيات
وقال: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ولا حقيقة له، يعني قولهم: زيد ابن محمّد وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الذين ولدوهم هُوَ أَقْسَطُ أعدل عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ إن كانوا محرريكم وليسوا ببنيكم.
أنبأني عقيل بن محمد الجرجاني، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير قال: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، عن ابن علية عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: قال أبو بكر: قال الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ فأنا ممّن لا يعرف أبوه، وأنا من إخوانكم في الدين. قال: قال أبي إنّي لأظنّه لو علم أنّ أباه كان حمارا لانتمى إليه وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ قبل النهي، فنسبتموه إلى غير أبيه، وقال قتادة: يعني أن تدعوه لغير أبيه وهو يرى أنّه كذلك وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ فنسبتموه إلى غير أبيه بعد النهي، وأنتم تعلمون أنّه ليس بابنه. ومحلّ ما في قوله: ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ خفض ردّا على (ما) التي في قوله: فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ومجازه: ولكن في ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «من ادّعى إلى غير أبيه أو إلى غير أهل نعمته فعليه لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» [4] «2» .
__________
(1) لسان العرب: 15/ 445، تفسير القرطبي: 5/ 108.
(2) صحيح مسلم: 4/ 115 بتفاوت، سنن ابن ماجة: 2/ 905، سنن أبي داود: 2/ 502.(8/7)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن يحيى قال: أخبرني أبو صالح، حدّثني الليث، حدّثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس- كان ممّن شهد بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم- تبنّى سالما وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار فتبنّاه، كما تبنّى رسول الله صلّى عليه زيدا وكان من تبنّى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه حتّى نزلت ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الآية.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
قوله عزّ وجلّ: النَّبِيُّ أَوْلى أحقّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أن يحكم فيهم بما شاء فيجوز حكمه عليهم.
قال ابن عبّاس وعطا: يعني إذا دعاهم النبيّ (عليه السلام) إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبيّ أولى بهم من طاعة أنفسهم، وقال مقاتل: يعني طاعة النبي (عليه السلام) أولى من طاعة بعضكم لبعض، وقال ابن زيد: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كما أنت أولى بعبدك، فما قضى فيهم من أمر، جار، كما أنّ كلّ ما قضيت على عبدك جار. وقيل: إنّه (عليه السلام) أولى بهم في إمضاء الأحكام وإقامة الحدود عليهم لما فيه من مصلحة الخلق والبعد من الفساد. وقيل: إنّه أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه، وقالت الحكماء: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، لأنّ أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، والنبيّ يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، وقال أبو بكر الورّاق: لأنّ النبيّ يدعوهم إلى العقل، وأنفسهم تدعوهم إلى الهوى، وقال بسام بن عبد الله العراقي: لأنّ أنفسهم تحترس من نار الدّنيا، والنبيّ يحرسهم من نار العقبى.
وروى سفيان عن طلحة عن عطاء عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهو أب لهم.
وروى سفيان عن عمرو عن بجالة أو غيره قال: مرّ عمر بن الخطّاب بغلام وهو يقرأ في المصحف النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو أب لهم. فقال: يا غلام حكّها. قال: هذا مصحف أبي، فذهب إليه فسأله، فقال: إنّه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق(8/8)
في الأسواق. وقال عكرمة: أخبرت أنّه كان في الحرف الأوّل: وهو أبوهم.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبي قال: أخبرني أبو عامر وشريح قالا: قال [فليح] بن سليمان، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، عن النبيّ صلّى الله عليه، قال: «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيّما مؤمن هلك «1» وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فإنّي أنا مولاه» [5] «2» .
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ يعني كأمّهاتهم في الحرمة، نظيره قوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ «3» أي كالسماوات، وإنّما أراد الله تعالى تعظيم حقّهن وحرمتهن، وإنّه لا يجوز نكاحهن لا في حياة النبيّ صلّى الله عليه إن طلّق ولا بعد وفاته، هنّ حرام على كلّ مؤمن كحرمة أمّه، ودليل هذا التأويل أنّه لا يحرم على الولد رؤية الأمّ، وقد حرّم الله رؤيتهنّ على الأجنبيين، ولا يرثنّهم ولا يرثونهنّ، فعلموا أنّهن أمّهات المؤمنين من جهة الحرمة، وتحريم نكاحهنّ عليهم.
روى سفيان، عن خراش، عن الشعبي، عن مسروق قال: قالت امرأة لعائشة: يا أمّاه، فقالت: أنا لست بأمّ لك إنّما أنا أمّ رجالكم.
قوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ يعني في الميراث.
قال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وخلط المؤمنين بعضهم ببعض فصارت المواريث بالملك والقرابات.
وقال الكلبي: آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين الناس، وكان يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله، فمكثوا بذلك ما شاء الله حتّى نزلت هذه الآية:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين آخى رسول الله بينهم وَالْمُهاجِرِينَ فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة، وصارت للأدنى فالأدنى من القرابات
، وقيل: أراد إثبات الميراث بالإيمان والهجرة.
ثمّ قال: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً يعني: إلّا أن توصوا لذوي قرابتكم من
__________
(1) في المصدر: مات. [.....]
(2) مسند أحمد: 2/ 334، وصحيح البخاري: 3/ 85 ط. اسلامبول 1401 هـ.
(3) سورة آل عمران: 133.(8/9)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
المشركين فتجوز الوصية لهم، وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة، وهذا قول محمد بن الحنفية وقتادة وعطاء وعكرمة. وقال ابن زيد ومقاتل: يعني: إلّا أن توصوا لأوليائكم من المهاجرين. وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحقّ الإيمان والهجرة كانَ ذلِكَ الذي ذكرت من أنّ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ، وأنّ المشرك لا يرث المسلم فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً مكتوبا. وقال القرظي: في التوراة.
قوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ على الوفاء بما حمّلوا، وأن يبشر بعضهم ببعض ويصدّق بعضهم بعضا. وَمِنْكَ يا محمّد وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وإنّما خصّ هؤلاء الخمسة بالذكر في هذه الآية لأنّهم أصحاب الشرائع والكتب وأولو العزم من الرسل وأئمّة الأمم.
وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً
أخبرنا الحسين بن محمد، عن عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ، عن محمد بن محمد بن سليمان الباغندي، عن هارون بن محمد بن بكار، عن أبيه عن سعيد يعني ابن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه قال:
«كنت أوّل النّبيّين في الخلق، وآخرهم في البعث» [6] «1» ، قال: وذلك قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
فبدأ به صلّى الله عليه قبلهم. لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 17]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17)
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الآية، وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه أيّام الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ يعني الأحزاب، قريش وغطفان
__________
(1) الدر المنثور: 5/ 184.(8/10)
ويهود بني قريظة والنضير فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً يعني الصبا. قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي بنصر رسول الله صلّى الله عليه، فقالت الشمال: إنّ الحرة لا تسري بالليل، فكانت الريح التي أرسلت عليهم هي الصبا.
قال رسول الله صلّى الله عليه: نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور «1» .
وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة ولم تقاتل يومئذ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً قال المفسّرون: بعث الله تعالى عليهم بالليل ريحا باردة، وبعث الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، فأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتّى كان سيّد كلّ حيّ يقول: يا بني فلان هلمّ إليّ فإذا اجتمعوا عنده قال: النجا النجا أتيتم، لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال.
أنبأني محمد بن القاسم الفارسي قال: أخبرني أبو الحسن السليطي قال: أخبرني المؤمل ابن الحسن، عن الفضل بن محمد الأشعراني «2» عن عمرو بن عون، عن خالد بن عبد الله، عن أبي سعد سعيد بن عبد الرحمن البقّال، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه وأنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن حميد الرازي، عن سلمة، حدّثني محمد بن يسار، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرطي قالا: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلّى الله عليه وصحبتموه؟ قال: نعم يا بن أخي، قال: وكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنّا نجهد، قال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا، ولخدمناه وفعلنا وفعلنا.
فقال حذيفة: يا بن أخي والله لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخندق في ليلة باردة، لم أجد قبلها ولا بعدها بردا أشدّ منه، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه هونا من الليل ثمّ التفت إلينا فقال: «من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنّة» [7] «3» .
فما قام منّا رجل، ثمّ صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هونا من الليل، ثمّ التفت إلينا فقال مثله، فسكت القوم وما قام منّا رجل. ثمّ صلّى رسول الله صلّى الله عليه هونا من الليل، ثمّ التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنّة؟ فما قام رجل من شدّة الخوف وشدّة الجوع وشدّة البرد، فلمّا لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: يا حذيفة، فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني، فقلت: لبّيك يا رسول الله، وقمت حتى أتيته وإنّ
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 228، صحيح البخاري: 2/ 22.
(2) في نسخة أصفهان: الشعراني.
(3) كنز العمال: 10/ 449، الدر المنثور: 5/ 185.(8/11)
جنبيّ لتضطربان، فمسح رأسي ووجهي ثمّ قال: ائت هؤلاء القوم حتّى تأتيني بخبرهم، ولا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع إليّ.
ثمّ قال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، فأخذت سهمي وشددت على أصلابي، ثمّ انطلقت أمشي نحوهم كأنّي أمشي في حمّام، فذهبت فدخلت في القوم، وقد أرسل الله عليهم ريحا فقطّعت أطنابهم وقلعت أبنيتهم وذهبت بخيولهم، ولم تدع شيئا إلّا أهلكته، وأبو سفيان قاعد يصطلي، فأخذت سهمي فوضعته في كبد قوسي، فذكرت قول النبيّ صلّى الله عليه: لا تحدثنّ حدثا حتى ترجع، فرددت سهمي في كنانتي.
فلمّا رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قام فقال: يا معشر قريش ليأخذ كلّ رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو؟ فأخذت بيد جليسي فقلت من أنت؟ قال: سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان، فإذا هو رجل من هوازن.
فقال أبو سفيان: يا معشر قريش إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخفّ وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإنّي مرتحل ثمّ قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثمّ ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلّا وهو قائم.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم، وهزم الله الأحزاب فذلك قوله: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه كأني أمشي في حمّام، فأخبرته الخبر فضحك عليه السلام حتّى بدت أنيابه في سواد الليل قال:
وذهب عنّي الدفء فأدناني النبيّ عليه السلام فأنامني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه، وألزق صدري ببطن قدمه.
قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ يعني من فوق الوادي من قبل المشرق، وعليهم مالك بن عوف النضيري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريضة وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني من بطن الوادي من قبل المغرب، وهو أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق. وكان الذي جر غزوة الخندق، فيما قيل إجلاء رسول الله صلّى الله عليه بني النضير عن ديارهم.
قال محمد بن إسحاق: حدّثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير، عن عروة بن الزبير ومن لا أتّهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، وعن الزهري، وعن عاصم بن قتادة وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعن محمد بن كعب القرظي، وعن غيرهم من علمائنا، دخل(8/12)
حديث بعضهم في بعض، قالوا: كان من حديث الخندق أنّ نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس وأبو عمّار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل وهم الذين حزّموا الأحزاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكّة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقالوا: إنّا سنكون معكم عليه حتّى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود، إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، فديننا خير أم دينه؟
قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحقّ منهم، قال: فهم الذين أنزل الله فيهم:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إلى قوله: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً «1» فلمّا قالوا ذلك لقريش سرّهم ما قالوا، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأجمعوا لذلك، واستعدّوا له، ثمّ خرج أولئك النفر من اليهود حتّى جاءوا غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه، وأنّ قريشا قد بايعوهم على ذلك، وأجمعوا فيه، فأجابوهم، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحريث بن عون بن أبي جارية المرّي في بني مرّة، ومسعود بن جبلة بن نويرة بن طريف بن شحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن زيد بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع، فلمّا سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وبما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسي، وكان أوّل مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلّى الله عليه، وهو يومئذ حرّ. وقال: يا رسول الله إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فعمل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى أحكموه.
وقد ذكرنا حديث سلمان في صفة حفر الخندق في سورة آل عمران قالوا: فلمّا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتّى نزلت بمجتمع الأسيال من دونه من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا [بذنب نقمى] إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون حتّى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالنساء والذراري فرفعوا في الآطام، وخرج عدوّ الله حيي بن أخطب النضيري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان قد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قومه وعاهده على ذلك، فلمّا سمع كعب بحيي بن أخطب غلق دونه حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فنادى حيي: يا كعب افتح
__________
(1) سورة النساء: 51. 55.(8/13)
لي، فقال: ويحك يا حيي، إنّك امرؤ ميشوم، إنّي قد عاهدت محمّدا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلّا وفاء وصدقا.
قال: ويحك افتح لي أكلّمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: والله إن غلقت دوني إلّا على حشيشتك أن آكل معك منها، فاحفظ الرجل ففتح له. فقال: يا كعب، ويحك جئتك بعزّ الدهر، وبحر طم، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دونه، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب مقمي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمّد ومن معه.
فقال له كعب بن أسد: جئتني والله بذلّ الدهر، بمجهام قد اهراق ماؤه يرعد ويبرق وليس فيه شيء، فدعني ومحمّدا وما أنا عليه، ولم أر من محمّد إلّا صدقا ووفاء.
فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يقبله في الذروة والغارب حتى يسمح له على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمّدا أن أدخل معك في حصّتك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده وبرئ ممّا كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
فلمّا انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه الخبر وإلى المسلمين، بعث رسول الله صلّى الله عليه سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل وهو يومئذ سيّد الأوس وسعد بن عبادة بن دليم أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيّد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج، وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف.
فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقّا فالحنوا إليّ لحنا نعرفه ولا تفتّوا أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم وقالوا: من رسول الله؟ وقالوا: لا عقد بيننا وبين محمّد ولا عهد، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه، وكان رجلا فيه حدّ فقال له سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثمّ أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلّى الله عليه فسلّموا عليه ثمّ قالوا: عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه أصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه: الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين. وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال لهم معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط «1»
__________
(1) بطوله في تفسير الطبري: 21/ 157. 159، مورد الآية.(8/14)
ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً حتى قال أوس بن قبطي أحد بني حارثة: يا رسول الله إنّ بيوتنا بعورة من العدو وذلك على ملأ من رجال قومه، فأذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنّها خارجة من المدينة.
فأقام رسول الله صلّى الله عليه وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بين القوم حرب إلّا الرمي بالنبل والحصى، فلمّا اشتدّ البلاء على الناس، بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصين وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، تجرى بينهم وبينه الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة، فذكر ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشار هما فيه. فقالا: يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به أم أمر تحبّه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا؟ قال: لا بل لكم والله ما أصنع ذلك، إلّا إنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد وكالبوكم من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم.
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلّا قري أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلّا السيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه: فأنت وذاك، فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثمّ قال: ليجهدوا علينا.
فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم والمشركون يحاصروهم ولم يكن بينهم قتال إلّا أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ بن أبي قيس أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب بن فهر قد تلبّسوا للقتال وخرجوا على خيلهم، ومرّوا على بني كنانة.
فقال: بنو الحارث: يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان، ثمّ أقبلوا حتى وقفوا على الخندق، فلمّا رأوه قالوا: والله إنّ هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها ثمّ تيمّموا مكانا من الخندق ضيّقا فضربوا خيولهم فاقتحموا منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع.
وخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان نحوهم، وقد كان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا، فلمّا كان يوم الخندق خرج معلما ليري مكانه، فلمّا وقف هو وخيله قال له علي: يا عمرو، إنّك كنت تعاهد الله، لا يدعوك رجل من قريش إلى خلّتين إلّا أخذت منه إحداهما. قال: أجل. قال: فإنّي أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإنّي أدعوك إلى النزال. قال: ولم يا بن أخي؟ فإنّي والله ما أحبّ أن أقتلك.(8/15)
قال علي رضي الله عنه: ولكنّي والله أحبّ أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره أو ضرب وجهه وأقبل على عليّ فتناولا وتجاولا وقتله عليّ رضي الله عنه.
وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة «1» ، وقتل مع عمرو رجلان: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكّة، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، وكان قد اقتحم الخندق فتورّط فيه فرموه بالحجارة، فقال: يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه، فنزل إليه عليّ فقتله فغلب المسلمون على جسده، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلّى الله عليه: لا حاجة لنا في جسده ولا ثمنه فشأنكم به، فخلّى بينهم وبينه.
قالت عائشة أمّ المؤمنين: كنّا يوم الخندق في حصن بني حارثة، وكان من أحرز حصون المدينة، وكانت أمّ سعد بن معاذ معنا في الحصن، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمرّ سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلّها وفي يده حربته وهو يقول:
لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل «2»
فقالت أمّه: الحق يا بني فقد والله أخرت، قالت عائشة: فقلت لها: يا امّ سعد والله لوددت أنّ درع سعد كانت أسبغ ممّا هي، وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، قالت: فرمي سعد يومئذ فقطع منه الأكحل، وزعموا أنّه لم ينقطع من أحد قطع إلّا لم يزل يفيض دما حتى يموت، رماه حيان بن قيس بن الغرقة أحد بني عامر بن لؤي، فلمّا أصابه قال: خذها فأنا ابن الغرقة فقال سعد: غرق الله وجهك في النار، ثمّ قال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنّه لا قوم أحبّ إليّ من أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، فكذّبوه وأخرجوه، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية.
وروى محمد بن إسحاق بن يسار، عن يحيى بن عبادة بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبادة قال: كانت صفية بنت عبد المطّلب في قارع حصن حسّان بن ثابت قالت: وكان حسّان معنا فيه مع النساء والصبيان.
قالت صفية: فمرّ بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت
__________
(1) وفي ذلك اليوم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لمبارزة علي لعمرو بن ود أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة، وفي لفظ: لضربة علي خير من عبادة الثقلين، راجع مستدرك الصحيحين: 3/ 32، وكنز العمال: 6/ 158، والسيرة الحلبية: 2/ 349.
(2) البداية والنهاية: 4/ 123.(8/16)
ما بينها وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنّا، ورسول الله والمسلمون في [نحور] عدوّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت. قالت: فقلت: يا حسّان إنّ هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإنّي والله ما آمنه أن يدلّ على عورتنا من ورائنا من اليهود، وقد شغل عنّا رسول الله صلّى الله عليه وأصحابه فانزل إليه فاقتله.
فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت:
فلمّا قال ذلك لي ولم أر عنده شيئا احتجزت ثمّ أخذت عمودا ثمّ نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتّى قتلته فلمّا فرغت منه، رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسّان انزل إليه فاسلبه فإنّه لم يمنعني من سلبه إلّا أنّه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب.
قالوا: وأقام رسول الله صلّى الله عليه وأصحابه في ما وصف الله عزّ وجلّ من الخوف والشدّة لتظاهر عدوّهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، ثمّ إنّ نعيم بن مسعود بن عامر بن [أنيف] بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن حلاوة بن أشجع بن زيد «1» بن غطفان أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلّى الله عليه: إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنّا إن استطعت فإنّ الحرب خدعة.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال لهم: يا بني قريظة، قد عرفتم ودّي إيّاكم وخاصّة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتّهم، فقال لهم: إنّ قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمّد، وقد ظاهرتموهم عليه، وإنّ قريشا وغطفان ليسوا [كهيئتكم] ، البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا عنه إلى غيره، وإنّ قريشا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره، وإن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمّدا حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت برأي ونصح. ثمّ خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّدا، وقد بلغني أمر رأيت أنّ حقّا عليّ أن أبلّغكموه نصحا لكم فاكتموا عليّ. قالوا: نفعل.
قال: تعلمون أنّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه، أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنّا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم [فنعطيكم] فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك على من بقي منهم؟
فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا
__________
(1) في تاريخ الطبري (2/ 242) : ريث.(8/17)
إليهم منكم رجلا واحدا، ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليّ ولا أراكم تتّهموني، قالوا: صدقت، قال: فاكتموا عليّ قالوا: نفعل، ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم، فلمّا كانت ليلة السبت في شوّال سنة خمس، وكان ممّا صنع الله برسوله، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنّا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمّدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه.
فأرسلوا إليهم: إنّ اليوم السبت، وهو يوم لا يعمل فيه شيئا، وكان قد أحدث بعضنا فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّدا، فإنّا نخشى إن [ضرستكم] الحرب واشتدّ عليكم القتال تسيروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمّد.
فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بني قريظة، إنّا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال، فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلّا أن تقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وإلى غطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد، حتّى انصرفوا راجعين وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
قال الله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ مالت الْأَبْصارُ وشخصت وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فأمّا المنافقون فظنّوا أنّ محمّدا وأصحابه سيغلبون ويستأصلون، وأمّا المؤمنون فأيقنوا أنّ ما وعدهم الله حقّ [من] أنّه سيظهر دينه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «1» .
واختلف القرّاء في قوله: الظُّنُونَا والرَّسُولَا والسَّبِيلَا، فأثبت الألفات فيها وصلا ووقفا، أهل المدينة والشام وأيّوب وعاصم برواية أبي بكر، وأبو عمر برواية ابن عبّاس. والكسائي برواية قتيبة، قالوا: إنّ ألفاتها ثابتة في مصحف عثمان وسائر مصاحف البلدان. وقرأها أبو عمرو في سائر الروايات وحمزة ويعقوب بغير (ألف) في الحالين على الأصل.
وقرأ الباقون بالألف في الوقف دون الوصل، واحتجّوا بأنّ العرب تفعل ذلك في قوافي
__________
(1) بطوله في تفسير القرطبي: 14/ 135. 138 مورد الآية، وتاريخ الطبري: 2/ 243.(8/18)
أشعارهم ومصاريعها فتلحق بالألف في موضع الفتح عند الوقوف ولا تفعل ذلك في حشو الأبيات، فحسن إثبات الألف في هذه الحروف لأنّها رؤوس الآي تمثيلا لها بالقوافي.
قوله عزّ وجلّ: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي اختبروا ومحّصوا ليعرف المؤمن من المنافق وَزُلْزِلُوا وحرّكوا وخوّفوا زِلْزالًا تحريكا شَدِيداً وقرأ عاصم الجحدري (زَلْزالًا) بفتح الزاي وهما مصدران.
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ يعني معتب بن قشير وأصحابه وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شكّ وضعف اعتقاد ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي من المنافقين وهم أوس بن قبطي وأصحابه، وقال مقاتل: هم من بني سالم يا أَهْلَ يَثْرِبَ يعني المدينة. وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، ومدينة الرسول (عليه السلام) في ناحية منها. لا مُقامَ لَكُمْ قراءة العامّة بفتح الميم، أي لا مكان لكم تقيمون فيه. وقرأ السّلمي بضم الميم، أي لا إقامة لكم، وهي رواية حفص عن عاصم فَارْجِعُوا إلى منازلكم أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قال ابن عبّاس: قالت اليهود لعبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيدي أبي سفيان وأصحابه فارجعوا إلى المدينة فرجعوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة بن الحرث يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي هي خالية [ضائعة] وهي ممّا يلي العدوّ، وإنّا نخشى عليها العدوّ والسرّاق. وقرأ ابن عبّاس وأبو رجاء العطاردي عَوِرَةٌ، بكسر الواو يعني قصيرة الجدران فيها خلل وفرجة، والعرب تقول: دار فلان عورة، إذا لم تكن حصينة، وقد اعور الفارس إذا بدا فيه خلل الضرب، قال الشاعر:
متى تلقهم لا تلقى في البيت معورا ... ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا «1»
قال الله تعالى: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ يقول لو دخل عليهم هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم المدينة مِنْ أَقْطارِها جوانبها ونواحيها، واحدها قطر وفيه لغة أخرى قطر وأقطار.
ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ الشرك لَآتَوْها قراءة أهل الحجاز بقصر الألف، أي لجاءوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وكفروا، وقرأ الآخرون بالمدّ، أي لأعطوها. وقالوا: إذا كان سؤال كان إعطاء وَما تَلَبَّثُوا بِها وما احتبسوا عن الفتنة إِلَّا يَسِيراً ولأسرعوا الإجابة إليها طيبة بها أنفسهم، هذا قول أكثر المفسّرين، وقال الحسن والفراء: وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلّا قليلا حتى يهلكوا وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل غزوة الخندق
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 148.(8/19)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
لا يُوَلُّونَ عدوّهم الْأَدْبارَ.
وقال يزيد بن دومان: هم بنو حارثة همّوا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلمّا نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها أبدا، فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم، وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ، فساق الله ذلك إليهم في ناحية المدينة.
وقال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وقالوا له:
اشترط لربّك ولنفسك ما شئت، فقال النبي (عليه السلام) : «اشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم وأموالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم النصر في الدّنيا والجنّة في الآخرة» [8] «1» قالوا: قد فعلنا، فذلك عهدهم.
وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا قوله عزّ وجلّ: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ الذي كتب عليكم وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا إلى آجالكم، والدنيا كلّها قليل.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً هزيمة أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً نصرة وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 27]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
__________
(1) مجمع الزوائد: 6/ 48. [.....](8/20)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ المثبّطين مِنْكُمْ الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ تعالوا إِلَيْنا ودعوا محمّدا فلا تشهدوا معه الحرب فإنّا نخاف عليكم الهلاك.
وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا دفعا وتغديرا. قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمّد وأصحابه إلّا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنّه هالك.
قال مقاتل: نزلت في المنافقين، وذلك أنّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين، فقالوا: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه فإنّهم إن قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحدا، وإنّا نشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا هلمّ إلينا، فأقبل عبد الله بن أبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا: لئن قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحدا، ما ترجون من محمّد؟ فو الله ما يريدنا بخير وما عنده خير، ما هو إلّا أن يقتلنا هاهنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا وأصحابنا، يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلّا إيمانا واحتسابا.
وقال ابن زيد: هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوجد أخاه، وبين يديه شواء ورغيف ونبيذ، فقال له: أنت هاهنا في الشواء والنبيذ والرغيف ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف، فقال له [أخوه] : هلمّ إلى هذا فقد [تبع] بك وبصاحبك، والذي تحلف به لا يستقيلها محمّد أبدا، فقال: كذبت والذي تحلف به، وكان أخوه من أبيه وأمّه، أما والله لأخبرنّ النبي صلّى الله عليه أمرك، فذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليخبره فوجده قد نزل جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآية «1» .
قوله: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء بالخير والنفقة في سبيل الله وعند قسم الغنيمة، وهي نصب على الحال والقطع من قوله: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا وصفهم الله بالجبن والبخل.
فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ في رؤوسهم من الخوف والجبن كَالَّذِي أي كدوران عين الذي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ عصوكم ورموكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ ذربة جمع حديد، ويقال للخطيب الفصيح اللسان الذرب اللسان، مسلق ومصلق وسلاق وصلاق وأصل السلق الضرب.
وقال قتادة: يعني بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسم الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا فإنّا قد شهدنا معكم القتال فلستم بأحقّ بالغنيمة منّا، فأمّا عند الغنيمة فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة، وأمّا
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 152.(8/21)
عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحقّ.
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ يعني الغنيمة أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
قوله: يَحْسَبُونَ يعني هؤلاء المنافقين الْأَحْزابَ يعني قريشا وغطفان واليهود الذين تحزبوا على عداوة رسول الله صلّى الله عليه ومخالفته أي اجتمعوا، والأحزاب الجماعات واحدهم حزب. لَمْ يَذْهَبُوا ولم ينصرفوا عن قتالهم وقد انصرفوا منهم جماعة وفرقا. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ إن يرجعوا إليكم كرّة ثانية.
يَوَدُّوا من الخوف والجبن لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ خارجون إلى البادية فِي الْأَعْرابِ أي معهم يَسْئَلُونَ قراءة العامّة بالتخفيف، وقرأ عاصم الجحدري ويعقوب في رواية رويس وزيد مشدّدة ممدودة بمعنى يتساءلون أي يسأل بعضهم بعضا.
عَنْ أَنْبائِكُمْ أخباركم وما آل إليه أمركم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ يعني هؤلاء المنافقين ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء من غير حسبة، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا.
قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ محمّد صلّى الله عليه أُسْوَةٌ قدوة حَسَنَةٌ قرأ عاصم هاهنا وفي سورة الامتحان (أُسْوَةٌ) بضمّ الألف وقرأهما الآخرون بالكسر وهما لغتان مثل عدوة وعدوة ورشوة ورشوة وكسوة وكسوة. وكان يحيى بن ثابت يكسرها هنا ويضمّ الأخرى.
قال أبو عبيد: ولا نعرف بين ما فرّق يحيى فرقا.
قال المفسّرون: يعني لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ سنّة صالحة أن تنصروه وتؤازروه ولا تتخلّفوا عنه ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه وعن مكان هواه، كما فعل هو إذ كسرت رباعيته، وجرح فوق حاجبة وقتل عمّه حمزة، وأوذي بضروب الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم أيضا كذلك واستنّوا بسنّته.
لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً في الرخاء والبلاء. ثمّ ذكر المؤمنين وتصديقهم بوعود الله تعالى فقال: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا تسليما لأمر الله وتصديقا لوعده هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
ووعد الله تعالى إيّاهم قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ إلى قوله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ «1» .
وَما زادَهُمْ ذلك إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً.
__________
(1) سورة البقرة: 214.(8/22)
قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فوفوا به فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ يعني فرغ من نذره ووفى بعهده فصبر على الجهاد حتى استشهد، والنحب النذر، والنحب أيضا الموت. قال ذو الرمّة:
عشية فر الحارثيون بعد ما ... قضى نحبه من ملتقى القوم هوبر «1» «2»
أي مات. قال مقاتل: قَضى نَحْبَهُ يعني أجله، فقتل على الوفاء، يعني حمزة وأصحابه.
وقيل: قَضى نَحْبَهُ أي [أجهده] في الوفاء بعهده من قول العرب: نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع [إذا مد] «3» فلم ينزل. قال جرير:
[بطخفة] جالدنا الملوك وخيلنا ... عشية بسطام جرين على نحب «4»
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة وَما بَدَّلُوا قولهم وعهدهم ونذرهم تَبْدِيلًا.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال:
حدّثنا نهر بن أسد عن سليمان بن المغيرة عن أنس قال: وأخبرنا أحمد بن عبد الله المرني، عن محمد بن عبد الله بن سليمان، عن محمد بن العلاء عن عبد الله بن بكر السهمي، عن حميد عن أنس قال: غاب عمّي أنس بن النضر- وبه سميت أنس- عن قتال بدر فشقّ عليه لما قدم وقال:
غبت عن أوّل مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه، والله لئن أشهدني الله عزّ وجلّ قتالا ليرينّ الله ما أصنع.
قال: فلمّا كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إنّي أبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء المشركون، وأعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء، يعني المسلمين، ثمّ مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد والذي نفسي بيده إنّي لأجد ريح الجنّة دون أحد.
قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع أنس، فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وقد مثّلوا به، وما عرفناه حتى عرفته أخته بثناياه، ونزلت هذه الآية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.
قال: فكنا نقول: نزلت فيه هذه الآية وفي أصحابه.
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد ابن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد الترمذي، عن صالح بن محمد، عن سليمان بن
__________
(1) هوبر: اسم رجل، والنحب: الخطر.
(2) لسان العرب: 5/ 248، تاج العروس: 3/ 609
(3) هكذا في الأصل.
(4) طخفة: اسم موضع، والمجالدة: المضاربة.(8/23)
حرب، عن حزم، عن عروة عن عائشة في قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قالت: منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه حتى أصيبت يده، فقال رسول الله صلّى الله عليه: أوجب طلحة الجنّة.
وبإسناده عن صالح عن مسلم بن خالد عن عبد الله بن أبي نجيح أنّ طلحة بن عبيد الله يوم أحد كان محتصنا للنبيّ (عليه السلام) في الخيل وقد بهر النبيّ صلّى الله عليه قال: فجاء سهم عابر متوجّها إلى النبيّ صلّى الله عليه فاتّقاه طلحة بيده فأصاب خنصره فقال: [حس] ثمّ قال:
بسم الله، فقال النبيّ (عليه السلام) : «لو أنّ بها بدأت لتخطفتك الملائكة حتى تدخلك الجنّة» «1» .
وروى معاوية بن إسحاق، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أمّ المؤمنين قالت: إنّي لفي بيتي ورسول الله صلّى الله عليه وأصحابه في الفناء وبيني وبينهم الستر إذ أقبل طلحة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قَضى نَحْبَهُ فلينظر إلى طلحة» [9] «2» .
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد بن سليمان بن بابويه بن قهرويه قال: أخبرني أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن عبد الجبّار الصوفي، عن محمد ابن عبّاد الواسطي، عن مكي بن إبراهيم، عن الصلت بن دينار، عن ابن نضر، عن جابر، عن أبي عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه يقول: «من سرّه أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله» .
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش وغطفان بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً نصرا وظفرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالملائكة والريح وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ يعني عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأهل الإيمان وهم بنو قريظة، وذلك
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمّا أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم، وانصرف (عليه السلام) والمسلمون من الخندق راجعين إلى المدينة، ووضعوا السلاح، فلمّا كان الظهر أتى جبرائيل رسول الله صلّى الله عليه [معتما] بعمامة من إستبرق على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش، وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقّة فقال: قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال:
__________
(1) الطبقات الكبرى: 3/ 217.
(2) مجمع الزوائد 9/ 148.(8/24)
نعم، قال جبرائيل: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة، وما رجعت الآن إلّا من طلب القوم، إنّ الله يأمرك يا محمّد بالسير إلى بني قريظة [وأنا عامد إلى بني قريظة] فانهض إليهم، فإنّي قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مناديا، فأذّن إنّ من كان سامعا مطيعا لا يصلّين العصر إلّا في بني قريظة.
وقدّم رسول الله صلّى الله عليه عليّ بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس فسار علي ابن أبي طالب حتّى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة [على] رسول الله صلّى الله عليه منهم، فرجع حتّى لقي رسول الله صلّى الله عليه بالطريق وقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث.
قال: لم؟ أظنّك سمعت لي منهم أذى. قال: نعم يا رسول الله، قال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا، فلمّا دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا.
ومرّ رسول الله صلّى الله عليه على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال:
هل مرّ بكم أحد؟ فقالوا: يا رسول الله لقد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ذاك جبرائيل بعث إلى بني قريظة، يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم، فلمّا أتى رسول الله صلّى الله عليه بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم يقال لها يراقا، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلّوا العصر، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا يصلّين أحدكم العصر إلّا في بني قريظة، فصلّوا العصر بها بعد صلاة العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك في كتابه، ولا عنّفهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» .
قال: وحاصرهم رسول الله خمسا وعشرين ليلة حتّى جهدهم الحصار وَقَذَفَ الله فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وقد كان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وقال كعب بن أسد بما كان عاهده، فلمّا أيقنوا بأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر اليهود إنّه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإنّي عارض عليكم خلالا ثلاث، فخذوا أيّها شئتم، فقالوا: وما هنّ؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدّقه فو الله لقد تبيّن لكم أنّه نبي مرسل، وأنّه للذي كنتم تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم هذه فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالا
__________
(1) تفسير الطبري: 21/ 181 مورد الآية.(8/25)
مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء، فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين فلا خير في العيش بعدهم.
قال: فإن أبيتم على هذه فإنّ الليلة ليلة السبت، وأنّه عسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلّنا أن نصيب من محمّد وأصحابه غرّة، قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ممّن قد علمت، فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك. قال:
ما بات رجل منكم منذ ولدته أمّه بليلة واحدة من الدهر حازما. قال: ثمّ إنّهم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف- وكانوا حلفاء الأوس- نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلّى الله عليه إليهم، فلمّا رأوه قام إليه الرجال ونهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرقّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنّه الذبح.
قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله، ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلّى الله عليه حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني حتّى يتوب الله عليّ ممّا صنعت، وعاهد الله لا يطأ بني قريظة، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
فلمّا بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه، قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، فأمّا إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتّى يتوب الله عليه، ثمّ إنّ الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في بيت أمّ سلمة وقالت أمّ سلمة: فسمعت رسول الله صلّى الله عليه من السّحر يضحك فقلت: ممّ ضحكت يا رسول الله أضحك الله سنّك؟
قال: تيب على أبي لبابة، فقالت: ألا أبشّره بذلك يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئت قال:
فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب الحجاب عليهن. فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال: فسار إليه الناس ليطلقوه، فقال: لا والله حتّى يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده. فلمّا مرّ عليه خارجا إلى الصبح أطلقه.
قال: ثمّ إنّ ثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هزل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك وهم بنو عم القوم، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي، فمرّ بحرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعليها محمد بن مسلمة الأنصاري في تلك الليلة، فلمّا رآه قال: من هذا؟ قال: عمرو بن سعدي، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلّى الله عليه وقال: لا أغدر بمحمّد أبدا، فقال محمّد بن مسلمة حين عرفه: اللهمّ لا تحرمني(8/26)
عشرات الكرام، ثمّ خلّى سبيله، فخرج على وجهه، حتّى بات في مسجد رسول الله صلّى الله عليه بالمدينة تلك الليلة، ثمّ ذهب فلا يدرى أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا، فذكر لرسول الله صلّى الله عليه شأنه فقال: ذاك رجل نجّاه الله بوفائه.
وبعض الناس يزعم أنّه أوثق برمّة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه، فأصبحت رمّته ملقاة لا يدرى أين ذهب، فقال رسول الله صلّى الله عليه تلك المقالة والله أعلم.
فلمّا أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله إنّهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه فسألهم إيّاه عبد الله بن أبي سلول فوهبهم له، فلمّا كلّمته الأوس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم» ؟ قالوا: بلى.
قال: «فذلك إلى سعد بن معاذ» [10] «1» . وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من المسلمين، يقال لها (رفيدة) في مسجده، وكانت تداوي الجرحى، وتحبس نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين. وكان رسول الله صلّى الله عليه قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب» [11] «2» .
فلمّا حكّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه فاحتملوه على حمار، وقد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما، ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وهم يقولون:
يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنّما ولّاك ذاك لتحسن فيهم، فلمّا أكثروا عليه قال: قد أتى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه إلى دار بني عبد الأشهل فنعي لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه.
فلمّا انتهى رسول الله صلّى الله عليه قال: قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه. فقاموا إليه فقالوا:
يا أبا عمرو إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد ولّاك مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيها ما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعليّ من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إجلالا له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: نعم.
قال سعد: فإنّي أحكم فيهم، أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى النساء والذراري،
__________
(1) البداية والنهاية: 4/ 139.
(2) تفسير الطبري: 21/ 181.(8/27)
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، ثمّ استنزلوا فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجّار، ثمّ خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خندقا ثمّ بعث إليهم فضرب أعناقهم، فهم في تلك الخنادق يخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدوّ الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمكثر لهم يقول: كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة.
وقيل: قالوا لكعب بن أسد وهو يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب ما ترى أن يصنع بنا؟ فقال كعب: في كلّ موطن لا تعقلون! ألا ترون أنّ الداعي لا ينزع وأنّ من يذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل. فلم يزل ذلك دأبهم حتى فرغ منهم رسول الله صلّى الله عليه وأتي بحيي بن أخطب عدوّ الله وعليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كلّ ناحية كموضع الأنملة [أنملة أنملة] لئلّا يسلبها، مجموعه يداه إلى عنقه بحبل، فلمّا نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنّه من يخذل الله يخذل، ثمّ أقبل على الناس، فقال: أيّها الناس، إنّه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثمّ جلس فضربت عنقه فقال هبل «1» بن حواس [الثعلبي] «2» :
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل
يجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ... وقلقل يغبي العز كل مقلقل «3»
وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت: لم يقتل من نساء بني قريظة إلّا امرأة واحدة، قالت: والله إنّها لعندي تتحدّث معي وتضحك ظهرا، ورسول الله صلّى الله عليه يقتل رجالهم بالسوق إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله. قالت: قلت: ويلك ما لك؟
قالت: أقتل. قلت: ولم؟ قالت: حدث أحدثته. قال: فانطلق بها فضربت عنقها، وكانت عائشة تقول: ما أنسى كذا عجبا منها طيب نفس، وكثرة ضحك، وقد عرفت أنّها تقتل.
قال الواقدي: واسم تلك المرأة بنانة امرأة الحكم القرظي، وكانت قد قتلت خلّاد بن سويد، رمت عليه رحا، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بها وضربت عنقها بخلّاد بن سويد، وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس هناك.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أنّ الزبير بن باطا القرظي- وكان يكنى أبا عبد الرحمن- كان قد منّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بغاث أخذه فجرّ ناصيته، ثمّ خلّى سبيله، وجاءه يوم قريظة، وهو شيخ كبير فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟
__________
(1) في تفسير الطبري (21/ 185) جبل بن جوال.
(2) هكذا يظهر في الأصل ولعله: الثعلبي.
(3) البداية والنهاية: 4/ 143. [.....](8/28)
فقال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال: إنّي قد أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إنّ الكريم يجزي الكريم، قال: ثمّ أتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه فقال: يا رسول الله قد كان للزبير عندي يد وله عليّ منّة، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه، فقال رسول الله صلّى الله عليه: «هو لك» .
فأتاه فقال له: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك. فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أهله وولده؟ فقال: «هم لك» .
فأتاه فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أعطاني امرأتك وولدك فهم لك. فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله فقال: يا رسول الله ماله. فقال: هو لك، فأتاه فقال: إنّ رسول الله قد أعطاني مالك فهو لك. فقال أي ثابت: ما فعل الذي كأنّ وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد قال: قتل. قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟ قال: قتل. قال: فما فعل مقدمنا إذا شددنا، وحامينا إذا كررنا أعزال ابن سموأل؟ قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة، قال: ذهبوا قتلوا، قال: وإنّي اسألك بيدي عندك يا ثابت إلّا ألحقتني بالقوم، فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فها أنا صابر لله حتى ألقى الأحبّة، فقدّمه ثابت فضرب عنقه، فلمّا بلغ قوله أبا بكر ألقى الأحبّة، فقال: يلقاهم والله في نار جهنّم خالدا فيها مخلّدا أبدا، فقال ثابت بن قيس في ذلك:
وفت ذمّتي إني كريم وإنّني ... صبور إذا ما القوم حادوا عن الصبر
وكان زبير أعظم الناس منّة ... عليّ فلما شد كوعاه بالأسر
أتيت رسول الله كي ما أفكّه ... وكان رسول الله بحرا لنا يجري «1»
قالوا: وكان رسول الله صلّى الله عليه قد أمر بقتل من أسر منهم، فسألته سليمى بنت قيس أمّ المنذر أخت سليط بن قيس- وكانت إحدى خالات رسول الله صلّى الله عليه وكانت قد صلّت معه القبلتين وبايعته بيعة النساء- رفاعة بن سموأل القرظي وكان رجلا قد بلغ، فلاذ بها وكان يعرفها قبل ذلك فقالت: يا نبي الله بأبي أنت وأمّي هب لي رفاعة بن سموأل، فإنّه زعم أنّه سيصلّي ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها [فاستحيته] «2» قالوا: ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه قسّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان للخيل وسهمان للرجال، وأخرج منها الخمس، وكان للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان وللفارس سهم «3» ، وللرّاجل ممّن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل يوم بني قريظة ستّة وثلاثون فرسا،
__________
(1) تاريخ الطبري: 2/ 252.
. (2) هكذا في الأصل.
(3) سيرة ابن هشام: 3/ 255، وعيون الأثر لابن سيد الناس: 2/ 57.(8/29)
وكان أوّل فيء وقع فيه السهمان، وأخرج منه الخمس فعلى سنتها وما مضى من رسول الله فيها وقعت المقاسم ومضت السنّة في المغازي، ثمّ بعث رسول الله صلّى الله عليه سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلا وسلاحا.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن حنافة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة فكانت عند رسول الله صلّى الله عليه حتى توفّي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه يحرص أن يتزوّجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملك فهو أخفّ عليّ وعليك فتركها، وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلّا اليهودية، فعزلها رسول الله صلّى الله عليه ووجد في نفسه بذلك من أمرها، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: إنّ هذا لثعلبة بن شعبة يبشّرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسّره ذلك.
فلمّا انقضى شأن بني قريظة الفجر خرج سعد بن معاذ، وذلك أنّه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال: اللهمّ إنّك قد علمت أنّه لم يكن قوم أحبّ إليّ من أن أجاهدهم من قوم كذّبوا رسولك، اللهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضرب عليه في المسجد.
قالت عائشة: فحضره رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، فو الذي نفس محمّد بيده إنّي لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإنّي لفي حجرتي، قالت: وكانوا كما قال الله عزّ وجلّ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «1» .
قال علقمة: [أي أمّه] «2» كيف كان يصنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنّه كان إذا اشتدّ وجده فإنّما هو آخذ بلحيته، قال محمّد بن إسحاق: لم يقتل من المسلمين يوم الخندق إلّا ستّة نفر، وقتل من المشركين ثلاثة نفر، وقتل يوم قريظة من المسلمين خلّاد بن سويد بن ثعلبة طرحت عليه رحى فشدخته فقط «3» .
ولمّا انصرف رسول الله صلّى الله عليه من الخندق وقريظة قال: الآن نغزوهم- يعني قريشا- ولا يغزوننا، فكان كذلك حتّى فتح الله على رسوله مكّة
، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس للهجرة فذلك قوله الله عزّ وجلّ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ
__________
(1) سورة الفتح: 29.
(2) يريد: عائشة.
(3) انظر: تاريخ الطبري: 2/ 252.(8/30)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
أي حصونهم ومعاقلهم، واحدها صيصية، ومنه قيل لقرن البقر صيصية، ولشوكة الديك والحاكة صيصية، وقال الشاعر:
كوقع الصياصي في النسيج الممدد «1» وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم الرجال وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وهم النساء والذراري وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعد. قال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: يعني خيبر. قتادة: كنّا نحدّث أنّها مكّة. قال الحسن: فارس والروم.
عكرمة: كلّ أرض تفتح إلى يوم القيامة. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 32]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ متعة الطلاق وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فأطعتنهما فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً
قال المفسّرون: كان أزواج النبي صلّى الله عليه سألنه شيئا من عرض الدنيا وآذينه بزيادة النفقة والغيرة، فهجرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وآلى أن لا يقربهن شهرا، ولم يخرج إلى أصحابه صلوات، فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن شئتم لأعلمن لكم ما شأنه، فأتى النبي (عليه السلام) فجعل يتكلّم ويرفع صوته حتى أذن له، قال: فجعلت أقول في نفسي: أيّ شيء أكلّم به رسول الله صلّى الله عليه لعلّه ينبسط؟ فقلت: يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتني النفقة، فصككتها صكّة فقال: ذلك أجلسني عنكم.
فأتى عمر حفصة فقال: لا تسألي رسول الله شيئا ما كانت لك من حاجة فإليّ، قال: ثمّ تتبّع نساء النبي صلّى الله عليه وسلم فجعل يكلّمهنّ، فقال لعائشة: أيعزّك أنّك امرأة حسناء وأنّ زوجك يحبّك لتنتهن أو لينزلن فيكنّ القرآن، قال: فقالت له أمّ سلمة: يا بن الخطّاب أو ما بقي لك إلّا أن تدخل بين رسول الله وبين نسائه؟! من يسأل المرأة إلّا زوجها؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآيات.
وكانت تحت رسول الله صلّى الله عليه يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش عائشة بنت أبي
__________
(1) كتاب العين: 7/ 176.(8/31)
بكر، وحفصة بنت عمر، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأمّ سلمة بنت أبي أمية، وصفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحرث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحرث المصطلقية، فلمّا نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلّى الله عليه بعائشة، وكانت أحبّهنّ إليه، فخيّرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلّى الله عليه وتابعنها على ذلك.
قال قتادة: فلمّا اخترن الله ورسوله، شكرهنّ الله على ذلك، وقصره عليهن وقال: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن الحسين عن أحمد بن يوسف عن عبد الرزّاق عن معمر، أخبرني الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لمّا مضت تسع وعشرون ليلة دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه فقلت: يا رسول الله، إنّك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنّك قد دخلت عليّ من تسع وعشرين أعدّهن، فقال: إنّ الشهر تسع وعشرون، ثمّ قال: يا عائشة إنّي ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قالت: ثمّ قرأ عليّ هذه الآية:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا حتى بلغ أَجْراً عَظِيماً.
قالت عائشة: قد علم والله إنّ أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت: في هذا أستامر أبويّ؟ فإنّي أريد اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. قال معمر: فحدّثني أيّوب أنّ عائشة قالت: لا تخبر أزواجك انّي اخترتك، فقال النبي صلّى الله عليه: إنّما بعثني الله مبلّغا ولم يبعثني متعنّتا.
وأخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون عن [أحمد بن محمّد بن الحسن] «1» عن محمد بن يحيى عن عثمان بن عمر عن يونس عن الزهري عن [أبي] «2» سلمة أنّ عائشة قالت: لمّا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: إنّي مخبرك خبرا فلا عليك أن لا تعجلي حتّى تستأمري أبويك، ثمّ قال: إنّ الله عزّ وجلّ قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا حتّى بلغ أَجْراً عَظِيماً.
فقلت: أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإنّي أريد اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. قالت: ثمّ فعل أزواج النبيّ صلّى الله عليه مثل ما فعلت.
قوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ قرأ الجحدري بالتاء. غيره بالياء. بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بمعصية ظاهرة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ في الآخرة ضِعْفَيْنِ وقرأ ابن عامر وابن كثير:
نضعّف بالنون وكسر العين مشدّدا من غير ألف (الْعَذابَ) نصبا.
__________
(1) في نسخة أصفهان: ابن الشرقي.
(2) في نسخة أصفهان: ابن.(8/32)
وقرأ أبو عمرو ويعقوب يضعّف بالياء وفتح العين مشدّدا الْعَذابُ رفعا. قال أبو عمرو: إنّما قرأت هذه وحدها بالتشديد لقوله: ضِعْفَيْنِ وقرأ الباقون نضاعف بالألف ورفع الباء من الْعَذابُ وهما لغتان مثل باعد وبعد.
وقال أبو عمرو وأبو عبيدة: ضعفت الشيء إذا جعلته مثله، ومضاعفته جعلته أمثاله.
وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً قوله: وَمَنْ يَقْنُتْ يطع.
قال قتادة: كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة [وقراءة العامة تقنت بالتاء] «1» وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف (يعمل) (يؤتها) بالياء. غيرهم بالتاء.
قال الفراء: إنّما قال (يَأْتِ) (ويَقْنُتْ) لأنّ من أداة تقوم مقام الاسم يعبّر به عن الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ «2» . وقال:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «3» ، وقال: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ «4» . وقال الفرزدق في الاثنين:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... تكن مثل من يا ذئب يصطحبان «5»
مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أي مثلي غير هن من النساء.
وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً يعني الجنّة.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه، عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن محمد بن عمران بن هارون، عن أحمد بن منيع، عن يزيد، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت عن أبي رافع قال: كان عمر يقرأ في صلاة الغداة بسورة يوسف والأحزاب، فإذا بلغ: يا نِساءَ النَّبِيِّ رفع بها صوته، فقيل له، فقال: أذكّرهنّ العهد.
واختلف العلماء في حكم التخيير، فقال عمر وابن مسعود: إذا خيّر الرجل امرأته فاختارت زوجها فلا شيء عليه، وإن اختارت نفسها [طلّقت] «6» وإلى هذا ذهب مالك.
وقال الشافعي: إن نوى الطلاق في التخيير كان طلاقا وإلّا فلا. واحتجّ من لم يجعل التخيير بنفسه طلاقا، بقوله: وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا،
وبقول عائشة: خيّرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاخترناه، فلم نعدّه طلاقا.
__________
(1) وهكذا ورد في نسخة أصفهان: وقراءة العامة بالياء إلّا ما روي عن ابن عامر ويعقوب أنّهما قرءا: تقنت بالتاء.
(2) سورة يونس: 43.
(3) سورة يونس: 42.
(4) سورة الأحزاب: 31.
(5) لسان العرب: 13/ 419. [.....]
(6) في نسخة أصفهان: فثلاث.(8/33)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
قوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ الله فأطعتنه. قال الفرّاء: لم يقل كواحدة، لأنّ الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكّر والمؤنث. قال الله تعالى:
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1» وقال: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «2» .
فَلا تَخْضَعْنَ تلنّ بِالْقَوْلِ للرجال فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي فجور وضعف إيمان وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً صحيحا جميلا.
[سورة الأحزاب (33) : آية 33]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم بفتح القاف. غيرهم بالكسر، فمن فتح القاف فمعناه واقررن، أي الزمن بيوتكنّ، من قولك قررت في المكان، أقرّ قرارا. وقررت أقرّ لغتان فحذفت الراء الأولى التي هي عين الفعل ونقلت حركتها إلى القاف فانفتحت كقولهم في ظللت وظلت.
قال الله تعالى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ «3» ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً «4» والأصل ظللت فحذفت إحدى اللّامين، ودليل هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة واقررن بفتح الراء على الأصل في لغة من يقول: قررت أقرّ قرارا.
وقال أبو عبيدة: وكان أشياخنا من أهل العربية ينكرون هذه القراءة وهي جائزة عندنا مثل قوله: فَظَلْتُمْ ومن كسر القاف فهو أمر من الوقار كقولك من الوعد: عدن ومن الوصل صلن، أي كنّ أهل وقار أي هدوء وسكون وتؤدة من قولهم: وقر فلان يقر وقورا إذا سكن واطمأن.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري قال: أخبرني أبو بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثني أبي، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش عن أبي الضحى قال: حدّثني من سمع عائشة تقرأ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فتبكي حتّى تبلّ خمارها.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن خالد، عن داود بن سليمان، عن عبد الله بن حميد، عن يزيد بن هارون، عن هشام، عن محمد قال: نبئت أنّه قيل لسودة زوج النبي (عليه السلام) :
ما لك لا تحجّين ولا تعتمرين كما يفعلنّ أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله تعالى أن أقرّ في بيتي، فو الله لا أخرج من بيتي حتّى أموت.
__________
(1) سورة البقرة: 285.
(2) سورة الحاقة: 47.
(3) سورة الواقعة: 65.
(4) سورة طه: 97.(8/34)
قال: فو الله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها. قوله: وَلا تَبَرَّجْنَ قال مجاهد وقتادة: التبرّج التبختر التكبّر والتغنّج وقيل: هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى واختلفوا فيها. قال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمّد (عليهما السلام) . أبو العالية: هي زمن داود وسليمان وكانت المرأة تلبس قميصا من الدرّ غير مخيط الجانبين فيرى خلفها فيه.
الكلبي: الجاهلية التي هي الزمان الذي فيه ولد إبراهيم (عليه السلام) ، وكانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتّخذ الدّرع من اللؤلؤ فتلبسه ثمّ تمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره، وتعرض نفسها على الرجال، وكان ذلك في زمان نمرود الجبّار، والناس حينئذ كلّهم كفّار.
الحكم: هي ما بين آدم ونوح ثمانمائة سنة، وكان نساؤهم أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان. فكانت المرأة تريد الرجل على نفسها.
وروى عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قرأ هذه الآية فقال: إنّ الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس (عليهما السلام) ، وكانت ألف سنة، وإنّ بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحا وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة، وإنّ إبليس أتى رجلا من أهل السهل في صورة غلام، فآجر نفسه منه، فكان يخدمه، واتّخذ إبليس شيئا مثل الذي يزمر فيه الرّعاء، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حولهم، فانتابوه يستمعون إليه، واتّخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة، فتتبرّج النساء للرجال وتتزيّن الرجال لهنّ، وإنّ رجلا من أهل الجبل هجم عليهم، وهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحوّلوا إليهم فنزلوا معهم، فظهرت الفاحشة فيهنّ. فهو قول الله عزّ وجلّ: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ.
وقال قتادة: هي ما قبل الإسلام وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الإثم الذي نهى الله النساء عنه. قاله مقاتل. وقال قتادة: يعني السوء. وقال ابن زيد: يعني الشيطان.
أَهْلَ الْبَيْتِ يعني يا أهل بيت محمّد وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً من نجاسات الجاهلية. وقال مجاهد (الرِّجْسَ) الشكّ (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) من الشرك.
واختلفوا في المعنيّ بقوله سبحانه أَهْلَ الْبَيْتِ فقال قوم: عنى به أزواج النبي (عليه السلام) خاصّة، وإنّما ذكّر الخطاب لأنّ رسول الله صلّى الله عليه كان فيهم وإذا اجتمع المذكّر والمؤنّث غلب المذكّر.
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمّد بن جعفر، عن الحسن بن علي بن عفّان قال: أخبرني أبو يحيى، عن صالح بن موسى عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: أنزلت(8/35)
هذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ الآية في نساء النبيّ صلّى الله عليه. قال: وتلا عبد الله: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ «1» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، عن أحمد بن نجدة عن الحماني عن ابن المبارك عن الأصبغ بن علقمة. وأنبأني عقيل بن محمد قال: أخبرني المعافى ابن زكريا عن محمّد بن جرير قال: أخبرني [ابن] «2» حميد عن يحيى بن واضح عن الأصبغ بن علقمة، عن عكرمة في قول الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قال:
ليس الذي تذهبون إليه، إنّما هو في أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم خاصّة.
قال: وكان عكرمة ينادي بهذا في السوق. وإلى هذا ذهب مقاتل قال: يعني نساء النبي صلّى الله عليه كلّهن ليس معهنّ رجل. «3»
__________
(1) سورة الأحزاب: 34.
(2) في نسخة أصفهان: أبو.
(3) (أقوال المفسّرين والعلماء باختصاصها بأصحاب الكساء) قال أبو بكر النقّاش في تفسيره: أجمع أكثر أهل التّفسير أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم (جواهر العقدين: 198 الباب الأول، وتفسير آية المودّة:
112) .
وقال سيدي محمّد بن أحمد بنيس في شرح همزيّة البوصيري: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) أكثر المفسّرين أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسنين رضي الله عنهم (لوامع أنوار الكوكب الدرّي: 2/ 86) .
وقال العلّامة سيدي محمّد جسوس في شرح الشمائل: « ... ثمّ جاء الحسن بن عليّ فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معهم، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء عليّ فأدخله ثمّ قال:
(إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) » وفي ذلك إشارة إلى أنّهم المراد بأهل البيت في الآية» (شرح الشمائل المحمدية: 1/ 107 ذيل باب ما جاء في لباس رسول الله) .
وقال السمهودي: وقالت فرقة، منهم الكلبيّ: هم عليّ وفاطمة والحسن والحسين خاصّة، للأحاديث المتقدمة (جواهر العقدين: 198 الباب الأول) .
وقال الطّحاوي في مشكل الآثار بعد ذكر أحاديث الكساء: فدلّ ما روينا في هذه الآثار ممّا كان من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أمّ سلمة ممّا ذكرنا فيها، لم يرد أنّها كانت(8/36)
__________
ممّا أريد به ممّا في الآية المتلوّة في هذا الباب، وأنّ المراد بما فيها هم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين دون ما سواهم (مشكل الآثار: 1/ 230 ح 782 باب 106 ما روي عن النبيّ في الآية) .
وقال بعد ذكر أحاديث تلاوة النبيّ صلّى الله عليه وسلم الآية على باب فاطمة: في هذا أيضا دليل على أنّ هذه فيهم (مشكل الآثار: 1/ 231 ح 785 باب 106 ما روي عن النبيّ في الآية) .
وقال الفخر الرازي: وأنا أقول: آل محمّد صلّى الله عليه وسلم هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّا والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم أشدّ التعلّقات، وهذا كالمعلوم بالنّقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل.
أيضا اختلف النّاس في الآل، فقيل: هم الأقارب، وقيل: هم امّته، فإن حملناه على القرابة فهم الآل، وإن حملناه على الأمّة الذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل، وأمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟
فمختلف فيه، وروى صاحب الكشاف أنّه لمّا نزلت هذه الآية [المودّة] قيل: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟
فقال صلّى الله عليه وسلم: «عليّ وفاطمة وابناهما» ، فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ صلّى الله عليه وسلم وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التّعظيم ويدلّ عليه وجوه..) إلخ (تفسير الفخر الرازي: 27/ 166 مورد آية المودّة (23) من سورة الشورى) .
وقال في موضع آخر: واختلفت الأقوال في أهل البيت، والأولى أن يقال: هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعليّ منهم لأنّه كان من أهل بيته بسبب معاشرته بنت النبيّ وملازمته للنبيّ صلّى الله عليه وسلم (تفسير الفخر الرازي: 25/ 209) .
وقال أبو بكر الحضرمي في رشفة الصادي: (والذي قال به الجماهير من العلماء، وقطع به أكابر الأئمّة، وقامت به البراهين وتظافرت به الأدلّة أنّ أهل البيت المرادين في الآية هم سيّدنا عليّ وفاطمة وابناهما ... وما كان تخصيصهم بذلك منه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا عن أمر إلهيّ ووحي سماويّ ... والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وبما أوردته منها يعلم قطعا أنّ المراد بأهل البيت في الآية هم عليّ وفاطمة وابناهما رضوان الله عليهم، ولا التفات إلى ما ذكره صاحب روح البيان من أنّ تخصيص الخمسة المذكورين عليهم السلام بكونهم أهل البيت من أقوال الشيعة، لأنّ ذلك محض تهوّر يقتضي بالعجب، وبما سبق من الأحاديث وما في كتب أهل السنّة السنيّة يسفر الصبح لذي عينين. إلى أن يقول. وقد أجمعت الأمّة على ذلك فلا حاجة(8/37)
__________
لإطالة الاستدلال له) (رشفة الصادي من بحر فضائل بني النبيّ الهادي: 13. 14. 16 ط. مصر و 23 و 40 ط. بيروت. الباب الأول. ذكر تفضيلهم بما أنزل الله في حقّهم من الآيات) .
وقال ابن حجر: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] أكثر المفسّرين على أنها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين (الصواعق المحرقة: 143 ط. مصر، وط. بيروت: 220 الباب الحادي عشر، في الآيات الواردة فيهم، الآية الاولى) .
وقال في موضع آخر بعد تصحيح الصلاة على الآل:.. فالمراد بأهل البيت فيها وفي كلّ ما جاء في فضلهم أو فضل الآل أو ذوي القربى جميع آله صلّى الله عليه وسلم وهم مؤمنو بني هاشم والمطّلب، وبه يعلم أنّه صلّى الله عليه وسلم قال ذلك كلّه (مراده الروايات التي حذفت الآل كما في الصحيحين، والروايات التي أثبتت الآل) فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظه الآخر، ثمّ عطف الأزواج والذرّيّة على الآل في كثير من الروايات يقتضي أنّهما ليسا من الآل، وهو واضح في الأزواج بناء على الأصحّ في الآل أنّهم مؤمنو بني هاشم والمطّلب، وأمّا الذرّيّة فمن الآل على سائر الأقوال، فذكرهم بعد الآل للإشارة إلى عظيم شرفهم (الصواعق المحرقة:
146 ط. مصر و 224. 225 ط. بيروت، باب 11، الآيات النازلة فيهم. الآية الثانية) .
وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وأمّا قوله في الرواية الاخرى: «نساؤه من أهل البيت ولكن أهل بيته من حرم الصدقة» .
قال: وفي الرواية الاخرى: «فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا» .
فهاتان الروايتان ظاهر هما التناقض، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنّه قال:
«نساؤه لسن من أهل بيته» ، فتتأول الرواية الاولى على أنّ المراد أنهنّ من أهل بيته الذين يسكنونه ويعولهم ... ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة (صحيح مسلم بشرح النووي: 15/ 175 ح 6175 كتاب الفضائل. فضائل عليّ) .
وقال السمهودي: وحكى النووي في شرح المهذّب وجها آخر لأصحابنا: أنّهم عترته الذين ينسبون إليه صلّى الله عليه وسلم قال: وهم أولاد فاطمة ونسلهم أبدا، حكاه الأزهري وآخرون عنه. انتهى.
وحكاه بعضهم بزيادة أدخل الأزواج (جواهر العقدين: 211 الباب الأول، وبهامشه:
شرح المهذب: 3/ 448) .
وقال الإمام مجد الدين الفيروزآبادي: المسألة العاشرة: هل يدخل في مثل هذا الخطاب (الصلاة على النبيّ) النّساء؟ ذهب جمهور الأصوليين أنّهنّ لا يدخلن، ونصّ عليه(8/38)
__________
الشافعي، وانتقد عليه، وخطىء المنتقد (الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر: 32 الباب الأول) .
وقال الملّا عليّ القاري: الأصحّ أنّ فضل أبنائهم على ترتيب فضل آبائهم إلّا أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها فإنّهم يفضّلون على أولاد أبي بكر وعمر وعثمان لقربهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهم العترة الطاهرة والذرّيّة الطيّبة الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا (شرح كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة: 210 مسألة في تفضيل أولاد الصحابة) .
وقال السمهودي بعد ذكر الأحاديث في إقامة النبيّ آله مقام نفسه وذكر آية المباهلة وأنّها فيهم: وهؤلاء هم أهل الكساء، فهم المراد من الآيتين (المباهلة والتطهير) (جواهر العقدين:
204 الباب الأول) .
وقال الحمزاوي: واستدلّ القائل على عدم العموم بما روي من طرق صحيحة: «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاء ومعه عليّ وفاطمة والحسن والحسين..» وذكر أحاديث الكساء، إلى أن قال: ويحتمل أنّ التّخصيص بالكساء لهؤلاء الأربع لأمر إلهيّ يدلّ له حديث أمّ سلمة، قالت: «فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي» (مشارق الأنوار للحمزاوي:
113 الفصل الخامس من الباب الثالث. فضل أهل البيت) .
وقال القسطلاني: ان الراجح أنّهم من حرمت عليهم الصدقة، كما نص عليه الشافعي واختاره الجمهور ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلّم للحسن بن عليّ: إنّا آل محمّد لا تحل لنا الصدقة، وقيل المراد بآل محمّد أزواجه وذرّيّته.
ثمّ ذكر بعد ذلك كلام ابن عطيّة فقال: الجمهور على أنّهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين وحجتهم (عَنْكُمُ ويُطَهِّرَكُمْ) بالميم (المواهب اللدنية: 2/ 517. 529 الفصل الثاني من المقصد السابع) .
وقال أبو منصور ابن عساكر الشافعي: بعد ذكر قول أمّ سلمة: «وأهل البيت رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين» هذا حديث صحيح ... والآية نزلت خاصّة في هؤلاء المذكورين (كتاب الأربعين في مناقب أمّهات المؤمنين: 106 ح 36 ذكر ما ورد في فضلهنّ جميعا) .
وقال ابن بلبان (المتوفى 739 هـ) في ترتيب صحيح ابن حبّان: ذكر الخبر المصرّح بأنّ هؤلاء الأربع الذين تقدّم ذكرنا لهم هم أهل بيت المصطفى صلّى الله عليه وسلم، ثمّ ذكر حديث نزول الآية فيهم عن واثلة (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان: 9/ 61 ح 6937 كتاب المناقب، ويأتي الحديث بتمامه) .(8/39)
__________
وقال ابن الصبّاغ من فصوله: أهل البيت على ما ذكر المفسّرون في تفسير آية المباهلة، وعلى ما روي عن أمّ سلمة: هم النبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (مقدّمة المؤلف: 22) .
وقال الحاكم النيشابوري بعد حديث الكساء والصلاة على الآل وأنّه فيهم: إنّما خرّجته ليعلم المستفيد أنّ أهل البيت والآل جميعا هم (المستدرك: 3/ 148 كتاب المعرفة. ذكر مناقب أهل البيت (عليهم السلام)) .
وقال الحافظ الكنجي: الصحيح أنّ أهل البيت عليّ وفاطمة والحسنان (كفاية الطالب:
54 الباب الأول) .
وقال القندوزي في ينابيعه: أكثر المفسّرين على أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين لتذكير ضمير عنكم ويطهّركم (ينابيع المودّة: 1/ 294 ط. اسلامبول 1301 هـ و 352 ط. النجف، باب 59 الفصل الرابع) .
وقال محبّ الدّين الطبري: باب في بيان أنّ فاطمة والحسن والحسين هم أهل البيت المشار إليهم في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وتجليله صلّى الله عليه وسلم إيّاهم بكساء ودعائه لهم (ذخائر العقبى: 21) .
وقال السخاوي في القول البديع في بيان صيغة الصلاة في التشهّد: فالمرجع أنّهم من حرمت عليهم الصدقة، وذكر أنّه اختيار الجمهور ونصّ الشافعي، وأنّ مذهب أحمد أنّهم أهل البيت، وقيل: المراد أزواجه وذرّيّته ... (عن هامش الصواعق المحرقة لعبد الوهاب عبد اللطيف: 146 ط. مصر 1385 هـ) .
وقال القاسمي: ولكن هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين هما روايتان عن أحمد:
أحدهما أنّهنّ لسن من أهل البيت، ويروى هذا عن زيد بن أرقم (تفسير القاسمي المسمّى محاسن التأويل: 13/ 4854 مورد الآية ط. مصر عيسى الحلبي) .
وقال الآلوسي: وأنت تعلم أنّ ظاهر ما صحّ من قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنّي تارك فيكم خليفتين. وفي رواية. ثقلين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» . يقتضي أنّ النّساء المطهّرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثّقلين (تفسير روح المعاني: 12/ 24 مورد الآية) .
وقال الشاعر الحسن بن عليّ بن جابر الهبل في ديوانه: آل النّبيّ هم أتباع ملّته من مؤمني رهطه الأدنون في النّسب هذا مقال ابن إدريس الذي روت ال أعلام عنه فمل عن منهج الكذب وعندنا أنّهم أبناء فاطمة وهو الصحيح بلا شكّ ولا ريب. (جناية الأكوع: 28) وقال(8/40)
__________
الحافظ البدخشاني: وآل العباء عبارة عن هؤلاء لأنّه صحّ عن عائشة وأمّ سلمة وغيرهما بروايات كثيرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم جلّل هؤلاء الأربعة بكساء كان عليه، ثمّ قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
وقال توفيق أبو علم: فالرأي عندي أنّ أهل البيت هم أهل الكساء: عليّ وفاطمة والحسن والحسين ومن خرج من سلالة الزهراء وأبي الحسنين رضي الله عنهم أجمعين (أهل البيت: 92 ذيل الباب الأول، و: 8. المقدّمة) .
وقال في موضع الردّ على عبد العزيز البخاري: أمّا قوله: إنّ آية التطهير المقصود منها الأزواج، فقد أوضحنا بما لا مزيد عليه أنّ المقصود من أهل البيت هم العترة الطاهرة لا الأزواج (أهل البيت: 35 الباب الأول) .
وقال: وأمّا ما يتمسك به الفريق الأعم والأكبر من المفسّرين فيتجلى فيما روي عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي عليّ وحسن وحسين وفاطمة» (أهل البيت: 13. الباب الأول) .
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول في الردّ على من قال أنّها مختصة بالنّساء: ويجاب عن هذا بأنّه قد ورد بالدليل الصحيح أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسنين (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الأصول: 83 البحث الثامن من المقصد الثالث، وأهل البيت لتوفيق أبو علم: 36. الباب الأول) .
وقال أحمد بن محمّد الشامي: وقد أجمعت امّهات كتب السنّة وجميع كتب الشيعة على أنّ المراد بأهل البيت في آية التطهير النبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين لأنّهم الذين فسرّ بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المراد بأهل البيت في الآية، وكلّ قول يخالف قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بعيد أو قريب مضروب به عرض الحائط، وتفسير الرسول صلّى الله عليه وسلم أولى من تفسير غيره إذ لا أحد أعرف منه بمراد ربّه (جناية الأكوع: 125 الفصل السادس) .
وقال الشيخ الشبلنجي: هذا ويشهد للقول بأنّهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين ما وقع منه صلّى الله عليه وسلم حين أراد المباهلة، هو ووفد نجران كما ذكره المفسّرون (نور الأبصار:
122 ط. الهند و 223 ط. قم، الباب الثاني. مناقب الحسن والحسين) .
وقال الشيخ السندي في كتابه (دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب) : وهذا التحقيق في تفسير (أهل البيت) يعيّن المراد منهم في آية التطهير مع نصوص كثيرة من الأحاديث الصحاح المنادية على أنّ المراد منهم الخمسة الطاهرة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ولنا وريقات في تحقيق ذلك مجلّد في دفترنا يجب على طالب الحقّ الرجوع إليه (عنه(8/41)
وقال آخرون: عنى به رسول الله صلّى الله عليه عليا وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.
وأخبرني عقيل بن محمّد الجرجاني عن المعافى بن زكريا البغدادي، عن محمّد بن جرير، حدّثني بن المثنى عن بكر بن يحيى بن ريان الغبري، عن مسدل، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نزلت هذه الآية فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» [12] «1» .
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن أبي عبد الله بن نمير، عن عبد الملك يعني ابن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، حدّثني من سمع أمّ سلمة تذكر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة فدخلت بها عليه، فقال لها: ادعي زوجك وابنيك، قالت: فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة وهو على منامة له على دكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا في الحجرة أصلّي فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثمّ قال: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنّك إلى خير، إنّك إلى خير.
وأخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله الثقفي، عن عمر بن الخطّاب، عن عبد الله بن الفضل، عن الحسن بن علي، عن يزيد بن هارون، عن العوّام بن حوشب، حدّثني ابن عمّ لي
__________
عبقات الأنوار: 1/ 350 ط. قم، و 911 ط. أصبهان. قسم حديث الثّقلين) .
وقال الرفاعي: وقيل عليّ وفاطمة وابناهما، وهو المعتمد الذي عليه جمهور العلماء (المشرع الروي: 1/ 17) .
وقال الدكتور عبّاس العقاد: واختلف المفسرون فيمن هم أهل البيت:
أمّا الفخر الرازي في تفسيره (6/ 783) ، والزمخشري في كشافه، والقرطبي في تفسيره، وفتح القدير للشوكاني، والطبري في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 169) ، وابن حجر العسقلاني في الإصابة (4/ 407) ، والحاكم في المستدرك، والذّهبي في تلخيصه (3/ 146) ، والإمام أحمد في الجزء الثالث صفحة: 259 فقد قالوا جميعا: إنّ أهل البيت هم عليّ والسيدة فاطمة الزهراء والحسن والحسين رضي الله عنهم. وأخذ بذكر الأدلة. (فاطمة الزهراء للعقاد: 70 ط. مصر دار المعارف الطبعة الثالثة.) . [.....]
(1) مجمع الزوائد: 9/ 167.(8/42)
من بني الحرث بن تيم الله يقال له: (مجمع) ، قال: دخلت مع أمّي على عائشة، فسألتها امّي، فقالت: أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت: إنه كان قدرا من الله سبحانه، فسألتها عن علي، فقالت: تسأليني عن أحبّ النّاس كان إلى رسول الله صلّى الله عليه، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول الله، لقد رأيت عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا جمع رسول الله صلّى الله عليه بثوب عليهم ثمّ قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
قالت: فقلت: يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال: تنحّي فإنّك إلى خير.
وأخبرني الحسين بن محمّد عن أبي حبيش المقرئ قال: أخبرني أبو القاسم المقرئ قال:
أخبرني أبو زرعة، حدّثني عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة، أخبرني ابن أبي فديك حدّثني ابن أبي مليكة عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر الطيّار عن أبيه، قال: لمّا نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الرحمة هابطة من السماء قال: من يدعو؟ مرّتين، فقال زينب «1» : أنا يا رسول الله، فقال:
أدعي لي عليّا وفاطمة والحسن والحسين. قال: فجعل حسنا عن يمناه وحسينا عن يسراه وعليّا وفاطمة وجاهه ثمّ غشاهم كساء خيبريّا. ثمّ قال: اللهم لكلّ نبيّ أهل، وهؤلاء أهلي، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ الآية.
فقالت زينب: يا رسول الله ألا أدخل معكم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه: «مكانك فإنّك إلى خير إن شاء الله» [13] «2» .
وأخبرني الحسين بن محمد عن عمر بن الخطّاب عن عبد الله بن الفضل قال: أخبرني أبو بكر بن أبي شيبة عن محمّد بن مصعب عن الأوزاعي، عن عبد الله بن أبي عمّار قال: دخلت على وائلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا عليّا فشتموه فشتمته، فلمّا قاموا قال لي: أشتمت هذا الرجل؟ قلت: قد رأيت القوم قد شتموه فشتمته معهم.
فقال: ألا أخبرك ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه؟ قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة أسألها عن علي فقالت: توجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه فجلست فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه علي والحسن والحسين كلّ واحد منهما آخذ بيده حتى دخل، فأدنى عليا وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسنا وحسينا كلّ واحد منهما على فخذه، ثمّ لفّ عليهم ثوبه أو قال كساءه، ثمّ تلا هذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ثمّ قال:
اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحقّ.
__________
(1) كما هو ملاحظ أن القائلة تارة أم سلمة وأخرى زينب وفي بعض الروايات عائشة وقد فسّر ذلك العلماء- منهم ابن حجر والسمهوري- أن الآية نزلة عدة مرات في بيت فاطمة وأمّ سلمة وزينب وعائشة، وقد فصلت ذلك مع ما يتعلق بالآية في كتاب طهارة آل محمد صلّى الله عليه وسلم.
(2) مسند أحمد: 6/ 304، سنن الترمذي: 5/ 361.(8/43)
وقيل: هم بنو هاشم.
أخبرني ابن فنجويه عن ابن حبيش المقرئ عن محمّد بن عمران قال: حدّثنا أبو كريب قال: أخبرني وكيع عن أبيه عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنشدكم الله في أهل بيتي مرّتين، قلنا لزيد بن أرقم ومن أهل بيته؟ قال: الذين يحرمون الصدقة آل علي وآل عبّاس وآل عقيل وآل جعفر.
وأخبرني أبو عبد الله، قال: أخبرني أبو سعيد أحمد بن علي بن عمر بن حبيش الرازي عن أحمد بن عبد الرحمن الشبلي أبو عبد الرحمن قال: أخبرني أبو كريب عن معاوية بن هشام عن يونس بن أبي إسحاق عن نفيع أبي داود عن أبي الحمراء قال: أقمت بالمدينة تسعة أشهر كيوم واحد، وكان رسول الله صلّى الله عليه يجيء كلّ غداة فيقوم على باب علي وفاطمة فيقول الصلاة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
وأخبرني أبو عبد الله، حدّثني عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن محمّد بن إبراهيم ابن زياد الرازي، عن الحرث بن عبد الله الخازن، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية ابن الربعي، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قسّم الله الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ «1» فأنا خير أصحاب اليمين» .
ثمّ جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا، فذلك قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ «2» فأنا من السابقين [وأنا من خير السابقين] ثمّ جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة فذلك قوله:
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ «3» الآية، وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر.
ثمّ جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [14] «4» .
__________
(1) - سورة الواقعة: 27.
(2) - مجمع الزوائد: 8/ 215، كنز العمال: 2/ 44، الدر المنثور: 5/ 199.
(3) سورة الواقعة: 7- 10.
(4) سورة الحجرات: 13.(8/44)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 34 الى 38]
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن وَالْحِكْمَةِ السنّة، عن قتادة، وقال مقاتل: أحكام القرآن ومواعظه إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً.
وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية. وذلك
أنّ أزواج النبي صلّى الله عليه قلن: يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به، إنّا نخاف أن لا تقبل منّا طاعة، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وقال مقاتل: قالت أمّ سلمة بنت أبي أمية وأنيسة بنت كعب الأنصارية للنبي صلّى الله عليه: ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه؟ نخشى أن لا يكون فيهنّ خير ولا لله فيهنّ حاجة، فنزلت هذه الآية.
روى عثمان بن حكم عن عبد الرحمن بن شيبة قال: سمعت أمّ سلمة زوج النبي (عليه السلام) تقول: قلت للنبي (عليه السلام) : يا رسول الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟
قلت: فلم يرعني ذات يوم ظهرا إلّا بدواة على المنبر وأنا أسرح رأسي فلفقت شعري ثمّ خرجت إلى حجرة من حجر بيتي فجعلت سمعي عند الجريدة، فإذا هو يقول على المنبر: يا أيّها الناس إنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ... إلى قوله: وَأَجْراً عَظِيماً.
وقال مقاتل بن حيان: بلغني أنّ أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فدخلت على نساء رسول الله صلّى الله عليه فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟
قلن: لا، فأتت رسول الله صلّى الله عليه فقالت: يا رسول الله إنّ النساء لفي خيبة وخسار، قال رسول الله صلّى الله عليه: وممّ ذلك؟ قالت: لأنّهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ إلى آخر الآية.
أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبّه عن الفراتي «1» عن إبراهيم بن سعيد، عن عبيد الله عن شيبان، عن الأعمش، عن علي بن الأرقم، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي سعيد وأبي هريرة
__________
(1) هو أبو عمرو أحمد بن أبي الفراتي صاحب التفسير، الملقب بالبستاني.(8/45)
قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه: من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصلّيا جميعا ركعتين كتبا من الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد، عن صالح بن محمد عن سليمان بن عمرو، عن حنظلة التميمي، عن الضحّاك بن مزاحم، عن ابن عبّاس قال: جاء إسرافيل إلى النبيّ صلّى الله عليه فقال: قل يا محمّد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلّا بالله عدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم، من قالها كتبت له ستّ خصال، كتب من الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً، وكان أفضل ممّن ذكره الليل والنهار، وكان له غرس في الجنّة، وتحاتت عنه ذنوبه كما تتحات ورق الشجر اليابسة، ونظر الله إليه، ومن نظر الله إليه لم يعذّبه.
وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً حتى يذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا. قال عطاء بن أبي رباح: من فوّض أمره إلى الله فهو داخل في قوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ومن أقرّ بأنّ الله ربّه، وأنّ محمّدا رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه، فهو داخل في قوله: وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ومن أطاع الله في الفرض والرسول في السنّة فهو داخل في قوله: وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ومن صلّى فلم يعرف من عن يمينه ويساره فهو داخل في قوله: وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزيّة فهو داخل في قوله:
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ومن تصدّق في كلّ اسبوع بدرهم فهو داخل في قوله: وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ ومن صام في كلّ شهر أيّام البيض، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ ومن حفظ فرجه عمّا لا يحلّ فهو داخل في قوله:
وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ومن صلّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله:
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
قوله عزّ وجلّ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الآية.
نزلت في زينب بنت جحش بن رئاب ابن النعمان بن حبرة بن مرّة بن غنم بن دودان الأسدية، وأخيها عبد الله بن جحش، وكانت زينب بنت آمنة بنت عبد المطلب عمّة النبي صلّى الله عليه وسلم، فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشترى زيدا في الجاهلية من عكاظ، وكان من سبي الجاهلية فأعتقه وتبنّاه، فكان زيد عربيّا في الجاهلية مولى في الإسلام.
فلمّا خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب رضيت، [ورأت] أنّه يخطبها على نفسه فلمّا علمت أنّه يخطبها على زيد أبت وأنكرت وقالت: أنا أتمّ نساء قريش وابنة عمّتك، فلم أكن لأفعل يا رسول الله ولا أرضاه لنفسي، وكذلك قال أخوها عبد الله، وكانت زينب بيضاء جميلة، وكانت فيها حدة فأنزل الله عزّ وجلّ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ يعني عبد الله بن جحش وزينب أخته(8/46)
إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ
قرأ أهل الكوفة وأيّوب بالياء واختاره أبو عبيد قال:
للحائل بين التأنيث والفعل، وكذلك روى هاشم عن أهل الشام وقرأ الباقون بالتاء «1» .
لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي الاختيار وقراءة العامّة (الْخِيَرَةُ) بكسر الخاء وفتح الياء، وقرأ ابن السميقع بسكون الياء وهما لغتان مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً
فلمّا نزلت هذه الآية قالت: قد رضيت يا رسول الله، وجعلت أمرها بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكذلك أخوها فأنكحها رسول الله صلّى الله عليه وسلم زيدا، فدخل بها، وساق إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشرة دنانير وستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدّا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أوّل من هاجر من النساء، ف وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم، فقال: قد قبلت، فزوّجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا: إنّما أردنا رسول الله صلّى الله عليه فزوّجنا عبده
فأنزل الله عزّ وجلّ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الآية.
وذلك
أنّ زينب مكثت عند زيد حينا، ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه أتى زيدا ذات يوم لحاجة، فأبصرها قائمة في درع وخمار فأعجبته، وكأنّها وقعت في نفسه فقال: سبحان الله مقلّب القلوب! وانصرف.
فلمّا جاء زيد، ذكرت ذلك له ففطن زيد، كرهت إليه في الوقت، فألقي في نفس زيد كراهتها، فأراد فراقها، فأتى رسول الله صلّى الله عليه فقال: إنّي أريد أن أفارق صاحبتي.
قال: ما لك؟ أرابك منها شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلّا خيرا، ولكنّها تتعظّم عليّ بشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي (عليه السلام) : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، ثمّ إنّ زيدا طلّقها بعد ذلك، فلمّا انقضت عدّتها، قال رسول الله صلّى الله عليه لزيد: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك. أئت زينب فاخطبها عليّ.
قال زيد: فانطلقت، فإذا هي تخمّر عجينها، فلمّا رأيتها، عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكرها فولّيتها ظهري، وقلت: يا زينب أبشري فإنّ رسول الله يخطبك، ففرحت بذلك وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها وأنزل القرآن زَوَّجْناكَها فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللّحم حتّى امتد النهار
، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق وهو زيد بن حارثة أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعني زينب بنت جحش وكانت ابنة عمّة النبي صلّى الله عليه.
__________
(1) تفسير الطبري: 22/ 16 مورد الآية.(8/47)
وَاتَّقِ اللَّهَ فيها وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أن لو فارقها تزوّجتها.
قال ابن عبّاس: حبّها. وقال قتادة: ودّ أنّه لو طلّقها. وَتَخْشَى النَّاسَ قال ابن عبّاس والحسن: تستحيهم، وقيل: وتخاف لائمة الناس أن يقولوا أمر رجلا بطلاق امرأته ثمّ نكحها حين طلّقها. وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ قال عمر وابن مسعود وعائشة: ما نزلت على رسول اله صلّى الله عليه آية هي أشدّ عليه من هذه الآية.
وأخبرني الحسين بن محمد الثقفي عن الفضل بن الفضل الكندي قال: أخبرني أبو العبّاس الفضل بن عقيل النيسابوري، عن محمد بن سليمان قال: أخبرني أبو معاوية عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: لو كتم النبيّ صلّى الله عليه وسلم شيئا ممّا أوحي إليه لكتم هذه الآية وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.
وقد روي عن زين العابدين في هذه الآية ما
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه عن طلحة بن محمد وعبد الله بن أحمد بن يعقوب قالا: قال أبو بكر بن مجاهد عن بن أبي مهران، حدّثني محمد بن يحيى أبي عمر العرني، عن سفيان بن عيينة قال: سمعناه من علي بن زيد بن زيد بن جدعان يبديه ويعيده قال: سألني علي بن الحسين: ما يقول الحسن في قوله عزّ وجلّ: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ (وَتَخْشَى النَّاسَ) وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ؟
فقلت يقول: لما جاء زيد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إنّي أريد أن أطلّق زينب، فأعجبه ذلك، قال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ قال علي بن الحسين: ليس كذلك، كان الله عزّ وجلّ قد أعلمه أنّها ستكون من أزواجه فإنّ زيدا سيطلّقها فلمّا جاء زيد قال: إنّي أريد أن أطلّق زينب، فقال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ. يقول: فلم قلت: أمسك عليك زوجك، وقد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك.
وهذا التأويل مطابق للتلاوة وذلك أنّ الله عزّ وجلّ حكم واعلم إبداء ما أخفى، والله لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ، ثمّ لم نجده عزّ وجلّ أظهر من شأنه غير التزويج بقوله: زَوَّجْناكَها.
فلو كان أضمر رسول الله صلّى الله عليه محبّتها، أو أراد طلاقها، لكان لا يجوز على الله تعالى كتمانه مع وعده أن يظهره، فدلّ ذلك على أنّه (عليه السلام) إنّما عوتب على قوله:
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ مع علمه بأنّها ستكون زوجته، وكتمانه ما أخبره الله سبحانه به حيث استحيا أن يقول لزيد: إنّ التي تحتك ستكون امرأتي والله أعلم.
وهذا قول حسن مرضي قوي، وإن كان القول الآخر لا يقدح في حال النبيّ صلّى الله عليه، لأنّ العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه لمأثم.
قوله: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي حاجته من نكاحها زَوَّجْناكَها فكانت زينب تفخر على نساء النبي (عليه السلام) فتقول: أنا أكرمكنّ وليّا، وأكرمكنّ سفيرا، زوجكن أقاربكن وزوّجني الله عزّ وجلّ.(8/48)
وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العبّاس الدغولي قال: أخبرني أبو أحمد محمد ابن عبد الوهاب ومحمد بن عبيد الله بن قهراذ جميعا، عن جعفر [بن محمّد] بن عون، عن المعلى بن عرفان عن محمّد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة، وقالت زينب:
أنا التي نزل تزوّجي من السماء، فقالت عائشة: أنا التي نزل عذري في كتابه حين حملني ابن المعطل على الراحلة، فقالت زينب: وما قلت حين ركبتها؟ قالت: قلت: حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قالت: كلمة المؤمنين.
وأنبأني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا أخبره عن محمد بن جرير، عن ابن حميد عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب تقول للنبيّ (عليه السلام) : إنّي لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلّ «1» بهن: جدّي وجدّك واحد، وإنّي أنكحنيك الله في السماء، وإنّ السفير لجبرائيل «2» .
قوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ الذين تبنوه إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً بالنكاح وطلقوهن أو ماتوا عنهن. قال الحسن: كانت العرب تظنّ أنّ حرمة المتبنى مشبّكة كاشتباك الرحم، فميّز الله تعالى بين المتبنى وبين الرحم فأراهم أنّ حلائل الأدعياء غير محرّمة عليهم لذلك قال: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ «3» فقيّد وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا كائنا لا محالة، وقد قضى في زينب أن يتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه.
قوله: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ أحل الله لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي كسنّة الله، نصب بنزع حرف الخافض، وقيل: فعل سنّة الله، وقيل: على الإغراء، أي ابتغوا سنّة الله في الأنبياء الماضين، أي لا يؤاخذهم بما أحلّ لهم.
وقال الكلبي ومقاتل: أراد داود (عليه السلام) ، حين جمع الله بينه وبين المرأة التي هواها، فكذلك جمع بين محمد وزينب حين هواها، وقيل: الإشارة بالسنة إلى النكاح، وإنّه من سنّة الأنبياء وقيل: إلى كثرة الأزواج مثل قصة داود وسليمان (عليه السلام) .
وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ماضيا كائنا. وقال ابن عبّاس: وكان من قدره أن تلد تلك المرأة التي ابتلى بها داود ابنا مثل سليمان وتهلك من بعده.
__________
(1) دلّ يدل: تغنج وتلوي، جرأة مع تلطف.
(2) تفسير ابن كثير: 3/ 500 مورد الآية، وتفسير الطبري: 22/ 19.
(3) سورة النساء: 23.(8/49)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 39 الى 55]
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ محلّ الذين خفض على النعت على الَّذِينَ خَلَوْا ...
وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحلّ الله لهم وفرض عليهم وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً حافظا لأعمال خلقه ومحاسبتهم عليها، ثمّ نزلت في قول الناس إنّ محمّدا تزوّج امرأة ابنه ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ الذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إيّاها، يعني زيدا، وإنّما كان أبا القاسم والطيب والمطهر وإبراهيم.
وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ أي آخرهم ختم الله به النبوّة فلا نبيّ بعده، ولو كان لمحمّد ابن لكان نبيّا.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان عن مكي بن عبدان، عن عبد الرحمن عن سفيان، عن(8/50)
الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبيّ «1» .
واختلف القرّاء في قوله خاتَمَ النَّبِيِّينَ فقرأ الحسن وعاصم بفتح التاء على الاسم، أي آخر النّبيين. كقوله: خِتامُهُ مِسْكٌ، أي آخره. وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل، أي أنّه خاتم النبيّين بالنبوّة.
وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً قال ابن عبّاس: لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلّا جعل لها حدّا معلوما، ثمّ عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإنّه لم يجعل له حدّا ينتهى إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلّا مغلوبا على عقله، وأمرهم بذكره في الأحوال كلّها فقال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ «2» وقال: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً بالليل والنهار وفي البر والبحر والسفر والحضر والغنى والفقر والصحّة والقسم والسرّ والجهر وعلى كلّ حال. وقال مجاهد: الذكر الكثير أن لا تنساه أبدا.
أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبّه عن الفراتي «3» ، عن عمرو بن عثمان، عن أبي، عن أبي لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أكثروا ذكر الله حتّى يقولوا مجنون
وَسَبِّحُوهُ وصلّوا له بُكْرَةً يعني صلاة الصبح وَأَصِيلًا يعني صلاة العصر عن قتادة.
وقال ابن عبّاس: يعني صلاة العصر والعشاءين. وقال مجاهد: يعني قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، فعبّر بالتسبيح عن أخواته، فهذه كلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث.
قوله: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ بالرحمة. قال السدي: قالت بنو إسرائيل لموسى:
أيصلّي ربّنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه أن قل لهم: إنّي أصلّي، وإنّ صلاتي رحمتي، وقد وسعت رحمتي كلّ شيء.
وقيل: (يُصَلِّي) يشيع لكم الذكر الجميل في عباده. وقال الأخفش: يبارك عليكم وَمَلائِكَتُهُ بالاستغفار والدعاء لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً.
__________
(1) مسند الحميدي: 1/ 254، السنن الكبرى للنسائي: 6/ 489 بتفاوت.
(2) سورة النساء: 103. [.....]
(3) صاحب التفسير أبو عمرو.(8/51)
قال أنس بن مالك: لمّا نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ الآية، قال أبو بكر:
ما خصّك الله بشرف إلّا وقد أشركتنا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
تَحِيَّتُهُمْ أي تحية المؤمنين يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ أي يرون الله عزّ وجلّ سَلامٌ أي يسلّم عليهم ويسلّمهم من جميع الآفات والبليّات.
أخبرني ابن فنجويه، عن ابن حيان، عن ابن مروان عن أبي، عن إبراهيم بن عيسى، عن علي بن علي، حدّثني أبو حمزة الثمالي في قوله عزّ وجلّ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قال:
تسلّم عليهم الملائكة يوم القيامة وتبشّرهم حين يخرجون من قبورهم. وقيل: هو عند الموت والكناية مردودة إلى ملك الموت كناية عن غير مذكور.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين، عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن إسحاق بن محمد بن الفضل الزيّات، عن محمد بن سعيد بن غالب، عن حمّاد بن خالد الخيّاط، عن عبد الله بن وافد أبو رجاء، عن محمد بن مالك، عن البراء بن عازب في قوله عزّ وجلّ:
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قال: يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلّا سلّم عليه.
وأخبرني الحسين بن محمد عن ابن حبيش المقرئ، حدّثني عبد الملك بن أحمد بن إدريس القطان بالرقة، عن عمر بن مدرك القاص قال: أخبرني أبو الأخرص محمد بن حيان البغوي، عن حمّاد بن خالد الخيّاط، عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشم، عن أبي الأخوص، عن ابن مسعود قال: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربّك يقرئك السلام.
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً وهو الجنّة.
قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً يستضيء به أهل الدين.
قال جابر بن عبد الله: لمّا نزلت إِنَّا فَتَحْنا «1» الآيات، قال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله هذه العارفة، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ اصبر عليهم ولا تكافئهم.
نسختها آية القتال وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ تجامعوهن فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها تحصونها عليهن بالأقراء والأشهر فَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهن ما يستمتعن به. قال ابن عبّاس: هذا إذا لم يكن سمّى لها صداقا، فإذا فرض لها صداقا فلها نصفه، وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ «2» وقيل: هو أمر ندب،
__________
(1) سورة الفتح: 1.
(2) سورة البقرة: 237.(8/52)
فالمتعة مستحبّة ونصف المهر واجب وَسَرِّحُوهُنَّ وخلّوا سبيلهن سَراحاً جَمِيلًا بالمعروف، وفي الآية دليل على أنّ الطلاق قبل النكاح غير واقع خصّ أو عمّ خلافا لأهل الكوفة.
أخبرني الحسين بن محمّد بن فنجويه، عن ابن شنبه، عن عبد الله بن أحمد بن منصور الكسائي، عن عبد السلام بن عاصم الرازي، قال: أخبرني أبو زهير، عن الأحلج، عن حبيب بن أبي ثابت قال: كنت قاعدا عند علي بن الحسين، فجاءه رجل فقال: إنّي قلت: يوم أتزوّج فلانة بنت فلان فهي طالق. قال: اذهب فتزوّجها، فإنّ الله عزّ وجلّ بدأ بالنكاح قبل الطلاق، وقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ولم يقل إذا طلقتموهن ثمّ نكحتموهن ولم يره شيئا.
والدليل عليه ما
أخبرنا الحسين بن محمّد بن الحسين، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: أخبرني أبو بكر محمد بن إبراهيم المنذر النيسابوري بمكّة، عن الربيع بن سليمان، عن أيّوب بن سويد، عن ابن أبي ذيب عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق قبل نكاح» [15] «1» .
قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ مهورهن وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ مثل صفية وجويرية ومارية وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ من نساء عبد المطلب وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ من نساء بني زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فمن لم تهاجر منهنّ فليس له نكاحها. وقرأ ابن مسعود: واللّاتي هاجرن، بواو.
أنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير قال: أخبرني أبو كريب، عن عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح، عن أمّ هاني قالت: خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثمّ أنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ... إلى قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ قالت: فلم أحلّ له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء.
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ بغير مهر. وقرأ العامة إِنْ بكسر الألف على الجزاء والاستقبال، وقرأ الحسن بفتح الألف على المضي والوجوب، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها فله ذلك خالِصَةً خاصّة لك، مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير شهود ولا وليّ ولا مهر إلّا النبيّ (عليه السلام) ، وهذا من خصائصه في النكاح، كالتخيير والعدد في النساء، وما
روي انّه أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها
ولو تزوّجها بلفظ الهبة لم ينعقد النكاح، هذا قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء ومالك والشافعي وربيعة وأبي عبيد وأكثر الفقهاء.
وقال النخعي وأهل الكوفة: إذا وهبت نفسها منه وقبلها بشهود ومهر فإنّ النكاح ينعقد
__________
(1) سنن ابن ماجة: 1/ 660، مستدرك الحاكم: 2/ 205.(8/53)
والمهر يلزم به، فأجازوا النكاح بلفظ الهبة. وقالوا: كان اختصاص النبي (عليه السلام) في ترك المهر. والدليل على ما ذهب الشافعي إليه: إنّ الله تعالى سمّى النكاح باسمين التزويج والنكاح، فلا ينعقد بغيرهما.
واختلف العلماء في التي وهبت نفسها لرسول الله، وهل كانت امرأة عند رسول الله صلّى الله عليه كذلك؟ فقال ابن عبّاس ومجاهد: لم يكن عند النبي صلّى الله عليه امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده (عليه السلام) امرأة إلّا بعقد النكاح أو ملك اليمين، وإنّما قال الله تعالى إِنْ وَهَبَتْ على طريق الشرط والجزاء.
وقال الآخرون: بل كانت عنده موهوبة، واختلفوا فيها. فقال قتادة: هي ميمونة بنت الحرث. قال الشعبي: زينب بنت خزيمة أمّ المساكين امرأة من الأنصار.
قال علي بن الحسين والضحّاك ومقاتل: أمّ شريك بنت جابر من بني أسد.
قال عروة بن الزبير: خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم.
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ يعني أوجبنا على المؤمنين فِي أَزْواجِهِمْ قال مجاهد:
يعني أربعا لا يتجاوزونها.
قتادة: هو أن لا نكاح إلّا بوليّ وشاهدين وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ يعني الولائد والإماء لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ في نكاحهن وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تؤخّر وَتُؤْوِي وتضمّ إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ واختلف المفسّرون في معنى الآية،
فقال أبو رزين وابن زيد: نزلت هذه الآية حين غارت بعض أمّهات المؤمنين على النبيّ صلّى الله عليه وسلم وطلب بعضهنّ زيادة النفقة، فهجرهنّ رسول الله صلّى الله عليه شهرا حتى نزلت آية التخيير، وأمره الله عزّ وجلّ أن يخيّرهنّ بين الدنيا والآخرة، وأن يخلّي سبيل من اختارت الدّنيا، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنّهنّ أمّهات المؤمنين ولا ينكحن أبدا، وعلى أنّه يؤوي إليه من يشاء ويرجي منهنّ من يشاء فيرضين به، قسم لهنّ أو لم يقسم، أو قسم لبعضهنّ ولم يقسم لبعضهنّ، أو فضّل بعضهنّ على بعض في النفقة والقسمة والعشرة أو ساوى بينهنّ، ويكون الأمر في ذلك كلّه إليه، يفعل ما يشاء، وهذا من خصائصه (عليه السلام) .
فرضين بذلك كلّه واخترنه على هذا الشرط، وكان رسول الله صلّى الله عليه مع ما جعل الله له من ذلك ساوى بينهنّ في القسم إلّا امرأة منهنّ أراد طلاقها فرضيت بترك القسمة لها وجعل يومها لعائشة وهي سودة بنت زمعة.
وروى منصور عن أبي رزين قال: لمّا نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلّقن فقلن: يا نبيّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، فكان ممّن أرجي منهن سودة وجويرية وصفيّة وميمونة وأمّ حبيبة، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء، وكانت ممّن(8/54)
آوى إليه عائشة وحفصة وأمّ سلمة وزينب رحمة الله عليهنّ، كان يقسم بينهن سواء لا يفضّل بعضهنّ على بعض، فأرجأ خمسا وآوى أربعا.
وقال مجاهد: يعني تعزل من تشاء منهنّ بغير طلاق، وترد إليك من تشاء منهنّ بعد عزلك إيّاها بلا تجديد مهر وعقد.
وقال ابن عبّاس: تطلّق من تشاء منهنّ وتمسك من تشاء.
وقال الحسن: تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء امّتك.
قال: وكان النبي (عليه السلام) إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها حتى يتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو يتركها.
وقيل: وتقبل من تشاء من المؤمنات اللّاتي يهبن أنفسهن لك، فتؤويها إليك، وتترك من تشاء فلا تقبلها.
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها كانت تعيّر النساء اللّاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وقالت: أما تستحي امرأة أن تهب أو تعرض نفسها على رجل بغير صداق، فنزلت هذه الآية، قالت عائشة: فقلت لرسول الله إنّ ربّك ليسارع لك في هواك.
وَمَنِ ابْتَغَيْتَ أي طلبت وأردت إصابته مِمَّنْ عَزَلْتَ فأصبتها وجامعتها بعد العزل فَلا جُناحَ عَلَيْكَ فأباح الله تعالى له بذلك ترك القسم لهنّ حتّى إنّه ليؤخّر من شاء منهنّ في وقت نوبتها، فلا يطأها ويطأ من شاء منهنّ في غير نوبتها، فله أن يردّ إلى فراشه من عزلها، فلا حرج عليه فيما فعل تفضيلا له على سائر الرّجال وتخفيفا عنه. وقال ابن عبّاس: يقول: إنّ من فات من نسائك اللّاتي عندك أجرا وخلّيت سبيلها، فقد أحللت لك، فلا يصلح لك أن تزداد على عدد نسائك اللّاتي عندك.
ذلِكَ الذي ذكرت أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ أطيب لأنفسهنّ وأقلّ لحزنهنّ إذا علمن أنّ ذلك من الله وبأمره، وأنّ الرخصة جاءت من قبله وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ من التفضيل والإيثار والتسوية كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من أمر النساء والميل إلى بعضهنّ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً.
قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ بالتاء أهل البصرة، وغيرهم بالياء النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد هؤلاء النساء التسع اللّاتي خيّرتهنّ فاخترنك لما اخترن اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قصره عليهنّ، وهذا قول ابن عبّاس وقتادة. وقال عكرمة والضحاك: لا يحلّ لك من النساء إلّا اللّاتي أحللناها لك وهو قوله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ... «1» ثمّ قال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ التي أحللنا لك بالصفة التي تقدّم ذكرها.
__________
(1) سورة الأحزاب: 50.(8/55)
روى داود بن أبي هند عن محمّد بن أبي موسى عن زياد رجل من الأنصار قال: قلت لأبيّ بن كعب: أرأيت لو مات نساء النبي صلّى الله عليه أكان يحلّ له أن يتزوّج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك وما يحرّم ذلك عليه؟ قلت: قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال: إنّما أحلّ الله له ضربا من النساء فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ... ثمّ قال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ.
وقال أبو صالح: أمر أن لا يتزوّج أعرابية ولا عربية ويتزوّج بعد من نساء قومه من بنات العمّ والعمّة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: معناه لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ من غير المسلمات فأمّا اليهوديّات والنصرانيّات والمشركات فحرام عليك، ولا ينبغي أن يكنّ من أمّهات المؤمنين.
وقال أبو رزين: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ يعني الإماء بالنكاح. وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ قال مجاهد وأبو رزين: يعني ولا أن تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من اليهود والنصارى والمشركين وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من السبايا والإماء الكوافر.
وقال الضحّاك: يعني ولا تبدّل بأزواجك اللّاتي هنّ في حبالك أزواجا غيرهنّ، بأن تطلّقهنّ وتنكح غيرهن، فحرّم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلاق النساء اللّواتي كنّ عنده، إذ جعلهنّ أمّهات المؤمنين، وحرّمهن على غيره حين اخترنه، فأمّا نكاح غيرهنّ فلم يمنع منه، بل أحلّ له ذلك إن شاء. يدلّ عليه
ما أخبرناه عبد الله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن الحسين، عن محمّد بن يحيى قال: أخبرني أبو عاصم عن جريح عن عطاء عن عائشة قالت: ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء.
وقال ابن زيد: كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم يعطي هذا امرأته هذا ويأخذ امرأة ذاك فقال الله: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ يعني تبادل بأزواجك غيرك أزواجه، بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته إلّا ما ملكت يمينك لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت فأمّا الحرائر فلا.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الاصفهاني، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، عن أحمد بن نجدة، عن الحماني، عن عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأبادلك بامرأتي، تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ... قال: فدخل عيينة بن حصين على النبي صلّى الله عليه وعنده عائشة فدخل بغير إذن، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه: «يا عيينة فأين الاستئذان؟» قال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثمّ قال: من(8/56)
هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هذه عائشة أمّ المؤمنين» . قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق، قال رسول الله صلّى الله عليه: «إنّ الله عزّ وجلّ قد حرّم ذلك» ، فلمّا خرج، قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: «هذا أحمق مطاع وإنّه على ما ترين لسيّد قومه» [16] .
قال ابن عبّاس في قوله: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، وفيه دليل على جواز النظر إلى من يريد أن يتزوّج بها، وقد جاءت الأخبار بإجازة ذلك.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمد بن جعفر المطيري، عن عبد الرحمن بن محمد بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان عن عاصم الأحول، عن بكير بن عبد الله المزني أنّ المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوّج بامرأة، فقال النبيّ (عليه السلام) : «فانظر إليها فإنّه أجدر أن يودم بينكما» [17] «1» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمد بن جعفر، عن علي بن حرب قال: أخبرني أبو معاوية، عن الحجّاج بن أرطأة، عن سهل بن محمد بن أبي خيثمة، عن عمّه سليمان بن أبي خيثمة قال: رأيت محمد بن سلمة يطارد نبيتة بنت الضحّاك على إجار من أياجير المدينة قلت:
أتفعل هذا؟ قال: نعم، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه يقول: «إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها» [18] .
وأخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى، عن الحميدي عن سفيان، عن يزيد ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أنّ رجلا أراد أن يتزوّج امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلّى الله عليه: «أنظر إليها فإنّ في أعين نساء الأنصار شيئا» [19] «2» .
قال الحميدي:
يعني الصّغر. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً حفيظا.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... قال أكثر المفسّرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب.
قال أنس بن مالك: أنا أعلم الناس بآية الحجاب، ولقد سألني عنها أبيّ بن كعب لمّا بنى رسول الله صلّى الله عليه بزينب بنت جحش أولم عليها بتمر وسويق وذبح شاة، وبعثت إليه أمّي أمّ سليم بحيس في تور من حجارة، فأمرني النبي صلّى الله عليه وسلم أن أدعو أصحابه إلى الطعام، فدعوتهم فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون، ثمّ يجيء القوم فيأكلون ويخرجون.
__________
(1) سنن الدارمي: 2/ 134.
(2) سنن النسائي: 6/ 77، مسند أحمد: 2/ 1286.(8/57)
فقلت: يا نبيّ الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم فرفعوا وخرج القوم، وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت، فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقمت معه لكي يخرجوا، فمشى رسول الله صلّى الله عليه منطلقا نحو حجرة عائشة فقال: «السلام عليكم أهل البيت» [20] ، فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟
ثمّ رجع فأتى حجر نسائه فسلّم عليهنّ، فدعون له ربّه، ورجع إلى بيت زينب، فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون في البيت، وكان النبيّ (عليه السلام) شديد الحياء، فرجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلمّا رأوا النبي صلّى الله عليه وسلم ولّى عن بيته خرجوا، فرجع رسول الله (عليه السلام) إلى بيته وضرب بيني وبينه سترا، ونزلت هذه الآية.
وقال قتادة ومقاتل: كان هذا في بيت أمّ سلمة، دخلت عليه جماعة في بيتها فأكلوا، ثمّ أطالوا الحديث، فتأذّى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاستحيى منهم أن يأمرهم بالخروج، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلّا أن تدعوا إِلى طَعامٍ فيؤذن لكم فتأكلوه غَيْرَ ناظِرِينَ منظرين إِناهُ إدراكه ووقت نضجه
، وفيه لغتان أنى وإنى بكسر الألف وفتحها، مثل ألّى وإلّى ومعا ومعا، والجمع إناء، مثل آلاء وأمعاء، والفعل منه أنى يأنى إنى بكسر الألف مقصور، وآناء بفتح الألف ممدود. قال الحطيئة:
وأنيت العشا إلى سهيل ... أو الشعرى فطال بي الأنا «1»
وقال الشيباني:
تمخضت المنون له بيوم ... أنى ولكل حاملة تمام «2»
وفيه لغة أخرى: آن يئين أينا.
قال ابن عبّاس: نزلت في ناس من المؤمنين كان يتحيّنون طعام رسول الله صلّى الله عليه، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، ثمّ يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتأذّى بهم، فنزلت هذه الآية.
وغَيْرَ نصب على الحلال وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا فتفرّقوا واخرجوا من منزله وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ طالبين الأنس بحديث، ومحله خفض مردود على قوله: غَيْرَ ناظِرِينَ ولا غير مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يترك تأديبكم وحملكم على الحقّ ولا يمنعه ذلك منه.
حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظا قال: أخبرني أبو موسى عمران بن
__________
(1) كتاب العين: 8/ 402، والصحاح: 6/ 2273.
(2) إصلاح المنطق: 133، الصحاح: 3/ 1105.(8/58)
موسى بن الحصين قال: أخبرني أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال: أخبرني أبو عمرو عثمان بن خرزاد «1» الأنطاكي، عن عمرو بن مرزوق، عن جويرية بن أسماء قال: قرئ بين يدي إسماعيل ابن أبي حكيم هذه الآية فقال: هذا [أدب] أدّب الله به الثقلاء «2» .
وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن محمد يقول:
سمعت الغلابي يقول: سمعت ابن عائشة يقول: حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا.
قوله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمّد بن يعقوب، عن محمد بن سنان الفزار، عن سهيل بن حاتم، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن أنس بن مالك قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وكان يمرّ على نسائه، فأتى امرأة عرس بها حديثا فإذا عندهم قوم، فانطلق النبي صلّى الله عليه أيضا فاحتبس فقضى حاجته، ثمّ جاء وقد ذهبوا، فدخل وأرخى بينه وبيني سترا قال: فحدّثت أبا طلحة فقال: إن كان كما تقول لينزلنّ شيء في هذا، فنزلت آية الحجاب.
وأنبأني عبد الله بن حامد الوزان أنّ الحسين بن يعقوب حدّثه عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن حميد عن أنس قال: قال عمر: يا رسول الله، تدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب. فنزلت آية الحجاب.
وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد الشرقي، عن محمد بن يحيى عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي، عن صالح بن شهاب، عن عروة بن الزبير: أنّ عائشة قالت: كان عمر بن الخطّاب يقول لرسول الله صلّى الله عليه: احجب نساءك، فلم يفعل، وكان أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم يخرجن ليلا إلى ليل قبل المناصع وهو صعيد أقبح، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة فرآها عمر وهو في المجلس فقال: قد عرفتك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب.
وأخبرنا عبد الله بن حامد إجازة، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن علي بن عفان قال: أخبرني أبو أسامة، عن مخالد بن سعيد، عن عامر قال: مرّ عمر على نساء النبي صلّى الله عليه وهو مع النساء في المسجد فقال لهنّ: احتجبن، فإنّ لكنّ على النساء فضلا، كما انّ لزوجكنّ على الرجال الفضل، فلم يلبثوا إلّا يسيرا حتى أنزل الله آية الحجاب.
وروى عطاء بن أبي السائب عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: أمر عمر بن الخطاب نساء
__________
(1) هكذا في الأصل ولعلّه: الوزان.
(2) تفسير القرطبي: 14/ 224.(8/59)
النبي صلّى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب: يا بن الخطّاب إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزل الله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ.
وقيل في سبب نزول الحجاب ما
أخبرنا أحمد بن محمد أنّ المعافى حدّثه عن محمّد بن جرير قال: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، عن هشام، عن ليث، عن مجاهد: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة وكانت معهم، فكره النبي ذلك، فنزلت آية الحجاب.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي المزكى قال: أخبرني أبو العبّاس أحمد بن محمد بن الحسين الماسرخسي، عن شيبان بن فروخ الابلي، عن جرير بن حازم، عن ثابت البنائي، عن أنس بن مالك قال: كنت أدخل على رسول الله صلّى الله عليه بغير إذن، فجئت يوما لأدخل فقال: مكانك يا بني، قد حدث بعدك أن لا يدخل علينا إلّا بإذن.
قوله: وَما كانَ لَكُمْ يعني وما ينبغي وما يصلح لكم أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً نزلت في رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لئن قبض رسول الله صلّى الله عليه لأنكحنّ عائشة بنت أبي بكر.
أنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير، عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، عن داود عن عامر أنّ النبي صلّى الله عليه مات وقد ملك قتيلة بنت الأشعث بن قيس ولم يجامعها، فتزوّجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك، فشقّ على أبي بكر مشقّة شديدة، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله إنّها ليست من نسائه، إنّها لم يخيّرها رسول الله صلّى الله عليه ولم يحجبها، وقد برّأها منه بالردّة التي ارتدّت مع قومها قال: فاطمأنّ أبو بكر وسكن.
وروى معمر عن الزهري: أنّ العالية بنت طيبان التي طلّقها النبيّ صلّى الله عليه تزوّجت رجلا وولدت له، وذلك قبل أن يحرّم على الناس أزواج النبي (عليه السلام) .
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ....
قال ابن عبّاس: لمّا نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن أيضا نكلّمهنّ من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ....
وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ في ترك الاحتجاب من هؤلاء وأن يروهن.
وقال مجاهد: لا جناح عليهن في وضع جلابيبهن عندهم.
وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً.(8/60)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 68]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60)
مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ قراءة العامة بنصب التاء وقرأ ابن عبّاس: وَمَلائِكَتُهُ بالرفع عطفا على محلّ قوله: اللَّهَ قبل دخول إنّ، نظيره قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى «1» وقد مضت هذه المثلة. يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ أي يثنون ويترحّمون عليه ويدعون له. وقال ابن عبّاس: يتبرّكون. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ترحّموا عليه وادعو له وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً وحيّوه بتحية الإسلام.
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن المطري، عن علي بن حرب، عن ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل العدل، عن إسماعيل بن محمد الصفّار، عن الحسين بن عروة، عن هشيم بن بشير، عن يزيد بن أبي زياد، وحدّثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدّثني كعب بن عجرة قال: لمّا نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قل: اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد» [21] «2» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان، عن مكي بن عبدان، عن عمّار بن رجاء عن ابن عامر، عن عبد الله بن جعفر، عن يزيد بن مهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري قال:
قلنا: يا رسول الله هذا السلام قد علمنا، فكيف الصلاة عليك؟
__________
(1) سورة المائدة: 69.
(2) مسند أحمد: 1/ 162، سنن الدارمي: 1/ 309.(8/61)
قال: «قولوا اللهم صلّ على محمّد عبدك ورسولك كما صلّيت على إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم» [22] «1» .
وأخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف الفقيه، عن مكي بن عبدان عن محمد بن يحيى قال:
فيما قرأت على ابن نافع، وحدّثني مطرف، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن عمرو بن حرم، عن أبيه، عن عمرو بن سليمان الزرقي، أخبرني أبو حميد الساعدي أنّهم قالوا:
يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قولوا: اللهم صلّ على محمّد وأزواجه وذرّيته كما صلّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمّد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد» [23] «2» .
وبإسناده عن مالك عن نعيم، عن عبد الله بن المجمر، عن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري، عن أبي مسعود الأنصاري أنّه قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه ونحن جلوس في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن [سعد] «3» : أمرنا الله أن نصلّي عليك يا رسول الله، فكيف نصلّي عليك؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه حتّى تمنّينا أنّه لم يسأله، ثمّ قال: «قولوا اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم» [24] «4» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد بقراءتي عليه قال: أخبرنا محمّد بن خالد بن الحسن، عن داود ابن سليمان، عن عبد بن حميد قال: أخبرني أبو نعيم عن المسعودي، عن عون، عن أبي فاختة، عن الأسود قال: قال عبد الله: إذا صلّيتم على النبي صلّى الله عليه فأحسنوا الصلاة عليه، فإنّكم لا تدرون لعلّ ذلك يعرض عليه، قالوا: فعلّمنا، قال: قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيّد المرسلين وإمام المتّقين وخاتم النبيّين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأوّلون والآخرون، اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد.
أخبرنا عبد الخالق بن علي قال: أخبرني أبو بكر بن جنب عن يحيى بن أبي طالب عن يزيد بن هارون قال: أخبرني أبو معاوية، عن الحكم بن عبد الله بن الخطّاب، عن أمّ الحسن،
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 47، وصحيح البخاري: 7/ 157. [.....]
(2) مسند أحمد: 5/ 424.
(3) في نسخة أصفهان: عبد الله.
(4) مسند أحمد: 5/ 274، وسنن الدارمي: 1/ 310.(8/62)
عن أبيها قالوا: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ فقال النبي (عليه السلام) : هذا من العلم المكنون، ولو أنّكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به، إنّ الله تعالى وكّل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان: غفر الله لك، وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان، لا غفر الله لك، وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ يعني بمعصيتهم إيّاه ومخالفتهم أمره. وقال عكرمة:
هم أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق مثل خلق الله عزّ وجلّ،
وفي بعض الأخبار يقول الله جلّ جلاله: ومن أظلم ممّن أراد أن يخلق مثل خلقي فليخلق حبّة أو ذرّة
، وقال (عليه السلام) : لعن الله المصوّرين «1» .
وقال ابن عبّاس: هم اليهود والنصارى والمشركون، فأمّا اليهود فقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ وقالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ. وقالت النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وثالِثُ ثَلاثَةٍ. وقال المشركون: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه.
قال قتادة: في هذه الآية ما زال أناس من جهلة بني آدم حتى تعاطوا أذى ربّهم، وقيل:
معنى يُؤْذُونَ اللَّهَ يلحدون في أسمائه وصفاته، وقال أهل المعاني: يؤذون أولياء الله مثل قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2»
وقول رسول الله صلّى الله عليه حين قفل من تبوك فبدا له أحد: هذا جبل يحبّنا ونحبّه
، فحذف الأهل، فأراد الله تعالى المبالغة في النهي عن أذى أوليائه فجعل أذاهم أذاه.
وَرَسُولَهُ قال ابن عبّاس: حين شج في وجهه وكسرت رباعيته وقيل له: شاعِرٌ وساحِرٌ ومُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ.
وروى العوفي عنه: أنّها نزلت في الذين طعنوا على النبي (عليه السلام) في نكاحه صفيّة بنت حيي بن أخطب
، وقيل: بترك سنّته ومخالفة شريعته.
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا من غير أن عملوا ما أوجب الله أذاهم فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً.
قال الحسن وقتادة: إيّاكم وأذى المؤمن فإنّه حبيب ربّه، أحبّ الله فأحبّه، وغضب لربّه فغضب الله له، وإنّ الله يحوطه ويؤذي من آذاه. وقال مجاهد: يعني يقفونهم ويرمونهم بغير ما عملوا.
وقال مقاتل: نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أنّ ناسا من المنافقين كانوا يؤذونه ويسمعونه.
وقيل: في شأن عائشة.
وقال الضحّاك والسدي والكلبي: نزلت في الزّناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتّبعون النساء إذا تبرّزن بالليل لقضاء حوائجهنّ، فيرون
__________
(1) صحيح البخاري: 6/ 188، والدر المنثور 1/ 367.
(2) سورة يوسف: 82.(8/63)
المرأة فيدنون منها، فيغمزونها، فإن سكتت اتّبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلّا الإماء، ولم يكن يومئذ تعرف الحرّة من الأمة ولأنّ زيّهن كان واحدا، إنّما يخرجن في درع واحد وخمار الحرّة والأمة، فشكون ذلك إلى أزواجهنّ فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه. فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... ثمّ نهى الحرائر أن يتشبهنّ بالإماء، فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أي يرخين أرديتهن وملاحفهن فيتقنّعن بها، ويغطّين وجوههن ورؤوسهن ليعلم أنّهنّ حرائر فلا يتعرّض لهنّ ولا يؤذين.
قوله: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف منهن من ترك السنن رَحِيماً بهنّ إذ سترهنّ وصانهنّ. قال ابن عبّاس وعبيدة: أمر الله النساء المؤمنات أن يغطّين رؤوسهنّ ووجوههنّ بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. قال أنس: مرّت جارية بعمر بن الخطّاب متقنّعة فعلاها بالدرّة وقال: يا لكاع أتشبهين بالحرائر؟ ألقي القناع.
قوله عزّ وجلّ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فجور، يعني الزناة وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ بالكذب والباطل، وذلك أنّ ناسا منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلّى الله عليه يوقعون في الناس أنّهم قتلوا وهزموا، وكانوا يقولون: قد أتاكم العدوّ ونحوها.
وقال الكلبي: كانوا يحبّون أن يفشوا الأخبار، وأَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ...
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ لنولعنّك ونحرشنّك بهم، ونسلطنّك عليهم. ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا أي لا يساكنونك في المدينة إلّا قليلا حتّى يخرجوا منها مَلْعُونِينَ مطرودين، نصب على الحال، وقيل: على الذم أَيْنَما ثُقِفُوا أصيبوا ووجدوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا. قال قتادة:
ذكر لنا أنّ المنافقين أرادوا أن يظهروا لما في قلوبهم من النفاق، فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه.
وأنبأني عبد الله بن حامد الأصفهاني عن عبد الله بن جعفر النساوي، عن محمد بن أيّوب عن عبد الله بن يونس، عن عمرو بن شهر، عن أبان، عن أنس قال: كان بين رجل وبين أبي بكر شيء، فنال الرجل من أبي بكر، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتّى غمر الدّم وجهه، فقال: «ويحكم، ذروا أصحابي وأصهاري، احفظوني فيهم لأنّ عليهم حافظا من الله عزّ وجلّ، ومن لم يحفظني فيهم تخلّى الله منه، ومن تخلّى الله منه يوشك أن يأخذه» [25] .
مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا.
سُنَّةَ اللَّهِ أي كسنّة الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً. إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ(8/64)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
قوله: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ظهرا لبطن حين يسحبون عليها. وقراءة العامّة بضمّ التاء وفتح اللام على المجهول. وروي عن أبي جعفر بفتح التاء واللام على معنى يتقلّب. وقرأ عيسى بن عمر (نقلب) بضم النون وكسر اللّام. وُجُوهُهُمْ نصبا.
يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا في الدنيا وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا قادتنا ورؤسانا في الشرك والضلالة. وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حاتم (ساداتنا) جمع بالألف وكسر التاء على جمع الجمع فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي مثلي عذابنا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً قرأ يحيى بن وثاب وعاصم كَبِيراً بالباء وهي قراءة أصحاب عبد الله.
وقرأ الباقون بالثاء، وهي اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، ثمّ قالا: إنّا اخترنا الثاء لقوله: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ «1» وقوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «2» فهذا يشهد للكثرة.
وأخبرني أبو الحسين عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال: سمعت أبا الحسن عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان البغدادي من حفظه إملاء يقول: سمعت محمد بن الحسن ابن قتيبة العسقلاني بعسقلان ورملة أيضا يقول: سمعت محمد بن أبي السري يقول: رأيت في المنام كأنّي في مسجد عسقلان وكان رجلا يناظرني وهو يقول: وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً وأنا أقول كثيرا فإذا النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان في وسط المسجد منارة لها باب، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يقصدها فقلت:
هذا النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله، استغفر لي، فأمسك عنّي فجئت عن يمينه فقلت: يا رسول الله، استغفر لي فأعرض عنّي، فقمت في صدره فقلت: يا رسول الله حدّثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله: أنّك ما سئلت شيئا قط فقلت: لا، فتبسّم، ثمّ قال: «اللهمّ اغفر له» ، فقلت: يا رسول الله، إنّي وهذا نتكلّم في قوله: وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً وهو يقول: كَبِيراً وأنا أقول: «كثيرا» ، قال: فدخل المنارة وهو يقول: كثيرا إلى أن غاب صوته عنّي. [26] ، يعني بالثاء.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 73]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
__________
(1) سورة البقرة: 159.
(2) سورة البقرة: 161.(8/65)
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ فطهّره الله سبحانه مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً كريما مقبولا ذا جاه، واختلفوا فيما آذوا به موسى.
فأخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرني أبو حامد بن الشرفي، عن محمد ويحيى بن عبد الرحمن بن بشير وأحمد بن يوسف قالوا: أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو بكر المطيري قال: أخبرني أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب، عن عبد الرزاق، عن معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه قال: «كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى (عليه السلام) يغتسل وحده، فقالوا:
والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلّا أنّه آدر «1» ، فذهب مرّة يغتسل وحده فوضع ثوبه على الحجر ففرّ الحجر بثوبه فجمح في أثره يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر من بعد ما نظروا إليه، فأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضربا» [27] «2» .
قال أبو هريرة: إنّ بالحجر ندبا ستّة أو سبعة أثر ضرب موسى (عليه السلام) .
وروى الحسن وابن سيرين عن أبي هريرة في هذه الآية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «إنّ موسى كان رجلا حيّيا ستيرا لا يكاد يري من جلده شيئا يستحيي منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستر هذا الستر إلّا من عيب بجلده، إمّا برص وإمّا برص وإمّا أدرة، فأراد الله أن يبرئه ممّا قالوا: وإنّ موسى خلا يوما وحده، فوضع ثوبه على حجر ثمّ اغتسل، فلمّا فرغ من غسله أقبل على ثوبه ليأخذه بعد الحجر بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، وجعل يقول:
ثوبي حجر ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فنظروا إلى أحسن الناس خلقا وأعدلهم صورة، وإنّ الحجر قام فأخذ ثوبه فلبسه، فطفق بالحجر ضربا، وقال الملأ: قاتل الله أفّاكي بني إسرائيل فكانت براءته التي برّأه الله منها» [28] «3» .
وقال قوم: كان إيذاؤهم إيّاه ادّعاءهم عليه قتل أخيه هارون.
أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه أنّ المعافى بن زكريا القاضي أخبره عن محمد بن جرير بن يزيد الطبري، حدّثني علي بن مسلم الطوسي، عن عبّاد عن سفيان بن حصين، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، عن علي بن أبي طالب في قول الله تعالى: كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ... قال: صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون، فقال بنو إسرائيل: أنت قتلته، وكان أشدّ حبّا لنا منك وألين لنا منك، فآذوه بذلك، فأمر الله الملائكة فحملته حتى مرّوا به على
__________
(1) آدر: مصدره الادرة: رجل آدر يعني عفل وهي نفخة في الخصية.
(2) صحيح البخاري: 1/ 73، وصحيح مسلم: 7/ 99.
(3) مسند أحمد: 2/ 515، والمصنف لابن أبي شيبة: 7/ 455.(8/66)
بني إسرائيل، وتكلّمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنّه مات، فبرّأه الله من ذلك، فانطلقوا به فدفنوه، فلم يطّلع على قبره أحد من خلق الله إلّا الرّخم فجعله الله أصمّ أبكم.
وقال أبو العالية: هو أنّ قارون استأجر مومسة لتقذف موسى (عليه السلام) بنفسها على رأس الملأ، فعصمها الله منه وبرّأ موسى من ذلك وأهلك هارون.
وقد مضت هذه القصّة.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً أي حقّا قصدا. ابن عبّاس: صوابا.
قتادة ومقاتل: عدلا. المؤرخ: مستقيما. عكرمة: هو قول: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ. ابن حيان: يعني قولوا في شأن زينب وزيد سديدا ولا تنسبوا رسول الله صلّى الله عليه إلى ما لا يحمل. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً.
قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ قيل: كان العرض على أعيان هذه الأشياء، فأفهمهنّ الله خطابه وأنطقهنّ. وقيل: عرضها على من فيها من الملائكة.
وقيل: عرضها على أهلها كلّها دون أعيانها، وهذا كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» [أي أهلها] .
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها مخافة وخشية لا معصية ومخالفة، وكان العرض تخييرا لا إلزاما وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ واختلفوا في الأمانة، فقال أكثر المفسّرين: هي الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده، عرضها على السماوات والأرض والجبال، إن أدّوها أثابهم وإن ضيّعوها عذّبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها وقالوا:
لا، نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا.
فقال الله تعالى لآدم: إنّي عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال: يا ربّ وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فتحمّلها آدم صلوات الله عليه وقال: بين أذني وعاتقي، فقال الله تعالى: أمّا إذا تحمّلت فسأعينك فاجعل لبصرك حجابا، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحلّ لك فأرخ عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغلقا، فإذا خشيت فأغلق، واجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه على ما حرّمت عليك.
قالوا: فما لبث آدم إلّا مقدارا ما بين الظهر والعصر حتى أخرج من الجنّة. وقال مجاهد:
الأمانة الفرائض وحدود الدين. وأبو العالية: هي ما أمروا به ونهوا عنه. وقال زيد بن أسلم وغيره: هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من شرائع الدين.
أنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن خالد العسقلاني عن عبد الله بن عبد المجيد الحنفي قال: أخبرنا أبو العوام القطان عن قتادة
__________
(1) سورة يوسف: 82.(8/67)
وأبان بن أبي عبّاس عن خليد العصري عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه:
خمس من جاء بهنّ يوم القيامة مع إيمان دخل الجنّة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهنّ ومواقيتهنّ، وأعطى الزكاة من ماله عن طيب نفس- وكان يقول:
[وأيم] الله لا يفعل ذلك إلّا مؤمن- وأدّى الأمانة.
قالوا: يا أبا الدرداء، وما أداء الأمانة؟ «1» قال: الغسل من الجنابة. قال: الله عزّ وجلّ لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيره «2» .
وبه عن ابن جرير عن ابن بشّار، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن أبيّ بن كعب قال: من الأمانة أنّ المرأة ائتمنت على فرجها.
وقال عبد الله بن عمر بن العاص: أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه، وقال: هذه أمانة استودعتكها. فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
وقال بعضهم: هي أمانات الناس، والوفاء بالعهد، فحق على كل مؤمن ألّا يغش مؤمنا، ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، وقال السدي بإسناده:
هي ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده، وخيانته إياه في قتل أخيه- وذكر القصة إلى أن قال-:
قال الله عز وجل لآدم: يا آدم هل تعلم أنّ لي في الأرض بيتا؟ قال: اللهم لا.
قال: فإن لي بيتا بمكة فأته. فقال آدم للسماء: «احفظي ولدي بالأمانة» [29] ، فأبت، وقال للأرض فأبت، وقال للجبال فأبت، وقال لقابيل فقال: نعم تذهب وترجع تجد أهلك كما يسرك. فانطلق آدم (عليه السلام) ، فرجع وقد قتل قابيل هابيل، فذلك قوله عز وجل: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ يعني قابيل حين حمل أمانة آدم ثم لم يحفظ له أهله.
وقال الآخرون: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ يعني آدم. ثم اختلفت عباراتهم في معنى (الظلوم) و (الجهول) فقال ابن عباس والضحاك: ظَلُوماً لنفسه جَهُولًا غرّا بأمر الله وما احتمل من الأمانة. قتادة: ظَلُوماً للأمانة جَهُولًا عن حقها. الكلبي: ظَلُوماً حين عصى ربه، جَهُولًا لا يدري ما العقاب في تركه الأمانة. الحسين بن الفضل: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا عند الملائكة لا عند الله.
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
__________
(1) في المصدر: قيل: يا نبي الله
(2) تفسير الطبري: 22/ 68 مورد الآية، وكنز العمال: 15/ 887 ح 43513، ومجمع الزوائد: 1/ 47.(8/68)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
سورة سبأ
أخبرنا ابن المقرئ عن ابن مطيرة عن إبراهيم بن شريك عن أحمد بن يونس عن سلام بن سليم عن هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلّا كان يوم القيامة له رفيقا ومصافحا»
[30] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ وهو الوصف بالجميل على جهة التعظيم الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ كما هو له في الدنيا لأنّ النعم كلها في الدارين منه، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.
قوله: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ يدخل ويغيب فيها من الماء والموادّ والحيوانات، وَما يَخْرُجُ مِنْها
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 8: 190. [.....](8/69)
من النبات، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار، وَما يَعْرُجُ يصعد فِيها:
من الملائكة وأعمال العباد، وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ الساعة، ثم عاد جلّ جلاله إلى تمجيده والثناء على نفسه، فقال عز من قائل: عالِمِ الْغَيْبِ، اختلف القراء فيها، فقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي: (علّام الغيب) بخفض الميم على وزن فعال، وهي قراءة عبد الله وأصحابه. قال الفراء: وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله (علّام) .
وقرأ أهل مكة والبصرة وعاصم بجر الميم على مثال فاعل ردا على قوله، وهي اختيار أبي عبيد فيه، وفي أمثاله يؤثر النعوت على الابتداء.
وقرأ الآخرون (عالمُ) رفعا بالاستئناف إذ حال بينهما كلام.
لا يَعْزُبُ يغيب ويبتعد عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ: وزن نملة، وهذا مثل لأنه سبحانه لا يخفى عليه ما هو دون الذرة. فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ... لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا عملوا في إبطال أدلّتنا والتكذيب بكتابنا مُعاجِزِينَ: مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا.
قال ابن زيد: جاهدين، وقرأ: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ «1» .
أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، قرأ ابن كثير ويعقوب وعاصم برواية حفص والمفضل أَلِيمٌ بالرفع على نعت ال (عذاب) . غيرهم بالخفض على نعت ال (رجز) . قال قتادة: الرجز أسوأ العذاب، ومثله في الجاثية «2» وَيَرَى يعني: وليرى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني: مؤمني أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال قتادة: هم أصحاب محمد (عليه السلام) .
الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني: القرآن هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي يعني: القرآن إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وهو الإسلام.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا منكرين للبعث متعجبين منه: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ:
يخبركم، يعنون: محمدا (عليه السلام) إِذا مُزِّقْتُمْ: قطعتم وفرقتم كُلَّ مُمَزَّقٍ وصرتم رفاتا إِنَّكُمْ بالكسر على الابتداء والحكاية، مجازة يقول لكم: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ.
أَفْتَرى ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل لذلك نصب عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ: جنون؟ قال الله تعالى: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ
__________
(1) سورة فصلت: 26.
(2) يعني قوله تعالى: (لهم عذاب من رجز أليم) سورة الجاثية: 11.(8/70)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ فيعلموا أنهم حيث كانوا، فإن أرضي وسمائي محيطة بهم، لا يخرجون من أقطارها، وأنا لقادر عليهم ولا يعجزونني؟
إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ قطعة. قراءة العامة بالنون في الثلث، وقرأ الأعمش والكسائي كلها بالياء وهو اختيار أبي عبيد قال: لذكر الله عز وجل قبله «1» .
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ تائب مقبل على ربه راجع إليه بقلبه.
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ مجازه وقلنا: يا جبال أَوِّبِي مَعَهُ:
سبحي معه إذا سبح. قال أبو ميسرة: هو بلسان الحبشة، وقال بعضهم: هو التفعيل من الإياب، أي ارجعي معه بالتسبيح. فهذا معنى قول قتادة وأبي عبيد، وقال وهب بن منبّه: نوحي معه.
وَالطَّيْرَ تساعدك على ذلك، قال: وكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس من ذلك اليوم.
ويقال: إن داود كان إذا سبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح. ثم إنه قال ليلة من الليالي في نفسه: «لأعبدن الله تعالى عبادة لم يعبده أحد بمثلها» ، فصعد الجبل، فلما كان في جوف الليل وهو على الجبل دخلته وحشة، فأوحى الله سبحانه إلى الجبال أن آنسي داود قال: فاصطكت الجبال بالتسبيح والتهليل، فقال داود في نفسه: «كيف يسمع صوتي مع هذه الأصوات؟» فهبط عليه ملك فأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر، فركله برجله فانفرج له البحر، فانتهى به إلى الأرض فركلها برجله فانفرجت له الأرض، حتى انتهى به إلى الحوت فركلها برجله فتنحت عن صخرة فركل الصخرة برجله فانفلقت فمزجت منها دودة تنشز، فقال له الملك: إن ربك يسمع نشيز هذه الدودة في هذا الموضع.
وقال القتيبي: أصله من التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلا.
قال ابن مقبل:
لحقنا بحي أوّبوا السير بعد ما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح
كأنه أراد ادأبي النهار كله بالتسبيح معه، وقيل: سيري معه كيف يشاء: وَالطَّيْرَ قراءة العامة بالنصب، وله وجهان:
__________
(1) راجع تفسير القرطبي: 14/ 264.(8/71)
أحدهما بالفعل، مجازه: وسخرنا له الطير، مثل قولك: (أطعمته طعاما وماء) تريد:
وسقيته ماء، والوجه الآخر النداء كقولك: يا عمرو والصلت أقبلا، نصبت الصلت لأنه إنما يدعى بيائها فإذا فقدتها كان كالمعدول عن جهته، فنصب، وقيل: مع الطير، فتكون الطير مأمورة معه بالتأويب.
وروي عن يعقوب بالرفع ردا على الجبال أي أَوِّبِي مَعَهُ أنت والطيرُ، كقول الشاعر:
ألا يا عمرو والضحاك سيرا ... فقد جاوزتما خمر الطريق «1»
يجوز نصب الضحاك ورفعه.
قوله: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ فذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول والعجين والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد، وكان سبب ذلك على ما
روي في الأخبار أن داود (عليه السلام) لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكرا، فإذا رأى رجلا لا يعرفه، تقدم إليه يسأله عن داود، فيقول له: «ما تقول في داود وإليكم هذا أي رجل هو؟» فيثنون عليه ويقولون: خيرا فينا هو.
فبينا هو في ذلك يوما من الأيام إذ قيّض الله ملكا في صورة آدمي، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله، فقال له الملك: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه. فراع داود ذلك وقال: «ما هي يا عبد الله؟» قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال. قال: فتنبه لذلك، وسأل الله تعالى أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله، فألان الله له الحديد فصار في يده مثل الشمع، وعلمه صنعة الدروع، وكان يتخذ الدروع وإنه أول من اتخذها.
فيقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله منها ويتصدق منها على الفقراء والمساكين، ويقال أيضا: إنما ألان الحديد في يده لما أعطي من القوّة.
أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ دروعا كوامل واسعات وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، أي لا تجعل المسامير دقاقا فتغلق ولا غلاظا فتكسر الحلق. فكان يفعل ذلك: وهو أول من اتخذ الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح، والسرد: صنعة الدرع، ومنه قيل لصانعها: السراد والزراد والدرع المسرودة، قال أبو ذويب:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبّع
وأصله الوصل والنظم، ومنه قيل للخرز: سرد وللأشفى مسرد وسراد. قال الشماخ:
كما تابعت سرد العنان الخوارز
__________
(1) جامع البيان للطبري: 22/ 81.(8/72)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
وسرد الكلام.
وَاعْمَلُوا يعني داود وآله صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
[سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 14]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
قوله: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ قراءة العامة بنصب الحاء، أي وسخرنا لسليمان الريح، وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم بالرفع على جر حرف الصفة. غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها من انتصاف النهار إلى الليل مسير شَهْرٌ، فجعل [ما] «1» تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين، وقال وهب: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتابة [كتبها] «2» بعض صحابة سليمان (عليه السلام) ، إما من الجن وإما من الإنس بحرّ نزلناه وما بنيناه، مبنيا وجدناه غدوناه من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فبائتون بالشام.
قال الحسن: لما شغلت نبي الله سليمان بن داود الخيل حتّى فاتته صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل، فأبدله الله تعالى مكانها خيرا وأسرع له، تجري بأمره كيف يشاء غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وكان يغدو من إيليا فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل.
وقال ابن زيد: كان له (عليه السلام) مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه من الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر، فلا يدري القوم إلّا وقد أظلهم معه الجيوش.
ويروى أن سليمان (عليه السلام) سار من أرض العراق غاديا فقال بمدينة مرو، وصلّى العصر بمدينة بلخ تحمله وجنوده الريح ويظلهم الطير، ثم سار من مدينة بلخ متخللا بلاد الترك، ثم جازهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثله. ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض القندهار، وخرج منها إلى مكران وكرمان ثم جازها حتى أتى أرض فارس فنزلها أياما وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى الشام، وكان مستقره
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في المخطوط: كتبه.(8/73)
بمدينة تدمر، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر، وفي ذلك يقول النابغة:
ألا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد «1»
ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر، أنشأها بعض أصحاب سليمان بن داود (عليهما السلام) :
ونحن ولا حول سوى حول ربنا ... نروح إلى الأوطان من أرض تدمر
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا ... مسيرة شهر والغدوّ لآخر
أناس شروا لله طوعا نفوسهم ... بنصر ابن داود النبي المطهّر
لهم في معالي الدين فضل ورفعة ... وإن نسبوا يوما فمن خير معشر
متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت ... مبادرة عن شهرها لم تقصّر
تظلهم طير صفوف عليهم ... متى رفرفت من فوقهم لم تنفر
قوله: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ: وأذبنا له عين النحاس أسيلت له ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان.
وَمَنْ يَزِغْ: يمل ويعدل عَنْ أَمْرِنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ في الآخرة. عن أكثر المفسرين، وقال بعضهم: في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكّل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته.
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ: مساجد ومساكن وقصور، والمحراب: مقدم كل مسجد، ومجلس وبيت. قال عدي:
كدمى العاج في المحاريب أو ... كالبيض في الروض زهره [مستنير] «2»
وكان مما عملوا له من ذلك بيت المقدس، وقصته وصفته على ما ذكره أهل البصر بالسير أن الله تعالى بارك في نسل إبراهيم (عليه السلام) حتى جعلهم في الكثرة غاية لا يحصون، فلما كان زمن داود (عليه السلام) لبث فيهم ثلاثين سنة بأرض فلسطين، وهم كل يوم يزدادون كثرة، فأعجب داود بكثرتهم فأمر بعدّهم، فكانوا يعدون زمانا من الدهر حتى أيسوا وعجزوا أن يحيط علمهم بعدد بني إسرائيل، فأوحى الله إلى داود: «إني قد وعدت أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 121 وتفسير القرطبي: 14/ 269.
(2) كذا في مصادر التفسير، انظر تفسير الطبري: 3/ 2335: 447، 8: 382، وهو الصحيح وزنا، وفي المخطوط: مستكبر.(8/74)
ولده فصدقني وائتمر أمري أن أبارك له في ذريته، حتى يصيروا أكثر من عدد نجوم السماء وحتى لا يحصيهم العادّون، وإني قد أقسمت أن أبتليهم ببلية يقل منها عددهم ويذهب عنك إعجابك بكثرتهم» وخيّره بين أن يعذبهم بالجوع والقحط ثلاث سنين، وبين أن يسلط عليهم عدوهم ثلاثة أشهر، وبين أن يرسل عليهم الطاعون ثلاثة أيام.
فجمع داود بني إسرائيل وأخبرهم بما أوحى الله إليه وخيره فيه، فقالوا: أنت أعلم بما هو أيسر لنا وأنت نبينا فانظر لنا، غير أن الجوع لا صبر لنا [عليه] وتسليط العدو أمر فاضح، فإن كان لا بد فالموت. فأمرهم داود عليه السلام أن يتجهزوا للموت، فاغتسلوا وتحنطوا ولبسوا الأكفان وبرزوا إلى الصعيد بالذراري والأهلين، وأمرهم أن يضجّوا إلى الله تعالى ويتضرعوا إليه لعله «1» يرحمهم، وذلك في صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد. قال: وارتفع داود (عليه السلام) فوق الصخرة فخرّ ساجدا يبتهل إلى الله تعالى فأرسل الله فيهم الطاعون. فأهلك منهم في يوم وليلة ما لم يتفرغوا من دفنهم إلّا بعد مدة شهرين. فلما أصبحوا من اليوم الثاني سجد داود وسجدوا معه إلى طلوع الشمس فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف الله عنهم الطاعون.
قالوا: فلما أن شفّع الله تعالى داود في بني إسرائيل في ذلك المكان جمع داود بني إسرائيل بعد ثلاثة فقال لهم: «إن الله سبحانه قد منّ عليكم ورحمكم فجددوا له شكرا» . فقالوا:
كيف تأمرنا. قال: «آمركم أن تتخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجدا لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذاكر» .
فلما أرادوا البناء جاء رجل صالح فقير يختبرهم ليعلم كيف إخلاصهم في ثبوتهم فقال لبني إسرائيل: إنّ لي فيه موضعا أنا محتاج إليه ولا يحل لكم أن تحجبوني عنه. فقالوا له: يا هذا ما أحد في بني إسرائيل إلّا وله في هذا الصعيد حق مثل حقك، فلا تكن أبخل الناس ولا تضايقنا فيه. فقال: أنا لا أعرف حقي وأنتم لا تعرفون. فقالوا له: إما إن ترضى وتطيب نفسا، وإلّا أخذناه كرها. فقال لهم: أو تجدون ذلك في حكم الله وفي حكم داود؟
قال: فرفعوا خبره إلى داود فقال: «أرضوه» . فقالوا: بكم نأخذه يا نبي الله؟ قال: «خذوه بمائة شاة» . فقال الرجل: زد. فقال داود: «بمائة بقر» . قال: زد. قال: «مائة إبل» . قال: زدني فإنّ ما تشتريه لله تعالى. فقال داود: «أما إذا قلت هذا، فاحتكم أعطكه» فقال: تشتري مني بحائط مثله زيتونا ونخلا وعنبا. قال: «نعم» . فقال: تشتريه لله فلا تبخل. قال: «سل ما شئت أعطكه، وإن شئت أؤاجرك نفسي» قال: وتفعل ذلك يا نبي الله؟ قال: «نعم إذا شئت» . قال:
أنت أكرم على الله من ذلك، ولكنك تبني حوله جدارا مشرفا ثم تملؤه ذهبا، وإن شئت ورقا.
قال داود: «هو هين» .
__________
(1) في المخطوط زيادة: «أن» .(8/75)
فالتفت الرجل إلى بني إسرائيل وقال: هذا هو التائب المخلص. ثم قال لداود: يا نبي الله لئن يغفر الله لي ذنبا واحدا أحبّ إلي من كل شيء وهبته لي، ولكني كنت أجرّبكم.
فأخذوا في بناء بيت المقدس، وكان داود (عليه السلام) ينقل لهم الحجارة على عاتقه وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة. فأوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام) : «إنّ هذا بيت مقدّس وإنك رجل سفاك للدماء فلست ببانيه إذا لم أقضي ذلك على يدك، ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان، أسلّمه من سفك الدماء وأقضي إتمامه على يده، وذلك صيته وذكره لك باقيا» «1» .
فصلوا فيه زمانا، وداود يومئذ ابن سبع وعشرين ومائة سنة، فلما صار من أبناء أربعين ومائة سنة توفّاه الله واستخلف سليمان. فأحبّ بناء بيت المقدس، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له. فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثني عشر ربضا، وأنزل كل ربض منها سبطا من الأسباط وكانوا اثني عشر سبطا.
فلما فرع من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد، فوجّه الشياطين فرقا، يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر، وفرقا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر، فأتي من ذلك بشيء لا يحصيه إلّا الله تعالى، ثم أحضر الصنّاعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللئالئ فكانوا يعالجونها، فتصوّت صوتا شديدا لصلابتها، فكره سليمان تلك الأصوات. فدعا الجن وقال لهم: «هل عندكم حيلة في نحت هذه الجواهر من غير تصويت؟» .
فقالوا: يا رسول الله، ليس في الجن أكثر تجارب، ولا أكثر علما من صخر العفريت، فأرسل إليه من يأتيك به. فطبع سليمان خاتمه طابعا- وكان يطبع للشياطين بالنحاس، ولسائر الجن بالحديد- وكان إذا طبع أحد هما بخاتمه لمع ذلك كالبرق الخاطف، فكان لا يراه أحد:
جني ولا شيطان إلّا انقاد له بإذن الله عزّت قدرته.
فأرسل الطابع مع عشرة من الجن فأتوه وهو في بعض جزائر البحور، فأروه الطابع، فلما نظر إليه كاد يصعق خوفا، فأقبل مسرعا مع الرسل حتى دخل على سليمان (عليه السلام) . فسأل سليمان رسله عما أحدث العفريت في طريقه. فقالوا: يا رسول الله إنه كان يضحك بعض الأحايين من الناس. فقال له سليمان (عليه السلام) : «ما رضيت بتمردك عليّ في ترك المجيء إليّ طائعا حتى صرت تسخر بالناس؟» .
__________
(1) بتفاوت في تفسير مجمع البيان: 8/ 203.(8/76)
فقال: يا نبي الله إني لم أسخر منهم غير أن ضحكي كان تعجّبا مما كنت أسمع وأرى في طريقي. فقال سليمان: «وما ذاك؟» .
قال: اعلم أني مررت برجل على شط نهر ومعه بغلة يريد سقيها ومعه جرة يريد أن يستقي فيها، فسقى البغلة وملأ الجرة، ثم أراد أن يقضي حاجته فشد البغلة بإذن الجرة فنفرت البغلة وجرت الجرة فكسرتها، فضحكت من حمق الرجل حيث توهم أن الجرة تحبس البغلة «1» .
ومررت برجل وهو جالس عند إسكاف يستعمله في إصلاح خف له، فسمعته يشترط معه أن يصلحه بحيث يبقى معه أربع سنين ونسي نزول الموت به قبله، فضحكت من غفلته وجهله.
ومررت بعجوز تتكهن وتخبر الناس بما لا يعلمون من أمر السماء، وقد كنت عهدت رجلا دفن في موضع فراشها ذهبا كثيرا في الدهور الخالية، فرأيتها تموت جوعا وتحت فراشها ذهب كثير لا تعلم بمكانه، ثم تخبر الناس عن أمر السماء فضحكت منها.
ومررت برجل في بعض المدن، وقد كان به داء فيما قيل فأكل البصل فبرأ من دائه، فصار يتطبّب للناس، فكان لا يأتيه أحد يسأله عن علّة إلّا أمره بأكل البصل وإنه لأضرّ شيء، حتى إنّ ضره ليصل إلى الدماغ، فضحكت منه.
ومررت ببعض الأسواق فرأيت الثوم وهو أفضل الأدوية كلّها يكال كيلا، ورأيت الفلفل وهو أحد السموم القاتلة يوزن وزنا فضحكت من ذلك.
ومررت بناس قد جلسوا يبتهلون إلى الله تعالى ويسألونه المغفرة والرحمة، فملّ منهم قوم وقاموا، وجاء آخرون وجلسوا فرأيت الرحمة قد نزلت عليهم، فأخطأت الذين كانوا من أهل المجلس، وغشيت الذين جاءوا فجلسوا، فضحكت تعجبا للقضاء والقدر.
قالوا: فقال سليمان له: هل عرفت في كثرة تجاربك وجولاتك في البر والبحر شيئا تنحت به هذه الجواهر فتلين فيسهل نحتها وثقبها فلا تصوت؟ فقال: نعم يا نبي الله، أعرف حجرا أبيض كاللبن يقال له السامور غير أني لا أعرف معدنه الذي هو فيه، وليس في الطير شيء هو أحيل ولا أهدى من العقاب. فمر بعقاب أن تجعل فراخه في صندوق حجر معه ليلة، ثم تسرّح ذلك العقاب وتترك فراخه في الصندوق فإنه سيأتي بذلك الحجر فيضرب به ظهر الصندوق حتى ينقبه به ليصل إلى فراخه.
قال: فأمر سليمان بعقاب مع فراخه فجعله في صندوق من حجر يوما وليلة، ثم سرح العقاب دون الفراخ، فمرّ العقاب وجاء بذلك الحجر بعد يوم وليلة، وثقب به الصندوق حتى
__________
(1) تاريخ الطبري: 5/ 136.(8/77)
وصل إلى فراخه. فوجه سليمان مع العقاب نفرا من الجن حتى أتوه به منه قدر ما علم أن فيه كفاية، واستعمل ذلك في أدوات الصناعين، فسهل عليهم نحتها من غير تصويت وهو الحجر الذي يستعمل في نقش الخواتيم وثقب الجواهر إلى اليوم، وهو حجر عزيز ثمين.
قال: فبنى سليمان (عليه السلام) المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمّده بأساطين المها الصافي، وسقفه بألواح الجواهر الثمنية وفصّص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ بيت في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.
فلما فرغ منه جمع إليه أخيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله وأنّ كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا.
وقالوا: من أعاجيب ما اتخذ سليمان عليه السلام ببيت المقدس أن بنى بيتا وطيّن حائطه بالخضرة وصقله، فكان إذا دخله الورع البرّ استبان خياله في ذلك الحائط أبيض، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود. فارتدع عند ذلك كثير من الناس عن الفجور والخيانة.
ونصب في زاوية من زوايا المسجد عصا أبنوس، فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم يضره مسها، ومن مسها من غيرهم احترقت يده.
وروى الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنين وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه الله الثالثة: سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلّا خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك» [31] «1» .
قالوا: فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان (عليه السلام) حتى غزا نبوخذ نصر فخرب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر، فحمله معه إلى دار مملكته من أرض العراق.
قال سعيد بن المسيب: لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه، فعالجها سليمان فلم تنفتح، حتى قال في دعائه: «بصلوات أبي داود إلّا فتحت الأبواب» .
ففتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل: خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلّا والله يعبد فيها.
__________
(1) المستدرك: 2/ 434، مع تفاوت يسير.(8/78)
وَتَماثِيلَ أي صور، كانوا يعملون التماثيل من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام في المساجد تماثيل الملائكة والنبيين الصالحين لكي إذا رآهم الناس مصورين عبدوا عبادتهم.
وَجِفانٍ أي قصاع، واحدها جفنة كَالْجَوابِ كالحياض التي يجبى فيها الماء، أي يجمع، واحدها جابية.
قال الأعشى ميمون بن قيس:
تروح على آل مخلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
أخبرنا أبو بكر الحمشاوي قال: أخبرني أبو بكر القطيعي إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا سهل السرّاج قال: سمعت الحسن يقول: (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) مثل حياض الإبل، ويقال: إنه كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل يأكلون بين يديه.
وَقُدُورٍ راسِياتٍ: ثابتات لا يحوّلن ولا يحركن من أماكنهن لعظمتهن، ولا ينزلن ولا يعطلن وكانت باليمن، ومنه قيل للجبال: رواسي اعْمَلُوا أي وقلنا: اعملوا آلَ داوُدَ شُكْراً مجازه: اعْمَلُوا بطاعة الله يا آلَ داوُدَ شُكْراً له على نعمه، وشُكْراً في محل المصدر.
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ أرسل حمزة (الياء) وفتحها الباقون. قال القرظي: الشكر: تقوى الله والعمل بطاعته.
وحدثونا عن محمد بن يعقوب قال: حدثنا الحصر بن أبان قال: حدّثنا سيار قال: حدّثنا جعفر بن سليمان قال: سمعت ثابتا يقول: كان داود نبي الله (عليه السلام) قد جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن بأي ساعة من ساعات الليل والنهار إلّا وإنسان من آل داود قائم يصلي، فعمهم الله تعالى في هذه الآية اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً.
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ قال المفسرون: كان سليمان (عليه السلام) يتحرز في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يدخل فيه طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدوّ ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلّا نبتت في بيت المقدس شجرة فيسألها: «ما اسمك؟» فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فيقول لها: «لأيّ شيء أنت؟» فتقول: لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع. فإن كانت نبتت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتب.
فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: «ما اسمك؟» . قالت:
الخروبة. قال: «ولأيّ شيء نبتّ؟» قالت: لخراب هذا المسجد. فقال سليمان: «ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي، وخراب بيت المقدس» . فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال: «اللهم عمّ على الجن موتي حتى يعلم الإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب» -(8/79)
وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء وإنهم يعلمون ما في غد- ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات.
قال ابن زيد: قال سليمان لملك الموت: «إذا أمرت بي فاعلمني» . قال: فأتاه فقال: «يا سليمان قد أمرت بك، وقد بقيت لك سويعة» .
فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلي واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متّكئ على عصاه.
وفي رواية أخرى: أنّ سليمان (عليه السلام) قال ذات يوم لأصحابه: «قد آتاني الله من الملك ما ترون، وما مرّ عليّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر، وقد أحببت أن يكون لي يوم واحد يصفو لي إلى الليل، ولا أغتم فيه ولكن ذلك اليوم غدا» .
فلما كان من الغد دخل قصرا له وأمر بإغلاق أبوابه، ومنع الناس من الدخول عليه، ورفع الأخبار إليه لئلا يسمع ذلك اليوم شيئا يسوؤه، ثم أخذ عصاه بيده، وصعد فوق قصره واتكأ على عصاه ينظر في ممالكه، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض قد خرج عليه من جانب من جوانب قصره، فقال: «السلام عليك يا سليمان» . فقال: «وعليك السلام، كيف دخلت هذا القصر، وقد منعت من دخوله؟ أما منعك البوّاب والحجّاب؟ أما هبتني حيث دخلت قصري بغير إذني؟» فقال: «أنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا يدفعني بوّاب ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرشا وما كنت لأدخل هذا القصر بغير إذن» قال سليمان: «فمن أذن لك في دخوله؟» قال:
«ربه» .
فارتعد سليمان وعلم أنه ملك الموت، فقال له: «أنت ملك الموت؟» قال: «نعم» ، قال:
«فبمّ جئت؟» .
قال: «جئت لأقبض روحك» . قال: «يا ملك الموت هذا يوم أردت أن يصفو لي ولا أسمع فيه ما يغمني» . قال: «يا سليمان، إنّك أردت يوما يصفو لك فيه عيشك حتى لا تغتم فيه، ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا فارض بقضاء ربك فإنه لا مرد له» .
قال: «فامض لما أمرت به» .
فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه. قالوا: وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ومصلاه أينما كان، فكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه، وكان الشيطان الذي يريد أن يخرج يقول: ألست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق فنظر إلى سليمان وقد سقط ميتا، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته- وهي العصا بلسان الحبشة- قد أكلتها الأرضة،(8/80)
ولم يعلموا مذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوما وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات من سنة، وكانت الجن تعمل بين يديه ينظرون إليه ويحسبون أنه حيّ ولا ينظرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك «1» .
وهي في قراءة ابن مسعود: فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا، فأيقن الناس أنّ الجن كانوا يكذبونهم، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له. ثم إنّ الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الطين والماء. فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون فوق الخشب فهو ممّا يأتيها به الشياطين تشكرا لها، فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ وهي الأرضة، ويقال لها: القادح أيضا وهي دويبة تأكل العيدان.
تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أي عصاه، فأصلها من نسأت الغنم إذا زجرتها وسقتها، وقال طرفة:
أمون كألواح الأران نسأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد «2»
أي سقتها، وهمزها أكثر القراء، وترك همزها أبو عمرو وأهل المدينة، وهما لغتان، وقال الشاعر في الهمز:
ضربنا بمنسأة وجهه ... فصار بذاك مهينا ذليلا «3»
وقال الآخرون في ترك الهمز:
إذا دببت على المنساة من هرم ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل «4»
قوله: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ، و (أن) في محل الرفع لأن معنى الكلام: فلما خر تبين وانكشف أن لو كان الجن أي ظهر أمرهم، وفي قراءة ابن مسعود أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، وقيل:
(أن) في موضع نصب أي علمت وأيقنت الجن أن لو كانوا يعلمون.
وقال أهل التاريخ: كان عمر سليمان (عليه السلام) ثلاثا وخمسين سنة وكان مدة ملكه أربعين سنة، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه والله أعلم.
__________
(1) تفسير الطبري: 22/ 92، وتاريخ الطبري: 1/ 356.
(2) الصحاح: 5: 2069. [.....]
(3) تفسير القرطبي: 14/ 279.
(4) الصحاح: 1/ 76.(8/81)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 27]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ،
روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفي قال:
قال رجل: يا رسول الله، أخبرني عن سبأ ما كان رجلا أو امرأة، أو أرضا أو جبلا أو واديا؟
فقال صلّى الله عليه وسلم: «ليست بأرض ولا امرأة ولكنه كان رجلا من العرب ولد له عشرة من الولد، فتيامن منهم ستة وتشاءم أربعة فأما الذين تيامنوا، فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير» .
فقال رجل: وما أنمار؟ قال: «الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان» [32] «1» .
والإجراء وترك الإجراء فيه سائغ، وقد قرئ بهما جميعا فالإجراء على أنه اسم رجل معروف، وترك الإجراء على أنه اسم قبيلة نحو (هذه تميم) .
واختاره أبو عبيد لقوله:
في مساكنهم، واختلف القراء فيه، فقرأ حمزة والنخعي: (مَسْكَنِهِمْ) - بفتح الكاف- على الواحد، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي وخلف بكسر الكاف على الواحد.
الباقون: مساكنهم جمع.
آيَةٌ دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا، ثم فسرها فقال: جَنَّتانِ أي هي جنتان: بستانان
__________
(1) جامع البيان للطبري: 22/ 94، تفسير ابن كثير 3/ 539- مع تقديم وتأخير في الحديث.(8/82)
عَنْ يَمِينٍ من أتاهما وَشِمالٍ وعن شماله كُلُوا: وقيل لهم: كلوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ على ما أنعم عليكم، وإلى ها هنا تم الكلام ثم ابتدأ فقال: بَلْدَةٌ أي هذه بلدة أو بلدتكم بلدة طَيِّبَةٌ ليست بسبخة. قال ابن زيد: لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة قط ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، وإن كان الركب ليأتون وفي ثيابهم القمل والدواب فما هو إلّا أن ينظروا لي بيوتهم فتموت الدواب، وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القفة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفواكه ولم يتناول منها شيئا بيده فذلك قوله سبحانه: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ الهواء، وَرَبٌّ غَفُورٌ الخطأ كثير العطاء.
قوله تعالى: فَأَعْرَضُوا، قال وهب: بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله، وذكروهم نعمه عليهم، وأنذروهم عقابه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله علينا نعمة. فقولوا لربكم الذي تزعمون فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع، فذلك قوله عز وجل: فَأَعْرَضُوا.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، والعرم: السد والمسناة التي تحبس الماء واحدتها عرمة، وأصلها من العرامة وهي الشدة والقوة.
وقال ابن عباس ووهب وغيرهما: كان هذا السد يسقي جنتيهم، وكان فيما ذكر بنته بلقيس وذلك أنها لما ملكت جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها فنزلته، فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت، فقالوا: لترجعنّ أو لنقتلنّك. فقالت: إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول.
قالوا: فإنا نطيعك فإنا لم نجد فينا خيرا بعدك. فجاءت فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة ضخمة، فجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهارهم، فلما جاء المطر اجتمع إليه ماء الشجر وأودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة وأمرت بالبعر فألقي فيها، فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار وترسل البعر في الماء حتى خرجت جميعا معا فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان.
وبقوا على ذلك بعدها، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الباب الثاني، ثم من الباب الأسفل ولا ينفد الماء، حتى يؤوب الماء من السنة المقبلة.
فلما طغوا وكفروا، سلط الله عليهم جرذا يسمى الخلد فنقب من أسفله، فغرّق الماء جناتهم وخرب أرضهم.
وقال وهب: وكانوا فيما يزعمون يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم ذلك فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلّا ربطوا عندها هرة، فلما جاء زمان وما أراد الله بهم من التفريق(8/83)
أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى وهنته للسيل وهم لا يعلمون ذلك. فلما جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قلع السد وفاض على أموالهم فغرّقها ودفن بيوتهم الرمل، وفرّقوا ومزقوا حتى صاروا مثلا عند العرب [فقالوا] «1» : تفرقوا أيادي سبأ، وأيدي سبأ، فذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ.
وقيل: العرم هو المطر الشديد من العرامة وهي التمرّد والعصيان.
وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قراءة العامة بالتنوين، وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالإضافة، وهما متقاربتان كقول العرب: في بستان فلان أعناب كرم وأعناب كرم، فتضيف أحيانا الأعناب إلى الكرم لأنه منه، وتنون أحيانا الأعناب، ثم يترجم بالكرم عنها إذ كانت الأعناب ثمر الكرم.
والأكل: الثمر، والخمط: الأراك في قول أكثر المفسرين، وقيل: كل شجرة ذات شوك، وقيل: شجرة الغضا، وقيل: هو كل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله، وَأَثْلٍ وهو الطرفاء، عن ابن عباس، وقيل: هو شجر شبيه بالطرفاء إلّا أنه أعظم منه، وقال الحسن: الأثل الخشب. قتادة: ضرب من الخشب، وقيل: هو السمر. أبو عبيدة: هو النضار.
وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ، قال قتادة: بينما شجر القوم من خير الشجر إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم. قال الكلبي: فكانوا يستظلون بالشجر ويأكلون البربر وثمر السدر وأبوا أن يجيبوا الرسل ذلِكَ الذي جعلنا بهم، جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي بكفرهم، ومحل ذلك نصب بوقوع المجازاة عليه، تقديره جزيناهم ذلك بما كفروا: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ قرأ أهل الكوفة بالنون وكسر الزاي ونصب الراء، واختاره أبو عبيدة قال: [لقوله] «2» : جَزَيْناهُمْ، ولم يقل: جوزوا، وقرأ الآخرون بياء مضمومة وفتح الزاي ورفع الراء، ومعنى الآية: وهل يجازى مثل هذا الجزاء إلّا الكفور، وقال مجاهد: يجازي أي يعاقب.
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي الشام قُرىً ظاهِرَةً أي متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها. قال الحسن: كان أحدهم يغدوا فيقيل في قرية ويروح فيأوي إلى أخرى، وكانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار، وكان ما بين اليمن والشام كذلك.
وقال ابن عباس: قُرىً ظاهِرَةً يعني: قرى عربيّة بين المدينة والشام. سعيد بن جبير: هي القرى التي ما بين مأرب والشام. مجاهد: هي السروات، وهب بن منبه: هي قرى صنعاء.
__________
(1) في المخطوط: فقال.
(2) في المخطوط: لقومه.(8/84)
وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلنا السير بين قراهم والقرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، لا ينزلون إلّا في قرية، ولا يغدون إلّا في قرية، وقلنا لهم:
سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً وقت شئتم آمِنِينَ: لا تخافون عدوّا ولا جوعا ولا عطشا، ولا تحتاجون إلى زاد ولا ماء، فبطروا وطغوا ولم يصبروا على العافية وقالوا: لو كان جني جناننا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه.
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا: فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل، ونتزود الأزواد. فجعل الله لهم الإجابة، واختلف القراء في هذه الآية فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ربنا بعّد) ، على وجه الدعاء والسؤال من (التبعيد) ، وهي رواية هشام عن قرّاء الشام، وقرأ ابن الحنفية ويعقوب: رَبُّنا- برفع الباء- باعَدَ- بفتح الباء والعين والدال- على الخبر، وهي اختيار أبي حاتم، استبعدوا أسفارهم بطرا منهم وأشرا، وقرأ الباقون: رَبَّنا بفتح الباء، باعِدْ بالألف وكسر العين وجزم الدال- على الدعاء، ففعل الله ذلك بهم، فقال:
وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والبطر والطغيان، فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ: عظة وعبرة يتمثل بهم، وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، قال الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان.
وقال ابن إسحاق: يزعمون أنّ عمران بن عامر وهو عم القوم- كان كاهنا فرأى في كهانته أنّ قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم، فقال لهم: إني قد علمت أنكم ستمزقون، فمن كان منكم ذا همّ بعيد وحمل شديد ومزاد جديد فليلحق بكأس أو كرود، قال: فكان وادعة بن عمرو.
ومن كان منكم يريد عيشا هانئا وحرما آمنا فليلحق بالأردن فكانت خزاعة، ومن كان منكم يريد الراسيات في الرجل والمطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فكان الأوس والخزرج، ومن كان منكم يريد خمرا وخميرا وذهبا وحريرا وملكا وتأميرا، فليلحق بكوثى وبصرى، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام، ومن كان منهم بالعراق.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ قال مطرف: هو المؤمن الذي إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر.
قوله: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ، قرأ أهل الكوفة: بتشديد الدال وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد، أي ظن فيهم ظنا حيث قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «1» ، وقال: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «2» ، فصدّق ظنه وحقّقه لفعله ذلك بهم واتّباعهم إياه، وقرأ الآخرون:
صدق بالتخفيف أي صدق عليهم في ظنه بهم.
__________
(1) سورة ص: 82.
(2) سورة الأعراف: 17.(8/85)
عَلَيْهِمْ أي على أهل سبأ، وقال مجاهد: على الناس كلّهم إلّا من أطاع الله فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إلّا تسليطنا إياه عليهم لِنَعْلَمَ: لنرى ونميز، ونعلمه موجودا ظاهرا كائنا موجبا للثواب والعقاب، كما علمناه قبل مفقودا معدوما بعد ابتلاء منا لخلقنا.
قال الحسن: والله ما ضربهم بسيف ولا عصا ولا سوط إلّا أماني وغرورا دعاهم إليها.
مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ الآية.
قُلِ يا محمد لهؤلاء المشركين الذين أنت بين ظهرانيهم: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ، ثم وصفها فقال: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ من خير وشر وضرّ ونفع، فكيف يكون إلها من كان كذلك؟ وَما لَهُمْ فِيهِما أي في السماوات والأرض مِنْ شِرْكٍ شركة وَما لَهُ أي لله مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ: عون.
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ تكذيبا منه لهم حيث قالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي: (أُذِنَ) بضم الألف، واختلف فيها عن عاصم، وقرأ غيرهم: بالفتح.
حَتَّى إِذا فُزِّعَ قرأ ابن عامر ويعقوب بفتح الفاء والزاي، [وقرأ] «1» غير هما: بضم الفاء وكسر الزاي، أي كشف الفزع، وأخرج عَنْ قُلُوبِهِمْ، وأخبرني ابن فنجويه قال: أخبرني أبو علي بن حبيس المقرئ قال: حدثنا أبو عبيد القاضي قال: أخبرني الحسين بن محمد الصباغ عن عبد الوهاب عن موسى الأسواري عن الحسن أنه كان يقرؤها (حتى إذا فرع عن قلوبهم) - بالراء والعين- يعني: فرعت قلوبهم من الخوف.
واختلفوا في هذه الكناية والموصوفين بهذه الصفة من هم؟ وما السبب الذي من أجله فزع عن قلوبهم؟
فقال قوم: هم الملائكة، ثم اختلفوا في سبب ذلك، فقال بعضهم: إنما يفزع عن قلوبهم غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله سبحانه.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن علي بن عفان قال: حدثنا ابن نمير عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال: إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيصعقون عند ذلك ويخرون سجدا، فإذا علموا أنه وحي فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قال: فيرد إليهم، فينادي أهل السماوات بعضهم بعضا: ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فرفعه بعضهم.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(8/86)
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي سعيد البزاز قال: حدثنا علي بن أشكاب قال: أخبرني أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل (عليه السلام) ، فإذا جاءهم جبرائيل عليه السلام فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فيقولون: يا جبرائيل ماذا قال ربك؟ قال: يقول: الحق، فينادون: الحق الحق» «1» [33] .
والشاهد لهذا الحديث والمفسر له ما
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الفقيه قال:
أخبرني أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب قال: أخبرنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إنّ نبي الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله عز وجل الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا: ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا: للذي قال:
الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» «2» [34] .
وأنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير الطبري عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم عن الوليد بن مسلم عن عبد الرّحمن بن يزيد بن جابر عن أبي زكريا عن رجاء بن حبوة عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله: «فإذا سمع بذلك أهل السماوات، صعقوا وخرّوا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله من وحيه بما أراده، ثم يمر جبرائيل على الملائكة، كلما مرّ بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. قال: فيقولون كلهم مثلما ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمر الله» [35] «3» .
وبه عن ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب عن هشام عن عروة قال: قال الحرث ابن هشام لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ قال: «يأتيني في صلصلة كصلصلة الجرس فيفصم عني حين يفصم وقد وعيته، ويأتيني أحيانا في مثل صورة الرجل فيكلمني به كلاما وهو أهون عليّ» [36] «4» .
وقال بعضهم: إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة.
وقال الكلبي: كان بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) فترة زمان طويلة لا يجري فيها
__________
(1) فتح الباري 13/ 382.
(2) صحيح البخاري: 6/ 28.
(3) مجمع الزوائد: 7: 94.
(4) جامع البيان للطبري: 22/ 111.(8/87)
الرسل خمسمائة وخمسين عاما، فلما بعث الله محمدا (عليه السلام) كلّم الله جبرائيل بالرسالة إلى محمد، فلما سمعت الملائكة الصوت ظنوا أنها الساعة قد قامت فصعقوا مما سمعوا. فلما انحدر جبرائيل جعل يمر بأهل كلّ سماء فيكشط عنهم فيرفعون رؤوسهم، فيقول بعضهم لبعض:
ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ فلم يدروا ما كان ولكنهم قالُوا: قال الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وذلك أنّ محمدا عند أهل السماوات من أشراط الساعة، فلما بعثه الله تعالى فزع أهل السماوات لا يشكون إلّا أنها الساعة.
وقال الضحاك: إنّ الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، إذا أرسلهم الرب فانحدروا سمع لهم صوت شديد، فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجدا ويصعقون، حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة، وهذا تنبيه من الله سبحانه وإخبار أنّ الملائكة مع هذه الصفة لا يمكنهم أن يشفعوا لأحد إلّا أن يؤذن لهم، فإذا أذن الله لهم وسمعوا وحيه كان هذا حالهم. فكيف تشفع الأصنام؟! وقال آخرون: بل الموصوفون بذلك المشركون.
قال الحسن وابن زيد يعني: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم، قالت لهم الملائكة: ماذا قالَ رَبُّكُمْ في الدنيا؟ قالُوا: الْحَقَّ، فأقرّوا به حين لم ينفعهم الإقرار، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في آخر السورة: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ «1» .
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ هذا على جهة الإنصاف في الحجاج كما يقول القائل: أحدنا كاذب وهو يعلم أنه صادق وأنّ صاحبه كاذب.
والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، إنّ أحد الفريقين لمهتد والآخر ضال. فالنبيّ ومن معه على الهدى ومن خالفه في ضلال، فكذبهم بأحسن من تصريح التكذيب.
وقيل هذا على جهة الاستهزاء بهم وهو غير شاك في دينه، وهذا كقول الشاعر وهو أبو الأسود:
يقول الأرذلون بنو قشير: ... طوال الدهر لا تنسى عليّا
بنو عم النبي وأقربوه ... أحبّ الناس كلّهم إليّا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... وليس بمخطئ إن كان غيا «2»
__________
(1) سورة سبأ: 51.
(2) تاريخ دمشق: 25/ 189- 200 ط. دار الفكر. [.....](8/88)
فقاله من غير شك، وقد أيقن أن حبهم رشد.
وقال بعضهم: أَوْ بمعنى الواو، يعني: إنا لعلى هدى وإنكم إياكم لفي ضلال مبين، كقول جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهيّة والخشابا «1»
يعني ثعلبة ورياحا.
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا: يقضي بيننا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ. قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ يعني الأصنام هل خلقوا من الأرض شيئا أم لهم شرك في السماوات: وتفسيرها في سورة (الملائكة) و (الأحقاف) .
ثم قال تعالى كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وهو القاهر القوي الذي يمنع من يشاء ولا يمنعه مانع، فهو العزيز المنتقم ممن كفر به وخالفه، الحكيم في تدبيره لخلقه، فإنّى يكون له شريك في ملكه؟
__________
(1) الصحاح: 1/ 120.(8/89)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
[سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 48]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48)
قوله عز وجل: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً عامة لِلنَّاسِ كلهم العرب والعجم وسائر الأمم.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثنا علي بن حرب قال:
حدثنا ابن فضيل قال: حدثنا (يزيد بن أبي زياد عن مجاهد ومقسم عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا ولا أقول فخرا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأحل لي المغنم ولم يحل لأحد كان قبلي، ونصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة فادّخرتها لأمتي يوم القيامة، وهي إن شاء الله نائلة من لم يشرك بالله شيئا» [37] .
وقيل: معناه كافّ للناس. يكفّهم عما هم عليه من الكفر، ويدعوهم إلى الإسلام، والهاء فيه للمبالغة.
بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب، ثم أخبر حالهم في مآلهم، فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ: الكافرون مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يتلاومون ويحاور بعضهم بعضا يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي مكركم بنا. فهما كما يقال: عزم الأمر وفلان نهاره صائم وليله قائم.
قال الشاعر:
ونمت وما ليل المطي بنائم
وقيل: مكر الليل والنهار بهم طول السلامة فيهما كقوله: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ «1» ،
__________
(1) الحديد/ 16.(8/90)
ونحوه. إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ ... ، نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا: أظهروا النَّدامَةَ، وهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء، والإبداء لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ: الجوامع من النار فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا: الأتباع والمتبوعين، هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا؟
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ: رسول إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: رؤساؤها وأغنياؤها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً منكم، ولو لم يكن راضيا بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخوّلنا الأموال والأولاد.
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، وليس يدل ذلك على العواقب والمنقلب، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنها كذلك.
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ: لكن من آمن وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا من الثواب بالواحد عشرة، و (من) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون محله نصبا بوقوع تقرب عليه، والآخر: رفع تقديره: وما هو إلّا من آمن. وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ الدرجات آمِنُونَ.
وقراءة العامة: جَزاءُ الضِّعْفِ بالإضافة، وقرأ يعقوب: (جَزاءً) منصوبا منوّنا. الضعف رفع مجازه: فأولئك لهم الضعف جزاء على التقديم والتأخير، وقراءة العامة: الْغُرُفاتِ بالجمع، واختاره أبو عبيد قال: لقوله: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «1» ، وقرأ الأعمش وحمزة: (في الغرفة) على الواحدة.
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ: يعملون فِي آياتِنا بإبطال حججنا وكتابنا، ومُعاجِزِينَ معاونين معاندين يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم ويعجزوننا، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ. قال سعيد بن جبير: ما كان من غير إسراف ولا تقتير فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وقال الكلبي: ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير والبر من نفقة فَهُوَ يُخْلِفُهُ إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخر له في الآخرة.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال: حدثنا أبي قال: حدثنا علي بن داود القنطري قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن عمرو بن الحرث عن أبي يونس مولى أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الله عزّ وجل قال لي: أنفق أنفق عليك» [38] «2» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا ابن شاذان عن جعونة بن محمد قال: حدثنا صالح
__________
(1) سورة العنكبوت: 58.
(2) فتح الباري: 9/ 411، تفسير القرطبي: 6/ 240.(8/91)
ابن محمد عن سليمان بن عمرو عن ابن حزم عن أنس بن مالك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد كلّ ليلة: لدوا للموت وينادي مناد: ابنوا للخراب، وينادي مناد: اللهمّ هب للمنفق خلفا، وينادي مناد: اللهم هب للممسك تلفا، وينادي مناد: ليت الناس لم يخلقوا، وينادي مناد: ليتهم إذ خلقوا فكروا فيما له خلقوا» [39] «1» .
وأخبرني الحسين بن محمد الحافظ قال: حدثنا موسى بن محمد قال: حدثنا الحسن بن علويه قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا المسيب، قال: حدثنا محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرّحمن عن أبيه قال: قال عمر لصهيب: إنك رجل لا تمسك شيئا، قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ.
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ،
وأخبرني أبو سفيان الثقفي قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا الحسن بن داود الخشاب قال: حدثنا سويد بن سعيد قال: حدثنا عبد الحميد بن الحسن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله فهو له صدقة وما وقى به عرضه فهو صدقة، وما أنفق المؤمن من نفقة فإنّ خلفها على الله ضامن إلّا ما كان نفقة في بنيان أو معصية» [40] «2» .
قال عبد الحميد: فقلت لمحمد: ما معنى «ما يقي به الرجل عرضه» ؟ قال: يعطي الشاعر أو ذا اللسان المتّقى.
وقال مجاهد: إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ فإنّ الرزق مقسوم، فلعل رزقه قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه، ومعنى الآية (ما كان من خلف فهو منه) ، وربما أنفق الإنسان ماله أجمع في الخير ثم لم يزل عائلا حتى يموت، ولكن ما كان من خلف فهو منه، ودليل تأويل مجاهد ما
أخبرني أبو سفيان الحسين بن محمد بن عبد الله قال: حدثنا محمد بن الحسين بن بشير قال: أخبرني أبو بكر بن أبي الخصيب قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا عمرو بن الحصين قال: حدثنا ابن علانة- وهو محمد- عن الأوزاعي عن ابن أبي موسى عن أبي أمامة قال: إنكم تؤوّلون هذه الآية على غير تأويلها وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ.
وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول وإلّا فصمتا: «إياكم والسّرف في المال والنفقة، وعليكم بالاقتصاد، فما افتقر قوم قط اقتصدوا» [41] «3» .
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 8/ 222.
(2) نصب الراية: 4/ 415.
(3) كنز العمال: 3/ 53 ح 5454.(8/92)
وقال (عليه السلام) : «ما عال من اقتصد» «1» [42] .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن هاشم البغوي قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا عاصم بن خالد قال: أخبرني أبو بكر قال: حدثنا حمزة عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من فقه الرجل رفقه في معيشته» [43] «2» .
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وإنما جاز الجمع لأنه يقال: رزق السلطان الجند، وفلان يرزق عياله، كأنه قال: وهو خير المعطين.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني هؤلاء الكفّار ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ في الدّنيا؟ فتتبرأ منهم الملائكة فتقول: سُبْحانَكَ: تنزيها لك. أَنْتَ وَلِيُّنا: ربنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي يطيعون إبليس وذريته وأعوانه في معصيتك. أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ: مصدقون.
قال قتادة: هو استفهام تقديره كقوله لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي ... «3» .
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا: شفاعة ولا عذابا، وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ في الدّنيا فقد وردتموها.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا يعني محمدا (عليه السلام) إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً يعنون القرآن وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَما آتَيْناهُمْ هؤلاء المشركين مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها يقرءونها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ. وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم رسلنا وتنزيلنا وَما بَلَغُوا يعني هؤلاء المشركين مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ يعني مكذبي الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ: إنكاري وتغيري عليهم، يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية.
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ آمركم وأوصيكم بِواحِدَةٍ بخصلة واحدة وهي أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ لأجل الله و (أن) في محل الخفض على البيان من (واحدة) والترجمة عنها مَثْنى يعني اثنين اثنين متناظرين، وَفُرادى واحدا واحدا متفكرين ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا جميعا، والفكر: طلب المعنى بالقلب، فتعلموا، ما بِصاحِبِكُمْ محمد مِنْ جِنَّةٍ جنون كما تقولون، و (ما) جحد ونفي. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ. قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ على تبليغ
__________
(1) مسند أحمد: 1/ 447.
(2) مجمع الزوائد: 4/ 74.
(3) سورة المائدة: 116.(8/93)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
الرسالة والنصيحة مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي ما ثوابي إلّا على الله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ: يرمي ويأتي بِالْحَقِّ ينزله من السماء إلى خير الأنبياء، عَلَّامُ الْغُيُوبِ رفع بخبر إن.
[سورة سبإ (34) : الآيات 49 الى 54]
قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قُلْ جاءَ الْحَقُّ القرآن والإسلام،
وقال الباقر: يعني السيف.
وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ يعني ذهب الباطل وزهق فلم تبق له بقية يبدي بها ولا يعيد، وهذا كقوله: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ «1» .
وقال الحسن: وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ، وهو كل معبود من دون الله لأهله خيرا في الدنيا وَما يُعِيدُ في الآخرة.
وقال قتادة: الباطل إبليس، أي ما يخلق إبليس أحدا ولا يبعثه،
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد الله بن إبراهيم بن علي عن محمد بن عمران بن هارون عن سفيان بن وكيع عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال:
دخل النبي صلّى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود معه ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً «2» جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ.
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وآخذ بجنايتي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ يعني من عذاب الدنيا، فلا نجاة وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يعني عذاب الدّنيا، وقال الضحاك وزيد بن أسلم: هو يوم بدر. الكلبي: من تحت أقدامهم.
وأخبرنا محمد بن نعيم عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن الحسن بن عطية عن يعقوب الأصفهاني عن ابن أبزي: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ قال: خسف بالبيداء.
أخبرني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا البغدادي أخبرهم قال: أخبرنا محمد بن
__________
(1) سورة الأنبياء: 18.
(2) سورة الإسراء: 81.(8/94)
جرير قال: حدّثني عصام بن رواد بن الجراح قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا سفيان بن سعيد قال:
حدّثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذكر فتنة تكون بين أهل الشرق والمغرب: «فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق، فيبعث جيشين: جيشا إلى المشرق، وجيشا إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف، ويبقرون بها أكثر من مائة امرأة، ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس، ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام، فتخرج راية هدى من الكوفة، فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم ولا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم، ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها. ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله سبحانه جبرائيل (عليه السلام) فيقول: يا جبرائيل اذهب فأبدهم. فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، فذلك قوله عز وجل في سورة سبأ: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ فلا ينفلت منهم إلّا رجلان: أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة» [44] «1» .
فلذلك جاء القول: «وعند جهينة الخبر اليقين» .
وقال قتادة: ذلك حين يخرجون من قبورهم، وقال ابن معقل: إذا عاينوا عذاب الله يوم القيامة وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه.
وَقالُوا حين عاينوا العذاب في الدنيا والآخرة وقت البأس آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى: من أين لَهُمُ التَّناوُشُ تناول التوبة ونيل ما يتمنون؟
قال ابن عباس: يسألون الراد وليس يحين الرد، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (التناؤش) : بالهمز والمد، وهو الإبطاء والبعد. يقال: تناشيت الشيء أي أخذته من بعيد، والنيش الشيء البطيء.
قال الشاعر:
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور «2»
وقال آخر:
وجئت نئيشا بعدها فاتك الخبر «3»
__________
(1) جامع البيان للطبري: 22/ 129.
(2) الصحاح: 3/ 1020. [.....]
(3) لسان العرب: 6/ 361.(8/95)
وقرأ الباقون: بغير همز، من التناول. يقال: نشته نوشا إذا تناولته.
قال الراجز:
فهي تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا «1»
وتناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضا وتدانوا، واختار أبو عبيد: ترك الهمز لأنّ معناه: التناول، وإذا همز كان معناه البعد. فكيف يقول: أنى لهم البعد مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ:
من الآخرة؟ فكيف يتناولون التوبة، وإنما يقبل التوبة في الدّنيا وقد ذهبت الدّنيا فصارت بعيدة من الآخرة؟
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، أي من قبل نزول العذاب وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، يعني يرمون محمدا صلّى الله عليه وسلم بالظنون لا باليقين، وهو قولهم: إنه ساحر، بل شاعر، بل كاهن، هذا قول مجاهد، وقال قتادة: يعني يرجمون بالظن، يقولون: لا بعث ولا جنّة ولا نار.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ، يعني التوبة والإيمان والرجوع إلى الدّنيا كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أي أهل دينهم وموافقهم من الأمم الماضية حين لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت البأس إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ.
__________
(1) الصحاح: 3/ 1023.(8/96)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
سورة الملائكة (فاطر)
أخبرني محمد بن القاسم الفارسي قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن مطير النيسابوري قال:
حدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال: حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال: حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثلاث أبواب من الجنّة أن ادخل من أي الأبواب شئت» [45] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
قوله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ يعني في أجنحة الملائكة.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا ابن شاذان قال: حدّثنا جعونة بن محمد قال: حدّثنا صالح بن محمد قال: حدثنا مسلم بن إياس عن عبد الله بن المبارك عن ليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل جبرائيل (عليه السلام) : أن يتراءى له في صورته، فقال له جبرائيل (عليه السلام) . «إنك لن تطيق ذلك» . قال: «إني أحبّ أن تفعل» .
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 8/ 230.(8/97)
فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المصلّى في ليلة مقمرة، فأتاه جبرائيل (عليه السلام) في صورته، فغشي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين رآه، فلما أفاق وجبرائيل (عليه السلام) مسنده واضعا إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سبحان الله ما كنت أرى أنّ شيئا من الخلق هكذا» . فقال جبرائيل عليه السلام: «فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام؟ إنّ له لاثني عشر جناحا جناح منها بالمشرق وجناح بالمغرب، وإنّ العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين «1» لعظمة الله عز وجل حتى يعود هذا الوصع- والوصع عصفور صغير- حتى ما يحمل عرشه إلّا عظمة» [46] .
وأخبرني أبو الحسن الساماني قال: أخبرني أبو حامد البلالي عن العباس بن محمد الدوري قال: أخبرني أبو عاصم النبيل عن صالح التاجي عن ابن جريج عن ابن شهاب في قول الله عز وجل: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قال: حسن الصورة.
وأخبرني الحسين بن محمد عن أحمد بن جعفر بن حمدان عن عبد الله بن محمد بن سنان عن سلمة بن حبان عن صالح التاجي عن الهيثم القارئ قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم في المنام فقال:
أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك؟ جزاك الله خيرا، وقيل: الخطّ الحسن.
أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شيبة عن ابن زنجويه عن سلمة عن يحيى بن أحمد الفزار ويحيى ابن أكثم قالا: أخبرنا أبو اليمان عن عاصم بن مهاجر الكلاعي عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الخط الحسن يزيد الحق وضحا.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثني الحسن بن علي بن يزيد الوشاء عن علي بن سهل الرملي قال: أخبرني الوليد بن مسلم عن خليد بن دعلج عن قتادة في قول الله عز وجل: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قال: الملاحة في العينين.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الزيادة والنقصان.
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ نعمة، فَلا مُمْسِكَ لَها: لا يستطيع أحد حبسها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ فيما أمسك الْحَكِيمُ فيما أرسل.
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ. قرأ سفيان بن سلمة وأبو جعفر وحمزة والأعمش والكسائي: غير بالخفض وهو اختيار أبي عبيد. الياقوت: بالرفع.
وهذه الآية حجة على القدرية لأنه نفى خالقا غيره وهم يثبتون معه خالقين كثيرين.
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
__________
(1) في الدر المنثور 1: 93 (الأحيان) .(8/98)
فعزى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، قراءة العامة بفتح الغين، وهو الشيطان، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال:
حدّثنا أبي قال: حدّثنا أحمد بن يزيد المقري عن محمد بن المصفى عن أبي حياة، قرأ: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغُرُورُ برفع الغين، وهي قراءة ابن السماك العدوي يدل عليه وما حدثنا.
قال: أخبرنا عبد الله بن حامد محمد بن خالد قال: أخبرنا داود بن سليمان قال: أخبرنا عبد بن حميد عن يحيى بن عبد الحميد عن ابن المبارك عن عبد الله بن عقبة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير: لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قال: أن يعمل المعصية ويتمنّى العفو.
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا: فعادوه ولا تطيعوه إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ: أشياعه وأولياءه لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ ليسوقهم إلى النار، فهذه عداوته ثم بيّن حال موافقيه ومخالفيه فقال عزّ من قائل: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ.
قوله: فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ أي شبّة وموّه وحسّن له سُوءُ: قبح عَمَلِهِ وفعله فَرَآهُ حَسَناً زين ذلك الشيطان بالوسواس ونفسه تميله إلى الشبهة وترك النظر في الحجة المؤدية إلى الحق، والله سبحانه وتعالى يخلقه ذلك في قلبه، وجوابه محذوف مجازه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ كمن لم يزين له سوء عمله ورأى الحق حقا والباطل باطلا؟ نظيره قوله: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «1» ، وقوله أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ «2» ونحوها.
وقيل: معناه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فأضلّه الله كمن هداه؟ دليله قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
وقيل: معناه تحت قوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، فيكون معناه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فأضله الله ذهبت نفسك عليه حسرة، أي تتحسف عليه؟ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، مجازه: أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، والحسرة: شدة الحزن على ما فات من الأمر.
وقراءة العامة: (تَذْهَبْ نَفْسُكَ) : بفتح التاء والهاء وضم السين، وقرأ أبو جعفر بضم التاء وكسر الهاء وفتح السين، ومعنى الآية: لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إذ لم يؤمنوا، نظيره فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ «3» .
__________
(1) سورة الرعد: 33.
(2) سورة الزمر: 9.
(3) سورة الكهف: 6، الشعراء: 3.(8/99)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ.
[سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 14]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ من القبور.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن خالد عن داود بن سليمان عن عبد بن حميد عن المؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين قال: قلت يا رسول الله: كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا؟» قلت: نعم.
قال: «فكذلك يحيى الله الموتى، وتلك آيته في خلقه» [47] «1» .
قوله عز وجل مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ، يعني علم العزة لمن هي، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً، وذلك أنّ الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزز كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «2» ، وقال سبحانه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا «3» ، كلّا، وردّ الله عليهم: من أراد أن يعلم لمن العزّة الحقيقة فآية العزّة لله، ومن أراد أن يكون في الدراين عزيزا فليطع الله فإنّ العزّة لله جميعا.
__________
(1) زاد المسير: 6/ 248.
(2) سورة النساء: 139.
(3) سورة مريم: 81.(8/100)
إِلَيْهِ أي إلى الله، ومعناه: إلى محل القبول وإلى حيث لا يملك فيه الحكم إلّا الله عز وجل، وهو كما يقال: ارتفع أمرهم إلى القاضي. يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يعني: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» وكل ذكر مرضي لله تعالى، وقرأ أبو عبد الرّحمن: (الكلام الطيب) ،
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الدينوري قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن أحمد الهمداني قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد المسكين البصري عن أحمد بن محمد المكي عن علي بن عاصم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: في قول الله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قال: «هو قول الرجل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، إذا قالها العبد عرج بها ملك إلى السماء فحيا بها وجه الرّحمن عزّ وجل، فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه» [48] .
واختلف العلماء في حكم هذه الكناية ومعنى الآية، فقال أكثر المفسرين: الهاء في قوله:
يَرْفَعُهُ راجعة إلى الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، يعني أنّ العمل الصالح يرفع الكلم فلا يقبل القول إلّا بالعمل، وهذا اختيار نحاة البصرة، وقال الحسن وقتادة: الْكَلِمُ الطَّيِّبُ: ذكر الله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ أداء فرائضه. فمن ذكر الله ولم يؤدّ فرائضه زاد كلامه على عمله، وليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقته «1» الأعمال. فمن قال حسنا وعمل غير صالح ردّ الله عليه قوله، ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه العمل ذلك فإن الله يقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
ودليل هذا التأويل
قوله (عليه السلام) : «لا يقبل الله قولا إلّا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلّا بنية [ولا يقبل قولا ونية إلّا باصابة السنة] » [49] .
وجاء في الخبر: «الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب» [50] «2» .
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
لا ترض من رجل حلاوة قوله ... حتى يزيّن ما يقول فعال «3»
فإذا وزنت فعاله بمقاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جمال
قال ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر، وفيه قيل:
لا يكون المقال إلّا بفعل ... إنما القول زينة في الفعال
__________
(1) في المخطوط: وصدقه.
(2) في قول علي (عليه السلام) : «الجنة بلا عمل حمق» راجع عيون الحكم: 317.
(3) تفسير القرطبي: 14/ 329.(8/101)
كل قول يكون لا فعل فيه ... مثل ماء يصبّ في غربال
وأنشدني أبو القاسم الحبيشي لنفسه:
لا يكون المقال إلّا بفعل ... وكلّ قول بلا فعال هباء
إنّ قولا بلا فعال جميل ... ونكاحا بلا ولي سواء «1»
وقال بعض أهل المعاني على هذا القول: معنى يَرْفَعُهُ، أي يجعله رفيعا ذا وزن وقيمة، كما يقال: طود رفيع ومرتفع، وقيل: العمل الصالح هو الخالص، يعني أنّ الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأعمال، دليله قوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً «2» أي خالصا ثم قال: وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «3» ، فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء، وقال قوم: هذه الكناية راجعة إلى العمل، يعني أنّ الكلم الطيب يرفع العمل فلا يرفع ولا يقبل عمل إلّا أن يكون صادرا عن التوحيد وعائد الذكر يرفع وينصب، وهذا التأويل اختيار نحاة الكوفة وقال آخرون: الهاء كناية عن العمل، والرفع من صفة الله سبحانه، أي يرفعه الله.
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي يعملون، قال مقاتل: يعني الشرك، وقال أبو العالية:
يعني الذين مكروا برسول الله صلّى الله عليه وسلم في دار الندوة، وقال الكلبي: الَّذِينَ يَمْكُرُونَ يعني يعملون السيئات في الدّنيا، وقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب: هم أصحاب الرياء. لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي يكسد ويفسد ويضل ويضمحل في الآخرة.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قراءة العامة: (يُنْقَصُ) بضم الياء، وقرأ الحسن وابن سيرين وعيسى (يَنْقُصُ) بفتح الياء وضم القاف، وقرأ الأعرج: مِنْ عُمْرِهِ بالتخفيف.
قال سعيد بن جبير: مكتوب في أول الكتاب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره.
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ: طيب سائِغٌ: جائز هني شَرابُهُ.
وقرأ عيسى: (سيّغ) مثل: ميّت وسيّد. وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ شديد الملوحة، عن: ابن عباس، وقال الضحاك: هو المرّ مزاجه كأنه يحرق من شدة المرارة والملوحة. وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا: طعاما شهيا، يعني: السمك من العذب والملح، وَتَسْتَخْرِجُونَ منه: من
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 329. [.....]
(2) سورة الكهف: 110.
(3) سورة الكهف: 110.(8/102)
الملح دون العذب حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني اللؤلؤ، وقيل: فيه عيون عذبة، ومما بينهما يخرج اللؤلؤ. وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ: جواري، وقال مقاتل: هو أن يرى سفينتين إحداهما مقبلة والأخرى مدبرة، وهذه تستقبل تلك وتلك تستدبر هذه، يجريان بريح واحدة، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله على نعمه.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا ابن شاذان قال: حدثنا جيفويه بن محمد قال: حدثنا صالح بن محمد عن القاسم بن عبد الله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «كلم الله البحرين فقيل للبحر الذي بالشام: يا بحر إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء، وإني حامل فيك عبادا يسبحونني ويحمدونني ويهللونني ويكبرونني فما أنت صانع بهم؟ قال: أغرقهم. قال الله عز وجل: فإني أحملهم على ظهرك وأجعل بأسك في نواحيك [وحاملهم على يدي] .
وقال للبحر الذي باليمن: إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء وإني حامل فيك عبادا لي يسبحونني ويحمدونني ويهللوني ويكبرونني فما أنت صانع بهم؟ قال: أسبحك وأحمدك وأهللك وأكبرك معهم، وأحملهم على [ظهري] بطني. قال الله سبحانه: فإني أفضلك على البحر الآخر بالحلية والطري» [51] «1» .
قوله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ وهي القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة، عن أكثر المفسرين. وقال ابن عباس: هو شق النواة، وقال السدي: هو ما ينقطع به القمع.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ: يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يعني نفسه تعالى.
__________
(1) ضعفاء العقيلي: 2/ 339 ترجمة 935 وما بين معقودين منه.(8/103)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 35]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، سئل الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه وتعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «1» فقال: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى طوعا وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ كرها.
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ يعني وَإِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ بذنوب غيرها إِلى حِمْلِها، أي حمل ما عليها من الذنوب لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى: ولو كان المدعوّ ذا قربى له: ابنه أو أمه أو أباه أو أخاه.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عن أحمد بن محمد بن رزمة القزويني عن محمد بن عبد ابن عامر السمرقندي قال: حدّثنا إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول:
قوله سبحانه: لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى قال: يعني الوالدة تلقي ولدها يوم القيامة فتقول: يا بني ألم تكن بطني لك وعاء؟ ألم يكن لك ثديي سقاء؟ فيقول: بلى يا أماه. فتقول: يا بني قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني ذنبا واحدا. فيقول: يا أماه إليك عني، فإني اليوم عنك مشغول.
إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافونه ولم يروه، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى صلح عمل خيرا وصالحا فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني: الجاهل والعالم، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ
__________
(1) سورة العنكبوت: 13.(8/104)
يعني: الكفر والإيمان، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ يعني: الجنة والنار، والحرور: الريح الحارة بالليل، والسموم بالنهار، وقال بعضهم: الحرور: بالنهار مع الشمس، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ يعني: المؤمنين والكفار. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، حتى يتعظ ويجيب وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ يعني: الكفار شبههم بالأموات، وقرأ أشهب العقيلي: (بِمُسْمِعِ مَنْ فِي الْقُبُورِ) بلا تنوين على الإضافة.
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ كرر وهما واحد لاختلاف اللفظين.
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها قدم النعت على الاسم فلذلك نصب. وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ: طرق، واحدها جدّة نحو مدة و (مدد) ، وأما جمع الجديد فجدد (بضم الدال) مثل: سرير وسرر بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ، قال الفراء: فيه تقديم وتأخير، مجازه: سود غرابيب، وهي جمع غربيب، هو الشديد السواد يشبّهها بلون الغراب قال الشاعر يصف كرما:
ومن تعاجيب خلق الله غاطية ... البعض منها ملاحيّ وغربيب «1»
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ قال: المؤرخ: إنما أَلْوانُهُ لأجل (من) «2» ، وسمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر محمّد بن عياش يقول:
إنما قال: أَلْوانُهُ لأجل أنها مردودة إلى «ما» في الإضمار، مجازه: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ ما هو مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ «3» .
كَذلِكَ تمام الكلام هاهنا، أي ومن هذه الأشياء مختلف ألوانه باختلاف الثمرات، ثم ابتدأ فقال سبحانه وتعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ روى عن عمر بن عبد العزيز أنه قرأ (إِنَّما يَخْشَى اللَّهُ) رفعا و (الْعُلَماءَ) نصبا، وهو اختيار أبي حنيفة على معنى يعلم الله، وقيل:
يختار، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة.
وقيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه عن إسحاق بن صدقة قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم عن سيف بن عمر قال: حدّثنا عباس بن
__________
(1) لسان العرب: 1/ 580.
(2) أي ذكّر ضمير (ألوانه) مراعاة ل (من) .
(3) تفسير القرطبي: 14/ 342.(8/105)
عوسجة عن عطاء الخراساني رفع الحديث قال: ظهر من أبي بكر خوف حتى عرف فيه فكلمه النبي صلّى الله عليه وسلم في ذلك فأنزل الله سبحانه تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ في أبي بكر رضي الله عنه وفي الحديث: «أعلمهم بالله أشدهم له خشية» [52] .
وقال مسروق: كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الربيعي قال:
حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أيوب المحرمي قال: حدثنا صالح بن مالك الأزدي قال: حدّثنا عبيد الله بن سعد عن صالح بن مسلم الليثي قال: أتى رجل الشعبيّ فقال: أفتني أيها العالم؟ فقال: العالم من خشي الله عز وجل.
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ الآية قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: هذه آية القراء، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: حدّثنا ابن شاذان قال: حدثنا جيعويه قال: حدّثنا صالح بن محمد عن عبد الله بن عبد الله عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي أنه قال: قام رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لي لا أحبّ الموت؟ قال: «ألك مال؟» . قال: نعم. قال: «فقدمه» . قال: لا أستطيع. قال: «فإنّ قلب المرء مع ماله إن قدمه أحب أن يلحق به، وإن أخّره أحب أن يتأخر معه» [53] «1» .
يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ، قال الفراء: قوله يَرْجُونَ جواب لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ.
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ. وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ مردود إلى ما قبله من كتب الله في قوله: لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، أي قبله من الكتب السالفة، أي أنزلنا تلك الكتب، ثُمَّ أَوْرَثْنَا هذا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، ويجوز أن تكون ثُمَّ بمعنى الواو أي (وأورثنا) كقوله:
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «2» أي وكان ومعنى أَوْرَثْنَا: أعطينا لأنّ الميراث عطاء، قاله مجاهد، وقال بعض أهل المعاني: أَوْرَثْنَا أي أخرنا، ومنه الميراث لأنه تأخر عن الميت ومعناه: أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهّلناكم له، وقال عنترة:
وأورثت سيفي عن حصين بن معقل ... إلى جده إني لثأري طالب
أي أخرت، وفي هذا كرامة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم حيث قال لهم: أَوْرَثْنَا وقال: لسائر الأمم وَرِثُوا الْكِتابَ الآية يعني القرآن.
__________
(1) بتفاوت في كنز العمال: 15/ 551 ح 42139 وتفسير الثعالبي: 1/ 303.
(2) سورة البلد: 17.(8/106)
الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا وهم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) . ثم قسمهم ثلاث طبقات ورتبهم على ثلاث درجات فقال الله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قيّد اللفظ وعلّق الظلم بالنفس فلذلك ساغ أن يكون من أهل الاصطفاء مع ظلمه.
فإن قيل: ما وجه الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق وإنما يقدم الأفضل؟
فالجواب عنه أن نقول: إنما أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنان والثواب، كما قدم الصوامع والبيع والصلوات في سورة الحج على المساجد التي هي أفضل بقاع الأرض، فتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله تعالى.
ومنهم من قال: إنما جعل ذلك لأن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى على الأفضل. كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «1» ، وقال:
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ «2» ، وقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ «3» وقال:
خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ «4» .
وقيل: قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته وأخر السابق لئلا يعجب بعمله.
وقال جعفر الصادق (عليه السلام) : «بدأ بالظالم إخبارا «5» أنه لا يتقرب إليه إلّا بصرف رحمته وكرمه، وأنّ الظلم لا يؤثّر في الاصطفائية ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله وكلّهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص»
[54] «6» .
وقال بعضهم: قدم الظالم لأنه لم يكن له شيء يتكل عليه إلّا رحمة الله فاعتمد على الله واتكل على رحمته واتكل المقتصد على حسن ظنه بربه واتكل السابق على حسناته وطاعته.
وقال محمد بن علي الترمذي: جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء لأنّ الاصطفاء أوجب الإرث لا الإرث أوجب الاصطفاء لذلك قيل: صحح النسبة ثم أطمع في الميراث.
وقال أبو بكر الوراق: إنما رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس لأنّ أحوال العبد ثلاث: معصية، وغفلة، ثم توبة وقربة. فإذا عصى دخل في حيّز الظالمين، وإذا تاب دخل في
__________
(1) سورة الرعد: 6.
(2) سورة الحج: 61.
(3) سورة الشورى: 49.
(4) سورة الملك: 2.
(5) في المصدر: قدم الظالم ليخبر. [.....]
(6) تفسير القرطبي: 14/ 349.(8/107)
جملة المقتصدين وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة اتصل بالله ودخل في عداد السابقين.
واختلف المفسرون والمتأوّلون في معنى الظالم والمقتصد والسابق فأكثروا، وأنا ذاكر نصوص ما قالوا وبالله التوفيق:
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن الحسين بن عبد الله الحافظ، قال: حدّثنا برهان ابن علي الصوفي والفضل بن الفضل الكندي قالا: أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب قال:
حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي ثابت أنّ رجلا دخل المسجد فقال: اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي ويسر لي جليسا صالحا. قال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا لأنا أسعد بذلك منك، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قرأ هذه الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فقال:
«أما السابق فيدخل الجنة بِغَيْرِ حِسابٍ، وأما المقتصد ف يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة، فهم [الذين] قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ... إلى قوله: لُغُوبٌ [55] «1» .
قال الكندي والأعمش عن رجل عن أبي ثابت: وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدّثني أبي عن إسحاق بن عيسى حدّثني أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة عن موسى بن عتبة عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فأما الذين سبقوا بالخيرات فأولئك الذين يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ... بِغَيْرِ حِسابٍ، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حِساباً يَسِيراً، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحسبون في طول المحشر ثم هم الذين تلقّاهم الله برحمته فهم الذين يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ... إلى قوله: لُغُوبٌ [56] «2»
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن سمعان الذرار قال: حدّثنا يوسف بن يعقوب بن الحسن المقرئ بواسط قال: حدّثنا محمّد بن خالد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا فرج بن فضالة عن أزهر بن عبد الله الحرازي قال: حدّثني من سمع عثمان بن عفان تلا هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الآية، فقال: سابقنا: أهل جهادنا، ومقصرنا: أهل حضرنا، وظالمنا: أهل بدونا.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 8/ 245، وكذلك في تفسير القرطبي: 14/ 351 بتفاوت.
(2) مسند أحمد: 5/ 198.(8/108)
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا محمد بن إسحاق قال: حدّثنا إسماعيل بن يزيد قال: حدّثنا داود عن الصلت بن دينار قال: حدّثنا عقبة بن صهبان قال: دخلت على عائشة فسألتها عن قول الله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ... فقالت لي: يا بني كلّهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا.
وقال مجاهد والحسن وقتادة: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالوا: هم أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ ... ،
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ هم أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ... وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ هم السَّابِقُونَ ... الْمُقَرَّبُونَ من الناس كلهم.
قال قتادة: فهذا في الدنيا على ثلاث منازل وعند الموت قال الله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ إلى قوله: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ «1» ، وفي الآخرة أيضا، قال عز وجل:
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ إلى قوله: الْمُقَرَّبُونَ «2» .
وقال ابن عباس: السابق: المؤمن المخلص، والمقتصد: المرائي، والظالم: الكافر بنعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها، وسمعت أبا محمد شيبة بن محمد بن أحمد الشعبي يقول: سمعت أبا بكر بن عبد يقول: قالت عائشة:
السابق: الذي أسلم قبل الهجرة، والمقتصد: الذي أسلم بعد الهجرة، والظالم: نحن.
وقال بكر بن سهل الدمياطي: الظالم لنفسه: الذي مات على كبيرة ولم يتب منها، والمقتصد: الذي لم يصب كبيرة، والسابق بالخيرات: الذي لم يعص الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وعن الحسن أيضا قال: السابق: من رجحت حسناته، والمقتصد: من استوى حسناته وسيئاته، والظالم: الذي ترجح سيئاته على حسناته.
سهل بن عبد الله: السابق: العالم، والمقتصد: المتعلم، والظالم: الجاهل، وعنه أيضا:
السابق: الذي اشتغل بمعاده، والمقتصد: الذي اشتغل بمعاده عن معاشه، والظالم: الذي اشتغل بمعاشه عن معاده.
وقيل: الظالم: طالب الدنيا، والمقتصد: طالب العقبى، والسابق، طالب المولى.
وقيل: الظالم: المسلم، والمقتصد: المؤمن، والسابق: المحسن.
__________
(1) سورة الواقعة: 90- 94.
(2) سورة الواقعة: 7- 11.(8/109)
وقيل: الظالم: المرائي في جميع أعماله، والمقتصد: من تكون أعماله بعضها رياء وبعضها إخلاصا، والسابق: المخلص في أفعاله كلها، وقيل: الظالم: من أخذ الدنيا حلالا كان أو حراما، والمقتصد: من يجتهد في طلب الحلال، والسابق: الذي ترك الدنيا جملة وأعرض عنها.
أبو عثمان الحبري: الظالم: من وجد الله بلسانه ولم يوافق فعله قوله، والمقتصد: من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه، والسابق: من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه وأخلص في عمله، وقيل: السابقون: هم المهاجرون الأولون، والمقتصدون: عامة الصحابة، والظالمون:
التابعون.
وسمعت محمد بن الحسين السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزاز بمصر يقول: قال ابن عطا: الظالم: الذي تحبه من أجل الدّنيا، والمقتصد: الذي تحبه من أجل العقبى، والسابق: الذي أسقط مراده بمراد الحق، فلا يرى لنفسه طلبا ولا مرادا لغلبة سلطان الحق عليه، وقيل: الظالم: من كان ظاهره خيرا من باطنه، والمقتصد: الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق: الذي باطنه خير من ظاهره.
وقيل: الظالم: الذي يعبد الله خوفا من النار، والمقتصد: الذي يعبده طمعا في الجنة، والسابق: الذي يعبده لا لسبب، وقيل: الظالم: الزاهد، والمقتصد: العارف، والسابق:
المحب، وقيل: الظالم: الذي يجزع عند البلاء، والمقتصد: الذي يصبر عند البلاء، والسابق:
الذي يتلذذ بالبلاء، وقيل: الظالم: الذي يعبده على الغفلة والعادة، والمقتصد: الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق: الذي يعبده على الهيبة ورؤية المنة، وقيل: الظالم: الذي أعطي فمنع، والمقتصد: الذي أعطي فبذل، والسابق: الذي منع فشكر، وقيل: الظالم: غافل، والمقتصد: طالب، والسابق واجد، وقيل: الظالم: من استغنى بماله، والمقتصد: من استغنى بدينه، والسابق: من استغنى بربه، وقيل: الظالم التالي للقرآن، والمقتصد: القارئ له والعالم به، والسابق: القارئ لكتاب الله العالم بكتاب الله العامل به، وقيل: السابق: الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن، والمقتصد: الذي يدخل المسجد وقد أذن، والظالم: الذي يدخل المسجد وقد أقيم، وقيل: الظالم: الذي يحب نفسه، والمقتصد: الذي يحب ربه، والسابق:
الذي يحبه ربه، وقيل: الظالم: مريد، والمقتصد: مراد، والسابق: مطلوب، وقيل: الظالم:
مدعو، والمقتصد مأذون له، والسابق: مقرب، وقيل: الظالم: عيوف، والمقتصد: ألوف، والسابق: حليف.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الظالم: ينتصف ولا ينصف، والمقتصد: ينصف وينتصف، والسابق ينصف ولا ينتصف.(8/110)
ذو النون المصري: الظالم: الذي لا يذكر الله بلسانه، والمقتصد: الذي يذكره بقلبه، والسابق: الذي لا ينسى ربه.
أحمد بن عاصم الأنطاكي: الظالم: صاحب الأقوال، والمقتصد: صاحب الأفعال، والسابق: صاحب الأحوال.
ثم جمعهم الله سبحانه وتعالى في دخول الجنة فقال سبحانه وتعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن زرعة قال: حدّثنا يوسف بن عاصم الرازي قال: حدّثنا أبو أيّوب سليمان بن داود المنقري المعروف بالشاذكوي عن حصين ابن نمير أبو محصن عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن أبيه عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الآية قال: «كلهم في الجنة» [57] «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن محمد بن علي بن الحسين الفأفاء القاضي قال:
حدّثنا بكر بن محمد المروزي قال: حدّثنا أبو قلابة قال: حدّثنا عمرو بن الحصين عن الفضل بن عميرة عن ميمون الكردي عن أبي عثمان الهندي قال: سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر:
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الآية فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج «2» ، وظالمنا مغفور له» [58] «3» . قال أبو قلابة: فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه.
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشير قال: حدثنا أبو الحرث أحمد بن سعيد بن أمّ سعيد قال: حدّثنا الربيع بن سليمان المرادي قال: حدّثنا أسيد بن موسى عن ابن ثومان عن عطاء ابن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله سبحانه به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا» «4» [59] .
وَقالُوا أي يقولون إذا دخلوا الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ أخبرني الحسين بن محمد العدل قال: حدّثنا محمد بن المظفر قال: حدّثنا علي بن إسماعيل بن حماد البغدادي قال: حدّثنا عمرو بن علي الفلاس قال: حدّثنا معاذ بن هشام، قال حدّثني أبي عن
__________
(1) تفسير الطبري: 22/ 160 ح 22175.
(2) في المخطوط: ناجي.
(3) كنز العمال: 2/ 10 ح 2925.
(4) المعجم الأوسط: 8/ 362.(8/111)
عمرو بن مالك عن ابن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال: حزن النار.
وأخبرني الحسين بن محمد عن محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا أبو شعيب الحراني قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي داود الحراني قال: حدّثنا جرير عن أشعث بن قيس عن شمر بن عطية في قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال حزن الخبز.
عكرمة: حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات، وقيل: حزن الموت، وقيل: حزن الجنة والنار لا يدرى إلى أيهما يصير. الثمالي: حزن الدنيا. الضحاك: حزن إبليس ووسوسته.
ذو النون: حزن القطيعة.
الكلبي: يعني الحزن الذي يحزننا في الدنيا من يوم القيامة، وقيل: حزن العذاب والحساب، وقيل: حزن أهوال الدنيا وأوجالها، وقال القاسم: حزن زوال النعم وتقليب القلب وخوف العاقبة.
وسمعت السلمي يقول: سمعت النصرآبادي يقول: ما كان حزنهم إلّا تدبير أحوالهم وسياسة أنفسهم، فلما نجوا منها حمدوا وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ،
أخبرني أبو عبد الله الدينوري قال: أخبرني أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «ليس على أهل (لا إله إلّا الله) وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في منشرهم، وكأني بأهل (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [60] «1» .
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أي الإقامة مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي كلال وإعياء وفتور، وقراءة العامة بضم اللام، وقرأ السلمي بنصب اللام وهو مصدر أيضا كالولوع، وقال الفراء: كأنه جعله ما يلغب مثل لغوب.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن مهدي قال: أبو عبد الله محمد بن زكريا بن محمدويه «2» الرجل الصالح عن عبد الله بن عبد الوهاب الخوارزمي قال: حدّثنا عاصم بن عبد الله قال: حدّثني إسماعيل عن ليث بن أبي سليم عن الضحاك بن مزاحم في قول الله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال: إذا
__________
(1) كتاب الدعاء للطبراني: 436، والمعجم الأوسط: 9/ 181.
(2) كذا في الأصل.(8/112)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
دخل أهل الجنة استقبلهم الولدان والخدم كأنهم اللؤلؤ المكنون. قال: فيبعث الله ملكا من الملائكة معه هدية من رب العالمين وكسوة من كسوة الجنة فيلبسه. قال: فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك: كما أنت فيقف ومعه عشرة «1» خواتيم من خواتيم الجنة هدية من رب العالمين فيضعها في أصابعه. مكتوب في أول خاتم منها: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ
«2» ، وفي الثاني مكتوب: ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ «3» ، وفي الثالث مكتوب: «رفعت عنكم الأحزان والهموم» ، وفي الرابع مكتوب: «زوجناكم الحور العين» ، وفي الخامس مكتوب: «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» ، وفي السادس مكتوب: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا «4» ، وفي السابع مكتوب:
«أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ» ، وفي الثامن: «صرتم آمنين لا تخافون» ، وفي التاسع مكتوب: «رافقتم النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ» ، وفي العاشر مكتوب: «سكنتم في جوار من لا يؤذي الجيران» . ثم تقول الملائكة: «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» .
فلما دخلوا بيوتا ترفع قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.. إلى قوله: لُغُوبٌ.
[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 45]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
__________
(1) في المخطوط: عشر.
(2) سورة الزمر: 73.
(3) سورة ق: 34. [.....]
(4) سورة المؤمنون: 111.(8/113)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي لا يقبضون فيستريحون.
وذكر عن الحسن: فيموتون، و (لا) يكون حينئذ جوابا للنفي، والمعنى: لا يقضى عليهم ولا يموتون. كقوله: لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «1» .
وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ قراءة العامة بنصب النون واللام وقرأ أبو عمرو بضم الياء واللام وفتح الزاي على غير تسمية الفاعل.
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ: يدعون ويستغيثون ويصيحون فيها، وهو افتعال من الصراخ، ويقال للمغيث: صارخ وللمستغيث: صارخ. رَبَّنا أَخْرِجْنا من النار نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ في الدّنيا، فيقول الله عز وجل: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ. اختلفوا في هذه المدة، فقال قتادة والكلبي: ثماني عشرة سنة، وقال الحسن: أربعون سنة، وقال ابن عباس:
ستون سنة.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه «2» قال: حدّثنا ابن شنبه وأحمد بن جعفر بن حمدان قالا:
حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة حدّثنا ابن أبي فديك عن عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي حصين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين؟ وهو الذي قال الله عز وجل فيه: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» [61] «3» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن حرجة قال: حدّثنا محمد بن أيوب قال:
حدّثنا الحجبي عن عبد العزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يحدث عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من عمّره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» [62] «4» .
وأخبرني ابن فنجويه عن أحمد بن جعفر بن حمدان عن إبراهيم بن سهلويه عن الحسين بن عرفة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك» [63] «5» .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «معترك منايا أمتي ما بين الستين إلى السبعين» «6» [64] .
__________
(1) سورة المرسلات: 36.
(2) في بعض كتب الرجال اثبت بالفاء وفي بعضها بالميم: منجويه.
(3) مجمع الزوائد: 7/ 97.
(4) مسند أحمد: 2/ 417.
(5) مسند أبي يعلى: 10/ 390، والسنن الكبرى للبيهقي: 3/ 370.
(6) تفسير القرطبي: 4/ 145، وكشف الخفاء: 1/ 146.(8/114)
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي الرسول، وقال زيد بن علي: القرآن، وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسين بن الفضل: يعني الشيب، وفيه قيل:
رأيت الشيب من نذر المنايا ... لصاحبها وحسبك من نذير «1»
فحدّ الشيب أهبة ذي وقار ... فلا خلف يكون مع القتير
وقال آخر:
وقائلة تبيض والغواني ... نوافر عن معاينة القتير «2»
فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسودا وجه النذير
فَذُوقُوا أي العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ. إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً غضبا وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً. قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أي في الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً يأمرهم بذلك فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعمش وحمزة بَيِّنَةٍ على الواحد، وقرأ غيرهم (بينات) بالجمع، وهو اختيار أبي عبيد قال: لموافقة الخط. فإني قد رأيتها في بعض المصاحف بالألف والتاء. بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً، روى مغيرة عن إبراهيم قال: جاء من أصحاب عبد الله بن مسعود إلى كعب ليتعلم من علمه، فلما رجع قال عبد اللَّه:
هات الذي أصبت من كعب. قال: سمعت كعبا يقول: إنّ السماء تدور في قطبة مثل قطبة الرحا في عمود على منكب ملك. فقال عبد الله: وددت أنك انفلتّ من رحلتك براحلتك ورحلها، كذب كعب ما ترك يهوديته بعد، إنّ الله عز وجل يقول: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا الآية، إن السماوات لا تدور، ولو كانت تدور لكانت قد زالت.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ وذلك أنّ قريشا لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى دينا منهم، وهذا قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد صلّى الله عليه وسلم كذبوه فأنزل الله عز وجل:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، يعني اليهود والنصارى، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ: محمد صلّى الله عليه وسلم ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً بعدا ونفارا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 354.
(2) تفسير مجمع البيان: 8/ 249.(8/115)
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ ونصب اسْتِكْباراً على البدل من النفور، قاله الأخفش، وقيل:
على المصدر، وقيل: نزع الخافض. وَمَكْرَ السَّيِّئِ يعني العمل القبيح، وقال الكلبي: هو إجماعهم على الشرك وقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، أي لا يحل ولا ينزل، ويحيط ويلحق فقتلوا يوم بدر، وقراءة العامة: السَّيِّئِ بإشباع الإعراب فيها، وجزم الأعمش وحمزة (ومكر السّي) تخفيفا وكراهة لالتقاء الحركات ولم يعملا ذلك في الأخرى، والقراءة المرضية ما عليه العامة.
وفي الحديث أنّ كعبا قال لابن عباس: قرأت في التوراة: من حفر حفرة وقع فيها. فقال ابن عباس: أنا أوجد لك ذلك في القرآن، ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا محمد بن الحسن البلخي قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري قال:
بلغنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن: الله سبحانه وتعالى يقول: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، ولا تبغ ولا تعن باغيا، بقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «1» ولا تنكث ولا تعن ناكثا فإنّ الله سبحانه يقول: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ «2» » [65] «3»
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يعني العذاب إذا كفروا فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً. وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من الجرائم ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها، يعني الأرض كناية عن غير مذكور مِنْ دَابَّةٍ.
قال الأخفش والحسين بن الفضل: أراد بالدابة: الناس دون غيرهم، وأجراها الآخرون على العموم.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه [عن] الفربابي قال: حدّثني أبو مسعود أحمد بن الفرات قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا أصاب الله عز وجل قوما بعذاب أصاب به من بين ظهرانيهم ثم يبعثون على أعمالهم يوم القيامة» [66] .
__________
(1) سورة يونس: 23.
(2) سورة الفتح: 10.
(3) تفسير القرطبي: 14/ 360، اختلاف في الحديث.(8/116)
وقال قتادة في هذه الآية: قد فعل الله ذلك في زمن نوح فأهلك الله ما على ظهر الأرض من دابة إلّا ما حمل في سفينة نوح، وقال ابن مسعود: كاد الجعل يعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ هذه الآية، وقال أنس: إنّ الضب ليموت هزلا في جحره بذنب ابن آدم، وقال يحيى ابن أبي كثير: أمر رجل بمعروف ونهى عن منكر، فقال له رجل: عليك نفسك فإنّ الظالم لا يضر إلّا نفسه. فقال أبو هريرة: كذبت والذي نفسي بيده، إنّ الحباري لتموت هزلا في وكرها بظلم الظالم.
وقال أبو حمزة الثمالي في هذه الآية: يحبس المطر فيهلك كل شيء.
وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً.(8/117)
سورة يس
مكيّة، وهي ثلاثة آلاف حرف وسبعمائة وتسع وعشرون كلمة وثلاث وثمانون آية في فضلها:
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد الناقد قال: أخبرني أبو العباس محمد بن إسحاق السراج قال: حدّثنا حميد بن عبد الرّحمن عن الحسين بن صالح عن هارون أبي محمد عن مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لكل شيء قلب وإنّ قلب القرآن (يس) ومن قرأ (يس) كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» [67] «1» .
وأخبرني محمد بن الحسين بن محمد قال: حدّثنا محمد بن محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن مسلم الملطي بمصر قال: حدّثنا إسماعيل بن محمود النيسابوري قال: حدّثنا أحمد بن عمران الرازي عن محمد بن عمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ في القرآن لسورة تشفع لقرائها ويغفر لمستمعها، ألا وهي سورة يس» [68] «2» .
وأخبرنا أبو الحسن عبد الرّحمن بن محمد بن إبراهيم الطبراني بها قال: حدّثنا العباس بن محمد بن قوهيار قال: حدّثنا الفضل بن حماد وأخبرنا أحمد بن أبي الفراتي قال: أخبرنا أبو نصر السرخسي قال: حدّثنا محمد بن أيوب قالا: حدّثنا إسماعيل بن أبي أوس عن محمد بن عبد الرّحمن بن أبي بكر الجدعاني عن سليمان بن مرقاع عن هلال بن الصلت أنّ أبا بكر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يس تدعى المعمة» . قيل: يا رسول الله وما المعمة؟ قال: «تعم صاحبها:
خير الدنيا وتدفع عنه أهاويل الآخرة، وتدعى الدافعة والقاضية» قيل: يا رسول الله وكيف ذلك؟
قال: «تدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة، ومن قرأها عدلت له عشرون حجة، ومن سمعها كان له ألف دينار في سبيل الله، ومن كتبها وشربها أدخلت [جوفه] «3» ألف دواء وألف
__________
(1) سنن الدارمي: 2/ 456 بتفاوت.
(2) تفسير القرطبي: 15/ 1. [.....]
(3) في المخطوط: جوفها.(8/118)
يقين وألف زلفى وألف رحمة، ونزع عنه كل داء وغل» [69] «1» .
وأخبرنا أبو الحسن بن أبي إسحاق المزكي قال: حدّثنا أبو الأحرز محمد بن عمر بن جميل قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم- وهو أبو بسطام البغدادي- قال: حدّثنا إسماعيل ابن إبراهيم قال: حدّثنا يوسف بن عطية عن هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ (يس) يريد بها الله عز وجل غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتي عشرة «2» مرة، وأيما مريض قرئت عنده سورة (يس) نزل عليه بعدد كل حرف عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا فيصلون ويستغفرون له ويشهدون قبضه وغسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه، وأيما مريض قرأ سورة يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان خازن الجنان بشربة من الجنة فيشربها وهو على فراشه فيموت وهو ريان ويبعث وهو ريان ويحاسب وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان» [70] «3» .
وحدّثنا أبو الفضل علي بن محمّد بن أحمد بن علي الشارعي الخوارزمي إملاء قال: حدّثنا أبو سهل بن زياد القطان قال: حدّثنا ابن مكرم قال: حدّثنا مصعب بن المقدّم قال: حدّثنا أبو المقدام هشام عن الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (يس) في ليلة أصبح مغفورا له» [71] «4» .
وأخبرني الحسين بن محمد الثقفي قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا حمزة بن الحسين بن عمر البغدادي قال: حدّثنا محمد بن أحمد الرياحي قال: حدّثنا أبي قال:
حدّثنا أيوب بن مدرك عن أبي عبيدة عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من دخل المقابر فقرأ سورة (يس) خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات» [72] «5» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا علي بن ماهان عن علي بن محمد الطنافسي قال: حدّثنا عبد الرّحمن المحاربي قال: حدّثنا عامر بن يساف اليمامي عن يحيى بن كثير قال: بلغنا أنه من قرأ (يس) حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي، ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرح حتى يصبح، وقد حدّثني من جربها.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 1.
(2) في المخطوط: اثني عشر.
(3) تفسير مجمع البيان: 8/ 254 بتفاوت.
(4) الجامع الصغير: 2/ 633 ح 8934.
(5) تفسير مجمع البيان: 8/ 254.(8/119)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
يس اختلف القراء فيه، فقرأ حمزة والكسائي وخلف في أكثر الروايات يِس بكسر الياء بين اللفظين قراءة أهل المدينة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
الباقون: بفتح الياء، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وحمزة وأيوب وأبو حاتم وعاصم في أكثر الروايات، (يسين) ، بإظهار النون والسكون.
واختلف فيه عن نافع وابن كثير، فقرأ عيسى بن عمر: (يَس) بالنصب، شبهه ب (أين) و (كيف) ، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر النون، شبهه بأمس ورقاش وحذام وقرأ هارون الأعور:
بضم النون، شبهه بمنذ وحيث وقطّ. الآخرون: بإخفاء النون.
واختلف المفسرون في تأويله، فقيل: قسم، وقال ابن عباس: يعني يا إنسان بلغة طيئ عطا: بالسريانية، وقال أبو العالية: يا رجل، وقال سعيد بن جبير: يا محمّد، دليله قوله: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
وقال السيد الحميري:
يا نفس لا تمحضي بالنصح جامدة ... على المودة إلّا آل ياسينا «1»
وقال أبو بكر الوراق: يا سيد البشر.
فإن قيل: لم عدّ يس آية ولم يعد طس آية؟
فالجواب أنّ طس أشبه قابيل من جهة الزنة والحروف الصحاح ويس أوله حرف علة وليس مثل ذلك في الأسماء المفردة، فأشبه الجملة والكلام التام وشاكل ما بعده من رؤوس الآي.
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وهو جواب لقول الكفار: لَسْتَ مُرْسَلًا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 4.(8/120)
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ قرأ ابن عامر وأهل الكوفة بنصب اللام على المصدر كأنه قال: نزل تنزيلا، وقيل: على الخروج من الوصف، وقرأ الآخرون بالرفع أي هو تنزيل الْعَزِيزِ: الشديد المنع على الكافرين الرَّحِيمِ: ب [عباده] «1» وأهل طاعته.
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ في الفترة، وقيل: بما أنذر آباؤهم فَهُمْ غافِلُونَ عن الإيمان والرشد.
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ وجب العذاب عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. إِنَّا جَعَلْنا، نزلت في أبي جهل وأصحابه المخزوميين، وذلك
أنّ أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمدا يصلّي ليرضخن برأسه. فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده. فلما عاد إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر، فقال رجل من بني مخزوم: أنا أقتله بهذا الحجر.
فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه وقالوا له: ما صنعت؟ فقال: ما رأيته، ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني
، فأنزل الله عز وجل: إِنَّا جَعَلْنا.
فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ: مغلولون، وأصل الإقماح غض البصر ورفع الرأس، يقال: بعير مقمح إذا رفع رأسه وغض بصره، وبعير قامح إذا أروى من الماء فأقمح. قال الشاعر يذكر سفينة كان فيها:
ونحن على جوانبها قعود ... نغضّ الطرف كالإبل القماح «2»
وقال أبو عبيدة: هذا على طريق المثل، ولم يكن هناك غل، إنما أراد: منعناهم عن الإيمان وعما أرادوا بموانع، فجعل الأغلال مثلا لذلك، وفي الخبر أنّ أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية، فلما أسلم أتته المرأة- واسمها أم مالك- فراودته عن نفسه، فأبى وأنشد يقول:
فليس كعهد الدار يا أمّ مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل «3»
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل «4»
أراد منعنا: بموانع الإسلام عن تعاطي الزنا والفسق، وقال عكرمة: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا يعني ظلمات وضلالات كانوا فيها.
__________
(1) كلمة غير مقروءة والظاهر ما أثبتناه.
(2) الصحاح: 1/ 397.
(3) الصحاح: 2/ 516.
(4) تفسير القرطبي: 7/ 301.(8/121)
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ: فأعميناهم، العامة بالغين.
أخبرني الحسن بن محمد الثقفي قال: حدّثنا البغوي ببغداد قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن أبي شنبه البغدادي قال: حدّثنا أبو القاسم عثمان بن صالح الحناط قال: حدّثنا عثمان بن عمر عن شعبة عن علي بن نديمة قال: سمعت عكرمة يقول: فأعشيناهم- بالعين غير معجمة- وروى ذلك عن ابن عباس.
فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أخبرنا ابن فنجويه الدينوري عن عبد الله بن محمد بن شنبه قال: حدّثنا عمير بن مرداس قال: حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا الحسين بن الوليد قال: حدّثنا حنان بن زهير العدوي عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه عن الفربابي قال: حدّثنا عبيد الله بن معاذ قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا محمد بن عمرو الليثي أنّ الزهري حدثه قال: دعا عمر بن عبد العزيز غيلان القدري فقال: يا غيلان بلغني أنك تكلم في القدر؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنهم يكذبون عليّ.
قال: يا غيلان اقرأ أول سورة (يس) فقرأ: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. فقال غيلان: يا أمير المؤمنين والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم، أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول في القدر. فقال عمر بن عبد العزيز:
اللهم إن كان صادقا فتب عليه، وإن كان كاذبا فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين.
قال: فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه عن الفربابي قال: حدّثنا عبد الله بن معاذ قال:
حدّثنا أبي عن بعض أصحابه قال: حدث محمد بن عمير بهذا الحديث ابن عون، فقال ابن عون: أنا رأيته مصلوبا على باب دمشق.
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ يعني إنما ينفع إنذارك- لأنه كان ينذر الكل- مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ: القرآن فعمل به وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ: أخبره بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى عند البعث وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا من الأعمال وَآثارَهُمْ ما استن به بعدهم، نظيره قوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
«1» ، وقوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ «2» .
وقال المغيرة بن شعبة والضحاك: نزلت في بني عذرة، وكانت منازلهم بعيدة عن المسجد فشق عليهم حضور الصلوات، فأنزل الله عز وجل: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ يعني خطاهم إلى المسجد.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفربابي قال: حدّثنا
__________
(1) سورة القيامة: 13.
(2) سورة الانفطار: 5.(8/122)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
حنان بن موسى قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد الحريري عن أبي نضرة عن جابر عن عبد الله قال: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حول المسجد خالية فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم فأتانا في ديارنا فقال: «يا بني سلمة، بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد؟» فقالوا: يا رسول الله، بعد علينا المسجد، والبقاع حول المسجد خالية. فقال: «يا بني سلمة، دياركم فإنما تكتب آثاركم» . قال:
فما وددنا بحضرة المسجد لمّا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليه الذي قال. [73] «1» .
أخبرنا أبو علي الروزباري قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن مهرويه الرازي قال: حدّثنا أبو حاتم الرازي قال: حدّثنا قرة بن حبيب قال: حدّثنا عتبة بن عبد الله عن ثابت عن أنس في قوله سبحانه: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ قال: الخطى يوم الجمعة.
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ علمناه وعدّدناه وبيناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ وهو اللوح المحفوظ.
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 44]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
__________
(1) صحيح ابن حبان: 5/ 390. [.....](8/123)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ وهي أنطاطية إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ يعني رسل عيسى: قالت العلماء بأخبار الأنبياء: بعث عيسى (عليه السلام) رسولين من الحواريين إلى أنطاكية، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات وهو حبيب صاحب (يس) ، فسلما عليه، فقال الشيخ: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرّحمن. فقال:
أمعكما آية؟ قالا: نعم، نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله. فقال الشيخ: إنّ لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين. قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله.
فأتى بهما إلى منزله، فمسحها ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحا، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على يديهما كثيرا من المرضى، وكان لهم ملك يقال له سلاحين، وقال:
وهب اسمه ابطيحيس، وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام، قالوا: فانتهى الخبر إليه فدعاهما، فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى. قال: وما آيتكما؟ قالا: نبرئ الأكمه والأبرص، ونشفي المرضى بإذن الله. قال: وفيم جئتما؟ قالا: جئناك ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر. فقال الملك: أو لنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك. قال: قوما حتى أنظر في أمركما. فتتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق.
وقال وهب بن منبه: بعث عيسى (عليه السلام) هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها فطالت مدة مقامهما، فخرج الملك ذات يوم: فكبرا وذكرا الله، فغضب الملك وأمر بهما فأخذا وحبسا وجلد كل واحد منهما مائة جلدة. قالوا: فلما كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما لينصرهما.
فدخل شمعون البلدة متنكرا وجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفع خبره إلى الملك فدعاه فرضي عشرته، وآنس به وأكرمه. ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل كلمتهما وسمعت قولهما؟
فقال الملك: حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإذا رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما.
فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك. فقال لهما شمعون: فصفاه وأوجزا. فقالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال شمعون: وما آيتكما؟ قالا له: ما تتمناه. فأمر الملك حتى جاءوا بغلام مطموس العينين موضع عينيه كالجبهة. فما زالا يدعوان ربّهما حتى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاهما «1» في حدقتيه فصارتا مقلتين فبصر بهما، فتعجب الملك، فقال شمعون للملك: أرأيت [لو] سألت إلهك حتى يصنع صنيعا مثل هذا فيكون لك الشرف ولإلهك.
__________
(1) في المخطوط: فوضعا.(8/124)
فقال له الملك: ليس عندي سر إنّ إلهنا الذي نعبده لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويصلّي كثيرا ويتضرع، حتى ظنوا أنه على ملتهم.
وقال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما. قالا:
إلهنا قادر على كل شيء. فقال الملك: إنّ ها هنا ميتا مات منذ سبعة أيام ابنا لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا. فجاؤوا بالميت وقد تغيّر وأروح، فجعلا يدعوان ربهما علانية، وجعل شمعون يدعو ربه سرا. فقام الميت وقال: إني قد مت منذ سبعة أيام، ووجدت مشركا فأدخلت في تسعة أودية من النار، وأنا أحذركم ما أنتم فيه، فآمنوا بالله.
ثم قال: فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة. قال الملك: ومن الثلاثة؟ قال: شمعون وهذان، وأشار إلى صاحبيه. فتعجب الملك، فلما علم شمعون أنّ قوله أثر في الملك أخبره بالحال ودعاه، فآمن قوم وكان الملك فيمن آمن، وكفر آخرون.
وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب: بل كفر الملك، وأجمع هو وقومه على قتل الرسل، فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم ويذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين فذلك قوله سبحانه: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ.
واختلفوا في اسميهما، فقال ابن عباس: تاروص وماروص، وقال وهب: يحيى ويونس، ومقاتل: تومان ومانوص.
فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أي فقوّينا برسول ثالث. قرأ طلحة بن مصرف وعاصم عن حفص: فَعَزَزْنا مخففا، أي فغلبناهم، من عزيز برسول ثالث وهو شمعون.
وقال مقاتل: شمعان، وقال كعب: الرسولان صادق وصدوق والثالث شلوم وإنما أضاف الإرسال إليه لأن عيسى (عليه السلام) إنما بعثهم بأمره عزّ وجل، وكانوا في جملة الرسل، فقالوا جميعا لأهل أنطاكية: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ: ما أنتم إلّا كاذبون. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا تشاء منا.
بِكُمْ، قال مقاتل: حبس عنهم المطر فقالوا: هذا بشؤمكم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ، قال قتادة: بالحجارة، وقال آخرون: لنقتلنكم، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ. قالُوا طائِرُكُمْ: شؤمكم مَعَكُمْ بكفركم، وقال ابن عباس والضحاك: حظّكم من الخير والشر.
قال قتادة: أعمالكم، وقرأ الحسن والأعرج: طيركم.(8/125)
أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ وعظتم، وقرأ أبو جعفر بالتخفيف، يعني من حيث ذكرتم، وجوابه محذوف مجازه: أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ قلتم هذا القول، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ: مشركون مجاوزون الحد.
قوله: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى وهو حبيب بن مري، وقال ابن عباس ومقاتل: حبيب بن إسرائيل النجار، وقال وهب: وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان مؤمنا ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين: فيطعم نصفا عياله ويتصدق بنصفه، فلما بلغه أنّ قومه قصدوا قتل الرسل جاءهم فقال:
يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ، قال قتادة: لما انتهى حبيب إلى الرسل قال لهم: تسألون على هذا من أجر؟ قالوا: لا. فقال ذلك. قال: وكان حبيب في غار يعبد ربه، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وما هو عليه من التوحيد وعبادة الله، فقيل له: وأنت مخالف لديننا وتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم؟ فقال: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ. إِنِّي إن فعلت ذلك إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ
فلما قال لهم ذلك وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه ولم يكن أحد يدفع عنه.
قال عبد الله بن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قضيبه من دبره، وقال السدّي: كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي حتى قطعوه وقتلوه، وقال الحسن: خرقوا خرقا في حلقة فعلقوه من سوق المدينة، وقبره في سور أنطاكية فأوجب الله له الجنة، فذلك قوله: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ.
فلما أفضى إلى جنة الله وكرامته، قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ.
أخبرنا أبو بكر عبد الرّحمن بن عبد الله بن علي بن حمشاد المزكى بقراءتي عليه في شعبان سنة أربعمائة فأقرّ به قال: أخبرنا أبو ظهير عبد الله بن فارس بن محمد بن علي ابن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب في شهر ربيع الأول سنة ست وأربع وثلاثمائة قال: حدّثنا إبراهيم بن الفضل بن مالك قال: حدّثنا عن أخيه عيسى عن عبد الرّحمن ابن أبي ليلى عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين:
علي بن أبي طالب، وصاحب آل يس، ومؤمن آل فرعون، فهم الصديقون وعلي أفضلهم» [74] «1» .
قالوا: فلما قتل حبيب غضب الله له وعجّل لهم النقمة، فأمر جبرئيل (عليه السلام) فصاح
__________
(1) كنز العمال: 11/ 601 ح 32898 وتفسير مجمع البيان: 8/ 269، وتفسير القرطبي: 15/ 20 وفيه:
(الصديقون ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل يس، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم) .(8/126)
بهم صيحة ماتوا عن آخرهم، فذلك قوله عز وجل: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، وفي مصحف عبد الله: (إن كانت إلّا زقية واحدة) ، وهي الصيحة أيضا وأصلها من الزقا، وقرأ أبو جعفر: صيحةٌ بالرفع، جعل الكون بمعنى الوقوع فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ميتون.
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ قال عكرمة: يعني على أنفسهم، وفيه قولان:
أحدهما: أنّ الله يقول: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ وكآبة عليهم حين لم يؤمنوا.
والآخر: أنه من قول الهالكين. قال أبو العالية: لما عاينوا العذاب قالوا: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ يعني الرسل الثلاثة حين لم يؤمنوا، بهم فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم، وقرأ عكرمة:
يا حَسْرَهْ عَلَى الْعِبادِ بجزم الهاء ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وكان خبر الرسل الثلاثة في أيام ملوك الطوائف.
أَلَمْ يَرَوْا يعني أهل مكة كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ؟ والقرن: أهل كل عصر سموا بذلك لاقترابهم في الوجود أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ. وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا بالتشديد، ابن عامر والأعمش وعاصم وحمزة. الباقون: بالتخفيف. فمن شدد جعل (إِنْ) بمعنى الجحد، و (لَمَّا) بمعنى (إلّا) ، تقديره: وما كل إلا جميع، كقولهم: سألتك لما فعلت، أي إلّا فعلت، ومن خفف جعل (إن) للتحقيق وحققه، وما صلة، مجازه: وكل جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ. وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها بالمطر، وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ:
بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ، قرأ الأعمش: بضم الثاء وجزم الميم (ثُمْرِهِ) ، وقرأ [خلف] ويحيى وحمزة والكسائي بضم الثاء والميم، وقرأ الآخرون بفتحهما «1» وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قرأ العامة بالهاء، وقرأ عيسى بن عمر وأهل الكوفة:
(عملت) بلا هاء، ويجوز في (ما) ثلاثة أوجه:
الوجه الأوّل: الجحد، بمعنى ولم تعمله أيديهم، أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها، وهذا معنى قول الضحاك ومقاتل.
والوجه الثاني معنى المصدر، أي ومن عمل أيديهم.
والوجه الثالث معنى الذي، [أي وما عملت أيديهم] من الحرث والزرع والغرس، وهو معنى قول ابن عباس. أَفَلا يَشْكُرُونَ نعمه؟
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ: الأشكال والأصناف
__________
(1) راجع زاد المسير: 3/ 66.(8/127)
كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ. وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ: ننزع ونخرج مِنْهُ النَّهارَ، وقال الكلبي:
نذهب به فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ: داخلون في الظلام.
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها يعني إلى مستقر لها. قال ابن عباس: لا تبلغ مستقرها حتى ترجع إلى منازلها، وقال قتادة: إلى وقت واحد لها لا تعدوه، وقيل: إلى انتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا، وقيل: إلى أبعد منازلها في الغروب.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب وأحمد بن جعفر قالا: حدّثنا إبراهيم ابن سهل قال: حدّثنا محمد بن بكار العيسي قال: حدّثنا إسماعيل بن علية قال: حدّثنا يونس بن عبيد عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها قال: «مستقرها تحت العرش» [75] «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثني أبو الطيب أحمد بن عبد الله بن يحيى الدارمي قال: حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد السمرقندي بدمياط قال: حدّثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدّثنا مروان بن معاوية عن محمد بن أبي حسان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ: (والشمس تجري لا مستقر لها) ، وهي قراءة ابن مسعود أيضا، أي لا قرار لها، فهي جارية أبدا.
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ بالرفع، نافع وابن كثير وأبو عمرو وأيوب ويعقوب غير ورش «2» ، واختاره أبو حاتم قال: لأنك شغلت الفعل عنه فرفعته للابتداء، وقرأ الباقون بالنصب، واختاره أبو عبيد، قال: للفعل المتقدم قبله والمتأخر بعده، فأما المتقدم فقوله:
نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ وأما المتأخر فقوله: قَدَّرْناهُ، أي قدرنا له المنازل.
مَنازِلَ، أي قدرنا له المنازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها، وأسماؤها: الشرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة والزبرة، والصرفة، والعوّا، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدم، وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت.
فإذا صار إلى آخر منازله عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، وهو العذق الذي فيه الشماريخ، فإذا أقدم وعتق يبس وتقوّس واصفر فشبه القمر في دقته وصفرته به، ويقال لها أيضا الأهان.
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ بل هما يسيران دائبين ولكلّ حدّ لا يعدوه ولا
__________
(1) مسند أحمد: 5/ 158.
(2) وهو محمد بن أحمد المقرئ الورشي المغربي الأندلسي، راجع الأنساب: 5/ 591.(8/128)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
يقصر دونه، فإذا جاء سلطان هذا ذهب ذلك وإذا جاء سلطان ذلك ذهب هذا، فذلك قوله:
وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ. فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد صاحبه قامت القيامة وذلك قوله سبحانه: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «1» .
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ: يجرون.
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ الموقر المملوء، وهي سفينة نوح الآباء في السفينة، والأبناء في الأصلاب، والحمل: منع الشيء أن يذهب إلى جهة السفل.
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ أي مثل سفينة نوح ما يَرْكَبُونَ وهي السفن كلها.
أخبرنا عبيد بن محمد بن محمّد بن مهدي قال: حدّثنا أبو العباس الأصم قال: حدّثنا أحمد بن حازم قال: حدّثنا عبد الله بن موسى عن سفيان عن السدي عن أبي مالك في قوله:
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال: السفن الصغار، وقال ابن عباس: الإبل سفن البر.
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ: ينجون من الغرق إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ يعني انقضاء آجالهم.
[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 59]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أي ما بين أيديكم من الآخرة فاعملوا لها وَما خَلْفَكُمْ من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. قاله ابن عباس، وقال مجاهد: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: ما يأتي من الذنوب، وَما خَلْفَكُمْ: ما مضى من الذنوب.
الحسن. ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ يعني وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم وَما خَلْفَكُمْ من أمر الساعة.
__________
(1) سورة القيامة: 9.(8/129)
مقاتل: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ عذاب الأمم الخالية، وَما خَلْفَكُمْ: عذاب الآخرة.
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، والجواب محذوف تقديره: إذا قيل لهم هذا، أعرضوا، دليله ما بعده: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ: الرزق مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ يتوهمون أنّ الله تعالى لما كان قادرا على إطعامه وليس يشاء إطعامه، فنحن أحق بذلك. نزلت في مشركي مكة حين قال لهم فقراء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله، وذلك قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً «1» فحرموهم، وقالوا: لو شاء الله أطعمكم فلا نعطيكم شيئا حتى ترجعوا إلى ديننا.
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في اتباعكم محمدا ومخالفتكم ديننا. عن مقاتل بن حيان، وقال غيره: هو من قول أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لهم.
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنا نبعث؟ فقال الله تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهي نفخة إسرافيل تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي يختصمون ويخاصم بعضهم بعضا.
واختلفت القراء فيه فقرأ ابن كثير وورش وأبو عبيد وأبو حاتم بفتح الخاء وتشديد الصاد ومثله روى هشام عن أهل الشام: لما أدغموا نقلوا حركة التاء إلى الخاء.
وقرأ أبو جعفر وأيوب ونافع غير ورش ساكنة الخاء مخففة الصاد، وقرأ أبو عمرو:
بالإخفاء، وقرأ حمزة: ساكنة الخاء مخففة الصاد، أي يغلب بعضهم بعضا بالخصام، وهي قراءة أبي بن كعب، وقرأ الباقون: بكسر الخاء وتشديد الصاد.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً: فلا يقدرون على أن يوصي بعضهم بعضا، وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ وهي النفخة الأخيرة: نفخة البعث، وبين النفختين أربعون سنة، فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور، واحدها جدث إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يخرجون، ومنه قيل للولد: نسلا لأنه يخرج من بطن أمّه، والنسلان والعسلان: الإسراع في السير.
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أي منامنا قال أبي بن كعب وابن عباس وقتادة: إنما يقولون هذا لأن الله رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين فيرقدون، وقال أهل المعاني: إنّ الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار ما عذبوا في القبور في جنبها كالنوم، فقالوا: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ ثم قال: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ: أقرّوا حين لم ينفعهم
__________
(1) الأنعام/ 136.(8/130)
الإقرار، وقال مجاهد: يقول الكفار: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ ويقول المؤمنون: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ.
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ. فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، محل (ما) نصب من وجهين:
أحدهما: مفعول ما لم يسمّ فاعله.
والثاني: بنزع حرف [الخفض] «1» ، أي ب (ما) .
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشيبة بجزم الغين، واختاره أبو حاتم، وقرأ الآخرون: بضم الغين، واختاره أبو عبيد، وهما لغتان مثل السّحت والسّحت ونحوهما.
واختلف المفسرون في معنى الشغل. فأخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا أبو الأزهر قال: حدّثنا أسباط بن محمد عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ قال: افتضاض الأبكار.
وأخبرني فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا أحمد بن الوليد الشطوي قال: حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثنا معلى بن عبد الرّحمن قال: حدّثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكارا» [76] «2» .
وقال الكلبي والثمالي والمسيب: يعني فِي شُغُلٍ عن أهل النار وعما هم فيه، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم، وقال وكيع بن الجراح: يعني في السماع، سئل يحيى بن معاذ: أي الأصوات أحسن؟ قال: مزامير أنس في مقاصير قدس بألحان تجميل في رياض تمجيد فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
وقال ابن كيسان: يعني في زيارة بعضهم بعضا، وقيل: في ضيافة الله وقيل: في شغلهم بعشرة أشياء: ملك لا عزل معه، وشباب لا هرم معه، وصحة لا سقم معها، وعزّ لا ذل معه، وراحة لا شدة معها، ونعمة لا محنة معها، وبقاء لا فناء معه، وحياة لا موت معها، ورضا لا سخط معه، وأنس لا وحشة معه.
وقيل: شغلهم في الجنة بسبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء: فأما ثواب الرجل فقوله:
__________
(1) في الأصل: الصفة.
(2) مجمع الزوائد: 10/ 417.(8/131)
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ «1» ، وثواب اليد قوله: يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً «2» ، وثواب الفرج قوله:
وَحُورٌ عِينٌ «3» ، وثواب البطن قوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً «4» الآية، وثواب اللسان قوله:
وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «5» وثواب الأذن قوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «6» ، وثواب العين قوله: وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ.
قال طاوس: لو علم أهل الجنة عمّن شغلوا ما هنّأهم ما اشتغلوا به، وسئل بعض الحكماء عن
قوله (عليه السلام) : «أكثر أهل الجنة البله»
[77] قال: لأنهم في شغل بالنعيم عن المنعم، ثم قال: من رضي بالجنة عن الله فهو أبله.
فاكِهُونَ قرأ العامة: بالألف، وقرأ أبو جعفر (فكهون وفكهين) بغير ألف حيث كانا، وهما لغتان: كالحاذر والحذر والفاره والفره، وقال الكسائي: الفاكه والفاكهة مثل شاحم ولاحم ولابن وتامر، واختلف العلماء في معناهما، فقال ابن عباس: فرحون. مجاهد والضحاك:
معجبون. السدي: ناعمون.
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ: حلائلهم فِي ظِلالٍ قرأ العامة بالألف وكسر الظاء على جمع (ظلّ) ، وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير وحمزة والكسائي وخلف: (ظلل) على جمع (ظلة) .
عَلَى الْأَرائِكِ يعني السرر في الحجال، واحدتها أريكة، مثل سفينة وسفن وسفائن وقيل: هي الفرش، مُتَّكِؤُنَ. لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ قال ابن عباس: يسألون. قال مقاتل: يتمنون ويريدون، وقيل: معناه. من ادّعى منهم شيئا فهو له بحكم الله عز وجل لأنهم لا يدعون إلّا ما يحسن.
سَلامٌ قرأ العامة بالرفع، أي لهم سلام، وقرأ النخعي: بالنصب على القطع والمصدر.
أخبرني الحسن بن محمّد بن عبد الله الحافظ قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال:
حدّثنا أحمد بن الفرج المقرئ قال: حدّثنا محمد بن عبد الملك أبي الشوارب قال: حدّثنا أبو عاصم عبد الله بن عبد الله العباداني قال: حدّثنا الفضل بن عيسى الرقاشي، وأخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن قال: حدّثني أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى الملحمي الأصفهاني قال: حدّثنا الحسن بن أبي علي الزعفراني قال: حدّثنا ابن أبي الشوارب قال: حدّثنا
__________
(1) سورة الحجر: 46.
(2) سورة الطور: 23.
(3) سورة الواقعة: 22.
(4) سورة الطور: 19.
(5) سورة يونس: 10. [.....]
(6) سورة الواقعة: 25- 26.(8/132)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
أبو عاصم قال: حدّثنا الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم:
«بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطح لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربّ عزّ وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله عز وجل سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» [78] «1» .
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ قال ابن عباس: تفرقوا. أبو العالية: تميزوا. السدي:
كونوا على حدة. قتادة: اعدلوا عن كل خير. الضحاك: إنّ لكل كافر في النار بيتا، يدخل ذلك البيت ويردم به بالنار فيكون فيه أبد الآبدين فلا يرى ولا يرى.
[سورة يس (36) : الآيات 60 الى 83]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ أي لا تطيعوه في معصية الله. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ أي أغوى بالدعاء إلى المعصية جِبِلًّا كَثِيراً
قرأ علي رضي الله عنه (جِبِلًا) بالباء مخففا
، وقرأ أهل المدينة وعاصم وأيوب
__________
(1) سنن ابن ماجة: 1/ 65.(8/133)
وأبو عبيد وأبو حاتم بكسر الجيم والباء، وتشديد اللام، وقرأ يعقوب بضم الجيم والباء، وتشديد اللام، وبه قرأ الحسن وعبيد بن عمير وعيسى بن عمر والأشهب، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو بضم الجيم وجزم الباء مخففا، وقرأ الباقون: بضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وكلها لغات.
معناه: الخلق والأمة، وإنما اختار أبو عبيد وأبو حاتم ضم الجيم والباء والتشديد لقوله تعالى وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ «1» .
أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ تحذرون، اصْلَوْهَا: ادخلوها الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ فلا يتكلمون. قال قتادة: جرى بينهم خصومات وكلام فكان هذا آخرها.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا أبو عامر حامد بن سعدان قال: حدّثنا أحمد بن صالح قال: حدّثنا عبد الله بن وهب قال:
حدّثني عمرو بن الحرث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله، فجحد وخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون. فيقول: كذبوا. فيقال: أهلك وعشيرتك. فيقول: كذبوا. فيقال: احلفوا، فيحلفون.
ثم يصمتهم الله عز وجل ويشهد عليهم ألسنتهم ثم يدخلهم النار» [79] «2» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفربابي قال: حدّثنا هشام بن عمار قال: حدّثنا إسماعيل بن عياش قال: حدّثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال» [80] «3» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال:
حدّثنا أبي قال: حدّثنا يزيد قال: أخبرنا الحريري أبو مسعود عن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام وإنّ أول ما يتكلم من الآدميين فخذه وكفه» [81] «4» .
وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ
__________
(1) سورة الشعراء: 184.
(2) مجمع الزوائد: 10/ 351.
(3) مسند أحمد: 4/ 151.
(4) مسند أحمد: 5/ 3 بتفاوت.(8/134)
: فتبادروا إلى الطريق، فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وقد طمسنا أعينهم؟ قال ابن عباس ومقاتل وعطاء وقتادة: يعني ولو نشاء لتركناهم عميا يترددون، فكيف يبصرون الطريق حينئذ؟
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ، أي أقعدناهم في منازلهم قردة وخنازير، والمسخ تحويل الصورة، فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ إلى ما كانوا عليه، وقيل: لا يستطيعون الذهاب ولا الرجوع.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ، قرأ الأعمش وعاصم وحمزة بالتشديد. غيرهم بفتح النون وضم الكاف مخففا. أي يرده إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ شبه حال الصبي الذي هو أول الخلق، وقيل: يصيّره بعد القوة إلى الضعف، وبعد الزيادة إلى النقصان، وبعد الحدة والطراوة إلى البلى والخلوقة، فكأنه نكس حاله.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش المقرئ قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا مهران بن أبي عمر عن سفيان: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ قال: إذا بلغ ثمانين سنة تغيّر جسمه. أَفَلا يَعْقِلُونَ. وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ لأنه يورث الشبهة.
أخبرني ابن فنجوية قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: حدّثنا حامد بن شعيب عن شريح بن يونس قال: حدّثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي عيينة عن أبيه عن الحكم قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتمثل بقول العباس بن مرداس:
«أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة» .
قالوا: يا رسول الله إنما قال:
... بين عيينة والأقرع
. فأعادها وقال:
... «بين الأقرع وعيينة»
. فقام إليه أبو بكر رضي الله عنه فقبل رأسه وقال: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [82] «1» .
وأخبرنا الحسين بن محمد الحديثي قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا يوسف بن عبد الله بن هامان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
«كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا»
«2» .
فقال أبو بكر: يا نبي الله، إنما قال الشاعر:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال أبو بكر أو عمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عز وجل: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ.
__________
(1) الدر المنثور: 5/ 268 بتفاوت.
(2) تفسير ابن كثير: 3/ 585.(8/135)
أخبرني الحسين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق المسيبي قال: حدّثنا حامد بن شعيب قال: حدّثنا شريح بن يونس قال: حدّثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ قال: بلغني أنّ عائشة سئلت هل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت:
كان الشعر أبغض الحديث إليه، قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر إلّا ببيت أخي بني قيس طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد «1»
فجعل يقول: «من لم تزود بالأخبار» ، فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إني لست بشاعر، وما ينبغي لي» [83] «2» .
إِنْ هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. لِتُنْذِرَ بالتاء [وهي قراءة] «3» أهل المدينة والشام والبصرة إلّا أبا عمرو، والباقون بالياء قال: التاء للنبي صلّى الله عليه وسلم والياء للقرآن. مَنْ كانَ حَيًّا أي عاقلا مؤمنا في علم الله لأن الكافر والجاهل ميّت الفؤاد، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا يعني عملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة، أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ: ضابطون وقاهرون.
وَذَلَّلْناها لَهُمْ: سخرناها فَمِنْها رَكُوبُهُمْ قرأ العامة بفتح الراء أي مركوبهم، كما يقال: ناقة حلوب، أي محلوب، وقرأ الأعمش والحسن: بضم الراء على المصدر.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن هامان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة قال: في مصحف عائشة:
(ركوبتهم) ، والركوب والركوبة واحد مثل: الحمول والحمولة. وَمِنْها يَأْكُلُونَ لحمانها.
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ من أصوافها ولحومها وغير ذلك من المنافع. وَمَشارِبُ يعني ألبانها أَفَلا يَشْكُرُونَ. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي لتمنعهم من عذاب الله، ولا يكون ذلك قط.
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ في النار لأنهم مع أوثانهم في النار فلا يدفع بعضهم عن بعض النار.
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يعني تكذيبهم وأذاهم وجفاهم. تم الكلام هاهنا ثم استأنف فقال
__________
(1) لسان العرب: 13/ 259.
(2) كشف الخفاء: 1/ 448.
(3) في المخطوط: وفي الأحقاف، والظاهر ما أثبتناه.(8/136)
إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ جدل بالباطل مُبِينٌ.
واختلفوا في هذا الإنسان من هو؟ فقال ابن عباس: هو عبد الله بن أبيّ، وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي، وقال الحسن: هو أميّة بن خلف،
وقال قتادة: أبي بن خلف الجمحي وذلك أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلم بعظم حائل قد بلي فقال: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «نعم، ويبعثك ويدخلك النار» [84] «1»
فأنزل الله هذه الآية: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ بدء أمره، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ بالية، وإنما لم يقل رميمة لأنه معدول من فاعله وكل ما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن إعرابه كقوله: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «2» أسقط الهاء لأنها مصروفة عن باغية.
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها: خلقها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، وإنما لم يقل الخضر، والشجر- جمع الشجرة- لأنه ردّه إلى اللفظ.
قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما مرخ، والأخرى العفار. فمن أراد منهم النار قطع منها غصنين مثل السواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار أنثى فتخرج منهما النار بإذن الله عز وجل.
يقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار «3» ، وقال الحكماء: كل شجر فيه نار إلّا العناب. فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ النار فذلك زادهم.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ قرأ العامة بالألف، وقرأ يعقوب (بقدر) - على الفعل- عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، ثم قال: بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أي وجود شيء، أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 58.
(2) سورة مريم: 28.
(3) راجع لسان العرب: 3/ 53، واستمجد: استفضل أي استكثر من النار. [.....](8/137)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
سورة الصافات
مكية، وهي ثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا، وثمانمائة وستون كلمة، ومائة واثنتان وثمانون آية
أخبرنا كامل بن أحمد المفيد قال: أخبرنا محمد بن جعفر الوراق قال: حدّثنا إبراهيم بن الفضل قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير الآملي عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ وَالصَّافَّاتِ أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ جنّي وشيطان، وتباعد عنه مردة الشياطين وبرئ من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنا بالمرسلين» [85] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 23]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا قال ابن عباس ومسروق والحسن وقتادة: يعني صفوف الملائكة في السماوات كصفوف الخلق في الدّنيا للصلاة، وقيل: هم الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها بما يريد، وقيل: هي الطير، دليله قوله: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ»
وقوله:
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ «3» .
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 8/ 293.
(2) سورة النور: 41.
(3) سورة الملك: 19.(8/138)
والصف: ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة والحرب.
فَالزَّاجِراتِ زَجْراً يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه، وقال قتادة: هي زواجر القرآن.
فَالتَّالِياتِ ذِكْراً يعني جبرائيل والملائكة تتلو كتب الله، عن مجاهد والسدي، وقيل:
هي جماعة قرّاء القرآن، وهي كلها جمع الجمع، فالصافة جمع الصاف، والصافات جمع الصافة وكذلك أختاها، وقيل: هو قسم بالله تعالى على تقدير: وربّ الصافات.
إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ موضع القسم قال مقاتل: لأنّ كفار مكة قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ فأقسم الله تعالى بهؤلاء: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ، وقرأ الأعمش وأبو عمرو وحمزة كلّهم بالإدغام، والباقون بالبيان.
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ أي مطالع الشمس وذلك أنّ الله تعالى خلق للشمس ثلاثمائة وستين كوة في المشرق، وثلاثمائة وستين كوة في المغرب على عدد أيام السنة تطلع كل يوم من كوة منها وتغرب في كوة منها فهي المشارق والمغارب.
حدّثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي إملاء قال: حدّثنا أبو العباس محمّد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي إملاء قال: حدّثني إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عمر بن منيع- صدوق ثقة- قال: حدّثنا ابن عليه عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة قال: قال ابن عباس:
إنّ الشمس تطلع كل سنة في ثلاثمائة وستين كوة تطلّع كل يوم في كوة ولا ترجع إلى تلك الكوة إلّا ذلك اليوم من العام القابل، ولا تطلع إلّا وهي كارهة، فتقول: ربّ لا تطلعني على عبادك فإني أراهم يعصونك ويعملون بمعاصيك أراهم. قال: أو لم تسمعوا إلى ما قال أمية بن أبي الصلت:
... حتى تجر وتجلد؟
قلت: يا مولاي وتجلد الشمس؟ قال: عضضت بهن أبيك، إنما اضطره الروي إلى الجلد.
وقيل: وكل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق، وكل موضع غربت عليه فهو مغرب، كأنه أراد ربّ جميع ما شرقت عليه الشمس «1» .
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ قرأ عاصم برواية أبي بكر (بِزِينَةٍ) منونة (الْكَواكِبَ) نصبا، يعني بتزييننا الكواكب، وقيل: أعني الكواكب، وقرأ حمزة وعاصم في سائر الروايات (بِزِينَةٍ) منونة. الْكَواكِبِ خفضا على البدل، أي بزينة الكواكب.
__________
(1) تفسير الطبري: 29/ 109.(8/139)
وقرأ الباقون بِزِينَةِ الْكَواكِبِ مضافة. قال ابن عباس: يعني بضوء الكواكب.
وَحِفْظاً أي وحفظناها حفظا، أو وجعلناها أيضا حفظا، وذلك شائع في اللغة مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ: خبيث خال عن الخير.
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى كأنه قال: فلا يسمعون. قرأ أهل الكوفة يَسَّمَّعُونَ بالتشديد، أي يتسمعون، قال مجاهد: كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون، وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الآخرون بالتخفيف، وهو اختيار أبي حاتم، إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى يعني الكتبة من الملائكة في السماء وَيُقْذَفُونَ، ويرمون مِنْ كُلِّ جانِبٍ من آفاق السماء.
دُحُوراً يبعدونهم عن مجالس الملائكة، والدحر والدحور: الطرد والإبعاد، وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ: دائم، نظيره قوله سبحانه: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «1» ، وقال ابن عباس: شديد.
الكلبي: موجع، وقيل: خالص.
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ: مسارق فسمع الكلمة، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ: تبعه ولحقه كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقتل أو يحرق أو يحيل، وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعا في السلامة ونيل المراد كراكب البحر.
فَاسْتَفْتِهِمْ فسلهم، يعني: أهل مكة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني: من الأمم الخالية، وقد أهلكناهم بذنوبهم، وقيل: يعني السماوات والأرض وما بينهما.
نزلت في أبي الأسد بن كلدة، وقيل: أبيّ بن أسد، وسمّي بالأسدين لشدة بطشه وقوته، نظيرها: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «2» وقوله سبحانه أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «3» .
إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي جيد حر يلصق ويعلق، باليد ومعناه اللازم تبدل الميم كأنه يلزم اليد، وقال السدي: خالص. قال مجاهد والضحاك: [الرمل] «4» .
بَلْ عَجِبْتَ قرأ حمزة والكسائي وخلف (عَجِبْتُ) بضم التاء- وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس على معنى أنهم قد حلّوا محل من تعجّب منهم، وقال الحسين بن الفضل: العجب من الله، إنكار الشيء وتعظيمه وهو لغة العرب، وقد جاء في الخبر: عجب ربكم من إلّكم وقنوطكم والخبر الآخر: إنّ الله ليعجب من الشاب إذا لم يكن له صبوة ونحوها، وسمعت أبا
__________
(1) سورة النحل: 52.
(2) سورة غافر: 57.
(3) سورة النازعات: 27.
(4) تفسير الطبري: 14/ 40، ونقل عن مجاهد قوله: اللازب: اللازم.(8/140)
القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن علي البغدادي يقول:
سئل جنيد عن هذه الآية فقال: إنّ الله لا يعجب من شيء، ولكنّ الله وافق رسوله لمّا عجب رسوله، فقال: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ «1» . أي هو لما يقوله.
وقرأ الآخرون بفتح التاء على خطاب النبي صلّى الله عليه وسلم، وهي قراءة شريح القاضي. قال: إنما يعجب من لا يعلم، والله عنده علم كلّ شيء، ومعناه، بل عجبت من تكذيبهم إياك.
وَيَسْخَرُونَ وهم يسخرون من تعجّبك.
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وإذا وعظوا لا يتعظون.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يعني انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ يسخرون وقيل: يستدعي بعضهم بعضا إلى أن يسخر.
وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا يعني: وآباؤنا أو بمعنى الواو الْأَوَّلُونَ. قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ: صاغرون. فَإِنَّما هِيَ يعني: النفخة والقيامة زَجْرَةٌ: صيحة واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أحياء. وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ
أخبرني الحسن بن محمد المدني قال: حدّثنا محمد بن علي الحسن الصوفي قال: حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدّثنا عمّي أبو بكر قال: حدّثنا وكيع عن سفيان عن سماك، عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ قال: «ضرباءهم» [86] «2»
، وقال ابن عباس: أشباههم. ضحاك ومقاتل:
قرناءهم من الشياطين، كل كافر معه شيطانه في سلسلة. قتادة والكلبي: كل من عمل مثل عملهم، فأهل الخمر مع أهل الخمر، وأهل الزنا مع أهل الزنا، وقال الحسن: وأزواجهم المشركات «3» .
وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في الدنيا فَاهْدُوهُمْ: فادعوهم، قاله الضحاك، وقال ابن عباس: دلّوهم، وقال ابن كيسان: فدلوهم، والعرب تسمي السائق هاديا، ومنه قيل: الرقية هادية السائق، قال امرؤ القيس:
كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حنا بشيب مرجّل «4»
إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ: طريق النار.
__________
(1) سورة الرعد: 5.
(2) تفسير الطبري: 23/ 56.
(3) راجع تفسير القرطبي: 15/ 73.
(4) الصحاح: 6/ 2534.(8/141)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
[سورة الصافات (37) : الآيات 24 الى 61]
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28)
قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33)
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38)
وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)
عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)
إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
وَقِفُوهُمْ واحبسوهم، يقال: وقفته وقفا فوقف وقوفا. إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ قال ابن عباس: عن لا إله إلّا الله. ضحاك: عن خطاياهم. القرظي: عن جميع أقوالهم وأفعالهم.
أخبرني الحسين بن محمد الدينوري قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدّثنا محمد بن أيوب قال: أخبرنا محمد بن عقبة قال: حدّثنا أبو حصين بن نمير الهمداني قال:
حدّثنا حسين بن قيس الرحبي- وزعم أنه شيخ صدوق- قال: حدّثنا عطاء عن أبي عمر عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين كسبه، وفيما أنفقه، وما عمل فيما علم» [87] «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن صقلاب قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن عبد الرّحمن بطرسوس قال: حدّثنا أحمد بن خليد قال: حدّثنا يوسف بن يونس الأخطف الأقطس قال: حدّثنا سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة دعا الله سبحانه بعبد من عبيده فيوقفه بين يديه فيسائله عن جاهه كما يسائله عن ماله» [88] «2» .
__________
(1) سنن الترمذي: 4/ 35.
(2) مجمع الزوائد: 10/ 346. [.....](8/142)
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي لا تنتقمون ولا ينصر بعضهم بعضا، يقوله خزنة النار للكفار، وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ.
قال الله سبحانه وتعالى: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ قال ابن عباس: خاضعون. الحسن:
منقادون. الأخفش: ملقون بأيديهم، وقال أهل المعاني: مسترسلون لما لا يستطيعون له دفعا ولا منه امتناعا كحال الطالب السلامة في نزل المنازعة.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني: الرؤساء والأتباع يَتَساءَلُونَ: يتخاصمون.
قالُوا يعني: الأتباع للرؤساء: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي من قبل اليمين فتضلوننا عنه، قاله الضحاك، وقال مجاهد: عن الصراط الحق: وقال أهل المعاني: أي من جهة النصيحة والبركة والعمل الذي يتيمن به، والعرب تتيمن بما جاء عن اليمين، وقال بعضهم:
أي عن القوة والقدرة كقول الشماخ.
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين «1»
أي بالقوة وغرابة اسم ملك اليمن.
قالُوا يعني: الرؤساء بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ. فَحَقَّ عَلَيْنا وعليكم قَوْلُ رَبِّنا يعنون قوله سبحانه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «2» .
إِنَّا جميعا لَذائِقُونَ العذاب.
فَأَغْوَيْناكُمْ: فأضللناكم لأنا كُنَّا غاوِينَ ظالمين، قال الله سبحانه: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ. إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعني النبي صلّى الله عليه وآله. قال الله سبحانه ردا عليهم: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ. إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ. وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ يعني: بكرة وعشية، كقوله:
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «3» .
فَواكِهُ: جمع الفاكهة، وهي كلّ طعام يؤكل للتلذذ لا للقوت الذي يحفظ الصحة، يقال: فلان يتفكّه بهذا الطعام، وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ: إناء فيه شراب، ولا يكون كأسا حتى يكون فيه شراب، وإلّا فهو إناء،
__________
(1) لسان العرب: 1/ 593.
(2) سورة السجدة: 13.
(3) سورة مريم: 62.(8/143)
قال الأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر مِنْ مَعِينٍ: خمر جارية في أنهار طاهرة العيون، ويجوز أن يكون فعيلا من (المعن) وهو الإسراع والشدة من (أمعن في الأمر) إذا اشتدّ دخوله فيه. يعني: خمرا شديدة الجري سريعته.
بَيْضاءَ أي صافية في نهاية اللطافة ولَذَّةٍ: لذيذة لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ أي إثم عن الكلبي، نظيره لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ «1» . قتادة: وجع البطن. الحسن: صداع. مجاهد:
داء. ابن كيسان: مغص. الشعبي: لا تغتال عقولهم فتذهب بها، وقال أهل المعاني: الغول:
فساد يلحق في خفاء، يقال: اغتاله اغتيالا إذا فسد عليه أمره في خفية، ومنه الغول والغيلة وهو القتل خفية.
وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قرأ حمزة والكسائي وخلف: بكسر الزاي هاهنا وفي سورة الواقعة، وافقهم عاصم في الواقعة. الباقون: بفتح الزاي فيهما. فمن فتح الزاي، فمعناه: لا تغلبهم على عقولهم ولا يسكرون، يقال: نزف الرجل فهو منزوف ونزيف، إذا سكر وزال عقله، قال الشاعر «2» :
فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
أي السكران، ومن كسر الزاي فمعناه: لا ينفد شرابهم. يقال: أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره. قال الحطيئة:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا «3»
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ: حابسات الأعين، غاضّات الجفون، قصرن أعينهن عن غير أزواجهن، فلا ينظرن إلّا إلى أزواجهنّ عِينٌ نجل العيون حسانها، واحدتها: عيناء، يقال:
رجل أعين وامرأة عيناء ورجال ونساء عين.
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ: جمع البيضة مَكْنُونٌ مستور مصون. قال الحسن وابن زيد شبههن ببيض النعامة تكنها «4» بالريش من الريح والغبار «5» ، وقيل: شبههن ببطن البيض قبل أن يقشر، وهو معنى قول ابن عباس، وإنما ذكّر المكنون والبيض جمع لأنه ردّه إلى اللفظ.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ في الجنة. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ في
__________
(1) سورة الطور: 23.
(2) الصحاح: 1/ 306.
(3) لسان العرب: 9/ 327.
(4) تكنها: تحميها، والكن: كل شيء وقى شيئا، راجع كتاب العين: 5/ 281.
(5) راجع تفسير القرطبي: 15/ 80، وفتح القدير: 4/ 394.(8/144)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
الدنيا. قال مجاهد: كان شيطانا، وقال آخرون: كان من الإنس. قال مقاتل: كانا أخوين، وقال الباقون: كانا شريكين: أحدهما فطروس وهو الكافر، والآخر يهوذا وهو المؤمن، وهما اللذان قصّ الله حديثهما في سورة الكهف.
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بالبعث؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ:
مجزيون ومحاسبون ومملوكان قالَ الله سبحانه لأهل الجنة: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى النار؟
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا أحمد ابن يزيد المقرئ عن جلاد عن الحكم بن طاهر، عن السدي، عن أبي ملك عن ابن عباس أنه قرأ هل مطلعون فاطّلع بخفضهما وبكسر اللام، قال: رافعون فرفع، قال ابن عباس:
وذلك أنّ في الجنة كوى «1» فينظر أهلها منها إلى النار وأهلها.
فَاطَّلَعَ هذا المؤمن فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ فرأى قرينه في وسط النار.
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ما أردت إلّا أن تهلكوا «2» وأصله من التردّي. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي: عصمته ورحمته لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في النار.
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، فتقول لهم الملائكة: لا، وقيل: إنما يقولونه على جهة الحديث بنعمة الله سبحانه عليهم في أنّهم لا يموتون ولا يعذّبون، وقيل: يقوله المؤمن على جهة التوبيخ لقرينه بما كان ينكره.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 78]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا: رزقا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، والزقوم ثمرة شجرة كريهة الطّعم جدا، من قولهم: يزقم هذا الطعام، إذا تناوله على كره ومشقة شديدة.
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ: للكافرين، وذلك أنهم قالوا: كيف يكون في النار شجرة
__________
(1) الكوى: جمع كوة وهي الطاقة والنافذة الصغيرة.
(2) كذا في المخطوط.(8/145)
والنار تحرق الشجر؟! وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش: إنّ محمدا يخوفنا بالزقوم وإنّ الزقوم بلسان بربر وأفريقية الزبد والتمر، فأدخلهم أبو جهل بيته وقال: يا جارية زقّمينا. فأتتهم بالزبد والتمر، فقال: تزقّموا فهذا ما يوعدكم به محمد، فقال الله سبحانه: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ: قعر النار. قال الحسن: أصلها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
طَلْعُها ثمرها، سمّي طلعها لطلوعه كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ قال بعضهم: هم الشياطين بأعيانهم، شبّهه بها لقبحه لأن الناس إذا وصفوا شيئا بعاهة القبح قالوا: كأنه شياطين، وإن كانت الشياطين لا ترى لأن قبح صورتها متصور في النفس، وهذا معنى قول ابن عباس والقرظي، وقال بعضهم: أراد بالشياطين الحيّات، والعرب تسمي الحية القبيحة الخفيفة الجسم شيطانا، قال الشاعر:
تلاعب مثنى حضرميّ كأنه ... تعمج شيطان بذي خروع قفر «1»
وقال الراجز:
عنجرد تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف «2»
والأعرف: الذي له عرق، وقيل: هي شجرة قبيحة خشنة مرة منتنة، تنبت في البادية تسميها العرب رؤوس الشياطين.
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، والملء: حشو الوعاء بما لا يحتمل زيادة عليه، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً: خلطا ومزاجا، وقال مقاتل: شرابا مِنْ حَمِيمٍ: ماء حار شديد الحرارة، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ثم بمعنى قبل، مجازه: وقبل ذلك مرجعهم لإلى الجحيم، كقول الشاعر:
إنّ من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده «3»
أي قبل ذلك ساد أبوه، ويجوز أن تكون بمعنى الواو.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي المقري قال: حدّثني علي بن الحسن بن سعد الهمداني قال: حدّثنا عباس بن يزيد بن أبي حبيب قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا سفيان عن ميسرة عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله أنه قرأ (ثم إنّ مقتلهم لإلى الجحيم) .
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا: وجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ يسرعون.
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ: مرسلين
__________
(1) لسان العرب: 2/ 328.
(2) لسان العرب: 3/ 311.
(3) مغني اللبيب: 1/ 117.(8/146)
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ، نظيره: وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ «1» ، وهو قوله: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «2» .
فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ على التعظيم، وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وهو الغرق، وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ،
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال:
حدّثنا زكريا بن يحيى الساجي قال: حدّثنا بندار قال: حدّثنا محمد بن خالد بن غيمة قال: حدّثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قال: «سام وحام ويافث» [89] «3» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا محمد بن عمران بن هارون قال:
حدّثنا أبو عبد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب قال: كان ولد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس وروم، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وما هنالك.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرحي قال: حدّثنا الحسن بن علوية قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما خرج نوح عليه السلام من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلّا ولده ونساءهم، فذلك قوله: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، أي لقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 79 الى 98]
سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83)
إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93)
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) سورة الأنبياء: 76. [.....]
(2) سورة القمر: 10.
(3) جامع البيان للطبري: 23/ 80.(8/147)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ: أهل دينه وسنته لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ:
مخلص من الشرك والشك، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفربابي قال:
حدّثنا محمد بن العلا قال: حدّثنا عصام بن علي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: يا بنيّ لا تكونوا لعّانين أو لم يروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قط فقال الله سبحانه: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ؟
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا: ما الذي تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، قال ابن عباس: كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم حيث كانوا لئلّا ينكروا عليه وذلك أنه كان لهم من الغد عيد ومجمع، وكانوا يدخلون على أصنامهم ويقرّبون لهم القرابين ويصنعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم زعموا التّبرك عليه، فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه. قال مقاتل: وكانت الأصنام اثنين وسبعين صنما من خشب وحديد ورصاص وشبه وفضّة وذهب، وكان كبيرهنّ من ذهب في عينيه ياقوتتان، وقالوا لإبراهيم (عليه السلام) : لا تخرج غدا معنا إلى عيدنا. فنظر إلى النجوم، فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ، قال ابن عباس: مطعون، وقال الحسن: مريض، وقال الضحاك:
سأسقم لقوله سبحانه إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» .
وقيل: سَقِيمٌ بما في عنقي من الموت، وقيل: سَقِيمٌ بما أرى من أحوالكم القبيحة، وقيل:
سَقِيمٌ بعلة عرضت له، وإنّه إنما نظر في النجوم مستدلا بها على وقت حمّى كانت تأتيه، والصحيح أنه لم يكن سقيما لما
روي عن النبي (عليه السلام) أنه قال: «لقد كذب إبراهيم ثلاث كذبات، ما منها واحدة إلّا وهو بماحل وناصل بها عن دينه «2»
: قوله: إِنِّي سَقِيمٌ، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وقوله لسارة: هذه أختي» [90] «3» .
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ إلى عيدهم، فدخل إبراهيم إلى الأصنام فكسرها ووضع الفأس على عاتق الصنم الكبير، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على أصنامهم قبل أن يرجعوا إلى منازلهم، فدخلوا عليها فإذا هي مكسورة، فذلك قوله سبحانه: فَراغَ: فمال إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ إظهارا لضعفهم وعجزهم: أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ لأنها أقوى على العمل من الشمال، وهذا قول الربيع بن أنس قال: يعني يده اليمنى، وقيل: بالقسم الذي سبق منه، وذلك قوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ»
وقال الفراء: بالقوة.
__________
(1) سورة الزمر: 30.
(2) في المصدر: ثنتان في الله وواحدة في ذات نفسه.
(3) جامع البيان للطبري: 23/ 85.
(4) سورة الأنبياء: 57.(8/148)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ: إلى إبراهيم يَزِفُّونَ، أي يسرعون عن الحسن. مجاهد: يزفون زفيف النعام وهو حال بين المشي والطيران. الضحاك: يسعون، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة يُزِفُّونَ بضم الياء، وهما لغتان: فقال لهم إبراهيم على وجه الحجاج: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ؟ وفي هذه الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وتعالى حيث قال: وَما تَعْمَلُونَ على [أنها] مكتسبة للعباد حيث أثبت لهم عملا، فأبطل مذهب القدرية والجبرية بهذه الآية،
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله خالق كلّ صانع وصنعته»
[91] «1» .
قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ: معطم النار. قال مقاتل: بنوا له حائطا من الحجر طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملؤوه من الحطب وأوقدوا فيه النار.
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ: المقهورين.
[سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 106]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106)
وَقالَ إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي، أي إلى مرضاة ربي، وهو المكان الذي أمر بالذهاب إليه. نظيره قوله: وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي «2» ، وقيل: ذاهِبٌ إِلى رَبِّي بنفسي وعملي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ مختصر. أي رب هب لي ولدا صالحا من الصالحين.
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ذلك الغلام، قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ الآية، واختلف السّلف من علماء المسلمين في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه بعد إجماع [أهل الخاص] على أنه كان إسحاق، فقال قوم: الذبيح إسحاق، وإليه ذهب من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود والعباس بن عبد المطلب، ومن الباقين وأتباعهم كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي بزة وعطاء ومقاتل وعبد الرّحمن بن سابط والزبيري والسدّي.
وهي رواية عكرمة وابن جبير عن ابن عباس. أخبرني الحسن بن محمد بن عبد الله قال:
__________
(1) المستدرك: 1/ 31.
(2) سورة العنكبوت: 26.(8/149)
حدّثنا طلحة بن محمّد، وعبيد الله بن أحمد قالا: حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال: حدّثنا أحمد ابن حرب قال: حدّثنا سنيد بن داود قال: حدّثني حجاج عن ليث بن سعد عن صفوان بن عمرو عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هو إسحاق.
وأخبرني الحسن قال: حدّثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب قال: حدّثنا رضوان بن أحمد الصيدلاني قال: حدّثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال: حدّثنا أبو معاوية عن حجاج عن القاسم بن نافع عن أبي الطفيل، عن علي قال: «الذي أراد إبراهيم (عليه السلام) ذبحه إسحاق»
[92] «1» .
وروى شبعة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال: افتخر رجل عند ابن مسعود فقال: أنا فلان ابن فلان ابن الأشياخ الكرام. فقال عبد الله: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله (عليه السلام) .
وأخبرنا الحسين محمد قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا يوسف بن عبد الله قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا المبارك عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب قال: الذي فداه الله بِذِبْحٍ عَظِيمٍ إسحاق.
وأخبرنا الحسين قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن بكار قال: حدّثنا خالد بن عبد الله الواسطي عن داود ابن أبي هند عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: الذي أراد إبراهيم ذبحه إسحاق (عليهما السلام) .
وأخبرنا الحسن قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال: حدّثنا يوسف بن عبد الله قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حمّاد قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الذي أراد إبراهيم ذبحه هو إسحاق.
وأخبرني الحسن قال: حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا: حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال: حدّثنا عباس الدوري قال: حدّثنا أبو سلمة- يعني المنقري- قال: حدّثنا محمد بن ثابت العبدي عن موسى مولى أبي بكر الصديق عن سعيد بن جبير قال: [لمّا] أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام سار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى، فلما صرف الله عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه فسار به مسيرة شهر في روحة واحدة، طويت له الأودية والجبال.
وروى سفيان عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال موسى: «يا رب
__________
(1) المستدرك: 2/ 558- والرواية عن ابن عباس.(8/150)
يقولون: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبم قالوا ذلك؟» قال: «إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلّا اختارني عليه، وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلّما زدته بلاء زاد بي حسن ظنّ» [93] «1» .
وروى حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال: قال يوسف: للملك: «ترغب أن تأكل معي أو تنكف وأنا والله يوسف بن يعقوب نبيّ الله ابن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله (عليهم السلام) ؟!» [94] «2» .
وقال الآخرون: هو إسماعيل، وإلى هذا القول ذهب عبد الله بن عمر وأبو الطفيل عامر ابن واثلة وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي وهي رواية عطاء بن أبي رباح وأبي حمرة نصر بن عمران الضبعي ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال: المفدى إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود.
وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلا القولين، ولو كان فيهما صحيح بالإجماع لم يعزه إلى غيره «3» ، وأمّا الرواية التي رويت عنه صلّى الله عليه أنّ الذبيح إسحاق ما
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد [قالا] «4» : حدّثنا ابن مجاهد قال: حدّثنا موسى بن إسحاق قال: حدّثنا عبد الله بن أبي شنبه قال: أخبرنا الأشيب قال:
حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف بن قيس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الذي أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق» [95] «5» .
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن علي بن لؤلؤ قال: أخبرنا الهيثم بن خلف قال:
حدّثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدّثنا حجاج عن ابن جريح قال: أخبرت عن صفوان بن سليم وزيد بن أسلم عن النبي (عليه السلام) أنه قال: «إنّ إسحاق الذي أراد إبراهيم أن يذبحه» [96] .
وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة [فأقرأنيه] «6» قال: أخبرنا جدي قال: حدّثنا علي بن حجر قال: حدّثنا عمر بن حفص عن أبان عن أنس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه: «يشفع إسحاق بعدي فيقول: يا رب صدّقت نبيّك وجدت بنفسي
__________
(1) جامع البيان للطبري: 23/ 97.
(2) تفسير الطبري: 13/ 7.
(3) كذا في المخطوط.
(4) في المخطوط: قال.
(5) المستدرك للحاكم بتفاوت 2/ 557. [.....]
(6) في المخطوط: فاقريه، ويحتمل: قراءة، والظاهر ما أثبتناه.(8/151)
للذبح فلا تدخل النار من لم يشرك بك شيئا» . قال: «فيقول تبارك وتعالى: وعزتي لا أدخل النار من لا يشرك بي شيئا» [97] .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن نصرويه قال: حدّثنا أبو حفص عمر بن محمد بن عيسى الجوهري قال: حدّثنا عيسى بن مساور الجوهري قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجل خيّرني بين أن يغفر لنصف أمّتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي، ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجّلت منها دعوتي إنّ الله سبحانه لما فرّج عن إسحاق كرب الذبح قيل: يا إسحاق سل تعط. فقال: أما والذي نفسي بيده لأتعجّلنها قبل نزغة الشيطان، اللهم من مات لا يشرك بك شيئا فاغفر له وأدخله الجنة» [98] «1» .
وأما ما روي عنه صلّى الله عليه أنّ الذبيح إسماعيل
فروى عمر بن عبد الرّحمن، عن عبيد الله بن محمد العتبي- من ولد عتبة بن أبي سفيان- عن أبيه قال: حدّثني عبد الله بن سعيد عن الصنابحي قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق، فقال: على الخبير سقطتم، كنت عند النبي صلّى الله عليه فجاء رجل فقال: يا رسول الله عد عليّ مما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين فضحك رسول الله صلّى الله عليه، فقيل له: يا أمير المؤمنين وما الذبيحان؟ فقال: إنّ عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله عز وجل لئن سهل الله عز وجل له أمرها ليذبحنّ أحد ولده، قال: فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا: افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل والثاني إسماعيل (عليه السلام) [99] «2» .
فهذا ما ورد من الأخبار في هذا الباب، فأما حجة القائلين بأنه إسحاق من القرآن فهو أنّ الله سبحانه أخبر عن خليله إبراهيم (عليه السلام) حين فارق قومه مهاجرا إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط وقال: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ إنه دعا فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ وذلك أنه قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن تصير له أم إسماعيل. ثم اتبع ذلك الخبر عن إجابته ودعوته وتبشيره أياه بِغُلامٍ حَلِيمٍ ثم عن رؤيا إبراهيم أن يذبح ذلك الغلام الذي بشر به حين بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ وليس في [كتاب الله بشير لإبراهيم بولد ذكر] «3» إلّا بإسحاق.
واحتج من قال: إنه إسماعيل من القرآن بما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول: إنّ الذي أمر الله سبحانه إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك
__________
(1) مجمع زوائد: 8/ 202، تفسير ابن كثير: 4: 18 بتفاوت يسير.
(2) تفسير القرطبي: 15/ 113 بتفاوت.
(3) تاريخ الطبري: 1/ 190.(8/152)
في كتاب الله سبحانه، وذلك أن الله عز وجل يقول حين فرغ من قصة المذبوح: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.
وقال عز من قائل: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ «1» يقول: بابن وبابن ابن، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله سبحانه وتعالى الموعود «2» . فلما لم يذكر الله تعالى إسحاق إلّا بعد انقضاء قصّة الذبح، ثم بشّره بولد إسحاق علمنا أنّ الذبيح إسماعيل.
قال القرظي: فذكرت ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، إذ كنت معه بالشام، فقال لي عمر: إنّ هذا الشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت. ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام، وكان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علماء اليهود، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك وأنا عنده فقال: أيّ ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل. ثم قال: والله يا أمير المؤمنين إنّ اليهود لتعلم ذلك ولكنهم ليحسدونكم معشر العرب على أن يكون أنّ أباكم الذي كان من أمر الله سبحانه وتعالى فيه والفضل الذي ذكره الله سبحانه منه لصبره على ما أمر به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم.
واحتجوا أيضا بأن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير «3» والحجاج، قال الشعبي: رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة، وكان القرنان ميراثا لولد إسماعيل عن أبيهم، فلم يزاحمهم على ذلك ولد إسحاق وهم الروم، وكانوا أكبر وأعزّ وأمنع من العرب: وهذا أدل دليل على أن الذبيح إسماعيل.
وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال لي: يا أصمع أين ذهب عنك عقلك؟
ومتى كان إسحاق عليه السلام بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه إبراهيم (عليهما السلام) ، كما قال الله سبحانه وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ «4» ، والمنحر بمكة لا شكّ فيه.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن المنذر الضرير يقول: سمعت أبا محمد الزنجاني المؤدّب يقول: سئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد:
إنّ الذبيح هديت إسماعيل ... نطق الكتاب بذاك والتنزيل «5»
__________
(1) سورة هود: 71.
(2) أي الولد الموعود.
(3) هو عبد الله بن الزبير بن العوّام. هامش المخطوط.
(4) سورة البقرة: 127.
(5) تفسير القرطبي: 15/ 100.(8/153)
شرف به خصّ الإله نبيّنا ... وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت أمّته فلا تنكر له ... شرفا به قد خصّه التفضيل
وأما قصة الذبح فقال السدي بإسناده: لمّا فارق إبراهيم الخليل (عليه السلام) قومه مهاجرا إلى الشام هاربا بدينه، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ دعا الله سبحانه وتعالى أن يهب له ابنا صالحا من سارة فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فلما نزل به أضيافه من الملائكة المرسلين إلى المؤتفكة وبشّروه بغلام حليم، قال إبراهيم لما بشّر به:
فهو إذن لله ذبيح. فلما ولد الغلام وبَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، قيل: أوف بنذرك الذي نذرت. فكان هذا هو السبب في أمر الله تعالى رسوله إبراهيم بذبح ابنه، فقال إبراهيم عند ذلك لإسحاق: «انطلق نقرّب قربانا لله تعالى» [100] ، وأخذ سكّينا وحبلا ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام: يا أبت أين قربانك؟ فقال يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيصلي بمكة، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام. حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته، أري في المنام أن يذبحه، فلما أمر بذلك قال لابنه: «يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب» . فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب [ثبير] ، أخبره بما أمر، كما ذكر الله تعالى، قالوا:
فقال له ابنه الذي أراد أن يذبحه: «يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف عنّي ثيابك حتى لا ينضح عليها من دمي شيء، فينقص أجري وتراه أمّي فتحزن، واشحذ شفريك، وأسرع مرّ السكين على حلقي ليكون أهون للموت عليّ، فإنّ الموت شديد، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عنّي» .
فقال له إبراهيم (عليه السلام) : «نعم العون أنت يا بني على أمر الله» .
ففعل إبراهيم ما أوصاه به ابنه، ثم أقبل عليه يقبّله، وقد ربطه وهو يبكي والابن يبكي حتى استنقع الدموع تحت خده، ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تنحر السكين. قال السدي:
ضرب الله صفحة من النحاس على حلقه. قالوا: فقال الابن عند ذلك: «يا أبت كبّني لوجهي على جبيني، فإنّك إذا نظرت في وجهي رحمتني، وأدركتك رقّة تحول بينك وبين أمر الله وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع» . ففعل ذلك إبراهيم، ووضع السكين على قفاه فانقلب السكين، ونودي: «يا إبراهيم مه، قد صدّقت الرّؤيا، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها دونه» ، فنظر إبراهيم فإذا هو بجبرائيل ومعه كبش أقرن أملح فكبّر جبرائيل فكبّر الكبش فكبّر إبراهيم فكبّر ابنه وأخذ إبراهيم الكبش وأتى به المنحر من منى فذبحه.(8/154)
قال ابن عباس: فو الذي نفسي بيده، لقد كان أوّل الإسلام، وإنّ رأس الكبش لمعلّق بقرنيه في ميزاب الكعبة.
قال السدّي: فلما أخذ إبراهيم (عليه السلام) الكبش خلّى عن ابنه، وأكبّ عليه وهو يقبّله ويقول: «يا بني وهبت لي» ، ثم رجع إلى سارة فأخبرها الخبر، فجزعت سارة وقالت: يا إبراهيم، أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني؟ [101] .
وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله قالوا: لما أري إبراهيم (عليه السلام) ذبح ابنه قال الشيطان: والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم، لا أفتن منهم أحدا أبدا.
فتمثل لهم الشيطان رجلا وأتى أمّ الغلام فقال لها: هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت:
ذهب به يحطبنا من هذا الشعب. قال: لا والله ما ذهب به إلّا ليذبحه. قالت: كلا هو أرحم به وأشدّ حبّا له من ذلك. قال: إنه يزعم أنّ الله أمره بذلك. قالت: فإن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه، وسلّمنا لأمر الله عز وجل.
فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه فقال له: يا غلام هل تدري أين يذهب أبوك؟ قال: «يحطب أهلنا من هذا الشعب» . قال: والله ما يريد إلّا أن يذبحك. قال: «ولم» .
قال: زعم أنّ ربه أمره بذلك، قال: «فليفعل ما أمره به ربه، فسمعا وطاعة» .
فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم، فقال له: أين تريد أيّها الشيخ؟ قال: «أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه» . فقال: والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك، فأمرك بذبح بنيّك هذا. فعرفه إبراهيم فقال: «إليك عنّي يا عدوّ الله، فو الله لأمضينّ لأمر الله» [102] «1» .
وروى أبو الطفيل عن ابن عباس أنّ إبراهيم لما أمر بذبح ابنه، عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم ذهب إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى بأمر الله عز وجل في ذلك.
وقال أمية بن أبي الصلت: «2»
ولإبراهيم الموفي بالنذر ... احتسابا وحامل الأحدال
بكره لم يكن ليصبر عنه ... لو يراه في معشر أقتال
يا بني إني نذرتك لله ... شحيطا فاصبر فدى لك حالي
__________
(1) تاريخ الطبري: 1/ 192 ذكر الخبر عن صفة فعل إبراهيم وابنه.
(2) الأبيات بكاملها في تاريخ الطبري: 1/ 195 ذكر خبر إبراهيم وابنه.(8/155)
واشدد الصفد لا أحيد عن السكين ... حيد الأسير ذي الأغلال
وله مدية تخايل في اللحم ... هذام حنية كالهلال
بينما يخلع السرابيل عنه ... فكّه ربّه بكبش حلال
قال خذه ذا وأرسل ابنك إني ... للذي قد فعلتما غير قال
ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال
فهذه قصة الذبح كما قال الله سبحانه: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قال ابن عباس: يعني المشي مع أبيه إلى الحيل «1» . قال الحسن ومقاتل بن حيان: يحني العقل الذي يقوم به الحجة، وقال الضحاك: يعني الحركة، وقال ابن زيد: [هو السعي في] العبادة.
يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ: رأيت في المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ لنذر عليّ فيك أمرت بذلك، وذلك أنّ إبراهيم (عليه السلام) رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إنّ الله يأمرك بذبح ابنك هذا. فلما أصبح روّى في نفسه- أي فكّر- من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحكم أو من الشيطان؟ فمن ثم سمّي يوم التروية. فلما أمسى رأى في المنام ثانيا ما رآه من ذبح الولد، فلما أصبح عرف أنّ ذلك الحكم من الله، فمن ثم سمّي يوم عرفة.
وقال: مقاتل: رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات، وقال عطاء ومقاتل: أمر إبراهيم أن يذبح ابنه ببيت المقدس فلما تيقّن ذلك أخبر ابنه فقال لابنه فَانْظُرْ ماذا تَرى؟ قرأ العامة بفتح التاء، وقرأ حمزة والكسائي (تُرِي) بضم التاء وكسر الراء- أي ماذا تشير؟ وإنما جاز أن يؤامر ابنه في المضي لأمر الله لأنه أحبّ أن يعلم صبره على أمر الله وعزمه على طاعته فقال له ابنه:
يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
فَلَمَّا أَسْلَما أي انقادا وخضعا لأمر الله سبحانه وتعالى ورضيا به، وقرأ ابن مسعود (فلما سلّما) أي فوّضا، وقرأ ابن عباس (استسلما) . قال قتادة: أسلم هذا ابنه وهذا نفسه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي صرعه وأضجعه وكبّه على وجهه للذّبح وَنادَيْناهُ، قال أهل المعاني: (الواو) مقحمة صلة، مجازه: ناديناه، كقوله: وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا «2» يعني:
أوحينا، وقوله: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ «3» وقال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى «4»
__________
(1) في تفسير القرطبي 15/ 99: وقال ابن عباس: هو احتلام، قتادة: مشى مع أبيه
(2) سورة يوسف: 15.
(3) سورة الأنبياء: 96. [.....]
(4) لسان العرب: 5/ 326.(8/156)
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
وقال الشاعر:
حتى إذا قملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبّوا
وقلبتم ظهر المجن لنا ... إنّ اللئيم العاجز الخب «1»
أراد: قلبتم.
أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ: الاختبار المظهر فيما يوجب النعمة أو النقمة، ولذلك قيل للنعم: بلاء وللمحنة بلاء لأنها سمّيت باسم سببها المؤدّى به إليها، كما قيل لأسباب الموت: هذا الموت بعينه.
[سورة الصافات (37) : الآيات 107 الى 122]
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116)
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121)
إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، والذّبح: المهيأ لأن يذبح، والذّبح- بالفتح- المصدر، وقد اختلفوا في هذا الذّبح وسبب تسميته عظيما فأخبرنا أبو الحسن الفهندري قال: حدّثنا أبو العباس الأصم قال: حدّثنا إبراهيم بن مرزوق البصري قال: حدّثنا أبو عامر العقدي عن سفيان ابن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قرّبه ابن آدم، وقال سعيد بن جبير: حق له أن يكون عظيما وقد رعى في الجنة أربعين خريفا، وقال مجاهد: سمّاه عظيما لأنه متقبل، وقال الحسين بن الفضيل: لأنه كان من عند الله، وقال أبو بكر الورّاق: لأنه لم يكن عن نسل وإنما كان بالتكوين، وقيل: لأنه فداء عبد عظيم، وقال أهل المعاني: قيل له: عظيم لأنه يصغر مقدار غيره من الكباش بالإضافة إليه، وأكثر المفسرين على أنه كان كبشا من الغنم أعين أقرن أملح، وروى عمر بن عبيد عن الحسن أنه كان يقول: ما فدى إسماعيل إلّا تيس من الأروى، وأهبط عليه من [السماء] ، وهي رواية أبي صالح عن ابن عباس قال: وكان وعلا.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة وعبيد
__________
(1) السان العرب: 11/ 568.(8/157)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
الله قالا: حدّثنا ابن مجاهد قال: حدّثني أحمد بن حرب قال: حدّثنا سبيك قال: حدّثنا وكيع عن سفيان عن داود عن عكرمة عن ابن عباس. وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ: بشرى نبوّة بشّر به مرتين حين ولد وحين نبّئ، وَبارَكْنا عَلَيْهِ أي على إبراهيم في الأولاد، وَعَلى إِسْحاقَ حين أخرج أنبياء بني إسرائيل من صلبه.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ: مؤمن وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ: كافر ظاهر الكفر.
وَلَقَدْ مَنَنَّا: أنعمنا عَلى مُوسى وَهارُونَ بالنبوة.
وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما: بني إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، يعني الغرق، حيث أغرقنا فرعون وقومه وَنَصَرْناهُمْ يعني موسى وهارون وقومهما فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على القبط، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ: المستنير وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.
[سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 138]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، أخبرنا أبو محمد بن أبي القاسم بن المؤهل قال: حدّثنا أبو العباس الأصم قال: حدّثنا بكار بن قتيبة قال: حدّثنا أبو داود الطيالسي قال: حدّثنا قيس بن أبي إسحاق عن عبية بن ربيعة عن ابن مسعود قال: إلياس هو إدريس، وإسرائيل هو يعقوب، وإلى هذا ذهب عكرمة، وقال: هو في مصحف عبد الله: وإن إدريس لمن المرسلين وتفرّد عبد الله وعكرمة بهذا القول.
وقال الآخرون: هو نبي من أنبياء بني إسرائيل. قال ابن عباس: وهو ابن عمّ اليسع، وقال ابن إسحاق: هو إلياس بن ياسين بن العيزار بن هارون بن عمران، وقال أيضا محمد بن إسحاق ابن ياسر والعلماء من أصحاب الأخبار: لمّا قبض الله سبحانه حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وظهر فيهم الفساد والشرك، ونسوا عهد الله، ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، فبعث الله إليهم إلياس (عليه السلام) : نبيا وإنما دانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام يبعثون إليهم تجديد ما نسوا من التوراة، وبنو إسرائيل يومئذ متفرّقون في أرض الشام وفيهم ملوك كثيرة وكان سبب ذلك أنّ يوشع بن نون لما فتح أرض الشام بعد موسى(8/158)
وملكها بوّأها بني إسرائيل وقسّمها بينهم، فأحلّ سبطا منهم بعلبك ونواحيها، وهم سبط إلياس الذي كان منهم إلياس فبعثه الله إليهم نبيّا، وعليهم يومئذ ملك يقال له: [أجب] «1» قد ضلّ أضل قومه، وأجبرهم على عبادة الأصنام، وكان يعبد هو وقومه صنما يقال له: بعل، وكان طوله عشرين ذراعا، وكانت له أربعة وجوه. قال: فجعل إلياس يدعوهم إلى الله سبحانه، وهم في كلّ ذلك لا يسمعون منه شيئا إلّا ما كان من أمر الملك الذي كان ببعلبك، فإنه آمن به وصدّقه وكان إلياس يقوم أمره ويسدده ويرشده وكان «2» لأجب الملك هذا امرأة يقال لها أزبيل «3» ، وكان يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها، فكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتركب كما يركب، وتجلس في مجلس القضاء فتقضي بين الناس، وكانت قتّالة للأنبياء.
قال: وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتمها إيمانه، وكان كاتبها قد خلّص من يدها ثلاثمائة نبي كانت تريد قتل كل «4» واحد منهم إذا بعث سوى الذين قبلهم ممن يكثر عددهم، وكانت في نفسها غير محصنة، ولم يكن على وجه الأرض أفحش منها، وهي مع ذلك قد تزوجت سبعة «5» ملوك من بني إسرائيل وقتلتهم «6» كلّهم بالاغتيال، وكانت معمّرة حتى يقال: إنها ولدت سبعين ولدا.
قال: وكان لأجب هذا جار من بني إسرائيل، رجل صالح يقال له (مزدكي) وكانت له جنينة يعيش منها ويقبل على عمارتها ويزينها، وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته، وكانا «7» يشرفان على تلك الجنينة يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها، وكان أجب الملك مع ذلك يحسن إليه، وامرأته أزبيل تحسده على ذلك لأجل تلك الجنينة، وتحتال في أن تغصبها إياه لما تسمع الناس يكثرون ذكر الجنينة ويتعجبون من حسنها، ويقولون: ما أحرى أن تكون هذه الجنينة لأهل هذا القصر! ويتعجبون من الملك وامرأته كيف لم يغصباها صاحبها. فلم تزل امرأة الملك تحتال على العبد الصالح مزدكي في أن تقتله وتأخذ جنينة والملك ينهاها عن ذلك فلا تجد عليه سبيلا.
ثم إنه اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد، وطالت غيبته، فاغتنمت امرأته أزبيل ذلك للحيلة
__________
(1) ضبطه المصنّف في عرائس المجالس: 192- 199، بلفظ: لاجب.
(2) قوله: آمن به وصدّقه..، وكان، وردت في هامش المخطوط على أنها سقط، وفي ضمن المتن من عرائس المجالس.
(3) ضبطه المصنّف في المصدر نفسه بلفظ: أربيل.
(4) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: رجل.
(5) في المخطوط: سبع.
(6) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: قتلت.
(7) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: كان.(8/159)
على مزدكي، وهو غافل عمّا تريد به، مقبل على عبادة ربه وإصلاح معيشته، فجمعت أزبيل جمعا من الناس وأمرتهم أن يشهدوا على مزدكي أنه سبّ زوجها أجب فأجابوها إلى ملتمسها من الشهادة عليه.
وكان من حكمهم في ذلك الزمان على من سبّ الملك القتل إذا قامت عليه البيّنة بذلك فأحضرت مزدكي، وقالت له: بلغني أنّك شتمت الملك وعبته. فأنكر مزدكي ذلك، فقالت المرأة: إنّ عليك شهودا، وأحضرت الشهود فشهدوا بحضرة الناس عليه بالزور، فأمرت بقتل مزدكي فقتل وأخذت جنينته غصبا فغضب الله عليهم بقتل العبد»
الصالح.
فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر، فقال لها: ما أصبت ولا وفقت ولا أرانا نفلح بعده أبدا، وإنا كنّا عن جنينته لأغنياء، قد كنّا نتنزه فيها، وقد جاورنا وتحرّم بنا مذ زمان طويل، فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى، لوجوب حقه علينا، فختمت أمره بأسوأ الجوار، وما حملك على اجترائك عليه إلّا سفهك وسوء رأيك وقلّة تفكرك في العواقب. فقالت: إنما غضبت لك وحكمت بحكمك. فقال لها: أوما يسعه حلمك ويحدوك عظيم خطرك على العفو عن رجل واحد فتحفظين له جواره؟ قالت: قد كان ما كان.
فبعث الله تعالى إلياس (عليه السلام) إلى أجب الملك وقومه وأمره أن يخبرهم أنّ الله سبحانه قد غضب لوليّه حين قتلوه بين أظهرهم ظلما، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنعهما ولم يردّا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما- يعني أجب وامرأته- في جوف الجنينة أشرّ ما يكونان بسفك دميهما ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرى عظامهما من لحومهما ولا يمتّعان بها إلّا قليلا.
قال: فجاء إلياس وأخبره بما أوحى الله تعالى إليه في أمره وأمر امرأته والجنينة، فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له: يا إلياس والله ما أرى ما تدعو إليه إلّا باطلا، والله ما أرى فلانا وفلانا، سمى ملوكا منهم قد عبدوا الأوثان- إلّا على مثل ما نحن عليه يأكلون ويشربون ويتنعّمون مملكين ما ينقص من دنياهم ولا من أمرهم «2» الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لكم علينا [ولا] عليهم من فضل.
قال: وهمّ الملك بتعذيب إلياس وقتله، فلما سمع إلياس ذلك وأحسّ بالشر، رفضه وخرج عنه، فلحق بشواهق الجبال، وعاد «3» الملك إلى عبادة بعل. فارتقى إلياس أصعب جبل وأشمخه، فدخل مغارة فيه، فيقال: إنه قد بقي فيه سبع سنين شريدا طريدا خائفا يأوي إلى
__________
(1) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: لعبد، بدل: يقتل العبد.
(2) قوله: ما ينقص من.... أمرهم من عرائس المجالس، وفي المخطوط: ما ينقص دنياهم أمرهم.
(3) وهذا يعني أن أجب قد ارتدّ عن إيمانه.(8/160)
الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر، وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون، يتوقعون أخباره ويجتهدون في أخذه، والله سبحانه وتعالى يستره ويدفع عنه. فلما تمّ له «1» سبع سنين أذن الله تعالى في إظهاره عليهم وشفاء غيظه منهم، فأمرض الله سبحانه ابنا لأجب- وكان أحبّ ولده إليه، وأعزهم عليه، وأشبههم به- فأدنف حتى يئس منه، فدعا صنمه بعلا- وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه، حتى جعلوا له أربعمائة سادن فوكلوهم به وجعلوهم أمناءه، فكان الشيطان يدخل في جوف الصّنم فيتكلّم بأنواع الكلام، وأربعمائة يصغون بآذانهم إلى ما يقول الشيطان، ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيكتبونها للناس فيعملون بها، ويسمونهم الأنبياء.
فلما اشتدّ مرض ابن الملك طلب إليهم الملك أن يتشفعوه إلى بعل ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء والعافية فدعوه «2» فلم يجبهم، ومنع الله بقدرته الشيطان عن صنمهم فلم يمكنه الولوج في جوفه ولا الكلام «3» ، وهم مجتهدون في التضرع إليه وهو لا يزداد إلّا خمودا «4» . فلما طال عليهم ذلك قالوا لأجب: إنّ في ناحية الشام آلهة أخرى، وهي في العظم مثل إلهك، فابعث إليها الأنبياء ليشفعوا لك إليها، فلعلّها أن تشفع لك إلى إلهك بعل، فإنه غضبان عليك، ولولا غضبه عليك لكان قد «5» أجابك وشفى لك ابنك.
قال أجب: ومن أجل ماذا غضب عليّ، وأنا أطيعه وأطلب رضاه منذ كنت، لم أسخطه ساعة قط؟ قالوا: من أجل أنك لم تقتل إلياس، وفرطت فيه حتى نجا سليما، وهو كافر بإلهك، يعبد غيره، فذلك الذي أغضبه عليك. قال أجب: وكيف لي أن أقتل إلياس يومي هذا، وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابني؟ فليس لإلياس مطلب، ولا يعرف له موضع فيقصد، فلو عوفي ابني تفرّغت لطلبه، ولم يكن لي همّ ولا شغل غيره حتى آخذه فاقتله، فأريح إلهي منه وأرضيه.
قال: ثم إنه بعث أنبياءه الأربعمائة ليشفعوا إلى الآلهة «6» . التي بالشام، ويسألوها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفي ابنه. فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه إلياس، أوحى الله سبحانه إلى إلياس أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويستوقفهم ويكلمهم، وقال له: «لا تخف فإني سأصرف عنك شرّهم، وألقي الرّعب في قلوبهم» فنزل إلياس من الجبل، فلما لقيهم استوقفهم، فلما وقفوا، قال لهم: «إنّ الله سبحانه أرسلني إليكم وإلى من وراءكم، فاسمعوا أيّها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم، فارجعوا إليه وقولوا له: إنّ الله يقول لك: ألست تعلم يا أجب
__________
(1) من عرائس المجالس.
(2) من عرائس المجالس وفي المخطوط: فدعوهم. [.....]
(3) من عرائس المجالس.
(4) في عرائس المجالس: لا يزداد بذلك إلّا ألما وجهدا.
(5) من عرائس المجالس، وفي المخطوط لقد، بدل لكان قد.
(6) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: الهون.(8/161)
أنّي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا إله بني إسرائيل الذي خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم، أفجهلك وقلة علمك حملك على أن تشرك بي، وتطلب الشفاء لابنك من غيري ممن لا يملكون لأنفسهم شيئا إلّا ما شئت؟ إنّي حلفت باسمي لأغيظنّك في ابنك ولأميتنه في فوره هذا حتى تعلم أنّ أحدا لا يملك له شيئا دوني» .
فلما قال لهم هذا رجعوا، وقد ملئوا منه رعبا، فلما صاروا إلى الملك قالوا له ذلك وأخبروه بأن إلياس انحط عليهم وهو رجل نحيف طويل «1» ، قد قشف وقحل وتمعط شعره وتقشر جلده، عليه جبّة من شعر وعباءة قد خللها على صدره بخلال، فاستوقفنا، فلما صار معنا قذفت له في قلوبنا الهيبة والرعب، وانقطعت ألسنتنا، ونحن في هذا العدد الكبير وهو واحد، فلم نقدر على أن نكلّمه ونراجعه ونملأ أعيننا منه، حتى رجعنا إليك، وقصّوا عليه كلام إلياس، فقال أجب: لا ينتفع بالحياة ما كان إلياس حيّا، ما الذي منعكم أن تبطشوا به حين لقيتموه وتوثقوه وتأتوني به، وأنتم تعلمون أنه طلبي وعدوّي؟ فقالوا: قد أخبرناك ما الذي منعنا منه ومن كلامه والبطش به. قال أجب: ما يطاق إذن إلياس إلّا بالمكر والخديعة.
فقيّض له خمسين رجلا من قومه من ذوي القوة والبأس، وعهد إليهم عهده وأمرهم بالاحتيال عليه «2» والاعتناء به، وأن يطمعوه في أنهم قد آمنوا به هم ومن وراءهم ليستنيم إليهم ويغترّ بهم فيمكنهم من نفسه، فيأتوا به ملكهم. فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذي فيه إلياس (عليه السلام) ، ثم تفرّقوا فيه وهم ينادونه بأعلى أصواتهم، ويقولون: يا نبي الله ابرز لنا وأشرف «3» بنفسك فإنا قد آمنا بك وصدقناك، وملكنا أجب وجميع قومنا، وأنت آمن على نفسك، وجميع بني إسرائيل يقرءون عليك السلام ويقولون: قد بلّغتنا رسالة ربك وعرفنا ما قلت وآمنا بك، وأجبناك إلى ما دعوتنا فهلمّ إلينا، فأنت نبينا ورسول ربنا، فأقم بين أظهرنا واحكم فينا، فإنا ننقاد لما أمرتنا وننتهي عما نهيتنا، وليس يسعك أن تتخلف عنا مع إيماننا وطاعتنا، فتداركنا وارجع إلينا، وكلّ هذا كان منهم مماكرة وخديعة.
فلما سمع إلياس مقالتهم وقعت بقلبه، وطمع في إيمانهم وخاف الله، وأشفق من سخطه إن هو لم يظهر ولم يجبهم بعد الذي سمع منهم، فلمّا أجمع على أن يبرز لهم، رجع إلى نفسه فقال: «لو أنّي دعوت الله سبحانه وتعالى وسألته أن يعلمني ما في أنفسهم ويطلعني على حقيقة أمرهم» ، وذلك أنّ الله سبحانه وفقه وألهمه التوقّف والدعاء والتحرز، فقال: «اللهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فائذن لي في البروز إليهم، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم» .
__________
(1) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: طوال.
(2) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: له.
(3) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: امنن.(8/162)
فما استتمّ قوله حتى حصبوا بالنار من فوقهم أجمعين.
قال: وبلغ أجب وقومه الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء، واحتال ثانيا في أمر إلياس، وقيّض فئة أخرى مثل عدد أولئك، أقوى منهم وأمكن من الحيلة والرأي فأقبلوا حتى توغلوا [في] تلك الجبال. متفرقين، وجعلوا ينادون: يا نبي الله إنا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته، إنا لسنا كالذين «1» أتوك قبلنا، إنّ أولئك فرقة نافقوا وخالفوا «2» ، فصاروا إليك ليكيدوا بك من غير رأينا ولا علمنا «3» ، وذلك أنهم حسدونا وحسدوك وخرجوا إليك سرا، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤونتهم، والآن فقد كفاك ربك أمرهم وأهلكهم بسوء نياتهم وانتقم دونك منهم. فلما سمع إلياس مقالتهم دعا الله بدعوته الأولى، فأمطر عليهم النار فاحترقوا عن آخرهم.
وفي كل ذلك ابن الملك في البلاء الشديد من وجعه كما وعده الله سبحانه وتعالى على لسان نبيّه إلياس، لا يقضى عليه فيموت ولا يخفف عنه من عذابه، فلما سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا إزداد غضبا إلى غضب، وأراد أن يخرج في طلب إلياس بنفسه إلّا أنه شغله عن ذلك مرض «4» ابنه، فلم يمكنه، فوجه نحو إلياس الكاتب المؤمن الذي هو كاتب امرأته، رجاء أن يأنس به إلياس، فينزل معه وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءا، وإنما أظهر له ذلك لما اطّلع عليه من إيمانه، وأنّ الملك مع اطلاعه على إيمانه كان مغضيا عنه فيه لما هو عليه من الأمانة والكفاءة والحكمة وسداد الرأي والبصر «5» بالأمور- فلما وجّهه نحوه أرسل معه «6» فئة من أصحابه، وأوعز إليهم «7» دون الكاتب أن يوثقوا إلياس ويأتوه به إن أراد التخلف عنهم، وإن جاء مع الكاتب واثقا به آنسا لمكانته لم يوحشوه ولم يرّوعوه. ثم أظهر للكاتب الإنابة، وقال له: إنه قد آن لي أن أتوب واتّعظ، وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا، والبلاء الذي فيه ابني، وقد عرفت أنّ ذلك بدعوة إلياس، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته، فانطلق لنا إليه وأخبره أنا قد تبنا وأنبنا، وإنّه لا يصلحنا في توبتنا، وما نريد من رضا ربنا وخلع أصنامنا إلّا أن يكون إلياس بين أظهرنا، يأمرنا وينهانا، ويخبرنا بما يرضي ربنا.
قال: وأمر قومه فاعتزلوا الأصنام وقال له: أخبر إلياس أنّا قد خلعنا آلهتنا التي كنا نعبد
__________
(1) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: كالذي.
(2) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: خالفتنا.
(3) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: علم.
(4) من عرائس المجالس.
(5) في عرائس المجالس: البصارة.
(6) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: أرسله.
(7) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: الفئة. [.....](8/163)
وأرجأنا أمرها حتى ينزل إلياس إلينا فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها، وكان ذلك مكرا من الملك. فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه إلياس، ثم ناداه، فعرف إلياس صوته، فتاقت نفسه إليه وأنس به «1» ، وكان مشتاقا إلى لقائه.
قال: وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى إلياس أن انزل إلى أخيك الصالح، فالقه وجدد العهد به. فنزل إليه وسلم عليه وصافحه وقال له: ما الخبر؟ فقال المؤمن: إنه بعثني إليك هذا الجبار الطاغية وقومه، ثم قصّ عليه ما قالوا، ثم قال له: إني لخائف إن رجعت إليه ولست معي أن يقتلني، فمرني بما شئت أفعله وأنتهي إليه، وإن شئت انقطعت إليك فكنت معك وتركته، وإن شئت جاهدته معك، وإن شئت ترسلني إليه بما تحبّ فأبلغه رسالتك، وإن شئت دعوت ربك فجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا.
قال: فأوحى الله سبحانه إلى إلياس أنّ كلّ شيء جاءك منهم مكر وكذب ليظفروا بك، وإنّ أجب إن أخبرته رسله أنّك قد لقيت هذا الرجل ولم يأت بك إليه اتهمه وعرف أنه قد داهن «2» في أمرك فلم يأمن أن يقتله فانطلق معه، فإنّ انطلاقك معه عذره وبراءته عند أجبّ، وإنّي سأشغل عنكما أجب، فأضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له همّ غيره ثم أميته على شرّ حال، فإذا مات هو فارجع عنه ولا تقم.
قال: فانطلق معهم حتى قدموا عليه شدّد الله الوجع على ابنه وأخذ الموت يكظمه فشغل الله بذلك أجب وأصحابه عن إلياس، ورجع إلياس سالما إلى مكانه. فلما مات ابن أجب، وفرغوا من أمره وقلّ جزعه، انتبه لإلياس وسأل عنه الكاتب الذي جاء به، فقال: ليس لي به علم وذلك أنه شغلني عنه موت ابنك والجزع عليه ولم أكن أحسبك إلّا وقد استوثقت منه. فأضرب عنه أجب وتركه لما كان فيه من الجزع على ابنه.
فلما طال الأمر على إلياس ملّ المكث «3» في الجبال والمقام بها واشتاق إلى العمران والناس، نزل من الجبل وانطلق حتى نزل بامرأة من بني إسرائيل، وهي أمّ يونس بن متّى ذي النون، فاستخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود يرضع، وكانت أمّ يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها ولا تدّخر عنه كرامة تقدر عليها.
قال: ثم إنّ إلياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال دوحها فأحبّ اللّحوق بالجبال، فخرج وعاد إلى مكانه، فجزعت أمّ يونس لفراقه [وأوحشها] «4» فقده ثم لم تلبث إلّا
__________
(1) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: بمكانه.
(2) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: كاهن.
(3) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: الكون.
(4) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: وأوحشتها.(8/164)
يسيرا حتى مات ابنها حين فطمته، فعظمت مصيبتها فيه، فخرجت في طلب إلياس فلم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ووجدته فقالت له: إني قد فجعت بعدك بموت ابني فعظمت فيه مصيبتي واشتد لفقده بلائي وليس لي ولد غيره فارحمني وادع ربك جل جلاله ليحيي لي ابني ويجبر مصيبتي، وإني قد تركته مسجّى لم أدفنه، وقد أخفيت مكانه. فقال لها إلياس: «ليس هذا مما أمرت به، وإنما أنا عبد مأمور أعمل بما يأمرني ربي، ولم يأمرني بهذا» فجزعت المرأة وتضرعت، فأعطف الله سبحانه قلب إلياس لها، فقال لها: «ومتى مات ابنك؟» قالت: منذ سبعة أيام.
فانطلق إلياس معها وسار سبعة أخرى حتى انتهى إلى منزلها فوجد ابنها يونس بن متّى ميتا منذ أربعة عشر يوما، فتوضأ وصلّى ودعا فأحيا الله يونس بن متّى بدعوة إلياس. فلما عاش وجلس، وثب إلياس وانصرف وتركه وعاد إلى موضع ما كان فيه. فلما طال عصيان قومه ضاق بذلك إلياس ذرعا وأجهده البلاء، قال: فأوحى الله سبحانه إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود: «يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه؟ ألست أميني على وحيي، وحجّتي في أرضي، وصفوتي من خلقي؟ فسلني أعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم» قال:
«تميتني فتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملّوني، وأبغضتهم فيك وأبغضوني» . فأوحى الله سبحانه إليه: «يا إلياس، ما هذا باليوم الذي أعري منك الأرض وأهلها، وإنما قوامها وصلاحها بك وأشباهك وإن كنتم قليلا، ولكن تسألني فأعطيك» .
قال إلياس: «فإن لم تمتني يا إلهي فأعطني ثاري من بني إسرائيل» . قال الله سبحانه:
«وأي شيء تريد أن أعطيك يا إلياس؟» قال: «تمكّنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشأ عليهم سحابة إلّا بدعوتي، ولا يمطر عليهم سبع سنين قطرة إلّا بشفاعتي، فإنهم لا يذلّهم إلّا ذلك» . قال الله سبحانه وتعالى: «يا إلياس، أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين» . قال: «فستّ سنين» . قال: «أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين» .
قال: «فخمس سنين» . قال: «أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين، ولكنّي أعطيك ثأرك ثلاث سنين، أجعل خزائن المطر بيدك، ولا تنشأ عليهم سحابة إلّا بدعوتك، ولا ينزل عليهم قطرة إلّا بشفاعتك» . قال إلياس: «فبأي شيء أعيش؟» قال: «أسخّر لك جنسا من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط» .
قال إلياس: «قد رضيت» .
قال: فأمسك الله عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر، وجهد(8/165)
الناس جهدا شديدا، وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان، وقد عرفه بذلك قومه، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في البيت قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فطلبوه ولقي منهم أهل ذلك المنزل شيئا.
قال ابن عباس: أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط، فمرّ إلياس بعجوز، فقال لها:
هل عندك طعام؟ فقالت: نعم، شيء من دقيق وزيت قليل. قال: فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسّه حتى ملأ جرابها دقيقا وملأ خوابيها زيتا، فلمّا رأى بنو إسرائيل «1» ذلك عندها قالوا: من أين لك هذا؟ قالت: مرّ بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته، فعرفوه وقالوا: ذلك إلياس، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم.
ثم إنه آوى ليلة إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له: اليسع بن أخطوب وكان «2» به ضر، فآوته وأخفت أمره، فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به، واتّبع اليسع إلياس فآمن به وصدّقه ولزمه، وكان يذهب به حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسنّ وكبر، وكان اليسع غلاما شابا.
ثم إن الله سبحانه أوحى إلى إلياس: «إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص سوى بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر يحبس المطر من بني إسرائيل» .
فيزعمون- والله أعلم- أنّ إلياس قال: «يا ربّ دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به، وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم لعلّهم أن يرجعوا وينزعوا عمّا هم عليه من عبادة غيرك» . قيل له: «نعم» .
فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم: «إنكم قد هلكتم جوعا وجهدا، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر لخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم [تلك] «3» فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء» .
قالوا: أنصفت.
فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تستجب لهم ولم يفرّج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، ثم قالوا لإلياس (عليه السلام) : يا إلياس إنا قد هلكنا فادع الله لنا. فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج عنهم مما هم فيه، وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر، وهم ينظرون،
__________
(1) قوله: رأى بنو إسرائيل، من عرائس المجالس، وفي المخطوط: رأواه.
(2) من عرائس المجالس.
(3) في المخطوط: ذلك.(8/166)
فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق، ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر وأغاثهم وحييت بلادهم. فلما كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد، ولم ينزغوا عن كفرهم، ولم يقلعوا عن ضلالتهم، وأقاموا على حيث ما كانوا عليه، فلما رأى إلياس ذلك دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم، فقيل له- فيما يزعمون- انظر يوم كذا وكذا، فاخرج فيه إلى موضع كذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه.
فخرج إلياس ومعه اليسع بن أحطوب، حتى إذا كان بالموضع الذي أمر، أقبل فرس من نار حتى وقف بين يديه، فوثب عليه إلياس، فانطلق به الفرس، فناداه اليسع: يا إلياس، ما تأمرني؟ فقذف إليه بكسائه من الجوّ الأعلى، وكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، فكان ذلك آخر العهد به، ورفع الله سبحانه إلياس من بين أظهرهم، وقطّع عنه لذّة المطعم والمشرب، وكساه الرّيش، فكان إنسيّا ملكيّا، أرضيّا سماويّا، وسلّط الله تعالى على أجب الملك وقومه عدّوا لهم، فقصدهم من حيث لم يشعروا بهم حتى رهقهم، فقتل أجب ملكهم وأزبيل امرأته في بستان مزدكي، فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما.
ونبّأ الله سبحانه بفضله اليسع، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل وأوحى إليه وأيده بمثل ما أيّد به عبده إلياس، فآمنت به بنو إسرائيل، فكانوا يعظّمونه وينتهون إلى أمره، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثنا الحسن بن عبد العزيز الجدوي عن ضمرة عن السدي بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: إلياس والخضر عليهما السلام يصومان شهر رمضان بيت المقدس، ويوافيان الموسم في كلّ عام.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة قال: حدّثنا الحسن بن أيوب قال: حدّثنا عبد الله بن أبي زياد قال: حدّثنا يسار قال: حدّثنا بشر بن منصور قال: حدّثني سعيد بن أبي سعيد البصري قال: قال حدّثني العلاء البجلي عن زيد مولى عون الطفاوي عن رجل من أهل عسقلان كان يمشي بالأردن عند نصف النهار، فرأى رجلا فقال: يا عبد الله من أنت؟ قال: فجعل لا يكلمني، قلت: يا عبد الله من أنت؟ قال: «أنا إلياس» قال: فوقعت عليّ رعدة، فقلت: ادع الله يرفع عني ما أجد حتى أفهم حديثك وأعقل عنك. قال: فدعا لي بثماني دعوات: «يا برّ يا رحيم يا حنان يا منان يا حي يا قيوم» ، ودعوتين بالسريانية لم أفهمهما.
قال: ورفع الله عنّي ما كنت أجد، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين يدي، قال:
فقلت له: يوحى إليك اليوم؟ قال: «منذ بعث الله سبحانه محمدا رسولا فإنه ليس يوحي إليّ» قال: قلت له: كم الأنبياء اليوم أحياء؟ قال: «أربعة، اثنان في الأرض، واثنان في السماء، في(8/167)
السماء عيسى وإدريس، وفي الأرض إلياس والخضر» . قلت: كم الأبدال؟ قال: «ستون رجلا، خمسون منهم من لدن عريش مصر إلى شاطئ الفرات، ورجل بالمصيصية ورجلان بعسقلان وسبعة في سائر البلدان، كلّما أذهب الله بواحد، جاء الله بآخر، بهم يدفع عن الناس وبهم يمطرون» . قلت: فالخضر أين يكون؟ قال: «في جزائر البحر» . قلت: فهل تلقاه؟ قال: «نعم» .
قلت: أين؟ قال: «بالموسم» قلت: فما يكون من حديثكما؟ قال: «يأخذ من شعري وآخذ من شعره» .
قال: وذاك حين كان بين مروان بن الحكم وبين أهل الشام القتال، فقلت: فما تقول في مروان بن الحكم؟ قال: «ما تصنع به؟ رجل جبّار عات على الله سبحانه، القاتل والمقتول والشاهد في النار» . قال: قلت: فإني قد شهدت فلم أطعن برمح ولم أرم بسهم ولم أضرب بسيف، وأنا أستغفر الله عز وجل من ذلك المقام أن أعود إلى مثله أبدا.
قال: «أحسنت، هكذا فكن» .
قال: فأني وإياه قاعدان، إذ وضع بين يديه رغيفان أشد بياضا من الثلج، أكلت أنا وهو رغيفا وبعض آخر ثم رفع فما رأيت أحدا وضعه ولا أحدا رفعه. قال: وله ناقة ترعى في وادي الأردن، فرفع رأسه إليها فما دعاها حتى جاءت فبركت بين يديه فركبها، قلت: أريد أن أصحبك. قال: «إنك لا تقدر على صحبتي» . قلت: إني خلوّ، ما لي زوجة ولا عيال. قال:
«تزوج وإياك والنساء الأربع: إياك والناشز والمختلعة والملاعنة والمبارية «1» ، وتزوّج ما بدا لك من النساء» . قال: قلت: إني أحبّ لقاءك. قال: «إذا رأيتني فقد لقيتني «2» » ، ثم قال: «إني أريد أن أعتكف في بيت المقدس في شهر الله المبارك رمضان» [103] .
قال: ثم حالت بيني وبينه شجرة، فو الله ما أدري كيف ذهب، فذلك قوله عز وجل: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ أتعبدون بَعْلًا؟ وهو اسم صنم لهم كانوا يعبدونها، ولذلك سمّيت مدينتهم بعلبك، وقال مجاهد وعكرمة والسدّي: البعل الرب بلغة أهل اليمن، وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال ابن عباس: وسألت أعرابيا يقول: لآخر: من بعل هذه الناقة؟ يعني صاحبها. قال الفراء: هي بلغة هذيل.
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، فلا تعبدونه: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب بنصب الهاء والبائين على البدل، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ورواية حفص عن عاصم، وقرأ الآخرون برفعها على الاستئناف.
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ في العذاب والنار إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ من قومه فإنهم
__________
(1) في عرائس المجالس: المبرزة.
(2) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: رأيتني.(8/168)
[ناجون من النار] «1» وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قرأ ابن محيص وشيبة سلام على إلياسين موصلا.
وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب (آل ياسين) بالمدّ. الباقون: إِلْ ياسِينَ بالقطع والقصر، فمن قرأ آل ياسين بالمد، فإنه أراد آل محمد عن بعضهم، وقيل: أراد إلياس، وهو أليق بسياق الآية، ومن قرأ إِلْ ياسِينَ فقد قيل: إنها لغة في إلياس مثل إسماعيل وإسماعين وميكائيل وميكائين، وقال الفراء: وهو جمع، أراد إلياس وأتباعه من المؤمنين كقولهم: الأشعرون والمكيون وقال الكسائي: العرب تثني وتجمع الواحد كقول الشاعر:
قدني من نصر الخبيبين قدي
وإنما هو أبو خبيب عبد الله بن الزبير.
وقال الآخر:
جزاني الزهدمان جزاء سوء
وإنما هو زهدم، وفي حرف عبد الله (وإن إدريس لمن المرسلين، وسلام على ادراسين) .
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ، أي على آثارهم ومنازلهم، مُصْبِحِينَ
: وقت الصباح، وَبِاللَّيْلِ
أيضا تمرّون، وهاهنا تمّ الكلام، ثم قال أَفَلا تَعْقِلُونَ
، فتعتبروا؟
__________
(1) كلمة غير مقروءة، والظاهر ما أثبتناه.(8/169)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 182]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ
. هرب إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
، قال ابن عباس ووهب: كان يونس (عليه السلام) قد وعد قومه العذاب فلما تأخر العذاب عنهم خرج كالمنشور «1» منهم، فقصد البحر وركب السفينة، فاحتبست السفينة، فقال الملّاحون: هاهنا عبد أبق من سيّده، وهذا رسم السفينة إذا كان فيه آبق لا تجري. فاقترعوا، فوقعت القرعة على يونس، فقالوا: ألا نلقيه في الماء؟ واقترعوا ثانيا وثالثا فوقعت القرعة على يونس، فقال: «أنا الآبق» وزجّ نفسه في الماء، فذلك قوله سبحانه: فَساهَمَ
: فقارع، والمساهمة: إلقاء السهام على جهة القرعة. فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
المقروعين المخلوعين المغلوبين.
فَالْتَقَمَهُ: فابتلعه والتقمه الْحُوتُ وأوحى الله سبحانه إليه أنّي جعلت بطنك سجنا ولم أجعله لك طعاما، وَهُوَ مُلِيمٌ مذنب، قد أتى بما يلام عليه.
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ المنزّهين الذاكرين لله سبحانه قبل ذلك في حال الرخاء، وقال ابن عباس: من المصلين، وقال مقاتل: من المصلحين المطيعين قبل المعصية، وقال وهب: من العابدين، وقال سعيد بن جبير: يعني قوله لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «2» وقال الحسن: ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملا صالحا، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.
فَنَبَذْناهُ: طرحناه بِالْعَراءِ قال الكلبي: يعني وجه الأرض. مقاتل بن حيان: يعني ظهر الأرض. مقاتل بن سليمان بالبراري من الأرض. الأخفش بالفناء الفراء بالأرض الواسعة.
السدّي: بالساحل، وأصل العراء الأرض الخالية عن الشجر والنّبات، ومنه قيل للمتجرد:
عريان. قال الشاعر:
[ترك الهام ... بالعراء ... صار للخير حاصر العبقا] «3»
وَهُوَ سَقِيمٌ عليل كالفرخ الممغط، واختلفوا في المدة التي لبث يونس (عليه السلام) في بطن الحوت، فقال مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام. عطاء: سبعة أيام، ضحاك: عشرين يوما.
السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوما.
__________
(1) كذا في المخطوط.
(2) سورة الأنبياء: 87.
(3) هكذا في الأصل.(8/170)
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ أي له، وقيل: عنده، كقوله: لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ»
أي عندي شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ قال ابن مسعود: يعني القرع. ابن عباس والحسن ومقاتل هو كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض، ولا يبقى على الشتاء وليس له ساق نحو القثاء والبطيخ والقرع والحنظل. سعيد ابن جبير: هو كل شيء ينبت ثمّ يموت من عامه، وقيل: هو يفعيل من (قطن بالمكان) إذا أقام به إقامة زائل لا إقامة ثابت، وقال مقاتل بن حيان: وكان يستظل بالشجرة، وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها، وَأَرْسَلْناهُ يجوز أن يكون من حبسه في بطن الحوت، تقدير الآية وقد أرسلناه، ويجوز أن يكون بعده، ويجوز أن يكون إلى قوم آخرين. إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال ابن عباس: معناه ويزيدون، قال الشاعر:
فلما اشتد أمر الحرب فينا ... تأملنا رياحا أو رزاما «2»
أي ورزاما، وقال مقاتل: بل يزيدون.
واختلفوا في مبلغ الزيادة على مائة ألف فقال ابن عباس ومقاتل: عشرون ألف. الحسن والربيع: بضع وثلاثون ألفا، ابن حيان: سبعون ألفا، فَآمَنُوا عند معاينة العذاب، فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ انقضاء آجالهم.
فَاسْتَفْتِهِمْ: فسل يا محمد أهل مكة أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ وذلك أن جهينة وبني سلمة بن عبد الدار زعموا أنّ الملائكة بنات الله، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ: حاضرون خلقنا إياهم، نظيره قوله: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «3» .
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى. قرأ العامة بقطع الألف لأنه ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوحة على حالها مثل أَسْتَكْبَرْتَ «4» وأَسْتَغْفَرْتَ «5» وأَذْهَبْتُمْ «6» ونحوها.
وقرأ أبو جعفر ونافع في بعض الروايات (الكاذبون اصطفى) موصولة على الخبر والحكاية عن قول المشركين، مجازه: لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ ويقولون أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ثم رجع إلى الخطاب: ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ: برهان بيّن على أنّ الله ولدا فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً
: فجعلوا
__________
(1) سورة الشعراء: 14. [.....]
(2) تفسير القرطبي: 14/ 299.
(3) سورة الزخرف: 19.
(4) سورة ص: 75.
(5) سورة المنافقون: 6.
(6) سورة الأحقاف: 20.(8/171)
الملائكة بنات الله، فسمّي الملائكة جنّا لاختبائهم عن الأبصار، هذا قول مجاهد وقتادة، وقال ابن عباس: قالوا لحيّ: من الملائكة- يقال لهم: الجنّ ومنهم إبليس- بنات الله.
قال الكلبي: قالوا (لعنهم الله) : بل تزوّج من الجن فخرج منها الملائكة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه.
وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ يعني قائلي هذا القول لَمُحْضَرُونَ في النار.
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فإنهم من النار ناجون. فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ يعني الأصنام ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي مع ذلك بِفاتِنِينَ: بمضلّين إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي إلّا من هو في علم الله وإرادته سيدخل النار.
أخبرني ابن فنجويه قال حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفربابي قال: حدّثنا أبو بكر بن شنبه قال: حدّثنا عبد الله بن إدريس عن عمر بن ذر قال: قدمنا على عمر بن عبد العزيز فذكر عنده القدر، فقال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله ألّا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلما من كتاب الله، وجهله من جهله وعرفه من عرفه، ثم قرأ فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ، وقد فصلت هذه الآية بين الناس.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفربابي قال: حدّثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال: حدّثنا أنس بن عياض قال: حدّثني أبو سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر قال: قال لي عمر بن عبد العزيز (من فيه إلى أذني) : ما تقول في الذين يقولون لا قدر؟ قال:
أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلّا ضربت أعناقهم. قال عمر بن عبد العزيز: ذلك الرأي فيهم والله لو لم يكن إلّا هذه الآية الواحدة لكفى بها: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ.
ما مِنَّا إِلَّا لَهُ يعني إلّا من له مَقامٌ مَعْلُومٌ: مكان مخصوص في العبادة. قال ابن عباس: ما في السماوات موضع شبر إلّا وعليه ملك مصلّ أو مسبح، وقال أبو بكر: الوراق:
إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ يعبد الله عليه، كالخوف والرجا، والمحبة والرضا، وقال السدي: يعني في القربى والمشاهدة.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ في الصلاة، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وَإِنْ كانُوا وقد كادوا يعني أهل مكة لَيَقُولُونَ لام التأكيد: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ: كتابا مثل كتبهم، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فيه اختصار تقديره: فلما أتاهم ذلك الكتاب كفروا به. نظيره قوله: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ «1» .
__________
(1) سورة الأنعام: 157.(8/172)
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وهذا وعيد لهم.
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، وهي قوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» .
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ قال ابن عباس: يعني الموت، وقال مجاهد: يعني يوم بدر، وقيل: إلى يوم القيامة، وقال مقاتل بن حيان: نسختها آية القتال.
وَأَبْصِرْهُمْ. أنظر إليهم إذا عدوا، وقيل: أبصر حالهم بقليل، وقيل: انتظرهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما أنكروا: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ وذلك أنّ رسول الله (عليه السلام) لما أوعدهم العذاب، قالوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ: بناحيتهم وفنائهم فَساءَ: فبئس صَباحُ الْمُنْذَرِينَ:
الكافرين.
أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله الزاهد قال: أخبرنا أبو العباس السراح قال: حدّثنا محمد بن رافع قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمّر عن قتادة عن أنس في قوله: فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ قال: لما أتى النبي صلّى الله عليه خيبر فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومعهم مساحيهم، فلما رأوه ومعه الجيش نكصوا، فرجعوا إلى حصنهم، فقال النبي عليه السلام: «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ» [104] «2» .
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ تأكيد للأولى.
سُبْحانَ رَبِّكَ- إلى آخر السورة-
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال:
حدّثنا أبو مسلم: حدّثنا محمد بن إسماعيل بن محمد بن أسد بن عبد الله الأصفهاني قال:
حدّثنا أسيد بن عاصم قال: حدّثنا أبو سفيان بن صالح بن مهران قال: حدّثنا نعمان قال: حدّثنا أبو العوام عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «إذا سلمتم عليّ فسلّموا على المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين» «3» [105] .
قال أبو العوام: كان قتادة يذكر هذا الحديث إذا تلا هذه الآية: سُبْحانَ رَبِّكَ إلى آخر السورة.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد قال: حدّثنا الحسن بن علوية قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا المسيب قال: حدّثنا مطرف عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد
__________
(1) سورة المجادلة: 21.
(2) كتاب المسند للشافعي: 318.
(3) جامع البيان للطبري: 23/ 139.(8/173)
الخدري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه يقول قبل أن يسلّم: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا علي بن محمد الطنافسي قال: حدّثنا وكيع عن ثابت بن أبي صفية عن الأصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه قال: «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» [106] «2» .
[أخبرنا ابن فنجويه، أخبرنا الحسن المخلدي المقرئ عن أبي الحسن علي بن أحمد عن أبي [عثمان] البصري عن أبي خليفة [الجمحي عن] عبد المؤمن عن إبراهيم بن إسحاق [عن عبد الصمد] عن صالح بن مسافر قال: قرأت على عاصم بن أبي النجود سورة والصافات فلما أتيت على آخرها سكت، فقال: لم؟ اقرأ.
فقلت: قد ختمت، قال إني فعلت كما فعلت على أبي عبد الرحمن السلمي، فقال أبو عبد الرحمن: كذلك قال لي عليّ وقال لي: قل: آذنتكم بأذانة المرسلين ولتسئلن عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ «3» .
__________
(1) مجمع الزوائد: 10/ 103.
(2) الأذكار النووية: 299 ح 889.
(3) هكذا وجد هذا الخبر في هامش المخطوط.(8/174)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
سورة ص
وهي ثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا، وسبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وثمانية وثمانون آية.
من كتاب ثواب الأعمال: أخبرنا إبراهيم قال: حدّثنا سلام في إسناده قال: ومن قرأ سورة ص كان له من الأجر مثل جبل سخّره الله لداود عشرة حسنات، وعصم من أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير «1» .
حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن الحسن قال: حدّثنا أبو الربيع قال: حدّثنا ابن وهب قال:
حدّثني العطاف بن خلد عن عبد الرّحمن بن حرملة عن برد مولى سعيد بن المسيب: إنّ ابن المسيّب كان لا يدع أن يقرأ كل ليلة ص.
قال العطاف: فلقيت عمران بن محمّد بن سعيد بن المسيب فسألته عن ذلك.
قال: بلغني أنّه ما من عبد يقرأها كلّ ليلة إلّا اهتز له العرش.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)
ص قرأ العامة بالجزم، واختلفوا في معناه.
فقال الكلبي: عن أبي صالح، سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن ص فقالا: لا ندري.
وقال عكرمة: سأل نافع الأزرق عبد الله بن عباس عن ص فقال: كان بحرا بمكّة وكان عليه عرش الرّحمن، إذ لا ليل ولا نهار.
__________
(1) نقله الطبرسي في مجمع البيان: 8/ 340، عن أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلم.(8/175)
سعيد بن جبير: ص بحر يحيي الله به الموتى بين [النفختين] .
الضحّاك: صدق الله. مجاهد: فاتحة السّورة. قتادة: اسم من أسماء القرآن. السدّي:
قسم أقسم الله سبحانه وتعالى به، وهو اسم من أسماء الله عزّ وجلّ. وهي رواية الوالبي عن ابن عبّاس.
محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح أسماء الله، صمد، وصانع المصنوعات، وصادق الوعد.
وقيل: هو اسم السّورة، وقيل: هو إشارة إلى صدود الكفّار من القرآن.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: صادِ بخفض الدّال، من المصادّاة، أي عارض القرآن بعملك وقابله به، واعمل بأوامره، وانته عن نواهيه.
وقرأ عيسى بن عمر صادَ بفتح الدّال، ومثله قافَ ونونَ، لاجتماع السّاكنين، حرّكها إلى أخف الحركات.
وقيل: على الإغراء.
وقيل في ص: إنّ معناه صاد محمّد قلوب الخلق واستمالها حتّى آمنوا به.
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قال ابن عباس ومقاتل: ذي البيان.
الضحاك: ذي الشرف، دليله قوله عزّ وجل: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ.
وقيل: ذي ذكر الله عزّ وجلّ.
واختلفوا في جواب القسم، فقال قتادة: موضع القسم قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا كما قال سبحانه: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا. وقال الأخفش جوابه قوله: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ كقوله عزّ وجل: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا ... وقوله: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ... إِنْ كُلُّ نَفْسٍ. وقيل:
قوله: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ.
وقال الكسائي: قوله: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ.
وقيل: مقدم ومؤخر تقديره بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ... وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ.
وقال الفراء: ص معناها وجب وحقّ، فهي جواب لقوله وَالْقُرْآنِ كما تقول: [نزل] والله.
وقال القتيبي من قال جواب القسم بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال: «بل» إنما تجيء لتدارك كلام ونفي آخر، ومجاز الآية أن الله أقسم ب ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ويعني حمية جاهلية وتكبر.(8/176)
وَشِقاقٍ يعني خلاف وفراق.
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا بالأيمان والاستغاثة عند نزول العقوبة وحلول النقمة بهم.
وَلاتَ حِينَ مَناصٍ وليس بوقت فرار ولا بر.
وقال وهب: وَلاتَ بلغة السريانية إذا أراد السرياني أن يقول وليس يقول: ولات.
وقال أئمة أهل اللغة: وَلاتَ حِينَ مفتوحتان كأنّهما كلمة واحدة، وإنّما هي «لا» زيدت فيها التاء كقولهم: ربّ وربّت، وثمّ وثمّت.
قال أبو زيد الطائي:
طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء «1»
[وقال] آخر:
تذكّرت حبّ ليلى لات حينا ... وأمسى الشيب فقطع القرينا «2»
وقال قوم: إن التاء زيدت في حين كقول أبي وجزة السعديّ:
العاطفون حين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم «3»
وتقول العرب: تلان بمعنى الآن، ومنه حديث ابن عمر سأله رجل عن عثمان رضي الله عنه فذكر مناقبه ثم قال: اذهب بها تلان إلى أصحابك يريد الآن «4» .
وقال الشاعر:
تولى قبل يوم بين حمانا ... وصلينا كما زعمت تلانا «5»
فمن قال: إن التاء مع «لا» قالوا: قف عليه لأن بالتاء [ ... ] «6» .
وروى قتيبة عن الكسائي أنّه كان يقف: ولاه، بالهاء، ومثله روي عن أهل مكة، ومن قال: إن التاء مع حين. قالوا: قف عليه ولا، ثم يبتدئ تحين مناص. وهو اختيار أبي عبيد قال: لأني تعمّدت النظر إليه في الأمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه عنه فوجدت التاء متصلة مع حين قد ثبتت: «تحين» «7» .
__________
(1) لسان العرب: 13/ 40. [.....]
(2) لسان العرب: 15/ 468.
(3) تاج العروس: 9/ 188، وتفسير القرطبي: 5/ 148.
(4) تفسير القرطبي: 15/ 147- 149.
(5) لسان العرب: 13/ 43.
(6) كلمة غير مقروءة.
(7) أنظر المصدر السابق.(8/177)
وقال الفراء: النوص بالنون التأخر، والبوص بالباء التقدم. وجمعهما امرؤ القيس في بيت فقال:
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوة وتبوص «1»
فمناص مفعل من ناص مثل مقام.
قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض:
مناص، أي اهربوا وخذوا حذركم، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص، فأنزل الله سبحانه وَلاتَ حِينَ مَناصٍ.
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً.
وذلك
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون، فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش، وهم الصناديد والأشراف، وكانوا خمسة وعشرين رجلا، الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم سنّا، وأبو جميل ابن هشام، وأبي وأميّة ابنا خلف، وعمر بن وهب بن خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعبد الله بن أميّة والعاص بن وائل، والحرث بن قيس، وعدي بن قيس، والنضر بن الحرث، وأبو البحتري بن هشام، وقرط بن عمرو، وعامر بن خالد، ومحرمة بن نوفل، وزمعة بن الأسود، ومطعم بن عدي، والأخنس بن سريق، وحويطب ابن عبد العزى، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والوليد بن عتبة، وهشام بن عمر بن ربيعة، وسهيل بن عمرو، فقال لهم الوليد بن المغيرة: امشوا إلى أبي طالب. فأتوا أبا طالب فقالوا له: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، وإنّا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: يا ابن أخ هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وماذا يسألوني؟» فقال: يقولون ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك.
فقال النبي (عليه السلام) : «أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟» فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» «2» [107] . فنفروا من ذلك وقاموا وقالوا:
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً كيف يسع الخلق كلهم إله واحد.
__________
(1) الصحاح للجوهري: 3/ 1031.
(2) أسباب نزول الآيات: 247.(8/178)
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي عجيب.
قال مقاتل: بلغة أزد شنوه.
قال أهل اللغة: العجيب والعجاب واحد كقولك كريم وكرام وكبير وو كبار وطويل وطوال وعريض وعراض وسكين حديد وحداد.
أنشد الفراء:
كحلقة من أبي رماح ... تسمعها لاهة الكبار
وقال آخر:
نحن أجدنا دونها الضرابا ... إنّا وجدنا ماءها طيابا «1»
يريد طيبا.
وقال عباس بن مرداس: تعدوا به سلمية سراعه. أي سريعة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعيسى بن عمر: عجّاب بالتشديد. وهو المفرط في العجب.
فأنشد الفراء:
آثرت إدلاجي على ليل جرّة ... هضيم الحشا حسانة المتجرد «2»
وأنشد أبو حاتم:
جاءوا بصيد عجّب من العجب ... أزيرق العينين طوال الذنب «3»
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا يعني إلى أبي طالب فأشكوا إليه ابن أخيه وَاصْبِرُوا واثبتوا عَلى آلِهَتِكُمْ نظيرها في الفرقان لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها «4» .
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي لأمر يراد بنا ما سَمِعْنا بِهذا الذي يقول محمّد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ.
قال ابن عبّاس والقرظي والكلبي ومقاتل: يعنون النصرانية، لأن النصارى تجعل مع الله إلها.
__________
(1) لسان العرب: 1/ 566.
(2) لسان العرب: 2/ 272.
(3) تاريخ دمشق: 7/ 422 ط. دار الفكر.
(4) سورة الفرقان: 42.(8/179)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
وقال مجاهد وقتادة: يعنون ملة قريش، ملة زماننا هذا «1» .
إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ القرآن مِنْ بَيْنِنا قال الله عزّ وجلّ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أيّ وحيي.
[سورة ص (38) : الآيات 8 الى 21]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21)
بَلْ لَمَّا أي لم يَذُوقُوا عَذابِ ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ نعمة رَبِّكَ يعني مفاتيح النبوة، نظيرها في الزخرف أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «2» أي نبوة ربك الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي فليصعدوا في الجبال إلى السماوات، فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون ويشاؤن، وهذا أمر توبيخ وتعجيز.
وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: أراد بالأسباب: أبواب السماء وطرقها.
جُنْدٌ أي هم جند ما هُنالِكَ أي هنالك و (ما) صلة مَهْزُومٌ مغلوب، ممنوع عن الصعود إلى السماء مِنَ الْأَحْزابِ أي من جملة الأجناد.
وقال أكثر المفسرين: يعني أن هؤلاء الملأ الذين يقولون هذا القول، جند مهزوم مقهور وأنت عليهم مظفر منصور.
قال قتادة: وعده الله عزّ وجلّ بمكة أنّه سيهزمهم، فجاء تأويلها يوم بدر من الأحزاب، أيّ كالقرون الماضية الذين قهروا وأهلكوا، ثم قال معزّا لنبيه صلّى الله عليه وسلم كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ قال ابن عبّاس: ذو البناء المحكم.
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 15/ 152.
(2) سورة الزخرف: 32. [.....](8/180)
وقال القتيبي: والعرب تقول: هم في عز ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد. يريدون أنّه دائم شديد، وأصل هذا أن البيت من بيوتهم بأوتاده.
قال الأسود بن يعفر: في ظل ملك ثابت الأوتاد.
وقال الضحاك: ذو القوة والبطش.
وقال الحلبي ومقاتل: كان يعذب الناس بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحمد مدّه مستلقيا بين أربعة أوتاد كل رجل منه إلى سارية وكل يد منه إلى سارية، فيتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتّى يموت.
وقال مقاتل بن حيان: كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ثم يشده بالأوتاد.
وقال السدي: كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيّات.
وقال قتادة وعطاء: كانت له أوتاد وأرسال وملاعب يلعب عليها بين يديه.
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ إِنْ كُلٌّ ما كل منهم إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ فوجب عليهم ونزل بهم عذابي
وَما يَنْظُرُ ينتظر هؤُلاءِ يعني كفار مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهي نفخة القيامة.
وقد روي هذا التفسير مرفوعا إلى النبي (عليه السلام) .
ما لَها مِنْ فَواقٍ.
قال ابن عبّاس وقتادة: من رجوع. الوالبي: يزداد. مجاهد: نظرة. الضحاك: مستوية.
وفيه لغتان: (فُواقٍ) بضم الفاء وهي لغة تميم، وقراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف. و (فَواقٍ) بالفتح وهي لغة قريش، وقراءة سائر القرّاء واختيار أبي عبيد.
قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، كما يقال حمام المكوك وحمامه، وقصاص الشعر وقصاصه. وفرّق الآخرون بينهما.
قال أبو عبيدة والمؤرخ: بالفتح بمعنى الراحة والإفاقة كالجواب من الإجابة، ذهبا به إلى إفاقة المريض من علته، و (الفواق) بالضم ما بين الحلبتين، وهو أن يحلب الناقة ثم تترك ساعة حتّى يجتمع اللبن فما بين الحلبتين فواق. فاستعير في موضع الانتظار مدة يسيرة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من رابط فواق ناقة في سبيل الله حرّم الله جسده على النار» «1» [108] .
__________
(1) الجامع الصغير للسيوطي: 2/ 603 ح 8692، كنز العمال: 4/ 307 ح 10634.(8/181)
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ.
قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: يعني كتابنا.
وعنه أيضا: القط الصحيفة التي أحصت كل شيء.
قال أبو العالية والكلبي: لمّا نزلت في الحاقة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ «1» ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ «2» .
قالوا على جهة الاستهزاء: (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) يعنون كتابنا عجّله لنا في الدّنيا.
قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ.
وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: يعني عقوبتنا وما كتب لنا من العذاب.
قال عطاء: قاله النضر بن الحرث، وهو قوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ»
وهو الذي قال الله سبحانه سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «4» قال عطاء: لقد نزلت فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عزّ وجلّ.
وقال سعيد بن جبير: يعنون حظنا ونصيبنا من الجنّة التي تقول.
قال الفراء: القطّ في كلام العرب الحظ، ومنه قيل للصك قطّ «5» .
وقال أبو عبيدة والكسائي: القطّ الكتاب بالجوائة.
قال الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفق «6»
يعني كتب الجوائز أيّ بفضل وبعلو، يقال فرس أفق وناقة أفقه إذا كانا كريمين، وفضّلا على غيرهما.
وقال مجاهد: قِطَّنا حسابنا، ويقال لكتاب الحساب: قطّ، وأصل الكلمة من الكتابة.
فقال الله سبحانه لنبيه (عليه السلام) : اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ ذا القوة في العبادة إِنَّهُ أَوَّابٌ مطيع.
__________
(1) سورة الحاقة: 19.
(2) سورة الحاقة: 25.
(3) سورة الأنفال: 32.
(4) سورة المعارج: 1.
(5) تفسير القرطبي: 15/ 157، وفتح القدير: 4/ 424.
(6) الصحاح للجوهري: 3/ 1154.(8/182)
عن ابن عبّاس: رجّاع إلى التوبة.
عن الضحاك، سعيد بن جبير: هو المسبّح بلغة الحبش «1» .
أخبرني الحسين بن محمّد الدينوري قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا أبو العبّاس عبد الله بن جعفر بن أحمد بن [فارس] ببغداد قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن القاسم قال: حدثنا عمرو بن حصين قال: حدثنا الحسين بن عمرو عن أبي بكر الهذلي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الزرقة يمن وكان داود النبي (عليه السلام) أزرق» «2» [109] .
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بتسبيحه.
قال ابن عبّاس: وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر.
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا الحسين بن يحيويه قال: حدثنا أبو أميّة محمّد بن إبراهيم قال: حدثنا الحجاج بن نصير قال: حدثنا أبو بكر الهذلي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: كنت أمرّ بهذه الآية لا أدري ما العشي والإشراق، حتّى حدثتني أم هاني بنت أبي طالب أن رسول الله (عليه السلام) دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى الضحى وقال: «يا أم هاني هذه صلاة الإشراق» [110] «3» .
روى عطاء الخراساني عن ابن عبّاس قال: لم يزل في نفسي [من] صلاة الضحى شيء حتّى طلبتها في القرآن فوجدتها في هذه الآية يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ.
قال عكرمة: وكان ابن عبّاس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلّى بعدها.
وروي أن كعب الأحبار قال لابن عبّاس رضي الله عنهما: إني لأجد في كتاب الله صلاة بعد طلوع الشمس.
فقال ابن عبّاس: أنا أوجدك ذلك في كتاب الله في قصة داود يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وليس الإشراق طلوع الشمس، إنّما هو صفاؤها وضوؤها.
وَالطَّيْرَ أيّ وسخّرنا له الطير مَحْشُورَةً مجموعة كُلٌّ لَهُ أيّ لداود أَوَّابٌ مطيع وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أيّ قوّيناه.
__________
(1) فتح القدير: 4/ 427، والدر المنثور: 5/ 298.
(2) انظر: الجامع الصغير: 2/ 33، وتفسير القرطبي: 6/ 17.
(3) مسند الحميدي: 1/ 160، مسند ابن راهويه: 5/ 19.(8/183)
وقرأ الحسن: وشدّدنا بتشديد الدال.
قال ابن عبّاس: كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل، فذلك قوله وَشَدَدْنا مُلْكَهُ بالحرس.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا محمّد بن الفضل قال: حدثنا داود بن أبي الفرات عن عليّ بن أحمد عن عكرمة عن ابن عبّاس: أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم، فاجتمعا عند داود النبي فقال المستعدي: ان هذا غصبني بقرتي.
فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده، وسأل الآخر البيّنة فلم يكن له بيّنة. فقال لهما داود:
قوما حتى أنظر في أمركما.
فقاما من عنده، فأوحى الله سبحانه إلى داود (عليه السلام) في منامه: أن يقتل الرجل الذي استعدي عليه.
فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتّى أتثبت.
فأوحى الله سبحانه إليه مرة أخرى أن يقتله. فلم يفعل، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه الثالثة: أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل فقال له: إن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك.
فقال له الرجل: تقتلني بغير بيّنة ولا ثبت! فقال له داود: نعم، والله لأنفذن أمر الله فيك.
فلمّا عرف الرجل أنّه قاتله قال: لا تعجل حتّى أخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته، فلذلك أخذت.
فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبته في بني إسرائيل عند ذلك لداود، واشتد به ملكه فهو قوله سبحانه: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ.
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ يعني النبوة والإصابة في الأمور. وقال أبو العالية: العلم الذي لا تردّه العقول.
وَفَصْلَ الْخِطابِ قال ابن عبّاس: بيان الكلام.
وقال الحسن والكلبي وابن مسعود ومقاتل وأبو عبد الرحمن السلمي: يعني علم الحكم والبصر بالقضاء، كأن لا يتتعتع في القضاء بين الناس، وهي إحدى الروايات عن ابن عبّاس.
وقال علي بن أبي طالب: هو البيّنة على المدّعى واليمين على من أنكر.(8/184)
وأخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن محمّد بن عمر الجوري قال: أخبرنا أبو بكر بالويه بن محمّد بن بالويه المربتاني بها، قال: حدثنا محمّد بن حفص الحوني قال: حدثنا نصر بن علي الخميصمي قال: أخبرنا أبو أحمد قال: أخبرنا شريك عن الأعمش عن أبي صالح عن كعب في قوله وَفَصْلَ الْخِطابِ قال: الشهود والإيمان.
أنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن محمّد قال: حدثنا محمّد بن يحيى قال:
حدثنا وهب بن جرير قال: أخبرنا [شعبة] عن الحكم عن شريح في قوله وَفَصْلَ الْخِطابِ قال: الشهود والإيمان. وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال: حدثنا أحمد بن محمّد أبي شيبة قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم البغوي قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن زكريا يعني ابن أبي زائدة عن [السبيعي] قال: سمعت زيادا يقول: فَصْلَ الْخِطابِ الذي أعطي داود، أما بعد وهو أوّل من قالها.
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ الآية. اختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب امتحان الله سبحانه نبيّه داود بما امتحنه به من الخطيئة.
فقال قوم: كان سبب ذلك أنه تمنى يوما من الأيام على ربّه عزّ وجلّ منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) وسأله أن يمتحنه نحو الذي كان امتحنهم، ويعطيه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم.
وروى السدي والكلبي ومقاتل: عن أشياخهم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: كان داود قد قسّم الدهر ثلاثة أيام: يوما يقضي فيه بين الناس، ويوما يخلوا فيه لعبادة ربّه، ويوما يخلوا فيه لنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال:
يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي.
فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: أنهم ابتلوا ببلاء ما لم تبتل بشيء من ذلك فصبروا عليها. ابتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ابنه، وابتلى إسحاق بالذبح وبذهاب بصره، وابتلى يعقوب بالحزن على يوسف. وأنك لم تبتل بشيء من ذلك.
فقال داود: ربّ فابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم.
فأوحى الله سبحانه إليه: أنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا واحترس.
فلمّا كان ذلك اليوم الذي وعده الله تعالى، دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن، فوقعت بين رجليه، فمدّ يده ليأخذها ويدفعها إلى ابن صغير له، فلما أهوى إليها(8/185)
طارت غير بعيد، من غير أن تؤيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت، فتبعها فطارت حتّى وقعت في كوة، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة، فنظر داود أين تقع، فبعث إليها من يصيدها، فأبصر امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل، هذا قول الكلبي.
وقال السدي: رآها تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلقا، فتعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة وأبصرت ظله، فنفضت شعرها فغطى بدنها، فزاده ذلك إعجابا بها فسأل عنها. فقيل: هي تشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا، وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود.
فكتب داود إلى ابن أخته أيوب صاحب بعث البلقاء: أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وقدّمه قبل التابوت وكان من قدّم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتّى يفتح الله سبحانه على يديه أو يستشهد، فبعثه وقدّمه ففتح له، فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا. فبعثه ففتح له، فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا أشدّ منه بأسا. فبعثه فقتل في المرة الثالثة، فلمّا انقضت عدّة المرأة تزوّجها داود فهي أم سليمان «1» .
وقال آخرون: سبب امتحانه أن نفسه حدثته أنّه يطيق قطع يوم بغير مقارفة.
وهو ما أخبرنا شعيب بن محمّد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا سعيد عن مطر عن الحسن قال: إن داود جزّأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما للعبادة، ويوما للقضاء بين بني إسرائيل، ويوما لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ويبكيهم ويبكونه.
قال: فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟
فأضمر داود في نفسه أنه سيطبق ذلك، فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه وأمر أن لا يدخل عليه أحد، وأكبّ على قراءة التوراة، فبينما هو يقرأ إذ حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، فطارت فوقعت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها، فما زال يتبعها حتّى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه خلقها وحسنها، فلمّا رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها، فزاده ذلك بها إعجابا، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن أسر إلى مكان كذا وكذا مكانا، إذا سار إليه قتل ولم يرجع ففعل فأصيب، فخطبها داود فتزوجها «2» .
__________
(1) هذه القصة الخرافة التي يجل الله عنها أولياءه فضلا عن أنبيائه، وردت في تفسير الطبري: 23/ 175، وتاريخ الطبري: 1/ 338، ومستدرك الحاكم: 2/ 586.
(2) تفسير الطبري: 23/ 176، تفسير القرآن للصنعاني: 3/ 161.(8/186)
وقال بعضهم: في سبب ذلك ما أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد قال: حدثنا مخلد ابن جعفر الباقرجي قال: حدثنا الحسين بن علوية قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن قال: قال داود لبني إسرائيل حين ملك: والله لأعدلن بينكم، فلم يستثن فابتلي به «1» .
وقال أبو بكر محمّد بن عمر الوراق: كان سبب ذلك أن داود (عليه السلام) كان كثير العبادة فأعجب بعلمه فقال: هل في الأرض أحد يعمل عملي؟
فأتاه جبرئيل فقال: ان الله عزّ وجلّ يقول: أعجبت بعبادتك والعجب يأكل العبادة، فإن أعجبت ثانيا وكلتك إلى نفسك.
قال: يا رب كلني إلى نفسي سنة.
قال إنها لكثيرة.
قال: فساعة.
قال: شأنك بها.
فوكل الأحراس ولبس الصوف ودخل المحراب ووضع الزبور بين يديه، فبينا هو في نسكه وعبادته إذ وقع الطائر بين يديه وكان من أمر المرأة ما كان.
قالوا: فلمّا دخل داود بامرأة أوريا لم تلبث إلّا يسيرا حتّى بعث الله سبحانه ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسورا المحراب عليه، فما شعر وهو يصلي إلّا وهو بهما بين يديه جالسين «2» ، فذلك قوله:
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا وإنّما جعلوا جمع الفعل، لأن الخصم اسم يصلح للواحد والجميع والإثنين والمذكر والمؤنث.
قال لبيد:
وخصم يعدون الدخول كأنهم ... قروم غيارى كل أزهر مصعب «3»
وقال آخر:
وخصم عضاب ينفضون لحاهم ... كنفض البراذين العراب المخاليا «4»
__________
(1) زاد المسير: 6/ 326.
(2) تفسير الطبري: 23/ 175. [.....]
(3) لسان العرب: 12/ 180.
(4) فتح القدير: 4/ 425.(8/187)
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
وإنّما جمع وهما اثنان، لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء فالاثنان فما فوقهما جماعة، كقوله عزّ وجلّ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «1» .
[سورة ص (38) : الآيات 22 الى 28]
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ قال الفراء: قد كرر إذ مرتين، ويكون معناهما كالواحد، كقولك:
ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت، فالدخول هو الاجتراء، ويجوز أن يجعل إحداهما على مذهب لما.
فَفَزِعَ مِنْهُمْ حين همّا عليه محرابه بغير إذنه.
قالُوا لا تَخَفْ يا داود خَصْمانِ أي نحن خصمان بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ولا تجز، عن ابن عبّاس والضحاك.
وقال السدي: لا تسرف. المؤرخ: لا تفرط.
وقرأ أبو رجاء العطاردي: وَلا تَشْطُطْ بفتح التاء وضم الطاء الأولى، والشطط والأشطاط مجاوزة الحد، وأصل الكلمة من حدهم شطت الدار، وأشطت إذا بعدت.
وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أيّ وسط الطريق، فإن قيل: كيف قال: إِنَّ هذا أَخِي فأوجب الأخوة بين الملائكة ولا مناسبة بينهم، لأنهم لا ينسلون.
في الجواب: أن معنى الآية: نحن لخصمين كما يقال وجهه: القمر حسنا، أيّ كالقمر.
قال أحد الخصمين إِنَّ هذا أَخِي على التمثيل لا على التحقيق، على معنى كونهما على طريقة واحدة وجنس واحد، كقوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وقد قيل: إن المتسورين كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم، وإن أحدهما كان ملكا والآخر لم يكن ملكا، فنبها داود على ما فعل.
__________
(1) سورة التحريم: 4.(8/188)
لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ وهذا من أحسن التعريض، حتّى كنّى بالنعاج عن النساء.
والعرب تفعل ذلك كثيرا توري عن النساء بالظباء والشاة والبقر وهو كثير وأبين في أشعارهم.
قال الحسن بن الفضل: هذا تعريض التنبيه والتفهيم، لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي، وإنما هو كقول الناس ضرب زيد عمرا، وظلم عمرو زيدا، واشترى بكر دارا وما كان هناك ضرب ولا ظلم ولا شراء.
فَقالَ أَكْفِلْنِيها. قال ابن عبّاس: أعطنيها.
ابن جبير عنه: تحوّل لي عنها.
مجاهد: أنزل لي عنها.
أبو العالية: ضمها إليّ حتّى أكفلها.
ابن كيسان: اجعلها كفلي، أي نصيبي.
وَعَزَّنِي وغلبني فِي الْخِطابِ.
قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني.
وقرأ عبيد بن عمير: وعازني في الخطاب بالألف من المعاز وهي المغالبة.
فقال داود: قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ فإن قيل: كيف جاز لداود أن يحكم وهو لم يسمع كلام الخصم الآخر؟
قيل: معنى الآية أن أحدهما لمّا ادّعى على الآخر عرّف له صاحبه، فعند اعترافه فصل القضية بقوله: (لَقَدْ ظَلَمَكَ) فحذف الاعتراف، لأن ظاهر الآية دال عليه، كقول العرب: أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال.
وقال الشاعر:
تقول ابنتي لما رأتني شاحبا ... كأنك سعيد يحميك الطعام طبيب «1»
تتابع أحداث تخر من إخوتي ... فشيّبن رأسي والخطوب تشيب «2»
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فليسوا كذلك وَقَلِيلٌ ما هُمْ ودليل ما ذكرنا من التأويل.
__________
(1) زاد المسير: 3/ 129، وتاريخ دمشق: 27/ 267 بتفاوت في الصدر.
(2) زاد المسير: 3/ 129.(8/189)
ما قاله السدي، بإسناده: إن أحدهما لما قال: إِنَّ هذا أَخِي الآية فقال داود للآخر: ما تقول؟ فقال إن لي تسعا وتسعين نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، وأنا أريد ان آخذها منه فأكمل نعاجي مائة. قال: وهو كاره.
قال: إذا لا ندعك وذلك، وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يعني طرف الأنف وأصله الجبهة.
فقال: يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلّا امرأة واحدة، فلم تزل به تعرضه للقتل حتّى قتل وتزوجت امرأته.
قال: فنظر داود فلم ير أحدا، فعرف ما قد وقع فيه «1» ، فذلك قوله سبحانه: وَظَنَّ وأيقن داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ابتليناه.
قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنة داود النظر.
قلت: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة، ولكنه أعاد النظر إليها فصارت عليه.
فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود.
وقد روى عن الحرث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: من حدّث بحديث داود على ما روته القصاص معتقدا صحته جلدته حدّين لعظيم ما ارتكب وجليل ما احتقب من الوزر والإثم، برمي من قد رفع الله سبحانه وتعالى محله، وأبانه رحمة للعالمين وحجة للمهتدين.
فقال القائلون بتنزيه المرسلين في هذه القصة: إن ذنب داود لما كان أنه تمنى أن تكون له امرأة أوريا حلالا له وحدث نفسه بذنب، واتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه ولم يتوجع له، كما جزع على غيره من جنده إذا هلك، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله سبحانه على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله سبحانه وتعالى.
وقال بعضهم: كان ذنب داود أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها، فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا غما شديدا، فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم تزل هذه الواحدة لخاطبها الأول، وقد كانت عنده تسع وتسعون امرأة.
وممّا يصدق ما ذكرنا [ما] قيل عن المفسرين المتقدمين، ما
أخبرني عقيل بن محمّد بن أحمد الفقيه: أن المعافي بن زكريا القاضي ببغداد أحمد بن زكريا أخبره عن محمّد بن جرير قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرني ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر
__________
(1) تفسير الطبري: 23/ 176، وتاريخ الطبري: 1/ 339.(8/190)
عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك سمعه يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن داود النبيّ حين نظر إلى المرأة وأهم، قطع على بني إسرائيل، وأوصى صاحب البعث فقال: إذا حضر العدو فقرّب فلانا بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت وكان التابوت لم يرجع حتّى يقتل أو ينهزم عنه الجيش، فقتل زوج المرأة ونزل المكان يقصان عليه قصته، ففطن داود فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدا حتّى نبت الزرع من دموعه وأكلت الأرضة من جبينه، وهو يقول في سجوده: ربّ زلّ داود زلة أبعد ممّا بين المشرق والمغرب، ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلوف من بعده.
فجاءه جبرئيل (عليه السلام) من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود إن الله غفر لك الهمّ الذي هممت به.
فقال داود: عرفت أن الربّ قادر على أن يغفر لي الهمّ الذي هممت به، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال: ربّ دمي الذي عند داود؟
فقال جبرئيل: ما سألت ربك عن ذلك، ولئن شئت لأفعلن.
قال: نعم.
فعرج جبرئيل وسجد داود فمكث ما شاء الله ثم نزل، فقال: قد سألت الله تعالى يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال: قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب [لي] دمك الذي عند داود. فيقول: هو لك يا رب. فيقول: فإن لك في الجنّة ما شئت وما اشتهيت عوضا» «1» [111] .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا الباقرجي قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشير قال: أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس قال: وأخبرنا سعيد بن بشير وعصمة بن حداس القطعي، عن قتادة عن الحسن وابن سمعان، عمن يخبره عن كعب الأحبار قال: وأخبرني أبو الياس عن وهب بن منبه قالوا جميعا:
إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه، فتحولا في صورتهما فعرجا وهما يقولان:
قضى الرجل على نفسه. وعلم داود إنه عني به، فخر ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلّا لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة، ثم يعود ساجدا ثم لا يرفع رأسه إلّا لحاجة لا بدّ منها، ثم يعود ويسجد تمام أربعين يوما، لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتّى نبت [الزرع] حول رأسه وهو ينادي ربّه عزّ وجلّ ويسأله التوبة، وكان يقول في سجوده:
سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء، سبحان خالق النور، سبحان الحائل
__________
(1) جامع البيان للطبري: 23/ 179.(8/191)
بين القلوب، سبحان خالق النور، إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس، فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي، سبحان خالق النور، إلهي تبكي الثكلى على ولدها إذا فقدته وداود يبكي على خطيئته، سبحان خالق النور، إلهي لم اتعظ بما وعظت به غيري، سبحان خالق النور، إلهي أنت خلقتني، وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر، سبحان خالق النور، إلهي يغسل الثوب فيذهب درنه ووسخه والخطيئة لازمة بي لا تذهب عني، سبحان خالق النور، إلهي أمرتني أن أكون لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الرحيم فنسيت عهدك، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء فيقال: هذا داود الخاطئ، سبحان خالق النور، إلهي بأي عينين أنظر بهما إليك يوم القيامة، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي، إلهي بأي قدم أقوم بها أمامك يوم تزول أقدام الخاطئين، سبحان خالق النور، إلهي ويل للخاطئين يوم القيامة من سوء الحساب، سبحان خالق النور، إلهي مضت النجوم وكنت أعرفها بأسمائها، فتركتني والخطيئة لازمة بي، سبحان خالق النور، إلهي من أين تطلب المغفرة إلّا من عند سيده، سبحان خالق النور، إلهي مطرت السماء ولم تمطر حولي، سبحان خالق النور، إلهي أعشبت الأرض ولم تعشب حولي بخطيئتي، سبحان خالق النور، إلهي أنا الذي لا أطيق حرّ شمسك فكيف أطيق حرّ نارك، سبحان خالق النور، إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم، سبحان خالق النور، إلهي كيف يستتر الخاطئون بخطاياهم دونك وأنت شاهدهم حيث كانوا، سبحان خالق النور، إلهي قرح الجبين وجمدت العينان من مخافة الحريق على جسدي، سبحان خالق النور، إلهي الطير تسبّح لك بأصوات ضعاف تخافك وأنا العبد الخاطئ الذي لم ارع وصيتك، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب، سبحان خالق النور، إلهي أنت المغيث وأنا المستغيث فمن يدعوا المستغيث إلّا المغيث، سبحان خالق النور، إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري، سبحان خالق النور.
اللهمّ إني أسألك إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، أن تعطيني سؤلي فإن إليك رغبتي، سبحان خالق النور، اللهم برحمتك اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواني، سبحان خالق النور، اللهمّ إني أعوذ بك من دعوة لا تستجاب وصلاة لا تتقبّل وذنب لا يغفر وعذر لا يقبل، سبحان خالق النور، إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني، سبحان خالق النور، فررت إليك بذنوبي وأعترف بخطيئتي، فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين، سبحان خالق النور، إلهي قرح الجبين وجمدت الدموع وتناثر الدود من ركبتي وخطيئتي الزم بي من جلدي، سبحان خالق النور.
قال: فأتاه نداء: يا داود أجائع أنت فتطعم، أظمآن أنت فتسقى، أمظلوم أنت فتنصر؟
ولم يجبه في ذكر خطيئته بشيء، فصاح صيحة هاج ما حوله ثم نادى: يا رب الذنب الذنب الذي أصبته.(8/192)
ونودي: يا داود ارفع رأسك فقد غفرت لك.
فلم يرفع رأسه حتّى جاء جبرئيل (عليه السلام) فرفعه.
قال وهب: إن داود (عليه السلام) أتاه نداء: أني قد غفرت لك.
قال: يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا.
قال: اذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداك فتحلل منه.
قال: فانطلق حتّى أتى قبره وقد لبس المسوح حتّى جلس عند قبره ثم نادى: يا أوريا.
فقال: لبيك من هذا الذي قطع عليّ لذتي وايقظني؟
قال: أنا داود.
قال: ما جاء بك يا نبي الله؟
قال: أسألك أن تجعلني في حل ممّا كان مني إليك! قال: وما كان منك إليّ؟
قال: عرضتك للقتل.
قال: عرضتني للجنّة وأنت في حلّ.
فأوحى الله تعالى إليه: يا داود ألم تعلم أنّي حكم عدل لا أقضي بالتعنت والتغرير، ألا أعلمته أنك قد تزوجت امرأته.
قال: فرجع إليه فناداه فأجابه.
فقال: من هذا الذي قطع عليّ لذتي؟
قال: أنا داود.
قال: يا نبي الله أليس قد عفوت عنك؟
قال: نعم، ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وتزوجتها.
قال: فسكت فلم يجبه، ودعاه فلم يجبه، وعاوده فلم يجبه، فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى: الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ برقبته فيدفع إلى المظلوم، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النّار، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين تقربه الزبانية مع الظالمين إلى النّار، سبحان خالق النور.
قال: فأتاه نداء من السماء: يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك.(8/193)
قال: يا رب كيف لي أن تعفو عني وصاحبي لم يعف عني.
قال: يا داود أعطيه يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه فأقول له: رضى عبدي؟
فيقول: يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي.
فأقول له: هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي.
قال: يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي «1» .
فذلك قوله سبحانه: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ يعني ذلك الذنب وَإِنَّ لَهُ بعد المغفرة عِنْدَنا يوم القيامة لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ يعني حسن مرجع.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا مخلد بن جعفر قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرنا أبو الياس ومقاتل وأبو عبد الرحمن الجندي عن وهب بن منبه قال: إن داود لما تاب الله عزّ وجلّ عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة، لا ترقأ له دمعة ليلا ونهارا، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة، فقسّم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام: فكان يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسيح في الفيافي وفي الجبال والساحل، ويوم يخلوا في دار له فيها أربعة آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك، فإذا كان يوم سياحته، يخرج في الفيافي فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي وتبكي معه الشجر والرمال والطير والوحوش حتّى تسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحجارة والجبال والدواب والطير حتّى تسيل أودية من بكائهم، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحيتان ودواب البحر والسباع وطير الماء، فإذا أمسى رجع.
فإذا كان يوم نوحه على نفسه، نادى مناديه: أن اليوم يوم نوح داود على نفسه، فليحضر من يساعده.
قال: فيدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط له ثلاث فرش من مسوح، حشوها ليف فيجلس عليها وتجيء الرهبان أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب، ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه، ويرفع الرهبان معه أصواتهم، فلا يزال يبكي حتى يغرق الفراش من دموعه، ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله، فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ثم يمسح بها وجهه ويقول: يا رب اغفر ما ترى، فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدّنيا لعدله.
__________
(1) تاريخ الطبري: 1/ 341 بتفاوت.(8/194)
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن ماجة قال: حدثنا الحسن بن أيوب قال: حدثنا عبد الله بن أبي زياد قال: حدثنا سيار عن جعفر قال: سمعت ثابتا يقول: ما شرب داود شرابا بعد المغفرة إلّا وهو ممزوج بدموع عينيه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن مالك قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال:
حدثنا أبي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا عثمان بن أبي العاتكة: أنه كان من دعاء داود:
سبحانك إلهي إذا ذكرت خطيئتي، ضاقت عليّ الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إليّ روحي، إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا إليّ خطيئتي، فكلهم عليك يدلني «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدثنا محمّد ابن موسى الحلواني قال: حدثنا مهنى بن يحيى الرملي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خدّ الدموع في وجه داود (عليه السلام) خديد الماء في الأرض» «2» [112] .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ظفران بن الحسن بن جعفر بن هاشم قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن موسى بن سليمان قال: حدثنا أبو حفص عمر بن محمّد النسائي قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله عن ابن بشر بن محمّد بن أبان قال: حدثنا الحسن بن عبد الله القرشي قال:
لما أصاب داود (عليه السلام) الخطيئة فزع إلى العباد، فأتى راهبا في قلة جبل فناداه بصوت عال فلم يجبه، فلما أكثر عليه الصوت قال الراهب: من هذا الذي يناديني؟
قال: أنا داود نبي الله.
قال: صاحب القصور الحصينة والخيل المسوّمة والنساء والشهوات، لئن نلت الجنّة بهذا لأنت أنت.
فقال داود: فمن أنت؟
قال: أنا راهب راغب مترقب.
قال: فمن أنيسك وجليسك؟
قال: اصعد تره إن كنت تريد ذلك.
قال: فتخلل داود الجبل حتّى صار إلى القلة فإذا هو بميت مسجى.
__________
(1) الدر المنثور: 5/ 304، وتفسير القرطبي: 15/ 186.
(2) تفسير القرطبي: 15/ 186.(8/195)
فقال له: هذا جليسك وهذا أنيسك؟
قال: نعم.
قال: من هذا؟
قال: تلك قصته مكتوب في لوح من نحاس عند رأسه.
قال: فقرأ الكتاب فإذا فيه: أنا فلان ابن فلان ملك الأملاك، عشت ألف عام وبنيت ألف مدينة وهزمت ألف عسكر وألف امرأة أحصنت وافتضضت ألف عذراء، فبينا أنا في ملكي أتاني ملك الموت وأخرجني ممّا أنا فيه، فهذا التراب فراشي والدود جيراني.
قال: فخرّ داود مغشيا عليه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن محمّد بن علي الهمداني قال: حدثنا عثمان بن نصر البغدادي قال: حدثنا محمّد بن عبد الرحمن بن غزوان قال: حدثنا الأشجعي عن الثوري عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كان الناس يعودون داود يظنون أن به مرضا، وما به مرض وما به إلّا الحياء والخوف من الله سبحانه» «1» [113] .
وقال وهب: لما تاب الله تعالى على داود كان يبدأ إذا دعا [يستغفر] للخاطئين قبل نفسه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا الباقرجي قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا إسماعيل قال:
حدثنا إسحاق بن بشر قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: كان داود ساجدا من بعد الخطيئة لا يجالس إلّا الخاطئين ثم يقول: تعالوا إلى داود الخاطئ.
ولا يشرب شرابا إلّا مزجه بدموع عينيه، وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعته، فلا يزال يبكي حتّى يبتل بدموع عينيه، وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول هذا أكل الخاطئين.
قال: وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم النصف من الدهر، فلما كان من خطيئته ما كان، صام الدهر كله وقام الليل كله.
وأخبرنا عن إسحاق قال: حدثنا مقاتل وأبو الياس قالا: حدثنا وهب بن منبه: أن داود لما تاب الله عليه قال: يا رب غفرت لي؟
قال: نعم.
__________
(1) الجامع الصغير: 2/ 267 ح 6206، وكنز العمال: 11/ 493 ح 32323.(8/196)
قال: فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها وللخطائين إلى يوم القيامة.
قال: فوسم الله عزّ وجلّ خطيئته في يده اليمنى، فما رفع فيها طعاما ولا شرابا إلّا بكى إذا رآها، وما كان خطيبا في الناس إلّا بسط راحته فاستقبل الناس، ليروا وسم خطيئته.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي قال: ما رفع داود رأسه بعد الخطيئة إلى السماء حتّى مات.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدثنا محمّد بن خالد قال: حدثنا داود بن سليمان قال:
حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا أبو أسامة عن محمّد بن سليمان قال: حدثنا ثابت قال: كان داود إذا ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله لا يسدها إلّا الأسر وإذا ذكر رحمته تراجعت.
قال: وروى المسعودي عن يونس بن حباب وعلقمة بن مرثد قالا: لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة، ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم (عليه السلام) أكثر حيث أخرجه الله تعالى من الجنّة وأهبط إلى الأرض.
ويروى أن داود كان إذا قرأ الزبور بعد الخطيئة لا يقف له الماء ولا تصغي إليه البهائم والوحوش والطيور كما كان قبلها، ونقصت نعمته فقال: إلهي ما هذا؟
فأوحى الله سبحانه: يا داود إن الخطيئة هي التي غيّرت صوتك وحالك.
فقال: إلهي أو ليس قد غفرتها لي؟
فقال: نعم قد غفرتها لك، ولكن ارتفعت الحالة التي كانت بيني وبينك من الودّ والقربة، فلن تدركها أبدا فذلك قوله: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ.
قال الحسين بن الفضل: سألني عبد الله بن طاهر وهو الوالي عن قوله سبحانه: وَخَرَّ راكِعاً هل يقال للراكع خرّ؟
قلت: لا.
قال: فما معنى الآية؟
قلت: معناها فخرّ بعد أن كان راكعا، أي سجد.
أخبرني الحسن بن محمّد بن الحسين قال: حدثنا هارون بن محمّد بن هارون العطار قال:
حدثنا محمّد بن عبد العزي قال: حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي سعيد الخدري قال: رأيتني أكتب سورة ص(8/197)
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ
، فلما أتيت على هذه الآية وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ، رأيت فيما يرى النائم كأنّ القلم خرّ ساجدا، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «تقول كما قال وتسجد كما سجد» [114] فتلاها فسجدوا وأمرنا أن نسجد فيها.
وأخبرني الحسين بن محمّد قال: حدثنا صمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا أبو حفص بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا عمر بن علي الصيرفي قال: حدثنا اليمان بن نصر الكعبي قال: حدثنا عبد الله أبو سعد المدني قال: حدثني محمّد بن المنكدر عن محمّد بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثني أبو سعيد الخدري قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني رأيت الليلة في منامي كأني تحت شجرة، والشجرة تقرأ ص، فلما بلغت السجدة سجدت، فسمعتها تقول في سجودها:
اللهم أكتب لي بها أجرا، وحط عني بها وزرا، وارزقني بها شكرا، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفسجدت أنت يا أبا سعيد؟» .
قلت: لا يا رسول الله.
قال: «أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتّى بلغ السجدة فسجد ثم قال مثل ما قالت الشجرة «1» .
وأخبرني الحسين بن محمّد قال: حدثنا محمّد بن علي بن الحسن قال: حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا محمّد بن يزيد بن خنيس قال: حدثنا الحسن بن محمّد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريح: حدثنا حسن قال: حدثني جدّك عبيد الله بن أبي يزيد قال: حدثني ابن عبّاس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت الليلة فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة، فرأيت كأني قرأت السجدة فسجدت فرأيت الشجرة كأنها سجدت، فسمعتها وهي ساجدة تقول:
اللهم اكتب لي عندك بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود.
قال ابن عبّاس: فرأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم قرأ السجدة ثم سجد فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل من كلام الشجرة، قال الله سبحانه وتعالى فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ.
__________
(1) تفسير الثعالبي: 5/ 64.(8/198)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
روى أبو معشر عن محمّد بن كعب ومحمّد بن قيس أنهما قالا في قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ.
روى أبو معشر عن محمّد بن كعب قال: إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود.
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ تركوا الأيمان بيوم الحساب وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ليتدبروا آياتِهِ.
[سورة ص (38) : الآيات 29 الى 44]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43)
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
هذه قراءة العامة. وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى والترجمني: (ليدبّروا) بياء واحدة مفتوحة مخففة على الحذف.
قال الحسن: تدبر آياته، إتباعه.
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ.
قال الكلبي: غزا سليمان (عليه السلام) أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس.
وقال مقاتل: ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس وكان أبوه أصابها من العمالقة.
وقال عوف عن الحسن: بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة.
قالوا: فصلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيّه وهي تعرض عليه، فعرضت عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غابت وفاتته الصلاة ولم يعلم بذلك بفتنته له، واغتم لذلك فقال: رُدُّوها عَلَيَّ.(8/199)
فردوها عليه فعرقبت وعقرت بالسيف ونحرها لله سبحانه، وبقي منها مائة فرس، فما في أيدي الناس اليوم من الخيل فهو من نسل تلك المائة.
قال الحسن: فلما عقر الخيل، أبدله الله سبحانه مكانها خيرا منها وأسرع [من] الريح التي تَجْرِي بِأَمْرِهِ كيف يشاء، وكان يغدوا من إيليا فيقيل بقرير الأرض باصطخر «1» ويروح من قرير [بكابل] «2» .
وقال ابن عبّاس: سألت علي بن أبي طالب عن هذه الآية فقال: ما بلغك في هذا يا ابن عبّاس؟
فقلت له: سمعت كعب الأحبار يقول: إن سليمان اشتغل ذات يوم بعرض الأفراس والنظر إليها حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ.
فقال لما فاتته الصلاة: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ رُدُّوها عَلَيَّ يعني الأفراس وكانت أربعة وعشرون، وبقول: أربعة عشر، فردوها عليه فأمر بضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوما، لأنه ظلم الخيل بقتلها.
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كذب كعب الأحبار، لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس ذات يوم، لأنه أراد جهاد عدو حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ، فقال بأمر الله للملائكة الموطنين بالشمس: رُدُّوها عَلَيَّ. يعني الشمس، فردوها عليه حتّى صلّى العصر في وقتها.
فإن أنبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم ولا يرضون بالظلم، لأنهم معصومون مطهّرون، فذلك قوله سبحانه: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ وهي الخيل القائمة على ثلاث قوائم، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رجل.
قال عمر بن كلثوم: تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا.
وقال القتيبي: الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل وغيرها.
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار»
«3» [115] أي وقوفا الْجِيادُ الخيار السراع واحدها جواد فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ يعني الخيل، والعرب تعاقب بين الراء واللام فيقول: انهملت العين وانهمرت، وختلت الرجل وخترته أي خدعته.
__________
(1) إصطخر: من أقدم مدن فارس وأول دار لملكهم، قرب يزد (معجم البلدان) .
(2) تفسير الطبري: 22/ 85، وفي الدر المنثور: 5/ 227: كان سليمان يركب الريح من إصطخر فيتغدى ببيت المقدس ثم يعود فيتعشى باصطخر. [.....]
(3) زاد المسير: 6/ 334.(8/200)
وقال مقاتل: حُبَّ الْخَيْرِ يعني المال وهي الخيل التي عرضت عليه عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يعني الصلاة، نظيرها لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ «1» ، حَتَّى تَوارَتْ يعني الشمس، كناية عن غير مذكور.
كقول لبيد:
حتّى إذا ألقت يدا في كافر «2»
يعني الشمس بِالْحِجابِ وهو جبل دون قاف بمسيرة سنة، تغرب الشمس من ورائها.
رُدُّوها كرّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي فأقبل يمسح سوقها وأعناقها بالسيف، وينحرها تقربا بها إلى الله سبحانه وطلبا لرضاه، حيث اشتغل بها عن طاعته، وكان ذلك قربانا منه ومباحا له، كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام.
وقال قوم: معناه حبسها في سبيل الله، وكوى سوقها وأعناقها بكيّ الصدقة.
ويقال للكيّة على الساق: علاظ، وللكيّة على العنق: دهاو.
وقال الزهري وابن كيسان: كان يمسح سوقها وأعناقها، ويكشف الغبار عنها حبا لها.
وهي رواية ابن أبي طلحة عن ابن عبّاس.
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ هذه قصة محنة نبي الله سليمان وسبب زوال ملكه مدة، واختلفوا في سبب ذلك.
فروى محمّد بن إسحاق عن بعض العلماء قال: قال وهب بن منبه: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون، بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر، وكان الله قد أتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه [إذا ركب على] الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجنّ والإنس، فقتل ملكها واستقام فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها: جرادة، لم ير مثلها حسنا وجمالا، واصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة، وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه، وكانت على منزلتها عنده، لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها، فشق ذلك على سليمان فقال لها: ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ؟
قالت: إن أبي أذكره وأذكره ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك.
__________
(1) سورة النور: 37.
(2) الصحاح للجوهري: 2/ 808، وعجز البيت:
وأجن عورات الثغور ظلامها.(8/201)
فقال سليمان: فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه، وسلطانا أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله.
قالت: إن ذلك لكذلك، ولكنني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين فصوّروا صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيا، لرجوت أن يذهب ذلك حزني، وأن يسلّى عني بعض ما أجد في نفسي.
فأمر سليمان الشياطين فقال: مثّلوا لها صورة أبيها في دارها حتّى لا تنكر منه شيئا.
فمثّلوا لها حتّى نظرت إلى أبيها بعينه، إلّا أنّه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه فأزّرته وقمّصته وعمّمته، وردّته بمثل ثيابه التي كان يلبس، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدوا عليه في ولائدها حتّى تسجد له ويسجدن معها كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك، وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحا وبلغ ذلك آصف بن برخيا، وكان صدّيقا وكان لا يرد عن باب سليمان أيّ ساعة أراد دخول شيء من بيوته، حاضرا كان [سليمان] أو غائبا، فأتاه فقال: يا نبي الله كبرت سني، ودق عظمي، ونفد عمري، وقد حان مني الذهاب، وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت، أذكر فيه من مضى من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم.
فقال: افعل.
فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبا، فذكر من مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضّله الله به، حتّى انتهى إلى سليمان فقال: ما كان أحلمك في صغرك، وأورعك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما يكره في صغرك، ثم انصرف.
فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتّى ملأه غضبا، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه فقال:
يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله، وأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني عليّ بخير في صغري، وسكت عمّا سوى ذلك من أمري في كبري فما الذي أحدثت في آخر عمري؟
قال: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة.
فقال: في داري؟
فقال: في دارك.
قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، لقد علمت أنك ما قلت الذي قلت إلّا عن شيء بلغك.
ثم رجع سليمان إلى داره فكسّر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب(8/202)
الطهرة فأتى بها- وهي ثياب لا يغزلها إلّا الأبكار ولم تمسها امرأة رأت الدم- فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، وأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائبا إلى الله عزّ وجلّ حتّى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللا لله سبحانه وتضرعا إليه، يبكي ويدعو ويستغفر ممّا كان في داره ويقول فيما يقول:
رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرك وأن يقرّوا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرك.
فلم يزل كذلك يومه ذلك حتى أمسى، ثم يرجع إلى داره، وكانت أم ولد له يقال لها:
الأمينة، كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتّى يتطهر، وكان لا يلبس خاتمة إلّا وهو طاهر، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه يوما من تلك الأيام عندها كما كان يضعه ثم دخل مذهبه، فأتاها الشيطان صاحب البحر وكان اسمه: صخر، على صورة سليمان لا ينكر منه شيئا.
فقال: يا أمينة خاتمي.
فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتّى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والانس، وخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غيرت حاله وهيبته عند كل من رأى فقال: يا أمينة خاتمي.
فقالت: ومن أنت؟
قال: أنا سليمان بن داود.
فقالت: كذبت لست بسليمان وقد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سريره في ملكه.
فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته، فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول: أنا سليمان بن داود. فيحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان بن داود.
فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا امسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها، فمكث بذلك أربعين صباحا، عدة ما كان عبد ذلك الوثن في داره، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين اليوم.
فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت؟
قالوا: نعم.
قال: أمهلوني حتّى أدخل على نسائه فأسألهن: هل أنكرن منه في خاصة أمره، ما أنكرناه في عامة أمر الناس وعلانيته؟(8/203)
فدخل على نسائه فقال: ويحكن هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرناه؟
فقلن: أشدّه ما يدع امرأة منّا في دمها، ولا يغتسل من جنابة.
فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ... إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ.
ثم خرج إلى بني إسرائيل فقال: ما في الخاصة أعظم ممّا في العامة. فلما قضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه، ثم مرّ بالبحر فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة وأخذها بعض الصيادين، وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك حتّى إذا كان العشي أعطاه سمكته وأعطى السمكة التي أخذت الخاتم، وخرج سليمان بسمكتيه فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها، فاستقبله خاتمه في جوفها فأخذه فجعله في يده، ووقع ساجدا وعكفت عليه الطير والجنّ وأقبل عليه الناس، وعرف الذي كان دخل عليه لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين فقال: ائتوني بصخر.
فطلبته له الشياطين حتّى أخذ له فأتى به فجاءت له صخرة، فأدخله فيها ثم شد عليه أخرى ثم أوثقها بالرصاص والحديد، ثم أمر به فقذف في البحر.
فهذا حديث وهب بن منبه «1» .
قال السديّ في سبب ذلك: كان لسليمان (عليه السلام) مائة امرأة، وكانت امرأة منهنّ يقال لها: جرادة، وهي أبرّ نسائه وآمنهن عنده، فكان إذا أحدث أو أتى حاجة، نزع خاتمه ولم يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها، فجاءته يوما من الأيام فقالت له: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك.
فقال: نعم. ولم يفعل، فابتلي بقوله وأعطاها خاتمه ودخل المخرج فخرج الشيطان في صورته، فقال لها: هات الخاتم.
فأعطته، فجاء حتّى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعده فسألها أن تعطيه خاتمه.
فقالت: ألم تأخذه قبل؟
قال: لا. وخرج من مكانه تائها، ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما.
قال: فأنكر الناس حكمه، فاجتمع قرّاء بني إسرائيل وعلمائهم، فجاؤا حتّى دخلوا على نسائه، فقالوا: إنّا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله، وأنكرنا أحكامه، فبكى النساء عند ذلك قال: فأقبلوا يمشون حتّى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرءوها، فلما قرءوا
__________
(1) بطوله في تاريخ الطبري: 1/ 351- 354.(8/204)
التوراة طار من بين أيديهم حتّى وقع على شرفة والخاتم معه، ثم طار حتّى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعته حوت.
قال: فأقبل سليمان في حاله التي كان فيها، حتّى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه، فاستطعمه من صيدهم، وقال: إني أنا سليمان.
فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه.
قال: فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه، وقالوا: بئس ما صنعت حين ضربته.
فقال: إنه زعم أنه سليمان. فأعطوه سمكتين ممّا قد مذر عندهم، فلم يشغله ما كان به من الضرب، حتّى قام إلى شط البحر فشق بطونهما وجعل يغسلهما، فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه، فردّ الله عليه ملكه وبهاءه، وجاءت الطير حتّى حامت عليه، فعرف القوم أنه سليمان، فقاموا يعتذرون مما صنعوا.
فقال: ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم هذا أمر كان لا بدّ منه.
ثم جاء حتّى أتي ملكه وأمر حتّى أتى بالشيطان الذي أخذ خاتمه، وجعله في صندوق من حديد ثم أطبق عليه، وأقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمره فألقي في البحر، وهو كذلك حيّ حتّى الساعة «1» .
وفي بعض الروايات: أن سليمان لما افتتن، سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه، فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط من يده، فلما رآه سليمان لا يثبت في يده أيقن بالفتنة، وأن آصف قال لسليمان: إنك مفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك في يدك أربعة عشر يوما.
ففرّ إلى الله تائبا من ذنبك، وأنا أقوم مقامك وأسير في عالمك وأهل بيوتك بسيرتك، إلى أن يتوب الله عليك ويردك إلى ملكك.
ففرّ سليمان هاربا إلى ربّه، وأخذ أصف الخاتم فوضعه في يده فثبت، وأن الجسد الذي قال الله تعالى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً كان هو أصف كاتبا لسليمان، وكان عنده علم من الكتاب، فأقام أصف في ملك سليمان وعالمه يسير بسيرته ويعمل بعمله أربعة عشر يوما، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله سبحانه وردّ الله عليه ملكه، فقام أصف من مجلسه وجلس سليمان على كرسيه، وأعاد الخاتم في يده فثبت فيها.
وأخبرنا شعيب بن محمّد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن الأزهر قال:
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 38، وتاريخ الطبري: 1/ 354.(8/205)
حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب: أن سليمان بن داود احتجب عن الناس ثلاثة أيام، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: أن يا سليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي، ولم تنصف مظلوما من ظالم.
وذكر حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما رويناه «1» .
وقال في آخره: قال علي: فذكرت ذلك للحسن فقال: ما كان الله عزّ وجلّ يسلطه على نسائه «2» .
وقال بعض المفسرين: كان سبب فتنة سليمان أنه أمر أن لا يتزوج امرأة [إلّا] من بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غيرهم فعوقب على ذلك.
وقيل: ان سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون أعجب بها، فعرض عليها الإسلام فأبت وامتنعت فخوّفها سليمان.
فقالت: إن أكرهتني على الإسلام قتلت نفسي.
فخاف سليمان أن تقتل نفسها، فتزوج بها وهي مشركة، وكانت تعبد صنما لها من ياقوت أربعين يوما في خفية من سليمان إلى أن أسلمت، فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوما» .
وقال الشعبي في سبب ذلك: ولد لسليمان ابن، فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض:
إن عاش له ولد لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسحرة، فسبيلنا أن نقتل ولده أو نحيله.
فعلم سليمان بذلك فأمر السحاب حتّى حملته الريح وغدا ابنه في السحاب خوفا من معرة الشيطان، فعاقبه الله لخوفه من الشيطان، ومات الولد فألقى ميتا على كرسيّه، فهو الجسد الذي قال الله سبحانه: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ.
وقيل: هو ان سليمان قال يوما: لأطوفن الليلة على نسائي كلهن، حتّى يولد لي من كل واحدة منهن ابن فيجاهد في سبيل الله. ولم يستثن، فجامعهن كلهن في ليلة واحدة، فما خرج له منهن إلّا شق مولود، فجاءت به القابلة والقته على كرسي سليمان.
فذلك قوله عزّ وجلّ: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً وهو ما
أخبرنا عبد الله بن حامد عن آخرين قالوا: حدثنا ابن الشرقي، قال: حدثنا محمّد بن عقيل وأحمد بن حفص قالا: حدثنا حفص قال: حدثني إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة، قال: اخبرني أبو الزناد عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة
__________
(1) بطوله في تاريخ دمشق: 22/ 248 ط. دار الفكر.
(2) الدر المنثور: 5/ 312.
(3) انظر تفسير القرطبي: 15/ 199.(8/206)
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قال سليمان بن داود لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل إن شاء الله. فلم يقل: إن شاء الله. فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلّا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمّد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» [116] «1»
فذلك قوله عزّ وجلّ:
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ.
قال مقاتل: فتن سليمان بعد ملك عشرين سنة، وملك بعد الفتنة عشرين سنة.
وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً أيّ شيطانا، عن أكثر المفسرين.
واختلفوا في اسمه، فقال مقاتل وقتادة: اسمه صخر بن عمر بن عمرو بن شرحبيل وهو الذي دل سليمان على الألماس حين أمر ببناء بين المقدس وقيل له: لا يسمعن فيه صوت حديد، فأخذوا الألماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والجواهر ولا تصوت، وكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء والحمام لم يدخل بخاتمه، فدخل الحمام وذكر القصة في أخذ الشيطان الخاتم.
قال: وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة فقال: أما والله لأجربنّه، فقال:
يا نبي الله- وهو لا يرى أنه نبي الله- أرأيت أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدا حتّى تطلع الشمس، أترى عليه بأسا؟ قال: لا. فرخص له في ذلك، وذكر الحديث.
وروى أبو إسحاق عن عمارة بن عبد عن علي رضي الله عنه قال: بينما سليمان جالس على شاطئ البحر وهو يلعب بخاتمه، إذ سقط في البحر وكان ملكه في خاتمه.
وروى حماد بن سلمة عن عمر بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إله إلّا الله محمّد رسول الله» [117] «2» .
رجع إلى حديث علي قال: فانطلق سليمان وخلّف شيطانا في أهله وأتى عجوزا فآوى إليها فقالت له العجوز: أن شئت ان تنطلق فاطلب فأكفيك عمل البيت وإن شئت أن تكفيني البيت وانطلق والتمس.
قال: فانطلق يلتمس، فأتى قوم يصيدون السمك فجلس إليهم فنبذوا إليه سمكات، فانطلق بهن حتّى أتى العجوزة، فأخذت تصلحه فشقت بطن سمكة، فإذا فيها الخاتم فأخذته وقالت لسليمان: ما هذا؟
فأخذه سليمان فلبسه، فأقبلت الشياطين والجنّ والإنس والطير والوحوش، وهرب الشيطان
__________
(1) صحيح البخاري: 3/ 209، وصحيح مسلم: 5/ 87.
(2) كنز العمال: 11/ 498 ح 32337، وتذكرة الموضوعات: 108.(8/207)
الذي خلّف في أهله، فأتى جزيرة في البحر فبعث إليه الشياطين فقالوا: لا نقدر عليه، ولكنه يرد علينا في الجزيرة في كل سبعة أيام يوما، لا نقدر عليه حتّى يسكر.
قال: فنزح ماءها وجعل فيها خمرا. قال: فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر فقال: والله إنك لشراب طيب إلّا أنك تصبين «1» الحليم وتزيدين الجاهل جهلا.
ثم رجع حتّى عطش عطشا شديدا ثم أتاها فقال: إنك لشراب طيب إلّا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلا.
قال: ثم شربها حتّى غلبته على عقله، ثم أروه الخاتم فقال: سمع وطاعة «2» .
قال: فأتى به سليمان فأوثقه ثم بعث به إلى جبل، فذكروا أنه جبل الدخان الذي يرون من نفسه، والماء الذي يخرج من الجبل هو بوله.
وقال السدي: اسم ذلك الشيطان اسمذي وقيل خبفيق.
وقال مجاهد: اسمه آصف.
أخبرنا أبو صالح بن أبي الحسن البيهقي الفقيه قال: أخبرنا أبو حاتم التميمي قال: حدثنا أبو الأزهر العبدي قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً قال: شيطانا يقال له: آصف. قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟
قال: أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه نبذه آصف في البحر، فساح سليمان فذهب ملكه وقعد آصف على كرسيّه ومنعه الله سبحانه نساء سليمان فلم يقربهن، وأنكر الناس أمر سليمان، وكان سليمان يستطعم فيقول: أتعرفونني؟ أنا سليمان فيكذبونه حتّى أعطته امرأة يوما حوتا فبطّ بطنه، فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفرّ آصف فدخل البحر. وقيل: إن الجسد هو آصف ابن برخيا الصدّيق، وقد مضت القصة.
وقيل: هو الولد الميت الذي غدا في السحاب.
وقيل: هو الولد الناقص الخلق.
وقيل: معنى قوله: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً أن سليمان ضرب بعلّة أشرف منها على الموت، حتّى صار جسدا في المثل بلا روح، وقد وصف المريض المضني بهذه الصفة، فيقال كالجسد الملقى ولم يبق منه إلّا جسده وتقدير الآية وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً.
__________
(1) في بعض المصادر: تطيشين.
(2) تفسير الطبري: 22/ 187.(8/208)
وأما صفة كرسي سليمان
فروي ان سليمان لما ملك بعد أبيه، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء، وأمر بأن يعمل بديعا مهولا، بحيث إن لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيّب.
قال: فعمل له كرسي من أنياب الفيل، وفصصوه بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد وأنواع الجواهر، وحففوه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، على رأس نخلتين منها طاوسان من ذهب وعلى رأس الآخرين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض، وقد جعلوا من جنبتي الكرسي أسدين من الذهب، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر، وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي.
قال: وكان سليمان إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى، فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها ويبسط الأسدان أيديهما فيضربان الأرض بأذنابهما، وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان، فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأس سليمان، ثم يستدير الكرسي بما فيه ويدور معه النسران والطاوسان والأسدان مائلات برءوسها إلى سليمان ينضحن عليه من أجوافها المسك والعنبر ثم تناولت حمامة من ذهب قائمة على عمود من جوهر من أعمدة الكرسي التوراة، فيفتحها سليمان ويقرأها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء، ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة وهي ألف كرسي عن يمينه، ويجيء عظماء الجنّ ويجلسون على كراسي من الفضة عن يساره وهي ألف كرسي حافين جميعا، به ثم تحف بهم الطير تظلهم، ويتقدم إليه الناس للقضاء، فإذا دعى بالبينات وتقدمت الشهود لإقامة الشهادات، دار الكرسي بما فيه من جميع ما حوله دوران الرحى المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما وينشر النسران والطاوسان أجنحتهما، فيفزع منه الشهود ويدخلهم من ذلك رعب شديد، فلا يشهدون إلّا بالحق «1» .
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذنبي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ.
وقال ابن كيسان: أي لا يكون لأحد.
مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ المعطي.
قال عطاء بن أبي رباح: يريد هب لي ملكا لا أسلبه في باقي عمري كما سلبته في ماضي عمري.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 202.(8/209)
وقال مقاتل بن حيان: كان سليمان ملكا ولكنه أراد بقوله لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي تسخير الرياح والطير، يدل عليه ما بعده.
وقيل: إنما سأل ذلك ليكون آية لنبوته ودلالا على رسالته ومعجزا لمن سواه.
وقيل: إنما سأل ذلك ليكون علما له على المغفرة وقبول التوبة، حيث أجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه ورد إليه ملكه وزاد فيه.
وقال عمر بن عثمان الصدفي: أراد به ملك النفس وقهر الهوى.
يؤيده ما
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال:
أخبرنا عبد الله بن يزيد قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد الأفريقي قال: حدثنا سلمان بن عامر الشيباني قال: بلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم سليمان وما أعطاه الله من ملكه؟ فإنه لم يرفع طرفه إلى السماء تخشعا لله عز وجل حتّى قبضه الله عزّ وجلّ» [118] «1» .
وأخبرنا شعيب بن محمّد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أبو الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا هشام عن الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قد عرض لي الشيطان في مصلاي الليلة كأنه هرّكم هذا، فأخذته فأردت أن أحبسه حتّى أصبح، فذكرت دعوة أخي سليمان رب هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فتركته» [119] «2» .
ومنه عن روح عن شعبة عن محمّد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن عفريتا من الجن جعل يتقلب عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي وأن الله عزّ وجلّ أمكنني منه [فرعته] «3» فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتّى يصبح فتنظرون إليه كلكم، فتذكرت قول سليمان: ربّ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فردّه الله عزّ وجلّ خاسئا» [120] «4» .
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً ليّنة رطبة حَيْثُ أَصابَ حيث أراد وشاء، بلغة حمير.
تقول العرب: أصاب الصواب وأخطأ الجواب، أي أراد الصواب.
قال الشاعر:
__________
(1) المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 118. [.....]
(2) الدر المنثور: 5/ 313.
(3) كذا في المخطوط: وفي المصادر: (فأخذته) و (فذعته) و (فانتهرته) .
(4) مسند أحمد: 2/ 298، وصحيح البخاري: 4/ 136.(8/210)
أصاب الكلام فلم يستطع ... فأخطأ الجواب لدى المفصل «1»
وَالشَّياطِينَ أي وسخرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ يستخرجون له اللئالئ من البحر، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ يعني مشدودين في القيود واحدها صفد هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ فأعط، من قوله سبحانه: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «2» .
وتقول العرب: منّ عليّ برغيف، أي أعطانيه.
قال الحسن: إن الله عزّ وجلّ لم يعط أحدا عطية إلّا جعل فيها حسابا، إلّا سليمان فإن الله سبحانه أعطاه عطاء هنيئا فقال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ.
أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ قال: إن أعطى أجر وان لم يعط لم يكن عليه تبعة.
قال مقاتل: هو في أمر الشياطين، خذ من شئت منهم في وثاقك لا تبعة عليك فيما تتعاطاه.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى قربة وَحُسْنَ مَآبٍ مصير.
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ.
قال مقاتل: كنيته أبو عبد الله.
إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ بتعب ومشقة وبلاء وضر.
قال مقاتل: بِنُصْبٍ في الجسد وَعَذابٍ في المال.
وفيه أربع لغات: (نُصُب) بضمتين وهي قراءة أبي جعفر، و (نَصَب) بفتح النون والصاد وهي قراءة يعقوب و (نَصْب) بفتح النون وجزم الصاد وهي رواية هبيرة عن حفص عن عاصم، و (نصب) بضم النون وجزم الصاد وهي قراءة الباقين.
واختلفوا في سبب ابتلاء أيوب:
فقال وهب: استعان رجل أيوب على ظلم يدرأه عنه، فلم يعنه فابتلي.
وروى حيان عن الكلبي: أن أيوب كان يغزوا ملكا من الملوك كافرا، وكانت مواشي أيوب في ناحية ذلك الملك، فداهنه ولم يغزه فابتلي.
وقال غيرهما: كان أيوب كثير المال فأعجب بماله فابتلى.
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ الأرض، أي ادفع وحرك هذا مُغْتَسَلٌ.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 205، تفسير الثعالبي: 5/ 69.
(2) سورة المدّثّر: 6.(8/211)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
ثم نبعث له عين أخرى باردة فقال: هذا بارِدٌ وَشَرابٌ وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً أي حزمة من الحشيش فَاضْرِبْ بِهِ امرأتك وَلا تَحْنَثْ في يمينك إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
[سورة ص (38) : الآيات 45 الى 60]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60)
وَاذْكُرْ عِبادَنا.
قرأه العامة: بالألف.
وقرأ ابن كثير: (عبدنا) على الواحد، وهي قراءة ابن عبّاس.
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن يوسف الفقيه قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن يحيى ابن بلال قال: حدثنا يحيى بن الربيع المكي قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمر بن عطاء عن ابن عبّاس أنه كان يقرأ: واذكر عبدنا إبراهيم ويقول: إنما [ذكر] إبراهيم ثم ولده بعده وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي ذوي القوة في العبادة وَالْأَبْصارِ التبصر في العلم والدين إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ.
قرأ أهل المدينة مضافا وهي رواية هشام عن الشام.
وقرأ الآخرون: بالتنوين على البدل وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ هذا الذي ذكرت ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ لذات مستويات على ملاذ امرأة واحدة بنات ثلاث وثلاثين سنة، واحدها ترب هذا ما تُوعَدُونَ بالتاء.
ابن كثير وأبو عمر والباقون: بالياء.
لِيَوْمِ الْحِسابِ أي في يوم الحساب.
قال الأعشى:(8/212)
المهينين ما لهم لزمان السوء ... حتّى إذا أفاق أفاقوا «1»
أي في زمان السوء إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ هلاك وفناء هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ الكافرين لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يدخلونها فَبِئْسَ الْمِهادُ هذا أيّ هذا العذاب فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ.
قال الفراء: رفعت الحميم والغساق ب (هذا) مقدما ومؤخرا، والمعنى هذا حميم وغساق فليذوقوه، وإن شئت جعلته مستأنفا وجعلت الكلام فيه مكتفيا كاملا قلت: هذا فليذوقوه ثم قلت منه حميم وغساق.
كقول الشاعر:
حتّى إذا ما أضاء الصبح في غلس ... وغودر البقل ملوي ومحصود «2»
واختلف القراء في قوله: (وَغَسَّاقٌ) ، فشددها يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف وحفص وهي قراءة أصحاب عبد الله، وخففها الآخرون.
قال الفراء: من شدد جعله اسما على فعّال نحو الخبّاز والطبّاخ. ومن خفف [جعله] اسما على فعال نحو العذاب.
واختلف المفسرون فيه:
فقال ابن عبّاس: هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار.
وقال مجاهد ومقاتل: هو [الثلج] البارد الذي قد انتهى برده، أي يريد هو المبين بلغة الطحارية وقد بلغه النزل.
محمّد بن كعب: هو عصارة أهل النار.
قتادة والأخفش: هو ما يغسق من قروح الكفرة والزناة بين لحومهم وجلودهم، أيّ تسيل.
قال الشاعر:
إذا ما تذكرت الحياة وطيبها ... وإلي جرى دمع من العين غاسق «3»
وَآخَرُ قرأ أهل البصرة ومجاهد: (وأخر) بضم الألف على جمع أخرى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنه نعته بالجمع فقال: أرواح مثل الكبرى والكبر.
وقرأ غيرهم: على الواحد وَآخَرُ.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 220، لسان العرب: 10/ 317.
(2) جامع البيان للطبري: 23/ 210.
(3) تفسير القرطبي: 15/ 222.(8/213)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
مِنْ شَكْلِهِ مثله أَزْواجٌ أصناف من العذاب والكناية في شكله راجعة إلى العذاب في قوله هذا.
وأما قوله هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ قال ابن عبّاس: هو أن القتادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة هذا يعني الاتباع فَوْجٌ جماعة مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ النار، أيّ داخلوها كما دخلتم.
فقالت السادة: لا مَرْحَباً بِهِمْ يعني بالأتباع إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ كما صليناها، فقال الاتباع للسادة: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أيّ شرعتم وسننتم الكفر لنا فَبِئْسَ الْقَرارُ أي قرارنا وقراركم، والمرحب والرحب السعة، ومنه رحبة المسجد.
قال أبو عبيدة: يقول العرب للرجل: لا مرحبا بك، أي لا رحبت عليك الأرض، أيّ اتسعت.
وقال القتيبي: معنى قولهم: مرحبا وأهلا وسهلا، أي أتيت رحبا وسعة، وأتيت سهلا لا حزنا، وأتيت أهلا لا غرباء، فأنس ولا تستوحش، وهي في مذهب الدعاء كما تقول: لقيت خيرا، فلذلك نصب «1» .
قال النابغة:
لا مرحبا بغد ولا أهلا به ... إن كان تفريق الأحبة في غد «2»
[سورة ص (38) : الآيات 61 الى 70]
قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا أي شرّعه وسنّه فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ على عذابنا.
وقال ابن مسعود: يعني حيات وأفاعي.
وَقالُوا يعني صناديد قريش وهم في النار ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ في دار الدّنيا، يعني فقراء المؤمنين أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا.
__________
(1) غريب الحديث لابن قتيبة: 1/ 200.
(2) لسان العرب: 15/ 117.(8/214)
قرأ أهل العراق إلّا عاصما وأيوب: بوصل الألف، واختاره أبو عبيد قال: من جهتين:
إحداهما: أنّ الاستفهام متقدم في قوله: (ما لَنا لا نَرى رِجالًا) .
والأخرى: أنّ المشركين لم يكونوا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدّنيا سخريا، فكيف يستفهمون عمّا قد عملوه. ويكون على هذه القراءة بمعنى بل.
وقرأ الباقون: بفتح الألف وقطعها على الاستفهام وجعلوا (أم) جوابا لها مجازا:
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا في الدّنيا وليسوا كذلك، فلم يدخلوا معنا النار.
أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ فلا نراهم وهم في النار، ولكن احتجبوا عن أبصارنا.
وقال الفراء: هو من الاستفهام الذي معناه التعجب والتوبيخ، فهو يجوز باستفهام ويطرحه.
وقال ابن كيسان: يعني أم كانوا خيرا منّا ولا نعلم نحن بذلك، فكانت أبصارنا تزيغ منهم في الدّنيا فلا نعدهم شيئا.
أخبرنا أبو بكر الحمشادي قال: أخبرنا أبو بكر القطيعي قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله ابن مسلم قال: حدثنا عصمة بن سليمان الجرار عن يزيد عن ليث عن مجاهد وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ.
قال: صهيب وسلمان وعمّار لا نراهم في النار أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا في الدّنيا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ في النار إِنَّ ذلِكَ الذي ذكرت لَحَقٌّ ثم بيّن فقال: تَخاصُمُ أي هو تخاصم أَهْلِ النَّارِ ومجاز الآية: أن تخاصم أهل النار في النار لحق قُلْ يا محمّد لمشركي مكة إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ مخّوف وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ يعني القرآن.
عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة، وروى معمر عنه يوم القيامة، نظيرها عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ «1» .
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأن آدم وهو قولهم حين قال الله سبحانه لهم: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «2» الآية هذا قول أكثر المفسرين.
وروى ابن عبّاس عن النبي (عليه السلام) قال: «قال ربّي: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى يعني الملائكة؟
__________
(1) سورة النبأ: 1- 2.
(2) سورة البقرة: 30.(8/215)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
فقلت: لا.
قال: اختصموا في الكفارات والدرجات، فأما الكفارات: فإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة: وأما الدرجات: فإفشاء السلام، واطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام» [121] «1» .
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ.
قال الفراء: ان شئت جعلت (أَنَّما) في موضع رفع، كأنك قلت: ما يوحى إليّ إلّا الإنذار، وإن شئت جعلت المعنى ما يوحى إليّ إلّا لأني نذير مبين.
وقرأ أبو جعفر (إنما) بكسر الألف، لأن الوحي قول.
[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 88]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وفي تحقيق الله سبحانه وتعالى التنشئة في اليد، دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة، إنما هما وصفان من صفات ذاته.
قال مجاهد: اليد هاهنا بمعنى التأكيد، والصلة مجاز لما خلقت، كقوله سبحانه: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ «2» أي ربك، وهذا تأويل غير قوي، لأنه لو كان بمعنى الصلة فكان لإبليس أن يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني. وكذلك في القدرة والنعمة، لا تكون لآدم في الخلق مزية على إبليس وقد مضت هذه المسألة عند قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا «3» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 226.
(2) سورة الرحمن: 27. [.....]
(3) سورة يس: 71.(8/216)
قال: العرب تسمي الاثنين جميعا لقوله سبحانه هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا «1» ، وقوله وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» قال: هما رجلان وقال: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «3» .
أَسْتَكْبَرْتَ ألف الاستفهام تدخل على ألف الخبر أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ المتكبرين على السجود كقوله سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «4» . قالَ إبليس أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنّة.
وقيل: من السماوات.
وقال الحسن وأبو العالية: أيّ من الخلقة التي أنت فيها.
قال الحسين بن الفضل: وهذا تأويل صحيح، لأن إبليس تجبّر وافتخر بالخلقة، فغيّر الله تعالى خلقه فاسودّ بعد ما كان أبيضا وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد أن كان نورانيا.
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود معذّب وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو النفخة الأولى قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ.
قرأ مجاهد والأعمش وعاصم وحمزة وخلف: برفع الأول ونصب الثانية على معنى فأنا الحقّ أو فمنّي الحق، وأقول الحق.
وقال الباقون: بنصبهما.
واختلف النحاة في وجهيهما، قيل: نصب الأول على الإغراء والثاني بإيقاع القول عليه.
وقيل: هو الأول قسم، والثاني مفعول مجاز قال: فبالحق وهو الله عزّ وجلّ أقسم بنفسه وَالْحَقَّ أَقُولُ.
وقيل: إنه أتبع قسما بعد قسم.
وقال الفراء وأبو عبيد: معناهما حققا لم يدخل الألف واللام، كما يقال: الحمد لله وأحمد الله، هما بمعنى واحد.
وقرأ طلحة بن مصرف: فالحق والحقِّ بالكسر فهما على القسم.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عبدش يقول: هو مردود إلى ما قبله
__________
(1) سورة الحج: 19.
(2) سورة النور: 2.
(3) سورة التحريم: 4.
(4) سورة القصص: 4.(8/217)
ومجازه: فبعزتك وبالحق والحق قال الله سبحانه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ أيّ من نفسك وذريتك وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أيّ على تبليغ الوحي، كناية عن غير مذكور مِنْ أَجْرٍ قال الحسين بن الفضل: هذه الآية ناسخة لقوله قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1» .
وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ المتقولين القرآن من تلقاء نفسي.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق البستي قال:
حدثنا أحمد بن عمير بن يوسف قال: حدثنا محمّد بن عوف قال: حدثنا محمّد بن المصفى قال: حدثنا حنوة بن سريج بن يزيد قال: حدثنا أرطاة بن المنذر عن ضمرة بن حبيب عن سلمة بن مقبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول فيما لا يعلم» [122] «2» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثني السنّي قال: حدثني عبد الله بن محمّد بن جعفر قال:
حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي قال: حدثنا شعيب بن إبراهيم قال: حدثنا سيف بن عمر الضبي عن وائل بن داود عن يزيد البهي عن الزبير بن العوام قال: نادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم أغفر للذين يدعون أموات امتي ولا يتكلفون إلّا أني بريء من التكلف وصالحوا أمتي» [123] «3» .
وأخبرني الحسين قال: حدثنا ابن شيبة قال: حدثنا عبد الله بن محمّد بن وهب قال:
حدثنا إبراهيم بن عمرو بن بكر السكسكي ببيت المقدس قال: حدثنا أبي قال: حدثنا إبراهيم بن [........] «4» علية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من أتاه الله عزّ وجلّ علما فليتق الله وليعلّمه الناس ولا يكتمه، فإنه من كتم علما يعلمه كان كمن كتم ما أنزل الله تعالى على نبيّه وأمره أن يعلمه الناس، ومن لم يعلم فليسكت وإياه أن يقول ما لا يعلم فيهلك ويصير من المتكلفين ويمرق من الدين، وأن الله عزّ وجلّ قال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ من أفتى بغير السنّة فعليه الإثم.
وأخبرني الحسن قال: حدثنا السنيّ قال: أخبرنا أبو خليفة قال: حدثنا محمّد بن خبير
__________
(1) سورة الشورى: 23.
(2) تفسير القرطبي: 15/ 231.
(3) انظر: تذكرة الموضوعات: 67.
(4) كلام غير مقروء.(8/218)
العبدي قال: أخبرنا سفيان الثوري عن الأعمش عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم شيئا فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم وأن الله عزّ وجلّ قال لنبيّه: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، إِنْ هُوَ ما هو يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ عظة لِلْعالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.
قال قتادة: يعني بعد الموت.
وابن عبّاس: يعني يوم القيامة.(8/219)
سورة الزمر
مكية، إلا قوله سبحانه: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية. وهي أربعة آلاف وتسعمائة وثمانية أحرف، وألف ومائة واثنتان وسبعون كلمة، وخمس وسبعون آية
أخبرنا ابن المقرئ قال: أخبرنا ابن مطر قال: حدثنا ابن شريك قال: حدثنا ابن يونس قال: حدثنا أبو سليمان قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه، وأعطاه ثواب الخائفين» [124] «1» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حمدان قال: حدثنا ابن ماهان قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا حماد بن يزيد عن مروان أبي لبابة مولى عبد الرحمن بن زياد عن عائشة رضي الله عنها قالت:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ كل ليلة ببني إسرائيل والزمر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
__________
(1) انظر: تفسير مجمع البيان.(8/220)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)
تَنْزِيلُ الْكِتابِ.
قال الفراء: معناه هذا تنزيل الكتاب، وإن شئت رفعته لمن، مجازه: من الله تنزيل الكتاب، وإن شئت جعلته ابتداء وخبره ممّا بعده.
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أيّ الطاعة الدِّينُ الْخالِصُ قال قتادة: شهادة ان لا إله إلّا الله.
قال أهل المعاني: لا يستحق الدين الخالص إلّا الله.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني الأصنام ما نَعْبُدُهُمْ مجازه قالوا ما نعدهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى.
قال قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خلقكم وخلق السماوات والأرض ونزل من السماء ماء؟
قالوا: الله.
فيقال لهم: فما يعني عبادتكم الأوثان؟
قالوا: لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى وتشفع لنا عند الله.
قال الكلبي: وجوابه في الأحقاف فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً «1» الآية.
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يوم القيامة فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي لدينه وحجته مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما زعموا لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ.
قال قتادة: يعني يغشي هذا هذا ويغشي هذا هذا، نظيره قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ» .
وقال المؤرخ: يدخل هذا على هذا وهذا على هذا، نظيره قوله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ «3» .
__________
(1) سورة الأحقاف: 28.
(2) سورة الأعراف: 157.
(3) سورة فاطر: 13.(8/221)
قال مجاهد: يدور.
وقال الحسن وابن حيان والكلبي: ينقص من الليل فيزيد في النهار وينقص من النهار فيزيد في الليل، فما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل، ومنتهى النقصان تسع ساعات ومنتهى الزيادة خمسة عشر ساعة، وأصل التكوير اللف والجمع، ومنه كور العمامة.
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ وأنشأ وجعل لَكُمْ وقال بعض أهل المعاني: جعلنا لكم نزلا ورزقا.
مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أصناف وأفراد، تفسيرها في سورة الأنعام يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ نطفة ثم علقة ثم مضغة، كما قال: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً «1» .
وقال ابن زيد: معناه يخلقكم في بطون أمهاتكم من بعد الخلق الأول الذي خلقكم في ظهر آدم.
فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ يعني البطن والرحم والمشيمة ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن عبادته إلى عبادة غيره إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ.
فإن قيل: كيف؟
قال: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وقد كفروا.
قلنا: معناه لا يرضى لعباده أن يكفروا به، وهذا كما يقول: لست أحب الإساءة وإن أحببت أن يسيء فلان فلانا فيعاقب.
وقال ابن عبّاس والسدي: معناه وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ المخلصين المؤمنين الْكُفْرَ، وهم الذين قال: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فيكون عاما في اللفظ خاصا في المعنى كقوله: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «2» وإنما يريد به بعض العباد دون البعض.
وَإِنْ تَشْكُرُوا تؤمنوا ربّكم وتطيعوه يَرْضَهُ لَكُمْ ويثيبكم عليه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ مخلصا راجعا إليه مستغيثا به ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أعطاه، ومنه قيل
__________
(1) سورة نوح: 14. [.....]
(2) سورة الإنسان: 6.(8/222)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
للمال والعطاء: خول، والعبيد خول.
قال أبو النجم:
اعطي فلم يبخل ولم يبخل ... كوم الذرى من خول المخول «1»
نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ترك ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ في حال النصر وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً يعني الأوثان.
وقال السدي: يعني أندادا من الرجال، يطيعونهم في معاصي الله.
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ
[سورة الزمر (39) : الآيات 9 الى 19]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ.
قرأ نافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة: (أمن) بتخفيف الميم.
وقرأ الآخرون بتشديده، فمن شدّده فله وجهان، أحدهما: تكون الميم في أم صلة ويكون معنى الكلام الاستفهام، وجوابه محذوف مجازه: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ كمن هو غير قانت، كقوله:
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ كمن لم يشرح الله صدره، أو تقول: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ كمن جعل لله أندادا.
والوجه الثاني: أن يكون بمعنى العطف على الاستفهام مجازه: فهذا خير أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ، فحذف لدلالة الكلام عليه ونحوها كثير.
ومن خفف فله وجهان.
أحدهما: أن يكون الألف في (أمن) بمعنى حرف النداء، تقديره: يا من هو قانت، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بياء فتقول: يا زيد أقبل، وأزيد أقبل.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 7/ 362، لسان العرب: 11/ 116.(8/223)
قال أوس بن حجر:
أبني لبينى لستم بيد ... ألا يد ليست لها عضد «1»
يعني يا بني ليتني.
وقال آخر:
أضمر بن ضمرة ماذا ذكرت ... من صرمة أخذت بالمغار «2»
فيكون معنى الآية: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ، ويا من هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ إنك من أهل الجنّة، كما تقول: فلان لا يصلي ولا يصوم، فيا من تصلي وتصوم أبشر، فحذف لدلالة الكلام عليه.
والوجه الثاني: أن يكون الألف في (أمن) ألف استفهام، ومعنى الكلام: أهذا كالذي جعل لله أندادا، فاكتفى بما سبق إذ كان معنى الكلام مفهوما.
كقول الشاعر:
فاقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ... ولكن لم نجد لك مدفعا «3»
أراد لدفعناه.
وقال ابن عمر: القنوت قراءة القرآن وطول القيام.
وقال ابن عبّاس: الطاعة.
آناءَ اللَّيْلِ ساعاته ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان، أخبرنا محمّد بن خالد، أخبرنا داود بن سليمان، أخبرنا عبد بن حميد، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر عن سعيد بن جبير: أنه كان يقرأ: (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يحذر عذاب الآخرة) .
وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ.
قال مقاتل: نزلت في عمار بن ياسر وأبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله المخزومي.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ يعني عمار وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعني أبا حذيفة إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ.
__________
(1) تفسير الطبري: 23/ 239، وتاج العروس: 7/ 299 وفيه: يدا مخبولة العضد.
(2) معجم ما استعجم: 3/ 996.
(3) لسان العرب: 3/ 452، شرح الرضي: 4/ 313، والبيت لامرئ القيس.(8/224)
أخبرنا الحسين بن محمّد بن العدل حدثنا هارون بن محمّد بن هارون العطار حدثنا حازم ابن يحيى الحلواني حدثنا محمّد بن يحيى بن الطفيل حدثنا هشام بن يوسف حدثني محمّد بن إبراهيم اليماني قال: سمعت وهب بن منبه يقول: سمعت ابن عبّاس يقول: من أحب أن يهوّن الله تعالى الموقف عليه يوم القيامة، فليره الله في سواد الليل ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ..
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يعني الجنّة، عن مقاتل.
وقال السدي: يعني العافية والصحة.
وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فهاجروا فيها واعتزلوا الأوثان، قاله مجاهد.
وقال مقاتل: يعني أرض الجنّة.
إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ.
قال قتادة: لا والله ما هنالك مكيال ولا ميزان.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه الدينوري بقراءتي عليه، حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السني حدثنا إبراهيم بن محمّد بن الضحاك حدثنا نصر بن مرزوق حدثنا أسيد بن موسى حدثنا بكر بن حبيش عن ضرار بن عمرو عن زيد الرقاشي عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم «تنصب الموازين يوم القيامة، فيؤتى بأهل الصلاة فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصيام فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الحج فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب، قال الله تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ حتّى يتمنى أهل العافية في الدّنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» «1» .
قال حدثنا أبو علي بن جش المقرئ قال: حدثنا أبو سهل [عن إسماعيل بن سيف] عن جعفر بن سليمان الضبعي عن سعد بن الطريف عن الأصبغ بن نباتة قال: دخلت مع علي بن أبي طالب إلي الحسن بن علي رضي الله عنهما نعوده فقال له علي: كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟
قال: أصبحت بنعمة «2» الله بارئا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 241.
(2) في المصدر: بحمد.(8/225)
قال: كذلك إن شاء الله.
ثم قال الحسن: أسندوني. فأسنده عليّ إلى صدره ثم قال: سمعت جدي رسول الله يقول: «يا بني أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن أغنى الناس، يا بني إن في الجنّة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، يصبّ عليهم الأجر صبّا- ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية- إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» «1» .
حدثنا الحرث بن أبي اسامة حدثنا داود بن المخبر حدثنا عباد بن كثير عن أبي الزناد عن [.........] «2» [عن أبي ذر عن النبي أنه] قال: «من سرّه أن يلحق بذوي الألباب والعقول فليصبر على الأذى والمكاره فذلك انه [.......] «3» الجزع ومن جزع صيّره جزعه إلى النار، وما نال الفوز في القيامة إلّا الصابرون إن الله تعالى يقول: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ وقال الله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ «4» » «5» .
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأمة قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي فعبدت غيره عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهذا حين دعى إلى دين آبائه، قاله أكثر المفسرين.
وقال أبو حمزة الثمالي والسبب هذه الآية منسوخة، إنما هذا قبل أن غفر ذنب رسول الله (عليه السلام) «6» .
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ.
أمر توبيخ وتهديد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «7» . وقيل: نسختها آية القتال قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وأزواجهم وخدمهم في الجنّة يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.
__________
(1) المعجم الكبير: 3/ 93، تفسير القرطبي: 15/ 242، الدر المنثور: 5/ 323، مجمع الزوائد: 2/ 305.
(2) كلام غير مقروء.
(3) كلام غير مقروء.
(4) سورة الرعد: 23- 24.
(5) باختصار في تفسير نور الثقلين: 2/ 501.
(6) تفسير أبي حمزة الثمالي: 162.
(7) سورة فصلت: 40. [.....](8/226)
قال ابن عبّاس: إن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلا في الجنّة وأهلا، فمن عمل بطاعة الله تعالى كان له ذلك المنزل والأهل، ومن عمل بمعصية الله [أخذه] «1» الله تعالى إلى النار، وكان المنزل ميراثا لمن عمل بطاعة الله إلى ما كان له قبل ذلك وهو قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ «2» .
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ أطباق وسرادق مِنَ النَّارِ ودخانها وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ مهاد وفراش من نار، وإنما سمّي الأسفل ظلا، لأنها ظلل لمن تحتهم، نظيره قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ «3» وقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «4» وقوله: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها «5» وقوله: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ «6» وقوله سبحانه وتعالى: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ «7» .
ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ الأوثان أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا رجعوا له إِلَى اللَّهِ إلى عبادة الله لَهُمُ الْبُشْرى في الدّنيا بالجنّة وفي العقبى فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أرشده وأهداه إلى الحق.
أخبرنا الحسين بن محمّد الدينوري حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق أخبرنا إبراهيم بن محمّد حدثنا يونس حدثنا ابن وهب أخبرنا يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن عبد الله بن زحر عن سعيد بن مسعود قال: قال أبو الدرداء: لولا ثلاث ما أحببت أن أعيش يوما واحدا:
الظما بالهواجر، والسجود في جوف الليل، ومجالسه أقوام ينتقون من خير الكلام كما ينتقي طيب التمر.
قال قتادة: أحسنه طاعة الله.
وقال السدي: أحسنه ما يرجون به فيعملون به.
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ.
عن ابن زيد في قوله: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ الآيتين: حدثني أبي: أن هاتين الآيتين
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) سورة المؤمنون: 10.
(3) سورة الأعراف: 41.
(4) سورة العنكبوت: 55.
(5) سورة الكهف: 29.
(6) سورة الواقعة: 43.
(7) سورة المرسلات: 30.(8/227)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
نزلتا في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وهم زيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي «1» .
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [يريد أبا لهب وولده] «2» أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أي:
هو يكون من أهل النار، كرر الاستفهام كما كرر: أنكم أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «3» .
ومثله كثير.
[سورة الزمر (39) : الآيات 20 الى 28]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ [غرف مبنية، قال ابن عباس: من زبرجد وياقوت] «4» .
حدثنا عبد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا [.........] «5» حدثني طلحة حدثنا [حماد عن أبي هارون عن مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد] الخدري عن رسول الله (عليه السلام) قال: «إن أهل الجنّة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، فقالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا
__________
(1) تفسير الطبري: 23/ 246.
(2) استدراك عن تفسير القرطبي: 15/ 244.
(3) سورة المؤمنون: 35.
(4) عن المصدر السابق.
(5) كلام غير مقروء.(8/228)
المرسلين» «1» .
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ نصب على المصدر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من السحاب ماءً فَسَلَكَهُ فادخله يَنابِيعَ عيونا فِي الْأَرْضِ قال:
[الشعبي والضحاك: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل إنما ينزل] «2» من السماء إلى الصخرة ثم يقسم منها العيون والركايا ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ ييبس فَتَراهُ بعد خضرته مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي فتاتا منكسرا متفتتا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ فتح الله صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ للإيمان فَهُوَ عَلى نُورٍ على دلالة مِنْ رَبِّهِ قال قتادة: النور كتاب الله منه تأخذ وإليه ننتهي «3» ومجاز الآية أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ أي أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ كمن أقسى قلبه.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شيبة حدثنا أبو جعفر محمّد بن الحسن بن يزيد حدثنا الموصلي ببغداد حدثنا أبو فروة واسمه يزيد بن محمّد حدثني أبي عن أبيه حدثنا زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحرث عن عبد الله بن مسعود قال:
قال رسول الله (عليه السلام) : «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» .
قلنا: يا رسول الله كيف انشراح صدره؟
قال: «إذا دخل النور لقلبه انشرح وانفتح» .
قلنا: يا رسول الله فما علامة ذلك؟
قال: «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» [125] » .
وقال الثمالي: بلغنا أنها نزلت في عمّار بن ياسر «5» وقال مقاتل: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أبو جهل وذويه من الكفّار أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
أخبرنا الحسن بن محمّد بن الحسين الحافظ أخبرنا أبو أحمد القاسم بن محمّد بن أحمد
__________
(1) تفسير القرطبي: 13/ 359، وبمعناه في صحيح البخاري: 4/ 88، وصحيح مسلم: 8/ 145.
(2) عن المصدر السابق. [.....]
(3) فتح القدير: 4/ 458.
(4) تفسير القرطبي: 15/ 247.
(5) انظر تفسير أبي حمزة: 287، وقال القرطبي: المراد بمن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ هاهنا فيما ذكر المفسرون علي وحمزة.(8/229)
ابن عبد ربه السراج الصوفي أخبرنا [......] «1» يونس بن يعقوب البزاز حدثنا الحسين بن الفضل بن السمح البصري ببغداد حدثنا جندل حدثنا أبو مالك الواسطي الحسيني حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي عن داود بن أبي هند عن أبي نصرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجلّ: اطلبوا الحوائج من السمحاء فاني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي» [126] «2» .
أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله قال: حدثنا عبد الله بن محمّد عن وهب حدثنا يوسف بن الصباح العطار حدثنا إبراهيم بن سليمان بن الحجاج حدثنا عمي محمّد بن الحجاج حدثنا يوسف بن ميسرة بن جبير عن أبي إدريس الحولاني عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحبّ الرفق في الأمر كله ويحبّ كل قلب خاشع حليم رحيم يعلّم الناس الخير ويدعوا إلى طاعة الله ويبغض كل قلب قاس ينام الليل كله فلا يذكر الله تعالى ولا يدري يرد عليه روحه أم لا» [127] «3» .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا ابن نصرويه حدثنا ابن وهب حدثنا إبراهيم بن بسطام حدثنا سعيد بن عامر حدثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلبه وما غضب الله تعالى على قوم إلّا نزع منهم الرحمة.
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً.
قال ابن مسعود: وابن عباس: قال الصحابة:
يا رسول الله لو حدثتنا، فنزلت اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا ليس فيه تناقض ولا اختلاف فيه «4» .
وقال قتادة: تشبه الآية الآية والكلمة الكلمة والحرف الحرف.
مَثانِيَ القرآن. قال المفسرون: يسمى القرآن مثاني لأنه تثنى فيه الأخبار والأحكام والحدود وثنى للتلاوة فلا يمل تَقْشَعِرُّ وتستنفر جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.
يعني إلى العمل بكتاب الله والتصديق به وقيل إلى بمعنى اللام.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا أحمد بن داود حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا خلف بن سلمة عنه حدثنا هشيم عن حصين عن عبد الله بن
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) تفسير القرطبي: 15/ 248.
(3) كنز العمال: 3/ 39 ح 5370.
(4) راجع تفسير الطبري: 23/ 249.(8/230)
عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟
قالت: كانوا كما نعتهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم.
فقلت لها: إن ناسا اليوم إذا قريء عليهم القرآن؟
قالت: كما نعتهم: خر أحدهم مغشيا عليه.
فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وبه عن سلمة حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: أن ابن عمر مرّ برجل من أهل العراق ساقط فقال: ما بال هذا؟
قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله تعالى سقط.
فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط.
وقال ابن عمر: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلم.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن الحسين بن [ديزيل] حدثنا أبو نعيم حدثنا عمران أو حمران بن عبد العزيز قال: ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن رمى بنفسه فهو صادق «1» .
حدثنا الحسن بن محمّد حدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا صلت ابن مسعود الجحدري حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا أبو عمران الجوني قال: وعظ موسى (عليه السلام) قومه فشق رجل منهم قميصه فقيل لموسى قل لصاحب القميص لا يشق قميصه أيشرح لي عن قلبه.
أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي حدثنا أحمد بن محمّد بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن سعيد بن عمر حدثنا سعدان بن نصر أبو علي حدثنا [نشابة [عن أبي غسان المدني محمّد بن مطرف عن زيد بن أسلم قال: قرأ أبي بن كعب عند النبي صلّى الله عليه وسلم فرقّوا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة» [128] «2» .
أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا محمّد بن عبد الله بن برزة وموسى بن محمّد بن علي بن
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 249.
(2) مسند الشهاب لابن سلامة: 1/ 402، وكنز العمال: 2/ 102 ح 3341.(8/231)
عبد الله قالا: حدثنا محمّد بن يحيى بن سليمان المروزي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني أخبرنا الحسين بن محمّد وحدثنا موسى بن محمّد بن عليّ حدثنا محمّد بن عبدوس بن كامل حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا عبد العزيز بن محمّد عن يزيد بن الهاد عن محمّد بن إبراهيم التيمي عن أم كلثوم بنت العبّاس عن العبّاس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما تحاتت عن الشجر اليابسة ورقها» [129] «1» .
أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا أحمد بن جعفر حدثنا حمدان حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري حدثنا محمّد بن معونة حدثنا الليث بن سعد حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمّد بن إبراهيم التيمي عن أم كلثوم بنت العبّاس عن أبيها قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى حرّمه الله تعالى على النار» [130] .
ذلِكَ يعني أحسن الحديث هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وفيه ردّ على القدرية أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي شدته يوم القيامة.
قال مجاهد: يجر على وجهه في النار.
وقال عطاء: يرمى به في النار منكوسا، فأول شيء تمسه النار وجهه.
وقال مقاتل: هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة ضخمة مثل الجبل العظيم من الكبريت، فتشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه، فحرّها ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها من وجهه من أجل الأغلال التي في يده وعنقه، ومجاز الآية أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ كمن هو آمن من العذاب وهو كقوله أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ «2» الآية.
قال المسيب: نزلت هذه الآية في أبي جهل.
وَقِيلَ أي: ويقول الخزنة لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: وباله كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ العذاب والذل الّذي يستحيا منه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على الحال غَيْرَ ذِي عِوَجٍ.
قال مجاهد: يعني غير ذي لبس.
__________
(1) مجمع الزوائد: 10/ 310، وكنز العمال: 3/ 141 ح 5879، وفيهما: البالية ورقها.
(2) سورة فصلت: 40.(8/232)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)
قال عثمان بن عفان: غير متضاد.
ابن عبّاس: غير مختلف.
السدي: غير مخلوق.
بكر بن عبد الله المزني غير ذي لحن.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الكفر والتكذيب به.
[سورة الزمر (39) : الآيات 29 الى 39]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا.
قال الكسائي: نصب رَجُلًا، لأنه ترجمة للمثل وتفسير له، وإن شئت نصبته بنزع الخافض، مجازه ضرب الله مثلا لرجل أو في رجل.
فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ مختلفون متنازعون متشاحون فيه وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه فيه يقال رجل شكس وشرس وضرس وضبس، إذا كان سيء الخلق مخالفا للناس.
وقال المؤرخ: مُتَشاكِسُونَ متماكسون يقال شاكسني فلان أي ماكسني.
وَرَجُلًا سَلَماً.
قرأ ابن عبّاس ومجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب سالما بالألف، واختاره أبو عبيد، قال: إنما اخترنا سالما لصحة التفسير فيه، وذلك أن السالم الخالص وهو ضد المشترك، وأما السلم فهو ضد المحارب، ولا موضع للحرب هاهنا.
وقرأ سعيد بن جبير: سِلْماً بكسر السين وسكون اللام.(8/233)
وقرأ الآخرون: سَلَماً بفتح السين واللام من غير ألف، واختاره أبو حاتم وقال: هو الذي لا تنازع فيه.
لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا وهذا مثلا ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة شتى، والمؤمن لا يعبد إلّا الله الواحد، ثم قال عزّ من قائل الْحَمْدُ لِلَّهِ الشكر الكامل لله سبحانه دون كل معبود سواه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّكَ يا محمّد مَيِّتٌ عن قليل وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ.
وقرأ ابن محيصن وابن أبي علية: إنك مايت وإنهم مايتون، بالألف فيهما.
قال الحسن والكسائي والفراء: (الميّت) ، بالتشديد، من لم يمت سيموت، و (الميت) ، بالتخفيف الذي فارقه الروح، لذلك لم يخفف هاهنا.
قال قتادة: نعيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم نفسه، ونعيت إليكم أنفسكم.
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا ابن ماجة حدثنا الحسين بن أيوب حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت قال: نعي رجل إلى صلت بن أشيم أخا له فوافقه يأكل فقال: ادن فكل فقد نعى إليّ أخي منذ حين.
قال: [وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر قال: إن الله تعالى نعاه إلىّ فقال] الله تعالى:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» .
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ المحق والمبطل والظالم والمظلوم.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا ابن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا ابن نمير حدثنا محمّد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الله بن أنس عن الزبير بن العوام قال: لما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ.
قال الزبير: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدّنيا مع خواصّ الذنوب؟
قال: «نعم ليكررن عليكم حتّى يؤدى إلى كل ذي حق حقه» [131] .
قال الزبير: والله إن الأمر لشديد «2» .
أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن الحسين بن [ديزيل] حدثنا آدم بن أبي أياس حدثنا ابن أبي ذنب حدثنا سعيد المقرئ عن أبي
__________
(1) تفسير الطبري: 15/ 254، والزيادة التي بين المعكوفتين منه.
(2) مسند أحمد: 1/ 167، والمستدرك: 2/ 435.(8/234)
هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من ماله أو عرضه فليتحلّلها اليوم منه قبل أن يؤخذ حين لا يكون درهم ولا دينار إن كان له عمل صالح أخذ بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه» [132] «1» .
أخبرنا الحسين بن محمّد الثقفي حدثنا الفضل بن الفضل الكندي حدثنا أبو عبد الله محمّد ابن عبد الله بن محمّد بن النعمان حدثنا محمّد بن بكر بن أبي بكر البرجمي حدثنا محمّد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تدرون من مفلس أمتي؟» .
قلنا: نعم من لا مال له.
قال: «لا، مفلس أمتي من يجاء به يوم القيامة قد ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا، فيؤخذ من حسناته فيوضع على حسنات الآخر، وإن فضل عليه فضل أخذ من سيئات الآخر فطرحت عليه ثم يؤخذ فيلقى في النار» [133] .
وقال أبو العالية: هم أهل القبلة.
أخبرنا الحسين بن فنجويه حدثنا موسى بن محمّد بن علي بن عبد الله بن الحسن بن علوية حدثنا عبيد بن جناد العلوي الحلبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن القاسم ابن عوف البكري قال: سمعت ابن عمر يقول: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتابين ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قلنا: كيف نختصم ونبينا واحد فما هذه الخصومة وكتابنا واحد؟ حتّى رأيت بعضنا يضرب وجه بعض بالسيف، فعرفت أنه فينا نزلت.
وروى خلف بن خليفة عن أبي هاشم عن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال: كنا نقول:
ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا.
أخبرنا الحسين بن فنجويه حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز البغوي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد: زعم ابن عون عن إبراهيم قال:
لما نزلت ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قالوا: كيف نختصم ونحن اخوان؟ فلما قتل عثمان قالوا: هذه خصومتنا.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فزعم أن له ولدا وشريكا وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ بالقرآن
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 506، وصحيح البخاري: 3/ 99. [.....](8/235)
إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً منزل ومقام لِلْكافِرِينَ وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ.
قال السدي: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) يعني جبرائيل جاء بالقرآن (وَصَدَّقَ بِهِ) محمّد تلقاه بالقبول.
وقال ابن عبّاس: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) يعني رسول الله جاء بلا إله إلّا الله (وَصَدَّقَ بِهِ) هو أيضا رسول الله بلّغه إلى الخلق.
وقال علي بن أبي طالب وأبو العالية والكلبي: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) يعني رسول الله (وَصَدَّقَ بِهِ) أبو بكر.
وقال قتادة ومقاتل: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) رسول الله (وَصَدَّقَ بِهِ) هم المؤمنون واستدلا بقوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
وقال عطاء: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) الأنبياء (عليهم السلام) (وَصَدَّقَ بِهِ) الاتباع وحينئذ يكون (الَّذِي) بمعنى (الذين) على طريق الجنس كقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً «1» ثم قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «2» وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «3» .
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا ابن فنجويه حدثنا طلحة بن محمّد بن جعفر وعبيد الله بن أحمد بن يعقوب قالا: حدثنا أبو بكر عن مجاهد حدثنا عبدان بن محمّد المروزي حدثنا عمار بن الحسن حدثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع: أنّه كان يقرأ والذين جاؤ يعني الأنبياء (عليهم السلام) وصدقوا به الاتباع.
وقال الحسن: هو المؤمن صدّق به في الدّنيا وجاء به يوم القيامة.
يدل عليه ما أخبرنا ابن فنجويه حدثنا أبو علي بن حبش المقرئ أخبرنا يعني الظهراني أخبرنا يحيى بن الفضل الخرقي حدثنا وهيب بن عمرو أخبرنا هارون النحوي عن محمّد بن حجارة عن أبي صالح الكوفي وهو أبو صالح السمان أنه قرأ وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ مخففة، قال: هو المؤمن جاء به صادقا فصدّق به.
وقال مجاهد: هم أهل القرآن يجيؤون به يوم القيامة يقولون هذا الذي أعطيتمونا فعملنا بما فيه.
أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ.
__________
(1) سورة البقرة: 17.
(2) سورة البقرة: 17.
(3) سورة العصر: 2.(8/236)
مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
قرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: عباده بالجمع.
وقرأ الباقون: عَبْدَهُ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم.
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وذلك
أنهم خوّفوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم معرة الأوثان وقالوا: إنك تعيب آلهتنا وتذكرها بسوء، فو الله لتكفّ عن ذكرها أو لنخلينك أو يصيبك بسوء
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ شدة وبلاء هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ نعمة ورخاء هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ.
قرأ شيبة وأبو عمرو ويعقوب: بالتنوين فيهما، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم.
وقرأ الباقون: بالإضافة.
قال مقاتل: فسألهم النبي (عليه السلام) فسكتوا فأنزل الله سبحانه قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ إذا جاءكم بأس الله تعالى من المحق منّا ومن المبطل.
[سورة الزمر (39) : الآيات 40 الى 52]
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49)
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ ورقيب، وقيل:
موكّل عليهم في حملهم على الإيمان.(8/237)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها فيقبضها عند فناء أجلها وانقضاء مدتها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها كما يتوفى التي ماتت، فجعل النوم موتا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ عنده.
قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف. قضي بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء الموت رفع على مذهب ما لم يسم فاعله.
وقرأ الباقون بفتحها، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لقوله (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) فهو يقضي عليها.
قال المفسرون: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتعارف ما شاء الله تعالى منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادها، أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وحبسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها «1» .
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقت انقضاء مدة حياتها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
أخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني أخبرنا محمّد بن جعفر المطري حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضل حدثنا عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها قال: يقبض أنفس الأموات والأحياء، فيمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء إلى أجل مسمّى لا يغلط.
وقال ابن عبّاس: في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه.
أخبرنا الحسين بن محمّد الثقفي حدثنا الفضل بن الفضل الكندي حدثنا إبراهيم بن سعد بن معدان حدثنا ابن كاسب حدثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله عن سعيد عن أبي هريرة ان النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فليضطجع على شقه الأيمن وليقل: باسمك ربّي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» [134] «2» .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من الشفاعة وَلا يَعْقِلُونَ يعني وإن كانوا لا يملكون شيئا من الشفاعة ولا يعقلون إنكم تعبدونهم أفتعبدونهم قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً فمن يشفع فبإذنه يشفع لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 24/ 12.
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 6/ 241، وتفسير القرطبي: 15/ 262.(8/238)
قال ابن عبّاس ومجاهد ومقاتل: انقبض.
قتادة: كفرت واستكبرت.
الضحاك: نفرت.
الكسائي: انتفضت.
المؤرخ: أنكرت، وأصل الاشمئزاز النفور والازورار.
قال عمرو بن كلثوم:
إذا عضّ الثقاف بها اشمأزت ... وولتهم عشوزنة زبونا «1»
وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأوثان، وذلك حين ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءته سورة النجم: تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يا فاطر السماوات والأرض عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان حدثنا عبيد الله بن ثابت حدثنا أبو سعيد الكندي حدثنا ابن فضيل حدثنا سالم بن أبي حفصة عن منذر الثوري قال:
كنت عند الربيع بن خيثم فدخل عليه رجل ممّن شهد قتل الحسين ممّن كان يقاتله فقال ابن خيثم يا معلقها. يعني الرءوس، ثم أدخل يده في حنكه تحت لسانه فقال: والله لقد قتلتم صفوة لو أدركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبّل أفواههم وأجلسهم في حجره، ثم قرأ قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أشركوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا ابن وهب حدثني محمد بن الوليد القرشي حدثنا محمّد بن جعفر حدثنا شعبة عن ابن عمران الحوني قال: سمعت أنس بن مالك يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا لو أن لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلّا أن تشرك بي» «2» .
وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ في الدّنيا أنه نازل بهم في الآخرة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 264، لسان العرب: 13/ 286.
(2) صحيح البخاري: 7/ 201.(8/239)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)
قال السدي: ظنّوا أنها حسنات فبدت لهم سيئات.
قال سفيان: وقرأ هذه الآية: ويل لأهل الريا ويل لأهل الريا.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا الفرياني حدثني محمّد ابن عبد الله بن عماد حدثني عقبة بن سالم عن عكرمة بن عمار قال: جزع محمّد بن المنكدر عند الموت فقيل له: تجزع.
فقال: أخشى آية من كتاب الله تعالى وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فأنا أخشى ان يبدو لي من الله ما لم أحتسب.
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ أعطيناه نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ من الله بأني له أهل.
قال قتادة: على خير عندي.
بَلْ هِيَ يعني النعمة فِتْنَةٌ.
وقال الحسين بن الفضل: بل كلمته التي قالها فتنة.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: قارون إذ قال إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي.
فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ يعني كفار هذه الأمة سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
[سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 64]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64)(8/240)
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الآية.
اختلف المفسرون في المعنيّين بهذه الآية.
فقال بعضهم: عنى بها قوما من المشركين.
قال ابن عبّاس: نزلت في أهل مكة قالوا يزعم محمّد انه من عبد الأوثان وقتل النفس الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله الها آخر وقتلنا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
أنبأني عبد الله بن حامد بن محمّد الأصفهاني أخبرني إبراهيم بن محمّد بن عبد الله البغدادي حدثنا أبو الحسن أحمد بن حمدان الجبلي حدثنا أبو إسماعيل حدثنا إسحاق بن سعيد أبو سلمة الدمشقي حدثنا أنس بن سفيان عن غالب بن عبد الله عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه: يا محمّد كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أنه من قتل أو شرك أو زنى يَلْقَ أَثاماً ويُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً، وأنا قد فعلت ذلك كله، فهل تجد لي رخصة؟ فأنزل الله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً «1» الآية.
قال وحشي: هذا شرط شديد فلعلي لا أقدر على هذا، فهل غير ذلك؟ فأنزل الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» .
فقال وحشي: هذا شرط شديد فلعلي لا أقدر على هذا، فهل غير ذلك؟ فأنزل الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
فقال وحشي: أراني بعد في شبهة فلا أدري يغفر لي أم لا، فهل غير ذلك؟ فأنزل الله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
فقال وحشي: نعم هذه، فجاء فأسلم.
فقال المسلمون: هذه له خاصة أم للمسلمين عامة؟
وقال: «بل للمسلمين عامة» «3» .
وقال قتادة ذكر لنا أن ناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لن يتاب عليهم، فدعاهم الله بهذه الآية.
وقال ابن عمر: نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين، كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول: لا يقبل الله تعالى من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به، فنزلت على هؤلاء الآيات فكان
__________
(1) سورة مريم: 60.
(2) سورة النساء: 48.
(3) المعجم الكبير: 11/ 158، مجمع الزوائد: 10/ 215.(8/241)
عمر بن الخطاب كاتبا فكتبها بيده، ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا أبو بكر بن خرجة حدثنا محمّد بن عبد الله بن سلمان الحضرمي حدثنا محمّد بن العلاء حدثنا يونس بن بكير حدثنا ابن إسحاق حدثنا نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما اجتمعنا إلى الهجرة أبعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل وقلنا: الميعاد بيننا المناصف ميقات بني غفار، فمن حبس منكم لم يأبها فقد حبس فليمض صاحبه، فأصبحت عندها أنا وعياش وحبس عنا هشام وفتن فافتتن، فقدمنا المدينة فكنا نقول: هل يقبل الله من هؤلاء توبة قوم عرفوا الله ورسوله ثم رجعوا عن ذلك لما أصابهم من الدّنيا؟ فأنزل الله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إلى قوله أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ.
قال عمر: فكتبتها بيدي كتابا ثم بعثت بها إلى هشام.
قال هشام: فلما قدمت عليّ خرجت بها إلى ذي طوى فقلت اللهم فهمنيها، فعرفت أنها أنزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقتل هشام شهيدا بأجنادين في ولاية أبي بكر رضي الله عنه.
وقال بعضهم: نزلت في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار، فأعلمهم الله تعالى أنه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لمن يشاء.
وروى مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب رسول الله نرى أو نقول: أنه ليس شيء من حسناتنا إلّا وهي مقبولة حتّى نزلت هذه الآية أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقيل لنا:
الكبائر والفواحش.
قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا: قد هلك، فنزلت هذه الآية، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه، وإن لم يصب منها شيئا رجونا له. وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر، والآية عامة للناس أجمعين لا تَقْنَطُوا.
قرأ أبو عمرو والأعمش ويحيى بن وثاب وعيسى والكسائي ويعقوب (لا تَقْنِطُوا) بكسر النون.
وقرأ أشهب العقيلي: بضمه.
وقرأ الآخرون: بفتحه.
روى الأعمش عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود قال: دخل عبد الله بن مسعود المسجد فإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال، فجاء حتّى قام على رأسه وقال: يا مذكّر لم(8/242)
تقنط الناس ثم قرأ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الآية.
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا أبو حبش المقرئ حدثنا ابن فنجويه حدثنا عبد سلمة حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم: أن رجلا كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة فيشدد على نفسه ويقنّط الناس من رحمة الله ثم مات فقال: أي رب ما لي عندك؟
قال: النار.
قال: أي رب وأين عبادتي واجتهادي؟
فيقول: إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدّنيا، فأنا اليوم أقنطك من رحمتي.
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً.
أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا حامد بن محمّد بن عبد الله حدثنا محمّد بن صالح الأشج حدثنا داود بن إبراهيم حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت بن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ولا يبالي» [135] .
وفي مصحف عبد الله: (إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء) .
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا محمّد بن المظفر حدثنا عمرو بن علي حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال: ما علمت أحدا من أهل العلم ولا من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم يقول لذنب: إن الله لا يغفر هذا.
أخبرنا عقيل بن محمّد بن أحمد: أن المعافا بن زكريا أخبرهم عن محمّد بن جرير حدثنا زكريا بن يحيى وهداد بن أبي زائدة حدثنا حجاج حدثنا ابن لهيعة عن أبي قنبل قال: سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول: حدثني أبو عبد الرحمن الجيلاني أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت رسول الله (عليه السلام) : «يقول ما أحب أن لي الدّنيا وما فيها بهذه الآية قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» [136] .
فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟
فسكت النبي (عليه السلام) ثم قال: «ألا ومن أشرك ألا ومن أشرك ألا ومن أشرك» [137] «1» .
__________
(1) مسند أحمد: 5/ 275.(8/243)
وبإسناده عن محمّد بن جرير حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا يونس عن ابن سيرين قال: قال علي رضي الله عنه: ما في القرآن آية أوسع من قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية.
وبه عن ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن منصور عن الشعبي عن شتير بن شكل قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أكثر آية فرجا في القرآن يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية «1» .
أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي حدثنا محمّد بن علي بن الحسن الصوفي حدثنا علي بن محمّد بن ماهان حدثنا سلمة بن شبيب قال: قريء على عبد الرزاق وأنا أسمع عن معمر عن الزهري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟» .
قال: يا رسول الله إن بالباب شابا قد أخرق فؤادي وهو يبكي.
فقال له رسول الله: «أدخله عليّ» .
فدخل وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما شأنك يا شاب؟» .
قال: يا رسول الله أبكاني ذنوب كثيرة وخفت من جبار غضبان عليّ.
قال: «أشركت بالله يا شاب؟» .
قال: لا.
قال: «أقتلت نفسا بغير حقها؟» .
قال: لا.
قال: «فإن الله يغفر لك ذنبك ولو مثل السماوات السبع والأرضين السبع والجبال الرواسي» .
قال: يا رسول الله ذنب من ذنوبي أعظم من السماوات السبع ومن الأرضين السبع.
قال: «ذنبك أعظم أم العرش؟» قال: ذنبي.
قال: «ذنبك أعظم أم الكرسي؟» .
قال: ذنبي.
قال: «ذنبك أعظم أم إلهك؟» .
قال: بل الله أجلّ وأعظم.
__________
(1) تفسير الطبري: 24/ 20.(8/244)
فقال: «إن ربّنا لعظيم ولا يغفر الذنب العظيم إلّا الإله العظيم» .
قال: «أخبرني عن ذنبك» .
قال: إني مستحيي من وجهك يا رسول الله.
قال: «أخبرني ما ذنبك؟» .
قال: إني كنت رجلا نباشا أنبش القبور منذ سبع سنين، حتّى ماتت جارية من بنات الأنصار فنبشت قبرها فأخرجتها من كفنها، ومضيت غير بعيد إذ غلبني الشيطان على نفسي، فرجعت فجامعتها ومضيت غير بعيد إذ قامت الجارية فقالت: الويل لك يا شاب من ديّان يوم الدين يوم يضع كرسيّه للقضاء، يأخذ للمظلوم من الظالم تركتني عريانة في عسكر الموتى ووقفتني جنبا بين يدي الله تعالى.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضرب في قفاه ويقول: «يا فاسق أخرج ما أقربك من النار» .
قال: فخرج الشاب تائبا إلى الله تعالى حتّى أتى عليه ما شاء الله ثم قال: يا إله محمّد وآدم وحواء إن كنت غفرت لي فاعلم محمدا وأصحابه وإلّا فأرسل نارا من السماء فأحرقني بها ونجني من عذاب الآخرة.
قال: فجاء جبرئيل وله جناحان جناح بالمشرق وجناح بالمغرب قال: السلام يقرؤك السلام. قال: «هو السلام وإليه يعود السلام» .
قال: يقول: أنت خلقت خلقي؟.
قال: «لا، بل هو الذي خلقني» .
قال: يقول: أنت ترزقهم؟
قال: «لا، بل هو يرزقني» .
قال: أنت تتوب عليهم؟
قال: «لا، بل هو الذي يتوب عليّ» .
قال: فتب على عبدي.
قال: فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم الشاب فتاب عليه وقال: «أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «1» .
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ أي واقبلوا وارجعوا إليه بالطاعة. وَأَسْلِمُوا لَهُ واخضعوا له مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.
__________
(1) لم نجدها فيما بين أيدينا من مصادر العامة، فانظر: أمالي الشيخ الصدوق: 98.(8/245)
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الحافظ حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السنّي حدثنا أبو يعلى الموصلي حدثنا أبو خيثمة حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا كثير بن زيد عن الحرث بن أبي يزيد قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله تعالى الإنابة» [138] «1» .
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ والقرآن كله حسن وانما معنى الآية ما قال الحسن: التزموا طاعته واجتنبوا معصيته، فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه: ذكر القبيح لنجتنبه، وذكر الأدون لئلا نرغب فيه، وذكر الحسن لنؤثره.
وكذلك قال السدي: الأحسن ما أمر الله به في الكتاب.
وقال ابن زيد (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني المحكمات وكلوا علم المتشابهات إلى عالمها.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يعني لأن لا تقول كقوله: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «2» وَأَنْ تَصُومُوا «3» ونحوهما.
يا حَسْرَتى يا ندامتا وحزني، والتحسر الاغتمام على ما فات، سمّي بذلك لانحساره عن صاحبه بما يمنع عليه استدراكه وتلا في الأمر فيه، والألف في قوله: (يا حَسْرَتى) هي بالكناية للمتكلم وإنما أريد يا حسرتي على الاضافة، ولكن العرب تحوّل الياء التي هي كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفا فتقول: يا ويلتا ويا ندامتا، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء، وربّما لحقوا بها الهاء.
أنشد الفراء:
يا مرحباه بحمار ناجية ... إذا أتى قربته للسانية «4»
وربّما الحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على الإضافة.
وكذلك قرأ أبو جعفر: يا حسرتاي.
عَلى ما فَرَّطْتُ قصّرت فِي جَنْبِ اللَّهِ قال الحسن: في طاعة الله. سعيد بن جبير:
في حق الله في أمر الله. قاله مجاهد.
قال أهل المعاني: هذا كما يقال هذا صغير في جنب ذلك الماضي، أي في أمره.
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 332. [.....]
(2) سورة النحل: 15.
(3) سورة البقرة: 184.
(4) شرح الرضي على الكافية: 1/ 420.(8/246)
وقيل: في سبيل الله ودينه. والعرب تسمّي السبب والطريق الى الشيء جنبا تقول:
تجرعت في جنبك غصصا وبلاء، أي بسببك ولأجلك.
قال الشاعر:
أفي جنب بكر قطعتني ملامة ... لعمري لقد كانت ملامتها ثنى «1»
وقال في الجانب الذي يؤدي إلى رضى الله تعالى وثوابه، والعرب تسمّي الجانب جنبا.
قال الشاعر:
الناس جنب والأمير جنب «2»
يعني الناس من جانب والأمير من جانب.
وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ المستهزئين بدين الله تعالى وكتابه ورسوله والمؤمنين.
قال قتادة: في هذه الآية لم يكفه ان ضيع طاعة الله تعالى، حتّى جعل يسخر بأهل طاعة الله.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه حدثنا هارون بن محمّد حدثنا محمّد بن عبد العزيز حدثنا سلمة حدثنا أبو الورد الوزان عن إسماعيل عن أبي صالح: (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) قال: كان رجل عالم في بني إسرائيل ترك علمه وأخذ في الفسق، أتاه إبليس فقال له: لك عمر طويل فتمتع من الدّنيا ثم تب.
فأخذ في الفسق، وكان عنده مال فأنفق ماله في الفجور، فأتاه مالك الموت في ألذّ ما كان.
فقال: من أنت؟
فقال: أنا ملك الموت جئت لأقبض روحك.
فقال: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، ذهب عمري في طاعة الشيطان وأسخطت ربّي.
فندم حين لم تنفعه الندامة، قال: فأنزل الله سبحانه وتعالى خبره في القرآن.
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً رجعة إلى الدّنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وفي نصب قوله: (فَأَكُونَ) وجهان:
__________
(1) الصحاح للجوهري: 6/ 2294.
(2) تفسير القرطبي: 5/ 192، لسان العرب: 1/ 278، وهو للأخفش.(8/247)
أحدهما: على جواب لو.
والثاني: على الرد على موضع الكرّة، وتوجيه الكرّة في المعنى لو أنّ لي أن أكر.
كقول الشاعر: أنشده الفراء:
فمالك منها غير ذكرى وحسرة ... وتسأل عن ركبانها أين يمموا»
فنصب تسأل عطفا على موضع الذكرى، لأن معنى الكلام: فمالك منها إلّا أن يذكر، ومنه قول الله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا «2» عطف يرسل على موضع الوحي في قوله تعالى: إِلَّا وَحْياً.
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ.
قرأ العامة: بفتح الكاف والتاء.
وقرأت عائشة: بكسرها أجمع، ردتها إلى النفس.
وروى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن فنجويه حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا عبد الله بن الفضل أخبرنا سعيد بن نصير قال: سمعت إسحاق بن سلمة الرازي قال: سمعت أبا جعفر الرازي يذكر عن الربيع بن أنس أنبأني عبد الله بن حامد أخبرتنا سعيدة بنت حفص بن المهتدي ببخارى قالت: حدثنا صالح بن محمّد البغدادي حدثنا عبد الله بن يونس بن بكر حدثنا أبي حدثنا عيسى بن عبد الله بن ماهان أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله (عليه السلام) يقول: «بَلى قَدْ جاءَتْكِ آياتِي فَكَذَّبْتِ بِها وَاسْتَكْبَرْتِ وَكُنْتِ مِنَ الْكافِرِينَ» [139] «3» على مخاطبة النفس.
قال المروزي: وهي رواية السريحي عن الكسائي.
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فزعم أن له ولدا وشريكا وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ.
قال الأخفش: تَرَى غير عاملة في قوله: (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) إنما ابتداء وخبر.
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ.
قرأ أهل الكوفة: بالألف على الجمع.
__________
(1) جامع البيان الطبري: 24/ 27، تفسير القرطبي: 15/ 272، وهو للفراء.
(2) سورة الشورى: 51.
(3) معاني القرآن: 6/ 187، الدر المنثور: 5/ 333.(8/248)
وقرأ الباقون: بغير ألف على الواحد، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم والأخفش، لأن المفازة هاهنا الفوز، ومعنى الآية: بنجاتهم من العذاب بأعمالهم الحسنة.
لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ لا يصيبهم المكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أيّ مفاتيح خزائن السماوات والأرض، واحدها مقلاد مثل مفتاح ومفاتيح، ومقليد مثل منديل ومناديل وفيه لغة أخرى أقاليد.
واحدها إقليد، وقيل: هي فارسية معربة اكليل.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري بقرائتي عليه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي حدثنا عمر بن أحمد بن شنبه حدثنا إسماعيل بن سعيد الخدري حدثنا أغلب بن تميم عن مخلد أبي الهذيل عن عبد الرحمن أخيه قال ابن عيينة: عن عبد الله بن عمر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه انه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير هذه الآية (مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .
فقال: «يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلّا الله والله اكبر وسبحان الله وبحمده واستغفر الله لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، بيده الخير يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يا عثمان من قالها إذا أصبح أو أمسى عشر مرات أعطاه الله تعالى ست خصال: أما أولها: فيحرس من إبليس وجنده، والثانية: يحضره إثنا عشر ملكا، والثالثة: يعطى قنطاران من الجنّة، والرابعة: يرفع له درجة، والخامسة: يزوجه الله تعالى زوجة من الحور العين، والسادسة: يكون له من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل، وله أيضا من الأجر كمن حج أو اعتمر فقبلت حجته وعمرته، فإن مات من ليلته مات شهيدا» [140] «1» .
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمّد بن العدل بقرائتي عليه حدثنا أحمد بن محمّد بن يحيى أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن زكريا الجرجاني الفقيه حدثنا أحمد بن جعفر بن نصر الرازي حدثنا محمّد بن يزيد النوفلي حدثنا حماد بن محمّد المروزي حدثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي رضي الله عنه قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تفسير المقاليد.
فقال: «يا عليّ سألت عظيما، المقاليد هو أن تقول عشرا إذا أصبحت وعشرا إذا أمسيت:
لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ والله أكبر سبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا حول ولا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ... ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ... يُحْيِي وَيُمِيتُ بيده الخير وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، من قالها عشرا إذا أصبح وعشرا إذا امسى أعطاه الله تعالى خصالا ستا أولهن:
__________
(1) مجمع الزوائد: 10/ 115.(8/249)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
يحرسه من إبليس وجنده فلا يكون لهم عليهم سلطان، والثانية: يعطى قنطارا في الجنّة أثقل في ميزانه من جبل أحد، والثالثة: يرفع الله له درجة لا ينالها إلّا الأبرار، والرابعة: يزوجه الله من الحور العين، والخامسة: يشهده إثنا عشر ألف ملك يكتبونها فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ يشهدون له بها يوم القيامة، والسادسة: كمن قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وكان كمن حج واعتمر فقبل الله حجة وعمرته، وإن مات من يومه أو ليلته أو شهره طبع بطابع الشهداء، فهذا تفسير المقاليد» [141] «1» .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ وذلك حين دعا إلى دين آبائه. واختلف القرّاء في قوله: تَأْمُرُونِّي فقرأ أهل المدينة: بنون واحدة مخففة على الحذف والتحقيق.
وقرأ أهل الشام: بنونين على الأصل.
وقرأ الآخرون: بنون واحدة مشددة على الإدغام.
[سورة الزمر (39) : الآيات 65 الى 75]
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74)
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الذي عملته قبل الشرك.
وقال أهل الإشارة: معناه لئن طالعت غيري في السر لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 275.(8/250)
وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ثم دلّه على التوحيد فقال عز من قائل: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لله تعالى على نعمة الايمان وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حين أشركوا به غيره، ثم خبر عن عظمته فقال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ أيّ ملكه يَوْمَ الْقِيامَةِ بلا مانع ولا منازع ولا مدّع، وهي اليوم أيضا ملكه، ونظيره قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «1» ولِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «2» .
قال الأخفش: هذا كما يقال خراسان في قبض فلان، ليس أنها في كفّه وإنما معناه ملكه.
وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ للطي معان منها: الإدراج كطي القرطاس والثوب بيانه يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، ومنه الإخفاء كما تقول: طويت فلانا عن الأعين، وأطو هذا الحديث عني أي استره.
ومنه: الإعراض يقال: طويت عن فلان أو أعرضت عنه.
ومنه: الافناء، تقول العرب: طويت فلانا بسيفي، أي أفنيته.
وقراءة العامة: مَطْوِيَّاتٌ بالرفع. وقرأ عيسى بن عمر: بالكسر ومحلها النصب على الحال والقطع، وإنما يذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار.
وقيل: هو معنى القوة، كقول الشاعر:
تلقاها عرابة باليمين «3»
وقيل: اليمين بمعنى القسم، لأنه حلف أنه يطويها ويفنيها. وهو اختيار علي بن مهدي الطبري قال: معناه مضنيات بقسمه.
حكى لي أستاذنا أبو القاسم بن حبيب عنه ثم نزه نفسه، وقال تعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم أتى ذاكر بعض ما ورد من الآثار في تفسير هذه الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد بقرائتي عليه حدثنا محمّد بن جعفر المطري حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضيل حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول هكذا بيده.
فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» «4» .
__________
(1) سورة الفاتحة: 4.
(2) سورة غافر: 16.
(3) الصحاح: 1/ 180، لسان العرب: 1/ 593، وهي للشماخ.
(4) مسند أحمد: 1/ 429، وسنن الترمذي: 5/ 49 ح 3291، بتفاوت يسير. [.....](8/251)
وأنبأني عبد الله بن حامد أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا العبّاس بن الفضل الاسقاطي حدثنا أحمد بن يونس حدثنا فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبيد الله قال: جاء حبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: يا محمّد أو يا أبا القاسم إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، يهززهن فيقول: أنا الملك أنا الملك.
فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم تعجبا ممّا قال الحبر تصديقا له، ثم قرأ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» .
أخبرنا أحمد بن محمّد بن يوسف القصري بها أخبرنا إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل ببغداد حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا محمّد بن صالح الواسطي عن سليمان بن محمّد عن عمر بن نافع عن أبيه قال: قال عبد الله بن عمر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائما على هذا المنبر- يعني منبر رسول الله (عليه السلام) . وهو يحكي عن ربّه تبارك وتعالى فقال: «إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السماوات والأرضين السبع في قبضته- ثم قال هكذا وشد قبضته ثم بسطها- ثم يقول: أنا الله، أنا الرحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدّنيا ولم يك شيئا، أنا الذي أعدتها، أين الملوك أين الجبابرة» [142] .
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا عبد الله بن الفضل حدثنا هدية ابن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ على المنبر (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) فبسط رسول الله صلّى الله عليه وسلم يديه ثم قال: «فيمجّد الله نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز، أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون» .
قال: فرجف المنبر حتّى قلنا ليتحركنّ به، وقيل: ليخرنّ به «2» .
أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا عمر عن عبد الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن عمر بن حمزة عن سالم بن عبد الله حدثني عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟
أين المتكبرون» «3» .
__________
(1) صحيح مسلم: 8/ 125.
(2) كتاب السنة لابن أبي عاصم: 241 ح 545.
(3) جامع البيان للطبري: 24/ 36.(8/252)
أخبرنا عبد الله بن حامد إجازة أخبرنا محمّد بن الحسين حدثنا محمّد بن جعونة أخبرنا أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا أبو بكر بن أبي مريم الغساني عن سعيد بن ثوبان الكلاعي عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلّى الله عليه وسلم: أنه أتاه حبر من أحبار اليهود فقال: إني سائلك عن أشياء فخبّرني بها.
فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «اسأل ذلك» .
فقال الحبر: أرأيت قول الله تعالى في كتابه: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فأين الخلق عند ذلك؟
فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هم أضياف الله تعالى فلن يعجزهم ما لديه» .
فقال الحبر: فقوله سبحانه وتعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ فأين الخلق عند ذلك؟
فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هم فيها كالرقيم في الكتاب» [143] «1» .
وقال ابن عبّاس: في هذه الآية كل ذلك يمينه، وليس في يده الأخرى شيء، وإنما يستعين بشماله المشغولة يمينه، وما السماوات والأرضون السبع في يدي الله تعالى إلّا كخردلة في يد أحدكم «2» .
أنبأني عقيل بن أحمد: أن المعافا بن زكريا أخبره عن محمّد بن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة حدثني ابن إسحاق عن محمّد عن سعيد قال: اتى رهط من اليهود النبي صلّى الله عليه وسلم وقالوا:
يا محمّد هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟
فغضب النبي صلّى الله عليه وسلم حتّى انتقع لونه ثم ساورهم غضبا لربّه فجاءه جبرئيل (عليه السلام) فسكنه وقال: اخفض عليك جناحك وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه، قال يقول الله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
فلما تلاها عليهم النبي صلّى الله عليه وسلم قالوا له: صف لنا ربك كيف خلقه وكيف عضده وكيف ذراعه؟
فغضب النبي صلّى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول ثم ساورهم فجاءه جبرئيل فقال: مثل مقالته، وأتاه بجواب ما سألوه وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ الآية «3» .
وقال مجاهد: وكلتا يدي الرحمن يمين.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 13/ 333.
(2) تفسير الطبري: 24/ 32.
(3) تفسير الدر المنثور: 6/ 410.(8/253)
أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن حامد الأصبهاني أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق أخبرنا بشير بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرنا عمرو بن أوس الثقفي:
أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من منابر النور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» [144] «1» .
وقال الحسين بن الفضل والأخفش معنى الآية وَالْأَرْضُ جَمِيعاً ... وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ أي مضبوطات مربوطات بِيَمِينِهِ، أي بقدرته وهي كلها في ملكه وقبضته، نحو قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «2» أي وما كانت لكم قدرة، وليس الملك لليمين دون سائر الجسد والله أعلم.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ.
أخبرنا أبو محمّد الحسين بن أحمد المخلدي إملاء وقراءة أخبرنا عبد الله بن محمّد بن مسلم حدثنا أحمد بن محمّد بن أبي رجاء المصيصي حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن سليمان التيمي عن أسلم العجلي عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن عمرو قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الصور.
فقال: «قرن ينفخ فيه» [145] «3» .
فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أيّ ماتوا وهي النفخة الثانية إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ اختلفوا في الذين استثناهم الله تعالى.
أخبرنا أبو علي الحسين بن محمّد بن محمّد الروذبادي حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمّد ابن عبد الرحيم الشروطي حدثنا عبدان بن عبد الله بن أحمد حدثنا محمّد بن مصفي حدثنا بقية عن محمّد عن عمرو بن محمّد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل جبرئيل عن هذه الآية فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ: «من أولئك الذين لم يشاء الله أن يصعقهم؟» .
فقال: هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش «4» .
أخبرنا الحسين بن فنجويه بقرائتي عليه حدثنا أبو علي بن حبش المقرئ قال: قرأ عليّ
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 160، والسنن الكبرى للبيهقي: 10/ 87.
(2) سورة النساء: 36.
(3) مسند أحمد: 2/ 162، وسنن الدارمي: 2/ 325.
(4) المستدرك: 2/ 253.(8/254)
أبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي وأنا أسمع حدثنا يحيى بن معين حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمر بن محمّد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه سأل جبرئيل (عليهما السلام) عن هذه الآية وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ: «من الذين لم يشاء الله تعالى أن يصعقهم؟» .
قال: هم الشهداء متقلدون حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت أزمتها الدرّ برحائل السندس والإستبرق نمارها ألين من الحرير، مدّ خطاها مدّ أبصار الرجال يسيرون في الجنّة يقولون عند طول البرهة: انطلقوا إلى ربنا لننظر كيف يقضي بين خلقه، فيضحك إليهم إلهي عزّ وجلّ، فإذا ضحك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه «1» .
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الحسن بن يحيويه حدثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي سفيان قالا:
حدثنا محمّد بن يوسف الفربابي حدثنا سليمان بن حيان عن محمّد بن إسحاق عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: تلا رسول الله (عليه السلام) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين استثنى الله تعالى؟
قال: «هو جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت- قال: فيقول يا ملك الموت خذ نفس اسرافيل. فيقول: يا ملك الموت من بقي؟ فيقول: سبحانك ربّي وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وميكائيل وملك الموت. فيقول: يا ملك الموت خذ نفس ميكائيل. فيأخذ نفس ميكائيل فيقع كالطود العظيم. فيقول: يا ملك الموت من بقي؟ فيقول: سبحانك ربّي تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وملك الموت.
فيقول: مت يا ملك الموت فيموت. فيقول: يا جبرئيل من بقي؟ فيقول: تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبرئيل الميت الفاني- قال-: فيقول: يا جبرئيل لا بدّ من موتك، فيقع ساجدا يخفق بجناحيه فيقول: سبحانك ربّي تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام» .
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على الضرب من الضراب» [146] «2» .
أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد بن جعفر حدثنا حاجب بن أحمد بن يرحم حدثنا محمّد بن حماد حدثنا محمّد بن الفضيل عن سليمان التيمي عن أبي نصرة عن جابر في قوله تعالى:
__________
(1) الدر المنثور: 5/ 336.
(2) جامع البيان للطبري: 24/ 38، وتفسير القرطبي: 15/ 280.(8/255)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال: موسى ممّن استثنى الله تعالى، وذلك بأنه قد صعق مرة.
يدل عليه ما
أخبرنا عقيل بن أحمد: أن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمّد بن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا محمّد بن عمرو حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال يهودي بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر، قال: فرفع رجل من الأنصار يده فصك بها وجهه فقال: تقول هذا وفينا رسول الله.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فأكون أنا أول من يرفع رأسه، فإذا موسى أخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممّن استثنى الله تعالى» [147] «1» .
وقال كعب الأحبار: هم إثنا عشر، حملت العرش وجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
الضحاك: هم رضوان والحور ومالك والزبانية.
قتادة: الله أعلم بثنياه «2» .
الحسن: (إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) يعني الله وحده. وقيل: عقارب النار وحياتها، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أي في الصور أُخْرى مرة أخرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ من قبورهم يَنْظُرُونَ يعني ينظرون إلى البعث.
وقيل: ينتظرون أمر الله تعالى فيهم.
قالت العلماء: ووجه النفخ في الصور أنه علامة جعلها الله تعالى ليتصوّر بها العاقل وأخذ الأمر، ثم تجديد الخلق.
وَأَشْرَقَتِ وأضاءت الْأَرْضُ.
وقرأ عبيد بن عمير: (وَأُشْرِقَتِ) على لفظ ما لم يسم فاعله كأنها جعلت مضيئة.
بِنُورِ رَبِّها قال أكثر المفسرين: بضوء ربّها، وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه فما يتضارون في نوره إلّا كما يتضارون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه «3» .
وقال الضحاك: بحكم ربّها.
__________
(1) تفسير الطبري: 24/ 40.
(2) تفسير القرطبي: 15/ 280. [.....]
(3) تفسير الطبري: 24/ 42.(8/256)
وقال السدي: بعدل ربّها. ويقال: إن الله تعالى خلق في القيامة نورا يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به، ويقال: ان الله يتجلى للملائكة فتشرق الأرض بنوره، وأراد بالأرض عرصات القيامة.
وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ.
قال ابن عبّاس: يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة.
وقال السدي: الذين استشهدوا في طاعة الله.
وقيل: هم الحفظة، يدل عليه قوله تعالى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ «1» .
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا سوقا عنيفا يسحبون على وجوههم إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أفواجا بعضها على أثر بعض، كل أمة على حدة.
وقال أبو عبيد والأخفش: يعني جماعات في تفرقة، واحدتها زمرة.
حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها السبعة وكانت قبل ذلك مغلقة.
واختلف القراء في قوله: (فُتِحَتْ) و (فُتِّحَتْ) فخففها أهل الكوفة، وشددهما الآخرون على التكثير.
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها توبيخا وتقريعا لهم أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ وجبت كَلِمَةُ الْعَذابِ وهي قوله تعالى:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «2» .
عَلَى الْكافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ وحشر الذين اتَّقَوْا رَبَّهُمْ فأطاعوه ولم يشركوا به إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ركبانا حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ الواو فيه واو الحال ومجازه وقد فتحت أبوابها، فأدخل الواو هاهنا لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم، وحذفها من الآية الأولى لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم، ويقال:
زيدت الواو هاهنا، لأن أبواب الجنّة ثمانية وأبواب الجحيم سبعة، فزيدت الواو هاهنا فرقا بينهما.
حكى شيخنا عبد الله بن حامد عن أبي بكر بن عبدش أنها تسمى واو ثمانية.
قال: وذلك أن من عادة قريش أنهم يعدون العدد من الواحد إلى الثمانية، فإذا بلغوا
__________
(1) سورة ق: 21.
(2) سورة هود: 119.(8/257)
الثمانية زادوا فيها واوا فيقولون: خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، يدل عليه قول الله تعالى:
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً «1» وقال سبحانه: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ «2» ، فلما بلغ الثامن من الأوصاف قال وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ «3» ، وقال سبحانه وتعالى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «4» ، وقال تعالى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «5» .
وقيل: زيادة الواو في صفة الجنّة علامة لزيادة رحمة الله على غضبه وعقوبته.
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ قال قتادة فإذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنّة والنار، فيقتص بعضهم من بعض، حتّى إذا هدءوا واطمئنوا قال لهم رضوان وأصحابه: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ.
أخبرنا أبو صالح شعيب بن محمّد البيهقي أخبرنا أبو حاتم مكي بن عبدان التميمي حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر السليطي حدثنا روح بن عبادة القيسي حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه: أنه سئل عن هذه الآية وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً الآية.
فقال: سيقودهم إلى أبواب الجنّة حتّى إذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة تخرج من تحت ساقها عينان، فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا فيها فجرت عليهم بنضرة النعيم، فلن تغير أجسادهم بعدها أبدا ولن تشعث أشعارهم بعدها أبدا كأنما دهنوا بالدهان، ثم عمدوا إلى الأخرى فشربوا منها فأذهبت ما في بطونهم من أذى أو قذى، وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنّة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ، ويلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون به فعل الولدان بالحميم إذا جاء من الغيبة يقولون: ابشر قد أعدّ الله لك كذا وكذا وأعد لك كذا وكذا، وينطلق غلام من غلمانه يسعى إلى أزواجه من الحور العين فيقول: هذا فلان- باسمه في الدّنيا- قد قدم.
فيقلن: أنت رأيته؟
فيقول: نعم.
فيستخفهن الفرح حتّى يخرجن إلى أسكفة الباب ويجيء ويدخل، فإذا سرر موضونة، وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه، فإذا هو قد
__________
(1) سورة الحاقة: 7.
(2) سورة التوبة: 112.
(3) سورة التوبة: 112.
(4) سورة الكهف: 22.
(5) سورة التحريم: 5.(8/258)
أسس على جندل اللؤلؤ بين أخضر وأحمر وأبيض وأصفر من كل لون، ثم يتكئ على أريكة من أرائكه، ثم يرفع طرفه إلى سقفه، فلولا أن الله تعالى قدر له لألمّ أن يذهب بصره، أنه مثل البرق فيقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ «1» قال: فيناديهم الملائكة أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
واختلف أهل العربية في جواب قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها.
فقال بعضهم: جوابه: (فُتِحَتْ) والواو فيه [مثبتة] مجازها حتّى إذا جاؤها فتحت أبوابها كقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً «3» أي ضياء.
وقيل: جوابه: قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها والواو فيه ملغاة تقديره: حتّى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها.
كقول الشاعر:
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ... إلّا توهم حالم بخيال «4»
أراد فإذا ذلك لم يكن.
وقال بعضهم: جوابه مضمر ومعنى الكلام: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ، فدخلوها.
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ قال أبو عبيدة: جوابه محذوف مكفوف عن خبره، والعرب تفعل هذا لدلالة الكلام عليه.
قال الأخطل في آخر قصيدة له:
خلا أن حيا من قريش تفضلوا ... على الناس أو ان الأكارم نهشلا «5»
وقال عبد مناف بن ربيع في آخر قصيدة:
حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلاء كما تطرد الجمالة الشردا «6»
__________
(1) سورة الأعراف: 43.
(2) سورة الأعراف: 43.
(3) سورة الأنبياء: 48.
(4) جامع البيان للطبري: 24/ 46، وفي اللسان: 2/ 551، نسبه إلى ابن مقبل، وفيه:
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ... إلّا كلمة حالم بخيال
(5) تفسير الطبري: 24/ 47، وشرح الرضي على الكافية: 4/ 377.
(6) المصدر السابق، ولسان العرب: 3/ 237. [.....](8/259)
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يعني أرض الجنّة، وهو قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «1» .
نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ثواب المطيعين وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ محدقين محيطين مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ودخول (من) للتوكيد يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ متلذذين بذلك لا متعبدين به، لأن التكليف يزول في ذلك اليوم وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بين أهل الجنّة والنار بالحق وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
أخبرنا أبو صالح شعيب بن محمّد البيهقي الفقيه أخبرنا مكي بن عبدان أخبرنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر حدثنا روح بن عبادة حدثنا سعيد عن قتادة في هذه الآية قال: فتح أول الخلق بالحمد وقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «2» وختم بالحمد فقال: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك حدثنا أبو طلحة أحمد بن محمّد بن عبد الكريم الفزاري حدثنا نصر بن علي حدثنا عبد الرحمن بن عثمان عن عبادة بن ميسرة عن محمّد بن المنكدر عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر آخر سورة الزمر فتحرك المنبر مرتين.
__________
(1) سورة الأنبياء: 105.
(2) سورة الأنعام: 1.(8/260)
سورة المؤمن
قال الثمالي: إنما سميت بذلك من أجل حزقيل مؤمن آل فرعون مكية، وهي خمس وثمانون آية، وألف ومائة وتسع وتسعون كلمة، وأربعة ألف وتسع مائة وستون حرفا في فضل الحواميم:
أخبرنا الأستاذ أبو الحسين علي بن محمّد بن الحسن الجنازي قراءة عليه حدثنا أبو الشيخ الأصبهاني حدثنا محمّد بن أبي عصام حدثنا إبراهيم بن سليمان الحرّاني حدثنا عثمان المزني حدثنا عبد القدوس بن حبيب عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحواميم ديباج القرآن» [148] «1» .
أخبرنا أبو محمّد ابن الرومي أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن الجراح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عبّاس قال: لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم.
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن يعقوب القصري بها أخبرنا أبو علي الصفار ببغداد حدثنا سعدان بن نصر وأخبرنا أبو الحسين الخبازي أخبرنا الشدائي وهو أبو بكر أحمد بن نصر حدثنا ابن المنادي عن سعدان بن نصر: أن المعتمر بن سليمان الرقي حدثهم عن الخليل بن مرة مرسلا قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الحواميم سبع وأبواب جهنّم سبع: جهنم، والحطمة، ولظى، والسعير، وسقر، والهاوية، والجحيم، فتجيء كل حاء ميم منهن يوم القيامة على باب من هذه الأبواب فيقول: لا يدخل الباب من كان يؤمن بي ويقرأني» [149] «2» .
أخبرنا علي بن محمّد بن الحسن حدثنا أبو جعفر محمّد بن عبد الله بن بذرة حدثنا أبو علي أحمد ابن بشر المرثدي حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني حدثنا جعفر بن عون عن مسعر عن سعيد بن إبراهيم قال: كنّ الحواميم يسمون العرائس.
__________
(1) الجامع الصغير: 1/ 594 ح 3851.
(2) الجامع الصغير: 1/ 594 ح 3853.(8/261)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لكل شيء ثمرة، وأن ثمرة القرآن ذوات حسم هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنّة فليقرأ الحواميم» [150] «1» .
وقال ابن مسعود: إذا وقعت في أل حم وقعت في روضات أتأنق فيهن.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب» [151] «2» .
وقال ابن سيرين: رأى رجل في المنام سبع جوار حسان في مكان واحد لم ير أحسن منهن فقال لهن: لمن أنتن؟
قلن: لمن قرأ أل حم.
فأما فضائل هذه السورة خاصة.
فأخبرنا أبو عبد الله حدثنا ظفران حدثنا أبو محمّد بن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمّد ابن الصباح وأخبرنا أبو الحسين الخبازي حدثنا ظفران حدثنا ابن أبي داود حدثنا محمّد بن عاصم وأخبرنا الخبازي حدثنا ابن حبش المقرئ حدثني أبو العبّاس محمّد بن موسى الدقاق حدثنا عبد الله بن روح المدائني حدثنا نشابة بن سوار حدثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد وعن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حم المؤمن لم تبق روح نبيّ ولا صدّيق ولا شهيد ولا مؤمن إلّا صلّوا عليه واستغفروا له» [152] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 288.
(2) تفسير القرطبي: 15/ 288.(8/262)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
حم
أنبأنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا أبو علي بن حبش المقرئ حدثنا أبو القاسم ابن الفضل حدثنا علي بن الحسن حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا يحيى بن حسان حدثنا رشد عن الحسن بن ثوبان عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حم اسم من أسماء الله تعالى وهي مفاتيح خزائن ربّك تعالى» [153] «1» .
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان أخبرنا مكي بن عبدان حدثنا عبد الله بن هاشم حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي حدثنا شعبة قال: سألت السدي عن حم؟
فقال: قال ابن عبّاس: هو اسم الله الأعظم.
وروى عكرمة عن ابن عبّاس قال: (الر) و (حم) و (ن) حروف الرَّحْمنُ مقطوعة.
الوالبي عنه: «2» قسم أقسم الله تعالى به، وهو اسم من أسماء الله تعالى.
وقال قتادة: حم اسم من أسماء القرآن.
مجاهد: فواتح السور.
القرظي: أقسم الله تعالى بحلمه وملكه أن لا يعذب أحدا عاد إليه يقول لا إله إلّا الله مخلصا من قلبه.
الشعبي: شعار السورة.
وقال عطاء بن أبي مسلم الخراساني: الحاء افتتاح أسماء الله تعالى: حليم، وحميد، وحيّ، وحنّان، وحكيم، والميم افتتاح أسمائه: ملك، ومجيد، ومنّان. يدل عليه ما
روى عن أنس بن مالك أنه قال: سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حم، فإنا لا نعرفها في لغتنا؟
فقال: «بدء أسماء وفواتح سور» [154] .
وقال الضحاك والكسائي: معناه قضى ما هو كائن، كأنه أراد الإشارة إلى حمّ بضم الحاء وتشديد الميم.
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ واختلف القراء في قوله: (حم) فكسر الحاء حيث كان، عيسى وحمزة والكسائي وخلف، ومثله روى يحيى وحماد عن أبي بكر عن عاصم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 289.
(2) تفسير القرطبي: 15/ 289.(8/263)
وقرأ أبو جعفر وأبو عبيد وأبو حاتم وابن ذكوان بين الفتح والكسر.
ومثله روى بكر بن سهل الدمياطي وإسماعيل النخاس عن ورش عن نافع.
وقرأ الباقون: بالفتح.
غافِرِ الذَّنْبِ قال ابن عبّاس: لمن قال: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ ...
وَقابِلِ التَّوْبِ ممّن قال: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ ... شَدِيدِ الْعِقابِ لمن لا يقول: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ ...
ذِي الطَّوْلِ ذي الغنى عمّن لا يقول: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ.
وقال الضحاك: ذي المنن.
قتادة: ذي النعم.
السدي: ذي السعة.
الحسن: ذي الفضل.
ابن زيد: ذي القدرة، وأصل الطول: الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه، يقال: اللهم طلّ علينا، أي أنعم علينا وتفضل، ومنه قيل للمنفع: طائل، ويقال في الكلام: ما خليت من فلان بطائل وما حظيت منه بنائل، أي لم أجد منه منفعة.
حدثنا الحسن بن محمّد بن فنجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا يوسف بن عبد الله ابن ماهان حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت قال: كنت إلى جانب سرادق مصعب بن الزبير في مكان لا يمر فيه الدواب، وقد استفتحت حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إذ مرّ رجل على دابة فلما قلت: (غافِرِ الذَّنْبِ) . قال: قل: يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي.
قلت: (وَقابِلِ التَّوْبِ) .
قال: قل: يا قابل التوب اقبل توبتي. قلت: (شَدِيدِ الْعِقابِ) .
قال: قل: يا شديد العقاب اعف عني عقابي.
قلت: (ذِي الطَّوْلِ) .
قال: قل يا ذي الطول طلّ عليّ بخير.
قال: ثم التفت يمينا وشمالا فلم أر شيئا.
وقال أهل الإشارة: (غافِرِ الذَّنْبِ) فضلا (وَقابِلِ التَّوْبِ) وعدا (شَدِيدِ الْعِقابِ) عدلا.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فردا. و (التَّوْبِ) يجوز أن يكون مصدرا، ويحتمل أن يكون جمع التوبة، مثل دومة ودوّم وعومة وعوّم.(8/264)
أخبرنا عبد الله بن حامد قرأه عليه حدثنا محمّد بن خالد بن الحسن أخبرنا داود بن سليمان حدثنا عبد بن حميد حدثنا كثير بن هشام أخبرنا جعفر بن مرقان حدثنا يزيد بن الأصم:
أن رجلا كان ذا بأس، وكان يوفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبأسه، وكان من أهل الشام، وأن عمر فقده فسأل عنه فقيل له: يتابع في هذا الشراب فدعا عمر كاتبه فقال: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليكم، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. وختم على الكتاب ثم دفعه إلى رسوله وقال: لا تدفعن الكتاب إليه حتّى تجده صحوان.
ثم أمر من عنده فدعوا له أن يقبل الله تعالى عليه بقلبه، وأن يتوب عليه، فلما أتت الصحيفة الرجل جعل يقرأها ويقول قد وعدني الله تعالى أن يغفر لي وحذّرني عقابه، فلم يزل يرددها على نفسه حتّى بكى ثم نزع، فأحسن النزع وحسنت توبته وحاله، فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم زل زلة فسدّدوه ووفقوه وادعوا الله تعالى له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه «1» .
ما يُجادِلُ ما يخاصم ويمادي فِي آياتِ اللَّهِ بالإنكار لها إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا.
أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمّد بن يعقوب حدثنا محمّد بن إسحاق حدثنا خالد بن الوليد حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: آيتان ما أشدّهما على الذين يجادلون في القرآن ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ «2» .
أخبرنا عبد الله بن حامد حدثنا محمّد بن خالد حدثنا داود بن سليمان أخبرنا عبد بن حميد حدثنا الحسين بن علي الجعفي عن زائد عن ليث عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن جدالا في القرآن كفر» [155] «3» .
فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ تصرفهم فِي الْبِلادِ للتجارات وبقائهم فيها مع كفرهم، فإن الله تعالى يمهلهم ولا يهملهم، نظيره: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ «4» ، ثم قال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ والكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالمخالفة والعداوة مِنْ بَعْدِهِمْ، أي من بعد قوم نوح وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ويقتلوه.
__________
(1) الدر المنثور: 5/ 345.
(2) سورة البقرة: 176.
(3) مسند أحمد: 2/ 258، والمستدرك: 2/ 223.
(4) سورة آل عمران: 196- 197.(8/265)
قال الفراء: كان حقه أن يقول برسولها وكذلك هي في قراءة عبد الله، ولكنه أراد بالأمة الرجال فكذلك قال: (بِرَسُولِهِمْ) ...
وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا ليبطلوا ويزيلوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ من الملائكة.
قال ابن عبّاس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمس مائة عام.
وقال: مسيرة أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفا من أهل السماء السابعة، وأهل السماء السابعة أشد خوفا من أهل السماء التي تليها، والتي تليها أشد خوفا من التي تليها.
قال مجاهد: بين الملائكة وبين العرش سبعون حجابا من نور.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا مخلد بن جعفر حدثنا الحسن بن علوية حدثنا إسماعيل ابن عيسى حدثنا إسحاق أخبرني مقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس قال: لمّا خلق الله حملة العرش قال لهم: احملوا عرشي. فلم يطيقوا، فخلق مع كل ملك منهم من أعوانهم مثل جنود من في السماوات من الملائكة ومن في الأرض من الخلق، فقال: احملوا عرشي. فلم يطيقوا، فخلق مع كل واحد منهم جنود سبع سماوات وسبع أرضين وما في الأرض من عدد الحصى والثرى فقال: احملوا عرشي. فلم يطيقوا، فقال: قولوا لا حول ولا قوة إلّا بالله.
فقالوا: لا حول ولا قوة إلّا بالله استقلينا عرش ربّنا.
قال: فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الثرى فلم تستقر، فكتب على قدم كل ملك اسم من أسمائه تعالى، فاستقرت أقدامهم.
وروى شهر بن حوشب عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتفكروا في عظمته ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة، فإن خلقا من الملائكة يقال له: إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سماوات وأنه ليتضاءل من عظمة الله تعالى حتّى يصير كأنه الوضيع» [156] «1» .
وروى موسى بن عقبة عن محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أذن لي أن أحدّث عن ملك من ملائكة الله من حملة عرشه ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبع مائة عام» [157] «2» .
__________
(1) كشف الخفاء للعجلوني: 1/ 311، والدر المنثور: 5/ 347 بتفاوت يسير.
(2) المعجم الأوسط: 3/ 41، ومجمع الزوائد: 1/ 80 وفيه: سبعين عاما، والمعجم الأوسط: 2/ 199 وفيه: أربع مائة عام. [.....](8/266)
وفي الخبر: أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة عرشه، تفضيلا لهم على سائر الملائكة، فهذه صفة حملة العرش.
وأما صفة العرش:
فروى لقمان بن عامر عن أبيه قال: ان الله تعالى خلق العرش من جوهرة خضراء، للعرش ألف ألف رأس زاجون ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلّا وهو يسبح بتحميده لا يسبحه الآخر، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربع مائة عام، واحتجب الله تعالى بينه وبين الملائكة الذين هم حول العرش بسبعين حجابا من نار، وسبعين حجابا من ظلمة، وسبعين حجابا من نور، وسبعين حجابا من در أبيض، وسبعين حجابا من ياقوت أحمر، وسبعين حجابا من زبر جد أخضر، وسبعين حجابا من ثلج، وسبعين حجابا من ماء، وسبعين حجابا من برد وما لا يعلمه إلّا الله تعالى.
قال: ولكل واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه: وجه ثور، ووجه أسد، ووجه نسر، ووجه إنسان، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة: أما جناحان فعلى وجه من أن ينظر إلى العرش فيصعق، وأما جناحان فيتبوأ فيقوى بهما، ليس لهم كلام إلّا التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد.
وقال يزيد الرقاشي: ان لله تعالى ملائكة حول العرش يسمّون المخلصين، تجري أعينهم مثل الأنهار إلى يوم القيامة يميدون كأنما ينفضهم من خشية الله، فيقول لهم الربّ جلّ جلاله: يا ملائكتي مخافة تخيفكم؟
فيقولون: يا ربّنا لو أن أهل الأرض أطلعوا من عزتك وعظمتك على ما اطلعنا عليه، ما أساغوا طعاما ولا شرابا ولا انبسطوا في فرشهم، ولخرجوا إلى الصحارى يخورون كما يخور البقر «1» .
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وهذا تفسير لقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ «2» ... رَبَّنا أي ويقولون: ربّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً نصبا على التفسير، وقيل: نصبا على النقل، أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ دينك وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ.
روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله يقولون الملائكة خير من ابن
__________
(1) لم نجده إلّا في شرح اصول الكافي للمازندراني: 11/ 349 عن بعض المفسرين.
(2) سورة الشورى: 5.(8/267)
الكواء، يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ وابن الكواء يشهد عليهم بالكفر، وابن الكواء رجل من الخوارج قال: وكانوا لا يحبون الاستغفار على أحد من أهل هذه القبلة.
وقال: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله للعباد الشيطان.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبي يقول: سمعت محمّد بن علي بن محمّد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول لأصحابه إذ قرأ هذه الآية: افهموا فما في العالم خيرا أرجى منه.
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ في محل نصب عطفا على الهاء والميم صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
قال سعيد بن جبير: يدخل الرجل الجنّة فيقول: أين أبي أين أمي أين ولدي أين زوجي؟
فيقال: لم يعملوا مثل عملك.
فيقول: كنت أعمل لي ولهم.
فيقال: أدخلوهم الجنّة.
وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أنواع العذاب وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عاينوا العذاب فيقال لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ إياكم في الدّنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ اليوم أَنْفُسَكُمْ عند حلول العذاب بكم إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ.
قال ابن عبّاس وقتادة والضحاك: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله تعالى في الدّنيا ثم أماتهم الموتة التي لا بدّ منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان، وهذا مثل قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «1» الآية.
وقال السدي: أميتوا في الدّنيا ثم أحيوا في قبورهم، فسئلوا ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحيوا في الآخرة.
فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ فنصلح أعمالنا، نظيرها قوله: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ «2» ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ في الكلام متروك استغنى بدلالة الظاهر عليه، مجازه: فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك وهو العذاب والخلود في النار، بأنه إِذا دُعِيَ اللَّهُ
__________
(1) سورة البقرة: 28.
(2) سورة الشورى: 44.(8/268)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
وَحْدَهُ في الدّنيا كَفَرْتُمْ به وأنكرتم أن لا تكون الإلهية له خالصة، وقلتم أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ غيره.
تُؤْمِنُوا تصدقوا ذلك المشرك. وسمعت بعض العلماء يقول: وإن يشرك به بعد الرد إلى الدّنيا لو كان تؤمنوا تصدقوا المشرك ذكره بلفظ الاستفهام. نظيره قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1» فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
[سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 28]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً بإدرار الغيث وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ العبادة والطاعة وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ رَفِيعُ أيّ هو رفيع الدَّرَجاتِ يعني رافع طبقات الثواب للأنبياء والمؤمنين في الجنّة.
قال ابن عبّاس: رافع السماوات وهو فوق كل شيء وليس فوقه شيء.
__________
(1) سورة الأنعام: 28.(8/269)
ذُو الْعَرْشِ خالقه ومالكه يُلْقِي الرُّوحَ ينزل الوحي، سمّاه وحيا، لأنه يحيى به القلوب كما يحيي بالأرواح الأبدان مِنْ أَمْرِهِ من قوله وقيل بأمره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ.
قراءة العامة: بالياء أي ينذر الله تعالى.
وقرأ الحسن: بالتاء، يعني لتنذر أنت يا محمّد يَوْمَ التَّلاقِ.
أخبرنا أبو الحسين بن الفضل الفقيه حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا محمّد بن عبيد الله حدثنا أبو أسامة حدثنا المبرك بن فضالة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عبّاس في قوله تعالى: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ قال: يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض.
وقال قتادة ومقاتل: يلتقي فيه الخلق والخالق.
ابن زيد: يتلاقى العباد.
ميمون بن مهران: يلتقي الظالم والمظلوم والخصوم. وقيل: يلتقي العابدون والمعبودون.
وقيل: يلتقي فيه المرء مع عمله يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ خارجون من قبورهم، ظاهرون لا يسترهم شيء لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ من أعمالهم وأحوالهم شَيْءٌ ومحل (هُمْ) رفع على الابتداء و (بارِزُونَ) خبره لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ وذلك عند فناء الخلق، وقد ذكرنا الأخبار فيه.
قال الحسن: هو السائل وهو المجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الذي قهر الخلق بالموت.
أخبرنا شعيب أخبرنا مكي حدثنا أبو الأزهر حدثنا روح حدثنا حماد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: يجمع الله الخلق يوم القيامة بصعيد واحد، بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضّة لم يعص الله تعالى فيها قط، فأول ما تتكلم به أن ينادي مناد لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فأول ما يبدءون به من الخصومات الدماء وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أي بيوم القيامة، سمّيت بذلك لأنها قريبة، إذ كل ما هو آت قريب.
قال النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لمّا تزل برحالنا وكأن قد «1»
__________
(1) شرح الرضي على الكافية: 3/ 241.(8/270)
أي: قرب، ونظيرها هذه الآية قوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «1» أيّ قربت القيامة.
إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ من الخوف قد زالت وشخصت من صدورهم، فتعلقت بحلوقهم فلا هي تعود إلى أماكنها ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا فليسوا سواء «2» نظيره قوله: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ «3» ... كاظِمِينَ مكروبين ممتلئين خوفا وحزنا، والكاظم الممسك للشيء على ما فيه، ومنه كظم قربته إذا شد رأسها، فهم قد أطبقوا أفواههم على ما في قلوبهم من شدة الخوف، والكظم تردد الغيظ والخوف والحزن في القلب حين يضيق به.
يقول العرب للبئر الضيقة وللسقاية المملوءة: ماء كظامة وكاظمة، ومنه الحديث: كيف بكم [إذا] بعجت مكة كظائم.
قال الشاعر:
يخرجن من كاظمة الح صن الخرب ... يحملن عبّاس بن عبد المطلب «4»
ونصب كاظِمِينَ على الحال والقطع.
ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ قريب وصديق، ومنه قيل للأقرباء والخاصة حامّة وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فيشفع فيهم يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ.
وقال المؤرخ: فيه تقديم وتأخير مجازه أي الأعين الخائنة قال ابن عبّاس: هو الرجل يكون جالسا مع القوم، فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها.
وقال مجاهد: هي نظر الأعين إلى ما نهى الله تعالى عنه.
قتادة: هي همزة بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى ولا يرضاه.
وَما تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأوثان لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ لأنها لا تعلم شيء ولا تقدر على شي.
وقرأ أهل المدينة وأيوب: تدعون بالتاء، ومثله روى هشام عن أهل الشام والباقون:
بالياء.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً.
__________
(1) سورة النجم: 57.
(2) تفسير الطبري: 24/ 67 بتفاوت.
(3) سورة إبراهيم: 43.
(4) لسان العرب: 15/ 395، وفيه: (صبحن) بدل (يخرجن) .(8/271)
قرأه العامة: بالهاء.
وقرأ ابن عامر: منكم بالكاف. وكذلك هو في مصاحفهم.
وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فلم ينفعهم ذلك حين أخذهم الله بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ يعني من عذاب الله من واق ينفعهم ويدفع عنهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا يعني فرعون وقومه اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.
قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان أمسك عن قتل الولدان، فلما بعث إليه موسى أعاد القتل عليهم.
وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ ليصدوهم بقتل الأبناء واستحياء النساء عن متابعة موسى ومظاهرته وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم إِلَّا فِي ضَلالٍ وَقالَ فِرْعَوْنُ لملائه ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منّا إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ يغير دِينَكُمْ الذي أنتم عليه بسحر أَوْ أَنْ.
قرأ أبو عمر وأهل المدينة وأهل الشام وأهل مكة: وأن بغير ألف، وكذلك هي في مصاحف أهل الحرمين والشام.
وقرأ الكوفيون وبعض البصريين: (أَوْ أَنْ) بالألف، وكذلك هي في مصاحف أهل العراق.
وقال أبو عبيد: وبها يقرأ للزيادة التي فيها، ولأن (أو) ربما كانت في تأويل الواو، ولا تكون الواو في معنى أو.
يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ.
قرأ أهل المدينة والبصرة: (يُظْهِرَ) بضم الياء وكسر الهاء، و (الْفَسادَ) بنصب الدال على التعدية.
ومثله روى حفص عن عاصم وهي اختيار أبي عبيد قال لقومه: يُبَدِّلَ دِينَكُمْ، فكذلك يُظْهِرَ ليكون الفعلان على نسق واحد.
وقرأ الآخرون: بفتح الياء والهاء ورفع الدال على اللزوم، وهي اختيار أبي حاتم. والفساد انتقاص الأمر، وأراد فرعون به تبديل الدين وعبادة غيره.
وَقالَ مُوسى لما توّعده فرعون بالقتل: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ اختلفوا في هذا المؤمن.(8/272)
فقال بعضهم: كان من آل فرعون، غير أنه كان آمن بموسى، وكان يكتم إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه.
قال السدّي ومقاتل: كان ابن عم فرعون وهو الذي أخبر الله تعالى عنه فقال: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى «1» .
وقال آخرون: كان إسرائيليا، ومجاز الآية: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون.
واختلفوا أيضا في اسمه.
فقال ابن عبّاس وأكثر العلماء: اسمه حزبيل.
وهب بن منبه: اسمه حزيقال.
ابن إسحاق: خبرل.
أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمّد بن خالد أخبرنا داود بن سليمان أخبرنا عبد الواحد أخبرنا أحمد بن يونس حدثنا خديج بن معاوية عن أبي إسحاق قال: كان اسم الرجل الذي آمن من آل فرعون (حبيب) .
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ أي لأن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ من العذاب.
وقال بعض أهل المعاني: أراد يصبكم كل الذي يعدكم.
والعرب تذكر البعض وتريد الكل، كقول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها «2»
أي كل النفوس.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مشرك.
وقال السدي: قتّال.
كَذَّابٌ على الله.
أخبرنا الامام أبو منصور محمّد بن عبد الله الجمشاذي حدثنا أبو العبّاس الأصم حدثنا العبّاس بن محمّد الثوري حدثنا خالد بن مخلد القطواني حدثنا سليمان بن بلال حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عمرو بن العاص قال: ما تؤول من رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيء كان أشد من أن طاف
__________
(1) سورة القصص: 20.
(2) تفسير الطبري: 25/ 118، تفسير القرطبي: 15/ 307.(8/273)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
بالبيت فلقوه حين فرغ فأخذوا بمجامع ردائه فقالوا: أنت الذي تنهانا عمّا كان يعبد آباؤنا؟
فقال: «أنا ذاك» .
فقام أبو بكر رضي الله عنه فالتزمه من ورائه وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخر الآية رافع صوته بذلك، وعيناه تسفحان حتّى أرسلوه «1» .
[سورة غافر (40) : الآيات 29 الى 37]
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ غالبين مستعلين على بني إسرائيل فِي الْأَرْضِ أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ عذاب الله إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ من الرأي والنصيحة إِلَّا ما أَرى لنفسي.
وقال الضحاك: ما أعلمكم إلّا ما أعلم نظيره بِما أَراكَ اللَّهُ «2» . وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مثل ما أصابهم من العذاب وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ.
قرأه العامة: بتخفيف الدال، بمعنى يوم ينادي المناد بالشقاوة والسعادة، إلّا أن فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، إلّا أن فلان بن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا، وينادي الناس بعضهم بعضا، وينادي أصحاب الأعراف، وأهل الجنّة أهل النار، وأهل النار أهل الجنّة، وينادي حين يذبح الموت: يا أهل الجنّة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، وينادي كل قوم بأعمالهم. وقرأ الحسن: (التنادي) بتخفيف الدال واثبات الياء على الأصل.
__________
(1) السنن الكبرى: 6/ 450.
(2) سورة النساء: 105. [.....](8/274)
وقرأ ابن عبّاس والضحاك: بتشديد الدال، على معنى يوم التنافر، وذلك إذا ندّوا في الأرض كما تند الإبل إذا شردت على أربابها.
قال الضحاك: وذلك إذا سمعوا زفير النار ندّوا هرابا، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلّا وجدوا ملائكة صفوفا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: يَوْمَ التَّنادِ وقوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا «1» وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها «2» .
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أيّ منصرفين عن موقف الحساب إلى النار.
وقال مجاهد: يعني فارّين غير معجزين.
ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ناصر يمنعكم من عذابه وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب (عليه السلام) مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ أي من قبل موسى بالبينات.
قال وهب: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمّر إلى زمن موسى. وقال الباقون: هو غيره.
فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مشرك مُرْتابٌ شاك الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً أي كبر ذلك الجدال مقتا كقوله: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا «3» وكَبُرَتْ كَلِمَةً «4» عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ يختم الله بالكفر عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر: (قَلْبٍ) منوّنا.
وقرأ الآخرون: بالإضافة «5» .
[واختاره أبو حاتم وأبو عبيد] «6» ، وفي قراءة ابن مسعود: (على قلب كل متكبر جبار) .
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً قصرا. والصرح البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، وأصله من التصريح وهو الإظهار.
__________
(1) سورة الرحمن: 33.
(2) سورة الحاقة: 17.
(3) سورة الصف: 3.
(4) سورة الكهف: 5.
(5) أي إضافة قلب إلى المتكبر ويكون في الكلام حذف تقديره: «كذلك يطبع الله على كل قلب، على كل متكبر جبار» فحذف «كل» .
(6) عن تفسير القرطبي: 15/ 313.(8/275)
لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ أي طرقها وأبوابها فَأَطَّلِعَ.
قرأه العامة: برفع العين نسقا على قوله: (أَبْلُغُ) .
وقرأ حميد الأعرج: بنصب العين.
ومثله روى حفص عن عاصم على جواب (لَعَلِّي) بالفاء.
وأنشد الفراء عن بعض العرب:
على صروف الدهر أو دولاتها ... يدلننا اللمّة من لماتها
فتستريح النفس من زفراتها «1»
بنصب الحاء على جواب حرف التمني.
إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ يعني موسى كاذِباً فيما يقول: إن له ربّا غيري أرسله إلينا وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ خسار وضلال.
نظيره: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «2» .
__________
(1) تفسير الطبري: 24/ 83 و 30/ 67.
(2) سورة المسد: 1.(8/276)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
[سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 57]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ طريق الصواب يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ متعة وبلاغ، تنتفعون بها مدة ثم تزول عنكم وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ ينتفع بها.
وقال السديّ: يعني لا يستجيب لأحد في الدّنيا ولا في الآخرة، فكان معنى الكلام: ليست له استجابة دعوة.
وقال قتادة: ليست له دعوة مستجابة. وقيل: ليس له دعوة في الدّنيا ولا في الآخرة إلّا عبدوها، لأن الأوثان لم تأمر بعبادتها في الدّنيا، ولم تدع الربوبية وفي الآخرة تتبرأ من عابديها وَأَنَّ مَرَدَّنا مرجعنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ.
قال ابن عبّاس وقتادة: يعني المشركين.
وقال مجاهد: هم السفّاكون الدماء بغير حقها.
وقال عكرمة: الجبارين المتكبرين.
فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ إذا عاينتم العذاب حين لا ينفعكم الذكر وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ وذلك انهم توعدوه لمخالفة دينهم إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ عالم بأمورهم من المحق منهم ومن المبطل فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا.
قال قتادة: نجا مع موسى وكان قبطيا.
وَحاقَ نزل بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ في الدّنيا الغرق وفي الآخرة النار وذلك قوله:
النَّارُ وهي رفع على البدل من السوء يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وأصل العرض اظهار الشيء.(8/277)
قال قتادة: يعرضون عليها صباحا ومساء، يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخا ونقمة وصغارا لهم.
وقال السدي وهذيل بن شرحبيل: هو أنهم لما هلكوا جعلت أرواحهم في أجواف طير سود، فهي تعرض على النار كل يوم مرتين تغدوا وتروح إلى النار حتى تقوم الساعة.
أخبرني عقيل بن محمّد بن أحمد الجرجاني: أن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمّد بن جرير حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير حدثنا حماد بن محمّد الفزاري قال: سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال: يرحمك الله رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضا فوجا فوجا، لا يعلم عددها إلّا الله تعالى، فإذا كان العشي رجع مثلها سودا.
قال: وفطنتم لذلك؟
قال: نعم.
قال: إن تلك الطيور في حواصلها أزواج آل فرعون يعرضون على النار غُدُوًّا وَعَشِيًّا، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سودا، فنبت عليها أرياش من الليل بيض وتناثر السود، ثم تغدوا فيعرضون على النار غدوا وعشيا ثم ترجع إلى وكورها، فذلك دأبهم في الدّنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.
قال: وكانوا يقولون: إنهم ستمائة ألف مقاتل «1» .
قال عكرمة ومحمّد بن كعب: هذه الآية تدل على عذاب القبر، لأن الله تعالى ميّز عذاب الآخرة فقال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «2» ادخلوا.
قرأ أهل المدينة والكوفة إلّا أبا بكر ويعقوب: بقطع الألف وكسر الخاء من الإدخال.
وقرأ الباقون: بوصل الألف وضم الخاء من الدخول «3» .
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في الدّنيا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ والتبع يكون واحدا وجمعا.
وقال نحويو البصرة: وواحده تابع.
وقال أهل الكوفة: هو جمع لا واحد له، لأنه كالمصدر وجمعه أتباع.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 24/ 90.
(2) سورة غافر: 46.
(3) والتقدير: ادخلوا يا آل فرعون، راجع تفسير القرطبي: 15/ 320.(8/278)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
وقرأ ابن السميقع: (إنا كلا فيها) بالنصب، جعلها نعتا وتأكيدا ل (إِنَّا) ..
إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ إذا اشتد.
الشعبي قال: كنية الدجال أبو يوسف «1» .
[سورة غافر (40) : الآيات 58 الى 74]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74)
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ بالتاء أهل الكوفة وغيرهم: بالياء.
واختاره أبو عبيد قال: لأن أول الآيات وآخرها خبر عن قوم.
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لجائية لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ بها وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي وحدوني واعبدوني دون غيري أجبكم وآجركم واثيبكم واغفر لكم، هذا قول أكثر المفسرين. يدل عليه سياق الآية.
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد: 10/ 238.(8/279)
وقال بعضهم: هو الذكر والدعاء والسؤال.
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا محمّد بن الحسن حدثنا أبو بكر بن أبي الخصيب حدثني عثمان ابن خرداد حدثنا قطر بن بشير حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليسأل أحدكم ربّه حاجته كلها حتّى شسع نعله إذا انقطع» [158] «1» .
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي توحيدي وطاعتي، عن أكثر المفسرين.
وقال السديّ: عن دعائي.
أخبرنا عقيل بن محمّد أبو المعافا بن زكريا أخبرنا محمّد بن جرير حدثنا محمّد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن منصور والأعمش عن ذر عن سبع الحضرمي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الدعاء هو العبادة- ثم تلا هذه الآية-:
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي» [159] «2» عن دعائي.
وباسناده عن ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشام بن القاسم عن الأشجع قال: قيل لسفيان: ادع الله. قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء سَيَدْخُلُونَ.
قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأبو حاتم: بضم الياء وفتح الخاء.
واختلف فيه.
عن أبي عمرو وعاصم غير هم ضده.
جَهَنَّمَ داخِرِينَ صاغرين اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذلِكَ كما أفكتم عن الحق مع قيام الدلائل، كذلك يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ.
قرأ العامة: بضم الصاد. وقرأ أبو رزين العقيلي: وَأَحْسَنَ صِوَرَكُمْ بكسر الصاد، وهي لغة.
قرأه العامة: بضم الصاد.
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وذلك حين دعي إلى الكفر [فأمر أن يقول هذا] .
__________
(1) سنن الترمذي: 5/ 242 ح 3682، والجامع الصغير: 2/ 499 ح 7562.
(2) مسند أحمد: 4/ 267، وسنن أبي داود: 1/ 332 ح 1479. [.....](8/280)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي أطفالا، نظيره: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ «1» . ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أن يصير شيخا وَلِتَبْلُغُوا جميعا أَجَلًا مُسَمًّى وقتا محدودا لا تجاوزونه ولا تسبقونه وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ذلك فتعرفوا أن لا إله غيره فعل ذلك هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ.
قال ابن زيد: هم المشركون.
وقال أكثر المفسرين: نزلت في القدريّة.
أخبرني عقيل بن محمّد إجازة أخبرنا المعافا بن زكريا أخبرنا محمّد بن جرير أخبرنا محمّد ابن بشار ومحمّد بن المثنى حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن داود بن أبي هند عن محمّد بن سيرين قال: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدريّة فأنا لا أدري فيمن نزلت. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ إلى قوله بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً إلى آخر الآية.
وبه عن ابن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أبي الخير الزيادي عن أبي قبيل عن عقبة بن عامر الجهني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللين» .
فقال عقبة: يا رسول الله وما أهل الكتاب؟
قال: «قوم يتعلمون كتاب الله يجادلون الذين آمنوا» .
فقال: وما أهل اللين؟ فقال: «قوم يتبعون الشهوات ويضيّعون الصلوات» [160] «2» .
قال أبو قتيل: لا أحسب المكذبين بالقدر إلّا الذين يجادلون الذين آمنوا، وأما أهل اللين فلا أحسبهم إلّا أهل العمود ليس عليهم إمام جماعة ولا يعرفون شهر رمضان «3» .
قال محمّد بن جرير: أهل العمود الحي العظيم «4» .
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ.
__________
(1) سورة النور: 31.
(2) المستدرك: 2/ 374، والمعجم الكبير للطبراني: 17/ 296، وجامع البيان للطبري: 24/ 104. وفي المصدرين الأولين: أهل اللبن.
(3) تفسير ابن جرير الطبري: 24/ 104.
(4) قال قتادة: البر: أهل العمود، راجع تفسير القرطبي: 14/ 41.(8/281)
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا ابن حبش المقرئ حدثنا ابن فنجويه حدثنا سلمة حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن التيمي عن أبيه قال: لو أن غلا من أغلال جهنّم وضع على جبل لوهصه حتّى يبلغ الماء الأسود.
وَالسَّلاسِلُ.
قرأه العامة: بالرفع، عطفا على الْأَغْلالُ.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا أبو علي بن حبش المقرئ حدثنا أبو القاسم بن الفضل حدثنا أبو زرعة حدثنا نصر بن علي حدثني أبي عن هارون عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عبّاس أنه قرأ: وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ بنصب اللام والياء. يقول: إذا كانوا يسحبونها كان أشد عليهم.
أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي حدثنا محمّد بن علي بن الحسن الصوفي حدثنا عبد الله ابن محمّد بن عبد العزيز البغوي حدثني جدي حدثني منصور بن عمار حدثنا بشر بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منبه رفعه قال: ينشئ الله تعالى لأهل النار سحابة سوداء مظلمة فيقال يا أهل النار ما تشتهون؟
فيسألون بارد الشراب. فتمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم وسلاسلا تزيد في سلاسلهم وجمرا يلتهب النار عليهم.
ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ أي توقد بهم النار.
قال مجاهد: يصيرون وقودا للنار.
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام قالُوا ضَلُّوا عَنَّا فلا نراهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أنكروا. وقيل: جهلوا.
وقال بعضهم: فيه إضمار، أي لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً ببصر وبسمع وبضر وبنفع.
وقال الحسين بن الفضل: يعني لم نكن نصنع من قبل شيئا، أي ضاعت عبادتنا لها فلم نكن نصنع شيئا.
قال الله سبحانه وتعالى كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ.(8/282)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
[سورة غافر (40) : الآيات 75 الى 85]
ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79)
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ تبطرون وتأمرون فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تفخرون وتختالون وتنشطون ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب في حياتك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن يحل بهم ذلك فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ خبرهم في القرآن وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ اللَّهُ الَّذِي تحق له العبادة هو الذي جَعَلَ خلق لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ تحمل أثقالكم في أسفاركم من بلد إلى بلد وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ نظيره وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ «1» .
وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ يعني مصانعهم وقصورهم فَما أَغْنى عَنْهُمْ أيّ لم ينفعهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ وقيل: هو بمعنى الاستفهام، ومجازه: أي شيء أغنى عنهم كسبهم.
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا يعني الأمم بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
قال مجاهد: قولهم نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث، وقيل: أشروا بما عندهم من العلم، بما كان عندهم أنه علم وهو جهل.
وقال الضحاك: رضوا بالشرك الذي كانوا عليه.
وقال بعضهم: هو الفرح راجع إلى الرسل يعني فرح الرسل بما عندهم من العلم بنجاتهم وهلاك أعدائهم.
__________
(1) سورة الإسراء: 70.(8/283)
وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ أيّ تبرأنا ممّا كنا نعدل بالله فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا عذابنا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي في نصبها ثلاثة أوجه أحدها: بنزع الخافض أيّ كسنّة الله.
والثاني: على المصدر، لأن العرب تقول سنّ يسنّ سنّا وسنّة.
والثالث: على التحذير والإغراء، أي احذروا سنّة الله كقوله: (ناقَةُ اللَّهِ وسُنَّةَ اللَّهِ) .
قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وهي أنهم إذا عاينوا عذاب الله لم ينفعهم أيمانهم وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ بذهاب الدارين.(8/284)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
سورة فصّلت
سورة حم السجدة: مكّية، وهي أربع وخمسون آية، وسبعمائة وست وتسعون كلمة، وثلاث آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9)
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11)
حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ بينت آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ولو كان غير عربي لما علموه.
وفي نصب القرآن وجوه:
أحدها: إنّه شغل الفعل علامات حتّى صارت بمنزلة الفاعل، فنصب القرآن وقوع البيان عليه.
الثاني: على المدح.
والثالث: على إعادة الفعل، أي فصّلنا قرآنا.
والرابع: على إضمار فعل، أي ذكرنا قرآنا.
والخامس: على الحال.
والسادس: على القطع.(8/285)
بَشِيراً وَنَذِيراً نعتان للقرآن فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي لا يسمعونه ولا يصغون إليه وَقالُوا يعني مشركي مكّة قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أغطية مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ فلا نفقه ما يقول، قال مجاهد: كالجعبة للنبل وَفِي آذانِنا وَقْرٌ فلا نسمع ما يقول، وإنّما قالوا ذلك ليؤيّسوه من قبولهم لدينه وهو على التمثيل. وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ خلاف في الدين، فجعل خلافهم ذلك ساترا وحاجزا لا يجتمعون ولا يوافقون من أجله ولا يرى بعضهم بعضا. فَاعْمَلْ بما يقتضيه دينك. إِنَّنا عامِلُونَ بما يقتضيه ديننا. قال مقاتل: فأعبد أنت إلهك، وإنّا عابدون آلهتنا.
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ قال الحسن: علمه الله التواضع فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وجهوا وجوهكم إليه بالطاعة والإخلاص وَاسْتَغْفِرُوهُ من ذنوبكم الّتي سلفت. وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ قال ابن عباس: لا يشهدون لا إله إلّا الله وهي زكاة الأنفس، وقال الحسن وقتادة: لا يقرّون بالزكاة ولا يؤمنون بها، ولا يرون إيتاءها واجبا، وقال الضحاك ومقاتل: لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة.
وكان يقال: الزّكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك، وقد كان أهل الردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: أما الصلاة فنصلي، وأما الزّكاة فو الله لا تغصب أموالنا.
وقال أبو بكر «رضي الله عنه» : والله لا أفرق بين شيء جمع الله تعالى بينه والله لو منعوني عقالا ممّا فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه.
وقال مجاهد والربيع: يعني لا يزكّون أعمالهم، وقال الفراء: هو أنّ قريشا كانت تطعم الحاج، فحرموا ذلك على من آمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلم. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال ابن عباس: غير مقطوع. مقاتل: غير منقوص، ومنه المنون لأنّه ينقص منه الإنسان أي قوته. مجاهد: غير محسوب، وقيل: غير ممنون به. قال السدي: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعلمون فيه «1» .
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ الأحد والإثنين. وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها أي في الأرض بما خلق فيها من المنافع، قال السدي: أنبت شجرها. وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها قال الحسن والسدي: يعني أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم، وقال مجاهد وقتادة: وخلق فيها بحارها، وأنهارها، وأشجارها، ودوابها في يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، روى ابن نجيح عن مجاهد، قال: هو المطر.
__________
(1) فتح القدير: 4/ 506.(8/286)
قال عكرمة والضحاك: يعنيو قدر في كل بلدة منها، ما لم يجعله في الأخرى، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد، فالسابري من سابور، والطيالسة من الري، والحبر واليمانية من اليمن، وهي رواية حصين، عن مجاهد.
وروى حيان، عن الكلبي، قال: الخبز لأهل قطر، والتمر لأهل قطر، والذرة لأهل قطر، والسمك لأهل قطر، وكذلك أخواتها.
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يعني إنّ هذا مع الأول أربعة أيّام، كما يقول: تزوجت أمس امرأة واليوم اثنتين وأحدهما الّتي تزوجتها أمس، ويقال: أتيت واسط في خمسة والبصرة في عشرة، فالخمسة من جملة العشرة. فرد الله سبحانه الآخر على الأوّل، وأجمله في الذكر.
سَواءً رفعه أبو جعفر على الابتداء، أي هي سواء، وخفضه الحسن ويعقوب على نعت قوله: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، ونصبه الباقون على المصدر، أي استوت استواء، وقيل: على الحال والقطع، ومعنى الآية: سَواءً لِلسَّائِلِينَ عن ذلك، قال قتادة والسدي: من سأله عنه، فهكذا الأمر، وقيل: للسّائلين الله حوائجهم.
قال ابن زيد: قدر ذلك على قدر مسائلهم، لأنّه لا يكون من مسائلهم شيء إلّا قد علمه قبل أن يكون.
قال أهل المعاني: معناه سَواءً لِلسَّائِلِينَ وغير السائلين، يعني إنّه بيّن أمر خلق الأرض وما فيها لمن سأل ومن لم يسأل، ويعطي من سأل ومن لم يسأل.
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي عمد إلى خلق السماء وقصد، تسويتها، والإستواء من صفة الأفعال على أكثر الأقوال، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ بخار الماء. فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي جيئا بما خلقت فيكما من المنافع، وأخرجاها، وأظهراها بمصالح خلقي. قال ابن عباس: قال الله تعالى للسّماوات:
اطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شقي أنهارك واخرجي ثمارك.
قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ولم يقل طائعتين، لأنّه ذهب به إلى السّماوات والأرض ومن فيهنّ، مجازه: أَتَيْنا بمن فينا طائِعِينَ، فلمّا وصفهما بالقول أخرجهما في الجمع مجرى ما يعقل، وبلغنا أنّ بعض الأنبياء، قال: يا ربّ لو إنّ السّماوات والأرض حين قلت لهما ائتيا طوعا أو كرها عصيناك، ما كنت صانعا بهما؟ قال: كنت آمر دابة من دوابي فتبتلعهما. قال: وأين تلك الدابة؟. قال: في مرج من مروجي. قال: وأين ذلك المرج؟ قال: في علم من علمي.
وقرأ ابن عباس: آتيا وآتينا بالمد، أي أعطينا الطاعة من أنفسكما. قالتا: أعطينا.(8/287)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
[سورة فصلت (41) : الآيات 12 الى 20]
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20)
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ أي أتمهنّ وفرغ من خلقهنّ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قال قتادة والسدي: يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها، وخلق في كلّ سماء خلقها من الملائكة والخلق الّذي فيها من البحار وجبال البرد، وما لا يعلم، وقيل: معناه وأوحى إلى أهل كلّ سماء من الأمر والنهي ما أراد.
وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ كواكب. وَحِفْظاً لها من الشياطين الّذين يسترقون السمع، ونصب حفظها على المعنى، كأنّه قال: جعلها زينة وحفظا، وقيل: معناه وحفظا زيّنّاها- على توهم سقوط الواو- أي وزيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح حفظا لها، وقيل: معناه وحفظها حفظا.
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَإِنْ أَعْرَضُوا يعني هؤلاء المشركين، فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ خوفتكم. صاعِقَةً وقيعة وعقوبة مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ إِذْ جاءَتْهُمُ يعني عادا وثمودا الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني قبلهم وبعدهم.
وأراد بقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الرّسل الّذين أرسلوا إلى آباءهم من قبلهم ومن خلفهم، يعني من بعد الرّسل الّذين أرسلوا إلى آباءهم، وهو الرسول الّذي أرسل إليهم، هود وصالح (عليهما السلام) ، والكناية في قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ راجعة إلى عاد وثمود، وفي قوله تعالى: وَمِنْ خَلْفِهِمْ، راجعة إلى الرسل.
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً بدل هؤلاء الرّسل ملائكة. فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد بن محمد الأصبهاني، قرأه عليه في شوال سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، حدثنا أحمد بن نجدة بن العريان، حدثنا الجماني حدثنا ابن فضيل، عن الأجلح من الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله،(8/288)
قال: قال الملأ من قريش وأبو جهل: قد التبس علينا أمر محمّد، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر، فأتاه فكلمه ثمّ أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيع: والله لقد سمعت بالشعر والكهانة والسحر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى عليّ إن كان ذلك. فأتاه، فلما خرج إليه، قال: يا محمّد، أنت خير أم هاشم؟، أنت خير أم عبد المطلب؟، أنت خير أم عبد الله؟، فبم تشتم آلهتنا، ونضلك إيانا، فإن تتمنى الرئاسة عقدنا لك ألويتنا، فكنت رئيسنا ما بقيت، وإن كانت بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش، وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني أنت وعقبك من بعدك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، فلما فرغ، قرأ رسول الله (عليه السلام) : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ... إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فاحتبس عنهم عتبة، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلّا قد [صبأ] إلى محمّد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلّا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فانطلقوا إليه.
فأتاه أبو جهل فقال: والله يا عتبة، ما حبسك عنّا إلّا إنّك صبوت إلى محمّد، وأعجبك طعامه، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمّد. فغضب عتبة وأقسم ألّا يكلم محمّدا أبدا، وقال: والله لقد علمتم إنّي من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ... إلى قوله:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم إنّ محمّدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.
فَأَمَّا عادٌ يعني قوم هود. فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً وذلك إنّهم كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي باردة شديدة الصوت والهبوب وأصله من الصرير، فضوعف كما يقال: نهنهت وكفكفت، وقد قيل: إنّ النهر الّذي يسمّى صرصرا إنّما سمي بذلك لصوت الماء الجاري فيه.
فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ متتابعات شديدات نكدات مشؤومات عليهم ليس فيها من الخير شيء، وقرأ أبو جعفر وابن عامر وأهل الكوفة نَحِساتٍ بكسر الحاء، غيرهم بجزمه.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا مخلد بن جعفر، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا إسحاق بن بشر، حدثنا مقاتل عن الضحاك في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً، قال: أمسك الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين ودامت الرياح عليهم من(8/289)
غير مطر، وبه عن مقاتل، عن إبراهيم التيمي وعن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، قال: إذا أراد الله بقوم خيرا، أرسل عليهم المطر وحبس عنهم كثرة الرياح، وإذا أراد الله بقوم شرّا حبس عنهم المطر وأرسل عليهم كثرة الرياح.
لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى لهم وأشد إذلالا وإهانة. وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب، ثمود بالرفع والتنوين، وكانا يجران ثمودا في القرآن كله إلّا قوله: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ «1» ، فإنّهما كانا لا يجرانه هاهنا من أجل إنّه مكتوب في المصحف هاهنا بغير ألف، وقرأ ابن أبي إسحاق وَأَمَّا ثَمُودَ منصوبا غير منون، وقرأ الباقون مرفوعا غير منون.
فَهَدَيْناهُمْ دعوناهم وبيّنا لهم. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فاختاروا الكفر على الإيمان. فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ مهلكة. الْعَذابِ الْهُونِ أي الهوان، ومجازه: ذي هون. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ وَيَوْمَ يُحْشَرُ يبعث ويجمع، وقرأ نافع ويعقوب نَحْشُرُ بنون مفتوحة وضم الشين. أَعْداءَ اللَّهِ نصبا. إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ يساقون ويدفعون إلى النّار، وقال قتادة والسدي: يحبس أولهم على آخرهم. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ أي بشراتهم. بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وقال السدي وعبيد الله ابن أبي جعفر: أراد بالجلود الفروج.
وأنشد بعض الأدباء لعامر بن جوين:
المرء يسعى للسلامة والسلامة حسبه ... أو سالم من قد تثنى جلده وأبيض رأسه «2»
وقال: جلده كناية عن فرجه.
__________
(1) سورة الإسراء: 59.
(2) تفسير القرطبي: 15/ 350.(8/290)
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
[سورة فصلت (41) : الآيات 21 الى 32]
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
وَقالُوا يعني الكفّار الّذين يحشرون إلى النّار. لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ
حدثنا عقيل بن محمّد: إنّ أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمّد بن جرير، حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، أخبرنا علي بن قادم الفزاري، أخبرنا شريك، عن عبيد المكيت، عن الشعبي، عن أنس، قال: ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم حتّى بدت نواجذه، ثمّ قال: «ألّا تسألوني ممّ ضحكت» .
قالوا: مم ضحكت يا رسول الله؟
قال: «عجبت من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة، قال: يقول يا ربّ أليس وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: فإنّ لك ذاك. قال: فإنّي لا أقبل عليّ شاهدا، إلّا من نفسي. قال: أو ليس كفى بي شهيدا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل» .
قال: «فيقول لهنّ بعدا لكنّ وسحقا عنكنّ كنت أجادل» [161] «1» .
قال الله تعالى: وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أي تستخفون في قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: تتقون. قتادة: تظنون. أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ
أخبرنا الحسين بن محمّد ابن فنجويه، حدثنا هارون بن محمد بن هارون وعبد الله بن عبد الرّحمن الوراق، قالا: حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن كثير وأبو حذيفة، قالا: حدثنا سفيان عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود، قال: إنّي لمستتر بأستار الكعبة، إذ جاء ثلاثة نفر، ثقفي وختناه قريشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقههم، فحدّثوا الحديث بينهم، فقال أحدهم: أترى يسمع ما قلنا؟ فقال الآخر: إذا رفعنا يسمع، وإذا خفضنا لم يسمع، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا رفعنا فإنّه يسمع إذا خفضنا. فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فأنزل الله تعالى وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ... إلى قوله:
فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ
والثقفي عبد ياليل وختناه القريشيان ربيعة وصفوان بن أمية. وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ أهلككم. فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ قال قتادة: الظنّ هاهنا بمعنى العلم،
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يموتنّ أحدكم، إلّا وهو يحسن الظنّ بالله، وإنّ قوما أساءوا
__________
(1) مسند أبي يعلى: 7/ 55.(8/291)
الظنّ بربّهم فأهلكهم»
[162] «1» فذلك قوله: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ ... الآية.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه الدينوري، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، حدثنا عبد الله بن العباس الطيالسي، حدثنا أحمد بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزياد عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: «أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني» [163] «2» .
وقال قتادة: من استطاع منكم أن يموت وهو حسن الظنّ بربّه فليفعل، فإنّ الظنّ اثنان:
ظنّ ينجي، وظنّ يردي، وقال محمّد بن حازم الباهلي:
الحسن الظنّ مستريح ... يهتم من ظنّه قبيح
من روح الله عنه ... هبّت من كلّ وجه ريح
لم يخب المرء عن منح ... سخاء وإنّما يهلك الشحيح
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا يسترضوا ويطلبوا العتبى. فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المرضيين، والمعتّب الّذي قبل عتابة وأجيب إلى ما يسأل، وقرأ عبيد بن عمير وَإِنْ تُسْتَعْتَبُوا على لفظ المجهول فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ بكسر التاء، يعني إن سألوا أن يعملوا ما يرضون به ربّهم فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي ما هم بقادرين على إرضاء ربّهم لأنهم فارقوا دار العمل.
وَقَيَّضْنا سلّطنا وبعثنا ووكلنا. لَهُمْ قُرَناءَ نظراء من الشياطين. فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدّنيا حتّى آثروه على الآخرة. وَما خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث.
وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ مع أمم. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي قريش. لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ قال ابن عباس: يعني والغطوا فيه، كان بعضهم يوصي إلى بعض، إذا رأيتم محمدا يقرأ، فعارضوه بالزجر والابتعاد.
مجاهد وَالْغَوْا فِيهِ بالمكاء والصفير وتخليط في المنطق على رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قرأ.
قال الضحاك: أكثروا الكلام فيختلط عليه القول.
السدي: صيحوا في وجهه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 353.
(2) السنن الكبرى: 4/ 412.(8/292)
مقاتل: ارفعوا أصواتكم بالأشعار والكلام في وجوههم حتّى تلبسوا عليهم قولهم، فيسكتوا.
أبو العالية: قعوا فيه وعيبوه.
وقرأ عيسى بن عمرو الْغُوا فِيهِ بضم الغين. قال الأخفش: فتح الغين، كان من لغا يلغا مثل طغا يطغا، ومن ضم الغين من لغا يلغوا مثل دعا يدعوا.
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ محمدا على قراءته.
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ أقبح. الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ في الدّنيا. ذلِكَ الّذي ذكرت. جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ ثمّ بيّن ذلك الجزاء ما هو، فقال: النَّارُ أي هو النّار لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ فقد ذكر إنّها في قراءة ابن عباس ذلك جزاء أعداء الله النّار دار الخلد، ترجم بالدار عن النّار، وهو مجاز الآية.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وهو إبليس الأبالسة. وَالْإِنْسِ وهو ابن آدم الّذي قتل أخاه. نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا في النّار. لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ في الدرك الأسفل لأنهما سنا المعصية.
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا
أخبرنا الحسين بن محمد الثقفي بقراءتي عليه، حدثنا الفضل الكندي، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الزيدي العسكري، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو قتيبة سلمة بن قتيبة، حدثنا سهل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا قال: من مات عليها، فهو ممّن استقام «1» .
أخبرنا الحسين بن محمد بن الثقفي بقراءتي عليه، حدثنا عبيد بن محمد بن شنبه، حدثنا جعفر ابن الفربابي، حدثنا محمد بن الحسن البلخي، أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن عمران، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثُمَّ اسْتَقامُوا قال: لم يشركوا بالله شيئا. أخبرنا ابن فنجويه الثقفي، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا يونس، عن الزهري إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال وهو يخطب النّاس على المنبر: الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فقال: استقاموا على طريقة الله بطاعته، ثمّ لم يروغوا روّغان الثعالب، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: يعني أخلصوا العمل الله،
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أدّوا الفرائض.
ابن عباس استقاموا على أداء فرائضه.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، حدثنا
__________
(1) سنن الترمذي: 5/ 54.(8/293)
محمد بن موسى الحلواني، حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور، حدثنا مسكين أبو فاطمة عن شهر بن حوشب، قال: قال الحسن: وتلا هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فقال: استقاموا على أمر الله تعالى، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته. مجاهد وعكرمة:
استقاموا على شهادة أن لا إله إلّا الله، حتّى لحقوا به. قتادة وابن زيد: استقاموا على عبادة الله وطاعته، ابن سيرين: لم يعوجوا، سفيان الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا. مقاتل بن حيان:
استقاموا على المعرفة ولم يرتدوا. مقاتل بن سليمان: استقاموا على إنّ الله ربّهم. ربيع:
أعرضوا عما سوى الله تعالى. فضيل بن عياض: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. بعضهم:
استقاموا إسرارا كما استقاموا إقرار، وقيل: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا.
روى ثابت عن أنس إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم، قال لما نزلت هذه الآية: «أمتي وربّ الكعبة» [164] «1» .
أخبرنا الحسن بن محمد الثقفي، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي وأحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم السني، قالا: حدثنا أبو خليفة الفضل بن حيان الجمحي، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز، عن سفيان بن عبد الله الثقفي. قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به، فقال: «قل ربّي الله ثمّ استقم» قال: قلت: ما أخوف ما تخاف عليّ؟
فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلسان نفسه، وقال: «هذا» [165] «2» .
وروي إنّ وفدا أقدموا على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم القرآن، ثمّ بكى، فقالوا: أمن خوف الّذي بعثك تبكي؟ قال: «نعم، إنّي قد بعثت على طريق مثل حد السيف، إن استقمت نجوت، وإن زغت عنه هلكت» [166] «3» .
وقال قتادة: كان الحسن إذا تلا هذه الآية، قال: اللهم أنت ربّنا فارزقنا الاستقامة.
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا قال قتادة: إذا قاموا من قبورهم. قال وكيع بن الجراح البسري: تكون في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وفي البعث، ألّا يخافوا ولا يحزنوا. قال أبو العالية: لا تَخافُوا على صنيعكم وَلا تَحْزَنُوا على مخلفكم. مجاهد: لا تَخافُوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة وَلا تَحْزَنُوا على ما خلفتم في دنياكم من أهل وولد ونشيء، فإنّا نخلفكم في ذلك كله. السدي: لا تَخافُوا ما أمامكم، وَلا تَحْزَنُوا على ما بعدكم. عطاء بن رباح: لا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا على ذنوبكم، فإنّي أغفرها لكم.
وقال أهل اللسان في هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا بالوفاء على ترك
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 358.
(2) مسند أحمد: 3/ 413. [.....]
(3) الدر المنثور: 4/ 201 بتفاوت.(8/294)
الجفاء تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ بالرضا أَلَّا تَخافُوا من العناء وَلا تَحْزَنُوا على الفناء، وَأَبْشِرُوا بالبقاء مع الّذين كنتم توعدون من اللقاء، لا تَخافُوا فلا خوف على أهل الاستقامة، وَلا تَحْزَنُوا فإن لكم أنواع الكرامة، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار السلامة. لا تَخافُوا فعلى دين الله استقمتم، وَلا تَحْزَنُوا فبحبل الله اعتصمتم، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ وإن ارتبتم وأحزنتم، لا تَحْزَنُوا فطالما رهبتم، وَلا تَحْزَنُوا فقد نلتم ما طلبتم، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي فيها رغبتم، لا تَخافُوا فأنتم أهل الإيمان، وَلا تَحْزَنُوا فأنتم أهل الغفران، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار الرضوان، لا تَخافُوا فأنتم أهل الشهادة، وَلا تَحْزَنُوا فأنتم أهل السعادة، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار الزيادة، لا تَخافُوا فأنتم أهل النوال، وَلا تَحْزَنُوا فأنتم أهل الوصال، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار الجلال، لا تَخافُوا فقد أمنتم الثبور وَلا تَحْزَنُوا فقد آن لكم الحبور وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار السرور، لا تَخافُوا فسعيكم مشكور وَلا تَحْزَنُوا فذنبكم مغفور، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار النون، لا تَخافُوا فطالما كنتم من الخائفين، وَلا تَحْزَنُوا فقد كنتم من العارفين، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي عجز عنها وصف الواصفين، لا تَخافُوا فلا خوف على أهل الإيمان، وَلا تَحْزَنُوا فلستم من أهل الحرمان، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار الإيمان، لا تَخافُوا فلستم من أهل الجحيم، وَلا تَحْزَنُوا فقد وصلتم إلى الربّ الرحيم، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار النعيم، لا تَخافُوا فقد زالت عنكم المخافة، وَلا تَحْزَنُوا فقد سلمتم من كلّ آفة، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار الضيافة، لا تَحْزَنُوا العزل عن الولاية، وَلا تَحْزَنُوا على ما قدمتم من الخيانة، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار الهداية، لا تَخافُوا حلول العذاب، وَلا تَحْزَنُوا من هول الحساب وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي دار الثواب. لا تَخافُوا فأنتم سالمون من العقاب، وَلا تَحْزَنُوا فأنتم واصلون إلى الثواب، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ فإنها نعم المآب. لا تَخافُوا فأنتم أهل الوفاء وَلا تَحْزَنُوا على ما كسبتم من الجفاء وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ فإنها دار الصفاء لا تَخافُوا فقد سلمتم من العطب، وَلا تَحْزَنُوا فقد نجوتم من النصب، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ فإنّها دار الطرب.
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
تقول لهم الملائكة الّذين تتنزل عليهم بالبشارة: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
وأنصاركم وأحبّاءكم، فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
قال السدي: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
يعني نحن الحفظة الّذين كنا معكم في الدّنيا، ونَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
... فِي الْآخِرَةِ.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا ابن خالد، أخبرنا داود بن عمرو الضبّي أخبرنا إبراهيم ابن الأشعث عن الفضيل بن عياض عن منصور عن مجاهد نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
. قال: قرناؤهم الّذين كانوا معهم في الدّنيا، فإذا كان يوم القيامة، قالوا: لن نفارقكم حتّى ندخلكم الجنّة.
وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
تريدون وتسألون وتتمنون، وأصل الكلمة إنّ ما تدّعون إنّه لكم، فهو لكم بحكم ربّكم.(8/295)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
نُزُلًا أي جعل ذلك رزقا. مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ.
[سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 54]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52)
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ إلى طاعة الله. وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال ابن سيرين والسدي وابن زيد: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال مقاتل: هو جميع الأئمّة والدعاة إلى الله تعالى، وقال عكرمة: هو المؤذن. قال أبو أمامة الباهلي: وَعَمِلَ صالِحاً يعني صلّى ركعتين بين الآذان والإقامة.(8/296)
أنبأني عبد الله بن حامد، أخبرنا حاجب بن أحمد بن يرحم بن سفيان، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا وكيع، حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصاني عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنّي لأرى هذه الآية نزلت وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ.. الآية في المؤذنين.
وروى جرير بن عبد الحميد عن فضيل بن رفيدة، قال: كنت مؤذنا في زمن أصحاب عبد الله، فقال لي عاصم بن هبيرة: إذا أذّنت وفرغت من آذانك، فقل: الله أكبر الله أكبر لا إله إلّا الله، وأنا من المسلمين، ثمّ أقرأ هذه الآية: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ قال الفراء:
ولا هاهنا صلة معناه ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، وأنشده:
ما كان يرضي رسول الله فعلهما ... والطيبان أبو بكر وعمر «1»
أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ قريب صديق، قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان مؤذيا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فصار له وليّا، بعد أن كان عدوا. نظيره قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً «2» ، قال ابن عباس: أمر الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
وَما يُلَقَّاها يعني هذه الخصلة والفعلة. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ في الخير والثواب، وقيل: ذو حظ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاستعاذتك وأقوالك. الْعَلِيمُ بأفعالك وأحوالك.
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنما قال خلقهنّ بالتأنيث لأنّه أجرى على طريق جمع التكسير، ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث لأنّه فيما لا يعقل. إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عن السجود. فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة. يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ.
لقوله تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ، وَلَهُ يَسْجُدُونَ «3» .
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً يابسة دارسة لا نبات فيها. فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أي يميلون عن الحقّ في أدلتنا.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 2/ 71.
(2) سورة الممتحنة: 7.
(3) سورة الأعراف: 206.(8/297)
قال ابن عباس: هو تبديل الكلام ووضعه في غير موضعه، وقال مجاهد: يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا بالمكاء والتصدية واللغو واللغط. قتادة: يعني يكذبون في آياتنا. السدي: يعاندون ويشاققون. ابن زيد: يشركون ويكذبون. قال مقاتل: نزلت في أبي جهل لعنه الله.
لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ أبو جهل. خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ عثمان بن عفان وقيل: عمار بن ياسر اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أمر وعيد وتهديد إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم فيجازيكم به.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ بالقرآن. لَمَّا جاءَهُمْ حين جاءهم. وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ كريم على الله عن ابن عباس، وقال مقاتل: منيع من الشّيطان والباطل. السدي: غير مخلوق.
لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ قال قتادة والسدي: يعني الشيطان. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ. فلا يستطيع أن يغيّر أو يزيد أو ينقص، وقال سعيد بن جبير: يعني لا يَأْتِيهِ النكير مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، وقيل: لا يأتيه ما يبطله أو يكذّبه من الكتب المتقدّمة، بل هو موافق لها مصدّق ولا يجيء بعده كتاب يبطله وينسخه، بل هو موافق لها مصدق. عن الكلبي. تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ما يُقالُ لَكَ من الأذى. إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يعزّي نبيه صلّى الله عليه وسلم إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لمن تاب. وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ لمن أصر.
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا بغير لغة العرب. لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ بيّنت. آياتُهُ بلغتنا حتّى نفقهها، فإنّا قوم عرب، ما لنا وللأعجمية. ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ يعني أكتاب أعجميّ ونبي عربي.
قال مقاتل: وذلك إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كان يدخل على يسار غلام ابن الحضرمي وكان يهوديا أعجميّا ويكنى (أبا فكيهة) ، فقال المشركون: إنّما يعلّمه يسار، فأخذه سيده عامر بن الحضرمي، وضربه، وقال: إنّك تعلم محمدا. فقال يسار: هو يعلمني. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقرأ الحسن: أعجمي بهمزة واحدة على الخبر، وكذلك رواه هشام عن أهل الشام.
ووجهه ما روى جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير، قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميّا وعربيّا حتّى تكون بعض آياته أعجميّا وبعضها عربيّا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل في القرآن بكلّ لسان، فمنه السجيل، وهي فارسية عربت سنك وكل، والقراءة الصحيحة قراءة العامة بالاستفهام على التأويل الأول.
قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أخبرنا محمد بن نعيم، أخبرنا الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز، أخبرنا القاسم بن سلام، حدثنا حجاج بن أيوب، عن شعبة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سلمان بن قتيبة، عن ابن عباس ومعاوية وعمرو ابن العاص، إنّهم كانوا يقرءون هذه الحروف بكسر الميم(8/298)
وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، وقرأه الباقين بفتح الميم على المصدر، واختاره أبو عبيد، قال: لقوله:
هُدىً وَشِفاءٌ فكذلك عَمًى مصدر مثلها، ولو إنّها هاد وشاف لكان الكسر في عمى أجود ليكون نعتا مثلهما.
أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال بعض أهل المعاني: قوله: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ خبر لقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ، وحديث عن محمد بن جرير، قال:
حدثني شيخ من أهل العلم، قال: سمعت عيسى بن عمر سأل عمرو بن عبيد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ، أين خبره؟ فقال عمرو: معناه في التفسير إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ كفروا به وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ فقال عيسى بن عمر: أجدت يا أبا عثمان.
وقوله تعالى: يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ مثل لقلت استماعهم وانتفاعهم بما يوعظون به، كأنهم ينادون إلى الإيمان وبالقرآن من حيث لا يسمعون لبعد المسافة.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فمؤمن به وكافر، ومصدّق ومكذّب. كما أختلف قومك في كتابك. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ من عذابهم وعجل إهلاكهم.
وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ فإنّه لا يعلمه غيره،
وذلك إنّ المشركين، قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: لئن كنت نبيا، فأخبرنا عن الساعة متى قيامها؟، ولئن كنت لا تعلم ذلك فإنّك لست بنبيّ. فانزل الله تعالى هذه الآية.
وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ من صلة ثمرات، بالجمع أهل المدينة والشام، غيرهم ثمرة على واحدة. مِنْ أَكْمامِها أوعيتها، واحدتها كمة، وهي كلّ ظرف لمال أو وغيره، وكذلك سمّي قشرة الكفري، أي الذي ينشق عن الثمرة كمه. قال ابن عباس: يعني الكفري قبل أن ينشق، فإذا انشقت فليست بأكمام. وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ يقول إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ كما يردّ إليه علم الثمار والنتاج.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ يعني ينادي الله تعالى المشركين. أَيْنَ شُرَكائِي الّذين تزعمون في الدّنيا إنّها آلهة. قالُوا يعني المشركين، وقيل: الأصنام، يحتمل أن يكون القول راجعا إلى العابدين وإلى المعبودين أيضا آذَنَّاكَ أعلمناك وقيل: أسمعناك. ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ شاهد إنّ لك شريك لما عاينوا القيامة تبرؤا من الأصنام، وتبرأ الأصنام منهم وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ في الدنيا.
وَظَنُّوا أيقنوا. ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب، و (ما) هاهنا حرف وليس باسم، فلذلك لم يعمل فيه الظنّ، وجعل الفعل ملقى.(8/299)
لا يَسْأَمُ يمل. الْإِنْسانُ يعني الكافر. مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ أي من دعائه بالخير ومسألته ربّه، ودليل هذا التأويل، قراءة عبد الله لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ من دعائه بالخير، أي بالصحّة والمال. وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ من روح الله. قَنُوطٌ من رحمته. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً عافية ونعمة. مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ شدة وبلاء أصابته. لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي بعملي، وأنا محقوق بهذا.
وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان، حدثنا عبد الله بن ثابت، حدثنا أبو سعيد الكندي، حدثنا أحمد بن بشر، عن أبي شرمة، عن الحسن بن محمد بن علي أبي طالب، قال:
الكافر في أمنيتين، أما في الدّنيا، فيقول: لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى، وأما في الآخرة، فيقول الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
..
فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ شديد.
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير، والعرب تستعمل الطول والعرض كلاهما في الكثرة، يقال: أطال فلان الكلام والدعاء، وأعرض إذا أكثر.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ القرآن. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ قال ابن عباس: يعني منازل الأمم الخالية. وَفِي أَنْفُسِهِمْ بالبلاء والأمراض، وقال المنهال والسدي: فِي الْآفاقِ يعني ما يفتح لمحمد صلّى الله عليه وسلم من الآفاق، وَفِي أَنْفُسِهِمْ: مكّة، وقال قتادة: فِي الْآفاقِ يعني وقائع الله تعالى في الأمم، وَفِي أَنْفُسِهِمْ، يوم بدر.
عطاء وابن زيد: فِي الْآفاقِ يعني أقطار الأرض والسّماء من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والأنهار والبحار والأمطار، وَفِي أَنْفُسِهِمْ من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، وسبيل الغائط والبول، حتّى إنّ الرجل ليأكل ويشرب من مكان واحد، ويخرج ما يأكل ويشرب من مكانين.
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ يعني إنّ ما نريهم ونفعل من ذلك هو الحقّ، وقيل: إنّه يعني الإسلام، وقيل: محمد صلّى الله عليه وسلم، وقيل: القرآن أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ.(8/300)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
سورة الشّورى
سورة حم عسق مكّية، وهي ثلاث وخمسون آية، وثمانمائة وستّ وستّون كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا
أخبرنا سعيد بن محمد بن محمد المقري، أخبرنا محمد بن جعفر بن محمد الحبري، حدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي، حدثنا سلام بن سليم المدائني، حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة الباهلي عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة حم. عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له» [167] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
حم عسق سمعت أبا إسحاق يقول: سمعت أبا عثمان بن أبي بكر المقري الزعفراني، يقول: سمعت شيخي يقول: سمعت أبا بكر المؤمن يقول: سألت الحسين بن الفضل لم قطّع حم عسق ولم تقطّع كهيعص، والمر والمص؟.
قال: لكونها من سور أوائلها حم، فجرت مجرى نظائرها، قبلها وبعدها، وكان حم مبتدأ، وعسق خبره، ولأنّها آيتان، وعدت أخواتها الّتي كتبت موصولة آية واحدة.
وقيل: لأنّ أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها، إنّها حروف التهجي لا غيره، واختلفوا في حم، فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلوها فعلا، وقالوا، معناه حم، أي قضي ما هو كائن إلى يوم القيامة.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 9/ 35.(8/301)
فأمّا تفسيرها أخبرنا عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه: إنّ أبا الفرج المعافى بن زكريا القاضي، أخبرهم عن محمد بن جرير، حدثني أحمد، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، عن أرطأة بن المنذر، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال له وعنده حذيفة بن اليمان: أخبرني عن تفسير قول الله تعالى: حم عسق قال: فأطرق ثمّ أعرض عنه، ثمّ كرّر مقالته، فلم يجيبه بشيء، وكرّر مقالته، ثمّ كرّر الثالثة، فلم يجيبه شيئا، فقال له حذيفة: أنا أنبئك بها، قد عرفت لم كرهها، نزلت في رجل من أهل بيته، يقال له: عبد الإله أو عبد الله، ينزل على نهر من أنهار المشرق، يبني عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا، فإذا أذن الله تعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدّتهم، بعث الله تعالى على إحداهما نارا ليلا، فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كلّها لم تكن مكانها، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت، فما هو إلّا بياض يومها ذلك حتّى يجمع فيها كلّ جبّار عنيد منهم، ثمّ يخسف الله تعالى بها وبهم جميعا، فذلك قوله تعالى: حم عسق. يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء حم عسق عدلا منه، سين سيكون فتنة، قاف واقع بهما- بهاتين المدينتين.
ونظير هذا التفسير ما
أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن، حدثنا عبد الله بن مخلة، حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي، حدثنا عمار بن سيف الضبي أبو عبد الرّحمن، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي عن جرير بن عبد الله، قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصّراة تجتمع فيها جبابرة أهل الأرض، تجبى إليها الخزائن، يخسف بها، وقال مرة: يخسف بأهلها، فلهي أسرع ذهابا في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة.
وذكر عن ابن عباس إنّه كان يقرأ (حم سق) بغير عين، ويقال: إنّ السين فيها كلّ فرقة كائنة، وإنّ القاف كلّ جماعة كائنة، ويقول: إنّ عليا إنّما كان يعلم الفتن بهما
، وكذلك هو في مصحف عبد الله (حم سق) .
وقال عكرمة: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: حم عسق.
فقال: (ح) حلمه، (م) مجده، (عين) علمه، (سين) سناه، (ق) قدرته، أقسم الله تعالى بها.
وفي رواية أبي الجوزاء إنّ ابن عباس، قال لنافع: (عين) فيها عذاب، (سين) فيها مسخ، (ق) فيها قذف. يدلّ عليه ما
روي في حديث مرفوع إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجهه، فقيل له: ما هذه الكآبة يا رسول الله؟ قال: أخبرت ببلاء ينزل في أمتي. من خسف ومسخ وقذف، ونار تحشرهم وريح تقذفهم في اليم، وآيات متتابعات متصلة بنزول عيسى (عليه السلام) ، وخروج الدجال.(8/302)
وقال شهر بن حوشب وعطاء بن أبي رباح: (ح) حرب يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز في قريش، ثمّ تقضى إلى العرب، ثمّ تقضى إلى العجم، ثمّ تمتد إلى خروج الدجال.
وقال عطاء: (ح) حرب في أهل مكّة يجحف بهم حتّى يأكلون الجيف وعظام الموتى، (م) ملك يتحول من قوم إلى قوم (ع) عدو لقريش قصدهم، (س) سيء يكون فيهم، (ق) قدرة الله النافذة في خلقه.
وقال بكر بن عبد الله المزني: (ح) حرب تكون بين قريش والموالي، فتكون الغلبة لقريش على الموالي، (م) ملك بني أمية، (ع) علو ولد العبّاس، (سين) سناء المهدي (ق) قوة عيسى (عليه السلام) حين ينزل، فيقتل النصارى ويخرب البيع «1» .
وقال محمد بن كعب: أقسم الله بحلمه ومجده وعلوه وسناءه وقدرته، أن لا يعذب من عاد إليه بلا إله إلّا الله مخلصا له من قلبه،
وقال جعفر بن محمد وسعيد بن جبير: (ح) من رحمن، (م) من مجيد، (عين) من عالم، (سين) من قدوس، (ق) من قاهر.
السدي: هو من الهجاء المقطع، (عين) من العزيز، (سين) من السلام، (ق) من القادر.
وقيل: هذا في شأن محمد صلّى الله عليه وسلم (فالحاء) حوضه المورود، و (الميم) ملكة الممدود، و (العين) عزه الموجود، و (السين) سناؤه المشهود، و (القاف) قيامه في المقام المحمود، وقربه في الكرامة إلى المعبود.
وقال ابن عباس: ليس من نبيّ صاحب كتاب إلّا وقد أوحيت حم عسق إليه، فلذلك، قال: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ قرأ ابن كثير بفتح الحاء ومثله روى عباس، عن ابن عمرو ورفع الاسم بالبيان، كأنّه قال: يوحي إليك.
قيل: من الّذي يوحي؟ قال: الله، وهي كقراءة من قرأ يُسَبَّحُ لَهُ فِيها «2» بفتح الباء، الباقون بكسره.
وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وقال مقاتل: نزل حكمها على الأنبياء (عليهما السلام) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي من عظمة الله وجلاله فوقهنّ.
قال ابن عباس: تَكادُ السَّماواتُ كلّ واحدة منها تتفطّر فوق الّتي تليها من قول المشركين، اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً «3» : نظيره قوله: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا
__________
(1) العمدة لابن بطريق: 429 ح 898، والطرائف لابن طاوس: 176 ح 276 عن الثعلبي.
(2) سورة النور: 36.
(3) سورة البقرة: 116.(8/303)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «1» . وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ من المؤمنين بيانها ويستغفرون للّذين آمنوا أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
قال الحكماء: وعظّم في الابتداء، ثمّ بشّر وألطف في الانتهاء.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ يحفظ أعمالهم ويحصي عليهم أفعالهم ليجازيهم بها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ إن عليك إلّا البلاغ. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى مكّة، يعني أهلها. وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي بيوم الجمع. لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ أي منهم فريق فِي الْجَنَّةِ فضلا وهم المؤمنون. وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ عدلا وهم الكافرون.
أخبرنا الإمام أبو منصور الجمشاذي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أبو عثمان سعيد ابن عثمان بن حبيب السوحي، حدثنا بشر بن مطر، حدثني سعيد بن عثمان، عن أبي راهويه جدير بن كريب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص- وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يفضّل عبد الله على أبيه-
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، حدثني أبي، حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا ليث، حدثني أبو قبيل حيّ بن هانئ المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو، قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم، قابضا على كفيه ومعه كتابان، فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان» ؟، قلنا: لا يا رسول الله.
فقال للّذي في يده اليمنى: هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل الجنّة وأسماء آباءهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم، ولا ناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة» [168] ، ثمّ قال للّذي في يساره: «هذا كتاب من ربّ العالمين، بأسماء أهل النار وأسماء آباءهم وعشائرهم وعدتهم، قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة» . فقال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل؟، إذ قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنّة يختم له بعمل أهل الجنّة وأن عمل أي عمل، وإنّ صاحب النّار يختم له بعمل أهل النّار وإن عمل، أي عمل» [169] «2» .
ثمّ قال: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ عدل من الله تعالى.
__________
(1) سورة مريم: 90- 91.
(2) سنن الترمذي: 3/ 304.(8/304)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
[سورة الشورى (42) : الآيات 8 الى 22]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً على ملّة واحدة. وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ الكافرون. ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ لا سواه. وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى مجازه: لأنّه يحيي الموتى. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ في الدين.
قَدِيرٌ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ في الدين. فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً حلائل- وإنّما قال مِنْ أَنْفُسِكُمْ لأنّه خلق حواء من ضلع آدم- وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ يخلقكم ويعيشكم فِيهِ أي في الرحم، وقيل: في البطن، وقيل: في الروح، وقيل: في هذا الوجه من الخليقة.
قال مجاهد: نسلا بعد نسل، ومن الأنعام، وقيل: (في) بمعنى الباء، أي يذرؤكم به، قال ابن كيسان: يكثركم.
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ المثل صلة ومجازه: ليس كهو شيء، فأدخل المثل توكيدا للكلام،(8/305)
كقوله: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ «1» وفي حرف ابن مسعود، فإن آمنوا بما آمنتم به وقال أوس بن حجر:
وقتلى كمثل جذوع النخيل ... يغشاهم مطر منهمر «2»
أي كجذوع، وقال [آخر] «3» سعد بن زيد:
إذا أبصرت فضلهم ... كمثلهم في النّاس من أحد «4»
وقال آخر:
ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل «5»
وقيل: (الكاف) صلة مجازه: ليس مثله، كقول الراجز:
وصاليات ككما [يؤثفين]
فأدخل على الكاف كافا تأكيدا للتشبيه، وقال آخر:
[تنفي الغياديق على الطريق ... قلص عن كبيضة في نيق] «6»
فأدخل الكاف مع عن.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وهو أول أنبياء الشريعة.
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى فاختلفوا في وجه الآية، فقال قتادة: تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقال الحكم: تحريم الأخوات والأمهات والبنات، وقال مجاهد: لم يبعث الله تعالى نبيا إلّا أوصاه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة.
فذلك دينه الذي شرع لهم، وهي رواية الوالي عن ابن عباس، وقيل: الدين التوحيد، وقيل: هو قوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ بعث الأنبياء كلّهم بإقامة الدّين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ من التوحيد ورفض الأوثان. ثمّ قال عزّ من قائل: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ فيستخلصه لدينه.
وَما تَفَرَّقُوا يعني أهل الأديان المختلفة، وقال ابن عباس: يعني أهل الكتاب. دليله
__________
(1) سورة البقرة: 137.
(2) تفسير القرطبي: 16/ 8، فتح القدير: 4/ 528.
(3) كذا الظاهر.
(4) فتح القدير للشوكاني: 4/ 528، جامع البيان للطبري 25/ 18. [.....]
(5) فتح القدير للشوكاني: 4/ 528.
(6) جامع البيان للطبري: 25/ 18.(8/306)
ونظيره في سورة المنفكّين إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ «1» .
إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ من قبل بعث محمد وصفته. بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ تأخير العذاب. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو يوم القيامة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالعذاب.
وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد الأمم الخالية، وقال مجاهد: معناه من قبلهم أي من قبل مشركي مكّة وهم اليهود والنصارى. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَلِذلِكَ أي فإلى ذلك الّذين أوتوا الكتاب. فَادْعُ كقوله: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «2» أي إليها وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ اثبت على الدين الذي به أمرت وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي أن أعدل أو كي أعدل، كقوله: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «3» .
قال ابن عباس: لأسوي بينكم في الدّين، وأؤمن بكلّ كتاب وكلّ رسول، وقال غيره:
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في جميع الأحوال والأشياء.
قال قتادة: أمر نبي الله صلّى الله عليه وسلم أن يعدل، فعدل حتّى مات، والعدل ميزان الله تعالى في الأرض
، وذكر لنا إنّ داود (عليه السلام) ، قال: ثلاث من كنّ فيه فهو الفائز: القصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب، والحسنة في السرّ والعلانية، وثلاث من كنّ فيه أهانته: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، وأربع من أعطيهنّ، فقد أعطي خير الدّنيا والآخرة: لسان ذاكر، وقلب شاكر، وبدن صابر، وزوجة مؤمنة.
اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ لا خصومة. بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ نسختها آية القتال. اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا لفصل القضاء. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ يخاصمون. فِي اللَّهِ في دين الله نبيه. مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي من بعد ما استجاب له النّاس، فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزته، وقيام حجته. حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ باطلة زائلة.
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ قال مجاهد: نزلت في اليهود والنصارى. قالوا:
كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم وأولى بالحقّ.
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ أي العدل عن ابن عباس وأكثر المفسرين.
مجاهد: هو الّذي يوزن به، ومعنى إنزال الميزان: إلهامه الخلق للعمل به، وأمره بالعدل والإنصاف، كقوله: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً «4» .
وقال علقمة: الميزان محمد صلّى الله عليه وسلم، يقضي بينهم بالكتاب. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ
__________
(1) سورة البينة: 4.
(2) سورة الزلزلة: 5.
(3) سورة الأنعام: 71.
(4) سورة الأعراف: 26.(8/307)
ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي، ومجازها الوقت، وقال الكسائي: إيتائها قريب.
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ظنّا منهم إنها غير جائية. وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها خائفون منها. وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ قال ابن عباس: حفي بهم. عكرمة: بارّ بهم. السدي: رقيق. مقاتل: لطيف بالبر والفاجر منهم، حيث لم يقتلهم جوعا بمعاصيهم. القرظي: لطيف بهم في العرض والمحاسبة.
قال الخوافي: غدا عند مولى الخلق، للخلق موقف يسألهم فيه الجليل، فيلطف بهم الصادق في الرزق من وجهين: أحدهما: إنّه جعل رزقك من الطيبات، والثاني: إنّه لم يدفعه إليك بمرة واحدة، وقيل: الرضا بالتضعيف. الحسين بن الفضل: في القرآن وتيسيره.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عاد البغدادي يقول:
سئل جنيد عن اللطيف، فقال: هو الّذي لطف بأوليائه حتّى عرفوه، فعبدوه، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه.
وقال محمد بن علي الكتاني: اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا أيس من الخلق، توكل عليه ورجع إليه فحينئذ يقبله ويقبل عليه، وفي هذا المعنى أنشدنا أبو إسحاق الثعلبي، قال:
أنشدني أبو القاسم الحبيبي. قال أنشدني أبي، قال: أنشدني أبو علي محمد بن عبد الوهّاب الثقفي:
أمر بافناء القبور كأنّني ... أخو فطنة والثواب فيه نحيف
ومن شق فاه الله قدّر رزقه ... وربّي بمن يلجأ إليه لطيف «1»
وقيل: اللطيف الّذي ينشر من عباده المناقب، ويستر عليه المثالب، وقيل: هو الّذي يقبل القليل، ويبذل الجزيل، وقيل: هو الّذي يجبر الكسير، وييسر العسير، وقيل: هو الّذي لا ييأس أحد في الدنيا من رزقه، ولا ييأس مؤمن في العفو من رحمته.
وقيل: هو الّذي لا يخاف إلّا عدله، ولا يرجى إلّا فضله، وقيل: هو الّذي يبذل لعبده النعمة، فوق الهمّة ويكلفه الطاعة دون الطاقة، وقيل: هو الّذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيب من رجاه، وقيل: هو الّذي لا يرد سائله ولا يؤيّس آمله، وقيل: هو الّذي يعفو عمن يهفو، وقيل: هو الّذي يرحم من لا يرحم نفسه، وقيل: هو الّذي يعين على الخدمة، ثم يكثر المدحة، وقيل: هو الّذي أوقد في أسرار عارفيه من المشاهدة سراجا، وجعل الصراط المستقيم لها منهاجا، وأنزل عليهم من سحائب بره ماءا ثجاجا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 16/ 17.(8/308)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ كما يشاء من شاء موسعا، ومن شاء مقترا، ومن شاء قليلا ومن شاء كثيرا، ومن شاء حلالا، ومن شاء حراما، ومن شاء في خفض ودعه، ومن شاء في كد وعناء، ومن شاء في بلده ومن شاء في الغربة، ومن شاء بحساب ومن شاء بغير حساب. وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ يعني يريد بعمله الآخرة. نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ بالتضعيف بالواحدة عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة. وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا يعني يريد بعمله الدّنيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ.
قال قتادة: يقول: من عمل لآخرته نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، ومن آثر دنياه على آخرته، لم يجعل الله له نصيبا في الآخرة إلّا النّار، ولم يصب من الدّنيا إلّا رزق قد فرغ منه وقسم له.
أنبأني عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، حدثنا الحسين بن إدريس، حدثنا سويد بن نصير، أخبرنا عبد بن المبارك عن أبي سنان الشيباني، إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: الأعمال على أربعة وجوه: عامل صالح في سبيل هدى يريد به دنيا، فليس له في الآخرة شيء، ذلك بأنّ تعالى، قال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها.. «1» الآية، وعامل الرياء ليس له ثواب في الدّنيا والآخرة إلّا الويل، وعامل صالح في سبيل هدى يبتغي به وجه الله والدار الآخرة، فله الجنّة في الآخرة، معها [نعاته] «2» في الدّنيا، وعامل خطأ وذنوب ثوابه عقوبة الله، إلّا أن يعفوا فإنّه أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ..
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ يوم القيامة، حيث قال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ «3» .. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ المشركين يوم القيامة مُشْفِقِينَ وجلين. مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي نازل بهم لا محالة. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ.
[سورة الشورى (42) : آية 23]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
ذلِكَ الَّذِي ذكرت من نعيم الجنّات. يُبَشِّرُ اللَّهُ به. عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنّهم أهله.
__________
(1) سورة هود: 15.
(2) ولعلها: نعمته.
(3) سورة القمر: 46.(8/309)
قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى
قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق، وليس في يديه سعة لذلك، قالت الأنصار: إنّ هذا الرجل قد هداكم الله به، وهو ابن أختكم، منوبة به. فقالوا له: يا رسول الله إنّك ابن أختنا، وقد هدانا الله على يديك، وتنوبك نوائب وحقوق، ولست لك عندها سعة، فرأينا أن نجمع لك من أموالنا، فنأتيك به، فتستعين به على ما ينوبك وها هو ذا، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: اجتمع المشركون في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون محمّدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يحثهم على مودته، ومودّة أقربائه
، وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية والتنزيل لأنّ هذه السورة مكّية، واختلف العلماء في معنى الآية.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه بقراءتي عليه، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، حدثنا أبو بكر الأزدي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا قزعة بن سويد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا أسألكم على ما أتيتكم من البينات والهدى أجرا إلّا أن تودّوا الله تعالى، وتقرّبوا إليه بطاعته» [170] «1» .
وإلى هذا ذهب الحسن البصري، فقال: هو القربى إلى الله تعالى، يقول إلّا التقرب إلى الله تعالى والتودّد إليه بالطاعة والعمل الصالح،
وروى طاوس والشعبي والوالبي والعوفي عن ابن عباس، قال: لم يكن بطن من بطون قريش إلّا وبين رسول الله وبينهم قرابة، فلما كذّبوه وأبوا أن يبايعوه، أنزل الله تعالى، قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى يعني أن تحفظوني وتودّوني وتصلوا رحمي، فقال رسول الله: «إذا أبيتم أن تبايعوني، فاحفظوا قرابتي فيكم ولا تؤذوني، فإنّكم قومي وأحق من أطاعني وأجابني «2» » [171] .
وإليه ذهب أبو مالك وعكرمة ومجاهد والسدي والضحاك وابن زيد وقتادة، وقال بعضهم:
معناه إلّا أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم، وهو قول سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب.
ثمّ اختلفوا في قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، الّذين أمر الله تعالى بمودتهم.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه الثقفي العدل، حدثنا برهان بن علي الصوفي، حدثنا محمّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي، حدثنا حرب بن الحسن الطحان، حدثنا حسين الأشقر، عن قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟
قال: «علي وفاطمة وأبناءهما «3» » [172]
، ودليل هذا التأويل ما
أخبرنا أبو منصور
__________
(1) مسند احمد: 1/ 268، المستدرك: 2/ 444.
(2) جامع البيان للطبري: 25/ 31.
(3) مجمع الزوائد: 7/ 103(8/310)
الجمشاذي، قال: حدثني أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر بن مالك، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا عبيد الله بن عائشة، حدثنا إسماعيل بن عمرو، عن عمر بن موسى، عن زيد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: «شكوت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حسد النّاس لي» . فقال: «أما ترضى أن تكون رابع أربعة، أول من يدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمالنا، وذريتنا خلف أزواجنا وشيعتنا من ورائنا» [173] «1» .
حدثنا أبو منصور الجمشاذي، حدثنا أبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد، حدثنا أبو العباس محمد بن همام، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن رزين، حدثنا حسان بن حسان، حدثنا حماد بن سلمة ابن أخت حميد الطويل، عن علي بن زيد بن جدعان، عن شهر بن حوشب، عن أمّ سلمة، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنّه قال لفاطمة: «ائتيني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم، فالقى عليهم كساء فدكيا، ثمّ رفع يديه عليهم، فقال: اللهم هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد، فإنك حميد مجيد» . قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فاجتذبه وقال: «إنّك على خير» [174] «2» ..
وروى أبو حازم عن أبي هريرة، قال: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: «أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم «3» » [175] .
أخبرنا عقيل بن محمّد، أخبرنا المعافا بن زكريا بن المبتلي، حدثنا محمّد بن جرير، حدثني محمّد بن عمارة، حدثنا إسماعيل بن أبان، حدثنا الصياح بن يحيى المزني، عن السدي، عن أبي الديلم، قال: لما جيء بعلي بن الحسين أسيرا فأقيم على درج دمشق، وقام رجل من أهل الشام، فقال: الحمد لله الّذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة، فقال علي بن الحسين:
أقرأت القرآن؟
قال: نعم. قال: قرأت أل حم؟ قال: قرأت القرآن، ولم أقرأ أل حم. قال: ما قرأت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. قال: وإنّكم لأنتم هم؟ قال: نعم» [176] .
أخبرنا الحسين بن العلوي الوصي، حدثنا أحمد بن علي بن مهدي، حدثني أبي، حدثنا علي بن موسى الرّضا، حدثني أبي موسى بن جعفر، حدثنا أبي جعفر بن محمد الصادق، قال:
كان نقش خاتم أبي محمد بن علي:
ظنّي بالله حسن ... وبالنبي المؤتمن
وبالوصي ذي المنن ... والحسين والحسن.
أنشدنا محمد بن القاسم الماوردي، أنشدني محمد بن عبد الرّحمن
__________
(1) شواهد التنزيل: 1/ 185. [.....]
(2) مسند احمد: 6/ 323.
(3) سنن الترمذي: 5/ 360.(8/311)
الزعفراني، أنشدني أحمد بن إبراهيم الجرجاني، قال: أنشدني منصور الفقيه لنفسه:
إن كان حبّي خمسة ... زكت بهم فرائضي
وبغض من عاداهم ... رفضا فإنّي رافضي «1»
وقيل: هم ولد عبد المطلب. يدلّ عليه ما
حدثنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي، حدثنا أبو الحسن المحمودي، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمران الأرسابندي حدثنا هديّة بن عبد الوهّاب، حدثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن زياد اليمامي، عن إسحاق بن أبي عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنّة، أنا وحمزة وجعفر وعلي والحسن والحسين والمهدي «2» » [177] .
علي بن موسى الرضا: حدثني أبي موسى بن جعفر، حدثني أبي جعفر بن محمد، حدثني أبي محمد بن علي، حدثني أبي علي بن الحسين، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «حرمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها، فأنا أجازيه غدا إذا لقيني في يوم القيامة» [178] «3» .
وقيل: الّذين تحرم عليهم الصدقة ويقسم فيهم الخمس وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب الّذين لم يقترفوا في جاهلية ولا إسلام. يدل عليه قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى «4» ، وقوله: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى «5» ، وقوله: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ «6» .
أخبرنا عقيل بن محمّد إجازة، أخبرنا أبو الفرج البغدادي، حدثنا محمّد بن جدير، حدثنا أبو كرير، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا عبد السلم حدثني يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس، قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا فكأنهم مخزوك، فقال ابن عباس أو العباس: شل عبد السلم لنا الفضل عليكم. [فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم. فقال: «يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟» . قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي؟» . قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «أفلا تجيبوني؟» . قالوا: ما نقول يا رسول
__________
(1) جواهر العقدين: 2/ 304، وينابيع المودة: 3/ 103.
(2) سنن ابن ماجة: 2/ 1368.
(3) تفسير القرطبي: 16/ 22.
(4) سورة الأنفال: 41.
(5) سورة الحشر: 7.
(6) سورة الإسراء: 17.(8/312)
الله؟. فقال: «ألا تقولون، ألم يخرجك قومك فآويناك، أو لم يكذّبوك فصدقناك، أو لم يخذلوك فنصرناك؟» .
قال: فما زال يقول حتّى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله تعالى ولرسوله. قال: فنزلت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [179] «1» .
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه، حدثنا محمد بن عبد الله بن حمزة، حدثنا عبيد بن شريك البزاز، حدثنا سلمان بن عبد الرّحمن بن بنت شرحبيل، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا يحيى بن بشير الأسدي، عن صالح بن حيان الفزاري عبد الله بن شداد بن الهاد عن العباس ابن عبد المطلب إنّه، قال: يا رسول الله ما بال قريش يلقى بعضهم بعضا بوجوه تكاد أن تسايل من الود، ويلقوننا بوجوه قاطبة، تعني باسرة عابسة، فقال رسول الله (عليه السلام) :
«أويفعلون ذلك؟» . قال: نعم، والّذي بعثك بالحقّ. فقال: «أمّا والّذي بعثني بالحقّ، لا يؤمنوا حتّى يحبّوكم لي» [180] «2» .
وقال قوم: هذه الآية منسوخة فإنّما نزلت بمكّة وكان المشركون يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمرهم فيها بمودة رسول الله وصلة رحمه. فلما هاجر إلى المدينة وآواه الأنصار وعزروه ونصروه أحبّ الله تعالى أن يلحقه بإخوانه من الأنبياء (عليهم السلام) حيث قالوا: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ «3» ، فأنزل الله تعالى عليه قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ «4» ، فهي منسوخة بهذه الآية وبقوله: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ «5» ، وقوله: وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «6» ، وقوله: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ «7» ، وقوله: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ «8» وإلى هذا ذهب الضحاك بن مزاحم والحسين بن الفضل.
وهذا قول غير قوي ولا مرضي، لأنّ ما حكينا من أقاويل أهل التأويل في هذه الآية لا يجوز أن يكون واحد منها منسوخا، وكفى فتحا بقول من زعم إنّ التقرب الى الله تعالى بطاعته ومودة نبيه وأهل بيته منسوخ.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 25/ 33.
(2) المصنف: 7/ 518، العجم الكبير: 11/ 343، كنز العمال: 13/ 514.
(3) سورة الشعراء: 109.
(4) سورة سبأ: 47.
(5) سورة ص: 86.
(6) سورة المؤمنون: 72. [.....]
(7) سورة يوسف: 104.
(8) سورة الطور: 40.(8/313)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
والدليل على صحة مذهبنا فيه، ما
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الأصبهاني، أخبرنا أبو عبد الله بن محمّد بن علي بن الحسين البلخي، حدثنا يعقوب بن يوسف بن إسحاق، حدثنا محمد بن أسلم الطوسي، حدثنا يعلي بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من مات على حبّ آل محمّد مات شهيد، ألّا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له، ألّا ومات على حبّ آل محمّد مات تائبا، ألّا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألّا ومن مات على حبّ آل محمّد بشره ملك الموت بالجنّة ثم منكرا ونكيرا، ألّا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله تعالى زوار قبره ملائكة الرحمن، ألّا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان من الجنّة. ألّا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله، ألّا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافرا، ألّا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنّة» [181] «1» .
وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً يكتسب طاعة. نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً بالضعف. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ. أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه، حدثنا ابن حنش المقري، حدثنا أبو القاسم بن الفضل، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا إسماعيل بن موسى، حدثنا الحكم بن طهر، عن السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً، قال: المودة لآل محمّد صلّى الله عليه وسلم «2» .
[سورة الشورى (42) : الآيات 24 الى 28]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
أَمْ يَقُولُونَ يعني كفّار مكّة. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ.
قال مجاهد: يعني يربط عليه بالصبر حتّى لا يشق عليك أذاهم، وقال قتادة: يعني يطبع على قلبك فينسيك للقرآن، فأخبرهم إنّه لو افترى على الله لفعل به ما أخبرهم في الآية.
ثمّ ابتدأ، فقال عزّ من قائل: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير.
__________
(1) ينابيع المودة: 3/ 140، وتفسير القرطبي: 16/ 23. بتفاوت يسير.
(2) العمدة لابن بطريق عن المصنف: 55 ح 53، ونظم درر السمطين: 86، والكامل لابن عدي: 2/ 209 ترجمة الحكم بن ظهير الفرازي.(8/314)
مجازه: الله يمحو الباطل. فحذفت منه الواو في المصحف، وهو في وضع رفع كما حذفت من قوله: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ «1» سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «2» على اللفظ.
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ. [.......] «3» . إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
قال ابن عباس:
لما نزلت لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ... وقع في قلوب قوم منها شيء، وقالوا: ما يريد إلّا أن يحثنا على أقاربه من بعده. ثمّ خرجوا، فنزل جبريل (عليه السلام) فأخبره إنّهم اتهموه وأنزل هذه الآية، فقال القوم: يا رسول الله فإنّا نشهد إنّك صادق، فنزل وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ
واختلفت عبارات العلماء في حقيقة التوبة وشرائطها.
أخبرنا الإمام أبو القاسم الحسن بن محمّد بن حبيب بقراءته عليّ. في شهور سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، حدثنا محمّد بن سليمان بن منصور، حدثنا محمّد مسكان بن جبلة بساوة.
أخبرنا عبد الله بن عبد العزيز بن أبي داود عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، قال: دخل إعرابي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: اللهمّ إنّي استغفرك وأتوب إليك، سريعا وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علي: يا هذا إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة، قال: يا أمير المؤمنين وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معاني: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما أذبتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كلّ ضحك ضحكته.
وسمعت الحسن بن محمّد بن الحسن، يقول: سمعت إبراهيم بن يزيد، يقول: سمعت حسن بن محمّد الترمذي يقول: قيل لأبي بكر محمّد بن عمر الوراق: متى يكون الرجل تائبا؟
فقال: إذا رجع إلى الله فراقبه واستحياه وخاف نقمته فيما عصاه، والتجاء إلى رحمته فرجاه، وذكر حلمه في ستره فأبكاه، وندم على مكروه أتاه، وشكر ربّه على ما أتاه، وفهم عن الله وعظه فوعاه، وحفظ عهده فيما أوصاه.
وسمعت الحسن بن محمّد بن حبيب، يقول: سمعت أبا منصور محمّد بن محمّد بن سمعان المذكر، يقول: سمعت أبا بكر بن الشاه الصوفي الفارسي، يقول: سئل الحرب بن أسد المحاسبي: من التائب؟ فقال: من رأى نفسه من الذنوب معصوما، وللخيرات موفقا، ورأى الفرح من قلبه غائبا والحزن فيه باقيا، وأحبّه أهل الخير، وهابه أهل الشّر، ورأى القليل من الدّنيا كثيرا، ورأى الكثير من عمل الآخرة قليلا، ورأى قلبه فارغا من كلّ ما ضمن له، مشتغلا
__________
(1) سورة الإسراء: 11.
(2) سورة العلق: 18.
(3) بياض في المخلوط.(8/315)
بكلّ ما أمر به.
وقال السري بن المغلس السقطي: التوبة صدق العزيمة على ترك الذنوب، والإنابة بالقلب إلى علام الغيوب، والندامة على ما فرط من العيوب، والاستقصاء في المحاسبة مع النفس بالاستكانة والخضوع.
وقال عمرو بن عثمان: ملاك التوبة إصلاح القوت.
وسمعت أبا القاسم بن أبي بكر بن عبد الله البابي، يقول: سمعت أبا يعلي حمزة بن وهب الطبري، يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني، يقول: سمعت يحيى بن معاذ، وسئل: من التائب؟ فقال: من كسر شبابه على رأسه وكسر الدّنيا على رأس الشيطان، ولزم الفطام حتّى أتاه الحمام.
وقال سهل بن عبد الله: التوبة، الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة، وسئل ابن الحسن البوشيخي: عن التوبة؟ فقال: إذا ذكرت الذنب فلا تجد حلاوته في قلبك.
وقال الراعي: التوبة ترك المعاصي نية وفعلا، والإقبال على الطاعة نية وفعلا، وسمعت أبا القاسم الحبيبي، يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عماد البغدادي، يقول: سئل جنيد: من التائب؟
فقال: من تاب عما دون الله.
وقال شاه الكرماني «1» : اترك الدّنيا وقد تبت وخالف هواك وقد وصلت، ويعفو عن السيئات إذا تابوا فيمحوها.
أخبرنا الحسن بن محمّد بن الحسن بن جعفر، حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن سواد، حدثنا عطية بن لفته، حدثنا أبي، حدثنا الزبيري، عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد، ومن العقيم الوالد، ومن الظمآن الوارد. فمن تاب إلى الله تعالى توبة نصوحا أنسى الله حافظيه وبقاع الأرض خطاياه وذنوبه «2» » . أو قال: «ذنوبه وخطاياه» [182] .
وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ. قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف بالتاء، وهي قراءة عبد الله وأصحابه، ورواية حفص عن عاصم غيرهم بالياء، وهي اختيار أبي عبيد، قال: لأنّه لمن خبرني عن قوم. قال قبله: عَنْ عِبادِهِ، وقال بعده: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
__________
(1) المتوفي سنة 270 هـ، واسمه شاه بن شجاع الكرماني أبو الفوارس، راجع الوافي: 14/ 23.
(2) كنز العمال: 4/ 205/ ح 10166.(8/316)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يطيع الّذين آمنوا ربّهم في قول بعضهم.
جعل الفعل للّذين آمنوا، وقال الآخرون: وَيَسْتَجِيبُ الله الَّذِينَ آمَنُوا جعلوا الإجابة فعل الله تعالى، وهو الأصوب والأعجب إليّ لأنّه وقع بين فعلين لله تعالى: الأول قوله: يَقْبَلُ والثاني وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، ومعنى الآية: ويجيب الله المؤمنين إذا دعوه، وقيل: معناه نجيب دعاء المؤمنين بعضهم لبعض.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا مكي بن عبدان، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا أبو معاوية بن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن سلمة بن سبره، قال: خطبنا معاذ بالشام، فقال: أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنّة والله إنّي لأرجو أن يدخل الجنّة من تسبون من فارس والرّوم وذلك بأن أحدهم إذا عمل لأحدكم العمل، قال: أحسنت يرحمك الله أحسنت بارك الله فيك ويقول الله سبحانه وتعالى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ.
أخبرنا الحسين بن محمّد الثقفي، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي، حدثني أبو أحمد عبد الله بن أحمد الزعفراني الهمذاني، حدثنا محمد بن الحسين بن قتيبة بعسقلان، حدثنا محمد بن أيوب بن سويد، حدثني أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن أبي صالح عن ابن عباس في قول الله تعالى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، قال: تشفّعهم في إخوانهم. وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. قال: في إخوان إخوانهم.
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ. الآية نزلت في قوم من أهل الصفّة تمنوا سعة الدّنيا والغنى. قال خباب بن لادن: فينا نزلت هذه الآية وذلك إنّا نظرنا إلى بني قريظة والنضير وبني القينقاع، فتمنيناها فأنزل الله تعالى وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ أي وسع الرزق لعباده.
لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي لطغوا وعصوا. قال ابن عباس: بغيهم ظلما، منزلة بعد منزلة ودابة بعد دابة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس.
أخبرنا الحسين بن محمد بن إبراهيم التبستاني الإصبهاني، حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن العباس العصمي الهروي، أخبرني محمد بن علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن صالح الكرابيسي، يقول: سمعت قصير بن يحيى يقول: قال: شقيق بن إبراهيم في قول الله تعالى:
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا، قال: لو رزق الله العباد من غير كسب وتفرغوا عن المعاش والكسب لطغوا في الأرض وبغوا وسعوا في الأرض فسادا، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش رحمة منه وامتنانا.
وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ أرزاقهم بِقَدَرٍ ما يَشاءُ لكفايتهم. قال مقاتل: وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ فجعل واحدا فقيرا وآخرا غنيا.(8/317)
إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ. قال قتادة: في هذه الآية كان يقال: خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك،
وذكر لنا إنّ نبي الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أخوف ما أخاف على أمتي، زهرة الدّنيا وكثرتها «1» » [183] .
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا عبد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا أبو جعفر محمد بن الغفار الزرقاني، حدثنا محمد بن يحيى الأزدي، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد الدمشقي، حدثنا صدقة بن عبد الله، حدثنا عبد الكريم الجزري، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عن جبريل (عليه السلام) ، عن ربّه عزّ وجلّ قال: «من أهان لي وليّا، فقد بارزني بالمحاربة، وإنّي لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وإنّي لأغضب لهم كما يغضب الليث الحرد، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره إساءته، ولا بد له منه، «2» فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ومؤيدا، إن سألني أعطيته وإن دعاني استجبت له وإنّ من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة، ولو أعطيته إياه دخله العجب فأفسده، وإنّ من عبادي المؤمنين، لمن لا يصلحه إلّا السقم ولو صححته لأفسده ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلّا الصحّة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلّا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلّا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك. إنّي أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم إنّي عليم خبير» «3» .
قال صدقة: وسمعت أبان بن أبي عياش يحدث بهذا الحديث، عن أنس بن مالك ثمّ يقول: اللهمّ إنّي من عبادك المؤمنين الّذين لا يصلحهم إلّا الغنى فلا تفقرني.
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ يعني المطر، سمي بذلك لأنّه يغيث النّاس أي يجيرهم ويصلح حالهم.
قال الأصمعي: مررت ببعض قبائل العرب وقد مطروا، فسألت عجوز منهم، كم أتاكم المطر؟ فقالت: غثنا ما شئنا.
مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ويبسط مطره نظيره قوله: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ «4» .
أخبرنا شعيب بن محمد، أخبرنا أبو الأزهر، حدثنا روح، حدثنا سعيد، عن قتادة قال:
__________
(1) جامع البيان للطبري: 25/ 40.
(2) في المصدر: وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه.
(3) تفسير القرطبي: 16/ 28.
(4) سورة الأعراف: 57.(8/318)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
ذكر لنا أنّ رجلا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين قحط المطر وقنط النّاس.
قال: مطرتم، ثمّ قال: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ.
وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ.
[سورة الشورى (42) : الآيات 29 الى 37]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ. وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ من الإجرام والآثام. وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ منها فلا يؤاخذكم بها.
وقرأ أهل المدينة والشام (بما) بغير (فاء) ، وكذلك هي في مصاحفهم، وقرأ الباقون فَبِما، بالفاء، وكذلك في مصاحفهم وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
أخبرنا الحسين بن محمد المقري، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب، حدثنا رضوان بن أحمد، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا أبو معاوية الضرير عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلّا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر» [184] «1» .
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا بشر بن موسى الأسدي، حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا مروان بن معاوية، حدثني الأزهر بن راشد الكاهلي، عن الخضر بن القواس العجلي، عن أبي سخيلة، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، قال: «وسأفسرها لك يا عليّ: ما أصابكم في الدنيا من بلاء أو
__________
(1) تفسير القرطبي: 16/ 31. [.....](8/319)
مرض أو عقوبة فالله أكرم من أن يثنّي عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه» [185] «1» .
قال: بإسناده عن خلف بن الوليد، عن المبرك بن فضالة، عن الحسن، قال: دخلنا على عمران بن الحصين في مرضه الشديد الّذي أصابه، فقال رجل منّا: إنّي لا بد أن أسألك عما أرى من الوجع بك، فقال عمران: يا أخي لا تفعل فو الله أن أحبّه إليّ أحبّه إلى الله تعالى. قال الله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. هذا بما كسبت يداي وعفو ربّي تعالى فيما بقي.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا موسى بن محمّد بن علي، حدثنا جعفر بن محمد الفرماني، حدثنا أبو خثيمه مصعب بن سعيد، حدثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن مرة الهمذاني، قال: رأيت على ظهر كف شريح قرحة، قلت: يا أبا أمامة ما هذا؟ قال:
فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
أخبرنا الحسين بن فنجويه الدينوري، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني إبراهيم بن الحسن الباهلي المقري، حدثنا حمّاد بن زيد أبو إسماعيل عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، قال: لما ركبه الدّين اغتمّ لذلك، فقال: إنّي لأعرف هذا العلم، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا موسى بن محمد، حدثنا أبو بشر أحمد بن بشر الطيالسي، حدثني بعض أصحابنا، عن أحمد بن الحواري، قال: قيل لأبي سلمان الدارابي: ما بال العقلاء أزالوا اللّوم عمن أساء إليهم؟ قال: لأنّهم علموا أنّ الله تعالى إنّما ابتلاهم بذنوبهم، قال الله تعالى: ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «2» .
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا محمد بن عبد الله بن [برزة] ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا ليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن سنان، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «إذا أراد الله تعالى بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدّنيا، وإذا أراد الله بعبده الشّر أمسك عليه بذنبه حتّى يوافي به يوم القيامة»
[186] «3» .
وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلّا بذنب لم يكن الله ليغفر له إلّا بها، أو درجة لم يكن الله ليبلّغه إلّا بها.
__________
(1) مسند أبي يعلى: 1/ 352، تفسير القرطبي: 16/ 30.
(2) زاد المسير: 7/ 81، وتفسير القرطبي: 16/ 31.
(3) سنن الترمذي: 4/ 27.(8/320)
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن رجاء، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن ابن أبي داود «1» ، عن الضحاك، قال: ما تعلّم رجل القرآن ثمّ نسيه إلّا بذنب، ثمّ قرأ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، ثمّ قال: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن «2» . وقال الحسن في هذه الآية: هذا في الحدود.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ هربا. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ يعني السّفن، واحدتها جارية وهي السائرة في البحر، قال الله تعالى: حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ «3» .
فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي الجبال، مجاهد: القصور، واحدها علم.
وقال الخليل بن أحمد: كلّ شيء مرتفع عند العرب فهو علم.
قالت الخنساء ترثي أخاها صخرا:
وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنّه علم في رأسه نار «4»
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ ثوابت وقوفا عَلى ظَهْرِهِ أي على ظهر الماء.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ يهلكهنّ. بِما كَسَبُوا أي بما كسب أصحابها وركبانها من الذنوب. وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ فلا يعاقب عليها ويعلم.
قرأ أهل المدينة والشام بالرفع على الاستئناف كقوله في سورة براءة: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ «5» ، وقرأها الآخرون نصبا على الصرف كقوله تعالى: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «6» صرف من حال الجزم إلى النصب استحقاقا وكراهة لعوال الجزم، كقول النابغة:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع النّاس والشهر الحرام
ونمسك بعده بذناب عيش ... أجبّ الظهر له سنام «7»
وقال آخر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم «8»
__________
(1) في تفسير القرطبي: رواد.
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 7/ 162، وتفسير القرطبي: 16/ 30، وتفسير ابن كثير: 4/ 126.
(3) سورة الحاقة: 11.
(4) بلاغات النساء: 31، مجمع البحرين: 2/ 589.
(5) سورة التوبة: 15.
(6) سورة آل عمران: 142.
(7) جامع البيان للطبري: 25/ 46.
(8) الصحاح: 3/ 1174.(8/321)
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ محيد عن عقاب الله تعالى. فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من رياش الدّنيا وقماشها. فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وليس من زاد المعاد. وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب. خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ.
قرأ يحيى بن رئاب وحمزة والكسائي وخلف هاهنا وفي سورة النجم (كبير) على التوحيد وفسروه الشرك عن ابن عباس، وقرأ الباقون كَبائِرَ بالجمع في السورتين، وقد بينا اختلاف العلماء في معنى «الكبائر» والفواحش. قال السدّي: يعني الزنا، وقال مقاتل: موجبات الخلود.
وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ يتجاوزون ويتحملون.
[سورة الشورى (42) : الآيات 38 الى 50]
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42)
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وقيل هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. حين لامه النّاس على إنفاق ماله كلّه، وحين شتم فحلم.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا إسحاق بن صدقة، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا سيف بن عمر، عن عطية، عن أيوب، عن علي رضي الله عنه قال: اجتمع لأبي بكر رضي الله عنهما مال مرة فتصدق به كلّه في سبيل الخير، فلامه المسلمون وخطّأه الكافرون، فأنزل الله تعالى: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ... إلى قوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ(8/322)
خص به أبا بكر وعم به من اتبعه.
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ينتقمون من ظالميهم من غير أن يعتدوا.
وقال مقاتل: هذا في المجروح ينتصر من الجارح فيقتص منه. قال إبراهيم: في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفو له.
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها سمي الجزاء باسم الابتداء وإن لم يكن سيئة لتشابههما في الصورة. قال ابن نجيح: هو أن يجاب قائل الكلمة القبيحة بمثلها، فإذا قال: أخزاه الله. يقول له: أخزاه الله، وقال السدّي: إذا شتمك بشتمة فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا ابن حنش المقري، حدثنا أبو القاسم بن الفضل، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر، قال سفيان بن عيينة: قلت لسفيان الثوري: ما قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أن يشتمك رجل فتشتمه؟، أو أن يفعل بك فتفعل به؟ فلم أجد عنده شيئا فسألت هشام بن حجير عن هذه الآية، فقال: الجارح إذا جرح تقتص منه وليس هو أن يسبك فتسبه.
وقال سفيان: وكان ابن شبرمة يقول: أليس بمكّة مثل هشام بن حجير فَمَنْ عَفا فلم ينتقم.
قال ابن عباس: فمن ترك القصاص وَأَصْلَحَ، وقال مقاتل: وكان العفو من الأعمال الصالحة فأجره على الله.
قال ابن فنجويه العدل، حدثنا محمد بن الحسن بن بشر، أخبرنا أبو العباس محمد بن جعفر بن ملاس الدمشقي، حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم بن بشر القريشي، حدثنا زهير بن عباد المدائني، حدثنا سفيان بن عينية عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة، نادى مناد من كان له على الله أجر، فليقم، قال: فيقوم عنق كثير. قال: فقال:
ما أجركم على الله، فيقولون: نحن الّذين عفونا عمّن ظلمنا، وذلك قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بإذن الله» [187] «1» .
إِنَّهُ إنّ الله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. قال ابن عباس: الّذين يبدءون بالظلم. لقوله تعالى:
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ. فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ.
مبتدئين به. وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ.
فلم يكاف. إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وحزمها. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ يهديه أو يمنعه من عذاب الله.
__________
(1) الدر المنثور: 6/ 11.(8/323)
وَتَرَى الظَّالِمِينَ الكافرين. لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ رجوع إلى الدّنيا.
مِنْ سَبِيلٍ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي على النّار خاشِعِينَ خاضعين متواضعين مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ذليل قد خفي من الذّلّ. قاله ابن عباس، وقال مجاهد وقتادة والسدّي والقرظي: سارقو النظر.
واختلف العلماء باللغة في وجه هذه الآية، فقال يونس: من بمعنى الياء، مجازه: بطرف خفيّ، أي ضعيف من الذل والخوف، وقال الأخفش: الطرف العين، أي ينظرون من عين ضعيفة، وقيل: إنّما قال: مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ لأنه لا يفتح عينه إنّما ينظر ببعضها، وقيل معناه:
ينظرون إلى النّار بقلوبهم لأنّهم يحشرون عميا، والنظر بالقلب خفيّ.
وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ دائم. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ طريق للوصول «1» إلى الحقّ في الدّنيا والجنّة في العقبى، قد انسدت عليه طرق الخير. اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ بالإيمان والطاعة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ. ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ معقل. يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ منكم يغير ما بكم.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً فلا يكون له ولد ذكر.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي، حدثنا محمد بن الحسين الفرج، حدثنا أحمد بن الخليل القومي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حكيم بن حزام أبو سمير، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذّكر، وذلك إنّ الله تعالى يقول: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ
. ألا ترى إنّه بدأ بالإناث قبل الذّكور»
[188] «2» .
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فلا يكون له أنثى. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً يجمع بينهما فيولد له الذّكور والإناث. تقول العرب: زوّجت وزوجت الصغار بالكبار. أي قرنت بعضها ببعض.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا طلحة وعبيد، قالا: حدثنا ابن مجاهد، حدثنا الحسين بن علي ابن العباس، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبيد الله، عن إسماعيل بن سلمان، عن أبي عمر،
__________
(1) في المخطوط: إلى الوصول.
(2) كنز العمال: 16/ 611/ ح 46046، وتفسير القرطبي: 16/ 48 بتفاوت في المصدرين. [.....](8/324)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
عن ابن الحنيفة في قوله تعالى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً. قال: التوائم.
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً فلا يلد ولا يولد له.
أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا إسحاق بن بشر، في قول الله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً قال: نزلت في الأنبياء (عليهم السلام) ثمّ عمّت، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يعني لوطا (عليه السلام) لم يولد له ذكر إنّما ولد له ابنتان. وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ويعنى إبراهيم (عليه السلام) لم يولد له أنثى أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً يعني النبي صلّى الله عليه وسلم ولد له بنون وبنات وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً يعني يحيى وعيسى (عليهم السلام) .
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.
أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد بن محمد المخلدي إملاء، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك ابن محمد بن عدي، حدثنا عمار بن رجاء وعلي بن سهل بن المغيرة، قالا: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا ابن وهب، حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا أبو حمزة السّكري المروزي، عن إبراهيم الصائغ عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة «رضي الله عنها» .
قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ أولادكم هبة [الله] لكم يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ [فهم] وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها» [189] «1» .
قال علي بن الحسن: سألني يحيى بن معين عن هذا الحديث «2» .
[سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ الآية وذلك
إنّ اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فإنّا لا نؤمن لك حتّى تفعل ذلك. فقال صلّى الله عليه وسلم: «لم «3»
__________
(1) نصب الراية: 3/ 569، والدر المنثور: 6/ 12، وفيه: فهم وأموالكم.
(2) كذا في المخطوط، ولم نجده في المصادر، وعلي بن الحسن هو ابن شقيق راوي الحديث.
(3) أسباب نزول الآيات: 252، زاد المسير: 7/ 87.(8/325)
ينظر موسى إلى الله» [190] فأنزل الله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ.
إِلَّا وَحْياً يوحي إليه كيف يشاء إما بالإلهام أو في المنام. أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ بحيث يسمع كلامه ولا يراه كما كلم موسى (عليه السلام) أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. إليه من ملائكة، إما جبريل وإما غيره. فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ.
قرأ شيبة ونافع وهشام (أَوْ يُرْسِلُ) برفع اللام على الابتداء (فَيُوحِي) بإسكان الياء، وقرأ الباقون بنصب اللام والياء عطفا بهما على محلّ الوحي لأنّ معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلّا أن يوحي أو يرسل.
إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ وَكَذلِكَ أي وما أوحينا إلى سائر رسلنا كذلك. أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. قال الحسن: رحمة. ابن عباس: نبوة. السدّي: وحيا. الكلبي: كتابا. ربيع:
جبريل. ملك بن دينار: يعني القرآن، وكان يقول: يا أصحاب القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم فإنّ القرآن ربيع القلوب كما الغيث ربيع الأرض.
ما كُنْتَ تَدْرِي قبل الوحي. مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ يعني شرائع الإيمان ومعالمه.
وقال أبو العالية: يعني الدعوة إلى الإيمان، وقال الحسين بن الفضل: يعني أهل الإيمان من يؤمن ومن لا يؤمن، وقال محمد بن إسحاق بن جرير: الإيمان في هذا الموضع الصلاة.
دليله قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «1» .
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً وحّد الكتابة وهما اثنان: الإيمان والقرآن لأن الفعل في كثرة أسمائه بمنزلة الفعل، ألا ترى إنّك تقول إقبالك وإدبارك يعجبني فيوحّدوه وهما اثنان.
وقال ابن عباس: (وَلكِنْ جَعَلْناهُ) يعني الإيمان، وقال السدّي: يعني القرآن.
نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي لترشد وتدعوا. إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، حدثنا أحمد بن محمد بن شاذان، حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا صالح بن محمد، قال: سمعت أبا معشر يحدّث، عن سهل بن أبي الجعداء وغيره. قال: احترق مصحف فلم يبق إلّا قوله سبحانه وتعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ وغرق مصحف فامتحى كلّ شيء فيه إلّا قوله: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.
__________
(1) سورة البقرة: 143.(8/326)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
سورة الزخرف
مكّية، وهي تسع وثمانون آية، وثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف
أخبرنا ابن المقري، أخبرنا ابن مطر، حدثنا ابن شريك، حدثنا ابن يونس، حدثنا سلام بن سليم، حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي أمامة الباهلي، عن أبي بن كعب. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الزّخرف كان ممن يقال له يوم القيامة: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ادخلوا الجنّة بِغَيْرِ حِسابٍ» [191] «1» .
قوله تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا. أي أنزلناه وسميناه وبيّناه ووصفناه.
كقوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ «2» ، وقوله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «3» ، وقوله: جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ «4» ، وقوله تعالى:
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 9/ 66.
(2) سورة المائدة: 103.
(3) سورة الزخرف: 19.
(4) سورة الحجر: 91.(8/327)
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ «1» . كلّها بمعنى الوصف والتسمية ويستحيل أن يكون بمعنى الخلق. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ يعني هذا الكتاب. فِي أُمِّ الْكِتابِ يعني اللوح المحفوظ الّذي عند الله تعالى منه ينسخ، وقال قتادة: أصل الكتاب وجملته.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا مكي بن عيدان، حدثنا عبد الله بن هاشم بن حيان، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا هاشم الدستوائي، حدثني القاسم بن أبي يزه، حدثني عروة بن عامر القريشي، قال: سمعت ابن عباس يقول: إنّ أول ما خلق الله تعالى القلم وأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق والكتاب عنده ثمّ قرأ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً
. اختلفوا في معناه. فقال قوم: أفنضرب عنكم العذاب ونمسك ونعرض عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم، وهذا قول مجاهد والسدي، ورواية الوالبي عن ابن عباس. قال: أفحسبتم إنّه يصفح عنكم ولما تعقلوا ما أمرتم به، وقال آخرون: معناه أفنمسك عن إنزال القرآن ونتركه من أجل أنّكم لا تؤمنون به فلا ننزله ولا نكرره عليكم، وهذا قول قتادة وابن زيد.
وقال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين ردّه أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة. أو ما شاء الله من ذلك.
وقال الكلبي: أفنترككم سدى لا نأمركم ولا ننهاكم. الكسائي: أفنطوي عنكم الذكر طيّا، فلا تدعون ولا توعظون.
وهذا من فصيحات القرآن، والعرب تقول لمن أمسك عن الشيء وأعرض عنه: ضرب عنه صفحا، والأصل في ذلك إنّك إذا أعرضت عنه ولّيته صفحة عنقك، قال كثير:
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت «2»
أي معرضة بوجهها، وضربت عن كذا وأضربت، إذا تركته وأمسكت عنه.
أَنْ كُنْتُمْ قرأ أهل المدينة والكوفة إلّا عاصما أن تكتب الألف على معنى إذ. كقوله:
وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «3» ، وقوله: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «4» .
وقرأ الآخرون بالفتح على معنى لأنّ كنتم أرادوا على معنى المضي كما يقول في الكلام:
أسبّك إن حرمتني، يريد إذا حرمتني. قال أبو عبيدة: والنّصب أحبّ إليّ لأنّ الله تعالى عاتبهم على ما كان منهم وعلمه قبل ذلك من فعلهم.
__________
(1) سورة التوبة: 19.
(2) غريب الحديث: 2/ 168، لسان العرب: 2/ 515.
(3) سورة البقرة: 278.
(4) سورة النور: 33.(8/328)
قَوْماً مُسْرِفِينَ مشركين متجاوزين أمر الله. وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ. أي وما كان يأتيهم. مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كاستهزاء قومك بك. يعزّي نبيه صلّى الله عليه وسلم فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً قوة. وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ صفتهم وسنتهم وعقوبتهم.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بمقدار حاجتكم إليه. فَأَنْشَرْنا فأحيينا. بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً. كَذلِكَ أي كما أحيينا هذه البلدة الميتة بالمطر كذلك. تُخْرَجُونَ من قبوركم أحياء.
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ الأصناف. كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ذكر الكناية لأنّه ردها إلى ما، وقال الفراء: أضاف الظهور إلى الواحد لأنّه ذلك الواحد في معنى الجمع كالجند والجيش والرهط والخيل ونحوها من أسماء الجيش.
ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطبقين ضابطين قاهرين وهو من القرآن، كأنّه أراد وما كنا مقاومين له في القوة.
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ لمنصرفون في المعاد.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري، حدثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شنبه، حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن علي بن ربيعة، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم، إنّه كان إذا وضع رجله في الركاب، قال: «بسم الله» فإذا استوى على الدابة. قال: «الحمد لله على كلّ حال سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ» [192] ، وكبّر ثلاثا وهلل ثلاثا «1» .
وقال قتادة: في هذه الآية يعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك والأنعام تقولون:
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ «2» .
وَجَعَلُوا يعني هؤلاء المشركين لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أي نصيبا وبعضا.
وقال مقاتل وقتادة: عدلا وذلك قولهم للملائكة هم بنات الله تعالى.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ.
__________
(1) كتاب الدعاء للطبراني: 248.
(2) سورة المؤمنون: 29. [.....](8/329)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 16 الى 35]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20)
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ أخلصكم وخصصكم. بِالْبَنِينَ نظيره قوله تعالى:
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً «1» .
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا يعني البنات. دليلها في النّحل ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ من الحزن والغيظ.
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا قرأها أهل الكوفة بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على غير تسمية الفاعل. أي يربي غيرهم يَنْشَؤُا بفتح الياء وجزم النون وتخفيف الشين، أي ينبت ويكبر.
فِي الْحِلْيَةِ في الزينة، يعني النساء. قال مجاهد: رخّص للنساء في الحرير والذهب، وقرأ هذه الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني، حدثنا يحيى بن جعفر بن أبي طالب، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي، حلّ لأناثهم» [193] «2» .
__________
(1) سورة الإسراء: 40.
(2) فتح الباري: 10/ 250، منتخب مسند عبد بن حميد: 193.(8/330)
وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ للحجة من ضعفهنّ وسفههنّ. قال قتادة في هذه الآية: قلما تتكلم امرأة بحجّتها إلّا تكلمت الحجة عليها، وفي مصحف عبد الله (وهو في الكلام غير مبين) .
وقال بعض المفسرين: عني بهذه الآية أوثانهم الّتي كانوا يعبدونها ويجلّونها ويزينونها وهي لا تتكلم ولا تنبس. قال ابن زيد: هذه تماثيلهم الّتي يضربونها من فضة وذهب، وينشئونها في الحلية يتعبدونها. في محلّ من ثلاثة وجوه: الرفع على الابتداء. والنصب على الإضمار، مجازه: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا يجعلونه ربّا أو بنات الله، والخفض ردّا على قوله: مِمَّا يَخْلُقُ وقوله:
بما صرت ...
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة عباد الرحمن بالألف والياء!، وأختاره أبو عبيد قال: لأن الإسناد فيها أعلى ولأنّ الله تعالى إنما كذبهم في قوله: «بنات الله» فأخبر إنّهم عبيده وليسوا بناته، وهي قراءة ابن عباس.
أخبرنا محمد بن نعيم، أخبرنا الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز، أخبرنا القاسم بن سلام، حدثنا هيثم عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، إنّه قرأها عِبادُ الرَّحْمنِ.
قال سعيد: فقلت لابن عباس: إنّ في مصحفي عبد الرّحمن. فقال: امسحها واكتبها عِبادُ الرَّحْمنِ، وتصديق هذه القراءة، قوله بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «1» ، وقرأ الآخرون عند الرّحمن بالنون واختاره أبو حاتم، قال: لأن هذا مدح، وإذا قلت: عِبادُ الرَّحْمنِ وتصديقها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «2» .
أَشَهِدُوا أحضروا خَلْقَهُمْ حتّى يعرفوا إنّهم أناث، وقرأ أهل المدينة أُشْهِدُوا على غير تسمية الفاعل أي أحضروا. خَلْقَهُمْ حين خلقوا. سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ على الملائكة إنّهم بنات الله وَيُسْئَلُونَ عنها.
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ يعني الملائكة في قول قتادة ومقاتل والكلبي، وقال مجاهد: يعني الأوثان، وإنّما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضا منا بعبادتها. قال الله تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ فيما يقولون إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يكذبون.
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل هذا القرآن. فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ دين. وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ وقراءة العامة (أُمَّةٍ) بضم الألف، وهي
__________
(1) سورة الأنبياء: 26.
(2) سورة الأعراف: 206.(8/331)
الدين والملة، وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد أِمَّةٍ بكسر الألف واختلفوا في معناها، فقيل:
هي الطريقة والمقصد من قولهم أممت، وقيل: هي النعمة. قال عدي بن زيد: ثمّ بعد الفلاح والملك والأمة وأريهم هناك القبور، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد.
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ مستنون متبعون.
قالَ قراءة العامة على الأمر، وقرأ ابن عامر على الخبر ومثله روى حفص بن عاصم.
أَوَلَوْ جاءَكُمْ بالألف أبو جعفر. الباقون جِئْتُكُمْ على الواحد. بِأَهْدى بدين أصوب. مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ أي بريء، ولا يثنّى البراء ولا يجمع ولا يؤنث لأنّه مصدر وضع موضع النعت، وفي قراءة عبد الله (بريء) بالياء. مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي خلقني، ومجاز الآية: إِنَّنِي بَراءٌ من كلّ معبود إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ إلى دينه. وَجَعَلَها يعني هذه الكلمة والمقالة كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ قال مجاهد وقتادة: يعني لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وقال القرظي: يعني وجعل وصية إبراهيم الّتي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته وهي الّتي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ «1» ، وقال ابن زيد: يعني قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «2» وقرأ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ «3» .
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ من كفرهم إلى الطاعة ويتوبون بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ في الدّنيا فلم أهلكهم ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم. حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن، وقال الضحاك:
الإسلام. وَرَسُولٌ مُبِينٌ يبين لهم الأعلام والأحكام وهو محمد صلّى الله عليه وسلم.
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. يعني من إحدى القريتين ولم يختلفوا في القريتين إنّهما مكّة والطائف، واختلفوا في الرجلين من هما. قال ابن عباس: الوليد بن المغيرة من مكّة وكان يسمى ريحانة قريش، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من الطائف.
وقال مجاهد: عتبة بن الربيع من مكّة وابن عبد ياليل الثقفي من الطائف. قتادة: هما الوليد بن المغيرة المخزومي، وأبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي، وقال السدي: الوليد بن المغيرة وكنانة بن عبد عمرو بن عمير.
__________
(1) سورة البقرة: 132.
(2) سورة البقرة: 131.
(3) سورة الحج: 78.(8/332)
قال الله سبحانه وتعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نبوته وكرامته فيجعلونها لمن شاءوا. نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا ملكا وهذا مملوكا، وقرأ ابن عباس وابن يحيى (معايشهم) وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي ليسخّر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ويستخدمونهم ليكون بعضهم لبعض سبب المعاش في الدّنيا، هذا بماله وهذا بأعماله هذا قول السدي وابن زيد، وقال قتادة والضحاك: يعني ليملك بعضهم بعضا فهذا عبد هذا، وقيل: يسخر بعضهم من بعض، وقيل: يتسخر بعضهم بعضا.
وَرَحْمَتُ رَبِّكَ يعني الجنّة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ في الدنيا من الأموال وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً مجتمعين على الكفر فيصيروا كلّهم كفّارا. هذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن زيد: يعني: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً في طلب الدّنيا واختيارها على العقبى.
لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد ويحيى بن وثاب سَقْفاً بفتح السين على الواحد ومعناه الجمع اعتبارا بقوله: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ «1» ، وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع. يقال سقف وسقّف مثل رهن ورهّن. قال أبو عبيد: ولا ثالث لهما، وقيل: هو جمع سقيف، وقيل: هو جمع سقوف وجمع الجمع. وَمَعارِجَ أي مصاعد ومراقي ودرجا وسلاليم، وقرأ أبو رجاء العطاردي (ومعاريج) وهما لغتان واحدهما معراج مثل مفاتح ومفاتيح.
عَلَيْها يَظْهَرُونَ يعلون ويرتقون ويصعدون بها، ظهرت على السطح إذا علوته. قال النابغة الجعدي:
بلّغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا «2»
أي مصعدا.
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً من فضة وَسُرُراً من فضة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً أي ولجعلنا لهم مع ذلك وَزُخْرُفاً وهو الذهب نظير بيت مزخرف، ويجوز أن يكون معناه من فضة وزخرف فلما نزع الخافض نصب.
وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا شدده عاصم وحمزة على معنى وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا «3» ، وخففه الآخرون على معنى. ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا «4» فتكون [لغة] الواصلة وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ للمؤمنين.
__________
(1) سورة النحل: 26.
(2) لسان العرب: 4/ 529،
(3) سورة الزخرف: 35.
(4) سورة آل عمران: 14.(8/333)