وتعذرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم، رغبوا عني وتخلّفوا عن الغزو مع المسلمين» فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلّم فأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك فتصدّق بها عنا وطهّرنا واستغفر لنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» [53] فأنزل الله عزّ وجل:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية «1» .
واختلفوا في أعداد هؤلاء الناس وأسمائهم فروى علي بن ابي طلحة عن ابن عباس قال:
كانوا عشرة رهط منهم أبو لبابة، وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم أبو [منية] : منهم هلال وأبو لبابة وكردم ومرداس وأبو قيس، وقال قتادة والضحاك: كانوا سبعة منهم جد بن قيس وأبو لبابة وجذام وأوس، كلّهم من الأنصار.
وقال عطية عن ابن عباس: كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة، وقال آخرون: نزلت في أبي لبابة واختلفوا في ذنبه. فقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين قال لقريظة: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى رقبته، وقد مضت القصة في سورة الأنفال. فندم وتاب فأقرّ بذنبه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
قال الزهري: نزلت في تخلّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك فربط نفسه بسارية فقال:
والله لا أحل نفسي منها ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ. فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتّى خرّ مغشيا عليه فأنزل الله تعالى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية فقيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة فقال: والله لا أحل نفسي منها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يحلّني، فجاء النبي صلى الله عليه وسلّم فحلّه بيده، ثمّ قال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أبرّ دار قومي التي أصبت بها الذنب وأن انخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال: «يجزيك يا أبا لبابة الثلث» [54] «2» .
قالوا جميعا: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم منهم ثلث أموالهم وترك الإثنين لأن الله عزّ وجلّ قال: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ ولم يقل: أموالهم، فذلك لم يأخذ كلها.
وقال الحسن وقتادة: هؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلّفوا تطهرهم بها من ذنوبهم والقراءة بالرفع حالا لا جوابا، أي خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً مطهرة ومزكّية كقول الحطيئة:
متى تأته تعشو الى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقف
__________
(1) أسباب نزول الآيات: 174.
(2) جامع البيان للطبري: 11/ 22. [.....](5/89)
وقرأ مسلمة بن محارب: تطهِّرْهم وتزكيهم بالجزم على الجواب، وقرأ الحسن: تُطْهِرُهُمْ خفيفة من أطهر تطهير وَتُزَكِّيهِمْ أي تطهرهم، وقيل: تصلحهم، وقيل: ترفعهم من منازل المنافقين الى منازل المخلصين، وقيل: هي أموالهم.
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي استغفر لهم وادع لهم، وقيل: هو قول الوالي إذا أخذ الصدقة: آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت، والصلاة في اللغة الدعاء ومنه
قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا دعي أحدكم الى طعام فليجبه فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل»
[55] «1» أي فليدع، وقال الأعشى:
وقابلها الريح في دنّها ... وصلّي على دنّها وارتسم «2»
أي دعا لها بالسلامة والبركة.
وقال أيضا:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... نوما فإن لجنب المرء مضطجعا «3»
إِنَّ صَلاتَكَ قرأ أهل الكوفة: صلاتك على الواحد «4» هاهنا وفي سورة هود «5» والمؤمنين بإضماره.
أبو عبيد قال: لأن الصلاة هي من الصلوات، وروى ذلك عن ابن عباس، ألا تسمع الله يقول: أَقِيمُوا الصَّلاةَ فهذه صلاة الأبد، والصلوات للجمع كقوله: صليت صلوات أربع وخمس صلوات، وقرأ الباقون كلها بالجمع واختاره أبو حاتم، قال: ومن زعم أنّ الصلوات من الصلاة لأن الجمع بالتاء قليل فقد غلط، لأن الله تعالى قال: ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «6» وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها «7» لم يرد القليل.
سَكَنٌ لَهُمْ قال ابن عباس: رحمة لهم، وقال قتادة: وقار لهم، وقال الكلبي: طمأنينة لهم إن الله قد قبل منهم «8» ، وقال معاذ: تزكية لهم منك، أبو عبيدة: تثبيت.
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 507.
(2) الصحاح للجوهري: 5/ 1933.
(3) معاني للقرآن للنحاس: 1/ 84.
(4) في تفسير القرطبي: التوحيد.
(5) قوله تعالى: (أَصَلاتُكَ)
. (6) سورة لقمان/ 27.
(7) سورة التحريم/ 12.
(8) في زاد المسير: 3/ 337 نسبه لأبي صالح عن ابن عباس.(5/90)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
شعبة عن عمرو بن مرّة عن عبد الله بن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقاتهم قال: «اللهم صلّ عليهم» ، فأتيته بصدقتي فقال:
«اللهم صلّ على أبي أوفى» قال ابن عباس: ليس هذا صدقة الفرض، إنما هو كصدقة كفارة اليمين، وقال عكرمة: هو صدقة الفرض. فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يذنبوا متخلّفين:
هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم؟ فقال الله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الآية
ومعنى أخذ الصدقات. قبولها.
الشافعي عن سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال:
سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب قوته ولا يقبل الله [عمله] ولا يصعد الى السماء إلّا طيّب إلّا كان إنما يضعها في يدي الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى أن [اللقمة] لتأتي يوم القيامة وإنها كمثل الجبل العظيم» [56] . ثم قرأ:
أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ
، وتصديق ذلك في كتاب الله المنزل يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ إلى قوله بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
وقال مجاهد: هذا وعيد لهم،
وفي الخبر: لو أتى عبد الله في صخرة لا باب لها ولا كوّة لخرج عمله الى الناس كائنا ما كان «1» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 106 الى 110]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ أي مؤخرون لأمر الله ليقضي فيهم ما هو قاض،
وهم الثلاثة الذين خلفوا وربطوا بالسواري أنفسهم ولم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه فرفق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونهى الناس عن مكالمتهم وأمر نساءهم باعتزالهم حتى شقهم القلق وتهتكهم الحزن وضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ برحبها وكانوا من أهل [بدر، فجعل الناس] يقولون: هلكوا إذا لم ينزل لهم عذر، وجعل آخرون يقولون: عسى أن يغفر الله لهم،
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 28
.(5/91)
فصاروا فرحين لأمر الله لا يدرون يعذبون أو يرحمون حتى تاب الله عليهم بعد خمسين ليلة ونزلت وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً الآية،
قال المفسرون: إنّ بني عمر بن عوف اتخذوا مسجد قبا وبعثوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأتيهم فأتاهم فصلى فيهم فحسدهم إخوتهم بنو غنم ابن عوف، وقالوا: نبني مسجدا ونرسل الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي فيه كما صلى في مسجد إخوتنا وليصلي فيه أبو عامر النعمان الراهب إذا قدم من الشام وكان أبو عامر رجلا منهم وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان قد ترهّب في الجاهلية وتنصّر ولبس المسوح. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الذي جئت به؟ قال: «جئت بالحنيفيّة دين إبراهيم» ، قال أبو عامر: فأنا عليها قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «فإنك لست عليها» قال: بلى ولكنك أدخلت في الحنيفيّة ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية» ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلّم:
أمات الله الكاذب منّا طريدا وحيدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «آمين» ، وسمي العامر الفاسق. فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله الى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج الى الروم يستنصر وأرسل الى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب الى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه، وذلك قوله تعالى: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فبنوا مسجدا الى جنب مسجد قبا وكان الذين بنوه اثنا عشر رجلا: خذام بن خالد ومن داره أخرج المسجد، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو الأرعد، وعباد بن حنيف، وحارثة بن عامر، [وجارية وابناه] «1» مجمّع وزيد، ونبتل بن الحارث. ولحاد بن عثمان، ووديعة ابن ثابت، وكان يصلي بهم مجمع بن يسار، فلما فرغوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يتجهز الى تبوك، وقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه وتدعو بالبركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إني على جناح السفر ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه» [57] .
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من تبوك ونزل [بذي أوان] بلد بينه وبين المدينة ساعة، فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن فأخبره الله عزّ وجلّ خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي قاتل حمزة وقال لهم: «انطلقوا الى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه» فخرجوا سريعا حتى أتوا سالم بن عوف وأتوا رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لهم: انتظروا حتى آتي لكم بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجوا ينشدون
__________
(1) التصحيح من أسباب النزول للواحدي: 175.(5/92)
حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدّموه وتفرّق عنه أهله وامر النبي صلى الله عليه وسلّم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والدنس والقمامة، ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا غريبا وفيه يقول كعب بن مالك:
معاذ الله من فعل الخبيث ... كسعيك في العشيرة عبد عمرو
فاما قلت بأن لي شرف ونخل ... فقدما بعت إيمانا بكفر «1»
قال عكرمة: سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم ماذا أعنت في هذا المسجد فقال: أعنت في سارية فقال عمر: أبشر بها في عنقك في نار جهنم.
ويروى أنّ بني عمر بن عوف الذين بنوا مسجد قبا سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمّهم في مسجدهم فقال: لا ولا نعمة عين أليس هو مسجد الضرار، فقال له مجمّع: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ. فو الله لقد صليت فيه واني لا أعلم ما أضمروا عليه، ولقد علمت ما صلّيت معهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا ثبوتا قد رغبوا وكانوا لا يعلمون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب منعوا شيئا إلّا أنهم يتضرعون الى الله ولم أعلم ما في أنفسهم.
فعذره عمر وصدّقه وأمره بالصلاة في مسجد قبا.
فهذا قصة مسجد الضرار الذي أنزل الله عزّ وجلّ فيه وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً قرأه العامة بالواو، وقول أهل المدينة والشام بغير الواو، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام.
قال عطاء: لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم ألّا يتخذوا في مدينتهم مسجدين مجاورا أحدهما لصاحبه.
وروى ليث أن شقيقا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا بعد. قال: لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي الى مسجد ضرار «2» .
وَكُفْراً نفاقا وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يفرقون به جماعتهم لأنهم كانوا يصلون جمعا في مسجد قبا فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم دون مسجد قبا وبعضهم في مسجد قبا فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا وَإِرْصاداً وانتظارا وإعدادا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلّم الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام ويظهر على رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) .
__________
(1) القصّة بطولها مذكورة في أسباب النزول للواحدي 175، وزاد المسير: 3/ 339، والشعر في السيرة النبوية لابن هشام: 2/ 424.
(2) تفسير الطبري: 11/ 36.(5/93)
قرأ الأعمش وإرصادا للذين حاربوا الله وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا ما أردنا إِلَّا الْحُسْنى إلّا الفعلة الحسنى وهي للمرضى المسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المسير الى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم وحلفهم ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً. لَمَسْجِدٌ اللام فيه لام الابتداء والقسم تقديره والله لمسجد أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أى بني أصله وابتدئ بناؤه مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي من أول يوم بني، وقيل معناه: منذ أول يوم وضع أساسه. قال المبرد: قيل في معنى البيت من حج وأمن دهر. أي من هو حج وأمن دهر، وأنشأ زهير:
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حج، ومن دهر «1»
منذ حج ومنذ دهر. أَحَقُّ أولى أَنْ تَقُومَ فِيهِ مصليا، واختلفوا في المسجد الذي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ما هو؟ فقال قوم: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي فيه منبره وقبره.
أخبرنا عبد الله بن حامد وأخبرنا العبدي. حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا الجماني، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عثمان بن عبد الله بن ابي رافع عن ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري قالوا: المسجد الذي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) . يدل عليه ما
روى حميد الخراط عن ابي سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الرحمن حدثه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في بيت بعض نسائه قال: فقلت: يا رسول الله اي المسجد الذي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى؟ فأخذ كفّا من الحصى فضرب به الأرض. ثم قال: «هو مسجدكم هذا مسجد المدينة» .
وروى أنس بن ابي يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال العوفي: هو مسجد قبا، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك فقال: هو هذا، يعني مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) .
قال ابن يزيد وابن زيد وعروة بن الزبير: هو مسجد قبا، وهي رواية علي بن أبي طلحة وعطية عن ابن عباس.
فِيهِ ومن حضر رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من الأحداث والنجاسات بالماء، قال الكلبي: هو غسل الأدبار بالماء، وقال عطاء: كانوا يستنجون بالماء لا ينامون بالليل على الجنابة.
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأهل قبا لما نزلت هذه الآية: «إن الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم في الطهور فما هو؟» [58] قالوا: إنا نستنجي بالماء «2» .
__________
(1) الصحاح للجوهري: 6/ 2209، ولسان العرب: 4/ 170 بذكر الصدر.
(2) كنز العمال: 13/ 7 ح 33709. [.....](5/94)
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ اي المتطهرين فأدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما.
قال يزيد بن عجرة: أتت الحمّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في صورة جارية سوداء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من أنت؟» قالت: أم ملدم انشف الدم، وآكل اللحم وأصفر الوجه وارقق العظم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «فاقصدي الأنصار فإن لهم علينا حقوقا» فحمّ الأنصار.
فلما كان الغد قال: «ما للأنصار؟» قال: فحموا عن آخرهم. فقال: «قوموا بنا نعودهم» فعادهم وجعل يقول: «أبشروا فإنها كفارة وطهور» [59] .
قالوا: يا رسول الله ادعوا الله أن يديمها علينا [أعواما] «1» حتى تكون كفّارة لذنوبنا، فأنزل الله تعالى عليهم فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بالحمى عن معاصيهم وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ من الذنوب.
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ اختلف القراء به فقرأ نافع وأهل الشام: أُسِّسَ بُنْيانُهُ بضم الهمزة والنون على غير تسمية الفاعل، وذكر أبو حاتم عن زيد بن ثابت، وقرأ عمارة بن صايد: آسَسَ بالمد وفتح السين والنون في وزن آمن، وكذلك الثانية وآسس واسّس واحد افعل وفعل يتقاربان في التعدية.
وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد السين الاولى على تسمية الفاعل واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وقرأ عيسى بن عمر تَقْوًى مِنَ اللَّهِ منوّنا وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا أي شفير وقال أبو عبيد: الشفا الحد وتثنيته: الشفوان.
جُرُفٍ قرأ عاصم وحمزة بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتثقيل وهما لغتان وهو البئر التي لم تطؤ. قال أبو عبيدة: هو الهوّة وما يجرفه السيل من الأودية هارٍ أي هائر وهو الساقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرمل والشيء الرخو. يقال هو من المقلوب يقلب ويؤخر ياؤها فيقال هار [ولات] كما يقال شاكي السلاح وشائك السلاح وعاق وعائق، قال الشاعر:
ولم يعقني عن هواها عاق.
وقيل: هو من هار يهار إذا انهدم مثل: خاف يخاف، وهذا مثل لضعف نيّاتهم وقلّة بصيرتهم في علمهم فَانْهارَ فانتثر يقال: هار وانهار ويهور بمعنى واحد إذا سقط وانهدم ومنه قيل تهوّر الليل إذا ذهب أكثره، وفي مصحف أبيّ: فانهارت به قواعده فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
__________
(1) في المخطوط: الماء.(5/95)
قال قتادة: والله [ما تنامى] أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت بقعة فيها فرأى الدخان يخرج منه قال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار، وقال خلف بن ياسين الكوفي: حججت مع أبي في زمان بني أمية فرأيت في المدينة مسجد القبلتين يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقبا وفيه قبلة بيت المقدس، فلما كان زمان أبي جعفر قالوا:
يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة فهدّم البناء الذي بني على يدي عبد الصمد بن عليّ، ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة «1» .
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً شكّا ونفاقا فِي قُلُوبِهِمْ يحسبون أنهم كانوا ببنائه محسنين كما حبب العجل إلى قوم موسى. قال ابن عباس: شكا ونفاقا، وقال الكلبي: حبّبه وزيّنه لأنّهم زعموا أنهم لا يتبعونه، وقال السدي وحبيب والمبرد: لأنّ الله هدم بنيانهم الذي بنوا حزازة في قلوبهم إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ تتقطع قلوبهم فيموتوا كقوله تعالى: لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «2» لأن الحياة تنقطع بانقطاع القلب.
وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم: إلى أن تقطع، خفيفة على الغاية، يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة، لا يزالون في شك منهم إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبيّنوا.
واختلف القراء في قوله تَقَطَّعَ. قال أبو جعفر وشيبة وابن عامر وحمزة والمفضل وحفص: تَقَطَّعَ بفتح التاء والطاء مشددا، يعني تقطع ثم حذفت إحدى التائين، وقرأ يحيى بن كثير ومجاهد ونافع وعاصم وأبو عمرو والكسائي تُقَطَّعَ بضم التاء وتشديد الطاء على غير تسمية الفاعل وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، وقرأ يعقوب تُقْطَعَ بضم التاء خفيفة من القطع.
وروي عن ابن كثير (تَقْطَعَ) بفتح التاء خفيفة قُلُوبَهُمْ نصبا أي تفعل أنت ذلك بهم، وقرأ ابن مسعود والأعمش ولو قطعت قلوبهم.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 405.
(2) سورة الحاقة: 46.(5/96)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
[سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 114]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ
قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفسا. قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: «اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» ، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟
قال: «الجنة» [60] «1» .
وقال الأعمش: الجنة وهي قراءة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قال إبراهيم النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل على معنى فيقتل بعضهم ويقتل الباقون، وقرأ الباقون: بتقديم الفاعل على المفعول وَعْداً نصب على المصدر عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ثم هنّأهم فقال عزّ من قائل:
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ قال قتادة: ثامنهم وأغلى ثمنهم، وقال الحسن: أسمعوا بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن، والله ما على وجه الأرض مؤمن إلّا دخل في هذه البيعة.
قال: ومرّ أعرابي بالنبي صلى الله عليه وسلّم وهو يقرأ هذه الآية قال: كلام من هذا؟ قال: كلام الله.
قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو فاستشهد «2» .
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي. قال: أنشدنا أبو الحسن العقيلي. أنشدنا بشر بن موسى الأسدي. أنشدني الأصمعي عن جعفر الصادق (رضي الله عنه) .
أثامن بالنفس النفيسة ربها ... فليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها تشترى الجنات إن أنا بعتها ... بشيء سواها إن ذلكم غبن
إذا أذهبت نفسي بدنيا أصبتها ... فقد ذهب الدنيا وقد ذهب الثمن «3»
وكان الصادق يقول: أيا من ليست له قيمة أنه ليس لأبدانكم إلّا الجنة فلا تبيعوها إلّا بها.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 11/ 49.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 8/ 268.
(3) راجع تفسير القرطبي: 8/ 268، وفيه بدل الشطر الأخير:
لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن.(5/97)
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي. أنشدنا القاضي أبو الربيع محمد بن علي. أنشدنا أبو علي الحسن بن عاصم الكوفي:
من يشتري قبة في العدن عالية ... في ظل طوبى رفيعات مبانيها
دلالها المصطفى والله بايعها ... فمن أراد وجبريل يناديها
ثم وصفهم فقال التَّائِبُونَ أي هم التائبون، وقرأ ابن مسعود التائبين العابدين بالنصب آخرها، قال المفسرون: تابوا من الشرك وبرأوا من النفاق الْعابِدُونَ المطيعون الذي أخلصوا فيه الشهادة.
وقال الحسن وقتادة: هم قوم اتخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم فعبدوا الله على أحايينهم كلها في السراء والضراء الْحامِدُونَ الله على كل حال في كل نعمة السَّائِحُونَ الصائمون.
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «السائحون الصائمون» [61] «1» .
وروى شيبان بن عبد الرحمن عن الأشعث قال: سألت سعيد بن جبير عن السائحين فقال:
هم الصائمون ألم تر أنّ الله عزّ وجلّ إذا ذكر الصائمين لم يذكر السائحين وإذا ذكر السائحين لم يذكر الصائمين.
قال سفيان بن عيينة: أما إنّ الصائم سائح لأنه تارك اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح.
وقال الشاعر في الصوم:
تراه يصلي ليله ونهاره ... يظل كثير الذكر لله سائحا «2»
وقال الحسن: السَّائِحُونَ الذين صاموا عن الحلال وأمسكوا عن الحرام وهاهنا والله أقوام رأيناهم يصومون عن الحلال ولا يمسكون عن الحرام فالله ساخط عليهم، وقال عطاء:
السَّائِحُونَ الغزاة والمجاهدون، وعن عمرو بن نافع. قال: سمعت عكرمة وسئل عن قول الله تعالى: السَّائِحُونَ قال: هم طلبة العلم الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ يعني المصلين الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ قال بسام بن عبد الله: المعروف السنّة والمنكر البدعة.
وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ قال ابن عباس: القائمون على طاعة الله، وقال الحسن: أهل
__________
(1) جامع البيان للطبري: 11/ 52.
(2) فتح القدير: 2/ 408.(5/98)
الوفاء ببيعة الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية، واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية.
فروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلّم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أي عم إنك أعظم الناس عليّ حقا وأحسنهم عندي [قولا] ولأنت أعظم عليّ حقا من والدي فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي يوم القيامة. قل: لا إله إلا الله احاجّ لك بها عند الله» .
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى كان آخر شيء تكلم به: أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لأستغفر لك يا عم الله» [62] فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية، ونزلت إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «1» الآية «2» .
قال الحسن بن الفضل: وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلّم بمكة.
وقال عمرو بن دينار: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي. فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلّم لعمّه.
فأنزل الله تعالى هذه الآية «3» .
وروى جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن محمّد بن كعب [قال حدثنا محمد بن عبد الوهاب أخبرنا جعفر بن عون] «4» قال: بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه الذي قبض فيه، قالت قريش له: يا أبا طالب أرسل إلى ابن أخيك فيرسل إليك من هذه الجنّة فيكون لك شفاء، فخرج الرسول حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبو بكر معه جالس فقال زيد: إنّ عمك يقول لك يا ابن أخي إني كبير وشيخ ضعيف فادعوا إليّ من جنتك هذه التي تذكر من طعامها وشرابها شيء يكون لي فيه شفاء.
__________
(1) سورة القصص: 56.
(2) المستدرك 2/ 336.
(3) قال ابن حجر في فتح الباري: «وهذا فيه إشكال لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقا، وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وسلّم) أتى قبر امه لما اعتمر فاستأذن ربّه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية، والأصل عدم تكرار النزول» ثم ذكر عدة روايات في ذلك من طرق مختلفة إلى أن قال: «فهذه طرق يعضد بعضها بعضا وفيها دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب،..، ويؤيد تأخير النزول ما تقدم في تفسير براءة من استغفاره (صلى الله عليه وسلّم) للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك ... » انتهى كلامه (فتح الباري: 8/ 391، تفسير سورة القصص ح 4494.
(4) زيادة عن أسباب النزول للواحدي: 177.(5/99)
فقال أبو بكر: إن الله حرّمها على الكافرين. قال: فرجع إليهم الرسول فقال: بلغت محمّدا الذي أرسلتموني به فلم يحر إليّ شيئا فقال أبو بكر: إن الله حرمها على الكافرين قال:
فحملوا أنفسهم عليه حتى أرسل رسولا من عنده فوجد الرسول في مجلسه فقال له مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ طعامها وشرابها» ، ثم قام في أثره حتى دخل معه البيت فوجده مملوءا رجالا فقال: «خلوّا بيني وبين عمي» ، فقالوا: ما نحن بفاعلين وما أنت أحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فجلس إليه فقال: «يا عم جزيت عني خيرا كفلتني صغيرا وحفظتني كبيرا فجزيت عني خيرا. يا عماه أعنّي على نفسك بكلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة، قال: وما هي يا ابن أخي؟
قال: قل لا إله إلّا الله وحده لا شريك له» . قال: إنك لي لناصح، والله لولا أن تعيّر بها بعدي يقال جزع عمك عند الموت لأقررت بها عينك، قال: فصاح القوم: يا أبا طالب أنت رأس الحنيفية ملة الأشياخ لا تحدث نساء قريش أني جزعت عند الموت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«لا أزال أستغفر لك ربي حتى يردّني فاستغفر له بعد ما مات» [63] .
فقال المسلمون: ما منعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت هذه الآية.
والدليل- على ما قيل- أن أبا طالب مات كافرا «1» ما
أخبرنا عبد الله بن حامد قال أخبرنا المزني. قال: حدثنا أحمد بن نجدة حدثنا سعد بن منصور حدثنا أبو الأحوص أخبرنا أبو إسحاق قال: قال علي (عليه السلام) لما مات أبو طالب: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله إن عمك.... «2» ... قال: اذهب فادفنه ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني، فانطلقت فواريته ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وعليّ أثر التراب فدعا لي بدعوات ما يسرني أنّ لي بها ما على الأرض من شيء.
وقال أبو هريرة وبريدة: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلّم مكة أتى قبر أمّه آمنة فوقف عليه حتى حميت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية، فقام وبكى وبكى من حوله فقال: «إني استأذنت ربي أن أزورها فأذن لي واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي فزوروا القبور فإنّها تذكّركم الموت» [64] ، فلم نر باكيا أكثر من يومئذ.
__________
(1) روى ابن إسحاق وابن عساكر وغيرهما سماع العباس عمّ النبي الشهادة: (لا إله إلا الله) من أبي طالب، راجع تاريخ دمشق: 70/ 245 ط. دار إحياء التراث، وسيرة ابن إسحاق: 238، والمواهب اللدنية: 1/ 133، وتاريخ الخميس: 1/ 300.
(2) وذكر كلمة قبيحة على ما قيل، وعلي (عليه السلام) أجل من أن يصدر منه هذا الكلام في حق شخص عادي فكيف تجاه أبيه. [.....](5/100)
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كانوا يستغفرون لأمواتهم المشركين فنزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار فنهاهم ولم ينتهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا،
وقال قتادة: قال رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم ألا نستغفر لهم؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «بلى، وأنا والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» [65] ، فأنزل الله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ أي ما ينبغي للنبي وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.
وقال أهل المعاني: ما كان في القرآن على وجهين أحدهما بمعنى النفي كقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «1» وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «2» والأخرى بمعنى النهي كقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «3» ، وقوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا نهي.
مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ بموتهم على الكفر، وتأوّل بعضهم الاستغفار في هذه الآية على الصلاة. قال عطاء بن أبي رباح: ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلّا عن المشركين «4» كقوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا الآية، ثم عذر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ الآية.
قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : أنزل الله قوله تعالى خبرا عن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم قال: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا «5» . [قال علي:] سمعت فلانا يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت له: أتستغفر لهما مشركان، قال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فرويت ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية «6»
، وأنزل قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «7» وقوله: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ يعني بعد موعده.
وقال بعضهم: الهاء في إيّاه عائدة إلى إبراهيم، وذلك إن أباه وعده أن يسلم فعند ذلك
__________
(1) سورة النمل: 60.
(2) سورة آل عمران: 145.
(3) سورة الأحزاب: 53.
(4) تفسير الطبري: 11/ 61.
(5) سورة مريم: 47.
(6) تفسير الطبري: 11/ 60.
(7) سورة الممتحنة: 4.(5/101)
قال إبراهيم: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي وقال بعضهم: هي راجعة إلى إبراهيم وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه، وهو قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، وقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ الآية، تدلّ عليه قراءة الحسن: وعدها أباه بالباء.
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ [بموت أبيه] تَبَرَّأَ مِنْهُ وقيل: معناه: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ في الآخرة أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، وذلك على ما
روى في الأخبار أن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم يقول يوم القيامة: رب والدي رب والدي، فإذا كانت الثالثة يريه الله فيقول له إبراهيم: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني ولست بتاركك اليوم لشيء فخذ [بحبري] فتعلق به حتى تريد الجواز على الصراط حتى إذا أراد أن يجاوزه به كانت من إبراهيم (عليه السلام) التفاتة فإذا هو بأبيه في صورة ضبع، فتخلّى عنه وتبرأ منه يومئذ
وعلى هذا التأويل يكون معنى الكلام الاستقبال، تقديره: يتبيّن ويتبرأ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ اختلفوا في معناه،
فروى شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل عن الأوّاه فقال: الخاشع المتضرع، وقال أنس: تكلّمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلّم بشيء كرهه فنهاها عمر (رضي الله عنه) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أعرض عنها فإنها أوّاهة» قيل: يا رسول الله وما الأوّاهة؟ قال: «الخاشعة» [66] .
وروى عبد الله بن رباح عن كعب في قول الله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ فقال: كان إذا ذكر النار قال: أوه.
وقال عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير: الأواه الدعّاء، وقال الضحاك: هو الجامع الدعاء.
وروى الأعمش عن الحكم عن يحيى بن الجرار قال: جاء أبو العبيدي رجل من سواد وكان ضريرا إلى ابن مسعود قال: يا عبد الرحمن من يسأل إذا لم يسألك، ما الأوّاه؟ فكأن ابن مسعود رق له فقال: الأواه الرحيم.
وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله، وقال أبو ميسرة: الأواه الرحيم يوم الحشر، عطية عن ابن عباس الأواه المؤمن بالحبشية. علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الأواه المؤمن التواب، مجاهد: الأواه المؤمن [الموقن، وروي عن......] «1» عن ابن عباس وعلي ابن الحكم عن الضحاك، وقال عكرمة: هو المستيقن، بلغة الحبشة، ألا ترى أنك إذا قلت للحبشي الشيء فعرفه قال: أوّه، ابن أبي نجيح: المؤتمن. الكلبي: الأواه: المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفرة الموحشة، وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله،
وروى الحكم عن الحسن بن مسلم بن [ساق] أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلّم فقال:
إنه أوّاه، وقيل: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
__________
(1) كذا في المخطوط.(5/102)
وقال ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دفن ميّتا فقال: «يرحمك الله إن كنت لأواه» [67] ، يعني تلاوة القرآن «1» .
وقيل: هو الذي يجهر صوته بالذكر والدعاء والقرآن ويكثر تلاوته، وكان إبراهيم (عليه السلام) يقول: آه من النار قبل أن لا تنفع آه «2» .
وروى شعبة عن أبي يونس الباهلي عن قاضي كان يجمع الحديث عن أبي ذر قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه، فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «دعه فإنه أواه» [68] . قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح «3» .
وقال النخعي: الأواه: الفقيه، وقال الفراء: هو الذي يتأوه من الذنوب، وقال سعيد بن جبير: الأواه المعلم للخير، وقال عبد العزيز بن يحيى: هو المشفق، وكان أبو بكر (رضي الله عنه) يسمّى الأواه لشفقته ورحمته، وقال عطاء: هو الراجع عن كلمة ما يكره الله، وقال أيضا: هو الخائف من النار، وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقا وفرقا المتضرع يقينا ولزوما للطاعة. قال الزجاج: انتظم قول أبي عبيدة جميع ما قيل: في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوتا من تنفس الصعداء والفعل منه أوه وتأوه، وقال المثقب العبدي:
إذا ما قمت ارحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين «4»
قال الراجز:
فأوه الراعي وضوضا كلبه ... ولا يقال منه فعل يفعل
حَلِيمٌ عمن سبه وناله بالمكروه وقد قيل أنه (عليه السلام) استغفر لأبيه عند وعده إياه وشتمه، وقوله: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا «5» فقال له: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا «6» وقال ابن عباس: الحليم السيد.
__________
(1) تفسير الطبري: 11/ 69.
(2) تفسير القرطبي: 8/ 275.
(3) تفسير الطبري: 11/ 69.
(4) كتاب العين للفراهيدي: 4/ 104.
(5) سورة مريم: 46.
(6) سورة مريم: 47. [.....](5/103)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
[سورة التوبة (9) : الآيات 115 الى 121]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ يقول: وما كان الله [ليحكم] عليكم بالضلال بعد استغفاركم للمشركين قبل أن يتقدم إليكم بالنهي.
وقال مجاهد: بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة، فافعلوا أو ذروا.
وقال مقاتل والكلبي: لما أنزل الله تعالى الفرائض فعمل بها الناس [ثم] نسخها من القرآن وقد غاب [ناس] وهم يعملون للأمر الأول من القبلة والخمر وأشباه ذلك، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ يعني وما كان الله ليبطل عمل قوم عملوا بالمنسوخ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ
قال الضحاك: ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ... حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يأتون وما يذرون إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ثم عظّم نفسه فقال: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني يحكم فيهما بما يشاء يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ قال ابن عباس: ومن تاب الله عليه لم يعذبه أبدا.
واختلفوا في معنى التوبة على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال أهل التفسير: بإذنه للمنافقين في التخلف عنهم، وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام ما كان هو صنف توبتهم ذكر معهم كقوله فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ونحوه وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها. قال جابر: عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء.
قال الحسن: كان الناس من المسلمين يخرجون على بعير يعقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه، كذلك كان زادهم التمر المسوس والشعير والأهالة المنتنة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلّا التمرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من الماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة فمضوا [في قيض شديد] ورسول الله صلى الله عليه وسلّم على صدقتهم ويقينهم.(5/104)
وقال ابن عباس: قيل لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ما في شأن العسرة؟ فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم [إلى قيض شديد] فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى قلنا أن رقابنا ستقطع، حتى أن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى أنّ الرجل سينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) لرسول الله: إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا، قال: «تحب ذلك» ؟ قال: نعم، فرفع يديه ولم يرجع بها حتى أظلت السماء بسحاب ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر «1» .
مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ تميل قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لعظم البلاء، وقرأ العامة: تزاغ، بالتاء ودليله قراءة عبد الله قال: [زغيّهم] «2» ، قراءة حمزة والأعمش والجحدري والعباس بن زيد الثقفي بالياء. قال الأعمش: قرأتها بالياء في نية التأخير وفيه ضمير فاعل ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا يعني تاب على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فلم يخرجوا، وقيل: خلفوا عن توبة أبي لبابة وأصحابه وأرجى أمرهم وقد مضت السنة.
وقرأ عكرمة وحميد: خَلَفُوا بفتح الخاء واللام والتخفيف أي [فدله بعقب] رسول الله صلى الله عليه وسلّم،
وروي عن جعفر بن محمد الصادق (رضي الله عنه) انه قرأ: خالفوا
، وقراءة الأعمش: وعلى الثلاثة المخلفين، وهم كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية كلهم من الأنصار
وروى عبيد عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه عبد الله بن كعب وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره. قال: سمعت أن كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلّم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك غير بدر ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلّم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغيثين لعيرهم فالتقوا من غير موعد كما قال الله عزّ وجلّ، ولعمري أن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الناس لبدر، وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام، ثم لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلّم بعد في غزوة غزاها إلى أن كانت غزوة تبوك وأذن الناس بالرحيل وذلك حين طاب الظلال وطابت الثمار، وكان قلّ ما أراد غزوة إلّا [ورى غيرها] «3» وكان يقول: الحرب خدعة فأراد النبي صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك أن يتأهّب الناس أهبتها وأنا أيسر ما كنت قد جهزت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي الجهاد وأنا في ذلك أصغو إلى الظلال وطيب الثمار فلم أزل كذلك حتى قام النبي صلى الله عليه وسلّم غاديا بالغداة وذلك يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس فأصبح
__________
(1) الدرّ المنثور: 3/ 286.
(2) كذا في المخطوط.
(3) زيادة عن مسند أحمد: 6/ 387.(5/105)
غاديا فقلت: أنطلق غدا إلى السوق أشتري جهازي ثم ألحق بهم فانطلقت إلى السوق من غد فعسر عليّ بعض شأني فرجعت فقلت: أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم، فعسر عليّ بعض شأني أيضا فلم أزل كذلك حتى التبس بي الذنب وتخلّفت عن رسول اله صلى الله سلّم فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة فيحزنني أنّي لا أرى أحدا تخلف إلّا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء وكان الناس كثيرا لا يجمعهم ديوان وكان جميع من تخلّف عن النبي صلى الله عليه وسلّم بضعا وثمانين رجلا ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلّم حتى بلغ تبوك فقال وهو بتبوك جالس: «ما فعل كعب بن مالك؟» [69] .
فقال رجال من قومي: يا نبيّ الله خلّفه راحلته والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل:
بئس ما قلت والله يا نبي الله ما نعلم إلّا خيرا، فبينما هم كذلك إذا همّ برجل مبيضا يزول به السراب فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: كن أبا خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلّم غزوة تبوك وقفل إلى المدينة [جعلت بما أخرج] من سخط النبي صلى الله عليه وسلّم فأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي حتى إذا قيل أن النبي صلى الله عليه وسلّم [مضى يصلي] بالغداة راح عني الباطل وعرفت أن لا أنجو إلّا بالصدق فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم وصلّى في المسجد ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يحلفون له ويعتذرون إليه فيستغفر لهم فقبل منهم علانيتهم ووكّل سرائرهم إلى الله تعالى فدخلت المسجد فإذا هو جالس فلما رآني تبسّم تبسّم المغضب فجئت فجلست بين يديه فقال: «ألم تكن قد ابتعت ظهرك» [70] قلت: بلى يا رسول الله قال: «فما خلّفك» ؟ [71] .
قلت: والله لو كنت بين يديّ أجد من الناس غيرك جلست لخرجته من سخطته بعذر ولقد أوتيت جدلا، ولكن قد علمت يا نبي الله أني أن أخبرك اليوم بقول تجد علي فيه وهو حقّ فإنّي أرجو فيه عفو الله وإن حدّثتك اليوم حديثا ترضى عني فيه وهو كذب أو شك أن يطلعك الله عليه والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذا مني حين تخلفت عنك.
فقال صلى الله عليه وسلّم: «أما هذا فقد صدقكم الحديث قم حتى يقضي الله فيك» .
فقمت فإذا على أثري ناس من قومي فاتبعوني فقالوا: والله ما نعلمك أذنبت ذنبا قبل هذا فهلّا اعتذرت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم حتى يرضى عنك فيه وكان استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلّم لك كافيك من ذنبك ولم تقف نفسك موقفا ما تدري ماذا يقضي لك به؟! فلم يزالوا يؤنّبوني حتى صمّمت أن أرجع فأكذب نفسي فقلت: هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا: نعم، قالوا: هلال بن أمية الواقفي وأبو مرارة بن ربيعة العامري. فذكروا رجلين صالحين قد شهدوا بدرا لي فيهما أسوة فقلت: والله لا أرجع إليه في هذا أبدا، ولا أكذب نفسي قال: ونهى النبي صلى الله عليه وسلّم الناس عن كلامنا [أيها الثلاثة من بين من تخلّف عنه قال: فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد وتنكّر لنا الناس حتى] ما هم بالذين نعرف، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي الحيطان التي نعرف وتنكرت(5/106)
لنا الأرض حتى ما هي الأرض التي نعرف، [وكنت أقوى أصحابي وكنت أخرج فأطوف بالأسواق وآتي المسجد فأدخل فآتي النبي صلى الله عليه وسلّم فأسلّم عليه فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بالسلام، فإذا قمت فأقبلت فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ بمؤخر عينيه وإذا نظرت إليه، واستكان أعرض عني فاستكانا صاحباي فجعلا يبكيان الليل لا يطلعان نفسيهما فلما طال علي ذلك المسلمين من جفوة حتى تسمّرت بظلّة حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فو الله ما ردّ عليّ السلام فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمنّ أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدران فبينا أطوف في السوق إذا برجل نصراني نبطي من نبط أهل الشام جاء بطعام له يبيعه ويقول: من سيدلّ على كعب بن مالك. فطفق الناس يشيرون له إليّ فأتاني فدفع إليّ كتابا من ملك غسّان فإذا فيه: أمّا بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك [ولست بدار مضيعة ولا هوان] فالحق بنا نواسيك، فقلت: هذا من البلاء والشرف فسجّرت التنور فأحرقته فلما مضيت له بغضون ليلة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أتاني فقال: «اعتزل امرأتك» فقلت: أطلقها. قال:
«لا ولكن لا تقربها» وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال فقالت: يا نبي الله إنّ هلال بن أمية شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه قال: «نعم ولكن لا يقربك» .
قالت: يا نبي الله والله ما به حركة لشيء ما زال مكبّا يبكي الليل والنهار. قد كان من أمره ما كان. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ماذا يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب. فلما مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن كلامنا فصلّيت على ظهر بيت لمّا صلّى الفجر وجلست وأنا في المنزلة التي قال الله عزّ وجلّ: ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقت علينا أنفسنا إذ سمعت نداء من جبل سلع أن أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجدا وعلمت أن الله قد جاء بالفرج ثم جاء رجل يركض على فرس وكان الصوت أسرع من فرسه [فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي، فكسوتها إياه ببشارته واستعرت ثوبين فلبستهما] «1» قال: وكانت توبتنا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلّم ثلثي الليل فقالت أم سلمة عشيّتئذ: يا نبي الله ألا تبشر كعب بن مالك. قال: إذا يحطمك الناس ويمنعونكم النوم بسائر الليل وكانت أم سلمة محسنة في شأني حزنى بأمري فاستطلت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقام إلي طلحة ابن عبيد الله يهرول حتى صافحني وقال: «ليهنك توبة الله عليك» ، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره وكان كعب لا ينساها لطلحة.
__________
(1) عن تفسير الطبري، وفي مسند أحمد: فأعطيته ثوبي بشارة ولبست ثوبين آخرين.(5/107)
قال كعب: فلمّا سلمت على رسول الله وقلت: يا نبي الله من عند الله أم من عندك؟
قال: «بل من عند الله» ثم تلا عليهم: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ إلى قوله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ وقلت: يا نبي الله إن من توبتي ألّا أحدث الأصدقاء حتى أنخلع من مالي كلّه صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال: «أمسك عليك بعض مالك فهو أخير لك» [72] ، قلت: فإني أمسك سهمي الذي من خيبر قال: فما أنعم الله عليّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين صدقته أنا وصاحباي أن لا يكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا وأني لأرجو أن لا يكون الله عزّ وجلّ أبلى أحدا في الصدق [منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما ابتلاني والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا] «1» وأني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجلّ فيما بقي
، هذا ما انتهى إلينا من حديث الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا «2» .
حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ المفسرون: أي ضاقت عليهم الأرض برمّتها وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ [ضاقت صدورهم بالهمّ والوحشة] وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ سمعت الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري وإبراهيم بن محمد بن زيد النيسابوري وعبد الله ختن والي بلد العراق يقول: سئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح قال: أن تضيق علينا بما رحبت ويضيق عليه نفسه كتوبة كعب وصاحبه ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إعادة تأكيد لِيَتُوبُوا فهذا بالتوبة منه.
سمعت أبا القاسم بن أبي بكر السدوسي، سمعت أبا سعيد أحمد بن محمد بن رميح الزيدي، سمعت الحسن بن علي الدامغاني يقول: قال أبو يزيد: غلطت في أربعة أشياء: في الابتداء مع الله سبحانه ظننت أني أحبه فإذا هو أحبّني قال الله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ «3» فظننت أني أرضى عنه فإذا هو رضي عني قال الله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وظننت أني أذكره فإذا هو ذكرني قال الله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ «4» وشئت أن أتوب فإذا هو تاب عليّ قال الله تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال نافع: يعني مع محمد وأصحابه. سعيد بن جبير: مع أبي بكر وعمر، ابن جريح وابن حبّان: مع المهاجرين دليله قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ «5» .
أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد الله. محمد بن عثمان بن الحسن. محمد بن الحسين
__________
(1) عن تفسير الطبري.
(2) راجع تفسير الطبري: 11/ 81. 83، ومسند أحمد: 6/ 387. 390.
(3) سورة المائدة: 54.
(4) سورة العنكبوت: 45.
(5) سورة الحشر: 8.(5/108)
ابن صالح. علي بن جعفر بن موسى. جندل بن والق. محمد بن عمر المازني. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال:
مع عليّ بن أبي طالب وأصحابه «1» .
وأخبرني عبد الله محمد بن عثمان. محمد بن الحسن. علي بن العباس المقانعي. جعفر ابن محمد ابن الحسين. أحمد بن صبيح الأسدي. مفضل بن صالح. عن جابر عن أبي جعفر في قوله تعالى وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال: مع آل محمد (صلى الله عليه وسلّم) .
يمان بن رباب: أصدقوا كما صدق الثلاثة الَّذِينَ خُلِّفُوا.
ابن عباس: مع الذين صدقت نياتهم فاستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى تبوك. بإخلاص ونيّة.
قتادة: يعني الصدق في النية وقال: أو الصدق في الليل والنهار والسرّ والعلانية، وكان ابن مسعود يقول: كُونُوا مَعَ! الصَّادِقِينَ وكذا كان يقرأها، وابن عباس (ورضي عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلّم) .
أخبرنا عبد الله بن حامد. عبد الله بن محمد بن الحسين. محمد بن يحيى، وهب بن جرير عن شعيب بن عمرو بن زيد عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: إن الكذب لا يصلح منه جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيته شيئا ثم لا ينجز شيئا اقرءوا إن شئتم الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ هل ترون في الكذب [رخصة] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ظاهره خبر معناه نهي كقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «2» وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ سكان البوادي مزينة وجهينة وأسجح وأسلم وغفار أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إذا غزا وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه.
قال الحسن: يعني لا يرغبون بأنفسهم أن تصيبهم من الشدائد مثل ما يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ في سفرهم ظَمَأٌ عطش، وقرأ عبد بن عمير ظماء بالمدّ وهما لغتان مثل خطا وخطأ وَلا نَصَبٌ ولا تعب وَلا مَخْمَصَةٌ مجاعة فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً أرضا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وطيهم إياها وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا ولا يصيبون من عدوهم شيئا قتلا أو أسرا أو غنيمة أو عزيمة يقال: نلت الشيء فهو منيل إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ قال ابن عباس: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنة إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فإن أصابهم ظمأ سقاهم الله من نهر الحيوان ولا يصيبهم ظمأ بعد، وإن أصابهم
__________
(1) انظر: نظم درر السمطين 91، وشواهد التنزيل للحسكاني: 1/ 342.
(2) سورة الأحزاب: 53.(5/109)
نصب أعطاهم الله العسل من نهر الحيوان [ولا يصيبهم] فيهم النصب، ومن خرج في سبيل الله لم يضع قدما ولا يدا ولا جنبا ولا أنفا ولا ركبة ساجدا ولا راكعا ولا ماشيا ولا نائما في بقعة من بقاع الله إلّا أذن الله له بالشهادة وبالشفاعة.
واختلفوا في حكم هذه الآية، فقال قتادة: وهذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه خلافه إذا لم يكن للمسلمين اليه ضرورة وحاجة.
قال: وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلف سريّة يغزو في سبيل الله لكني لا أجد سعة فانطلق بهم معي ويشق عليّ أن أدعهم بعدي» . [73] «1» .
وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وابن جابر وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: انها لأول هذه الأمة وآخرها.
وقال ابن زيد: هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله وأباح التخلف لمن شاء فقال: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الآية وَلا يُنْفِقُونَ في سبيل الله نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ولو علاقة سوط وَلا يَقْطَعُونَ ولا يتجاوزون وادِياً في مسيرهم مقبلين أو مدبرين إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ يعني آثارهم وخطاهم لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لهم بالثواب ويدخلهم الجنة بغير حساب.
قال ابن عباس: أخبرنا أبو عمر الفراتي بقراءتي عليه أخبرنا أبو موسى أخبرنا مسدّد عن هارون ابن عبد الله الجمّال أخبرنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبد الله عن الحسين عن علي ابن أبي طالب وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: ومن أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه وأنفق في وجه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» ثم تلا هذه الآية وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «2» .
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 502.
(2) سورة البقرة: 261، والحديث في سنن ابن ماجة: 2/ 922 ح 2761.(5/110)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الآية
قال ابن عباس في رواية الكلبي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا خرج غازيا لم يتخلف إلّا المنافقون والمعذرون فلما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين ومن نفاقهم في غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلّف عن غزوة بعدها يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا عن سرية أبدا.
فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسرايا إلى الجهاد ونفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحده بالمدينة فأنزل الله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً يعني ليس لهم أن يخرجوا جميعا إلى العدو ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحده.
فَلَوْلا نَفَرَ فهلّا خرج مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ قبيلة مِنْهُمْ طائِفَةٌ جماعة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يعني الفرقة القاعدين فإذا رجعت السرايا وقد نزلت بعدهم قوله تعالى: الْقاعِدُونَ. قالوا لهم إذا رجعوا: قد أنزل الله على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمنا فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيّهم من بعدهم ويبعث سرايا أخر فذلك لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ وليعلمونهم الأمر لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ولا يعملون خلافه.
وقال الحسن: هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة ومعنى الآية: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ أي ليتبصّروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ من الكفار إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ من الجهاد فيخبروهم بنصر الله النبي والمؤمنين، ويخبرونهم أنهم لا يدان «1» لهم بقتال النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ قتال النبي صلى الله عليه وسلّم فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار.
قال الكلبي: ولها وجه آخر: ذكر أن أحياء من بني أسد بن خزيمة أصابتهم [سنة شديدة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر فقدموا] حتى نزلوا بالمدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فأنزل الله تعالى هذه الآية «2» .
وقال مجاهد: في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا
__________
(1) لا يدان: لا طاقة. [.....]
(2) أسباب النزول للواحدي: 266 وما بين المعكوفين منه.(5/111)
وخصبا ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى. قال الناس لهم: ما نراكم إلّا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرج وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ويستمعوا ما أنزل إليهم وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ الناس كلهم إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ويدعوهم إلى الله لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ بأس الله ونقمته باتباعهم وطاعتهم، وقعدت طائفة تريد المغفرة.
وقال عكرمة: لما نزلت إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ الآية قال المنافقون من أهل البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرجوا إلى البدو إلى قومهم ليفقهوهم، فأنزل الله تعالى في المعذر لأولئك هذه الآية.
وروى عن عبد الرزاق بن همام في قوله فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ قال: هم أصحاب الحديث.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب.
قال ابن عباس: مثل قريظة والنضير وخيبر وفدك ونحوها.
ابن عمر: أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ، والشام كانت أقرب إلى المدينة من العراق.
وكان الحسن إذا سئل عن قتال الروم والديلم تلا هذه الآية «1» .
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً شدة وحمية، وقال الضحاك: جفاء، وقال الحسن: صبرا على جهادهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر.
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ قراءة العامة: برفع الياء لمكان الهاء وقرأ عبيد بن عمير: أَيَّكُمْ بفتح الياء وكلّ صواب زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً يقينا وإخلاصا وتصديقا.
وقال الربيع: خشية وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بنزول القرآن. عن الضحاك عن ابن عباس: (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) يعني سورة محكمة فيها الحلال والحرام فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وتصديقا بالفرائض مع إيمانهم بالرحمن
__________
(1) وقيل العرب قاله ابن زيد، راجع زاد المسير: 3/ 351.(5/112)
وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بنزول الفرائض وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك ونفاق فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفرا إلى كفرهم وضلالا إلى ضلالهم وشكا إلى شكهم.
وقال مقاتل: إثما إلى أثمهم وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ قال مجاهد في هذه الآية: الإيمان يزيد وينقص، وقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : لو وزن إيمان أبو بكر (رضي الله عنه) بإيمان أهل الأرض لرجحهم، بلى إن الإيمان ليزيد وينقص، قالها ثلاث مرات.
وروى زيد الشامي عن ذر قال: كان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول:
تعالوا حتى نزداد إيمانا.
قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب كلما ازداد الإيمان عظما ازداد ملك الناس حتى يبيض القلب كله، وأن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب فكلما إزداد النفاق إزداد ذلك السواد فيسود القلب كله. فأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود.
وكتب الحسن إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : إن للإيمان تشاد شرائع وحدود وفرائض من استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.
وقال ابن المبارك عن الحسن: إلّا قرابة بزيادة الإيمان أو أردّ كتاب الله تعالى.
أَوَلا يَرَوْنَ قرأ العامة بالياء خبرا عن المنافقين المذكورين، وقرأ حمزة ويعقوب: أولا ترون بالتاء على خطاب المؤمنين، وهي قراءة أبي بن كعب. قرأ الأعمش: أولم تر، وقرأ طلحة: أولا ترى وهي قراءة عبد الله بن عمر أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ يختبرون فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قال: يكذبون كذبة أو كذبتين يصلون فيه، وقال مجاهد: يُفْتَنُونَ بالقحط والغلاء، عطية:
بالأمراض والأوجاع وهي روائد الموت.
قتادة: بالغزو والجهاد، وقيل: بالعدوّ، وقيل: يُفْتَنُونَ فيعرفون مرة وينكرون بأخرى. مرّة الهمداني: يُفْتَنُونَ يكفرون. مقاتل بن حيان: يفضحون بإظهار نفاقهم. عكرمة: ينافقون ثم يؤمنون ثمّ ينافقون كما أنهم ينقضون عهدهم في سنة مرة أو مرتين «1» ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نقضهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [بما صنع الله بهم]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا انقضوا عهودهم بعث إليهم السرايا فيقتلونهم.
الحسن: يُفْتَنُونَ بالجهاد في سبيل الله مع رسوله ويرون تصديق ما وعده الله من النصر والظفر على من عاداه الله ثُمَّ لا يَتُوبُونَ لما يرون من صدق موعد الله، ولا يتّعظون، الضحاك: يُفْتَنُونَ بالغلاء والبلاء ومنع القطر وذهاب الثمار ثم لا يرجعون عن نفاقهم ولا يتفكرون في عظمة الله، وفي قراءة عبد الله: وما يذكرون.
__________
(1) يراجع زاد المسير: 3/ 353.(5/113)
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها عيب المنافقين وتوبيخهم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ كلام مختصر تقديره نظر بعضهم في بعض وقالوا أو أشاروا هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ إن قمتم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أحدا يراهم قاموا فانصرفوا ثُمَّ انْصَرَفُوا عن الإيمان بها، وقال الضحاك: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ يعني أطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل قال الله صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان بالقرآن بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ قال ابن عباس: لا تقولوا إذا صليتم: انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، لكن قولوا قضينا الصلاة «1» .
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قراءة العامة بضم الفاء أي: من نسبكم تعرفون نسبه وحسبه وأي قبيلة من العرب من بني إسماعيل. قال ابن عباس: ليس في العرب قبيلة إلّا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلّم مضريها وربيعها ويمانيها «2» .
قال الصادق: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.
أخبرنا عبد الله بن حامد، حدثنا حامد بن محمد. علي بن عبد العزيز. محمد بن أبي هاشم حدّثني المدني عن أبي الحويرث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية وما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام»
«3» [74] فإن الله تعالى جعله من أنفسهم، فلا تحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة.
قرأ ابن عباس وابن ثعلبة: عبد الله بن فسيط المكي وابن محيصن والزهري مِنْ أَنْفَسِكُمْ بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم من قولك: شيء نفيس إذا كان مرغوبا فيه. قال يمان: من أعلاكم نسبا عَزِيزٌ شديد عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ما صلة أي عنتكم وهو دخول المشقة والمضرّة عليكم. قال ابن عباس: ما ضللتم. قال الضحاك والكلبي: أثمتم، وقال العتيبي: ما عنتكم وضرّ بكم، وقال ابن الأنباري: ما هلكتم عليه حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على إيمانكم وهداكم وصلاحكم، وقال قتادة: حريص على ضالهم أن يهديه الله، وقال الفراء: الحريص الشحيح أن تدخلوا النار.
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رفيق رَحِيمٌ قيل: رَؤُفٌ بالمطيعين رَحِيمٌ بالمذنبين رَؤُفٌ بعباده رَحِيمٌ بأوليائه. رَؤُفٌ بمن يراه رَحِيمٌ بمن لم يره.
قال عبد العزيز بن يحيى: نظم الآية: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص
__________
(1) تفسير الطبري: 11/ 99. 101.
(2) تاريخ دمشق: 3/ 95 ط. دار الفكر.
(3) المعجم الكبير: 10/ 329 ح 10812.(5/114)
بالمؤمنين رحيم عليه ما عنتم لا يهمه إلّا شأنكم وهو القائم بالشفاعة فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته فإنه لا يرضيه إلّا دخولكم الجنة
لقوله صلى الله عليه وسلّم: «من ترك ما لا فلنؤتينه ومن ترك كلّا ودينا فعليّ وإلىّ» [75] .
فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإيمان وناصبوك فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قراءة العامة بخفض الميم على العرش، وقرأ ابن محيصن: الْعَظِيمُ بالرفع على نعت الربّ، وقال الحسين بن الفضل: لم يجمع الله لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلّا للنبي صلى الله عليه وسلّم فإنه قال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» .
وقال يحيى بن جعدة: قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : لا تثبت آية في المصحف حتى يشهد عليها رجلان فجاء رجل من الأنصار بالآيتين من آخر سورة التوبة لَقَدْ جاءَكُمْ فقال عمر:
والله لا أسألك عليها بيّنة، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأثبتهما، وهي آخر آية نزلت من السماء في قول بعضهم، وآخر سورة كاملة نزلت سورة براءة.
أخبرنا أبو عبد الله بن حامد، عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن حجاج عن همام. عن قتادة قال: إن آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان خاتمة براءة لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى قوله رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
أبي بن كعب: إن أحدث القرآن عهدا بالله تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ إلى آخر السورة.
__________
(1) سورة البقرة: 143.(5/115)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
سورة يونس (ع)
مكية، وهي عشرة آلاف وثمانمائة وتسع وثمانون حرفا، وألفان وخمسمائة كلمة غير واحدة، ومائة وتسع آيات
حدثنا حامد بن أحمد وسعيد بن محمد، ومحمد بن القاسم. قالوا: أخبرنا محمد بن مطر. إبراهيم بن شريك. أحمد بن يونس. سلام بن سليم. هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر ومن الحسنات بعدد من صدّق بيونس وكذّب به، وبعدد من غرق مع فرعون»
[76] صدق رسول الله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)
الر قرئ بالتفخيم والإمالة وبين اللفظين، وكلها لغات صحيحة فصيحة.
ابن عباس والضحاك: أنا الله أرى، وقيل: أنا الرب لا رب غيري. عكرمة والأعمش والشعبي. الر وحم ون حروف الرحمن مقطعة. فإذا وصلت كان الرَّحْمنُ. قتادة: اسم من أسماء القرآن. أبو روق: فاتحة السورة، وقيل: عزائم الله، وقيل: هو قسم كأنّه قال: والله إنّ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ.
قال مجاهد وقتادة: أراد به التوراة والإنجيل والكتب المقدسة، وتلك إشارة إلى غائب مؤنث.
وقال الآخرون: أراد به القرآن وهو أولى بالصواب لأنه لم يخص الكتب المقدمة قبل ذكره(5/116)
ولأن الحكيم من بعث القرآن، دليله قوله: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ «1» ونحوها فيكون على هذا التأويل تِلْكَ يعني هذه وقد مضى القول في هذه المسألة في أول سورة البقرة الْحَكِيمِ المحكوم بالحلال والحرام والحدود والأحكام.
وقال مقاتل: المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف وهو فعيل بمعنى فاعل كقول الأعمش في قصيدته:
وعزيمة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها
وقيل: هو الحاكم فعيل بمعنى فاعل بأنه قرأ: نزل فيهم الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ «2» وقيل: بمعنى المحكوم فيه فعيل بمعنى المفعول.
قال الحسن: حكم فيه بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وحكم فيه بالنهي عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه.
وقال عطاء: حكيم بما حكم فيه من الأرزاق والآجال بما شاء.
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً الآية، قال ابن عباس: لما بعث الله محمدا رسولا أنكرت الكفار وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ أهل مكة والألف للتوبيخ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا ... أَنْ في محل الرفع وأَوْحَيْنا صلة له تقديره أكان للناس عجبا لإيحائنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ محمد، وفي حرف عبد الله: عجيب، بالرفع على اسم كان، وأن في محل نصب على خبره أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أن على محل نصب بقصد الخافض وكذلك الثانية.
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
قال ابن عباس: أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم. قال الضحاك: ثواب صدق. مجاهد:
الأعمال الصالحة، علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: سبقت لهم السعادة في الذكر الأول.
سلف صدق، زيد بن أسلم: محمد صلى الله عليه وسلّم شفيع لهم. يمان: إيمانهم، عطاء: مقام صدق لا زوال فيه ولا بؤس، نعيم مقيم وخلود وخلود لا موت فيه، الحسن: عمل صالح أسلفوه [فأثابهم] عليه، الأعمش: سابقة صدق. أبو حاتم: منزل صدق نظيره وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ «3» عبد العزيز بن يحيى: قَدَمَ صِدْقٍ. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى «4» . الزجاج: منزلة رفيعة، وقيل: هو بعثهم وتقديم الله تعالى هذه الأمة في البعث يوم
__________
(1) سورة هود: 1.
(2) سورة البقرة: 213.
(3) سورة الإسراء: 80.
(4) سورة الأنبياء: 101.(5/117)
القيامة، بيانه
قوله صلى الله عليه وسلّم: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة
، وقيل: عدة الله تعالى لهم، والقدم: القدم كالنقص والقبض وأضيف القدم إلى الصدق وهو [علة] كما قيل: مسجد الجامع، وحقّ اليقين.
قال ابن الأعرابي: القدم المتقدم في الشرف.
قال العجاج:
زل بنو العوام عن آل الحكم ... وتركوا الملك لملك ذي قدم «1»
أي متقدم.
قال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم. يقال: لفلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق، وقدم سوء، وهو مؤنث يقال: قدم حسنة وقدم صالحة. قال حسان بن ثابت:
لنا القدم العليا إليك وخلفنا ... لأوّلنا في طاعة الله تابع «2»
قال ذو الرمّة:
لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العاديّ طمت على البحر «3»
وقال آخر:
قعدت بهم قدم الفجار وذكرت ... أنسابهم من فضة من مالق
أي ما يقدّم لهم من الفجّار.
قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ قال المفسرون: القرآن، وقرأ أهل الكوفة: لَساحِرٌ يعني محمد (صلى الله عليه وسلّم) .
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ قال مجاهد: يقضيه وحده ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أمره ذلِكُمُ اللَّهُ الذي فعل هذه الأشياء رَبَّكُمُ لا ربّ لكم سواه فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ معادكم جَمِيعاً نصب على الحال وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا صدقا لا خلف فيه، وهو نصب على المصدر، أي وعد الله وعدا حقّا فجاء به حقّا، وقيل: على القطع، وقرأ ابن أبي عبلة: وعد الله حق على الاستئناف، ثم قال: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يحميهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم، وقرأ العامة: إِنَّهُ،
__________
(1) لسان العرب: 1/ 103، وفيه: وشنئوا الملك لملك ذي قدم.
(2) تفسير القرطبي: 8/ 307.
(3) جامع البيان للطبري: 11/ 110. [.....](5/118)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
[بكسر الألف على الاستئناف. وقرأ أبو جعفر: أَنَّهُ، بالفتح على معنى: لأنه وبأنه «1» ، كقول الشاعر:
أحقا عباد الله أن لست زائرا «2» ... بثينة أو يلقى الثريا رقيبها «3»
لِيَجْزِيَ ليثيب الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ بالعدل ثم قال: مبتدئا وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ ماء حار قد انتهى حرّه حَمِيمٍ وهو بمعنى محموم فعيل بمعنى مفعول، وكل مسخن مغلي عند العرب فهو حميم. قال المرقش:
وكل يوم لها مقطرة ... فيها كباء معدّ وحميم «4»
وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
[سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 14]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً بالنهار وَالْقَمَرَ نُوراً بالليل. قال الكلبي: تضيء وجوههما لأهل السموات السبع وظهورهما لأهل الأرضين السبع.
[قرأ الأكثرون: ضِياءً بهمزة واحدة] وروي عن ابن كثير: ضئاء بهمزت الياء، ولا وجه لها
__________
(1) في زاد المسير (4/ 7) زيادة: وقرأت عائشة وأبو رزين وعكرمة وأبو العالية والأعمش بفتحها قال الزجاج: من كسر فعلى الاستئناف ومن فتح فالمعنى إليه مرجعكم.
(2) في اللسان: لاقيا.
(3) لسان العرب: 1/ 425.
(4) الكباء: ضرب من العود يتبخّر به، والبيت في لسان العرب: 5/ 107.(5/119)
لأن ياءه كانت واوا مفتوحة، وهي عين الفعل أصله ضواء فسكنت وجعلت ياء كما جعلت في الصيام والقيام وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ أي قدر له بمعنى هيأ له وسوى له منازل لا يجاوزها ولا يقصر دونها.
وقيل: جعل قدر مما يتعدى لمفعولين ولم يقل قدرهما، وقد ذكر الشمس والقمر وفيه وجهان: أحدهما أن يكون الهاء للقمر خاصة بالأهلة يعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس، والآخر أن يكون قد اكتفى بذكر أحدهما من الآخر، كما قال: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» وقد مضت هذه المسألة لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ دخولها وانقضائها وَالْحِسابَ يعني وحساب الشهور والأيام والساعات ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ مثل ما في الفصل والخلق والتقدير، ولولا [وجود] الأعيان المذكور لقال: تلك إِلَّا بِالْحَقِّ لم يخلقه باطلا بل إظهارا لصنعه ودلالة على قدرته وحكمته، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فهذا الحق يُفَصِّلُ الْآياتِ يبيّنها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
قال ابن كثير وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: يُفَصِّلُ بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله قبله ما خَلَقَ اللَّهُ وبعده وَما خَلَقَ اللَّهُ فيكون متبعا له، وقرأ ابن السميقع بضم الياء وفتح الصاد ورفع التاء من الآيات على مجهول الفعل، وقرأ الباقون بالنون على التعظيم.
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ يوقنون فيعلمون ويقرّون.
قال ابن عباس: قال أهل مكة: آتينا بآية حتى نؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا يعني لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا، والرجاء يكون بمعنى الهلع والخوف وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا فاختاروها دارا لهم وَاطْمَأَنُّوا بِها وسكنوا إليها.
قال قتادة في هذه الآية: إذا شئت رأيت صاحب دنيا لها يفرح ولها يحزن ولها يرضى ولها يسخط.
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا أدلتنا غافِلُونَ لا يعتبرون. قال ابن عباس عَنْ آياتِنا محمد والقرآن غافِلُونَ معرضون تاركون مكذبون أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والتكذيب إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ فيه إضمار واختصار أي يهديهم ربهم بإيمانهم إلى مكان تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ قال أبو روق: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ إلى الجنة، قال عطية: يَهْدِيهِمْ ويثيبهم ويجزيهم، وقيل ينجيهم.
__________
(1) سورة التوبة: 62.(5/120)
مجاهد ومقاتل: يَهْدِيهِمْ بالنور على الصراط إلى الجنة يجعل لهم نورا يمشون به.
قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة [حسنة وبشارة حسنة] فيقول له. من أنت فو الله أني لأراك امرأ صدق؟ فيقول له: أنا عملك، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيقول: من أنت فو الله إني لأراك امرء سوء؟ فيقول: أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار «1» .
وقيل: معنى الآية: بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه أي بتصديقهم هداهم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ لم يرد أنها تجري تحتهم وهم فوقها، لأن أنهار الجنة تجري من غير أخاديد «2» . وإنما معناه أنها تجري من دونهم وبين أيديهم وتحت أمرهم كقوله تعالى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا «3» ومعلوم أنه لم يجعل السري تحتها وهي عليه قاعدة وإنما أراد به بين يديها، وكقوله تعالى مخبرا عن فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «4» ، أو من دوني وتحت أمري فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. دَعْواهُمْ قولهم وكلامهم فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ.
قال طلحة بن عبد الله سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم: عن سُبْحانَ اللَّهِ، فقال: هو تنزيه الله من كل سوء
، وسأل ابن الكوّا عليا عن ذلك فقال: كلمة رضيها الله لنفسه «5» .
قال المفسرون: [هذه نعمة علم بين له وعين الخدام في] «6» الطعام فإذا اشتهوا شيئا من الطعام والشراب قالوا: سبحانك اللهم. فيأتوهم في الوقت بما يشتهون على مائدة، فإذا فرغوا من الطعام والشراب حمدوا الله على ما أعطاهم فذلك قوله تعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ قولهم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وما يريد آخر كلام يتكلّمون به ولكن أراد ما قبله.
قال الحسن: بلغني بأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال حين قرأ هذه الآية: «إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس»
«7» . وذلك قوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها في الجنة سَلامٌ يحيّي بعضهم بعضا بالسلام وتأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام.
قال ابن كيسان: يفتحون كلامهم بالتوحيد ويختمون بالتحميد.
__________
(1) بتفاوت في الدر المنثور: 3/ 301.
(2) راجع تفسير الطبري: 1/ 246.
(3) سورة مريم: 24.
(4) سورة الزخرف: 51.
(5) المصدر السابق: 11/ 119.
(6) كذا في المخطوط.
(7) ذيل تاريخ بغداد: 1/ 180.(5/121)
وقرأ العامة: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بالتخفيف والرفع، وقرأ بلال بن أبي بردة وابن محيصن أَنَّ مثقلا الْحَمْدَ نصبا.
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ فيه اختصار ومعناه: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الآية ذهابهم في الشرك اسْتِعْجالَهُمْ بالإجابة في الخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي لفرض من هلاكهم ولماتوا جميعا. قال مجاهد: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب: [اللهم أهلكه، اللهم لا تبارك له فيه والعنه] يتخذها الرجل على نفسه وولده وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له.
شهر بن حوشب. قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول للملكين الموكلين: لا تكتبا على عبدي في حال ضجره شيئا.
وقرأ العامة: لقضي إليهم آجالهم برفع القاف واللام على خبر تسمية الفاعل، وقرأ عوف وعيسى وابن عامر ويعقوب: بفتح القاف واللام، وقرأ الأعمش: لقضينا، وكذلك هو في مصحف عبد الله، وقيل: أنها نزلت في النضر بن الحرث حين قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «1» الآية يدل عليه قوله تعالى: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يخافون البعث والحساب ولا يأملون الثواب فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَإِذا مَسَّ أصاب الْإِنْسانَ الضُّرُّ الشدة والجهد دَعانا لِجَنْبِهِ على جنبه مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فإنما يريد جميع حالاته لأن الإنسان لا يعدو أحد هذه الخلال فَلَمَّا كَشَفْنا رفعنا وفرجنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ أي استمر على طريقته الأولى، قيل: أن يصيبه الضرّ ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء وترك الشكر والدعاء، قال الأخفش: كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا وكَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا وأمثالها، كأن الثقيلة والشديدة كأنه لم يدعنا كَذلِكَ أي كما زيّن لهذا الإنسان الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ الآية زين الجد في الكفر والمعصية ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر والمعصية والإسراف يكون في النفس، وفي قراءة: ضيّع نفسه وجعلها عابد وثن وضيع ماله إذ جعله [سائبا بلا خير] «2» ، ومعنى الكلام أسرفوا في عبادتهم وأسرفوا في نفقاتهم.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني الأمم الماضية. قال ابن عباس: بين القرنين ثمان وعشرون سنة.
لَمَّا ظَلَمُوا أشركوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ أي كما أهلكناهم بكفرهم وتكذيبهم رسلهم نَجْزِي نهلك الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ المشركين تكذيبهم
__________
(1) سورة الأنفال: 32.
(2) كذا الظاهر من المخطوط. [.....](5/122)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
محمد صلى الله عليه وسلّم يخوّف كفّار مكة عذاب الأمم الخالية المكذبة ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد القرون التي أهلكناهم لِنَنْظُرَ لنرى كَيْفَ تَعْمَلُونَ وهو أعلم بهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله استخلفكم فيها فانظر كَيْفَ تَعْمَلُونَ» [77] .
قتادة: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلّا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار والسرّ والعلانية.
وروى ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عوف بن مالك قال لأبي بكر: رأيت فيما يرى النائم كأنّ شيئا دلّي من السماء فانتشط رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أعيد فانتشط أبو بكر (رضي الله عنه) ثم ذرع الناس حول المنبر ففصّل عمر بثلاثة أذرع إلى المنبر، فقال عمر: دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها، فلما استخلف عمر قال: قل يا عوف رؤياك، قال: هل لك في رؤياي من حاجة؟
أو لم تنهوني؟ فقال: ويحك إني كرهت أن تنعى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم نفسه. فقصّ عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس المنبر بهذه الثلاثة الأذرع. قال: أما إحداهن فإنّه كائن خليفة وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم، وأما الثالثة فإنّه شهيد، ثم قال: يقول الله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ إلى قوله لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فقد استخلفت يا ابن أم عمر فانظر كيف تعمل، وأما قوله: فإني لا أخاف في الله لومة لائم فيما شاء الله، وأما قوله: إني شهيد فإنّى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به، ثم قال: إن الله على ما يشاء لقدير.
[سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 20]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا قتادة: يعني مشركي مكة، مقاتل:
هم خمسة نفر: عبد الله بن أمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن عامر بن هاشم. قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم: ائْتِ بِقُرْآنٍ ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وليس فيه عنهما أي بَدِّلْهُ تكلم به من تلقاء نفسك.(5/123)
وقال الكلبي: نزلت في المستهزئين، قالوا: يا محمد ائْتِ بِقُرْآنٍ غيره [ليس فيه ما يغيظنا، أَوْ بَدِّلْهُ] فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة أو آية رحمة آية عذاب أو حرام حلالا أو حلال حراما قُلْ لهم يا محمد ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من قبل نفسي ومن عندي إِنْ أَتَّبِعُ ما أطيع فيما آمركم وأنهاكم إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ أعلمكم بِهِ وقرأ الحسن: ولا أدراتكم «1» به، وهي لغة بني عقيل يحولون الياء ألفا فيقولون: أعطأت بمعنى أعطيت، ولبأت بمعنى لبّيت وجاراة وناصاة للجارية والناصية. فأنشد المفضل:
لقد أذنت أهل اليمامة طيّ ... بحرب كناصاة الأغر المشهر
وقال زيد الخيل:
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقا ... على الأرض قيسيّ يسوق الأباعرا
أي ما بقي، وقال آخر:
زجرت فقلنا لا نريع لزاجر ... إن الغويّ إذا نها لم يعتب
أي نهى «2» .
وروى البري عن ابن كثير ولا دراكم بالقصر على الإيجاب يريد: ولا عملكم به من غير قراءتي عليكم «3» . وقرأ ابن عباس: ولا أدراتكم «4» من الإنذار، وهي قراءة الحسن فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً حينا وهو أربعون سنة مِنْ قَبْلِهِ من قبل نزول القرآن ولم آتكم بشيء أَفَلا تَعْقِلُونَ انه ليس من قبلي.
قال ابن عباس: نبّئ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو ابن أربعون سنة وأقام بمكة ثلاثة عشرة وبالمدينة عشرة وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعم أنه له شريكا أو صاحبة أو ولدا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ محمد والقرآن إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ لا يأمن ولا ينجو المشركون وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ إن عصوه وَلا يَنْفَعُهُمْ أن أطاعوه يعني الأصنام وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ تخبرون اللَّهِ قرأه العامة:
بالتشديد، وقرأ أبو الشمال العدوي: أَتُنْبِئُونَ بالتخفيف وهما لغتان. نبأ ينبئ بنية، وأنبأني إنباء بمعنى فاعل جمعها.
__________
(1) وفي النسبة للحسن خلاف هل: أدرأتكم بالهمزة أم بغير همزة: أدراتكم وله تفصيل راجع تفسير القرطبي:
8/ 321.
(2) تفسير الطبري: 11/ 127.
(3) وهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل.
(4) بتحويل الياء ألفا فالأصل: أدريتكم.(5/124)
قوله تعالى: قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ «1» بِما لا يَعْلَمُ بما لا يعلم الله تعالى صحته وحقيقته ولا يكون فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ومعنى الآية: أتخبرون الله أنّ له شريكا أو عنده شفيعا بغير إذنه ولا يعلم الله أنّ له شريكا في السماوات وَلا فِي الْأَرْضِ لأنه لا شريك له فلذلك لا يعلمه نظيره قوله عزّ وجلّ: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ «2» .
ثم نزّه نفسه فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قرأ يحيى بن ثابت والأعمش وأبو حمزة والكسائي وخلف: تشركون بالتاء هاهنا وفي سورة النحل والروم، وهو اختيار أبي عبيد للمخاطبة التي قبلها، وقرأ الباقون كلها بالياء، واختارها أبو حاتم، وقال: كذلك تعلمناها.
وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً على ملة واحدة الإسلام دين آدم (عليه السلام) إلى أن قتل أحد ابني آدم أخاه فَاخْتَلَفُوا. قاله مجاهد والسدي.
قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فَاخْتَلَفُوا على عهد نوح فبعث الله إليهم نوحا، وقيل: كانوا أمة واحدة مجتمعة على التوحيد يوم الميثاق.
وقيل: أهل سفينة نوح «3» ، وقال أبو روق: كانوا أمة واحدة على ملّة الإسلام زمن نوح (عليه السلام) بعد الغرق، وقال عطاء: كانوا على دين واحد الإسلام من لدن إبراهيم (عليه السلام) إلى أن غيّره عمرو بن يحيى «4» ، عطاء: يدلّ على صحة هذه التأويلات قراءة عبد الله: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً على هدى فَاخْتَلَفُوا عنه، وقال الكلبي: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً كافرة على عهد إبراهيم فَاخْتَلَفُوا فتفرقوا، مؤمن وكافر.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بأن جعل للدنيا مدة لكل أمة أجلا لا تتعدى ذلك، قال أبو روق وقال الكلبي: هي أن الله أخّر هذه الأمة ولا يهلكهم بالعذاب في الدنيا، وقيل: هي أنه لا يأخذ إلّا بعد إقامة الحجة.
وقال الحسن، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ مضت في حكمه أنه لا يقضي فيهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة.
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا فأدخل المؤمنين الجنة بأعمالهم والكافرين في النار بكفرهم ولكنه سبق من الله الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة.
__________
(1) سورة التحريم: 3.
(2) سورة الرعد: 33.
(3) والقائل الواقدي.
(4) هو أول من غير دين إبراهيم (عليه السلام) وعبد الصنم في العرب.(5/125)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
وقال أبو روق: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، لأقام عليهم الساعة، وقيل: الفزع من هلاكهم، وقال عيسى ابن عمر: لَقَضَي بَيْنَهُمْ بالفتح لقوله: مِنْ رَبِّكَ ... فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الذين وَيَقُولُونَ يعني أهل مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي على محمد آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ لهم يا محمد ما سألتموني الغيب إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ما يعلم أحدكم بفعل ذلك إلّا هو، وقيل: الغيب، نزول الآية متى تنزل نزل فَانْتَظِرُوا نزول الآية إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لنزولها، وقيل: فَانْتَظِرُوا قضاء الله بيننا بإظهار الحق على الباطل. وقال الحسن: فَانْتَظِرُوا مواعيد الشيطان وكانوا مع إبليس على موعد فيما يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. فأنجز الله وعده ونصر عبده.
[سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 25]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ يعني الكفار رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ أي راحة ورخاء بعد شدة وبلاء، وقيل: عنى به القطر بعد القحط إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قال مجاهد: استهزاء وتكذيب. مقاتل بن حسان: لا يقولون هذا رزق الله فإنما يقولون: سقينا بنوء كذا «1» وهو قوله:
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «2» قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أعجل عقوبة وأشد أخذا وأقدر على الجزاء، وقال مقاتل صنيعا. إِنَّ رُسُلَنا حفظتنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ قرأ العامة بالتاء لقوله، وقراءة الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب: يمكرون بالياء لقوله: إِذا لَهُمْ وهي رواية هارون عن أبي عمرو «3» .
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يبحر بكم ويحملكم على التسيير، وقرأ أبو جعفر وابن عامر: ينشركم بالنون من النشر، وهو [البسط] في البر على الظهر وفي البحر على الفلك
__________
(1) أي إضافة النعم إلى غير الله.
(2) سورة الواقعة: 82.
(3) وهو هارون العتكي يروي عن أبي عمرو قراءة: يمكرون بالياء.(5/126)
حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أي في السفن يكون واحد أو جمعا، وقرأ عيسى الْفُلُكِ بضم اللام.
وَجَرَيْنَ بِهِمْ يعني جرت السفن بالناس وهذا خطاب تكوين رجع من الخطاب إلى الخبر بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها أي الريح جاءَتْها يعني الفلك وهو جواب لقوله حتى إذا جاءتها رِيحٌ عاصِفٌ شديد يقال: عصفت الريح وأعصفت والريح، مذكر ومؤنث، وقيل: لم يقل:
عاصفة لاختصاص الريح بالعصوف، وقيل: للنسب أي ذات عصوف وَجاءَهُمُ يعني سكان السفينة الْمَوْجُ وهو حركة الماء وأخلاطه مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا وأيقنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ إذا أحاط بهم الهلاك دَعَوُا اللَّهَ هنالك مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ للدعاء دون أوثانهم وكان مفزعهم إلى الله دونها.
روى [الثوري] عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيد في قوله تعالى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ قال: قالوا في دعائهم: أهيا شراهيا «1» وتفسيره: يا حيّ يا قيوم لَئِنْ أَنْجَيْتَنا خلصتنا يا ربنا مِنْ هذِهِ الريح العاصف لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك بالإيمان والطاعة فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر الله فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ الآن وباله راجع إليها وجزاؤه لاحق، وأتم الكلام هاهنا كقوله تعالى:
لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ «2» أي هذا بلاغ وقيل هو كلام متصل، والبغي ابتداء ومتاع خبره، وقوله عَلى أَنْفُسِكُمْ صلة المتاع ومعناه إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ولا يصلح لزاد المعاد لأنّكم استوجبتم غضب الله.
وقرأ ابن إسحاق وحفص: متاعا بالنصب على الحال ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا في فنائها وزوالها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من الحبوب والبقول والثمار وَالْأَنْعامُ من الحشيش والمراعي.
حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها حسنها وبهجتها وَازَّيَّنَتْ هذا قراءة العامة، وتصديقها قراءة عبد الله بن مسعود: وتزينت، وقرأ أبو عثمان النهدي والضحاك: وازّانت على وزن اجّازت قال عوف بن أبي جميلة: كان أشياخنا يقرءونها كذلك «3» وازيانت نحو اسوادّت، وقرأ أبو رجاء وأبو العالية والشعبي والحسن والأعرج: وازينت على وزن أفعلت مقطوعة الألف [بالتخفيف] ، قال قطرب: معناه: أتت بالزينة عليها، كقولهم: أحبّ فأذمّ واذكرت المرأة فأنثت وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أخبر عن الأرض ويعني للنبات إذ كان مفهوما وقيل: ردّه إلى الغلّة وقيل: إلى الزينة أَتاها أَمْرُنا قضاؤنا بهلاكها لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً مقطوعة
__________
(1) راجع تاج العروس: 9/ 394 ففي ضبطها خلاف.
(2) سورة الأحقاف: 35.
(3) راجع تفسير القرطبي: 8/ 327. [.....](5/127)
مقلوعة وهي محصورة صرفت إلى حصيد كَأَنْ لَمْ تَغْنَ تكن، وأصله من غني المكان إذا أقام فيه وعمّره، وقال مقاتل: تغم، وقرأها العامة: تَغْنَ بالتاء لتأنيث الأرض، وقرأها قتادة بالياء يذهب به إلى الزخرف «1» كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ قال قتادة: السلام الله وداره الجنة، وقيل: السلام والسلامة واحد كاللذاذ واللذاذة والرضاع والرضاعة. قال الشاعر:
تحيّى بالسلامة أم بكر ... وهل لك بعد رهطك من سلام «2»
فسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات. قال الله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ «3» ، وقال ذو النون المصري: سميت بذلك لأن من دخلها سلم من القطيعة والفراق، وقيل: أراد به التحية يقال: سلم تسليما وسلاما كما يقال: كلم تكليما وكلاما فسميت الجنة دار السلام لأن أهلها يحيي بعضهم بعضا والملائكة يسلمون عليهم، وقال الحسن: السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم.
وقال أبو بكر الوراق: سميت بذلك لأن من دخلها سلم عليه المولى وذلك أن الله يعلم ما فيه أهل الجنة من ذكر الذنوب والهيبة لعلّام الغيوب فيبدأ هم بالسلام والتحية لهم تقريبا وإيناسا وترحيبا.
قال جابر بن عبد الله خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما فقال: «إني رأيت في المنام كأن جبرائيل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا فقال: اسمع سمعت اذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعوهم إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول، من أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها» [78] «4» .
قال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه فإن أجبته من دنياك دخلتها وإن أجبته من قبرك منعتها ثم قال: وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ عمّ بالدعوة إظهارا لحجته وخصّ بالهداية استغناء عن خلقه، وقيل: الدعوة إلى الدار عامة لأنها الطريق إلى النعمة وهداية الصراط خاصة لأنها الطريق إلى المنعم.
__________
(1) في زاد المسير: يعني الحصيد.
(2) تفسير القرطبي: 8/ 328، وفيه: قومك بدل: رهطك.
(3) سورة الحجر: 46.
(4) سنن الترمذي: 4/ 223.(5/128)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 36]
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف بن يعقوب الفقيه في آخرين قالوا: حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار. الحسن بن عرفة العبدي حدثني سلم بن سالم البلخي عن نوح عن أبيّ عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ فقال: «الذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنّة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم» [79] » .
وهو قول أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) وحذيفة وأبي موسى وصهيب وعبادة بن الصامت وكعب ابن عجرة وعامر بن سعد وعبد الرحمن بن سابط والحسن وعكرمة وأبي الجوزاء والضحاك والسدي وعطاء ومقاتل، يدلّ عليه:
ما
أخبرنا أبو إسحاق بن الفضل القهندري أخبرنا أبو علي الصفار. الحسن بن عرفة. يزيد ابن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال:
قال: رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا لم تروه، قال: فيقولون وما هو؟ ألم تبيضّ وجوهنا وتزحزحنا عن النار وتدخلنا الجنة. قال:
فيكشف الحجاب- تبارك وتعالى- فينظرون إليه- قال: فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم منه [80] «2» .
__________
(1) معاني القرآن للنحاس: 3/ 289.
(2) مسند أحمد: 4/ 332.(5/129)
قال ابن عباس: الذين أَحْسَنُوا الْحُسْنى يعني الذين شهدوا أن لا إله إلّا الله الجنة.
وروى عطية عنه هي أن واحدة من الحسنات واحدة والزيادة التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف «1» .
وروى جويبر عن الليث عن عبد الرحمن بن سابط قال: الحسنى: النظرة، والزيادة:
النظر. قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «2» .
وروى الحكم عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: الزيادة غرفة من لؤلؤ واحدة لها أربعة ألف باب.
مجاهد: الحسنى: حسنة مثل حسنة والزيادة مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، ابن زيد:
الحسنى: الجنة والزيادة ما أعطاهم في الدعاء لا يحاسبهم به يوم القيامة.
حكى منصور بن عمار عن يزيد بن شجرة قال: الزيادة: هي أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتمطرهم من كل النوادر، وتقول لهم: ما تريدون ان أمطركم؟ فلا يريدون شيئا إلّا مطرتهم.
وَلا يَرْهَقُ يغشى ويلحق وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ غبار وهو جمع قترة. قال الشاعر:
متوج برداء الملك يتبعه ... موج ترى فوقه الرايات والقترا «3»
وقال ابن عباس وقتادة: سواد الوجوه، وقرأ الحسن: قَتْرٌ بسكون التاء وهما لغتان كالقدر والقدر وَلا ذِلَّةٌ هوان، وقال قتادة: كآبة وكسوف. قال ابن أبي ليلى: هذا بعد نظرهم إلى ربهم أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها يجوز أن يكون الجزاء مرفوعا بإضمار أي: لهم جزاء، ويجوز أن يكون مرفوعا بالياء، فيجوز أن يكون ابتداء وخبره بمثلها أي: مثلها بزيادة الباء فيها كقولهم: بحسبك قول السوء.
وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ من عذاب الله مِنْ عاصِمٍ أي من مانع، ومن صلة كَأَنَّما أُغْشِيَتْ ألبست وُجُوهُهُمْ قِطَعاً أكثر القراء على فتح الطاء وهو جمع قطعة ويكون «مُظْلِماً» على هذه القراءة نصبا على الحال والقطع دون النعت كأنه أراد قطع من الليل المظلم فلما حذف الألف واللام نصب. يجوز أن يكون مُظْلِماً صفة لقطع- وسط الكلام- كقول الشاعر:
لو أن مدحة حي منشر أحدا
وقرأ أبو جعفر والكسائي وابن كثير قِطَعاً بإسكان الطاء وتكون مُظْلِماً على هذا نعت كقوله: بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، اعتبارا بقراءة أبيّ: كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ
__________
(1) تفسير الطبري: 11/ 141/ 142.
(2) سورة القيامة: 22. 23.
(3) البيت للفرزدق كما في الصحاح: 2/ 785.(5/130)
اثبتوا وقفوا في موضعكم ولا تبرحوا أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ يعني الأوثان فَزَيَّلْنا ميّزنا وفرقنا بين المشركين وشركائهم وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا بذلك حين [اتخذوا] كل معبود من دون الله من خلقه وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ يقولون بلى كنا نعبدكم فيقول الأصنام: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ أي ما كنا عن عبادتكم إيّانا إلّا غافلين، ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل. قال الله تعالى: هُنالِكَ تَبْلُوا أي تخبر وقيل: تعلم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى وحمزة والكسائي (تَبْلُوا) بالتاء «1» ، وهي قراءة ابن مسعود في معنى: وتقرأ.
كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ صحيفتها، وقيل: معناه تتبع ما قدمت من خير وشرّ، وقال ابن زيد [تعاون] وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ [بطل] عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [من الآلهة] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ المطر وَالْأَرْضِ النبات أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ الذي فعل هذه الأشياء فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ أفلا تخافون عقابه في شرككم فَذلِكُمُ اللَّهُ الذي يفعل هذه الأشياء رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ فمن أين تصرفون عن عبادته وأنتم مقرّون كَذلِكَ فسرها الكلبي هكذا في جميع القرآن حَقَّتْ وجبت كَلِمَةُ رَبِّكَ حكمه وعلمه السابق.
وقرأ الأعرج: كلمات عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا كفروا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئ من غير أصل ولا [مثال] ثُمَّ يُعِيدُهُ يحييه بهيئته بعد الموت [أي قل لهم يا محمد ذلك على وجهة التوبيخ والتقرير] «2» فإن أجابوك وإلّا قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عن قصد السبيل قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أوثانكم مَنْ يَهْدِي يرشد إِلَى الْحَقِّ فإذا قالوا: لا، فلا بدّ لهم منه قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أي إلى الحق أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي.
اختلف القراء فيه، فقرأ أهل المدينة: مجزومة الهاء مشدّدة الدال لأن أصله يهتدي فأدغمت التاء في الدال وتركت الهاء على [السكون] في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله:
(تَعُدُّوا ويَخِصِّمُونَ) .
وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الهاء وتشديد الدال وقلبت الياء المدغمة الى الهاء، فاختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ عاصم وورش بكسر الهاء وتشديد الدال فرارا من التقاء الساكنين.
[لأن الجزم إذا اضطر إلى حركته] تحول إلى الكسر. قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر.
__________
(1) أي تتلو، راجع زاد المسير: 4/ 25.
(2) أثبتناه من تفسير القرطبي: 8/ 341.(5/131)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
وروى يحيى ابن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الهاء والياء وتشديد الدال [لإتباع] الكسر الكسر وقيل: هو على لغة من يقرأ نَعْبُدُ ونَسْتَعِينُ ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ ونحوها، وقرأ أبو عمرو بين الفتح والجزم على مذهبه في الإخفاء، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: بجزم الهاء وتخفيف الدال على معنى يهتدي، يقال: هديته فهدى أي اهتدى فقال: خبرته فخبر ونقصته فنقص.
إِلَّا أَنْ يُهْدى في معنى الآية وجهان: فصرفها قوم إلى الرؤساء والمظلين. أراد لا يرشدون إلّا أن يرشدوا وحملها الآخرون على الأصنام، قالوا: وجه الكلام والمعنى لا يمشي إلّا أن يحمل وينتقل عن مكانه إلّا أن ينقل كقول الشاعر:
للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه «1»
يريد حيث يحمل فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ تقضون لأنفسكم وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا منهم إنها آلهة وأنها تشفع لهم في الآخرة وأراد بالأكثر الكل إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ.
[سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 52]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
__________
(1) البيت لطرفه كما في الصحاح: 6/ 2534.(5/132)
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الفراء: معناه وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى كقوله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «1» وقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «2» ، وقال الكسائي: أن في محل نصب الخبر ويفترى صلة له وتقديره: وما كان هذا القرآن مفترى، وقيل: أن بمعنى اللام أي وما كان القرآن ليفترى من دون الله وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ تمييز الحلال من الحرام والحق من الباطل لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ أي يقولون.
قال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو أي ويقولون افتراه، اختلق محمّد القرآن من قبل نفسه.
قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ شبيه القرآن وقرأ ابن السميقع: بِسُورَةِ مِثْلِهِ مضافة، فتحتمل أن تكون الهاء كناية عن القرآن وعن الرسول وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ممن تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ ليعينوكم على ذلك، وقال ابن كيسان: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ على المخالفة ليعينوكم، وقال مجاهد: شهداءكم بمعنى ناسا يشهدون لكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنّ محمدا افتراه.
ثم قال: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ يعني القرآن وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ تفسيره.
وقال الضحاك: يعني عاقبته وما وعد الله في القرآن انه كائن من الوعيد والتأويل ما يؤول إليه الأمر.
وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن (من جهل شيئا عاداه؟) فقال: نعم في موضعين بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وقوله: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ «3» كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم الخالية فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي كما كذب هؤلاء المشركون بالقرآن كذلك كذب في هذا وبشّر المشركون بالهلاك والعذاب وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي ومن قومك من سيؤمن بالقرآن وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ لعلم الله السابق فيهم وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ الذين لا يؤمنون وَإِنْ كَذَّبُوكَ يا محمد فَقُلْ لِي عَمَلِي الإيمان وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ الشرك أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ.
قال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية الجهاد، ثم أخبر أن التوفيق للإيمان به لا بغيره، وأن أحدا لا يؤمن إلّا بتوفيقه وهدايته، وذكر أن الكفار يستمعون القرآن وقول محمد صلى الله عليه وسلّم فينظرون إليه ويرون أعلامه وأدلته على نبوته ولا ينفعهم ذلك ولا يهتدون لإرادة الله وعلمه فيهم فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ بأسماعهم الظاهرة أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ
__________
(1) سورة آل عمران: 161.
(2) سورة التوبة: 122. [.....]
(3) سورة الأحقاف: 11.(5/133)
بأبصارهم الظاهرة أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ وهذا تسلية من الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم يقول ما لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع، ولا تقدر أن تخلق للأعمى بصرا يهتدي به فكذلك لا تقدر أن توفقهم للإيمان وقد حكمت عليهم أن لا يؤمنوا إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً لأنه في جميع أفعاله عادل.
وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر والمعصية وفعلهم ما ليس لهم أن يفعلوا [وألزمهم] ما ليس للفاعل أن يفعله.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا قال الضحاك: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ قصرت الدنيا في أعينهم من هول ما استقبلوا، وقال ابن عباس: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في قبورهم إلّا قدر ساعة مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ حين بعثوا من القبور يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ يا محمد في حياتك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ في الآخرة ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ مجزيهم به.
قال المفسرون: فكان البعض الذي أراه قبلهم ببدر وسائر العذاب بعد موتهم وَلِكُلِّ أُمَّةٍ خلت رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ فكذبوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي عذبوا في الدنيا واهلكوا بالحق والعدل.
وقال مجاهد ومقاتل: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ يوم القيامة قُضِيَ بينه وبَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ولا ينقصون من حسناتهم ويزادوا على سيئاتهم وَيَقُولُونَ أي المشركون مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي وعدتنا يا محمد من العذاب.
وقيل: قيام الساعة إِنْ كُنْتُمْ أنت يا محمد وأتباعك صادِقِينَ. قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً لا أقدر لها على ضرّ ولا نفع إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن أملكه لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدة [وأجل] إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ وقت [انتهاء] أعمارهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ يتأخرون ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. قُلْ لهم إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ الله بَياتاً ليلا أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ المشركون وقد وقعوا فيه أَثُمَّ هنالك وحينئذ، وليس بحرف عطف إِذا ما وَقَعَ نزل العذاب آمَنْتُمْ بِهِ صدقتم بالعذاب في وقت نزوله.
وقيل: بأنه في وقت البأس آلْآنَ فيه إضمار أي، وقيل: أنّهم الآن يؤمنون وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ وتكذبون ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أشركوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ اليوم إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في الدنيا.(5/134)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
[سورة يونس (10) : الآيات 53 الى 61]
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ ويستخبرونك يا محمد أَحَقٌّ هُوَ ما تعدنا من العذاب وقيام الساعة قُلْ إِي كلمة تحقيق وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ لا شك فيه وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فأتيقن وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ أشركت ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ يوم القيامة وَأَسَرُّوا وأخفوا النَّدامَةَ على كفرهم لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وفرغ من عذابهم وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ إلى قوله قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ تذكرة مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ ودواء لِما فِي الصُّدُورِ إلى قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ.
قال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله.
وقال ابن عمر: فضل الله الإسلام وَبِرَحْمَتِهِ تزيينه في القلب.
خالد بن معدان: فضل الله الإسلام وَبِرَحْمَتِهِ السنّة.
الكسائي: فضل الله النعم الظاهرة، ورحمته النعم الباطنة. بيانه: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً.
أبو بكر الوراق: فضل الله النعماء وهو ما أعطى وجنى ورحمته الآلاء وهي ما صرف.
وروى ابن عيينة فضل الله التوفيق ورحمته العصمة.
سهل بن عبد الله: فضل الله الإسلام ورحمته السنة.
الحسين بن الفضل: فضل الله الإيمان ورحمته الجنة.
ذو النون المصري: فضل الله دخول الجنان ورحمته النجاة من النيران.
عمر بن عثمان الصدفي: فضل الله كشف الغطاء ورحمته الرؤية واللقاء.
وقال هلال بن يساف ومجاهد وقتادة: فضل الله الإيمان ورحمته القرآن فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الأموال قرأ العامة كلاهما بالياء على الخبر، وقرأهما أبو جعفر:(5/135)
بالتاء وذكر ذلك عن أبي بن كعب، وقرأ الحسين ويعقوب: فلتفرحوا بالتاء خطابا للمؤمنين يدل عليه
قول النبي صلى الله عليه وسلّم في بعض مغازيه «لتأخذوا [مصافكم] [81] ويجمعون»
بالياء خبرا عن الكافرين قُلْ يا محمد لكفار مكة أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ خلق الله لَكُمْ عبّر عن الخلق بالإنزال لأن ما في الأرض من خيراتها أنزل من السماء مِنْ رِزْقٍ زرع أو ضرع فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا وهو ما حرموا من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
قال الضحاك: هو قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً «1» الآية قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في هذا التحريم والتحليل أَمْ بل عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وهو قولهم: اللَّهُ أَمَرَنا بِها وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم ولا يعاتبهم عليه إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ منّ على الناس حين لا يعجل عليهم بالعذاب بافترائهم وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ. وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ عمل من الأعمال، وجمعه:
شؤون، قال الأخفش: يقول العرب ما شأنك شأنه، أي لمّا عملت على عمل وَما تَتْلُوا مِنْهُ من الله مِنْ قُرْآنٍ ثم خاطبه وأمته جميعا فقال: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أي تأخذون وتدخلون فيه، والهاء عائدة على العمل، يقال: أفاض فلان في الحديث وفي القول إذا أبدع فيه.
قال الراعي:
وأفضن بعد كظومهن بجرة ... من ذي الأبارق إذ رعين حقيلا «2»
قال ابن عباس: تُفِيضُونَ تفعلون، الحسن: تعملون، الأخفش: تكلمون، المؤرّخ:
تكثرون، ابن زيد: تخرصون. ابن كيسان: تنشرون. يقال: حديث مستفيض، وقيل: تسعون.
وقال الضحاك: الهاء عائدة إلى القرآن أي تستمعون في القرآن من الكذب. قيل: من شهد شهود الحق قطعا ذلك عن مشاهدة الأغيار أجمع وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ قال ابن عباس: فلا يغيب، أبو روق: يبعد، وقال ابن كيسان يذهب «3» .
وقرأ يحيى والأعمش والكسائي: يَعْزِبُ بكسر الزاء وقرأ الباقون: بالضم وهما لغتان [صحيحتان] مِنْ مِثْقالِ من صلة معناه وما يعزب عن ربك مثقال ذرة أو وزن ذرة [وهي النملة الحمراء الصغيرة] ، يقول العرب: [خذ] هذا، فإنهما أثقل مثقالا وأخفها مثقالا أي وزنا فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ قرأ الحسن وابن أبي يحيى وحمزة برفع
__________
(1) سورة الأنعام: 136.
(2) تاج العروس: 5/ 72.
(3) راجع تفسير القرطبي: 8/ 356.(5/136)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
الراء فيهما عطفا على موضع المثقال فبرّر دخول من، وقرأ الباقون بفتح الراء عطفا على الذرة ولا مثقال أصغر وأكبر إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بمعنى اللوح المحفوظ.
[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ثم وصفهم فقال الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ قال ابن زيد: فلن يقبل الإيمان إلّا بالتقوى، واختلفوا فيمن يستحق هذا الاسم.
فروى سعيد بن جبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه سئل عن أولياء الله تعالى فقال: «هم الذين يذكر الله لرؤيتهم» «1» .
وقال عمر (رضي الله عنه) في هذه الآية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بإيمانهم عند الله تعالى، قالوا: يا رسول الله خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبّهم؟ قال: هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام منهم ولا أموال يتعاطونها، والله ان وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [82] «2» .
قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر [عمش] العيون من العبر خمص البطون من الخواء «3» يبس الشفاه من الذوي «4» .
__________
(1) تفسير الطبري: 11/ 170.
(2) الصحاح: 3/ 1100.
(3) في نهج البلاغة وتفسير القرطبي: الجوع.
(4) الذوي: من لا يصيبه ريه، أو يضر به الحر فيذبل يقال: أذواه العطش، وفي تاريخ دمشق: من الظمأ، وفي نهج البلاغة: من الدعاء.(5/137)
وقال ابن كيسان: [هم الذين] تولى الله هداهم بالبرهان الذي أتاهم وتولّوا القيام بحقّه والدعاء إليه. هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.
عن عبادة بن الصامت قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلّم عن قول الله عزّ وجلّ: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
. قال: «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له» [83] .
وعن عطاء بن يسار عن أبي الدرداء أنه سئل عن هذه الآيةهُمُ الْبُشْرى
قال: لقد سألت عن [شيء] ما سمعت أحدا سأل عنه بعد أن سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«ما سألني عنها أحد قبلك منذ نزل الوحي، هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له وفي الآخرة الجنة» [84] «1» .
وعن يمان بن عبيد الراسبي قال: حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا نبوة بعدي إلّا المبشرات» .
قيل: يا رسول الله وما المبشرات؟. قال: «الرؤيا الصالحة» [85] «2» .
محمد بن سيرين عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا قال: والرؤيا ثلاثة: فرؤيا بشرى من الله ورؤيا من الشيء يحدث الرجل به نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان، والرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. فإذا رأى أحدكم ما يكره فلا يقصّه فليقم وليصل، قال: وأحبّ القيد في النوم وأكره الغل، القيد ثبات في الدين» «3» .
وقال عبادة بن الصامت: قلت: يا رسول الله الرجل يحبّه القوم لعمله ولا يعمل مثل عمله.
قال صلى الله عليه وسلّم: «تلك عاجل بشرى المؤمن» «4» .
وقال الزهري وقتادة: هي البشارة التي يبشر بها المؤمن بالدنيا عند الموت، وقال الضحاك: هي أن المؤمن يعلم أين هو قبل أن يموت، وقال الحسن: هي ما بشرهم الله به في كتابه، جنته وكرم ثوابه لقوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا «5» وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «6» وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ «7» .
__________
(1) تفسير الطبري: 11/ 177، ومسند أحمد: 6/ 445.
(2) مسند أحمد: 5/ 454.
(3) مسند أحمد: 2/ 507.
(4) مسند أحمد: 5/ 56.
(5) سورة يونس: 2.
(6) سورة البقرة: 223. [.....]
(7) سورة فصلت: 30.(5/138)
وقال عطاء: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة والبشارة من الله وتأتي أعداء الله بالغلظة والفظاظة في الآخرة ساعة خروج نفس المؤمن تعرج بها إلى الله كما تزف العروس تبشر برضوان من الله، قال الله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ «1» الآية قال ابن كيسان: هي ما بشرهم الله في الدنيا بالكتاب والرسول بأنّهم أولياء الله وتبشرهم في قبورهم وفي كتابهم الذي فيه أعمالهم بالجنة.
وسمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الجوزقي يقول: رأيت أبا أحمد «2» الحافظ في المنام راكبا برذونا وعليه طيلسان وعمامة فسلمت عليه وسلّم عليّ فقلت له: أيها الحاكم نحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، فعطف عليّ وقال لي: ونحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، قال الله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
الثناء الحسن، وأشار بيده تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
لا تغيير لقوله ولا خلف لوعده.
روى ابن عليّة عن أيوب عن نافع. قال: أطال الحجاج الخطبة فوضع ابن عمر رأسه في حجري. فقال الحجاج: إن ابن الزبير بدّل كتاب الله، فقعد ابن عمر فقال: لا تستطيع أنت ذلك ولا ابن الزبير تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
. فقال الحجاج: لقد رأيت حلما وسكت [لقد أوتيت علما أن تفعل، قال أيوب: فلما أقبل عليه في خاصة نفسه سكت] «3» .
ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يعني قول المشركين، تمّ الكلام هاهنا.
ثم قال مبتدئا: إِنَّ الْعِزَّةَ القدرة لِلَّهِ جَمِيعاً وهو المنتقم منهم. قال سعيد بن المسيب: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعني أن الله يعز من يشاء كما قال في آية أخرى: لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وعزة الرسول والمؤمنين من الله فهي كلها لله قال الله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ «4» هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ هو ما الاستفهام يقول وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء يعني أنهم ليسوا على شيء، وقراءة السلمي: تدعون بالتاء أي ما تصنع شركاؤكم في الآخرة إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني ظنوا أنها تشفع لهم يوم القيامة، ويقربهم إلى الله زلفى وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا لتهدءوا وتقروا وتستريحوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً مضيئا يبصر فيه كقولهم: ليل نائم وسرّ كاتم وماءٍ دافِقٍ وعِيشَةٍ راضِيَةٍ، وقال جرير:
__________
(1) سورة النحل: 32.
(2) في تفسير القرطبي 8/ 359: أبا عبد الله.
(3) زيادة عن تفسير الطبري: 11/ 181.
(4) سورة الصافات: 180.(5/139)
لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطيّ بنائم «1»
وقال قطرب: يقول العرب: أظلم الليل وأضاء النهار فأبصر، أي صار ذا ظلّة وضياء وبصر.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ المواعظ فيعتبرون قالُوا يعني المشركين اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً هو قولهم: الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقهما إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا [ما عندكم من حجة] وبرهان بهذا، إنما سميتموها جهلا بها سلطانا [ولا يمكن] التمسك بها أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ.
قال الكلبي: لا يؤمنون، وقيل: لا ينجون، وقيل: لا يفوزون، وقيل: لا يبقون في الدنيا ولكن متاع قليل يتمتعون به متاعا وينتفعون به إلى وقت انقضاء أجلهم، ومتاع رفع بإضمار أي لهم متاع، قاله الأخفش، وقال الكسائي: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا «2» ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
__________
(1) لسان العرب: 2/ 2442، وتفسير الطبري: 11/ 183.
(2) أي هو متاع أو ذلك متاع.(5/140)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ اقرأ يا محمد على أهل مكة نَبَأَ خبر نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ولد وأهل يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عظم وثقل وشق عَلَيْكُمْ مَقامِي فلو شق مكثي بين أظهركم وَتَذْكِيرِي ووعظي إياكم بِآياتِ اللَّهِ بحججه وبيناته فعزمتم على قتلي أو طردي فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فبالله وثقت فَأَجْمِعُوا قرأه العامة بقطع الألف وكسر الميم أي فأعدوا وأبرموا وأحكموا أَمْرَكُمْ فاعزموا عليه. قال المؤرخ: أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه، وأنشد:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوما وأمري مجمع «1»
وقرأ الأعرج والجحدري موصولة مفتوحة الميم من الجمع اعتبارا بقوله فَجَمَعَ كَيْدَهُ، وقال أبو معاذ: ويجوز أن يكون بمعنى وأجمعوا أي فأجمعوا واحد يقال: جمعت وأجمعت بمعنى واحد.
قال أبو ذؤيب: [عزم عليه كأنه جمع نفسه له، والأمر مجمع] »
وَشُرَكاءَكُمْ فيه إضمار أي: وادعوا شركاءكم أي آلهتكم فاستعينوا، وكذلك في مصحف أبي وادعوا شركاءكم، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب: وشركاؤكم رفعا على معنى: فأجمعوا أمركم أنتم وشركاؤكم، أي وليجمع معكم شركاؤكم، واختار أبو عبيد وأبو حاتم النصب لموافقة الكتاب وذلك أنه ليس فيه واو.
ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي خفيا مظلما ملتبسا مبهما من قولهم: غمّ الهلال على الناس إذا أشكل عليهم فلم يتبيّنوه، قال طرفة:
لعمرك ما أمري عليّ بغمّة ... نهاري وما ليلي عليّ بسرمد «3»
وقيل: هو من الغمّ لأن الصدر يضيق فلا يتبين صاحبه لأمره مصدرا ينفرج عنه ما بقلبه، قالت الخنساء:
وذي كربة راخى ابن عمرو خناقه ... وغمته عن وجهه فتجلت «4»
ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أي آمنوا إلى ما في أنفسكم أو افرغوا منه، يقال: قضى فلان إذا مات ومضى وقضى منه إذا فرغ منه.
__________
(1) لسان العرب: 8/ 57.
(2) راجع تفسير القرطبي فقد فصّل ما أجمله المصنف: 8/ 363.
(3) لسان العرب: 12/ 442.
(4) تفسير الطبري: 11/ 186.(5/141)
وقال الضحاك: يعني انهضوا إليّ، وحكى الفراء عن بعض القرّاء: افضوا إليّ بالفاء، أي توجهوا حتى تصلوا إليّ، كما يقال أنصت [الخلائق] إلى فلان وأفضى إلى الوجه وَلا تُنْظِرُونِ ولا تؤمرون، وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح (عليه السلام) أنه كان من نصر الله واثقا ومن كيد قومه وبوائقهم غير خائف علما منه بأنهم وآلهتهم لا تنفع ولا تضر شيئا إلّا أن يشاء الله، وتعزية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم وتقوية لقلبه فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن قولي وأبيتم أن تقبلوا نصحي فَما سَأَلْتُكُمْ على الدعوة وتبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ جعل وعوض إِنْ أَجْرِيَ ما جزائي وثوابي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَكَذَّبُوهُ يعني نوحا فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ سكان الأرض خلفا عن الهالكين وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ يعني [أخزى] من الذين أنذرتهم الرسل ولم يؤمنوا ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالآيات والأمر والنهي فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ليصدقوا بِما كَذَّبُوا بما كذبت بِهِ وأنّهم مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ نختم عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ المجاوزين الحلال إلى الحرام ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد نوح (مُوسى) وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ يعني أفراد قومه بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ يعني فرعون وقومه الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ. قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا تقدير الكلام: أتقولون للحق لما جاءكم سحرا سحر هذا الحذف السحر الأول، فدلالة الكلام عليه كقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ «1» المعنى: يغشاكم ليسوؤا وجوهكم.
وقال ذو الرمّة:
فلما لبسن الليل أو حين نصبت ... له من خذا آذانها وهو جانح «2»
أي: أو حين أقبل وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ. قالُوا يعني فرعون وقومه أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا لتلوينا وتصرفنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الدين وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ الملك والسلطان فِي الْأَرْضِ أرض [مصر] وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ. وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ. فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي الذي جئتم به السحر.
وقراءة مجاهد وأبو عمر وأبو جعفر: آلسحر بالمد على الاستفهام، ودليل قراءة العامة قراءة ابن مسعود: ما جئتم به سحر وقراءة أبيّ: ما أتيتم به سحر إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. فَما آمَنَ لِمُوسى لم
__________
(1) سورة الإسراء: 7.
(2) جامع البيان للطبري: 11/ 189.(5/142)
يصدق موسى مهما آتاهم من الحجج إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ فقال قوم: هي راجعة إلى موسى وأراد بهم مؤمني بني إسرائيل.
قال ابن عباس: كانوا ستمائة ألف وذلك أن يعقوب (عليه السلام) دخل مصر في اثني وسبعين إنسانا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف.
وقال مجاهد: أراد بهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى إلى بني إسرائيل لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء، وقال آخرون: الهاء راجعة إلى فرعون.
روى عطية عن ابن عباس: هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وماشطته.
وروي عن ابن عباس من وجه آخر: أنهم سبعون أهل بيت من القبط من آل فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل فجعل الرجل يتبع أمه وأخواله.
قال الفراء: وإنما سموا ذرية لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل، كما يقال لأولاد أهل فارس الذين انتقلوا إلى اليمن الأبناء، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم والذرية العقب من الصغار والكبار عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ يريد الكناية في قومه إلى فرعون، ردّ الكناية في قوله: وَمَلَائِهِمْ، إلى الذرية، ومن رد الكناية إلى موسى يكون: إلى ملأ فرعون.
قال الفراء: وإنما قال: وَمَلَائِهِمْ بالجمع وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر ذهب الوهم إليه وإلى أصحابه «1» .
[فيكون من باب حذف المضاف] وذكر وهب بن منبه، [أنه] إليه وإلى عصابته كما يقال:
قدم الخليفة تريد والذين معه، ويجوز أن يكون أراد بفرعون آل فرعون [كقوله تعالى] : سْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ «3» أَنْ يَفْتِنَهُمْ بصرفهم عن دينهم، ولم يقل: يفتنوهم لأنّه أخبر أنّ فرعون وقومه كانوا على [الضلال] .
وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [من المجاوزين الحدّ في العصيان والكفر] لأنّه كان قد ادّعى الربوبية وَقالَ مُوسى لمؤمني قومه: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا.
ثم دعوا فقالوا: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قال أبو مجلز: ربّنا لا تظهر فرعون وقومه علينا فيروا أنّهم خير منا فيزدادوا طغيانا. وقال عطية: لا تسلّطهم علينا فيسيئون
__________
(1) راجع زاد المسير لابن الجوزي: 4/ 46. [.....]
(2) سورة يوسف: 82.
(3) سورة الطلاق: 1.(5/143)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
ويقتلون. وقال مجاهد: لا تعذّبنا بأيدي قوم [ظالمين ولا تعذّبنا] بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق لما عذّبوا، ولا تسلّطنا عليهم فيفتتنوا وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ [أمرناهما] أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً يقال: تبوّأ فلان لنفسه بيتا [والمبوأ المنزل ومنه بوّأه الله منزلا] «1» إذا اتخذه له.
وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال أكثر المفسّرين: كانت بنو إسرائيل لا يصلّون إلّا في كنائسهم وبيعهم، وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخرّبت، ومنعهم من الصلاة، فأمروا أن يتّخذوا مساجد لهم يصلّون فيها خوفا من فرعون، وهذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وهي كذلك، ورواية عكرمة عن ابن عباس.
قال مجاهد وخلف: [قال موسى] لمن معه من قوم فرعون أن صلّوا إلى الكنائس الجامعة، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة للكعبة فيصلّون فيها سرّا. ومعنى البيوت هنا [يكون] المساجد.
وتقدير الآية: واجعلوا بيوتكم إلى القبلة. وهذا رواية ابن جريج عن ابن عباس، قال:
كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه. قال سعيد بن جبير: معناه: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا، والقبلة الوجهة.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يا محمد.
[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 92]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً من متاع الدنيا وأثاثها. مقاتل: شارة حسنة، لقوله: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ... وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ.
اختلفوا في هذه اللام فقال بعضهم هي لام (كي) ومعناه [أعطيتهم لكي يضلّوا ويبطروا ويتكبّروا] لتفتنهم بها فيضلّوا ويضلّوا إملاء منك، وهذا كقوله تعالى: لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ،
__________
(1) زيادة عن تفسير القرطبي: 8/ 371.(5/144)
وقيل: هي لام العاقبة ولام الصيرورة يعني أعطاهم ليضلّوا [......] «1» آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً، وقيل: هي لام أي آتيتهم لأجل ضلالهم عقوبة لهم كقوله: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أي لأجل إعراضكم عنهم، ولم يحلفوا لتعرض عنهم.
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، قال عطية ومجاهد: أعفها، فالطمس: المحو والتعفية، وقال أكثر المفسرين: امسخها وغيّرها عن هيئتها، قال محمد بن كعب القرضي: جعل سكّتهم حجارة، وقال قتادة: بلغنا أن زروعهم صارت حجارة، وقال ابن عباس: إن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأثلاثا وأنصافا. قال ابن زيد: صارت حجارة ذهبهم، ودراهمهم وعدسهم وكل شيء، وقال السدّي: مسخ الله أموالهم حجارة، النخل والثمار والدقيق والأطعمة، وكانت احدى الآيات التسع.
وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ يعني: واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان.
فَلا يُؤْمِنُوا قيل: هو نصب جواب الدعاء بالفاء، وقيل: عطف على قوله: [لِيُضِلُّوا] .
قال الفراء: هو دعاء ومحله جزم كأنه: اللهم فلا يؤمنوا وقيل: معناه فلا آمنوا.
قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما [وقرأ علي والسملي: «دعواتكما» بالجمع وقرأ ابن السميقع:
قد أجبت دعوتكما] خبرا عن الله تعالى.
كقول الأعشى:
فقلت لصاحبي لا تعجلانا ... بنزع أصوله واجتز شيحا «2»
فَاسْتَقِيما على الرسالة والدعوة، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم عقاب الله.
قال ابن جريج: مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة.
وَلا تَتَّبِعانِّ نهي بالنون الثقيلة ومحله جزم ويقال في الواحد لا تتبعن، فيفتح النون لالتقاء الساكنين، وتكسر في التثنية لهذه العلة. وقرأ ابن عامر بتخفيف النون لأن نون التوكيد تثقّل وتخفف.
سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعني: ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلان قضائي فإن قضائي ووعدي لا خلف لهما، ووعيدي نازل بفرعون وقومه.
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ الآية، وذلك أن الله تعالى أمر موسى (عليه السلام) أن يخرج ببني إسرائيل من مصر و [تبعا] بنو إسرائيل من القبط [فأخرجهم] بعلة عرس لهم وسرى
__________
(1) بياض بالمخطوط.
(2) جامع البيان للطبري: 11/ 208، وفي الصحاح (لا تحبسانا) بدل (لا تعجلانا) الصحاح: 3/ 868.(5/145)
بهم موسى وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا لا يعدّ فيهم ابن سبعين سنة ولا ابن عشرين سنة، [إلى البحر وقال لكما] «1» القبط تلك الليلة، فتتبعوا بني إسرائيل حتى أصبحوا وهو قوله:
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ بعد ما دفنوا أولادهم، فلمّا بلغ فرعون ركب [البحر] ومعه ألف ألف وستمائة ألف.
قال محمد بن كعب: كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشهبان، وكان [........] «2» وكان هارون على مقدمة بني إسرائيل وموسى في الساقة، فلمّا انتهوا إلى البحر وقربت منهم مقدمة فرعون مائة ألف رجل، كل قد غطّى أعلى رأسه ببيضة وبيده حربة، وفرعون خلفهم في الدميم، فقالت بنو إسرائيل لموسى: أين ما وعدتنا؟ هذا البحر أمامنا [إن عبرناه] غرقنا وفرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا، ولقد أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا.
ف قالَ موسى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وقالَ: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ، فأوحى الله إليه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضربه فلم ينفلق وقال: أنا أقدم منك وأشد خلقا، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن كنه وقل: انفلق أبا خالد بإذن الله عزّ وجل، ففعل ذلك فانفلق البحر وصار اثنا عشر طريقا لكل سبط طريق. وكشف الله عن وجه الأرض فصارت يابسة وارتفع بين كل طريقين جبل.
وكانوا بني عمّ لا يرى بعضهم بعضا ولا يسمع بعضهم كلام بعض، فقال كل فريق: قد غرق أصحابنا فأوحى الله تعالى إلى الجبال من الماء تشبّكي فتشبكت وصارت فيه شبه الخروق فجعل ينظر بعضهم إلى بعض.
فلمّا وصل فرعون بجنوده إلى البحر ورأوا البحر بتلك الهيئة قال فرعون: هابني البحر، وهابوا دخول البحر، وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى، فجاء جبرئيل على فرس وديق «3» وخاض البحر وميكائيل يسوقهم، لا يشذ رجل منهم إلّا ضمّه إليهم.
فلما شمّ أدهم فرعون ريح فرس جبرئيل، وفرعون لا يراه انسلّ خلف فرس جبريل ولم يملك فرعون من أمره شيئا واقتضمت الخيول في الماء، فلما دخل آخرهم البحر وهمّ أولهم أن يخرج انطبق الماء عليهم، فلمّا أدرك فرعون الغرق: قال آمنت بالذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ فدسّ جبرئيل في فيه من حمأة البحر، وقال: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ.
قال أبو بكر الوراق: قال الله لموسى وهارون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى حين لم ينفعه تذكّره وخشيته.
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) بياض في المخطوط.
(3) وديق: تشتهي الفحل.(5/146)
قال كعب: لمّا أمسك نيل مصر عن الجري قالت القبط لفرعون: [إن كنت ربّنا فأجر لنا الماء] ، فركب وأمر جنوده بالركوب وكان مناديه ينادي كل ساعة: ليقف فلان بجنوده قائدا قائدا فجعلوا يقفون على درجاتهم [وقفز] حتى بقي هو وخاصته، فأمرهم بالوقوف حتى بقي في حجّابه وخدّامه، فأمرهم بالوقوف وتقدّم وحده بحيث لا يرونه [ونزل عن دابته] ولبس ثيابا أخر وسجد وتضرع إلى الله، فأجرى الله تعالى له الماء فأتاه جبرئيل وحده في هيئة مستفت وقال: ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سيد له غيره، فكفر نعمته وجحد حقّه وادعى السيادة دونه؟ [فكتب فرعون: جزاؤه أن يغرق في البحر] «1» .
فلمّا أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون ولا يموت أبدا، فأمر الله تعالى بالبحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصير كأنه ثور فتراءاه بنو إسرائيل، البحر حتى جازوه، وقرأ الحسن [وجوزنا، وهما لغتان] .
فَأَتْبَعَهُمْ فأدركهم، يقال: تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه، واتّبعه بالتشديد إذا سار خلفه [واقتدى به] فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ.
بَغْياً وَعَدْواً ظلما واعتداء، يقال: عدا يعدو عدوا مثل: غزا يغزو غزوا، وقرأ الحسن (عُدُوّا) بضم العين وتشديد الواو مثل: علا يعلو علوّا. قال المفسرون: بَغْياً في القول وَعَدْواً في الفعل.
حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ أي أحاط به قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ قرأ حمزة والكسائي وخلف إنّه بالكسر أي آمنت وقلت: إنّه، وهي قراءة عبد الله. وقرأ الآخرون: أنّ بالفتح لوقوع آمَنْتُ عليها، وهي اختيار أبو عبيد وأبي حاتم.
لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال جبرئيل آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «قال لي جبرئيل: ما أبغضت أحدا من عباد الله إلّا أنا أبغضت عبدين أحدهما من الجنّ والآخر من الأنس، فأما من الجنّ فإبليس حين أبى بالسجود لآدم وأما من الإنس ففرعون حين قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، ولو رأيتني يا محمد وأنا أدسّ الطين في فيه مخافة أن تدركه الرحمة» [86] «2» .
__________
(1) زيادة عن تفسير القرطبي: 8/ 378.
(2) جامع البيان للطبري: 19/ 102 بتفاوت يسير.(5/147)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أي نجعلك على نجوة من الأرض وهي النجو: المكان المرتفع، قال أوس بن حجر:
فمن بعقوته كمن بنجوته ... والمستكنّ كمن يمشي بقرواح «1»
بِبَدَنِكَ بجسدك لا روح فيك. وقال مجاهد والكسائي: البدن هاهنا الدرع وكان دارعا.
قال الأعشى:
وبيضاء كالنهى موضونة ... لها قونس فوق جيب البدى «2»
وقرأ عبد الله: فاليوم ننجيك ببدنك، أي نلقيك على ناحية البحر. وقيل: شعرك.
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً عبرة وعظة.
وقرأ علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : لِمَنْ خَلَقَكَ [بالقاف] ، أي تكون آية لخالقك «3» .
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ قال مقاتل: يعني أهل مكة، قال الحسن: هي عامة.
عَنْ آياتِنا عن الإيمان بآياتنا لَغافِلُونَ.
[سورة يونس (10) : الآيات 93 الى 97]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)
وَلَقَدْ بَوَّأْنا أنزلنا بَنِي إِسْرائِيلَ بعد هلاك فرعون مُبَوَّأَ منزل صِدْقٍ يعني خير، وقيل الأردن وفلسطين وهي: الأرض المقدسة التي بارك الله فيها لإبراهيم وذريته. الضحاك:
هي مصر والشام.
وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الحلالات.
فَمَا اخْتَلَفُوا يعني اليهود الذين كانوا على عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلّم حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ البيان بأن محمدا صلى الله عليه وسلّم يقول صدقا ودينه حق. وقيل: العلم بمعنى المعلوم لقولهم للمخلوق:
خلق، وللمقدور: قدر، وهذا [....... فتم طرف الأمر، قال الله.....] «4» ، ومعنى الآية
__________
(1) جامع البيان للطبري: 11/ 213، وفي الصحاح فمن بنجوته كمن بعقوته، الصحاح: 1/ 396.
(2) تفسير القرطبي: 8/ 380.
(3) تفسير القرطبي: 8/ 381.
(4) هكذا في الأصل. [.....](5/148)
فما اختلفوا في محمد حتى جاءهم المعلوم وهو كون محمد صلى الله عليه وسلّم نبيا لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه.
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين.
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، الآية، وقد أكثر العلماء في تفسير معنى الآية، قال مقاتل: قالت كفار مكة: إنما ألقى هذا الوحي على لسان محمد شيطان، فأنزل الله تعالى:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يعني القرآن.
فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ يخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة رسولا نبيا.
وقيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم والمراد به غيره من الشاكّين به، كما ذهب العرب في خطابهم الرجل بالشيء ويريدون به غيره، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ كأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم والمراد به المؤمنون، ويدلّ عليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ولم يقل: تعمل.
قال المفسرون: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالوا: آمنا بالله بلسانهم، ومنهم كافر مكذّب لا يرى إلّا أن ما جاء به باطل، أو شاكّ في الأمر لا يدري كيف هو يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى، فخاطب الله هذا الصنف من الناس فقال: فَإِنْ كُنْتَ أيها الإنسان فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من الهدى على لسان محمد (صلى الله عليه وسلّم) .
فَسْئَلِ الأكابر من علماء أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلّام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري وأشباههم فيشهدوا على صدقه، ولم يرد المعاندين منهم.
وقيل: إن بمعنى (ما) ، وتقديره: فما كنت في شك مما أنزلنا إليك، فاسألوا يا معاشر الناس أنتم دون النبي. كما قال: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ بمعنى وما كان مكرهم.
وقيل: إنّ الله علم أن الرسول صلى الله عليه وسلّم لم يشكّ ولكنّه أراد أن يأخذ الرسول بقوله لا أشك ولا [أماري] إدامة للحجة على الشاكّين من قومه كما يقول لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهو يعلم أنه لم يقل ذلك، بدليل قوله: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إدامة للحجة على النصارى.
وقال الفرّاء: علم الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم غير شاكّ، فقال له: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ، وهذا كما تقول لغلامك الذي لا تشك في ملكك «1» إياه: إن كنت عبدي فأطعني، أو تقول لابنك: إن كنت ابني فبرّني.
__________
(1) في المخطوط: لا يشك في ملكه إيّاه.(5/149)
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: الشاك في الشيء يضيق به صدرا، فيقال لضيّق الصدر شاك، يقول: إن ضقت ذرعا بما تعاين من تعنتهم وأذاهم فاصبر، واسأل الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ يخبروك كيف صبر الأنبياء على أذى [قومهم] وكيف كان عاقبة أمرهم من النصر والتمكين.
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن حبيب سمعت أبا بكر محمد بن محمد بن أحمد القطان في [ذلك:] كان جائزا على الرسول صلى الله عليه وسلّم وسوسة الشيطان لأن المجاهدة في ردّها يستحق عليها عظيم الثواب والله [.........] «1» وكان يضيق صدره من ذلك والله أعلم. وقال الحسين بن الفضل مع [حيث] «2» الشرط لا يثبت الفعل.
والدليل عليه ما
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لما نزلت هذه الآية: «والله لا أشك ولا أسأل» [87] «3» .
ثم أفتى [وزوّدنا] «4» بالكلام فقال: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ القرآن.
فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ [الذين تحبط أعمالهم] إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لعنته إياهم [لنفاقهم] ، قال ابن عباس: ينزل بك السخط، وقال: إن الله خلق الخلق [فمنهم شقي ومنهم] سعيد، فمن كان سعيدا لا يكفر إلّا ريثما يراجع الإيمان ومن كان شقيا لا يؤمن إلّا ريثما يراجع الكفر، وإنما العمل [ ... ] «5» وقرأ أهل المدينة: (كلمات) جمعا.
لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ دلالة حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قال الأخفش: أنّث فعل (كل) لأنها مضافة إلى مؤنث، ولفظة كل للمذكر والمؤنث سواء.
__________
(1) كلمات غير مقروءة في المخطوط.
(2) هكذا في الأصل.
(3) الدرّ المنثور: 3/ 317، وجامع البيان للطبري: 11/ 218.
(4) هكذا في الأصل.
(5) بياض في الأصل.(5/150)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
[سورة يونس (10) : الآيات 98 الى 103]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
فَلَوْلا أي فهلّا، وكذلك هي في حرف عبد الله وأبي، قال الشاعر:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... [بني ضوطري] لولا الكميّ المقنعا «1»
أي فهلّا.
وقرأ في الآية: (فلا تكن قرية) لأن في الاستفهام ضربا من الجحد.
آمَنَتْ عند معاينتها العذاب فَنَفَعَها إِيمانُها في وقت اليأس إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ فإنّهم نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت لما علم من صدقهم. قال أهل النحو: قوم منصوب على الاستثناء المنقطع، وإن شئت قلت من جنسها لأن القوم مستثنى من القرية، ومنجون من الهالكين، وتقديره: لكن قوم يونس كقول النابغة:
وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... أعيت جوابا وما بالربع من أحد
ألا الأواري لأيا ما أبينها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد «2»
وفي يونس ست لغات، ضم النون، وقرأ [ ... ] «3» بضمّ الياء لكثرة من قرأ بها، وقرأ طلحة والأعمش والحميري وعيسى بكسر النون، وعن بعضهم بفتح النون، وروى أبو قرظة الأنصاري عن العرب همزة مع الضمة والكسرة والفتحة.
لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ وهو وقت انقضاء آجالهم، قال بعضهم: إنّما نفعهم إيمانهم في وقت اليأس لأن آجالهم بقي منها بقية فنجوا لما بقي من آجالهم، فأما إيمان من انقضى أجله فغير نافع عند حضور العذاب.
وقصة الآية على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير والسدّي ووهب وغيرهم أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فدعاهم فأبوا، فقيل له: أخبرهم أن العذاب يجيئهم إلى ثلاث، فأخبرهم بذلك فقالوا:
إنّا لم نجرّب عليه كذبا فانظروا، فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم، فلمّا كان في جوف الليل خرج ماشيا من بين ظهرانيهم فلمّا أصبحوا تغشّاهم العذاب كما يغشي الثوب القصير إذا أدخل فيه صاحبه.
__________
(1) لسان العرب: 4/ 489.
(2) الأواري: واحدها: آري وهو الحبل تشدّ به الدابّة، واللأي: المشقّة، والنؤي: حفرة حول البيت تحول دون وصول الماء، والجلد: الأرض الصلبة، والبيت في تفسير الطبري: 1/ 117.
(3) بياض في الأصل.(5/151)
قال مقاتل: كان العذاب فوق رؤوسهم قدر ميل. قال ابن عباس: قدر ثلثي ميل. قال وهب: غامت السماء غيما أسود هائلا يدخل دخانا شديدا، وهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيّهم فلم يجدوه، فقذف الله في قلوبهم التوبة فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابّهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وأخلصوا النية، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، فحنّ بعضهم إلى بعض، وعلت أصواتهم واختلطت أصواتها بأصواتهم وحنينها بحنينهم، وعجوا وضجوا إلى الله تعالى وقالوا: آمنّا بما جاء به يونس، فرحمهم ربّهم واستجاب دعاءهم، وكشف عنهم العذاب بعد ما أظلّهم وتدلّى إلى سمعهم، وذلك يوم عاشوراء.
قال ابن مسعود: بلغ من توبة أهل نينوى أن ترادّوا المظالم بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي الحجر وقد وضع عليه أساس فيقلعه ويردّه.
وروى صالح المري عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد، قال: لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا له: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال: قولوا:
يا حيّ حين لا حي ويا حي [يا] محيي الموتى، ويا حي لا إله إلّا أنت، فقالوها، فكشف عنهم العذاب ومتّعوا إلى حين.
قالوا: وكان يونس (عليه السلام) وعدهم العذاب فخرج ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم ير شيئا، وكان من كذب ولم تكن له بيّنة قتل، فقال يونس لما كشف عنهم العذاب: كيف أرجع إلى قومي وقد كذبتهم؟ فانطلق عاتبا على ربه، مغاضبا لقومه فأتى البحر [فإذ سفينة قد شحنت] فركب السفينة [لوحده] بغير أجر، فلمّا دخلها وقفت السفينة، والسفن تسير يمينا وشمالا قالوا:
ما لسفينتكم؟ قال يونس: إنّ فيها عبدا آبقا ولا تجري ما لم تلقوه، فقالوا: وأنت يا نبي العبد فلا نلقيك، فاقترعوا فوقعت القرعة عليه ثلاثا فوقع في الماء ووكل عليه حوت فابتلعه.
قال ابن مسعود: فابتلعه الحوت وجرى به حتى أتاه إلى قرار الأرض، وكان في بطنه أربعين ليلة فسمع تسبيح الحصى فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فاستجاب الله له فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر [عريانا] ، فأنبت الله عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، فجعل يستظلّ بها، ووكل الله به سخلا يشرب من لبنها، فيبست الشجرة فبكى عليها، فأوحى الله إليه: تبكي على شجرة يبست، ولا تبكي على مائة ألف إنسان أهلكهم! فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال: من أنت يا غلام؟
قال: من قوم يونس، قال: إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس، قال الغلام: إن كنت يونس فقد تعلم أنه لم يكن لي بينة، [فإن] قلت: فمن يشهد لي؟ قال يونس: يشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة، قال الغلام: أراهما؟ قال يونس: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالا:(5/152)
نعم. فرجع الغلام إلى قومه، فقال للملك: إني قد لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام، وكان له أخوة وكان في منعة فأمر الملك بقتله، فقال: إنّ لي بينة فانسلّوا معه إلى البقعة والشجرة، فقال الغلام: أنشدكما هل أشهدكما يونس؟ قالا: نعم، فرجع القوم مذعورين، وقالوا للملك:
شهد له الشجرة والأرض، فأخذ الملك بيد الغلام فأجلسه في مجلسه، وقال: أنت أحق بهذا المكان مني، قال ابن مسعود: فأقام لهم أميرا فيهم ذلك الغلام أربعين سنة «1» .
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ يا محمد لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً قال الحسين بن الفضل:
لأضطرّهم إلى الإيمان. قال الأخفش: جاء بقوله: (جَمِيعاً) مع (كل) تأكيدا كقوله: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ.
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم حريصا على أن يؤمن جميع الناس ويبايعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنّه لا يؤمن إلّا من سبق له من الله سعادة في الكتاب الأول، ولا يضلّ إلّا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.
وَما كانَ لِنَفْسٍ قال الحسن: وما ينبغي لنفس. وقال المبرد: معناه وما كنت لتؤمن إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. قال ابن عباس: بأمر الله. وقال عطاء: بمشيئة الله، كقوله: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وقال الكوفي: ما سبق من قضائه. وقال [الدّاني] : بعلمه وتوفيقه.
وَيَجْعَلُ أي ويجعل الله، وقرأ الحسن وعاصم بالنون الرِّجْسَ العذاب والسخط.
وقرأ الأعمش الرجز بالزاي عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ حجج الله في التوحيد والنبوة.
قُلِ يا محمد لهؤلاء المشركين السائليك الآيات انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ من الشمس والقمر والنجوم وَالْأَرْضِ من الجبال والبحار والأنهار والأشجار وغيرها من الآيات ثم قال: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ في علم الله.
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ يعني مشركي مكة إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الذين مضوا. قال قتادة: يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود، والعرب تسمي العذاب والنعيم: أياما، كقوله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وكل ما مضى عليك من خير أو شر فهو أيام.
قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا معهم عند نزول العذاب، كذلك كما أنجيناهم.
كَذلِكَ حَقًّا واجبا، عَلَيْنا غير شك، نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ بك يا محمد. وقرأ
__________
(1) راجع زاد المسير: 4/ 56.(5/153)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
يعقوب: نُنْجِي رُسُلَنا بالتخفيف، وقرأ الكسائي وحفص: نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ بالتخفيف وشدّدهما الآخرون، وهما لغتان فصيحتان أنجى ينجي إنجاء ونجّي ينجّي تنجية بمعنى واحد.
[سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 109]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الذي أدعوكم إليه.
فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأوثان التي لا تعقل ولا تفعل ولا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ تقدير أن يسلم ويقبض أرواحهم.
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ قال ابن عباس: عملك. وقيل: نفسك، أي استقم على الدين حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر: «لم أعبد ربي بالرهبانية وأن خير الدين الحنيفية السهلة» [88] «1» .
وَلا تَدْعُ تعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ إن أطعته وَلا يَضُرُّكَ إن عصيته فَإِنْ فَعَلْتَ فعبدت غير الله فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ الضارّين لأنفسهم، الواضعين العبادة في غير موضعها وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ يصبك الله ببلاء وشدّة فَلا كاشِفَ دافع لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ رخاء ونعمة فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ فلا مانع لرزقه.
يُصِيبُ بِهِ واحد من الضر والخير مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن فيه البيان.
فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [أي له ثواب اهتدائه] «2» وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها فعلى نفسه جنا وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بكفيل وحفيظ يحفظ أعمالكم. قال ابن عباس: نسختها آية القتال.
__________
(1) كنز العمّال: 3/ 47، ح 5422 بتفاوت.
(2) زيادة عن زاد المسير: 5/ 13.(5/154)
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ من نصرك وقهر أعدائك وإظهار دينه وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
قال الحسن: لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار وقد تجمع خيرتهم فقال:
«إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» [89] » قال أنس: فلم نصبر. فأمرهم بالصبر كما أمره الله به.
وقال عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب: لما قدم معاوية المدينة تلقّته الأنصار وتخلّف أبو قتادة ودخل عليه بعد فقال: ما لك لا تلقنا؟ قال: لم تكن عندنا دواب، قال: فأين النواضح؟ قال: ربطناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فاصبروا حتى تلقوني» [90] «2» ، قالوا: إذا نصبر، ففي ذلك قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... أمير المؤمنين ثنا «3» كلام
فإنّا صابرون ومنظروكم ... إلى يوم التغابن والخصام «4»
__________
(1) تفسير القرطبي: 8/ 389، وفي مسند أحمد (ستلقون) بدل (ستجدون) ، مسند أحمد: 3/ 57.
(2) مجمع الزوائد: 10/ 38. [.....]
(3) ويروى: نبا، ويروي: عني كلامي.
(4) المصنّف لعبد الرزّاق: 11/ 61، ح 19909، تفسير القرطبي: 8/ 389.(5/155)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
سورة هود (ع)
مكية،
أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثني أبو بكر محمد بن إسحاق، محمد بن علي بن محمد، محمد بن علي بن صالح عن ابن إسحاق عن أبي جحيفة قال: قيل: يا رسول الله قد أسرع إليك المشيب، قال: «شيبتني هود وأخواتها:
الحاقة، والواقعة، وعَمَّ يَتَساءَلُونَ، وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ» [91] «1» .
وعن زيد قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام فقرأت عليه سورة هود فلمّا ختمتها قال: يا زيد قرأت، فأين البكاء؟.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)
الر كِتابٌ قيل الر مبتدأ وكِتابٌ خبره، وقيل: كِتابٌ رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره: هذا كتاب أُحْكِمَتْ آياتُهُ قال ابن عباس: أُحْكِمَتْ آياتُهُ: لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها ثُمَّ فُصِّلَتْ بيّنت بالأحكام والحلال والحرام، قال الحسن وأبو العالية:
فُصِّلَتْ: فسّرت مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا يحتمل أن يكون موضع أن رفعا على مضمر تقديره: وفي ذلك الكتاب أن لا تعبدوا، ويحتمل أن يكون محله نصبا بنزع الخافض تقديره: ثم فصّلت أن لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ أو لئلّا تعبدوا إلّا الله.
إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ من الله نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وأن عطف على الأول وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 5/ 239.(5/156)
أي ارجعوا إلى الله بالطاعة والعبادة، وقال الفرّاء: ثمّ هاهنا بمعنى (الواو) أي وتوبوا إليه لأنّ الاستغفار من التوبة، والتوبة من الاستغفار يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً أي يعيشكم عيشا في [منن] ودعة وأمن وسعة [رزق] ، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو الموت وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ويؤت كل ذي عمل مبلغ أجره وثوابه [سمى فضله] باسم الابتداء.
قال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر، واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم قال: هلك من غلبت آحاده عشراته.
وقال ابن عباس: من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أهل الأعراف، ثم يدخلون الجنة بعد، وقال أبو العالية: من زادت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنة، لأن الدرجات تكون بالأعمال. وقال مجاهد: إن ما يحتسب الإنسان من كلام يقوله بلسانه، أو عمل يعمله بيده ورجله، أو ما يتصدّق به من حق ماله.
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وهو يوم القيامة.
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال ابن عباس:
يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة، نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام، حلو المنظر، يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره. مجاهد: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ شكّا وامتراء، السدّي: يعرضون بقلوبهم عنك من قولهم [..............] «1» .
عن عبد الله بن شداد: نزلت في بعض المنافقين كان إذا مرّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه، وتغشّى ثوبه كي لا يراه النبي (صلى الله عليه وسلم) .
قتادة: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله ولا ذكره. ابن زيد: هذا حين يناجي بعضهم بعضا في أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال مجاهد: ليستخفوا من الله إن استطاعوا، وقال ابن عباس: يثنون صدورهم على وزن يحنون، جعل الفعل للصدور أي [يلقون] .
أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يغطّون رؤوسهم بثيابهم، وذلك أخفى ما يكون لابن آدم إذا حنى صدره وتغشّى ثوبه وأضمر همه في نفسه.
يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَما مِنْ دَابَّةٍ من بغلة وليس دابّة وهي كل حيوان دبّ على وجه الأرض، وقال بعض العلماء: كل ما أكل فهو دابة.
__________
(1) بياض في المخطوط.(5/157)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها غذاؤها وقوتها وهو المتكفّل بذلك فضلا لا وجوبا، وقال بعضهم:
(على) بمعنى (من) أي من الله رزقها، ويدل عليه قول مجاهد، قال: ما جاء من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعا، ولكن ما كان من رزق فمن الله.
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها أي مأواها الذي تأوي إليه وتستقر فيه ليلا ونهارا، وَمُسْتَوْدَعَها الموضع الذي تودع فيه أما بموتها أو دفنها، قال ابن عباس: مُسْتَقَرَّها حيث تأوي، وَمُسْتَوْدَعَها حيث تموت، مجاهد: مُسْتَقَرَّها في الرحم وَمُسْتَوْدَعَها في الصلب، عبد الله: مُسْتَقَرَّها الرحم، وَمُسْتَوْدَعَها المكان الذي تموت فيه، الربيع: مُسْتَقَرَّها أيام حياتها، وَمُسْتَوْدَعَها حيث تموت، ومن حيث تبعث.
وقيل: يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها في الجنة أو في النار، وَمُسْتَوْدَعَها القبر، ويدلّ عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة والنار: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً وساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً.
كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها.
[سورة هود (11) : الآيات 7 الى 16]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قبل أن يخلق السماوات والأرض وذلك الماء على متن الريح. وقال كعب: خلق الله ياقوتة حمراء لا نظير لها [فنظر إليها بالهيبة] فصارت ماء، [يرتعد من مخافة الله تعالى] ثمّ خلق الريح فجعل الماء [على قشرة] «1» ثم وضع العرش على الماء. وقال ضمرة: إنّ الله تعالى كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ثم
__________
(1) في تفسير القرطبي: 9/ 8، على متنها.(5/158)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بالحق، وخلق القلم وكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبّح الله ومجدّه قبل أن يخلق شيئا من الخلق.
لِيَبْلُوَكُمْ ليختبركم وهو أعلم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
روى عبد الله بن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليبلوكم أيّكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله» [92] «1» .
قال ابن عباس: أيّكم أعمل بطاعة الله. قال مقاتل: أيّكم أتقى لله، الحسن: أيّكم أزهد في الدنيا زاهدا وأقوى لها تركا.
وَلَئِنْ قُلْتَ يا محمد إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعنون القرآن، ومن قرأ: ساحر ردّه إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) .
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ إلى أجل معدود ووقت محدود، وأصل الأمّة الجماعة، وإنما قيل للحين: أمّة، لأن فيه يكون الأمّة، فكأنه قال: إلى مجيء أمّة وانقراض أخرى قبلها، كقوله: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ.
لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ يقولون استعجالا للعذاب واستهزاء، يعنون أنه ليس بشيء. قال الله تعالى: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ خبر (ليس) عنهم. وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي رجع إليهم ونزل بهم وبال استهزائهم وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً سعة ونعمة ثُمَّ نَزَعْناها سلبناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ قنوط في الشدّة كَفُورٌ في النعمة.
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ بعد بلاء وشدة لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي زالت الشدائد عني إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ أشر بطر، ثم استثنى فقال: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فإنهم إن نالتهم شدّة وعسرة صبروا، وإن نالوا نعمة شكروا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وهو الجنة، وإنما جاز الاستثناء مع اختلاف الحالين لأن الإنسان اسم الجنس كقوله: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.
فَلَعَلَّكَ يا محمد تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ فلا تبلّغه إياهم، وذلك أن مشركي مكة قالوا: آتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا.
وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لأن يقولوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ ينفقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدّقه، قال عبد الله بن أمية المخزومي قال الله: يا أيها النذير ليس عليك إلّا البلاغ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مثله مُفْتَرَياتٍ بزعمكم وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ لفظه جمع والمراد به الرسول وحده كقوله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ ويعني الرسول.
__________
(1) الدرّ المنثور: 4/ 211.(5/159)
وقال مجاهد: عنى به أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ يعني القرآن وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لفظه استفهام ومعناه أمر.
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا أي من كان يريد بعمله الحياة الدنيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ نوفر لهم أجور أعمالهم في الدنيا وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ لا ينقصون. قتادة يقول:
من كانت الدنيا همّه وقصده وسروره وطلبته ونيّته جازاه الله تعالى ثواب حسناته في الدنيا، ثم يمضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أحسن من محسن فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ في عاجل الدنيا وآجل الآخرة» «1» .
واختلفوا في المعنيّ بهذه الآية فقال بعضهم: هي للكفار، وأما المؤمن فإنه يريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة على إرادته للدنيا، ويدل عليه قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها في الدنيا وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال مجاهد: هم أهل الربا.
وروى ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال: حدثني الوليد بن أبي الوليد بن عثمان أن عقبة بن مسلم حدّثه أن شقي بن قابع الأصبحي حدّثنا أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ قيل: أبو هريرة.
قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدّث الناس، فلما سكت وخلا، قلت:
وأنشدك الله لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [عقلته وعلمته] فقال: لأحدّثنّك حديثا حدثنيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في [هذا البيت] ثم غشي عليه ثم أفاق فقال: أحدثك حديثا حدّثنيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا البيت، ولم يكن أحد غيره وغيري، ثم شهق أبو هريرة شهقة شديدة ثم قال:
[فأرى على وجهه ثمّ استغشى] طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة دعا «2» العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية فأول من يدعو رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله للقارئ: ألم أعلّمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب.
قال: ماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، فيقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد
__________
(1) جامع البيان للطبري: 12/ 18، وتاريخ دمشق: 47/ 214. 216.
(2) في المصدر: ينزل إلى.(5/160)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله له: ألم أوسّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟
قال: كنت أصل الرحم وأتصدّق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقال له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذلك» ثم ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ركبتي فقال: «يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة» [93] «1» .
قال الوليد: وأخبرني غيره أن شقيا دخل على معاوية وأخبره بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية: وقد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية [وضرب خدّيه] حتى ظننّا أنه هالك، ثم أفاق معاوية لا يمسح وجهه وقال: صدق الله ورسوله مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وقرأ إلى قوله: باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
[سورة هود (11) : الآيات 17 الى 22]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21)
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ بيان وحجة مِنْ رَبِّهِ وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يتبعه من يشهد له ويصدقه.
واختلفوا في هذا الشاهد فقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد والضحاك وأبو صالح وأبو العالية وعكرمة: هو جبريل (عليه السلام) ، وقال الحسن (رضي الله عنه) : هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال الحسن وقتادة: هو لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
وقال محمد بن الحنفية: قلت لأبي أنت التالي؟ قال: وما تعني بالتالي؟ قلت: قوله: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال:
وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
وقال بعضهم: الشاهد صورة
__________
(1) كنز العمّال: 3/ 469، ح 7469.(5/161)
النبي صلّى الله عليه وسلّم ووجهه ومخائله، لأنّ كل من كان له عقل ونظر إليه علم أنه رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) .
وقال الحسين بن الفضل: هو القرآن في نظمه وإعجازه والمعاني الكثيرة منه في اللفظ القليل. وروى ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هو ملك يحفظه ويسدّده. وقيل: هو علي بن أبي طالب.
أخبرني عبد الله الأنصاري عن القاضي أبو الحسين النصيري، أبو بكر السبيعي، علي بن محمد الدهان والحسن بن إبراهيم الجصاص، قال الحسين بن حكيم، الحسين بن الحسن عن حنان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ علي خاصة (رضي الله عنه) «1» .
وبه عن السبيعي عن علي بن إبراهيم بن محمد [العلوي] ، عن الحسين بن الحكيم، عن إسماعيل بن صبيح، عن أبي الجارود، عن حبيب بن يسار، عن زاذان قال: سمعت عليا يقول:
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو ثنيت لي وسادة فأجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما من رجل من قريش جرت عليه المواسي إلّا وأنا أعرف به يساق «2» إلى جنة أو يقاد إلى نار. فقام رجل فقال: ما آيتك يا أمير المؤمنين التي نزلت فيك؟
قال: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بينة من ربه وأنا شاهد منه [94] «3» .
وبه عن [السبيعي] ، وأحمد بن محمد بن سعيد الهمداني حدثني الحسن بن علي بن برقع وعمر بن حفص الفراء، حدثنا صباح القرامولي، عن محارب عن جابر بن عبد الله [الأنصاري] ، قال علي (رضي الله عنه) : ما من رجل من قريش إلّا وقد نزلت فيه الآية والآيتان، فقال له رجل: فأنت أي شيء نزل فيك؟ قال علي (رضي الله عنه) : أما تقرأ الآية التي في هود، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ «4» .
وفي الكلام محذوف تقديره: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كمن هو في الضلالة [متردّد] ، ثم قال: وَمِنْ قَبْلِهِ يعني ومن قبل محمد والقرآن كان كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ أي
__________
(1) كنز العمّال: 2/ 439، ح 4440.
(2) في بعض المصادر: «إلّا قد نزلت فيه آية من كتاب الله تسوقه إلى الجنّة أو تقوده إلى النار» . راجع شواهل التنزيل: 1/ 366.
(3) كنز العمّال: 2/ 439، ح 4441.
(4) تفسير القرطبي: 9/ 16، والدرّ المنثور: 3/ 324، وتفسير الطبري: 12/ 22.(5/162)
بني إسرائيل يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بمحمد وقيل بالقرآن، وقيل بالتوراة مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ.
روى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يستمع لي يهودي ولا نصراني، ولا يؤمن بي إلّا كان من أهل النار» [95] .
قال أبو موسى فقلت في نفسي: إن النبي لا يقول مثل هذا القول إلّا من الفرقان فوجدت الله يقول: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ.
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي في شكّ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً زعم أن لله ولدا أو شريكا أو كذب بآيات القرآن أُولئِكَ يعني الكاذبين، يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ فيسألهم عن أعمالهم ويجزيهم بها.
وَيَقُولُ الْأَشْهادُ يعني الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا، في قول مجاهد والأعمش، وقال الضحاك: يعني الأنبياء والرسل، وقال قتادة: يعني الخلائق.
وروى صفوان بن محرز المازني قال: بينا نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر إذ عرض له رجل فقال: يا بن عمر ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت نبي الله صلّى الله عليه وسلّم [يقول] : «يدنو المؤمن من ربّه حتى يضع كتفيه عليه فيقرّره بذنوبه فيقول: هل [تعرف ما فعلت؟ يقول: [رب أعرف مرّتين، حتى إذا بلغ ما شاء الله أن يبلغ فقال: وإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وقال [ثمّ يعطى صحيفة حسناته، أو كتابه بيمينه قال] : وأما الكافر والمنافق فينادى بهم على رؤوس الأشهاد» [96] «1» .
هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: سابقين.
مقاتل بن حيان: قانتين، قتادة: [هرابا] وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أنصار تغني [عنهم] يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ يعني يزيد في عذابهم.
ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ اختلف في تأويله: قال قتادة (....) «2» : وَما كانُوا يُبْصِرُونَ الهدى، وقوله: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ قال ابن عباس: إن الله تعالى إنّما حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا، وأما في الدنيا فإنه قال ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ
__________
(1) سنن ابن ماجة: 1/ 65، ح 183. [.....]
(2) كلام غير مقروء.(5/163)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
فإنه قال: فلا يستطيعون خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ، وقال بعضهم: إنما عنى بذلك الأصنام.
أُولئِكَ وآلهتهم لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ويُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ يوم القيامة ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ولا يسمعونه وَما كانُوا يُبْصِرُونَ [......] «1» فلا يعتبرون بها، فحذف الباء، كما يقول: لا يجزينك ما عملت وبما عملت.
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ لا جَرَمَ
أي [.....] «2» ، قال الفرّاء: معناها لا بدّ ولا محالة أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ يعني من غيرهم، وإن كان الكل في الخسار.
[سورة هود (11) : الآيات 23 الى 40]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) كلام غير مقروء في المخطوط.(5/164)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ قال عطية عن ابن عباس وقتادة:
أنابوا وتضرّعوا إليه، مجاهد: اطمأنّوا إلى ذكره، مقاتل: أخلصوا، الأخفش «1» : تخشّعوا له، وقيل «2» : تواضعوا له.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ المؤمن والكافر كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا قال الفرّاء: وإنّما لم يقل هل يستوون مثلا، لأنّ الأعمى والأصم في خبر كأنهما واحد، لأنهما من وصف الكافر، والسميع والبصير في خبر كأنهما واحد، لأنهما من وصف المؤمن.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي قرأ أهل مكة وأبو عمرو والكسائي: أَنِّي بفتح الألف ويعنون بأني، وقرأ الباقون بكسر الألف إني، قال: إني لأن في الإرسال معنى القول.
لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم، قال مقاتل: بعث نوح وأمره ربّه ببناء، السفينة وهو ابن ستمائة سنة وكان عمره ألفا وخمسين عاما ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، قال الله تعالى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً أي فلبث فيهم داعيا فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ يا نوح إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا آدميا مثلنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا سفلتنا بادِيَ الرَّأْيِ قال مجاهد وأبي المعين وحمزة أبو عمرو وبصير على معنى بادِيَ الرَّأْيِ من غير روية ولا فكرة يعني: آمنوا من غير روية.
وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ قالَ نوح يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً هدى ومغفرة مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ التبست واشتبهت وقرأ أهل الكوفة: فَعُمِّيَتْ بضم العين وتشديد الميم، أي اشتبهت ولبّست ومعنى الكلام: عمّيت الأبصار عن الحق، وهذا كما يقال: دخل الخاتم في إصبعي، والخفّ في رجلي وإنما يدخل الأصبع في الخاتم والرجل في الخفّ أَنُلْزِمُكُمُوها يعني البيّنة والرحمة وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تريدونها يعني لا يقبل ذلك.
وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا أي على الوحي وتبليغ الرسالة كناية عن غير مذكور إِنْ أَجرِيَ ما ثوابي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا الباء صلة إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ بالمعاد فيجزيهم بأعمالهم وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي
__________
(1) في زاد المسير نسبه للفرّاء (4/ 76) ، وفي تفسير القرطبي 9/ 21، خلاف في بعض الأقوال.
(2) وهو ابن قتيبة كما في زاد المسير.(5/165)
تحتقر وتستصغر أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً يعني يؤخذ وانما اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من النية والعزم والخير والشر إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إن فعلت ذلك.
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا ماريتنا وخاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا يعني العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي نصيحتي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ يهلككم ويضلكم هُوَ رَبُّكُمْ والأمر والحكم له وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم بأعمالكم وهو ردّ على المعتزلة و [المرجئة] .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قال ابن عباس: يعني نوحا، مقاتل يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي إثمي ووبال أمري، لا تؤخذون بذنبي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ لا أواخذ بذنوبكم وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ ولا تحزن وهو منفعل من البؤس بِما كانُوا يَفْعَلُونَ فإني مهلكهم ومنقذك منهم فحينئذ دعا عليهم وقال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً.
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ واعمل السفينة بِأَعْيُنِنا بمرأى منّا، الضحاك: بمنظر منّا، مقاتل:
بعلمنا، ربيع: بمسمعنا «1»
وَوَحْيِنا [على ما أوحينا إليك] ، قال ابن عباس: وذلك إنّه لم يعلم كيف يصنع الفلك فأوحى الله إليه أن يصنعها على جؤجؤ الطائر وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ولا تسألني العفو عن هؤلاء الذين كفروا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ بالطوفان، أمر أن لا يشفع لهم عنده، وقال: عنى امرأته وابنه.
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ قيل: معناه وكان يصنع الفلك، وقيل: معناه وصنع الفلك وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ هزءوا به.
قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا الآن فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ إذا عاينتم عذاب الله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يهينه وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم، قال ابن عباس: اتخذ نوح (عليه السلام) السفينة في سنتين، وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وطولها في السمك ثلاثين ذراعا، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو في البطن الأعلى [.....] «2»
، عمّا يحتاج إليه من الزاد.
روي عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مكث نوح في قومه أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً
__________
(1) في تفسير القرطبي: بحفظنا.
(2) كلام غير مقروء.(5/166)
يدعوهم إلى الله، فأوحى الله عزّ وجلّ لما كان آخر زمانه وغرس شجرة [فعظمت وذهبت كلّ مذهب ثمّ قطعها] «1» ويقطع ما يبس منها، ثمّ جعل يعمل سفينة ويمرون عليه قومه فيسألونه فيقول: أعمل سفينة فيسخرون منه ويقولون: يعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ فيقول: فسوف تعلمون، فلمّا فرغ منها وَفارَ التَّنُّورُ وكثر الماء في السكك، خشيت أمّ صبي عليه وكانت تحبّه حبّا شديدا، فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى صعدت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء، فلو رحم الله أحدا منهم لرحم أمّ الصبي» [97] «2» .
وروى علي بن زيد بن صوحان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فيحدّثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفّا من ذلك التراب بكفّه قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا كفن حام بن نوح، قال: فضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب، قال له عيسى: هكذا هلكت؟
قال: لا بل متّ وأنا شاب ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثمّ شبت، قال: حدّثنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير، فلمّا كثرت فضلات الدواب أوحى الله تعالى إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل، فغمز فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث، فلمّا وقع الفار بحوض السفينة وحبالها فقرضها، وذلك أن الفار ولدت في السفينة فأوحى الله تعالى إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وهرّة فأقبلا على الفار.
فقال له عيسى: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت، ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها فعلم أن البلاد قد غرقت قال: فطوّقها بالحمرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في قصر بأمان «3»
فمن ثم تألف البيوت.
قال: فقالوا: يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلنا فيجلس معنا ويحدّثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له؟ فقال له: عد بإذن الله، قال: فعاد ترابا «4» .
__________
(1) زيادة عن الطبري.
(2) تفسير الطبري: 12/ 466.
(3) في تفسير الطبري: أنس وأمان.
(4) تفسير الطبري: 12/ 47.(5/167)
وروى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير أنّه كان يحدّث الأحاديث وكانوا يبطشون به، يعني قوم نوح- فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون، حتى إذا تمادوا في المعصية وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاولوا عليه، وتطاول عليه وعليهم الشأن واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر البخل بعد البخل، فلا يأتي قرن إلّا كان أخبث من الذي قبله حتى إذا كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا، حتى شكا ذلك من أمرهم إلى الله عزّ وجل فقال: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، حتى قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إلى آخر القصة، فأوحى الله إليه أن اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي بعد اليوم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
فأقبل نوح على [عمل] الفلك ولجأ عن قومه إلى جبل يقطع الخشب ويضرب بيديه [الحديد] ، ويهيّئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلّا هو، وجعل قومه يمرون به وهو في ذلك من عمله فيسخرون منه ويقولون: يا نوح هل صرت نجارا بعد النبوة؟ وأعقم الله أرحام النساء فلبثوا سنين فلا يولد لهم ولد.
قال: ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يصنعه أزور وأن يطليه بالقار من أسفله وخارجه، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا، ومائة في عرضه وبطوله في السماء ثلاثين ذراعا، والذراع إلى المنكب، وجعلها ثلاثة طوابق سفلى ووسطى وعليا، فجعل فيه كوى، ففعل نوح كما أمره الله تعالى «1» .
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا عذابنا وَفارَ التَّنُّورُ يعني انبجس الماء من وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض، وذلك أنه إذا قيل: إذا رأيت الماء يسيح على وجه الأرض فاركب أنت ومن اتبعك، ومنها قول ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة،
وقال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في تفسير ووَ فارَ التَّنُّورُ: أي طلع الفجر ونور الصبح
، ومن ذلك عبارته نوّر الفجر تنويرا، قتادة: موضع في الأرض وأعلى مكان فيها. قال الحسن: أراد بالتنور الذي يخبز فيه وكان تنورا من حجارة وكان لحواء حتى صار إلى نوح، فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك، فنبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته، وهذا قول مهران «2»
. ورواه عطية عن ابن عباس، قال مجاهد: وكان ذلك في ناحية الكوفة، وروى السدي عن الشعبي أنه كان يحلف بالله ما يظهر التنور إلّا من ناحية الكوفة، وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان فوران الماء منه علما لنوح ودليلا على هلاك قومه.
__________
(1) المصدر السابق: 48.
(2) في تفسير القرطبي: 9/ 33، قول الحسن ومجاهد وعطية عن ابن عباس.(5/168)
وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم وإنّما كان بالشام بموضع يقال له: عين وردة، وقال ابن عباس: فارَ التَّنُّورُ بالهند، والفور: الغليان.
قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قال المفسرون أراد بالزوجين:
اثنين ذكرا وأنثى، وقال أهل المعاني: كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه، فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجا، يقال له: زوجا نعال إذا كانت له نعلان وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا قيود، قال الله تعالى وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، وقال بعضهم: أراد بالزوجين الضربين والصنفين وكل ضرب يدعى زوج، قال الأعشى:
وكل زوج من الديباج يلبسه ... أبو قدامة محبوّ بذاك معا «1»
أراد كل ضرب ولون. وقال لبيد:
وذي [.....] «2» كرّ المقاتل صولة ... وذرّته أزواج [........] «3»
يشرّب
أي ألوان وأصناف، وقرأ حفص هاهنا وفي سورة المؤمنين مِنْ كُلٍّ بالتنوين أي من كل صنف، وجعل اثْنَيْنِ على التأكيد.
وَأَهْلَكَ أي واحمل أهلك ومالك وعيالك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بالهلاك يعني امرأته راحلة وابنه كنعان.
وَمَنْ آمَنَ يعني واحمل من آمن بك، قال الله تعالى وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ واختلفوا في عددهم، فقال قتادة والحكم وابن جريج ومحمد بن كعب القرضي: لم يكن في السفينة إلّا نوح وامرأته»
وثلاثة بنيه، سام وحام ويافث أخوة كنعان وزوجاتهم [ورحلهم] فجميعهم ثمانية، فأصاب حام امرأته في السفينة فدعا الله نوح أن يغير نطفته فجاء بالسودان. وقال الأعمش:
كانوا سبعة: نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين له. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم:
نوح وبنوه حام وسام ويافث وستة أناس ممن كان آمن معه وأزواجهم جميعا.
وقال مقاتل: [كانوا] اثنين وسبعين رجلا وامرأة وبنيه الثلاثة ونساءهم، فكان الجميع ثمانية وسبعين نفسا، نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساء.
قال ابن عباس: كان في سفينة نوح ثمانون إنسانا أحدهم جرهم «5» .
__________
(1) تفسير الطبري: 2/ 55. [.....]
(2) كلمة غير مقروءة.
(3) كلمة غير مقروءة.
(4) غير التي عوقبت (تفسير القرطبي: 9/ 35) .
(5) كذا أيضا في تفسير الطبري: 12/ 57، وفي تاريخ دمشق (62/ 267) : معهم أهلوهم.(5/169)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
قال مقاتل: وحمل نوح معه جسد آدم وجعله معترضا بين الرجال والنساء، وحمل نوح جميع الدواب من الغنم والوحوش والطير وفرق فيما بينها.
قال ابن عباس: أول ما حمل نوح في السفينة من الدواب الإوزة، وآخر ما حمل الحمار، فلمّا دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح يقول له: ادخل فينهض فلا يمشي، حتى قال نوح: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك، فقال له نوح: ما أدخلك عليّ يا عدو الله؟ فقال له: ألم تقل ادخل وان كان الشيطان معك، قال نوح: اخرج عني يا عدو الله، قال: ما لك بدّ من أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك «1» .
وفي تفسير مالك بن إبراهيم الهروي الذي أخبرني بالإسناد إلى أبي القاسم والحسن بن محمد ببعضه قراءة وأجاز لي بالباقي في غير مرة، قال يحدثنا أبو العباس محمد بن الحسن الهروي، قال: حدثنا جابر بن عبد الله عنه أن الحية والعقرب أتيا نوحا فقالتا: احملنا، فقال نوح: إنكما سبب الضرّ والبلايا والأوجاع فلا أحملكما، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك بأن لا نضر أحدا ذكرك، فمن قرأ حين خاف مضرّتهما: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ما ضرّتاه.
[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 48]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45)
قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48)
وَقالَ نوح لهم: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها قرأ أبو رجاء العطاردي: مُجْراها وَمُرْساها بضم الميمين وكسر الراء والسين وهي قراءة عبد الله.
قال ابن عباس: مَجْراها حيث تجري وَمُرْساها حيث ترسو، أي تحسر في الماء.
وقرأ محمد بن محيصن بفتح الميمين وهما مصدران، يعني أن الله تعالى بيده جريها
__________
(1) تفسير الطبري: 12/ 49.(5/170)
ورسوّها أي ثبوتها، جرى يجري جريا ومجرى، ورسا يرسو رسوّا ومرسى، مثل ذهب مذهبا وضرب مضربا. قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر ... عليّ حرام لو يسرّون مقتلي «1»
أي: قتلي.
وقرأ الباقون بضم الميمين، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، ومعناه: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، كقوله تعالى أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وأَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ بمعنى الإنزال والإدخال والإخراج.
إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ قال الضحاك: كان نوح إذا أراد أن يرسو قال: بِسْمِ اللَّهِ، فرست، وإذا أراد أن تجري قال: بِسْمِ اللَّهِ، فجرت.
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان وكان عنيدا وقيل وكان كافرا.
وَكانَ فِي مَعْزِلٍ عنه لم يركب معه الفلك.
يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ فتهلك، قال له ابنه: سَآوِي سأصير وأرجع إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي يمنعني مِنَ الْماءِ ومنه عصام القربة الذي [يربط] رأسها فيمنع الماء أن يسيل منها.
قالَ نوح لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عذاب الله إلّا من رحمناه، وأنقذناه منه، ومن في محل رفع، وقيل: في محل النصب ومعناه لا معصوم اليوم من أمر الله إلّا من رحمه الله، كقوله تعالى عِيشَةٍ راضِيَةٍ وماءٍ دافِقٍ قال الشاعر:
بطيء القيام رخيم الكلام ... أمسى فؤادي به فاتنا
أي مفتونا.
وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ فصار مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ بعد ما تناهى أمر الطوفان يا أَرْضُ ابْلَعِي أي اشربي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي امسكي وَغِيضَ الْماءُ فذهب ونقص ومصدره الغيض والغيوض.
وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي وفرغ من العذاب وَاسْتَوَتْ يعني السفينة استقرّت ورست وحلّت عَلَى الْجُودِيِّ وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل، قال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلّا ينالها الماء فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعا وتواضع الجودي وتطامن لأمر ربّه فلم يغرق، فأرسيت السفينة عليه.
__________
(1) إعجاز القرآن للباقلاني: 171.(5/171)
وَقِيلَ بُعْداً هلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «في أوّل يوم من رجب وفي بعض الأخبار: لعشر مضت من رجب- ركب نوح في السفينة فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر، ومرّت بالبيت فطاف به سبعا وقد رفعه الله من الغرق، وأرسيت السفينة على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح وأمر جميع من معه من الوحوش والدواب فصاموا شكرا لله عزّ وجلّ» [98] «1» .
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ أي الصدق وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أي تحكم على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك.
قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وقرأ أهل الكوفة (عَمِلَ) بكسر الميم وفتح اللام، غَيْرَ بنصب الراء على الفعل ومعناه: إنه عمل الشرك والكفر، وقرأ الباقون عَمَلٌ بفتح الميم وضمّ اللام وتنوين غير بالرفع ومعناه: إنّ سؤالك إياي أن أنجيه عمل غير صالح.
فَلا تَسْئَلْنِ يا نوح ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ بما لا تعلم وقرأ ابن كثير بتشديد النون وفتحه، وقرأ أهل المدينة والشام بتشديد النون وكسره.
إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ واختلفوا في هذا الابن فقال بعضهم: إنه لم يكن ابن نوح، ثم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: كان ولد خبث من غيره، ولم يعلم بذلك نوح، فقال الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي من ولدك، وهو قول مجاهد والحسن، وقال قتادة: سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان بابنه، وقرأ فَخانَتاهُما فقال: إن الله حكى عنه إنه قال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وقال: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وأنت تقول: لم يكن ابنه، وإن أهل الكتابين لا يختلفون في انه كان ابنه. فقال الحسن: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، إنهم يكذبون.
وقال ابن جريج: ناداه وهو يحسب أنه ابنه، وكان ولد على فراشه، وقال عبيد بن عمير، نرى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما قضى أن الولد للفراش من أجل ابن نوح،
وقال بعضهم: إنه كان ابن امرأته واستدلّوا بقول نوح: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ولم يقل: منّي، وهو قول أبي جعفر الباقر.
وقال الآخرون: كان ابنه ومن فصيلته، ومعنى قوله: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، وقالوا: ما بغت امرأته ولا امرأة لوط وإنما كانت خيانتهما في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وهذه كانت تدلّ على الأضياف، وهو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران.
قال أبو معاوية البجلي: قال رجل لسعيد بن جبير: قال نوح إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، أكان ابن نوح؟ فسبّح طويلا، وقال: لا إله إلّا الله يحدث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم انه ابنه وتقول ليس ابنه، كان
__________
(1) تفسير الطبري: 12/ 61، وتاريخ الطبري: 1/ 131.(5/172)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
ابنه ولكنه كان مخالفا في النية والعمل والدين، فمن ثم قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، وهذا القول أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب.
فقال نوح (عليه السلام) عند ذلك رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ انزل من السفينة إلى الأرض بِسَلامٍ بأمن وسلامة مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وهم الذين كانوا معه في السفينة.
وقال أكثر المفسّرين: معناه وعلى قرون تجيء من ذريّة من معك من الذين آمنوا معك من ولدك، وهم المؤمنون وأهل السعادة من ذريته وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ وهم الكافرون وأهل الشقاوة. وقال محمد بن كعب القرضي: داخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وكذلك داخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
قال الضحاك: زعم أناس إن من غرق من الولدان مع آبائهن وإنّما ليس كذلك وإنّما الولدان بمنزلة الطير، وسائر من أغرق الله يعود لابنه ولكن حضرت آجالهم فماتوا لآجالهم والمذكورين من الرجال والنساء ممّن كان الغرق عقوبة من الله لهم في الدنيا ثم مصيرهم إلى النار.
[سورة هود (11) : الآيات 49 الى 60]
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58)
وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
تِلْكَ الذي ذكرت مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ يا محمد وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا من قبل إخباري إياك فَاصْبِرْ على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقى من أذى الكفار كما صبر نوح إِنَّ الْعاقِبَةَ آخر الأمر بالسعادة والظفر والمغفرة لِلْمُتَّقِينَ كما كان لمؤمني قوم نوح وسائر الأمم.(5/173)
وَإِلى عادٍ أي فأرسلنا إلى عاد أَخاهُمْ هُوداً في النسب لا في الدين قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحّدوا الله وأكثروا العبادة في القرآن بمعنى التوحيد ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ما أنتم في إشراككم معه الأوثان إلّا كاذبون.
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغ الرسالة ولا أبتغي جعلا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي والفطرة ابتداء الخلقة أَفَلا تَعْقِلُونَ وذلك أن الأمم قالت للرسل: ما تريدون إلّا أن تأخذوا أموالنا فقالت الرسل لهم هذا.
وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي آمنوا به يغفر لكم، والاستغفار هنا بمعنى الإيمان ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ من عبادتكم غيره وسالف ذنوبكم، وقال الفرّاء: معناه وتوبوا إليه لأن التوبة استغفار والاستغفار توبة.
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً متتابعا، وقال مقاتل بن حيان وخزيمة بن كيسان: غزيرا كثيرا.
وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ شدّة مع شدّتكم، وذلك أن الله حبس عنهم القطر في سنين وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد.
وَلا تَتَوَلَّوْا ولا تدبروا مشركين قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ بيان وبرهان على ما تقول فنقر ونسلّم لك وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ أي بقولك، والعرب تضع الباء موضع عن، وعن موضع الباء.
وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ بمصدّقين إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ يعني لست تتعاطى ما تتعاطاه من مخالفتنا وسبّ آلهتنا إلّا أن بعض آلهتنا اعتراك وأصابك بسوء، بل جنون، وهذيان، هو الذي يحملك على ما تقول وتفعل، ولا نقول فيك إلّا هذا ولا نحمل أمرك إلّا على هذا، فقال لهم هود: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ على نفسي وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأوثان فَكِيدُونِي جَمِيعاً فاحتالوا جميعا في ضرّي ومكري أنتم وأوثانكم ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها.
قال الضحاك: يحييها ويميتها، قال الفرّاء: مالكها والقادر عليها، قال القتيبي: يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، قال ابن جرير: إنما خصّ الناصية لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع فيقولون: ما ناصية فلان إلّا بيد فلان أي إنه مطيع له يصرفه كيف شاء، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمنّ عليه جزوا [ناصيته] ليغتروا بذلك فخرا عليه، فخاطبهم بما يعرفون في كلامهم.(5/174)
إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول: إنّ ربي على طريق الحق يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بمعصيته ولا يظلم أحدا غيّا ولا يقبل إلّا الإسلام، والقول فيه إضمار أنّي: إنّ ربي يدلّ أو يحثّ أو يحملكم على صراط مستقيم.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ أي قل يا محمد: فقد أبلغتكم ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يوحّدونه ويعبدونه وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً بتولّيكم وإعراضكم وإنما تضرون أنفسكم، وقيل: معناها لا تقدرون له على خير إن أراد أن يضلكم، وقرأ عبد الله: ولا يضره هلاككم إذا أهلككم ولا تنقصونه شيئا، لأنه سواء عنده كنتم أو لم تكونوا.
إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي لكل شيء حافظ، على بمعنى اللام، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء.
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وكانوا أربعة آلاف بِرَحْمَةٍ بنعمة مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ وقيل: الريح، قيل: أراد بالعذاب الغليظ عذاب القيامة أي كما نجّيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجّيناهم في الآخرة من العذاب.
وَتِلْكَ عادٌ رده إلى القبيلة جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ يعني هودا وحده لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سوى هود، ونظيره قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هاهنا لأن من كذّب رسولا واحدا فقد كذّب جميع الرسل.
وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ متكبّر لا يقبل الحق ولا يذعن له، قال أبو عبيد: العنيد والعنود والعاند والمعاند: المعارض لك بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي يفجر دما فلا يرقى:
عاند قال الراجز:
إنّي كبير لا أطيق العندا «1»
وَأُتْبِعُوا ألحقوا وأردفوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً يعني بعدا وعذابا وهلاكا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي وفي يوم القيامة أيضا كذلك لعنوا في الدنيا والآخرة أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي بربهم، كما يقال: شكرته وشكرت له، وكفرته وكفرت به ونصحته ونصحت له، قيل بمعنى:
كفروا نعمة ربهم.
أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ البعد بعدان: أحدهما البعد ضد القرب، يقال: بعد يبعد بعدا، والآخر بمعنى الهلاك ويقال منه: بعد يبعد بعدا وبعدا.
__________
(1) لسان العرب: 3/ 307، ومطلعه: إذا رحلت فاجعلوني وسطا.(5/175)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ ابتدأ خلقكم مِنَ الْأَرْضِ وذلك أن آدم خلق من الأرض وهم منه وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها وجعلكم عمّارها وسكانها، قال ابن عباس: أعاشكم فيها، الضحّاك: أطال أعماركم، مجاهد: أعمركم من العمر أي جعلها داركم وسكنكم، قتادة: أسكنكم فيها.
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ ممّن رجاه مُجِيبٌ لمن دعاه.
قالُوا يعني قوم ثمود يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا القول أي كنا نرجو أن تكون فينا سيّدا، وقيل: كنا نرجو أن تعود إلى ديننا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الآلهة.
وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ موقع في الريبة وموجب إليها، يقال: أربته إرابة إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة، قال الهذلي:
كنت إذا أتيته من غيب ... يشم عطفي ويبز ثوبي
كأنما أربته بريب «1»
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً نبوة وحكمة فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ لا يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ قال ابن عباس: غير خسارة في خسارتكم، الفرّاء: تضليل، قال الحسين بن الفضيل: لم يكن صالح في خسارة حين قال، علمت علم العرب، فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وإنما المعنى ما تزيدونني، كما يقولون: ما أسبق إياكم إلى الخسارة، وهو قول العرب: فسقته وفجرته إذا نسبته إلى الفسق والفجور، وكذلك خسرته: نسبته إلى الخسران.
__________
(1) تفسير الطبري: 12/ 82، والصحاح: 1/ 141.(5/176)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً نصب على الحال والقطع فَذَرُوها أي دعوها تأكل في أرض الله من العشب والنبات فليس عليكم رزقها ولا مؤنتها.
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ ولا تصيبوها بعقر ونحر فَيَأْخُذَكُمْ إن قتلتموها عَذابٌ قَرِيبٌ من عقرها فَعَقَرُوها فَقالَ لهم صالح تَمَتَّعُوا حتى يحين [عذابه] فِي دارِكُمْ منازلكم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ تمهلون ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ غير كذب وقيل: غير مكذوب فيه.
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ نعمة وعصمة مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ عذابه وهوانه.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ يعني صيحة جبريل فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ صرعى، هلكى كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا يقيموا ويكونوا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ.
[سورة هود (11) : الآيات 69 الى 73]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا يعني الملائكة، واختلفوا في عددهم، فقال ابن عباس: كانوا ثلاثة: جبرئيل وميكائيل وإسرافيل. الضحّاك: تسعة، السدّي: أحد عشر، وكانوا على صورة الغلمان الوضاء وجوههم.
إِبْراهِيمَ الخليل بِالْبُشْرى بالبشارة بإسحاق ويعقوب، وبإهلاك قوم لوط قالُوا لإبراهيم سَلاماً سلّموا عليه ونصب سَلاماً بإيقاع القول عليه، لأن السلام قول أي [مثل] قالُوا وسلّموا سَلاماً (قالَ) إبراهيم (سَلامٌ) أي عليكم سلام، وقيل: لكم سلام وقيل: رفع على الحكاية، (قِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ) (وَقُولُوا حِطَّةٌ) ، وقرأ حمزة والكسائي سِلام بكسر السين من غير ألف ومثله في والذاريات، وكذلك هو في مصحف عبد الله ومعناه: نحن سلام صالح لكم غير حرب، وقيل: هو بمعنى السلم أيضا كما يقال: حل وحلال، وحرم وحرام. وأنشد الفراء:
مررنا فقلنا إيه سلّم فسلمت ... كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح «1»
__________
(1) تفسير الطبري: 12/ 89.(5/177)
فَما لَبِثَ فما أقام ومكث إبراهيم أَنْ بمعنى حتى بإسقاط الخافض أي بأن جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قال ابن عباس: مشوي بالحجارة الحارة في خد من الأرض، قتادة ومجاهد:
نضج بالحجارة وشوي، ابن عطية: شوي بعضه بحجارة، أبو عبيدة: كل ما أسخنته فقد حنذته فهو حنيذ ومحنوذ وأصل يحنذ أن إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق «1» .
فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ أي للعجل نَكِرَهُمْ أي: أنكرهم، ويقال: نكرت الشيء وأنكرته بمعنى واحد. قال الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلّا الشيب والصلعا «2»
فجمع المعنيين في وقت واحد.
وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أضمر وأحسّ منهم خوفا، وقال مقاتل: وقع في قلبه، الأخفش:
خامر نفسه. الفرّاء: استشعر. الحسن: حدّث نفسه، وأصل الوجوس الدخول، وكان الخوف دخل قلبه. قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجئ لخير وأنّه يحدّث نفسه بشرّ.
قالُوا لا تَخَفْ يا إبراهيم فإنّا ملائكة الله إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ قال الوالبي: لمّا عرف إبراهيم أنهم ملائكة خاف أنه وقومه المقصودون بالعذاب لأن الملائكة كانت تنزل إذ ذاك بالعذاب، نظير ما في الحجر ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالعذاب، قالت الملائكة: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ لا إلى قومك.
وَامْرَأَتُهُ سارة بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغوا بن فالغ وهي ابنة عم إبراهيم قائِمَةٌ من وراء الستر تسمع كلام الملائكة وكلام إبراهيم، وقيل: كانت قائمة (......) «3»
الرسل وإبراهيم جالس معهم فهو كلام أوّلي، وقرأ ابن مسعود: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وهو جالس فَضَحِكَتْ.
واختلفوا في العلة الجالبة للضحك، فقال السدي: لما قرب إليهم الطعام فلم يأكلوا خاف إبراهيم فظنهم لصوصا، فقال لهم: أَلا تَأْكُلُونَ؟ فقالوا: يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلّا بثمن، قال: فإن لهذا ثمنا، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوّله وتحمدون على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال: حق أن يتخذك خليلا، فَلَمَّا رَأى إبراهيم وسارة أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ
__________
(1) في لسان العرب (3/ 485) : هو أن يحضره شوطا أو شوطين ثمّ يظاهر عليه الجلال في الشمس ليعرق تحتها، فهو محنوذ وحنيذ، وإن لم يعرق قيل: كبا.
(2) تاج العروس: 3/ 584.
(3) كلمة غير مقروءة.(5/178)
إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ، ... فَضَحِكَتْ سارة وقالت: إنا قمنا لأضيافنا هؤلاء أنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا.
وقال قتادة: فَضَحِكَتْ من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقال مقاتل والكلبي:
فَضَحِكَتْ من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر وهو فيما بين خدمه وحشمه، وقال ابن عباس ووهب:
ضحكت عجبا من أن يكون لها ولد على كبر سنّها وسنّ زوجها، وقالوا: هو من التقديم الذي معناه التأخير، وكان بمعنى: [.....] «1»
وامرأته قائمة.
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ فضحكت وقالت يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ الآية، وقيل: ضحكت سرورا بالأمن عليهم لما قالوا: لا تخف. وقال مجاهد وعكرمة: فَضَحِكَتْ أي حاضت في الوقت، تقول العرب: ضحكت الأرنب إذا حاضت، وقال الشاعر:
وضحكت الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الخوف يوم اللقا
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قال ابن عباس والشعبي: الوراء ولد الولد، واختلف القرّاء في قوله: يَعْقُوبَ، فنصبه ابن عامر وعاصم وقيل: في موضع جر في الصفة أي من وراء إسحاق بيعقوب، فلمّا حذف الباء نصب، وقيل: بإضمار فعل له، ووهبنا له يعقوب. ورفعه الآخرون على خبر حذف الصفة، فلمّا بشّرت بالولد والحفيد صكت وَجْهَها أي ضر الله تعجبا وقالَتْ يا وَيْلَتى والأصل: يا ويلتاه أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وكانت لتسعين سنة في قول ابن إسحاق، وتسع وتسعين سنة في قول مجاهد.
وَهذا بَعْلِي زوجي سمي بذلك لأنه قيّم أمرها كما سمّي مالك الشيء بعله، والنخل الذي استغنى بالأمطار عن ماء الأنهار يسمّى بعلا شَيْخاً وكان إبراهيم ابن مائة سنة في قول مجاهد، وعشرين ومائة سنة في قول ابن إسحاق.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ فقالت الملائكة أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ يعني هنا إبراهيم إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ قال السدّي: قالت سارة لإبراهيم (عليه السلام) : ما آية قولك؟ قال: فأخذ بيده عودا يابسا فلواه بين أصابعه، فاهتزّ أخضر فقال إبراهيم: هو لله إذا ذبيحا.
__________
(1) كلمة غير مقروءة. [.....](5/179)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
[سورة هود (11) : الآيات 74 الى 83]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ الخوف وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بإسحاق ويعقوب يُجادِلُنا في [.......] «1»
لأنّ إبراهيم لا يجادل ربّه إنّما يسأله ويطلب إليه.
وقال عامّة أهل التفسير معناه يجادل رسلنا وذلك أنهم لما قالوا: إنا مهلكوا أهل هذه القرية، قال لهم: أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا لا، فقال إبراهيم:
وأربعون؟
قالوا: لا، قال: أو ثلاثون؟ قالوا: لا، قال: حتى بلغ عشرة، قالوا: لا، فقال: خمسة قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونه؟ قالوا: لا، فقال إبراهيم عند ذلك:
إِنَّ فِيها لُوطاً، ف قالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ.
قال ابن جريج: وكان في قرى لوط أربعة آلاف ألف، قال قتادة: في هذه الآية لا يرى مؤمن إلّا لوط المؤمن، فقالت الرسل عند ذلك لإبراهيم: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي دع عنك الجدال، وأعرض عن هذا المقال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ عذاب ربك وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ نازل بهم، يعني قوم لوط عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ غير مدفوع ولا ممنوع.
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا يعني الملائكة لُوطاً سِيءَ بِهِمْ حزن لمجيئهم، يقال: سؤته فسيء مثل شغلته فانشغل، وسررته فانسر وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قلبا وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ شديد، ومنه عصبصب، كالعصب به الشر والبلاء أي شدّ ومنه عصابة الرأس، قال عدي بن زيد:
وكنت لزاز خصمك لم أعرد ... وقد سلكوك في يوم عصيب «2»
وقال آخر:
وانك إلّا ترض بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب «3»
__________
(1) كلام غير مقروء في المخطوط.
(2) تاريخ دمشق: 40/ 119.
(3) تاريخ دمشق: 67/ 257.(5/180)
وقال الراجز:
يوم عصيب يعصب الأبطالا ... عصب القوي السلم الطوالا «1»
وذلك أن لوطا (عليه السلام) لم يكن يعلم أنهم رسل الله في تلك الحال، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيان الفواحش فخاف عليهم، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه قال قتادة والسدّي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام نحو قرية لوط فأتوا لوطا وهو في أرض يعمل فيها، وقد قال الله تعالى لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطا أربع شهادات، واستضافوه فانطلق معهم، فلمّا خشي عليهم، قال لهم: ما بلغكم، أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشرّ قرية في الأرض عملا يقول، ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله، ولم يعلم بذلك أحد إلّا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، وقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط.
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال ابن عباس وقتادة والسدّي: يسرعون، ومجاهد:
يهرولون، الضحاك: يسعون، ابن عيينة: كأنهم يدفعون، شمر بن عطية: مشي بين الهرولة والجمزى «2»
، الحسن: مشي بين مشيتين، قال أهل اللغة: يقال: أهرع الرجل من برد وغضب أو أهرع إذا أرعد فهو مهرع إذا كان معجلا مسرعا، قال مهلهل:
فجاءوا يهرعون وهم أسارى ... يقودهم على رغم الأنوف «3»
وقال الراجز:
بمعجلات نحوه مهارع «4»
وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي من قبل مجيء الرسل إلى لوط كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، فقال لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ واختلفوا في معنى قوله، قال محمد بن الفضل: يعني على شريعة الإسلام. وقال تميم: فلعلّ ذلك إلّا إذا كان تزويجه بناته من الكفرة جائزا كما زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم بنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وكانا كافرين، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: أراد بقوله بَناتِي: النساء، وكلّ نبي أبو أمّته. وقرأ بعض القراء النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو أب لهم، وقال بعضهم: كان لهم سيّدان مطاعان فأراد أن يزوجهما بنتيه، زعوراء وريثا.
__________
(1) تفسير الطبري: 12/ 107، وذكر الأبيات السابقة.
(2) الجمزى: السريع يقال: الناقة تعدو الجمزى وكذلك الفرس، لسان العرب: 5/ 323.
(3) تاج العروس: 5/ 557.
(4) تفسير الطبري: 12/ 108.(5/181)
وقوله: (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) قراءة العامة برفع الراء، وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو: (أَطْهَرَ) بالنصب على الحال «1»
، فإن قيل: فأي طهارة في نكاح الرجال حتى قال لبناته هن أطهر لكم؟
قيل: ليس هذا زيادة النسل، إنما يقال ليس ألف «أطهر» للتفضيل وهذا سائغ جائز في كلام العرب كقول الناس: الله أكبر، فهل يكابر الله أحد حتى يكون هو أكبر منه؟ ويدلّ عليه ما
روي عن أبي سفيان حين قال يوم أحد: أعل هبل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعمر: «قل الله أعلى وأجل»
[99] «2»
، وهبل لم يكن قط عاليا.
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي لا تهينوني فيهم بركوبهم، وهم لا يركبون، وعجزي من دفعهم عنهم. وقيل: أراد ولا تشهروني بهم. تقول العرب: خزي خزيا إذا افتضح، وخزي يخزي خزاية بمعنى الاستحياء، قال ذو الرمة:
خزاية أدركته بعد جولته ... من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب «3»
أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ صالح، قال ابن عباس: معناه رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي ليس لنا أزواجا [نلتصقهنّ] بالتزويج وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ من إتيان الأضياف، فقال لهم لوط عند ذلك لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي منعة وشيعة تنصرني أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أي ألجأ وأنضوي إلى عشيرة مانعة، وجواب (لو) مضمر [تقديره: لرددت أهل الفساد] ، وقالوا: ما بعث الله بعده نبيا إلّا في ثروة من قومه،
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه الآية قال: «رحم الله أخي لوطا لقد كان يأوي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» [100] «4» .
قال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسوّر الجدار، فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب والنصب بسببهم، قالوا: يا لوط إنّ ركنك لشديد وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فافتح الباب ودعنا وإيّاهم ففتح الباب ودخلوا، فاستأذن جبريل (عليه السلام) ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وله جناحان [وعليه وشاح من در منظوم وهو برّاق الثنايا أجلى الجبين، ورأسه بك حبك] مثل المرجان وهو اللؤلؤ كأنّه ثلج، وقدماه إلى الخضرة فقال: يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، امض يا
__________
(1) كلام غير مقروء.
(2) مسند أحمد: 1/ 288.
(3) لسان العرب: 14/ 227.
(4) المعجم الأوسط للطبراني: 8/ 342.(5/182)
لوط من الباب، ودعني وإيّاهم، فتنحى لوط عن الباب فخرج عليهم فنشر جناحه فضرب [به] «1» وجوههم فطمس أعينهم فعموا وانصرفوا على أعقابهم فلم يعرفوا طريقا ولم يهتدوا إلى بيوتهم.
فانصرفوا وهم يقولون: النجا النجا فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقد سحرونا، وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى نصبح، يتوعدونه، فقال لهم لوط: متى موعد هلاكهم؟
فقالوا: الصبح قال: أريد أسرع من ذلك أن تهلكونهم الآن، فقالوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ قالوا له: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ، قرأ أهل الحجاز بوصل الألف من سرى يسري ويدلّ عليه قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ وقرأ الباقون بقطع الألف من أسرى يسري اعتبارا بقوله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وهما بمعنى واحد.
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال ابن عباس: بطائفة من الليل، الضحّاك: ببقية، قتادة:
بعد مضي صدره، الأخفش: بعد جنح، وقيل: بعد هدوء، وبعضها قريب من بعض.
وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: إِلَّا امْرَأَتُكَ برفع التاء على الاستثناء من الالتفات أي وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ فإنها تلتفت وتهلك، وإنّ لوطا خرج بها، ونهى من معه ممن أسرى بهم أن يلتفت سوى زوجته، فإنها لما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت: وا قوماه فأدركها حجر فقتلها.
وقرأ الباقون بنصب المرأة على الاستثناء من الأهل، أي فأسر بأهلك بقطع من الليل إلّا امرأتك ولا يلتفت منكم أحد، ف إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ من العذاب غير مخطئها ولا يخطيهم.
إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أي إن موعد هلاكهم هو الصبح، فقال لوط: أريد أسرع من ذلك، فقالوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وذلك أن جبريل (عليه السلام) أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات سدوم وعامورا ودادوما وصبوا، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم جعل عالِيَها سافِلَها.
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل (عليه السلام) : «إن الله تبارك وتعالى سمّاك بأسماء ففسّرها لي، قال الله في وصفك ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ فأخبرني عن قوّتك، قال: يا محمد رفعت قرى قوم لوط من تخوم الأرض على جناحي في الهواء حتى سمعت ملائكة سماء الدنيا أصواتهم وأصوات الديكة ثم قلبتها ظهرا لبطن، قال: فأخبرني عن قوله مُطاعٍ قال: إن رضوان خازن الجنان، ومالكا خازن النيران متى كلفتهما فتح أبواب الجنة والنار فتحاهما لي، قال: فأخبرني عن قوله أَمِينٍ قال: إن الله عزّ وجلّ أنزل من السماء مائة وأربعة كتب على أنبيائه لم يأتمن عليها غيري» [101] .
__________
(1) المخطوط غير مقروء وما أثبتناه من تفسير الطبري: 12/ 120.(5/183)
وَأَمْطَرْنا عَلَيْها أي على شذاذها وسافليها، وقال أبو عبيدة: مطر في الرحمة، وأمطر في العذاب حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ قال مجاهد: أولها حجر وآخرها طين، وقال ابن عباس ووهب وسعيد بن جبير (سنك) «1» : و (كل) حجارة وطين، قتادة وعكرمة: السجّيل: الطين دليله قوله تعالى لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ قال الحسن: كان أصل الحجارة طينا فشدّدت.
وروى عكرمة أيضا أنه قال: هو حجر معلق في الهواء بين الأرض والسماء منه أنزل الحجارة، وقيل: هو جبال في السماء وهي التي أشار الله إليها فقال: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ وقال أهل المعاني: السجّيل والسجّين واحد، وهو الشديد من الحجر والضرب. قال ابن مقبل:
ورجلة يضربون البيض عن عرض «2» ... ضربا تواصت به الأبطال سجينا «3»
والعرب تعاقب بين اللام والنون، قالوا: لأنّها كلها ذلقة من مخرج واحد ونظيره في الكلام هلّت العين وهنّت إذا أصيبت وبكت، وقيل: هو فعيل من قول العرب أسجلته إذا أرسلته فكأنها مرسلة عليهم، وقيل: من سجلت لهم سجلا إذا أعطيتهم كأنهم أعطوا ذلك البلاء والعذاب، قال الفضل بن عباس:
من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب «4»
مَنْضُودٍ قال ابن عباس: متتابع، قتادة: بعضها فوق بعض، الربيع: قد نضد بعضه على بعض، عكرمة: مصفوف، أبو بكر الهذلي: معدّ وهي من عدة [الله] التي أعدت للظلمة.
مُسَوَّمَةً من نعت الحجارة، وهي نصب على الحال ومعناها معلّمة قتادة وعكرمة:
مطوقة بها نضح من حمرة، ابن جريج: كانت لا تشاكل حجارة الأرض، الحسن والسدّي:
مختومة، وقيل: مشهورة، ربيع: مكتوب على كل حجر اسم من رمي به.
وَما هِيَ يعني تلك الحجارة مِنَ الظَّالِمِينَ من مشركي مكّة بِبَعِيدٍ قال مجاهد:
يرهب بها قريشا، قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة والله ما أجار الله منها ظالما بعد،
وقال أنس بن مالك: سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبريل (عليه السلام) عن قوله تعالى وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ قال: يعني بها ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلّا هو يعرف أي حجر سقط عليه «5» .
__________
(1) كلمة فارسية معناها: الحجر.
(2) في المخطوط وتفسير القرطبي: ضاحية، وفي مصادر اللغة ما ذكرنا. [.....]
(3) تاج العروس: 7/ 336.
(4) لسان العرب: 11/ 326.
(5) راجع تفسير ابن كثير: 2/ 471.(5/184)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 109]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
وَإِلى مَدْيَنَ يعني وأرسلنا إلى قوم مدين بن إبراهيم، أَخاهُمْ شُعَيْباً بن شرون بن أيوب بن مدين بن إبراهيم.
قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ وكانوا يطفّفون(5/185)
إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ قال ابن عباس (رضي الله عنه) : موسرين في نعمة، الحسن: الغنى ورخص السعر، قتادة: المال وزينة الدنيا، الضحاك: رغد العيش وكثرة المال، مجاهد: خصب وسعة، وغيرهم في غلاء السعر وزوال النعمة وحلول النقمة إن لم يتوبوا وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ محيط بكم فلا يفلت منكم أحد.
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ اكتالوا بالقسط وَلا تَبْخَسُوا ولا تنقصوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: ما أبقى الله لكم من الحلال، وإيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف «1» ، قال مجاهد:
الطاعة، سفيان «2» : رزق الله، قتادة: حظكم من ربكم، ابن زيد: الهلاك في العذاب والبقية:
الرحمة، الفرّاء: مراقبة الله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وإنما قال هذا لأن شعيبا لم يؤمر بالقتال.
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأوثان، قال ابن عباس:
كان شعيب كثير الصلاة لذلك قالوا هذا، قال الأعمش: يعني قراءتك أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا يعني أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، وقرأ بعضهم: تفعل وتشاء بالتاء يعني:
تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء فيكون راجعا إلى الأمر لا إلى الترك.
قال أهل التفسير: كان هذا نهيا لهم عنه وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم. فلذلك قالوا: وأن نفعل ما نشاء إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قال ابن عباس: السفيه الغاوي. قال القاضي: والعرب تصف الشيء بضده، للتطير والفأل كما قيل للديغ: سليم، وللفأرة: مفازة.
وقيل: هو على الاستهزاء، كقولهم للحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض: أبو الجون، ومنه قول خزنة النار لأبي جهل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. وقيل: معناه الحليم الرشيد بزعمك وعند كن ومثله في صفة أبي جهل، وقال ابن كيسان: هو على الصحة أي أنّك يا شعيب لنا حليم رشيد، فليس يجمل بك شق عصا قومك ولا مخالفة دينهم، كقول قوم صالح له: يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا.
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجّة وبصيرة وبيان وبرهان مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً حلالا طيبا من غير بخس ولا تطفيف، وقيل: علما ومعرفة وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ما أريد أن أنهاكم عن أمر وأرتكبه إِنْ أُرِيدُ ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع فيما ينزل بي من النوائب، وقيل: إليه أرجع في الآخرة.
__________
(1) وهو نقص المكيال والميزان.
(2) زاد المسير: 4/ 116.(5/186)
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ لا يحملنكم شِقاقِي خلافي وفراقي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من العذاب وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط، وقيل: ما دار قوم لوط منكم ببعيد وَيا قوم اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ محبّ المؤمنين، وقيل: مودود للمؤمنين ومحبوبهم.
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وذلك أنه كان ضريرا، قال سفيان: كان ضعيف البصر، وكان يقال له خطيب الأنبياء وَلَوْلا رَهْطُكَ عشيرتك وكان في عزة ومنعة من قومه لَرَجَمْناكَ لقتلناك وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا قيل: الهاء راجعة إلى الله وقيل: إلى أمر الله وما جاء به شعيب، أي نبذتموه وراء ظهوركم وتركتموه، يقال: جعلت أمري بظهر إذا قصر في أمره وأخلّ بحقه.
إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي تؤدتكم ومكانكم، يقال:
فلان يعمل على مكانته ومكنته إذا عمل على تؤدّه تمكن. ويقال: مكن يمكن مكنا مكانا ومكانة، إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ أيّنا الجاني على نفسه، والأخطى في فعله، وذلك قوله مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ قيل:
(مَنْ) في محل النصب أي فسوف تعلمون من هو كاذب، وقيل: ويخزي من هو كاذب، وقيل: محله رفع تقديره: ومن هو كاذب فيعلم كذبه ويذوق وبال أمره ف ارْتَقِبُوا وانتظروا العذاب إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ منتظر.
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ صيحة من السماء أخذتهم وأهلكتهم، ويقال: إن جبريل صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم.
فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ميتين ساقطين هلكى صرعى كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا يكونوا فِيها أَلا بُعْداً هلاكا وغضبا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ هلكت ثَمُودُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة بيّنة إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وخالفوا أمر موسى وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ أي يتقدمهم ويقودهم إلى النار يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وبئس المدخل المدخول فيه.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ العون المعان، وذلك أنه ترادفت عليهم اللعنات، لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة.
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ خراب، ابن عباس: قائِمٌ ينظرون إليه، وَحَصِيدٌ قد خرب وهلك أهله، مقاتل: قائِمٌ يعني له أثر، وَحَصِيدٌ لا أثر له، مجاهد:(5/187)
قائِمٌ: خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَحَصِيدٌ: مستأصل يعني محصودا كالزرع إذا حصد، قال قتادة:
القائم منها لم يذهب أصلا، ومنها حصيد قد ذهب أصلا، القرضي: مِنْها قائِمٌ بجدرانها وحيطانها، وحصيد: ساقط، محمد بن إسحاق: منها قائم يعني [.....] «1» وأمثالها من القرى التي لم تهلك، وَحَصِيدٌ يعني التي قد أهلكت.
وَما ظَلَمْناهُمْ بالعذاب والإهلاك وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعصية يظلمون فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (مِنْ شَيْءٍ) لَمَّا جاءَ أَمْرُ عذاب رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ غير تخسير.
وَكَذلِكَ وهكذا أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ نظير قوله: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» .
إِنَّ فِي ذلِكَ لعبرة وعظة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يعني يوم القيامة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ قال عبد الله بن مسعود لأصحابه: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيد واحد تسمعون الداعي [......] «3» وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يشهده أهل السماء وأهل الأرض.
وَما نُؤَخِّرُهُ يعني وما نؤخّر ذلك اليوم ولا نقيم عليكم القيامة إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي مؤقّت لا يتقدم ولا يتأخر يَوْمَ يَأْتِ وقرئ بإثبات الياء وحذفه، وهما لغتان وحذف الياء له طريقان كالكسرة عن الياء «4» والضمة من الواو، كقول الشاعر:
كفاك كفّ ما تليق ودرهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما «5»
لا تَكَلَّمُ أي: لا تتكلم نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ نظير تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ أي: تتنزل.
قال لبيد:
والعين ساكبة على أطلائها ... عوذا تأجّل بالفضاء بهامها «6»
[أي تتأجل] .
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ قال ابن عباس: فمنهم شقي كتبت عليه السعادة،
وروى عبد الله ابن دينار عن ابن عمر عن عمر، قال: لمّا نزلت هذه الآية سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا نبي الله
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) سورة البروج: 12.
(3) كلمة غير مقروءة.
(4) نحو: لا أدر.
(5) لسان العرب: 10/ 334.
(6) لسان العرب: 11/ 11.(5/188)
فعلى ما عملنا، على شيء فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «على شيء قد فرغ منه يا عمر، وجرت به الأقلام ولكن كلّ ميسّر لما خلق له» [102] «1» .
وروي عنه (عليه السلام) : «الشقي من شقي في بطن أمّه، والسعيد من سعد في بطن أمّه» [103] «2» .
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ خالدين فيها لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ قال ابن عباس: الزفير:
الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف، الضحّاك ومقاتل: الزفير: أول نهيق الحمار، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا ردّده في الجوف. أبو العالية: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر خالِدِينَ لابثين ومقيمين فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ يسمى هنا (ما) الوقت.
قال ابن عباس: ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ من ابتدائها إلى وقت فنائها، قال الضحّاك:
ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما، وكل ما علاك فأظلّك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض.
قال الحسين: أراد ما دامت الآخرة كدوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بقائها، قال أهل المعاني: العرب [ ... ] «3» في معنى التأبيد والخلود، يقولون: هو باق ما [ ... ] «4» وأطت الإبل، وأينع الثمر، وأورق الشجر، ومجن الليل وسال سيل، وطرق طارق، وذرّ شارقن ونطق ناطق، وما اختلف الليل والنهار، وما اختلف الذرة والجمرة، وما دام عسيب، وما لألأت العفراء ونابها، وما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، فخاطبهم الله تعالى بما تعارفوا بينهم.
ثم استثنى فقال: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ اختلف العلماء في هذين الاستثناءين، من أهل الشقاوة أو من أهل السعادة، فقال بعضهم هو في أهل التوحيد الذين يخرجهم الله من النار.
قال ابن عباس: وما شاءَ رَبُّكَ أن يخرج أهل التوحيد منها، وقال في قوله في وصف السعداء: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ أن يخلدهم في الجنة، وقال قتادة: في هذه الآية الله أعلم بها، وذكر لنا أن ما أقوله سيصيبهم سفع من النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم الله منها، وعلى هذا القول يكون استثناء من غير جنسه لأن الأشقياء في الحقيقة هم الكافرون، والسعداء في الحقيقة هم المؤمنون.
__________
(1) مسند أحمد: 1/ 6.
(2) مجمع الزوائد: 7/ 193، وتأويل مختلف الحديث: 13.
(3) كلام غير مقروء. [.....]
(4) كلمة غير مقروءة.(5/189)
وقال أبو مجلز: هو جزاؤه إلّا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم، ولا يدخلهم النار، وفي وصف السعداء إلّا ما شاء ربك بقاءهم في الجنة. قال ابن مسعود: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ. وهو أن يأمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ثم يجدّد خلقهم.
قال: وليأتين على جهنم زمان تغلق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فِيها أَحْقاباً، وقال الشعبي: جهنم أسرع الدارين عمرا وأسرعهما خرابا، وقال ابن زيد: في هذه الآية أخبرنا بالذي أنشأ لأهل الجنة فقال: هذا غير مجذوذ، ولم يخبرنا بالذي أنشأ لأهل النار، وقال ابن كيسان: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من الفريقين من تعميرهم في الدنيا قبل مصيرهم إلى الجنة والنار، وقيل: ما شاءَ رَبُّكَ من احتباس الفريقين في البرزخ ما بين الموت والبعث.
الزجّاج: في هذه الآية أربعة أقوال: قولان منها لأهل اللغة، وقولان لأهل المعاني، فأمّا أحد قولي أهل اللغة فإنهم قالوا: إِلَّا هاهنا بمعنى سوى كما يقال في الكلام: ما كان معنا رجل إلّا زيد، ولي عليك ألف درهم إلّا الألفان التي لي عليك، فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود، والقول الثاني: إنّه استثنى من الإخراج وهو لا يريد أن يخرجهم منها، كما يقول في الكلام: أردت أن أفعل كذا إلّا أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل، والمعنى أنّه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنّه أعلمهم أنهم خالدون فيها، قال الزجّاج: فهذان مذهبا أهل اللغة.
وأما قولا أهل المعاني، فإنهم قالوا: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من مقدار مواقفهم على رأس قبورهم وللمحاسبة إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم، وقال الفراء: معناه: وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة، وإِلَّا بمعنى الواو سائغ جائز في اللغة، قال الله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ومعناه، ولا الذين ظلموا، وأنشدني أبو ثروان:
من كان أشرك في تفرّق فالج ... فلبونه جربت معا وأغدت
إلّا كناشرة الذي ضيعتم ... كالغصن في غلوائه المثبت «1»
معناه، لكن هنا كناشرة، وهي كاسم قبيلة، وقال: معناه كما شاء ربك كقوله وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ معناه كما قد سلف.
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا قرأ أهل الكوفة: (سعدوا) بضم السين أي رزقوا السعادة، وسعد وأسعد بمعنى واحد، وقرأ الباقون بفتح السين قياسا على الذين شقوا، واختاره أبو عبيد وأبو
__________
(1) لسان العرب: 2/ 95، وتاج العروس: 1/ 59.(5/190)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
حاتم فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ. الضحّاك: إلّا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة، أبو سنان: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من الزيادة على قدر مدة دوام السماء والأرض، وذلك هو الخلود فيها، قال الله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ غير مقطوع.
وكيع بن الجراح: كفرت الجهمية بأربع آيات من كتاب الله، قال الله تعالى في وصف نعيم الجنة مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وقالت الجهمية: يقطع فيمنع عنهم، وقال الله أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها
وقالوا: لا يدوم، وقال الله ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وقالوا: لا يبقى، وقال الله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ وقالوا: يجذ ويقطع.
فَلا تَكُ يا محمد فِي مِرْيَةٍ في شك مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ فهم ضلّال.
ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ فيه إضمار أي: [كعبادة] آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ حظهم من الجزاء غَيْرَ مَنْقُوصٍ.
[سورة هود (11) : الآيات 110 الى 115]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
وَلَقَدْ آتَيْنا أعطينا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ممّن صدف عنه وكذّب به، كما فعل قومك بالقرآن يعزّي نبيه صلّى الله عليه وسلّم وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أفرغ من عقابهم وإهلاكهم، يعني المختلفين المخالفين.
وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ موقع في الريب والتهمة، يقال: أراب الرجل، أي جاء بريبة، وألام إذا أتى بما يلام عليه، قال الشاعر:
تعد معاذرا لا عذر فيها ... ومن يخذل أخاه فقد ألاما «1»
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا اختلف فيه القرّاء، فقرأ ابن عامر وأبو جعفر وحمزة وأن بتخفيف النون ولَمَّا بتشديد الميم على معنى فإنّ كلا لمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة، كقول الشاعر:
كان من أخرها لقادم ... مخرم نجد فارع المحارم «2»
__________
(1) الصحاح: 5/ 2034، ولسان العرب: 12/ 558.
(2) تفسير الطبري: 12/ 161.(5/191)
أراد إلى القادم، فحذف اللام عند اللام وتكون (ما) بمعنى من تقديره لممّن يوفينّهم، كقول الشاعر:
وأنّي لمّا أصدر الأمر وجهه ... إذا هو أعيا بالسبيل مصادره «1»
وقيل: أراد وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا بالتنوين والتشديد، قرأها الزهري بالتنوين أي وَإِنَّ كُلًّا شديدا وحقا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ من قوله تعالى: كُلًّا لَمَّا، أي شديدا فحذفوا التنوين وأخرجوه على هذا فعلى، كما فعلوا في قوله: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا، وقرأ نافع وابن كثير بتخفيف النون والميم على معنى إن الثقيلة مخفّف، وأنشد أبو زيد:
ووجه مشرق النحر كأن ثدييه حقّان «2»
أراد كان فخفّف ونصب به، و (ما) صلة تقديره وإن كلا ليوفينّهم. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب وحفص وأيوب وخلف بتشديد النون وتخفيف الميم على معنى وأن كلا ليوفينّهم، جعلوا (ما) صلة. وقيل: أرادوا وأن كلا لممّن كقوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي من. وقرأ أبو بكر بن عياش بتخفيف النون وتشديد الميم أراد أن الثقيلة فخفّفها.
وقيل: (أن) بمعنى (ما) الجحد و (لما) بمعنى (إلا) تقديره وما كلا إلّا ليوفينّهم، ولكنه نصب كلّا بإيقاع التوفية عليه أي ليوفينّ كلا وهو أبعد القراءات فيها من الصواب، إنه بما تعملون خبير.
فَاسْتَقِمْ يا محمد على أمر ربك والعمل به والدعاء إليه كَما أُمِرْتَ أن لا تشرك بي شيئا وتوكّل عليّ مما ينوبك، قال السدّي: الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته.
وَمَنْ تابَ مَعَكَ فليستقيموا، يعني المؤمنين وَلا تَطْغَوْا ولا تجاوزوا أمري، وقال ابن زيد: ولا تعصوا الله ولا تخالفوه، وقيل: ولا تتخيّروا «3» .
إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا يخفى عليه من أعمالكم شيء، قال ابن عباس: ما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشقّ عليه من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب، فقال: «شيبتني سورة هود وأخواتها» [104] «4» .
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قال ابن عباس: ولا تميلوا على غيّهم ولا تدهنوا لهم
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 105.
(2) تفسير الطبري: 12/ 162.
(3) تفسير القرطبي: 9/ 107.
(4) الجامع الصغير: 2/ 82 ح/ 4916، وكنز العمّال: 1/ 573.(5/192)
قال، أبو العالية: لا ترضوا على أعمالهم. قتادة: لا تلحقوا بالمشركين. السدّي وابن زيد، ولا تداهنوا الظلمة، ابن كيسان: لا تسكنوا إلى الذين ظلموا.
فَتَمَسَّكُمُ تصيبهم النار وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي أعوان يمنعون ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ يعني الغداة والعشي، قال ابن عباس: يعني صلاة العصر والمغرب. مجاهد: صلاة الفجر وصلاة العشاء، القرظي: هي الفجر والظهر والعصر، الضحاك: صلاة الفجر والعصر، [وقيل: الطرفان] صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف.
وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يعني صلاة العتمة، وقال الحسن: هما المغرب والعشاء، قال الأخفش: يعني ساعات الليالي واحدتها زلفة، وأصل الزلفة المنزلة والقربة، ومنه المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة، قال العجاج:
طيّ الليالي زلفا فزلّفا ... سماوة الهلال حتى أحقوقفا «1»
وفيه أربع لغات زُلَفاً: بفتح الفاء وضم اللام وهي قراءة العامة، وقرأ أبو جعفر بضم الزاي واللام، وقرأ ابن محيصن بضم الزاي وجزم اللام، وقرأ مجاهد زلفى، مثل قربى.
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يعني: إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات، هذا قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: هي قول العبد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر.
نزلت هذه الآية في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري وكان يبيع التمر فأتته امرأة تبتاع تمرا فقال: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه، فهل لك فيه، فقالت: نعم، فذهب بها إلى بيته فضمها إليه وقبّلها، فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل راود امرأة عن نفسها ولم يبق شيئا مما يفعل الرجال بالنساء إلّا ركبه غير أنه لم يجامعها، فقال عمر بن الخطاب: لقد ستر الله عليك لو سترت على نفسك، فلم يردّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا، وقال: أنظر فيه أمر ربي، وحضرت صلاة العصر، فصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم العصر، فلما فرغ أتاه جبريل بهذه الآية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أين أبو اليسر؟» فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، قال: «أشهدت معنا هذه الصلاة؟» قال: نعم، قال: «اذهب فإنها كفارة لما عملت» فقال عمر: يا رسول الله أهذا له خاصّة أم لنا عامة؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بل للناس عامة» [105] «2» .
ذلِكَ الذي ذكرناه، وقيل: هو إشارة إلى القرآن ذِكْرى عظة لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ يا
__________
(1) لسان العرب: 9/ 52.
(2) المصنّف لعبد الرزّاق: 7/ 326، ح/ 13349.(5/193)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
محمد على ما تلقى من الأذى، وقيل: على الأذى، وقيل: على الصلاة، نظير قوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ من أعمالهم، وقال فيه ابن عباس: يعني المصلّين.
[سورة هود (11) : الآيات 116 الى 123]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
فَلَوْلا كانَ فهلّا كان مِنَ الْقُرُونِ التي أهلكناهم مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ أصحاب دين وعقل يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ومعناه: فلم يكن، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد إِلَّا قَلِيلًا استثناء منقطع مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وهم أتباع الأنبياء وأهل الحق.
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ قال ابن عباس: ما أنظروا فيه، وروي عنه: أبطروا.
الضحّاك: اعتلّوا، مقاتل بن سليمان: أعطوا، ابن حيان: خوّلوا، مجاهد: تجبّروا في الملك وعتوا عن أمر الله، الفرّاء: ما سوّدوا من النعيم واللذات وإيثار الدنيا على الآخرة وَكانُوا مُجْرِمِينَ كافرين وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ [بظلم منه لهم] وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ في أعمالهم غير مسيئين، لكنه يهلكها بكفرهم وإتيانهم السيئات، وقيل: معناه لم يكن ليهلكهم بشركهم وأهلها مصلحون فيما بينهم لا يتظالمون، ويتعاطون الحق بينهم وإن كانوا مشركين، وإنّما يهلكهم إذا ظلموا.
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ كلّهم أُمَّةً جماعة واحِدَةً على ملّة واحدة وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ على أديان شتى من يهودي ونصراني ومجوسي ونحو ذلك إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ويعني بهم المؤمنون وأهل الحق.
وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال الحسن ومقاتل بن حيان ويمان وعطاء: وللاختلاف خلقهم، قال الأشهب: سألت مالكا عن هذه الآية فقال: خلقهم ليكون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وقيل: اللام بمعنى على، أي وعلى ذلك خلقهم، كقول الرجل للرجل: أكرمتك على برّك بي ولبرّك بي، ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة: وللرحمة خلقهم ولم يقل: ولتلك، والرحمة مؤنّثة لأنها مصدر وقد مضت هذه المسألة، وهذا باب سائغ في اللغة [وهو أن يذكر] لفظان(5/194)
متضادان ثم يشار إليهما بلفظ التوحيد فمن ذلك قوله تعالى لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ ثم قال:
عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ، وقوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا وقوله:
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا فكذلك معنى الآية، ولذلك أي وللاختلاف والرحمة خلقهم أحسن خلق، هؤلاء لجنّته، وهؤلاء لناره.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ قال ابن عباس: نسدد، الضحاك: نقوّي، ابن جريج: نصبّر حتى لا تجزع، أهل المعاني: ما نثبّت به قلبك.
وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ قال الحسن وقتادة: في هذه الدنيا، وقال غيرهما: في هذه السورة، وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا ما يحلّ بنا من رحمة الله إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما يحل بكم من النقمة.
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس: خزائن الله، الضحّاك: جميع ما غاب عن العباد، وقال الباقون: غيب نزول العذاب من السماء وإلينا يرجع الأمر كله في المعاد حتى لا يكون للخلق أمر، وقرأ نافع وحفص بضم الياء أي يُرْجَعُ ... فَاعْبُدْهُ وحده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ توثّق به وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ قال كعب: خاتمة التوراة خاتمة هود والله أعلم. يعملون قراءة العامة بالياء، وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء.(5/195)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
سورة يوسف (ع)
مكية، وهي سبعة آلاف وستة وسبعون حرفا، وألف وسبعمائة وستة وسبعون كلمة، ومائة وإحدى عشرة آية
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقرئ غير مرة، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد ابن إبراهيم الجرجاني، وأبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصفهاني قالا: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، قال: حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي، قال: حدثنا سلام بن سليم المدائني، قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «علّموا أرقّاءكم سورة يوسف فإنه أيّما مسلم تلاها وعلّمها أهله وما ملكت يمينه هوّن الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلما» [106] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ يعني البيّن حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وهداه وبركته، قال معاذ بن جبل: بيّن فيه الحروف التي سقطت من ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف.
إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغتكم يا معشر العرب لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تعلموا معانيه وتقيموا ما فيه نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أي نقرأ، وأصل القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فالقاص يتتبع الآثار ويخبر بها.
أَحْسَنَ الْقَصَصِ يعني قصة يوسف بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ و (ما) المصدر أي بإيحائنا إليك هذا القرآن وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ من قبل وحينا لَمِنَ الْغافِلِينَ
قال سعد بن أبي وقاص:
أنزل القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلاه عليهم زمانا، وكأنهم ملّوا فقالوا: لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ الآية، فقالوا: يا رسول الله لو ذكرتنا وحدثتنا فأنزل الله تعالى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ الآية، فقال الله تعالى على هذه الآية:
أَحْسَنَ الْقَصَصِ.
واختلف الحكماء فيها لم سميت أحسن القصص من بين الأقاصيص؟ فقيل: سماها أَحْسَنَ(5/196)
الْقَصَصِ
لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة، وقيل: سمّاها أحسن لامتداد الأوقات فيما بين مبتداها إلى منتهاها، قال ابن عباس: كان بين رؤيا يوسف ومصير أبيه وأخوته إليه أربعون سنة، وعليه أكثر المفسرين، وقال الحسن البصري:
كان بينهما ثمانون سنة.
وقيل: سماها أَحْسَنَ الْقَصَصِ لحسن مجاورة يوسف إخوته، وصبره على أذاهم، وإغضائه عند الالتقاء بهم عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم وقيل: لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والأنس والجن والأنعام والطير، وسير الملوك والمماليك، والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء، وحيلهن ومكرهن، وفيها أيضا ذكر التوحيد والعفة والسير وتعبير الرؤيا والسياسة وتدبير المعاش، وجعلت أحسن القصص لما فيها من المعاني الجزيلة والفوائد الجليلة التي تصلح للدين والدنيا، وقيل: لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب. وقيل: أَحْسَنَ الْقَصَصِ هاهنا بمعنى أعجب.
إِذْ قالَ يُوسُفُ قراءة العامة يوسف بضم السين، وقرأ طلحة بن مصرف بكسر السين، واختلفوا فيه فقال أكثرهم: هو اسم عبريّ فلذلك لا يجري، وقال بعضهم: هو اسم عربي.
سمعت أبا القاسم الحبيبي، قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا الحسن الأقطع، وكان حكيما، وسئل عن يوسف، فقال: الأسف: الحزن، والأسيف: العبد واجتمعا في يوسف فلذلك سمي يوسف.
لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام) .
روى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام) » [107] «1» .
يا أَبَتِ قرأ أبو جعفر وابن عامر بفتح التاء في جميع القرآن على تقدير يا أبتاه، وقرأ الباقون بالكسر، لأنه أصله يا أبه على هاء الوقف والجر.
إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً نصب الكوكب على التمييز، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ولم يقل: رأيتها لي ساجدة، والهاء والميم والياء والنون من كنايات ما يعقل لأن السجود فعل ما يعقل فعبّر عنها بكنايتها كقوله يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ الآية.
روى السدّي عن عبد الرحمن بن [ساريا] ، عن جابر، قال: سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجل من اليهود يقال له بستان، فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها، فسكت؟ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «هل أنت مؤمن إن أخبرت بأسمائها؟» قال: نعم،
__________
(1) سنن الترمذي: 4/ 356، ح 5119.(5/197)
فقال: «حرثان «1» والطارق والذيال وذو النقاب «2» وقابس ووثاب وعمودان والمصبح والفليق والضروح وذو الفرغ «3» ، رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء فسجدن له» فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها [108] «4» .
قال ابن عباس: الشمس والقمر أبواه والكواكب إخوته الأحد عشر. وقال قتادة: الشمس أبوه والقمر خالته، وذلك أن أمه راحيل كانت قد ماتت، قال وهب: وكان يوسف رأى وهو ابن سبع سنين، أن احدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة ثبتت عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه، فقال له: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن اثني عشرة سنة أنّ أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدن له فقصّها على أبيه فقال له: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً فيبغوا لك الغوائل ويحتالوا في إهلاكك، لأنهم يعلمون تأويلها فيحسدونك إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
واختلف النحاة في وجه دخول اللام في قوله لك، فقال بعضهم: معناه فيكيدوك واللام صلة، كقوله لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ «5» وقال آخرون: هو مثل قولهم: نصحتك ونصحت لك، وشكرتك وشكرت لك، وحمدتك وحمدت لك، وقصدتك وقصدت لك.
وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ كقوله: [يصطفيك ويختارك] ليوسف وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تعبير الرؤيا وسمي تأويلا لأنه يؤوّل أمره إلى ما رأى في منامه وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ بالخلة وإنجائه من النار قال عكرمة:
بأن نجّاه من الذبح وفداه بذبح عظيم. وقال الباقون: بإخراج يعقوب، والأسباط من صلبه.
إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ولهذا قيل: العرق نزّاع والأصل لا يخطئ، فلمّا بلغت هذه الرؤيا إخوة يوسف حسدوه، قال ابن زيد: كانوا أنبياء، وقالوا: ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه، فبغوه بالعداوة «6» .
__________
(1) في الطبري: جربان.
(2) في تفسير الطبري: ذو الكنفين، وفي الدرّ المنثور: الكفّتان.
(3) في بعض المصادر: القرع. [.....]
(4) تفسير الطبري: 12/ 197، والدرّ المنثور: 4/ 4.
(5) سورة الأعراف: 154.
(6) عن تفسير القرطبي: 9/ 130.(5/198)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
[سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 18]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11)
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16)
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)
يقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ أي في خبره وخبر إخوته وَإِخْوَتِهِ وأسماؤهم روبيل وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهودا، وزيالون، وأمنجر، وأمهم ليا بنت أيان وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من سريّتين له اسم إحداهما زاد والأخرى ملده، أربعة نفر، دان ونفتالي وجاد وآشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا.
آياتٌ قرأ أهل مكة آية على الواحد، أي عظة وعبرة، وقيل: عجب، يقال: فلان آية في الحسن والعلم أي عجب، وقرأ الباقون: آياتٌ على الجمع لِلسَّائِلِينَ وذلك
أن اليهود سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قصة يوسف فأخبرهم بها كما في التوراة فعجبوا منه وقالوا: من أين لك هذا يا محمد؟ قال: «علّمنيه ربي» [109]
وقيل: معناه للسائلين ولمن لم يسأل، كقوله:
سَواءً لِلسَّائِلِينَ.
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ اللام فيه جواب القسم تقديره: تالله ليوسف وأخوه بنيامين أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي جماعة والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى الخمسة عشر، وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ خطأ بيّن في إيثاره يوسف وأخاه علينا.
اقْتُلُوا يُوسُفَ اختلفوا في تأويل هذا القول، فقال وهب: قاله شمعون، كعب: دان، مقاتل: روبيل أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً أي في أرض يَخْلُ لَكُمْ يخلص ويصفو لكم.
وَجْهُ أَبِيكُمْ عن شغله بيوسف فإنه قد شغله عنّا وصرف وجهه إليه عنّا وَتَكُونُوا مِنْ(5/199)
بَعْدِهِ
من بعد قتل يوسف قَوْماً صالِحِينَ تائبين، وقال مقاتل: يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ وهو روبيل، وقال السدي: هو يهودا، وهو أعظمهم وكان ابن خالة يوسف، وكان أحسنهم فيدايا نهاهم عن قتله وقال لهم: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإن قتله عظيم.
وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي في قعر الجب وظلمته حيث يغيب خبره، قتادة: في أسفله، والغيابة: كل شيء غيّب شيئا، وأصلها من الغيبوبة، وقرأ أهل المدينة: غيابات الجب، على الجمع، والباقون: غَيابَتِ، على الواحد، والجبّ: البئر غير المطويّة، قتادة: هو بئر بيت المقدس، وقال وهب: هو بأرض الأردن، كعب: بين مدين ومصر، مقاتل: على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب.
يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ يأخذه، قراءة العامة بالياء لأنه البعض وقرأ الحسن: تلتقطه بالتاء لأجل السيارة، والعرب تفعل ذلك في كل خبر كان عن مضاف إلى مؤنث يكون الخبر عن بعضه خبرا عن جميعه، كقول الشاعر:
أرى مرّ السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال «1»
ولم يقل أخذت وقال الآخر:
إذا مات منهم سيد قام سيد ... فدانت له أهل القرى والكنائس «2»
بَعْضُ السَّيَّارَةِ بعض مارّي الطريق من المسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى فينستر خبره إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ما أقول لكم.
قيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب؟ ولهذا قيل: الأب جلاب، والأخ سلاب، فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضرب من الاحتيال، فقالوا ليعقوب قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا قرأ أبو جعفر بالنون، وقرأ الباقون بإشمام النون للضمّة، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأن أصله تأمننا بنونين فأدغمت أحدهما في الأخرى.
وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ نحوطه ونحفظه حتى نردّه إليك، مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير وذلك أن أخوة يوسف قالوا لأبيهم أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قال أبوهم:
إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ فحينئذ قالوا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى الصحراء يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ.
__________
(1) لسان العرب: 8/ 73، وشرح ابن عقيل: 1/ 64.
(2) تفسير الطبري: 12/ 205.(5/200)
وقرأ أبو عمرو بالنون فيهما وكذلك ابن عامر قال، هارون: فقلت لأبي عمرو: كيف تقرأ نرتع ونلعب وهم أنبياء؟ قال: لم يكونوا يومئذ أنبياء «1» ، وقرأ أهل الكوفة كلاهما بالياء أي ننعم ونأكل وننشط ونلهو، يقال: رتع فلان في ماله إذا أنعم وأنفقه في شهواته. قال القطامي:
أكفرا بعد ردّ الموت عنّي ... وبعد عطائك المائة الرتاعا «2»
وقال ابن زيد: معناه يرعى غنمه، وينظر ويعقل فيعرف ما يعرف الرجل «3» .
وقرأ يعقوب نرتع بالنون وَيَلْعَبْ بالياء ردّا للعب إلى يوسف والرتوع إلى إخوته، وقرأ أهل الحجاز نرتعِ بكسر العين من الارتعاء، أي نتحارس ويحفظ بعضنا بعضا وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
قالَ لهم يعقوب إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي ذهابكم وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لا تشعرون، وذلك أن يعقوب رأى في منامه أن الذئب قد شدّ على يوسف وكان يحذره، ومن ثم قال هذا فلقّنهم العلة وكانوا لا يدرون فقالوا: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ عشرة رجال إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ضعفة عجزة مغبونون.
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ في الكلام إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلمّا ذهبوا به وَأَجْمَعُوا وعزموا على أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ هذه الواو مقحمة زائدة تقديره أوحينا، كقوله تعالى فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أي ناديناه وقال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل «4»
أراد انتحى.
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يعني أوحينا إلى يوسف، [سوف تتحقق] رؤياك، ولتخبرنّ إخوتك بصنيعهم هذا وما فعلوه بك، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوحي الله إليه وإعلامه إياه ذلك، وهذا معنى قول مجاهد، وقيل «5» : معناه وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنك يوسف.
قال ابن عباس: لما دخل إخوة يوسف على يوسف فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ وقال: أنه ليخبرني هذا الجام إنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، يدنيه دونكم، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب ثم جئتم أباكم فقلتم: إن
__________
(1) تفسير الطبري: 12/ 206.
(2) لسان العرب: 15/ 69.
(3) المصدر السابق.
(4) غريب الحديث: 2/ 188.
(5) قاله أبو صالح عن ابن عبّاس (زاد المسير: 4/ 147) .(5/201)
الذئب أكله وبعتموه بِثَمَنٍ بَخْسٍ، فذلك قوله لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .
قال السدّي: أرسل يعقوب يوسف معهم فأخرجوه وبه عليهم من الكرامة، فلمّا برزوا إلى البرية أظهروا له العداوة وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يجد منهم رحمة، فضربوه حتى كادوا يقتلونه فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه يا يعقوب، لو تعلم ما يصنع بابنك هؤلاء الأبناء.
فلمّا كادوا ليقتلوه قال يهودا: أليس سألنا أبانا موثقا ألّا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فجعلوا يدلونه في البئر، فتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال: يا إخوتاه، ردّوا عليّ القميص أتوارى به في الجب، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك، قال: إنّي لم أر شيئا.
فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيه فقام عليها، فلمّا ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنّها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه فقام يهودا فمنعهم وقال: قد أعطيتموني موثقا ألّا تقتلوه، وكان يهودا يأتيه بالطعام «2» .
ويقال: إن الله تعالى أمر صخرة حتى ارتفعت من أسفل البئر فوقف يوسف عليها وهو عريان، وكان إبراهيم الخليل صلّى الله عليه وسلّم حين ألقي في النار جرّد من ثيابه وقذف في النار عريانا فأتاه جبريل (عليه السلام) بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه وكان ذلك [القميص] عند إبراهيم، فلمّا مات ورثه إسحاق، فلمّا مات إسحاق ورثه يعقوب، فلمّا شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ وعلّقه في عنقه، فكان لا يفارقه، فلمّا ألقي في البئر عريانا جاء جبرئيل وكان عليه ذلك التعويذ فأخرج القميص منه وألبسه إياه، قال ابن عباس: ثم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف.
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار وترويج ما مكروا، وقد قيل: لا تطلب الحاجة بالليل وإن الحياء في العينين، ولا يعتذر من ذنب في النهار فيتلجلج في الاعتذار فلا يقدر على إتمامه، وقيل: أخّروا المجيء إلى وقت العشاء الآخرة ليدلّسوا على أبيهم.
قال السدّي: فلمّا سمع أصواتهم فزع وقال: ما لكم يا بنىّ؟ وهل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما أصابكم؟ وأين يوسف؟
__________
(1) تفسير الطبري: 12/ 211.
(2) تفسير الطبري: 12/ 209.(5/202)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي نترامى، دليله قول عبد الله: ننتضل، السدّي وابن حيان: نشتد وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ مصدّق لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ لسوء ظنّك بنا وتهمتك لنا، وهذا قميصه ملطخ بالدم فذلك قوله وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ أي بدم كذب، وقيل: بدم ذي كذب لأنه لم يكن دم يوسف وإنما كان دم شاة، وهذا كما يقال: الليلة الهلال، وقيل: معناه بدم مكذوب فيه، فوضع المصدر موضع الاسم، كما يقال: ماله عقل ولا معقول.
وقرأت عائشة: بدم كدب بالدال غير المعجمة، أي طري، فبكى يعقوب عند ذلك، وقال لبنيه: أروني قميصه فأروه، فقال: يا لله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يخرق عليه قميصه، فحينئذ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ رتبت لكم أَمْراً فَصَبْرٌ أي فمنّي أو فعليّ صبر، وقيل: فصبري صبر جَمِيلٌ وقرأ الأشهب والعقيلي: فصبرا على المصدر أي فلأصبرنّ صبرا جميلا، وهو الصبر الذي لا جزع ولا شكوى فيه.
وقيل: معناه لا أعاشركم على كآبة الوجه وحبوس الحنين، بل أكون في المعاشرة معكم جميلا كما كنت.
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن حبيب بن ثابت أن يعقوب النبي (عليه السلام) كان قد سقط حاجباه على عينيه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له: ما هذا؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ من الكذب، قالوا: وكان يوسف حين ألقي في الجب ابن ثماني عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة سنة، وقيل: كان ابن عشر، ومكث فيه ثلاثة أيام.
[سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 22]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ أي رفقة مارة من قبل مدين يريدون مصر، فأخطأوا الطريق فانطلقوا يمشون على غير الطريق حتى نزلوا قريبا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدا من العمران، إنما هو للرعاة والمجتازة، وكان ماؤه مالحا فعذب حين ألقي فيه يوسف، فلما نزلوا أرسلوا رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن ذعر ليطلب لهم الماء فذلك قوله فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ الوارد: الذي يتقدم الرفقة إلى الماء فيهيّئ الأرشية والدلاء، فوصل إلى البئر فَأَدْلى فيها(5/203)
دَلْوَهُ أي أرسلها يقال: أدليت الدلو في الماء إذا أرسلتها فيها، ودلوتها دلوا إذا أخرجتها منها، فتعلّق يوسف (عليه السلام) بالحبل، فلمّا خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أعطي يوسف شطر الحسن والنصف الآخر لسائر الناس»
[110] ، قال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساقين والساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، وكان إذا ابتسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع النور، ينبهر بين ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم (عليه السلام) يوم خلقه الله وصوره ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة وكانت قد أعطيت سدس الحسن.
فلمّا رآه مالك بن ذعر قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ واختلفت القراء في قوله: يا بُشْرى، فقرأ أهل الكوفة بسكون الياء، وقالوا: نادى مالك في رجلا من أصحابه، اسمه بشري، فقال:
يا بشر، كما يقول: يا زيد، وهذا في محل رفع على النداء المفرد، وهذا قول السدّي.
وقرأ الباقون: يا بشراي بالألف وفتح الياء على الإضافة وقالوا: بشّر المستقي أصحابه بأنه أصاب عبدا.
وَأَسَرُّوهُ واخفوه بِضاعَةً نصب على الحال، قال مالك بن ذعر وأصحابه من التجار الذين معه وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الماء إلى مصر خيفة أن يطلبوا منهم فيه الشركة إن علموا بثمنه، عطية عن ابن عباس: يعني بذلك إخوة يوسف، أسرّوا شأن يوسف أن يكون أخاهم وقالوا: هو عبد لنا أبق منّا.
قال الله تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ فأتى يهودا يوسف بالطعام فلم يجده في البئر فأخبر أخوته بذلك فطلبوه، فإذا هم مالك وأصحابه نزول، فأتوهم فإذا هم بيوسف فقالوا: هذا عبد أبق منّا، وقال وهب: كان يهودا [مستندا] من بعيد ينظر ما يطرأ على يوسف، فلمّا أخرجوه رآه فأخبر الآخرين، فأتوا مالكا وقالوا: هذا عبدنا، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، فقال مالك: أنا أشتريه منكم، فباعوه منه فذلك قوله تعالى وَشَرَوْهُ أي باعوه، قال ابن مفرغ الحميري:
وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامة «1»
أي بعت بردا وهو غلامه.
بِثَمَنٍ بَخْسٍ ناقص وهو مصدر وضع موضع الاسم، قال قتادة: ظلم، الضحاك ومقاتل
__________
(1) الصحاح للجوهري: 2/ 447.(5/204)
والسدي: حرام، لأن ثمن الحر حرام، عكرمة والشعبي: قليل، ابن حيان: زيف دَراهِمَ بدل من الثمن مَعْدُودَةٍ وذكر العدد عبارة عن القلة، أي باعوه بدراهم معدودة قليلة غير موزونة، ناقصة غير وافية، وقال قوم: إنما قال مَعْدُودَةٍ لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان وزنه أقل من أربعين درهما، إنما كان يعدونها عدّا، فإذا بلغ أوقية وزنوه، لأن أقل أوزانهم وأصغرها يومئذ كان أوقية، والأوقية أربعون درهما.
واختلف العلماء في مبلغ عدد الدراهم التي باعوه بها، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن قتادة والسدّي: عشرون درهما، فاقتسموها درهمين درهمين، مجاهد: اثنان وعشرون درهما، عكرمة: أربعون درهما.
وَكانُوا يعني أخوة يوسف فِيهِ في يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ لم يعلموا كرامته على الله ولا منزلته عنده.
ثم انطلق مالك بن ذعر وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون لهم: استوثقوا منه لا يأبق، فذهبوا حتى قدموا به مصر، فاشتراه قطفير، قاله ابن عباس، وقيل: اطفير بن روجيت وهو العزيز وكان على خزائن مصر.
وكان الملك يومئذ بمصر ونواحيها الريان بن الوليد بن ثروان بن ارامة بن فاون بن عمرو ابن عملاق بن لاود بن سام بن نوح، وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه ثم مات ويوسف بعد حيّ، فملك بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن اليبلواس بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوي بن سام بن نوح وكان كافرا فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل.
قال ابن عباس: لما دخلوا مصر تلقى قطفير مالك بن ذعر فابتاع يوسف منه بعشرين دينارا وزوج نعل وثوبين أبيضين، وقال ابن منبه: قدمت السيّارة بيوسف مصر [فعرضوه] للبيع فترافع الناس في ثمنه وتزايد حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا فابتاعه قطفير بن مالك بهذا الثمن فذلك قوله تعالى وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ.
فإن قيل: كيف أثبت الشرى في قوله وَشَرَوْهُ واشْتَراهُ ولم ينعقد عليه؟ والجواب: إن الشراء هو المماثلة فلمّا ماثله بمال من عنده جاز أن يقال: اشْتَراهُ، على التوسع، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الآية، فلمّا مرّ قطفير وأتى به منزله قال لامرأته- واسمها راحيل بنت رعابيل، قاله محمد بن إسحاق بن يسار.
قال الثعلبي: وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن منبه، قال: حدثنا أبو حامد المستملي، حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: اسم امرأة العزيز التي ضمّت يوسف زليخا بنت موسى-.(5/205)
أَكْرِمِي مَثْواهُ منزله ومقامه، قتادة وابن جريج: منزلته عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فيكفينا إذا بلغ وفهم الأمور وبعض ما نحن [نستقبله] من أمورنا.
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي نتبنّاه، قال ابن إسحاق: كان قطفير لا يأتي النساء، وكانت امرأته راحيل «1» حسناء ناعمة طاعمة في ملك ودنيا «2» .
قال الثعلبي: أخبرنا أبو بكر الجوزقي، أخبرنا أبو العباس الدغولي، حدثنا علي بن الحسن الهلالي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن أبي عبيد عن عبد الله قال:
أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرّس في يوسف فقال: أَكْرِمِي مَثْواهُ، والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، وأبو بكر حين استخلف عمر.
وَكَذلِكَ أي وكما أنقذ يوسف من أيدي إخوته وقد هموا بقتله فأخرجناه من الجبّ بعد أن ألقي فيه، فصيرناه إلى الكرامة والمنزلة الرفيعة عند عزيز مصر مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر، فجعلناه على خزائنها، قال أهل الكتاب: لما تمّت ليوسف (عليه السلام) ثلاثون سنة، استوزره فرعون.
وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي ولكي نعلّمه من عبارة الرؤيا، مكنّا له في الأرض وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ اختلفوا في هذه الكناية، فقال قوم: هي راجعة إلى الله عزّ وجلّ، وتقدير الكلام: لا يغلب الله شيء، بل هو الغالب على أمره يفعل ما يشاء، ويعلم ما يريد، وقال آخرون: راجعة إلى يوسف، ومعنى الآية: والله مستول على أمر يوسف يسوسه ويحوطه ويدبّر أمره، ولا يكله إلى غيره.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ما الله صانع بيوسف، و [ما] إليه يوسف من أمره صائر، وهم الذين زهدوا فيه وباعوه بثمن بخس وفعلوا به ما فعلوا «3» .
قالت الحكماء في هذه: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ حيث أمر يعقوب يوسف (عليهما السلام) أن لا يقصّ رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حين قصّ، ثم أراد يعقوب أن لا يكيدوا فغلب أمره حتى كادوا، ثم أراد أخوة يوسف قتله فغلب أمره حتى لم يقتلوه، ثم أرادوا أن يلقوه في الجب ليلتقطه بعض السيارة فيندرس اسمه، فغلب أمره حتى لم يندرس اسمه وصار مذكورا مشهورا.
ثم باعوه ليكون مملوكا فغلب أمره حتى صار ملكا والعبيد بين يديه، ثم أرادوا أن يخلوا لهم وجه أبيهم، فغلب أمره حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، ثم تدبّروا أن يكونوا من بعده قوما
__________
(1) في الطبري: راعيل، وهو إطفير. [.....]
(2) تفسير الطبري: 12/ 229.
(3) تفسير الطبري بتفاوت: 12/ 230.(5/206)
صالحين تائبين، فغلب أمره حتى نسوا الذنب وأصروا حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد أربعين سنة، وقالوا: وإن كنا خاطئين، وقالوا لأبيهم: إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ.
ثم أرادوا أن يغرّوا باسم القميص والدم والبكاء، فغلب أمره حتى لم يخدع، وقال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ثم احتالوا أن تذهب محبته من قبل أبيه، فغلب أمره حتى ازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم تدبّر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي، فغلب أمره حتى نسي الساقي في ذكره، ولبث في السجن بضع سنين، ثم احتالت امرأة العزيز أن [تترك] المراودة عن نفسها حتى قالت ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً الآية، فغلب أمره حتى شهد الشاهد من أهلها.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي منتهى شبابه وشدّة قوته، قال مجاهد: ثلاثا وثلاثين سنة، الضحاك: عشرين سنة، وروى ابن عباس أنه ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وقيل: إلى أربعين، وقيل: إلى ستين، والأشدّ: جمع شد، مثل قدّ، أقدّ، وشرّ وأشرّ، وضر وأضرّ، قال حميد:
وقد أتى لو تعبت العواذل ... بعد الأشل أربع كوامل
قال الشاعر:
هل غير أن كثر الأشل وأهلكت ... حرب الملوك أكاثر الأموال «1»
آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً قال مجاهد: العقل والفهم والعلم قبل النبوة، وقال أهل المعاني:
يعني إصابة في القول، وعلما بتأويل الرؤيا وموارد الأمور ومصادرها.
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: المؤمنين، وعنه أيضا: المهتدين، وقال [الصدوق] عن الضحاك: يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف، وقال محمد بن كعب:
هذا وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن، فإن المراد به محمد نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كما فعلت بيوسف بعد ما لقي من إخوته ما لقي وقاسى من البلاء ما قاسى فمكّنته في الأرض، ووطّأت له في البلاد، وآتيته الحكم والعلم فكذلك أفعل بك، أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكّن لك في الأرض، وأزيدك الحكم والعلم لأن ذلك جزائي لأهل الإحسان في أمري ونهيي.
__________
(1) تفسير الطبري: 12/ 231.(5/207)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
[سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 29]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها يعني امرأة العزيز، وطلبت منه أن يواقعها وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وكانت سبعة.
وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ، اختلف القراء فيه، فقرأ ابن عباس والسلمي وأبو وائل وقتادة:
هئت لك بكسر الهاء وضم التاء مهموزا، بمعنى تهيأت لك، وأنكرها أبو عمرو، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: سمعت أبا عمرو وسئل عن قراءة من قرأ: هئت لك بكسر الهاء وهمز الياء فقال أبو عمرو: باطل، جعلها من تهيأت، اذهب واستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن، هل تعرف أحدا يقول هذا؟
وقال الكسائي أيضا: لم يحك هئت عن العرب، وقال عكرمة: هئت لك: أي زيّنت لك وحسنت وهي قراءة غير مرضية، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وعبد الله بن أبي إسحاق:
هيت لك بفتح الهاء وكسر التاء، وقرأ يحيى بن وثاب: هِيتُ بكسر الهاء وضم التاء، وقرأ ابن كثير بفتح الهاء وضم التاء، وأنشد طرفة:
ليس قومي بالأبعدين إذا ... ما قال داع من العشيرة هيت
هم يجيبون إذا هم سراعا ... كالأبابيل لا يغادر بيت «1»
وقرأ أهل المدينة والشام بكسر الهاء وفتح التاء، وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء، وهي لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم واللغة المعروفة عند العرب،
الشعبي عن عبد الله بن مسعود: أقرأني النبي صلّى الله عليه وسلّم هيت لك.
وروى الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قرأ هيت لك، فقيل له: هَيْتَ لَكَ، فقال ابن مسعود: إنما نقرأها كما تعلّمناها وسمعناها جميعا هلمّ وأقبل وادن، قال الشاعر [يخاطب] أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) :
أبلغ أمير المؤمنين اهل العراق إذا أتيتا ... أن العراق وأهله سلم [إليك] فهيت هيتا «2»
__________
(1) تفسير الطبري: 12/ 237، وتفسير التبيان: 6/ 118.
(2) تفسير القرطبي: 9/ 164.(5/208)
قال السّدّي: هي بالقبطيّة هلمّ لك، وقال الحسين: هَيْتَ لَكَ كلمة بالسريانية أي عليك، قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول هي لغة لأهل حوران وقعت إلى الحجاز معناها تعال، قال أبو عبيد: سألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم، وكذا قال عكرمة، وقال مجاهد وغيره:
هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها وهي كلمة حثّ وإقبال على الشيء، وأصلهما من [الدعوة] والصياح تقول العرب: هيّت فلان بفلان إذا دعاه وصاح به، قال الشاعر:
قد رابني أنّ الكريّ أسكتا ... لو كان معنيّا بها لهيّتا «1»
أي صاح به، والكريّ المكاري.
وقال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب: رأيت في بعض التفاسير هَيْتَ لَكَ يقول: هل لك رغبة في حسني وجمالي، وذكر أبو عبيدة أن العرب لا تثنّي هيت ولا تجمع ولا تؤنّث، وإنّها بصورة واحدة في كلّ حال وإنّما تتميّز بما بعدها وبما قبلها.
قالَ يوسف (عليه السلام) عند ذلك: مَعاذَ اللَّهِ أعتصم وأستجير بالله ممّا دعوتني إليه وهو مصدر تقديره: عياذا بالله.
إِنَّهُ رَبِّي يعني إنّ زوجك قطفير سيدي، أَحْسَنَ مَثْوايَ أي منزلتي، وعلى هذا أكثر المفسّرين، قال بعضهم: إنّها مردودة الى الله أَحْسَنَ مَثْوايَ أي آواني ومن بلاء الحب عافاني.
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يعني إن فعلت، وأتمنني هذا فخنته في أهله بعد ما أكرمني وأتمنني وأَحْسَنَ مَثْوايَ فأنا ظالم ولا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وقيل الزناة.
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها يعني الهمّ بالشيء: حديث المرء نفسه به، ولمّا يفعل ذلك.
يقول الشاعر:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله «2»
فأما ما كان من همّ يوسف (عليه السلام) بالمرأة وهمتها به، فإنّ أهل العلم [اختلفوا] في ذلك، فروى سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس سئل: ما بلغ من همّ يوسف قال: حلّ الهميان وجلس منها مجلس المجامع.
وروى ابن جريح عن ابن أبي عطية، قال: سألت ابن عباس (رضي الله عنه) : ما بلغ من همّ يوسف، قال: استلقت له على قفاها وقعد بين رجليها لينزع ثيابه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 165، لسان العرب: 2/ 43، وفيه نبا بدل بها.
(2) لسان العرب: 5/ 125.(5/209)
سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله، مجاهد: حل السراويل حتّى بلغ الثفن، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته.
الضحاك: جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بيده إلى جيد يوسف، وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتّى جمع بينهما.
قال السديّ وابن إسحاق: لمّا أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوّقه إلى نفسها فقالت له: يا يوسف ما أحسن شعرك! قال: هو أوّل ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن عينك! قال: هي أوّل ما تسيل إلى الأرض من جسدي، قالت: ما أحسن وجهك! قال: هو للتراب يأكله، فلم تزل تطيعه مرّة وتخيفه أخرى وتدعوه إلى اللذّة، وهو شاب مستقبل بجد من شبق الشباب ما يجد الرجل، وهي حسناء جميلة حتى لان لها ممّا يرى من كلفها به ولما يتخوف منها حتى خليا في بعض البيوت وهمّ بها، فهذه أقاويل المفسّرين من السلف الصالحين.
وقالت جماعة من المتأخرين: لا يليق هذا بالأنبياء [:] فأوّلوا الآية بضروب من التأويل، وقال بعضهم: وهمّ بالفرار منها، وهذا لا يصحّ لأنّ الفرار مذكور وليس له في الآية ذكر، وقيل: همّ بضربها ودفعها، وقيل: همّ بمخاصمتها ومرافعتها إلى زوجها، وقيل: وَهَمَّ بِها هو كناية عن غير مذكور، وقيل: تمّ الكلام عند قوله: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ثمّ ابتدأ الخبر عن يوسف وقال: وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ: على التقديم والتأخير تقديرها: لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها ولكنّه رأى البرهان فلم يهمّ كقوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ «1» وهذا فاسد عند أهل اللغة لأنّ العرب لا تقدّم جواب (لولا) قبلها، لا يقول: لقد قمت لولا زيد، وهو يريد، لولا زيد لقمت، جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال: همّت بيوسف أن يفترشها وَهَمَّ بِها يوسف يعني تمنّاها أن تكون له زوجة.
وهذه التأويلات التي حكيناها كلها غير قويّة ولا مرضية لمخالفتها أقوال القدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم التأويل، وهم قد أخذوا عن الذين شهدوا التنزيل.
وكما
روي في الخبر الصحيح أنّ يوسف لما دخل على الملك وأقرّت المرأة، وقال يوسف: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبرئيل عليه السلام: ولا حين هممت بها يا يوسف؟ فقال يوسف عند ذلك وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي.
__________
(1) سورة النساء: 83.(5/210)
وأما أهل الحقائق فإنّهم قالوا في وجه هذه الآية: إنّ الهمّ همّان: همّ مقيم (ثابت) وهو إذا كان مع عزيمة وعقد ونيّة ورضى مثل همّ امرأة العزيز فالعهد مأخوذ.
وهمّ عارض وارد وهو الخطرة والفكرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزيمة مثل همّ يوسف (عليه السلام) ، والعهد غير مأخوذ ما لم يتكلّم به أو يفعله، يدلّ عليه ما روي عن ابن (المبارك) قال: قلت لسفيان: أيؤخذ العهد بالهمّة؟ قال: إذا كان عزما أخذ بها.
وروي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يقول الله عزّ وجل: «إذا همّ عبدي بالحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، وإن عملها كتبتا له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا همّ عبدي بالسيّئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها عليه سيّئة واحدة، فإن تركها من أجلي كتبتها له حسنة» [111] «1» .
والقول بإثبات مثل هذه: الزلّات والصغائر على الأنبياء (عليهم السلام) غير محظور لضرب من الحكمة:
أحدها: ليكونوا من الله تعالى على وجل إذا ذكروها فيجدّون في طاعته إشفاقا منها ولا يتّكلون على سعة رحمة الله.
والثاني: ليعرّفهم موقع نعمته وامتنانه عليهم بصرفه عنهم.
والثالث: ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله وترك اليأس من عفوه وفضله.
وقد روى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد إلّا يلقى الله عزّ وجل قد همّ بخطيئة أو عملها إلّا يحيى بن زكريا فإنّه لم يهم ولم يعملها» «2» [112] .
وعن مصعب بن عبد الله قال: حدّثني مصعب بن عثمان قال: كان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجها، فدخلت عليه امرأة تستفتيه: [فتأمنته] بنفسه فامتنع عليها وذكّرها، فقالت له: إن لم تفعل لأشهّرنّ بك ولأصيحنّ بك، قال: فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف النبي (عليه السلام) ، فقال له: أنت يوسف؟ قال: أنا يوسف النبي هممت وأنت سليمان الذي لم تهمّ.
وأمّا البرهان الذي رآه يوسف (عليه السلام) فإنّ العلماء اختلفوا فيه، فأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى عن أبي العباس الأصمّ عن الحسن بن علي، عن الحسين بن عطية عن إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد عن ابن عباس لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ قال: مثل له يعقوب فضرب يده في صدره، فخرجت شهوته من أنامله.
__________
(1) كنز العمال: 4/ 219، ح 10241، تفسير القرطبي: 17/ 115.
(2) كنز العمال: 11/ 521 ح 32434، بتفاوت يسير.(5/211)
وقال الحسن وسعيد بن جبير وحميد بن عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة وابن سيرين وأبو صالح وشمر بن عطية والضحّاك: انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضا على إصبعه.
وقال ابن جبير: فكل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر ولدا إلّا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا من أجل نقص من شهوته حين رأى صورة أبيه فاستحياه.
قتادة: رأى صورة يعقوب فقال: يا يوسف تعمل عمل السّفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء؟
ابن أبي مليكه: عن ابن عباس قال: نودي: يا يوسف أتزني فتكون كالطير وقع ريشه فذهب يطير فلا ريش له؟
السدّي: نودي يا يوسف تواقعها؟ إنّما مثلك- ما لم تواقعها- مثل الطير في جو السماء لا يطلق، ومثلك إن واقعتها مثل [الطير] إذا مات وقع في الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه، فلا يستطع أن يدفع عنه نفسه.
أبو مردود عن محمّد بن كعب القرضي: قال: رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين همّ فرأى كتابا في حائط البيت لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا «1» .
أبو معشر عنه: لولا ما رأى بالقرآن من تعظيم الزنا وتحريمه، وزاد القرضي: بالقرآن وصحف إبراهيم (عليه السلام) .
ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها قال: حلّ سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته وإذا بكفّ قد مدّت فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها: إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ «2» .
قال: فقام هاربا وقامت، فلمّا ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته فإذا بكف قد مدّت فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ «3» ، فقام هاربا وقامت فلمّا ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته، قال الله تعالى لجبريل (عليه السلام) : يا جبرئيل أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فرأى جبريل عاضّا على إصبعه أو كفّه وهو يقول: يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء؟
فذلك قوله تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ.
__________
(1) سورة الإسراء: 32.
(2) سورة الإنفطار: 10- 12.
(3) سورة البقرة: 218.(5/212)
قتادة عن عطية عن وهب بن منبه، إنّه قال: لمّا همّ يوسف وامرأة العزيز بما همّا خرجت كفّ بلا جسد بينهما مكتوب عليها بالعبرانية أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «1» ثمّ انصرفت الكفّ وقاما مقامهما، ثمّ رجعت الكفّ بينهما مكتوب عليها بالعبرانية إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ، ثمّ انصرفت الكفّ وقاما مقامهما، فعادت الكفّ بالعبرانية مكتوب عليها: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا «2» فانصرفت الكفّ وقاما مقامهما، فعادت الكفّ رابعة مكتوب عليها بالعبرانية: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فولّى يوسف هاربا.
وروى عطية عن ابن عباس، أنّ البرهان الذي رآه يوسف أنّه أري تمثال الملك، وروى عمر بن إسحاق عن بعض أهل العلم أنّه قطفير سيّده حين دنا من الباب في ذلك الحين، إنّه لما هرب منها واتّبعته ألفاه لدى الباب.
روى علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر الصادق رضي الله عنه قال: حدّثني أبي عن أبيه علي ابن الحسين، في قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ قال: قامت امرأة العزيز إلى الصنم فأظلت دونه بثوب فقال لها يوسف: ما هذا؟ فقالت: أستحيي من الصنم أن يرانا، فقال يوسف:
أتستحيين ممّن لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه ولا يشهد ولا أستحيي ممّن خلق الأشياء وعلّمها؟
وقال جعفر بن محمد: البرهان النبوّة التي: أودع الله صدره هي التي حالت بينه وبين ما يسخط الله.
وقيل: هو ما آتاه الله من العلم والحكمة، وقال أهل الإشارة: إنّ المؤمن له برهان من ربّه في سرّه من معرفته فرأى ذلك البرهان وهو زاجره.
فالبرهان الآية والحجّة، وجواب (لولا) محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربّه لزنا، وحقّق الهمّة الغريزية بهمّة الكسب، لقوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ مجازه لهلكتم، وقال امرؤ القيس:
فلو أنّها نفس تموت سوية ... ولكنّها نفس تساقط أنفسنا «3»
أراد [بسقطت] فنيت ولهان عليّ، ونحوها.
قال الله تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ الإثم وَالْفَحْشاءَ الزنا.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ قرأ أهل مكّة والبصرة بكسر اللام أي المخلصين التوحيد
__________
(1) سورة الإسراء: 33. [.....]
(2) سورة الإسراء: 32.
(3) لسان العرب: 8/ 54، تفسير القرطبي: 9/ 319، وفيهما جمعية بدل سوية.(5/213)
والعبادة لله، وقرأ الآخرون بفتح اللام أي المختارين للنبوّة، دليلها قوله إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ.
وروى الزهري عن حمزة بن عبيد الله بن عمران بن عمر قال: قال: لمّا اشتكى النبي صلّى الله عليه وسلّم الألم الذي توفّي فيه، قال صلّى الله عليه وسلّم: «يصلّي بالناس أبو بكر» «1» ، قالت عائشة: يا رسول الله إنّ أبا بكر رجل رقيق، وإنّه لا يملك نفسه حين يقرأ القرآن، فمره عمر يصلّي بالناس، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يصلّي بالناس أبو بكر» فراجعته، فقال «ليصلّ بالناس أبو بكر فإنّكن صويحبات يوسف» «2» [113] ، قالت عائشة: والله ما حملني في ذلك الأمر عليهم أن يكون أوّل رجل قام مقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن شيبة قال: حدّثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي قال: حدّثنا بعض أصحابنا قال: قال جعفر بن سليمان: سمعت امرأة في بعض الطرق وهي تتكلّم ببعض الرفث فقلت لها [....] «3» إنّكن صويحبات يوسف، فقالت له المرأة: وا عجبا نحن دعوناه إلى اللذّة، وأنتم أردتم قتله، فمن أصحابه نحن أو أنتم، وقتل النفس أعظم ممّا أردناه؟
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وذلك أنّ يوسف لمّا رأى البرهان قام مبادرا إلى باب البيت، هاربا ممّا أرادته منه، واتبعته المرأة فذلك قوله تعالى.
وَاسْتَبَقَا الْبابَ: يعني بادر يوسف وراحيل إلى الباب، أمّا يوسف ففرارا من ركوب الفاحشة، وأمّا المرأة فطلبها ليوسف لتقضي حاجتها أيّ راودته عليها، فأدركته فتعلّقت بقميصه من خلفه فجذبته إليها مانعة له من الخروج.
وَقَدَّتْ أي خرّقت وشقّت قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ: من خلف لا من قدّام، لأنّ يوسف كان الهارب والمرأة الطالبة، فلمّا خرجا وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ، أي وجدا زوجها قطفير عند الباب جالسا مع ابن عمّ لراحيل، فلمّا رأته هابته فقالت: سابقة بالقول لزوجها: قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً يعني الزنا، إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ يحبس، أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني الضرب بالسياط، قاله ابن عباس:
قالَ يوسف: بل هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها، اختلفوا في هذا الشاهد، قال سعيد بن جبير وهلال بن يسار والضحّاك: كان صبيّا في المهد أنطقه الله بقدرته.
__________
(1) مسند أحمد: 5/ 361، السنن الكبرى: 3/ 78 بتفاوت.
(2) مسند أحمد: 5/ 361، السنن الكبرى: 3/ 78 بتفاوت.
(3) كلمة غير مقروءة.(5/214)
وحدّثنا العوفي عن ابن عباس وشهر بن حوشب عن أبي هريرة، ويدلّ عليه ما
روى عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: تكلّم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب بن جريج، وعيسى ابن مريم (عليه السلام) .
وقيل: كان ذلك الصبيّ ابن خال المرأة، وقال الحسن: غلامه، قتادة والضحّاك ومجاهد برواية [ ... ] «1» : ما كان بصبي ولكنه كان رجلا حكيما ذا لحية، له رأي ومقال وآية، وهو رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس، قال: وكان من خاصّة الملك. وقال السدي: هو ابن عمّ راحيل، وكان جالسا مع زوجها على الباب فحكّم وأخبر الله تعالى عنه: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ الآية.
قال عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنّ الشاهد قميصه المقدود من دبر، ومعنى شَهِدَ شاهِدٌ حكم حاكم مِنْ أَهْلِها، قال مجاهد: قال الشاهد: تبيان هذا الأمر في القميص.
إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ وإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ أي قدام فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وخفّف ابن أبي إسحاق القبل والدبر وثقّلهما الآخرون وهما لغتان.
فجيء بالقميص فإذا هو قدّ من دبر، فلمّا رأى قطفير قميصه قدّ من دبر عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف ف قالَ لها إِنَّهُ أي إنّ هذا الصنيع مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، وقيل: إنّ هذا من قول الشاهد.
ثمّ أقبل قطفير على يوسف فقال: يُوسُفُ يعني يا يوسف، لفظ مفرد أَعْرِضْ عَنْ هذا الحديث فلا تذكره لأحد، وقيل: معناه لا تكترث له فقد كان عفوك لبراءتك، ثمّ قال لامرأته: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ وقيل: هو من الشاهد ليوسف والراحيل، وأراد بقوله: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، يقول: سلي زوجك ألّا يعاقبك على ذنبك ويصفح عنك، وهذا معنى قول ابن عباس.
إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ من المذنبين حين راودت شابّا عن نفسه وخنت زوجك، فلمّا استعصم كذبت عليه، يقال خطأ يخطأ خطأ، وخطأ، وخطا وخطاء، إذا أذنب والاسم منه الخطيئة، قال الله تعالى: كانَ خِطْأً كَبِيراً وقال أميّة:
عبادك يخطئون وأنت ربّ ... بكفّيك المنايا والحتوم «2»
أيّ يذنبون فإذا أرادوا التعمّد قيل: خطأ خطأ هنا لأنّ الفعل بالألف قال الله تعالى:
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً، وإنّما قال مِنَ الْخاطِئِينَ ولم يقل: الخاطئات
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) الصحاح: 5/ 1892، تاج العروس: 8/ 239.(5/215)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
لأنّه لم يقصد بذلك قصد الخبر عن النساء، وإنّما قصد به الخبر عمّن يفعل ذلك، وتقديره: من القوم الخاطئين. ومثله قوله: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ، بيانه قوله: إنّها كانت من قوم كافرين.
[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 35]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ يقول: شاع أمر يوسف والمرأة في مدينة مصر وتحدّثت النساء بذلك، وقلن يعني امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب، قاله مقاتل امْرَأَتُ الْعَزِيزِ وهو في كلام العرب الملك، قال أبو داود:
درّة غاص عليها تاجر ... جليت عند عزيز يوم طلّ «1»
أيّ ملك.
تُراوِدُ فَتاها عدّها الكنعاني عن نفسه.
قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي أحبّها حتى دخل حبّه شغاف قلبها، وهو حجابه وغلافه. قال السدّي: الشغاف جلدة رقيقة على القلب يقال لها: لسان القلب، تقول: دخل الحبّ الجلد حتى أصاب القلب، قال النابغة الذبياني:
وقد حال همّ دون ذلك داخل ... دخول الشّغاف تبتغيه الأصابع «2»
وقال ابن عباس: علقها حبّا، الحسن: بطنها حبا، قتادة: استبطنها حبّها إيّاه، أبو رجاء:
صدقها حبّا، الكلبي: حجب حبّه قلبها حتى لا يعقل سواه.
وقرأ أبو رجاء العطاردي والشعبي والأعرج، شعفها بالعين غير معجمة واختلفوا في معناها فقال الفرّاء: ذهب بها كلّ مذهب، وأصله من شعف الجبال وهي رؤوسها، والنخعي والضحّاك: فتنها، وذهب بها، وأصله من شعف الدابة حين تتمرّغ بذعر، قال امرؤ القيس:
__________
(1) جامع البيان للطبري: 12/ 259.
(2) كتاب العين: 4/ 360، لسان العرب: 9/ 179، وفيه والج بدل داخل- ومكان بدل دخول.(5/216)
أتقتلني وقد شعفت فؤادها ... كما شعف المهنوءة الرجل الطالي «1»
ومراده: ذهب قلب امرأته كما ذهب الطالي بالإبل بالقطران يتلو بها، والإبل تخاف من ذلك ثمّ تستروح إليه، وقال الأخفش: من حبّها، وقال محمد بن جرير: عمّها الحب.
إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: خطا بيّن، فَلَمَّا سَمِعَتْ راحيل، بِمَكْرِهِنَّ بقولهنّ وحديثهنّ، قال قتادة والسدّي وقال ابن إسحاق: وإنّما قلن ذلك مكرا بها ليرين يهمّن يوسف وكان قد وصف لهنّ حسنه وجماله أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ قال وهب: اتّخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة فيهنّ هؤلاء اللائي عيّرنها، وَأَعْتَدَتْ وأعدّت وهو أفعلت العتاد وهو العدّة، قال الله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً «2» .
لَهُنَّ مُتَّكَأً مجلسا للطعام وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد، يقال: ألقى له متّكأ أيّ ما يتّكأ عليه، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة. وقال سعيد بن جبير والحسن وقتادة وأبي إسحاق وابن زيد: طعاما، قال القتبيّ: والأصل فيه أنّ من دعوته إلى مطعم عندك أعددت له وسادة أو متّكأ، فسمّي الطعام متّكأ على الاستعارة، يقال: اتّكأنا عند فلان أي أكلنا، قال عدي بن زيد:
فظللنا بنعمة واتّكأنا ... وشربنا الحلال من قلله «3»
وروي عن الحسن أنّه قال: متّكاء بالتشديد والمدّ وهي غير فصيحة، وعن الحسن: فما أظنّ بصحيحة، وقرأ مجاهد متّكأ خفيفة غير مهموزة، وروي ذلك عن ابن عباس.
واختلفوا في معناه، فقال ابن عباس: هو الأترج، عكرمة: هو الطعام، وأبو روق عن الضحّاك: الزماورد، علي بن الحكم وعبيد بن حكيم، عنه: كلّ شيء يحزّ بالسكّين فهو عند العرب المتّكأ، والمتك والبتك: القطع والعرب تعاقب بين الباء والميم تقول سمد رأسه وسبده، وأغبطت عليه وأغمطته [لازب] ولازم قال الله تعالى: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ «4» .
وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ ليوسف اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ وذلك أنّها قد كانت أجلسته في مجلس غير المجلس الذي هنّ فيه جلوس، فخرج عليهنّ يوسف (عليه السلام) ، قال عكرمة: وكان فضل يوسف على الناس في الحسن والجمال كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 12/ 262، لسان العرب: 9/ 177، وفيه لتقتلني بدل أتقتلني.
(2) سورة الكهف: 29.
(3) تفسير القرطبي: 9/ 178.
(4) سورة النساء: 119.(5/217)
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مررت ليلة أسري بي إلى السماء فرأيت يوسف، فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: هذا يوسف» قالوا: وكيف رأيته يا رسول الله، قال: «كالقمر ليلة البدر» [114] «1» .
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: قال: «هبط جبرئيل فقال: يا محمد إنّ الله تعالى يقول: كسوت حسن يوسف من نور الكرسي، وكسوت نور حسن وجهك من نور عرشي» »
[115] .
وروى الوليد بن مسلم عن إسحاق عن عبد الله بن أبي فروة قال: كان يوسف إذا سار في أزقّة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس والماء على الجدران.
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه وأجللنه، قال أبو العالية: هالهنّ أمره وبهتن، وروى عبد الصمد بن علي عن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده ابن عباس في قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ قال حضن من الفرح، ثم قال:
نأتي النساء على أطهارهنّ ولا ... نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا «3»
وعلى هذا التأويل يكون أَكْبَرْنَهُ بمعنى أكبرن له أي حضن لأجله من جماله، ووجدن ما تجد النساء في مثل تلك الحال «4» وهذا كقول عنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظلّه ... حتى أنال به كريم المطعم «5»
أي وأظلّ عليه.
قال الأصمعي: أنشد بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا البيت، فقال:
ما من شاعر جاهلي أحببت أن أراه ... دون [.............]
«6» البيت
وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، يعني وحززن أيديهنّ بالسكاكين التي معهنّ وكنّ يحسبن أنّهنّ يقطّعن الأترج، عن قتادة: قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ حتى ألقينها، وقال مجاهد: فما أحسسن إلّا بالدم ومنهنّ لم يجدن من ألم إلّا يرى الدم لشغل قلوبهنّ بيوسف، قال وهب: وبلغني أنّ تسعا من الأربعين متن في ذلك المجلس وجدا بيوسف.
__________
(1) تاريخ دمشق: 3/ 484، باختصار. [.....]
(2) تاريخ بغداد: 3/ 58، وتاريخ دمشق: 3/ 299.
(3) تفسير الطبري: 12/ 269.
(4) راجع زاد المسير: 4/ 167.
(5) كتاب العين: 7/ 466، لسان العرب: 11/ 419.
(6) كلمة غير مقروءة.(5/218)
وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ أي معاذ الله، قال أبو عبيدة: لهذه الكلمة معنيان: التنزيه والاستثناء، واختلف القرّاء فيها فقرأت العامّة: حاشَ لِلَّهِ، [ ... ] «1» حذفوا الألف لكثرة دورها على الألسن كما حذفت العرب الألف من قولهم: لأب لغيرك ولأب لشانئك، وهم يعنون لا أب، واختار أبو عبيدة هذه القراءة وقال: اتّباعا للكتاب وهو الذي عليه الجمهور الأعظم، مع إنّي قرأتها في الإمام مصحف عثمان (عليه السلام) : حاشَ لِلَّهِ والأخرى مثلها. وقرأ أبو عمرو: حاشي لله بإثبات الياء على الأصل، وقرأ ابن مسعود حاشى الله، كقول الشاعر:
حاشا أبي ثوبان إن به ... ضنّا عن الملحاة والشتم «2»
ما هذا بَشَراً نصب بنزع حرف الصفة وعلى خبر ما الجحد كما تقول: ما زيد قائما، وقرأ الأعمش: ما هذا بشر بالرفع وهي لغة أهل نجد، وأنشد الفرّاء:
ويزعم «3» حسل أنه فرع قومه ... وما «4» أنت فرع يا حسيل ولا أصل «5»
وأنشد آخر:
لشتّان ما أنوي وينوي بنو أبي ... جميعا فما هذان مستويان
تمنّوا لي الموت الذي يشعب الفتى ... وكلّ فتى والموت يلتقيان «6»
وروى الفرّاء عن دعامة بن رجاء التيمي عن أبي الحويرث الحنفي أنّه قرأ: ما هذا بشريّ، قال الفرّاء: يعني بمشتري، إِنْ هذا ما هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ من الملائكة.
قال الثعلبي: سمعت ابن فورك يقول: إنّما قلن له مَلَكٌ كَرِيمٌ لأنّه خالف ميوله وأعرض عن الدنيا وزينتها وشهوتها حين عرضن عليه، وذلك خلاف طبائع البشر.
قالَتْ: راحيل للنسوة: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي في حبّه وشغفي فيه، ثمّ أقرّت لهنّ فقالت: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أي امتنع واستعصى، فقلن له أطع مولاتك، فقالت راحيل: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ ولئن لم يطاوعني فيما دعوته إليه، لَيُسْجَنَنَّ أحبسنّه، وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ أي الأذلّاء ونون التوكيد تثقّل وتخفّف والوقف على قوله: لَيُسْجَنَنَّ بالنون لكنّها مشدّدة. وعلى قوله: وَلَيَكُوناً بالألف لأنّها مخفّفة وهي تشبه نون الإعراب في
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) لسان العرب: 14/ 182.
(3) في المصدر: ويزغم روى حسل.
(4) في المصدر: وما ولم أنت.
(5) زاد المسير: 7/ 317.
(6) جامع البيان للطبري: 12/ 274، وفيه لي بدل إليّ.(5/219)
الأسماء كقولك: رأيت رجلا، فإذا وقفت قلت: رجلا ومثله قوله تعالى: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ «1» ، ونحوه الوقف عليها بالألف كقول الأعشى:
وصلّ على حين العشيّات والضحى ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا «2»
أي أراد فاعبدن، فلمّا وقف عليه كان الوقف بالألف.
واختار يوسف حين عاودته المرأة في المراودة وتوعّدته، السجن على المعصية، قالَ رَبِّ: يا ربّ، منادى مضاف، السِّجْنُ المحبس، قراءة العامّة بكسر السين على الاسم وقرأ يعقوب برفع السين على المصدرية يعني الحبس، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، ثمّ علم أنّه لا يستعصم إلّا بعصمة الله فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ أمل إِلَيْهِنَّ وأبايعهن، فقال صبا فلان إلى كذا، وصبا يصبو، صبوا وصبوة، إذا مال واشتاق إليه، قال يزيد بن ضبّة:
إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبي «3»
وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعائه وشكايته، الْعَلِيمُ بمكرهنّ.
ثُمَّ بَدا لَهُمْ أي العزيز وأصحابه، في الرأي مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدّالة على براءة يوسف، وهي قدّ القميص من دبر وخمش في الوجه وتقطيع النسوة أيديهنّ لَيَسْجُنُنَّهُ قال الفرّاء: هذه اللام في اليمين وفي كلّ مضارع القول كقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ «4» وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ «5» دخلتهما (اللام وما) لأنّهما في معنى القول واليمين.
حَتَّى حِينٍ يعني إلى الوقت الذي يرون فيه رأيهم.
قال عكرمة: تسع سنين، الكلبي: خمس سنين، و (حتى) بمعنى (إلى) كقوله تعالى: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ، وقال السدّي: وذلك أنّ المرأة قالت لزوجها: إنّ هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس، يعتذر إليهم ويخبرهم أنّي راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري، فإمّا أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وأمّا أن تحبسوه كما حبستني، فحبسه بعد علمه ببراءته، وذكر أنّ الله تعالى جعل ذلك الحبس تطهيرا ليوسف من همّته بالمرأة وتكفيرا لزلّته.
قال ابن عباس: عثر يوسف ثلاث عثرات: حين همّ بها فسجن، وحين قال:
__________
(1) سورة العلق: 15.
(2) جامع البيان للطبري: 12/ 275، لسان العرب: 2/ 473، وفيه سبح بدل صل.
(3) لسان العرب: 14/ 450. [.....]
(4) سورة البقرة: 102.
(5) سورة فصلت: 48.(5/220)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ... فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ... فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، وحين قال لهم: إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ف قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ.
[سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 49]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ وهما غلامان كانا للملك الأكبر الوليد بن الريان، أحدهما خبّازه صاحب طعامه واسمه مجلث، والآخر ساقيه صاحب شرابه واسمه بنو غضب عليهما الملك فحبسهما، وذلك أنّه بلغه أنّ خبازه يريد أن يسمّه وأنّ ساقيه مالا على ذلك، وكان السبب أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فدسّوا إلى هذين، وضمنوا لهما مالا ليسمّا طعام الملك وشرابه فأجاباهم إلى ذلك، ثمّ إنّ الساقي نكل عنه وقبل الخباز الرشوة فسمّ الطعام.(5/221)
فلمّا حضر وقته وأحضر الطعام، قال الساقي: أيّها الملك لا تأكل فإنّ الطعام مسموم، فقال الخباز: لا تشرب أيّها الملك فإنّ الشراب مسموم، فقال الملك للساقي: اشرب فشربه فلم يضرّه، وقال للخباز: كل من طعامك، فأبى، فجرّب ذلك الطعام على دابّة من الدواب فأكلته فهلكت، فأمر الملك بحبسهما.
وكان يوسف لمّا دخل السجن قال لأهله: إنّي أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيان لصاحبه:
هلمّ فلنجرّب هذا العبد العبراني، فتقرّبا له وسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا، قال عبد الله بن مسعود: ما رأى صاحبا يوسف شيئا، إنّما كانا تحالفا أن يجرّبا علمه.
روى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أرى عينيه في المنام ما لم تريا كلّف أن يعقد بين شعرتين «1» يوم القيامة، ومن استمع لحديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنه الآنك» «2» [116] .
وقال قوم: كانا رأيا على صحّة وحقيقة، قال مجاهد: لمّا رأى الفتيان يوسف قالا له:
والله لقد أحببناك حين رأيناك فقال لهما يوسف: أنشدكما الله أن لا تحباني فإنّه ما أحبّني أحد قط إلّا دخل عليّ من حبّه بلاء.
لقد أحبتني عمّتي فدخل عليّ في حبّها بلاء، ثمّ أحبّني أبي فدخل عليّ بحبه بلاء ثمّ أحبتني زوجة الملك هذا، فدخل عليّ بحبّها إيّاي بلاء، فلا تحبّاني بارك الله فيكما، قال: فأبيا إلّا حبّه وألفته حيث كان، وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله، وقد كانا رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف فقال له الساقي: أيّها العالم إنّي رأيت كأنّي غرست حبّة من عنب عليها ثلاث عناقيد من عنب فحبستها، وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه.
وقال الخبّاز: إنّي رأيت كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة فإذا سباع الطير تنهش منه، فذلك قوله تعالى: قالَ أَحَدُهُما يعني بنو إِنِّي أَرانِي أي رأيتني، أَعْصِرُ خَمْراً يعني عنبا بلغة عمان، ويدلّ عليه قراءة ابن مسعود أعصر عنبا.
قال الأصمعي: أخبرني المعتمر أنّه لقي أعرابيا معه عنب، فقال: ما معك؟ قال: خمر، ومنه يقال للخلّ العنبي خلّ خمرة، وهذا على قرب الجوار، قال القتيبي: وقد تكون هي الخمر بعينها كما يقال: عصرت زيتا وإنّما عصر زيتونا.
وقال الآخر: وهو مجلث: إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أخبرنا تفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا.
__________
(1) في كنز العمال: 15/ 374، ح 41441: شعيرتين.
(2) سنن الدارمي: 2/ 298، كنز العمال: 3/ 662، ح 8397.(5/222)
إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي العالمين الذين أحسنوا، قال الفرّاء وقال ابن إسحاق: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلينا إن فعلت ذلك وفسّرت رؤيانا، كما يقال: افعل كذا وأنت محسن.
وروى سلمة بن نبط عن الضحّاك بن مزاحم في قوله: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ما كان إحسانه؟ قال كان إذا مرض رجل في السجن قام إليه، وإذا ضاق وسع له، وإن احتاج جمع له، وسأل له.
قتادة: بلغنا أنّ إحسانه كان يداوي مريضهم، ويعزّي حزينهم، ويجتهد لربّه.
وقيل: لمّا انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتدّ بلاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول: أبشروا واصبروا تؤجروا، وإنّ لهذا لأجرا وثوابا، فقالوا له: يا فتى بارك الله فيك، ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وأحسن حديثك! لقد بورك لنا في جوارك بالحبس، إنّا كنا في غير هذا منذ حبسنا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والطهارة، فمن أنت يا فتى؟
قال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله، فقال له عامل السجن: يا فتى والله لو استطعت لخلّيت سبيلك، ولكن ما أحسن جوارك وأحسن أخبارك! فكن في أي بيوت السجن شئت.
فكره يوسف (عليه السلام) أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره، قال لهما: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في نومكما إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ في اليقظة.
هذا قول أكثر المفسّرين، وقال بعضهم: أراد به في اليقظة فقال: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ تطعمانه وتأكلانه إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ بتفسيرة قال: إنّه أيّ طعام أكلتم ومتى أكلتم وكم أكلتم، فقالا له: هذا من فعل العرّافين والكهنة، فقال لهما (عليه السلام) : ما أنا بكاهن وإنّما ذلِكُما العلم مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ كرّرهم على التأكيد. وقيل: هم الأوّل جماد كقوله تعالى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «1» فصارت الأولى الملغاة والثانية ابتداء، وكافرون خبره.
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي فتح ياءه قوم وسكّنها آخرون، [فما وفي] أمثالها فالجزم على الأصل والفتح على موافقة الألف استقلّته لأنّها أخت الفتحة وقرأها الأعمش آباي إبراهيم دعاي إلّا فرارا مقصورا غير مهموز وفتح ياءهما مثل [ ... ] .
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا ما ينبغي أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من صلة، تقديره: أن نشرك بالله شيئا.
__________
(1) سورة المؤمنون: 35.(5/223)
ذلِكَ التوحيد والعلم مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ فأراهما يوسف فطنته وعلمه ثمّ دعاهما إلى الإسلام، فأقبل عليهما وعلى أهل السجن وكان بين أيديهم أصناما يعبدونها فقال إلزاما للحجّة يا صاحِبَيِ السِّجْنِ جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه كقوله تعالى لسكّان الجنّة أَصْحابُ الْجَنَّةِ «1» ولسكّان النار: أَصْحابَ النَّارِ «2» .
أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ آلهة شتى لا تنفع ولا تضرّ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا ثاني له الْقَهَّارُ قد قهر كلّ شيء، نظيرها، قوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ «3» ثمّ بين الحجر والأصنام وضعفها فقال: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ أي ممّن دون الله، وإنّما قال ما تَعْبُدُونَ وقد ابتدأ الكلام بخطاب الإثنين لأنّه قصد به جميع من هو على مثل حالهما من الشرك، إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها وذلك تسميتهم أوثانهم آلهة وأربابا من غير أن تكون تلك التسمية حقيقة، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ حجّة وبرهان إِنِ الْحُكْمُ القضاء والأمر والنهي، إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ نظيره وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، ذلِكَ الذي دعوتكم إليه من التوحيد وترك الشرك، الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
ثمّ فسّر رؤياهما فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما وهو الساقي، فَيَسْقِي رَبَّهُ سيّده يعني الملك خَمْراً وأمّا العناقيد الثلاثة التي رآها فإنّها ثلاثة أيّام، يبقى في السجن ثمّ يخرجه الملك ويكون على ما كان عليه، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ وأمّا السلال الثلاث التي رآها فإنّها ثلاثة أيّام، يبقى في السجن ثمّ يخرجه الملك [في] اليوم الرابع فيصلبه، فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ.
قال ابن مسعود: لمّا سمعا قول يوسف قالا: ما رأينا شيئا إنّما كنا نلعب، فقال يوسف (عليه السلام) : قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي فرغ من الأمر الذي عنه تسألان، ووجب حكم الله عليكما بالذي أخبرتكما به.
معلّى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين العقيلي قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبّرت وقعت، وإنّ الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة، فأحسبه قال: لا تقصّه إلّا على ذي رأي» [117] «4» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن إسماعيل بن محمد عن الحسن بن علي بن عفان عن ابن نمير
__________
(1) سورة الأعراف: 44.
(2) سورة الأعراف: 44.
(3) سورة النمل: 59.
(4) مسند أحمد: 4/ 10.(5/224)
عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الرؤيا لأول عابرة» «1»
[118] .
وَقالَ يوسف عند ذلك، لِلَّذِي ظَنَّ علم، أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا وهو الساقي، هذا قول أكثر المفسّرين، وفسّره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين، وقال: إنّما عبارة الرؤيا بالظنّ ويخلق الله ما يشاء، والقول الأوّل أولى وأشبه بحال الأنبياء، اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ سيّدك يعني الملك، وقيل له: إنّ في السجن غلاما محبوسا ظلما فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه عزّ وجل حتى ابتغى الفرج من غيره واستعان بالمخلوق، وتلك غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان، ونسي لهذا ربّه عزّ وجلّ الذي لو به استغاث لأسرع خلاصه ولكنّه [غفل] وطال من أجلها حبسه.
وقال محمد بن إسحاق: الهاء راجعة في قوله فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ إلى الساقي فنقول: أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك وعلى هذا القول يكون معنى الآية: فأنساه الشيطان ذكره لربه كقوله: خوف يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ «2» أي يخوّفكم بأوليائه.
فَلَبِثَ مكث، فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ اختلف العلماء في معنى بضع فقال أبو عبيدة:
هو ما بين الثلاثة إلى الخمسة، ومجاهد: ما بين الثلاث إلى التسع، الأصمعي: ما بين الثلاث إلى التسع، وابن عباس: ما دون العشرة، وزعم الفرّاء أنّ البضع لا يذكر إلّا مع العشرة والعشرين إلى التسعين، وهو نيف ما بين الثلاثة إلى التسعة، وقال: كذلك رأيت العرب تعمل ولا يقولون: بضع ومائة ولا بضع وألف، وإذا كانت للذكران قيل: بضعة، وأكثر المفسّرين على أنّ البضع في هذه الآية سبع سنين، قال وهب: أصاب أيوب (عليه السلام) البلاء سبع سنين، وترك يوسف في السجن سبع سنين، وعذّب بخت نصّر فحوّل في السباع سبع سنين.
روى يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله يوسف، لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث» «3» [119] ، يعني قوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ قال: ثمّ بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا أمر نزعنا إلى الناس
، وقال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي:
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، قيل له: يا يوسف اتّخذت من دوني وكيلا لأطيلنّ حبسك، فبكى يوسف (عليه السلام) وقال: يا ربّ إنّني رابني كثرة الطوى فقلت كلمة، فويل لإخوتي.
وحكي أنّ جبرئيل دخل على يوسف (عليهما السلام) ، فلمّا رآه يوسف عرفه وقال: يا أخا
__________
(1) النهاية في غريب الحديث: 1/ 81، وفيه عابر بدل عابرة.
(2) جامع البيان للطبري: 12/ 291.
(3) سورة آل عمران: 175.(5/225)
المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين؟، ثمّ قال له جبرئيل: يا طاهر الطاهرين، يقرأ عليك السلام ربّ العالمين ويقول: مالك؟ أما استحييت منّي إذ استغثت بالآدميين؟، فو عزّتي لألبثنّك فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، قال يوسف: وهو في ذلك عليّ راض؟ قال: نعم، قال إذا لا أبالي.
وقال كعب: قال جبرئيل ليوسف: إنّ الله تعالى يقول: من خلقك؟ قال: الله، قال: فمن حبّبك إلى أبيك؟ قال: الله، قال فمن أنيسك في البئر إذ دخلته عريان؟ قال: الله، قال: فمن نجّاك من كرب البئر؟ قال: الله، قال: فمن علّمك تأويل الرؤيا؟ قال: الله، قال فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟
فلمّا انقضت سبع سنين، قال الكلبي- وهذه السبعة سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك- ولمّا دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هائلة وذلك أنّه رأى، إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف أيّ مهازيل فابتلعت العجاف السمان، أكلنهنّ حتى أتين عليهنّ فلم ير منهنّ شيئا، وأرى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ قد انعقد حبّها وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأفركت والتفّت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فجمع السحرة والكهنة والحازة والقافة وقصّها عليهم وقال: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أي الأشراف أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ فاعبروها، إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ تفسّرون، والرؤيا: الحلم وجمعها رؤي.
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي أحلام مختلطة مشتبهة، أهاويل بأباطيل، واحدها ضغث، وأصله الحزمة من الزرع والحشيش، قال الله تعالى وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً قال ابن مقبل:
خود كأنّ فراشها وضعت ... أضغاث ريحان غداه شمال
وقال آخر:
بحمى ذمار حين قلّ مانعه ... طاو كضغث الخلا في البطن مكتمن «1»
والأحلام جمع الحلم وهو الرؤيا والفعل منه حلمت وأحلم، بفتح العين في الماضي، وحلمتها في الغابرة لها وحلما فعاد فحذف يا من حالم.
وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ، وَقالَ الَّذِي نَجا من القتل، منهما: من الفتيين وهو الساقي، وَادَّكَرَ: أي وتذكر حاجة يوسف قوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، ... بَعْدَ أُمَّةٍ:
بعد حين، قراء ابن عباس وعكرمة والضحّاك [بعد أمة] أي بعد نسيان ويقال أمة، يأمه، أمها، إذا نسي، ورجل [ما هو] أي ذاهب العقل.
وأنشد أبو عبيدة:
__________
(1) جامع البيان للطبري: 12/ 295، وفيه:
يعمي ذمار جنين قال مانعه ... طاو كضغث الخلا في البطن مكتمن.(5/226)
أمهت وكنت لا أنسى حديثا ... كذاك الدّهر يودي بالعقول «1»
وقرأ مجاهد: أَمْه، بسكون الميم وفتح الألف وهاء لخالصة، وهو مثل الأمه أيضا وهما لغتان ومعناهما النسيان، أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ: أخبركم بتفسيره وما ترون فَأَرْسِلُونِ:
فأطلقوني، وأذنوا لي أمضي وآتيكم بتأويله وفي الآية اختصار تقديرها فأرسلون، فأتي السجن، قال ابن عباس لم يكن السجن في المدينة فقال يُوسُفُ يعني يا يوسف، أَيُّهَا الصِّدِّيقُ:
فيما عبّرت لنا من الرؤيا والصدّيق الكثير الصديق ولذلك سمّي أبو بكر صدّيقا، وفعّيل للمبالغة والكثرة مثل الفسّيق والضليل والشريب والخمير ونحوها.
أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ: الآية فإنّ الملك رأى هذه الرؤيا.
لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أهل مصر، لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، تأويلها، وقيل: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فضلك وعلمك، فقال لهم يوسف معلّما ومعبّرا: أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبات، والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات السنون المهولة المجدبة، وذلك قوله تعالى: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي كعادتكم، وقال: بعضهم أراد بجدّ وو اجتهاد وقرأ بعضهم دَأَباً بفتح الهمزة وهما لغتان، يقال دبت في الأمر أدأب دأبا ودأبا إذا اجتهد، قال الفرّاء: وكذلك كلّ حرف فتح أوّله وسكن ثانية فتثقيله جائز إذ كان ثانيه همزة أو عينا أو حاء أو خاء أو هاء.
فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ في [بذره] إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ وإنّما أشار عليهم بذلك بذلك ليبقى ولا يفسد، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يعني سبع سنين جدد بالقحط يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ يعني يؤكل، فيهنّ ما أعددتم لهنّ من الطعام في السنين الخصبة، وهذا كقول القائل:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم «2»
والنهار لا يسهو والليل لا ينام، وإنّما يسهى في النهار وينام في الليل. إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي: تخزنون وخزنون وتدّخرون.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ وهذا خبر من يوسف (عليه السلام) عمّا لم يكن في رؤيا الملك، ولكنّه من علم الغيب الذي آتاه الله عزّ وجلّ، كما قال قتادة: زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها، فقال: ثُمَّ يَأْتِي (مِنْ) بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أي يمطرون بالغيث وهو المطر، وقيل: يغاثون، من قول العرب استغثت بفلان وأغاثني، وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قرأ أهل الكوفة إلّا
__________
(1) لسان العرب: 13/ 471. [.....]
(2) البداية والنهاية: 9/ 231.(5/227)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
عاصما تعصرون، بالتاء لأنّ الكلام كلّه بالخطاب، وقرأ الباقون بالياء ردّا إلى الناس، قال أكثر المفسّرين يعصرون العنب خمرا، والزيتون زيتا، والسمسم دهنا، وإنّما أراد بعض الأعناب والثمار والحبوب كثرة النعم والخير، وروى الفرج بن فضالة عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تعصرون تحلبون، وقال أبو عبيدة: ينجون من الجدب والكرب، والعصر: المنجى والملجأ، وقال أبو زبيد الطائي:
صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود «1»
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، أبو علي بن حبش المقرئ، أبو القاسم بن الفضل المقرئ، حدّثني أبو زرعة، حدّثني حفص بن عمر، حدّثني أبو جميلة عن عيسى بن عبيد قال: سمعت عيسى بن الأعرج يقرأها فيه يغاث الناس وفيه يُعْصَرُونَ، برفع الياء قال: قلت: ما يُعْصَرُونَ؟ قال: المطر أي تمطرون وقرأ وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً «2» .
[سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 57]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ الآية، وذلك أن بنو لمّا رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه به يوسف من تأويل رؤياه كالنهار، وعرف الملك أنّ الذي قال كائن، قال: ائتوني بالذي عبر رؤياي هذه، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ يوسف، وقال له: أخبر الملك أبى أن يخرج مع الرسول حتى يظهر عذره وبراءته ويعرف صحة أمره من قبل النسوة ف قالَ للرسول ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ أيّ سيّدك يعني الملك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ والمرأة التي سجنت بسوء فعلها وروى عبد الحميد بن صباح البرجمي ومحمد بن حبيب الشموني عن أبي بكر بن عباس عن عاصم قرأ النُسوة بضمّ النون.
إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ إنّ الله تعالى بصنيعهنّ عالم، وقيل: معناه: إنّ سيدي قطفير العزيز عالم ببراءتي ممّا ترميني به المرأة.
قال ابن عباس: فأخرج يوسف يومئذ قبل أن يسلّم الملك لشأنه، فلما زالت في نفس العزيز منه شيء يقول: هذا الذي راود امرأتي،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى
__________
(1) الصحاح: 2/ 749.
(2) سورة النبأ: 14.(5/228)
اشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حتى أتاه الرسول فقال ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ، ولو كنت مكانه ولبث في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة ولبادرتهم الباب، وما ابتغيت الغفران كان حليما ذا أناة» [120] «1» .
قالَ ما خَطْبُكُنَّ: الآية، في الكلام متروك قد استغني عنه (يدلّ) الكلام عليه، وهو:
فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالة، فدعا الملك النسوة اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وامرأة العزيز فقال لهنّ: ما خَطْبُكُنَّ: ما شأنكنّ وأمركنّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ، فأحببنه ف قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ معاذ الله، ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي ظهر وتبيّن والأصل فيه: حصّ وقيل: حصّص، كما قيل: كبكبوا في كبوا، وكفكف في كفّ، وردد في ردّ، وأصل الحص استئصال الشيء، يقال حصّ شعره إذا استأصله جزّا، وقال أبو قيس ابن الأصلت:
قد حصّت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع «2»
وتعني ب الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ: ذهب الباطل والكذب وانقطع وتين الحق فظهر وبهر أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فتنته عن نفسه، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قوله: هِيَ راوَدَتْنِي.
فلمّا سمع ذلِكَ يوسف، قال: ليعلم ذلك الذي [مضى] من ردّي رسول الملك في شأن النسوة لِيَعْلَمَ العزيز.
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في زوجته بِالْغَيْبِ في حال غيبتي عنه وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ واتّصل قول يوسف: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بقول المرأة: أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ من غير تبيين، وفرّق بينهما لمعرفة السامعين معناه، كاتّصال قول الله تعالى: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ «3» بقول بلقيس: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وكذلك قول فرعون لأصحابه: فَماذا تَأْمُرُونَ وهو متّصل بقول الملأ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ «4» .
روى أبو عبيدة عن الفراء أنّه قال هذا من أغمض ما يأتي في الكلام أنّه حكى عن رجل شيئا ثمّ يقول في شيء آخر من قول رجل آخر لم يجر له ذكر.
وحدّثنا الحسين بن محمد بن الجهمين، عبد الله بن يوسف بن أحمد بن علي قال: حدّثنا علي بن الحسين بن مجلز، قال الحسن بن علي البغدادي، خلف بن تيم عن عطاء بن مسلم عن
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 5/ 413، بتمامه، جامع البيان للطبري: 12/ 307، بتفاوت يسير.
(2) الصحاح: 3/ 1032.
(3) سورة النمل: 34.
(4) سورة الشعراء: 35.(5/229)
الخفاف عن جعفر بن نوقان عن ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر أنّ علي بن أبي طالب أتى عثمان وهو محصور فأرسل إليه بالسلام وقال إنّي قد جئت لأنصرك فأرسل إليه بالسلام وقال:
جزاك الله خيرا، لا حاجة في قتال القوم، فأخذ عليّ عمامته عن رأسه، فنزعها فألقاها في الدار ثمّ ولّى وهو يقول ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ.
قال أهل التفسير: لما قال يوسف هذه المقالة قال له جبرئيل: ولا حين هممت بها؟ فقال عند ذلك يوسف وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من الخطأ والزلل فاركبها، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ بالمعصية إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي يعني إلّا من رحمه ربي فعصم، وما بمعنى من كقوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» أي من طاب، وقوله إلّا استثناء منقطع عمّا قبله كقوله تعالى: وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا «2» يعني إلّا أن يرحموا، فإنّ إذا كانت في معنى المصدر تضارع ما.
إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، فلمّا تبيّن للملك [حق] يوسف وعرف أمانته وعلمه، قال:
ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أجعله خالصا لي دون غيره، فلمّا جاء الرسول يوسف قال له:
أجب الملك، الآن، فخرج يوسف ودعا لأهل السجن بدعوة تعرف إلى اليوم وذلك أنّه قال:
اللهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار وأنعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في كلّ بلدة، فلمّا خرج من السجن كتب على باب السجن: (هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وحرقة الأصدقاء وشماتة الأعداء) ، ثمّ اغتسل يوسف (عليه السلام) وتنظّف من قذر السجن، ولبس ثيابا جددا حسانا، وقصد الملك.
قال وهب: فلمّا وقف بباب الملك قال (عليه السلام) : حسبي ربي من دنياي، وحسبي ربّي من خلقه، عزّ جاره، وجلّ ثناؤه ولا إله غيره.
ثمّ دخل الدار، فلمّا دخل على الملك قال: اللهمّ إنّي أسألك عزّك من خيره، وأعوذ بك من شرّه وشرّ غيره، فلمّا نظر إليه الملك سلّم عليه يوسف بالعربية، فقال له: الملك، ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمّي إسماعيل، ثمّ دعا له بالعبرانية، فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ قال:
لسان آبائي.
قال وهب: وكان الملك يتكلّم بسبعين لسانا، فكلّما كلّم يوسف بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأجابه الملك، فأعجب الملك ما رأى منه، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلمّا رأى الملك حداثة سنة، قال لمن عنده: إنّ هذا علم تأويل رؤياي ولم يعلمه السحرة والكهنة،
__________
(1) سورة النساء: 3.
(2) سورة يس: 43- 44.(5/230)
ثمّ أجلسه على سريره، وقال له: إنّي أحبّ أن أسمع رؤياي منك شفاها، فقال له يوسف: نعم، أيّها الملك، رأيت سبع بقرات سمان شهب غرّ حسان، كشف لك عنهنّ النيل وطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهنّ لبنا، فبينا أنت تنظر إليهنّ وتتعجّب من حسنهنّ إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبسا، فخرج من حمأته ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلّصات البطون، ليس لهنّ ضروع ولا أخلاف، ولهنّ أنياب وأضراس وأكفّ كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهنّ افتراس السبع، فأكلن لحومهنّ ومزّقن جلودهنّ وحطّمن عظامهنّ وتشمشن مخّهنّ.
فبينا أنت تنظر وتتعجّب وإذا بسبع سنابل خضر وسبع أخر سود في منبت واحد عروقهنّ في الثرى والماء، فبينا أنت تقول في نفسك: أنّى هذا؟ هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد، وأصولهنّ في الماء إذ هبّت ريح فذرّت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهنّ النار فاحرقتهنّ وصرن سودا متغيّرات.
فهذا آخر ما رأيت من الدنيا ثمّ انتبهت من نومك مذعورا، فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجبا بأعجب ممّا سمعته منك، فما ترى في رؤياي أيّها الصدّيق؟ فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام، وتزرع الزرع الكثير في هذه السنين المخصبة وتبني [الأهواء] والخزائن، فتجعل الطعام فيها بقصبه وسنبله ليكون قصبه وسنبله علفا للدواب، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، وتأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك: ومن لي بهذا ومن يجمعه و [يبيعه] ويكفي الشغل فيه؟ فقال: يوسف اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ مجاز الآية: على خزائن أرضك وهي جمع الخزانة فدخلت الألف واللام خلفا من الإضافة، كقول النابغة:
والأحلام غير كواذب.
إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ: كاتب حاسب، قتادة: حَفِيظٌ لما وليت، عَلِيمٌ بأمره، ابن إسحاق:
حَفِيظٌ لما استودعتني، عَلِيمٌ بما ولّيتني، شيبة الضبي: حَفِيظٌ لما استودعتني وعَلِيمٌ بسنّي المجاعة، الأعشى: حافظ للحساب عَلِيمٌ بالألسن أعلم لغة من سألني، الكلبي: حفيظ التقدير في هذه السنين الجدبة، عَلِيمٌ بوقت الجوع متى يقع، وقيل: حَفِيظٌ لما وصل إليّ عَلِيمٌ بحسابة المال، فقال له الملك: ومن أحقّ به منك؟ فولّاه ذلك، وقال له: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ذو مكانة ومنزلة، أَمِينٌ على الخزائن،
روى جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ لاستعمله من ساعته ولكنّه أخّر ذلك سنة فأقام عنده في بيته سنة مع الملك [121] «1» .
__________
(1) زاد المسير: 4/ 185، تفسير القرطبي: 9/ 211.(5/231)
روى سفيان عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: قال الملك ليوسف: إنّي أريد أن تخالطني في كلّ شيء غير أنّي آنف أن تأكل معي، فقال يوسف (عليه السلام) : أنا أحقّ أن آنف، أنا ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، فكان يأكل بعدئذ معه.
روى حمزة الريّان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، قال: لما رأى العزيز رأي يوسف وظرفه دعاه وكان يتغدّى ويتعشى معه دون غلمانه، فلمّا كان بينه وبين المرأة ما كان، قالت له مرّة: فليتغدّ مع الغلمان، فقال: اذهب فتغدّ مع الغلمان فقال له يوسف في وجهه استنكفت أن تأكل معي، أنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
روى مقاتل عن يحيى بن أبي كثير أنّ عمر بن الخطاب عرض على أبي هريرة الإمارة فقال: لا أفعل ولا أريدها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «من طلب الإمارة لم يعدل» [122] «1» فقال عمر: لقد طلب الإمارة من هو خير منك، يوسف (عليه السلام) ، قال: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ.
روى بن إسحاق عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوّجه وردّأه سيفه، ووضع له سريرا من ذهب، مكلّلا بالدرّ والياقوت، وضرب عليه حلّة من إستبرق، وكان طول السرير ثلاثين ذراعا وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا وتسعون مرفقة، ثمّ أمره أن يخرج فخرج متوّجا، لونه كالثلج ووجهه كالقمر، يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه، فانطلق حتى جلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوّض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عمّا كان عليه وجعل يوسف مكانه.
قال ابن إسحاق: قال ابن زيد: وكان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلّم سلطانه كلّه إليه، وجعل أمره وقضاءه نافذا، ثمّ أنّ قطفير هلك في تلك الليالي فزوّج الملك يوسف راحيل امرأة قطفير، فلمّا دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ فقالت: أيّها الصدّيق لا تلمني فإنّي كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي، فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين: أفرائيم بن يوسف ومنشا بن يوسف.
واستوسق ليوسف ملك مصر وأقام فيهم العدل فأحبّه الرجال والنساء فذلك قوله تعالى:
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر: أي مكّناه يَتَبَوَّأُ مِنْها أين نزل حَيْثُ يَشاءُ: ويصنع فيها ما يشاء، والبواء المنزل يقال: بوّأته فتبوّأ، وقرأ أهل مكّة: حيث نشاء بالنون ردّا على قوله مَكَّنَّا وبعده، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ أي بنعمتنا.
__________
(1) في سير أعلام النبلاء (12/ 94) : من يحرص على الإمارة لم يعدل فيها.(5/232)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس ووهب: يعني الصابرين كصبره في البئر، وصبره في السجن وصبره في الرق، وصبره عما دعته اليه المرأة، قال مجاهد وغيره: فلم يزل يدعو ويتلطف له حتى أسلم الملك وكثير من الناس فهذا في الدنيا وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ [نعيم] الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ قال البحتري:
أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوسا [....] «1»
أقام جميل الصبر في الحبس برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك «2»
وكتب بعضهم إلى صديق له:
وراء مضيق الخوف متّسع الأمن ... وأوّل مفروح به آخر الحزن
فلا تيأسن فالله ملّك يوسفا ... خزائنه بعد الخلاص من السجن «3»
[سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 71]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71)
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) تفسير القرطبي: 9/ 220.
(3) تفسير القرطبي: 9/ 220، وفيه: غاية الحزن بدل آخر الحزن. [.....](5/233)
قالوا: فلمّا اطمأنّ بيوسف ملكه دخلت السنون المخصبة، ودخلت السنون المجدبة أصاب الناس الجوع وجاءت تلك السنون [.......] «1» وكان ابتداء القحط، بينا الملك ذات ليلة أصابه الجوع نصف الليل، وهتف الملك: يا يوسف الجوع الجوع فقال: هذا أوّل القحط، فلمّا دخلت السنة الأولى من سنيّ الجدب هلك فيها كلّ شيء أعدّوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف، فباعهم أوّل سنة بالنقود حتى لم يبق في مصر دينار ولا درهم إلّا قبضه، وباعهم في السنة الثانية بالحليّ والجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء، وباعهم بالسنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم بالسنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق عبد ولا أمّة في يد أحد منهم، ثمّ باعهم السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها، وباعهم السنة السادسة بأولادهم حتى استرقّهم، وباعهم السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرّة إلّا صار عبدا له، حتى قال الناس: تالله ما رأينا كاليوم ملكا أجلّ ولا أعظم من هذا، ثمّ قال يوسف لفرعون كيف رأيت صنيع ربّي فيما خوّلني، فما ترى لي؟ قال الملك: الرأي رأيك، وإنّما نحن لك تبع، قال: فإنّي أشهد وأشهدك أنّي أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أموالهم وأملاكهم.
وروي أنّ يوسف (عليه السلام) كان لا يشبع من طعام في تلك الأيّام، فقيل له: تجوع وبيدك خزائن الأرض، فقال: أخاف أن شبعت أن أنسى الجائع، وأمر يوسف أيضا طباخي الملك أن جعلوا الغداة نصف النهار، وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين، ويحسن إلى المحتاجين، ففعل الطهاة ذلك، ومن ثمّ جعلت الملوك غداءهم نصف النهار.
قالوا: وقصد الناس مصر من كلّ حدب يمتارون، فجعل يوسف لا يمكّن أحدا منهم وإن كان عظيما بأكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس وتوسّعا عليهم، وتزاحم الناس عليه، قالوا:
وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام من القحط والشدّة ما أصاب سائر البلاد، ونزل بيعقوب ما نزل بالناس فأرسل بنيه إلى مصر للميرة، فأمسك بنيامين أخا يوسف لأمّه فذلك قوله تعالى: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ وكانوا عشرة، وكان منزلهم بالقربات من أرض فلسطين ثغور الشام، وكانوا أهل بادية وإبل وشاة فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ يوسف وأنكروه لما أراد الله أن يبلغ يوسف فيما أراد.
قال ابن عباس: وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا مصر أربعين سنة فلذلك أنكروه وقيل: إنّه كان متّزيا بزيّ فرعون مصر، عليه ثياب حرير، جالس على سريره، وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج، فلذلك لم يعرفوه، وكان بينه وبينهم ستر ولذلك لم يعرفوه.
__________
(1) كلمة غير مقروءة.(5/234)
قال بعض الحكماء: المعصية تورث الكبرة، قال الله تعالى: فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ فلمّا نظر إليهم يوسف وكلّموه بالعبرانية، قال لهم: أخبروني من أنتم؟ وما أمركم؟ فإنّي أنظر شأنكم، قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار، قال: لعلّكم عيون تنظرون عورة بلادي، قالوا: والله ما نحن جواسيس وإنّما نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صدّيق يقال له: يعقوب، نبي من أنبياء الله، قال: وكم أنتم؟.
قالوا: كنّا اثني عشر فذهب أخ لنا إلى البريّة فهلك فيها، وكان أحبّنا إلى أبينا، فقال: فكم أنتم ها هنا، قالوا: عشرة، قال: فأين الآخر؟ قالوا: عند أبينا لأنّه أخ الذي هلك من أمّه، وأبونا يتسلّى به، قال: فمن يعلم أنّ الذي تقولون حقّ؟ قالوا: أيّها الملك إنّا ببلاد لا يعرفنا أحد، قال يوسف: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين، فأنا أرضى بذلك.
قالوا: إنّ أبانا يحزن على فراقه وسنراوده عنه وإنّا لفاعلون، قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف وأبرّهم به فخلّفوه عنده، فذلك قوله تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ يعني حمل لكل رجل منهم بعيرا بعدّتهم، قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ يعني بنيامين، أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أي لا أبخس الناس شيئا وأتمّ لهم كيلهم فأزيد لكم حمل بعير في خراجكم، وأكرم مثواكم، وأحسن إليكم، وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ المضيّفين.
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي ليس لكم عندي طعام أكيله لكم وَلا تَقْرَبُونِ ولا تقربوا بلادي بعد ذلك، وهو جزم يدلّ على النهي.
قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ نطلبه ونسأله أن يرسله معنا، قال ابن عباس: سنخدعه حتى نخرجه معنا، وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ما أمرت به.
وَقالَ يوسف لِفِتْيانِهِ أي لغلمانه الذين يعملون بالطعام، قرأ الحسن وحميد ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، لِفِتْيانِهِ بالألف والنون وهو اختيار أبي عبيدة، وقال: هي في مصحف عبد الله كذلك، وقرأ الباقون لفتيته بالتاء من غير ألف وهما لغتان مثل الصبيان والصبية.
اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ أي طعامهم، قال قتادة: أوراقهم، الضحّاك عن ابن عباس قال:
كانت النعل والأدم، فِي رِحالِهِمْ في أوعيتهم وهي جمع رحل، والجمع القليل منه الرحيل، قال ابن الأنباري: يقال للوعاء: رحل وللمسكن رحل.
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا انصرفوا، إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إليّ واختلف العلماء في السبب الذي فعل يوسف من أجله، فقال الكلبي: تخوّف يوسف أن لا يكون عند أبيه من الورق فلا يرجعون مرّة أخرى، وقيل: خشي أن يضرّ أخذه ذلك منهم بأبيه إذ كانت السنة سنة(5/235)
جدب وقحط، فأحبّ أن يرجع إليه، وإنّما أراد أن يتّسع به أبوه، وقيل: رأى لو أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه فردّه عليهم من حيث لا يعلمون تكرّما وتفضّلا.
وقيل: فعل لأنّه علم أنّ ديانتهم وأمانتهم تحملهم على ردّ البضاعة ولا يستحلّون إمساكها فيرجعون لأجلها، وقيل: أبدا لهم كرمه في ردّ البضاعة وتقديم الضمان في البرّ والإحسان ليكون أدعى لهم إلى العود إليه طمعا في برّه.
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة، لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته، قال لهم يعقوب: إذا أتيتم ملك بمصر فاقرؤوه منّي السلام وقولوا له: إنّ أبانا يصلّي عليك ويدعو لك بما أوليتنا، ثمّ قال: أين شمعون؟ قالوا: إنّه عند ملك مصر وأخبروه بالقصّة، فقال: ولم أخبرتموه؟ قالوا: إنّه أخذنا وقال: إنّكم جواسيس عند ما كلّمناه بلسان العبرانيين، وقصّوا عليه القصّة.
وقالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا بنيامين نَكْتَلْ قرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي يكتل بالياء يعني يكتل لنفسه هو كما كنّا نكتل نحن، وقرأ الآخرون بالنون بمعنى نكتل نحن، واختاره أبو عبيد وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قالَ يعقوب، هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً قرأ ابن محصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي: حافِظاً بالألف على التمييز والتفسير، كما يقال: هو خير رجلا، ومجاز الآية خيركم حافظا فحذف الكاف والميم، ويدلّ عليه أنّها مكتوبة في مصحف عبد الله: والله خير الحافظين.
وقرأ الآخرون حفظا بغير الألف على المصدر بمعنى خيركم حفظا واختلف فيه عن عاصم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ الذي حملوه من مصر وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ ثمن الطعام رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي أي ماذا نبغي؟ وأي شيء نطلب وراء هذا؟ أوفى لنا الكيل وردّ علينا الثمن، أرادوا بذلك أن يطيّبوا نفس أبيهم، و (ما) استفهام في موضع نصب ويكون معناه جحدا كأنّهم قالوا: لسنا نريد منك دراهم.
هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا ونشتري لهم الطعام فنحمله إليهم، يقال مار أهله يمير ميرا فهو مائر، إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلده في مثله امتار يمتار امتيارا، قال الشاعر:
بعثتك مائرا فمكثت حولا ... متى يأتي غياثك من تغيث «1»
وقال آخر:
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 15، لسان العرب: 2/ 174.(5/236)
أتى قرية كانت كثيرا طعامها ... كعفر التراب كل شيء يميرها «1»
وَنَحْفَظُ أَخانا بنيامين وَنَزْدادُ على أحمالنا كَيْلَ بَعِيرٍ لنا من أجله ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ: لا مؤونة فيه ولا مشقّة، وقال مجاهد: كَيْلَ بَعِيرٍ يعني: حمل حمار، قال: وهي لغة يقال للحمار بعير، قالَ لهم يعقوب: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ تعطوني مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ يعني تحلفوا لي بحقّ محمّد خاتم النبيين وسيد المرسلين أن لا تغدروا بأخيكم لَتَأْتُنَّنِي بِهِ وإنّما دخلت فيه اللام لأنّ معنى الكلام اليمين إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إلّا أن تهلكوا جميعا، قاله مجاهد، وقال قتادة: إلّا أن يغلبوا حتى لا يطيقوا ذلك.
فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ أعطوه عهودهم، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: حلفوا له بحقّ محمد صلّى الله عليه وسلّم ومنزلته من ربّه قالَ يعقوب اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي شاهد وحافظ بالوفاء، وقال القتيبي: كفيل، وقال كعب: لمّا قال يعقوب: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً، قال الله جلّ ذكره: وعزّتي لأردّن عليك كليهما بعد ما توكّلت عليّ، وقال لهم يعقوب لما أرادوا الخروج [هذا] ، وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مصر مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وذلك أنّه خاف عليهم العين لأنّهم كانوا ذوي جمال وهيئة وصور حسان وقامات ممتدّة، وكانوا ولد رجل واحد، وأمرهم أن يفترقوا في دخولها ثمّ، قال: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ علم (عليه السلام) أنّ المقدور كائن، وأنّ الحذر لا ينفع من القدر، وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وإلى الله فليفوّض أمورهم المفوّضون.
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ وكان لمصر أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها كلّها، ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ صدّق الله تعالى يعقوب فيما قال إِلَّا حاجَةً حزازة وهمّة فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها أشفق عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم وَإِنَّهُ يعقوب لَذُو عِلْمٍ لِما: أي مما عَلَّمْناهُ يعني لتعليمنا إيّاه، قاله قتادة، وروى سفيان عن [ابن] أبي عروة قال: إنّه العامل بما علم، قال سفيان: من لا يعمل لا يكون عالما، وقيل: إنّه لذو حظّ لما علّمناه.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ما يعلم يعقوب، أي لا يعرفون مرتبته في العلم.
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، قد جئناك به فقال لهم: أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي، ثمّ أنزلهم فأكرم منزلهم ثمّ أضافهم وأجلس كلّ اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحيدا، فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيّا لأجلسني معه، فقال لهم يوسف (عليه السلام) : لقد بقي هذا أخوكم وحيدا، فأجلسه على مائدته فجعل يؤاكله.
__________
(1) لسان العرب: 8/ 430، وتاج العروس: 6/ 12.(5/237)
فلمّا كان الليل أمر لهم بمثل أي فرش، فقال: لينم كلّ أخوين منكم على مثال، فلمّا بقي بنيامين وحده، قال يوسف (عليه السلام) : هذا ينام معي على فراشي فبات معه فجعل يوسف يضمّه إليه ويشمّ خدّه حتى أصبح فجعل روبيل يقول: ما رأينا مثل هذا، فلمّا أصبح قال لهم:
إنّي أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثان فسأضمّه إليّ فيكون منزله معي، ثمّ أنزلهم [معه] ، وأجرى عليهم الطعام والشراب وأنزل أخاه لأمّه معه فذلك، قوله تعالى: آوى إِلَيْهِ أَخاهُ
فلمّا خلا به قال له: ما اسمك؟ قال: بنيامين.
قال ابن من يا بنيامين؟ قال: ابن المثكل، وذلك أنّه لما ولد هلكت أمّه، قال: وما اسمها؟ قال: راحيل بنت لاوي بن ناحور، قال: فهل لك بنون؟ قال: نعم، عشر بنين وقد اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي من أمّي هلك، قال: لقد اضطرّك إلى ذاك حزن شديد، قال:
فما سمّيتهم؟ قال: بالعا وأخيرا وأثكل وأحيا وكنر ونعمان وادر وأرس وحيتم وميثم، قال فما هذه؟ قال: إما بالعا فإنّ أخي قد ابتلعته الأرض، وأما أخيرا فإنه بكر أبي لأمّي، وأمّا أثكل فإنّه كان أخي لأبي وأمي وسنّي، وأما كثير فإنّه خير حبيب كان، وأمّا نعمان فانه ناعم بين أبويه وأمّا أدّر فإنّه كان بمنزلة الورد في الحسن، قال: وأما أرس فإنّه كان بمنزلة الرأس من الجسد، وأما حيتم فأعلمني أنّه حيّ، وأمّا ميثم فلو رأيته قرّت عيني.
فقال يوسف: أتحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال بنيامين: ومن يجد أخا مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف (عليه السلام) وقام إليه وعانقه وقالَ له: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف فَلا تَبْتَئِسْ فلا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ لشيء فعلوه بنا فيما مضى فإنّ الله قد أحسن إلينا ولا تعلمهم شيئا ممّا علمت.
وقال عبد الصمد بن معقل: سمعت وهب بن منبه وسئل عن قول يوسف لأخيه: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ، فقيل له كيف آخاه حين أخذ بالصواع وقد كان أخبره أنّه أخوه، وأنتم تزعمون أنّه لم يزل متنكّرا لهم يكابرهم حتى رجعوا؟
فقال: إنّه لم يعترف له بالنسبة ولكنّه قال: أنا أخوك مكان أخيك الهالك، ومثله قال الشعبي، قال: لم يقل له: أنا يوسف، ولكن أراد أن يطيّب نفسه «1» .
ومجاز الآية أي: أَنَا أَخُوكَ بدل أخيك المفقود فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فلا تشتك ولا تحزن لشيء سلف من إخوتك إليك في نفسك وفي أخيك من أمّك، وما كانوا يفعلون قبل اليوم بك، ثمّ أوفى يوسف لإخوته الكيل وحمل لهم بعيرا، وحمل لبنيامين بعيرا باسمه كما حمل لهم، ثمّ أمر بسقاية الملك فجعل في رحل بنيامين، قال السدّي: جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، والأخ لا يشعر.
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 21.(5/238)
قال كعب: لما قال له: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ قال بنيامين: فأنا لا أفارقك، قال يوسف (عليه السلام) : قد علمت [عنهم] والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمه، فلا يمكنني هذا إلّا أن أشهرك بأمر وأنسبك إلى ما لا يجمل بك، قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك فإنّي لا أفارقك.
قال: فإنّي أدسّ صاعي هذا في رحلك ثمّ أنادي عليك بالسرقة لجهازي ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك، قال: فافعل، فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أي لما قضى لهم حاجتهم، جَعَلَ السِّقايَةَ: وهي المشربة التي كان يشرب بها الملك، قال ابن زيد: وكان كأسا من ذهب فيما يذكرون، وقال ابن إسحاق: هو شيء من فضّة، عكرمة: مشربة من فضّة مرصّعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيلا لئلّا يكال بغيرها وكان يشرب بها، سعيد بن جبير: هو [المقياس] الذي يلتقي طرفاه وكان يشرب بها الأعاجم وكان للعباس منها واحدة في الجاهلية، والسقاية والصواع واحد، فِي رَحْلِ أَخِيهِ في متاع بنيامين، ثمّ ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا ومضوا ثمّ أمر بهم فأدركوا وحبسوا.
ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد، أَيَّتُهَا الْعِيرُ هي القافلة التي فيها الأحمال، قال الفرّاء: لا يقال عير إلّا لأصحاب الإبل، وقال مجاهد كانت العير حميرا.
إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قفوا، فوقفوا، فلمّا انتهى إليهم الرسول قال لهم: ألم نكرم ضيافتكم ونحسن منزلكم ونوفكم كيلكم ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قال:
سقاية الملك، فقال: إنّه لا يتّهم عليها غيركم، فذلك قوله تعالى: قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ عطفوا على المؤذّن وأصحابه: ماذا تَفْقِدُونَ؟ ما الذي ضلّ منكم؟ فالفقدان ضدّ الوجود، والمفقد: الطلب.(5/239)
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
[سورة يوسف (12) : الآيات 72 الى 83]
قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81)
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فروى قثم عن داود بن أبي هند عن مولى بني هاشم عن أبي هريرة أنّه قرأ صاع الملك، وقرأ أبو رجاء صوع، وقرأ يحيى بن معمر صوغ بالغين، [فإنّه] وجهنا إلى مصر، صاغ يصوغ صوغا، وجمع الصواع صيعا، وجمع صاع أصواع.
وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ كفيل يقوله المؤذّن، وأصل الزعيم: القائم بأمر القوم، ويقال للرئيس زعيم، يقال: زعم، زعامة وزعاما، قالت ليلى الأخيلية:
حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما «1»
وقالُوا يعني اخوة يوسف، تَاللَّهِ أي والله، أصلها الواو قلبت تاء كما فعل القراء في التقوى والتكلان والتراب والتخمة، وأصلها الواو، والواو في هذه الحروف كلّها حرف من الأسماء، وليست كذلك في تَاللَّهِ لأنّها إنّما هي واو القسم وإنّما جعلت بالكثرة ما جرى على ألسن العرب، وهم زعموا أنّ الواو من نفس الحرف فقلبوها تاء، ووضعت في هذه الكلمة الواحدة دون غيرها من أسماء الله تعالى.
لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ فإن قيل: من أين علموا ذلك؟
الجواب عنه: قال الكلبي قال: إن فتى يوسف وهو المؤذّن قال لهم: إنّ الملك ائتمنني بالصاع وأخاف عقوبة الملك، فلي اليوم عنده مقولة حسنة، فإن لم أجده تخوّفت أن تسقط منزلتي وأفتضح في مصر، قالُوا: ... لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ إنا منذ قطعنا هذا الطريق لم ننزل عند أحد ولا أفسدنا شيئا وسلوا عنا من مررنا به، هل ضررنا أحدا؟ أو هل أفسدنا شيئا؟ وإنّا قد رددنا الدراهم كما وجدنا في رحلنا، فلو كنّا سارقين ما رددناها.
قال فتى يوسف: إنّه صواع الملك الأكبر الذي يكتال فيه، وقال بعضهم: إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا معروفين أنّهم لا يتناولون ما ليس لهم، وقيل: إنّهم كانوا حين دخلوا مصر كمّوا أفواه دوابهم لكي لا تتناول من حروث الناس.
فإن قيل: كيف استجاز يوسف تسميتهم سارقين؟
__________
(1) كتاب العين: 1/ 364.(5/240)
قيل: فيه جوابان: أحدهما أنّه أضمر في نفسه أنّهم سرقوه من أبيه، والآخر أنّه من قول المنادي لا من أمر يوسف والله أعلم.
قالُوا يعني المنادي وأصحابه، فَما جَزاؤُهُ ثوابه قال الأخفش: إن شئت رددت الكناية إلى السارقين، وإن شئت رددتها إلى السّرق إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في قولكم: (ما كُنَّا سارِقِينَ) .
قالوا: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أن يسلّم سرقته إلى المسروق منه، ويسترقّ سنة، وكان ذلك سنّة آل يعقوب في حكم السارق كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الفاعلين ما ليس لهم فعله من أخذ مال غيره سرقا، وأما وجه الكلام فقال الفرّاء من في معنى جزاؤه، ومن معناها الرفع بالهاء التي جاءت وجواب الجزاء الفاء في قوله فَهُوَ جَزاؤُهُ ويكون قوله: جَزاؤُهُ الثانية مرتفع بالمعنى المجمل في الجزاء وجوابه، ومثله في الكلام أن يقول: ماذا لي عندك؟ فيقول:
لك عندي أن بشّرتني فلك ألف درهم كأنّه قال: لك عندي هذا، وإن شئت الجزاء مرفوعا بمن خاصّة وصلتها كأنّك قلت: جزاؤه الموجود في رحله، كأنّك قلت: ثوابه أن يسترق [في المستأنف] أيضا فقال: فَهُوَ جَزاؤُهُ، وتلخيص هذه الأقاويل: جزاؤه جزاء الموجود في رحله، أو جزاؤه الموجود في رحله. تمّ الكلام.
وقال مبتدئا فَهُوَ جَزاؤُهُ فقال الرسول عند ذلك: إنّه لا بدّ من تفتيش أمتعتكم ولستم سارقين حتى أفتّشها فانصرف بهم إلى يوسف، فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ لإزالة التهمة قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ وكان فتّش أمتعتهم واحدا واحدا، قال قتادة: ذكر لنا أنّه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلّا استغفر الله تأثّما ممّا قذفهم به، حتى إذا لم يبق إلّا الغلام، قال: ما أظنّ هذا أخذ شيئا، فقال أخوته: والله لا نتحرّك حتى تنظر في رحله، فإنّه أطيب من نفسك وأنفسنا، فلمّا فتحوا متاعه استخرجوه منه فذلك قوله تعالى: اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ وإنّما أتت الكناية في قوله استخرجها والصواع مذكر، وقد قال الله تعالى: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ لأنّ ردّه إلى السقاية كقوله: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، ثمّ قال: هُمْ فِيها خالِدُونَ «1» ردّها إلى الجنّة وقوله:
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ، ثمّ قال: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ «2» ، أي من الميراث.
وقيل: ردّ الكناية إلى السرقة.
وقيل: إنّما أنّثها لأنّ الصواع يذكر ويؤنّث فمن أنّثه قال: ثلاث أصوع مثل أدود ومن ذكّره قال: ثلاثة أصواع مثل ثلاثة أثواب.
__________
(1) سورة المؤمنون: 11.
(2) سورة النساء: 8.(5/241)
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ يعني كما فعلوا في الابتداء بيوسف فعلنا بهم لأنّ الله تعالى حكى عن يعقوب أنّه قال ليوسف فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً فالكيد جزاء الكيد، قال ابن عباس: كَذلِكَ كِدْنا أي صنعنا، ربيع: ألهمنا، ابن الأنباري: أردنا.
ومعنى الآية: كذلك صنعنا ليوسف حتى ضمّ أخاه إلى نفسه وفصل بينه وبين إخوته بعلّة كادها الله له فاعتلّ بها يوسف، ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ إليه ويضمّه إلى نفسه فِي دِينِ الْمَلِكِ في حكمه وقضائه، قاله قتادة.
وقال ابن عباس: في سلطان الملك، وأصل الدين: الطاعة، وكان حكم الملك في السارق أن يسترقّ ويغرّم ضعف ما سرق للمسروق منه، وقال الضحّاك: كان الملك إذا أتي بسارق كشف عن فرجتيه وسمل عينيه، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، يعني أنّ يوسف لم يكن ليتمكّن من أخذ أخيه بنيامين من أخوته وحبسه عنده في حكم الملك لولا ما كدنا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك وهو ما أجراه على ألسنة إخوته أنّ جزاء السارق الاسترقاق فأقرّوا به وأبدوا من تسليم الأخ إليه، وكان ذلك مراد يوسف (عليه السلام) «1» .
نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالحكم كما رفعنا يوسف على إخوته.
وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال ابن عباس: يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كلّ عالم، قال قتادة والحسن: والله ما من عالم على ظهر الأرض إلّا فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله الذي علّمه ومنه بدأ وإليه يعود، وفي قراءة عبد الله: وفوق كلّ عالم عليم.
وعن محمّد بن كعب القرضي أنّ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قضى بقضية فقال رجل من ناحية المسجد: يا أمير المؤمنين ليس القضاء كما قضيت، قال فكيف هو؟ قال: كذا وكذا قال: صدقت وأخطأت!!، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
قالوا: فلمّا أخرج الصواع من رحل بنيامين نكّس إخوته رؤوسهم من الحياء وأقبلوا على بنيامين وقالوا: يا بنيامين أي شيء الذي صنعت، فضحتنا وسوّدت وجوهنا، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت الصواع؟.
فقال بنيامين: بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه بالبرّيّة، وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم.
ثمّ قالوا ليوسف: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ: من أبيه وأمّه، من قبل، واختلف العلماء في السرقة التي وصفوا بها يوسف، فقال سعيد بن جبير وقتادة: سرق يوسف صنما لجدّه أبي أمّه
__________
(1) يراجع فتح القدير: 3/ 43.(5/242)
فكسّره وألقاه في الطريق، الكلبي: بعثته أمّه حين أرادت أن ترتحل من حران مع يعقوب إلى فلسطين والأردن، أمرته أن يذهب فأخذ جونة فيها أوثان لابنها [أي] ذهب فيأتيها بها لكي إذا فقدها أبوها أسلم، فانطلق فأخذها وجاء بها إلى أمّة، فهذه سرقته التي يعنون.
وعن ابن جريح: كانت أمّ يوسف أمرته أن يسرق صنما لخاله يعبده وكانت مسلمة، وروى أبو كريب عن أبي إدريس قال سمعت أبي قال: كان أولاد يعقوب على طعام ونظر يوسف إلى عرق فخبّأه فعيّروه بذلك، وأخبر عبد الله بن السدّي، عن أبيه عن مجاهد أنّ يوسف جاءه سائل إلى البيت فسرق [جبّة] من البيت فناولها السائل فعيّروها بها، وقال سفيان بن عيينة: سرق يوسف دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلا.
كعب: كان يوسف في المنزل وحده فأتاه سائل وكان في المنزل عتاق وهي الأنثى من الجدي، فدفعها إلى السائل من غير أمر أبيه. وهب: كان يخبّئ الطعام من المائدة للفقراء.
هشام عن سعد بن زيد بن أسلم في هذه الآية قال: كان يوسف (عليه السلام) مع أمّه عند خال له، قال: فدخل وهو صبي يلعب وأخذ تمثالا صغيرا من الذهب، فذلك تعيير إخوانه إيّاه.
وروى ابن إسحاق عن مجاهد عن جويبر عن الضحّاك قال: كان أوّل ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أنّ عمّته بنت إسحاق وكانت أكبر أولاد إسحاق، وكانت لها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثوها بالكبر من أختانها ممّن وليها كان له سلما لا ينازع فيه، يصنع فيه ما يشاء، وكانت راحيل أمّ يوسف قد ماتت فحضنته عمّته وأحبّته حبّا شديدا، وكانت لا تصبر عنه.
فلمّا ترعرع وبلغ سنوات وقعت محبّة يعقوب عليه فأتاها يعقوب فقال: يا أختاه سلّمي إليّ يوسف، فو الله ما أقدر على أن يغيب عنّي ساعة، فقالت: لا، فقال: والله ما أنا بتاركه.
قالت: فدعه عندي أيّاما أنظر إليه لعلّ ذلك يسلّيني عنه، ففعل، فلمّا خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وهو صغير ثمّ قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها فالتمسوها فلم توجد فقالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم فوجودها مع يوسف، فقالت: والله إنّه لسلم لي أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال: إن كان فعل ذلك فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت، فهذا الذي قال أخوة يوسف: إن سرق فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، وهذا هو المثل السائر الذي يقال عذره شر من جرمه.
فَأَسَرَّها فأضمرها، يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ وإنّما أنّث الكناية لأنّه عنى بها الكلمة والمقالة وهي قراءة.
قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي شرّ منزلا عند الله ممّن رميتموه بالسرقة في صنيعكم بيوسف وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ تقولون، قتادة: تكذبون.(5/243)
وقالت الرواة: لما دخلوا على يوسف واستخرج الصواع من رحل بنيامين دعا يوسف بالصواع فنقر فيه ثمّ أدناه من أذنه ثمّ قال: إنّ صواعي هذا ليخبرني أنّكم كنتم اثني عشر رجلا وانّكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه، فلمّا سمعها بنيامين قام فسجد ليوسف ثمّ قال: أيّها الملك سل صواعك هذا عن أخي أين هو فنقره ثمّ قال: هو؟ حيّ وسوف تراه قال: فاصنع فيّ ما شئت فإنّه إن علم بي فسوف يستنقذني، قال: فدخل يوسف فبكى، ثمّ توضّأ وخرج فقال بنيامين: أيّها الملك إنّي أرى أن تضرب صواعك هذا فيخبرك بالحقّ من الذي سرقه فجعله في رحلي؟ فنقره فقال: إنّ صواعي هذا عصاني وهو يقول: كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت؟
قال: وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا فغضب روبيل، وقال: والله أيّها الملك لتتركنّا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلّا ألقت ما في بطنها وقامت كلّ شعرة في جسد روبيل فجرجت من [......] «1» فمسّه فذهب غضبه، فقال روبيل من هذا؟ إن في هذا البلد لبذرا من بذر يعقوب.
فقال يوسف: ومن يعقوب؟ فغضب روبيل وقال: يا أيّها الملك لا يذكر يعقوب فإنّه سري الله ابن ذبيح الله ابن خليل الرحمن، قال يوسف [اشهد] إذا أنت كنت صادقا، احتبس يوسف أخاه وصار بحكم اخوته أولى به منهم، فرأوا أنّه لا بدّ لهم إلى تخليصه منه سألوه تخليته ببدل منهم يعطونه إيّاه، ف قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً: متعلّقا بحبّه يعنون يعقوب، فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ: بدلا منه إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في أفعالك قيل: إلينا، وقال ابن إسحاق: يعنون إن فعلت ذلك كنت من المحسنين.
قالَ يوسف مَعاذَ اللَّهِ أعوذ بالله وهو نصب على المصدر، وكذلك تفعل العرب في كلّ مصدر وضع موضع الفعل، تقول: حمدا لله وشكرا لله، بمعنى أحمد الله وأشكره أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ولم يقل من سرق تحرّزا من الكذب، إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ إن أخذنا بريئا بسقيم.
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ يعني أيسوا من يوسف من أن يجيبهم إلى ما سألوه خَلَصُوا نَجِيًّا أي خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم، والنجيّ لقوم يتناجون وقد يصلح للواحد أيضا، قال الله في الواحد: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا «2» ، وقال في الجمع خَلَصُوا نَجِيًّا وإنّما جاز للواحد والجمع لأنّه مصدر أبدل نعتا كالعدل والزور والفطر ونحوها، وهو من قول القائل نجوت فلانا أنجوه نجيّا، ومثله النجوى يكون اسما ومصدرا، قال الله تعالى:
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) سورة مريم: 52.(5/244)
وَإِذْ هُمْ نَجْوى «1» أي يتناجون وقال: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ «2» وقال في المصدر إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ «3» وقال الشاعر:
بني بدا خبّ نجوى الرجال ... (وك) «4» عند سرّك خبّ النجيّ «5»
والنجوى والنجيّ في هذا البيت بمعنى المناجاة، وجمع النجيّ أنجية، قال لبيد:
وشهدت أنجية الإفاقة عاليا ... كعبي وأرداف الملوك شهود «6»
وقال آخر:
إنّي إذا ما القوم كانوا أنجيه ... واضطربت أعناقهم كالأرشية
هناك أوصيني ولا توصي به «7» .
قالَ كَبِيرُهُمْ يعني في العقل والعلم لا في السنّ وهو شمعون، وكان رئيسهم، قاله مجاهد، وقال قتادة والسدّي والضحاك وكعب: هو روبيل وكان أسنّهم وهو ابن خالة يوسف، وهو الذي نهى إخوته عن قتله، وهب والكلبي: يهودا، وكان أعقلهم، محمد بن إسحاق:
لاوي.
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ عهدا من الله وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ اختلفوا في محلّ ما فقال بعضهم: هو نصب إيقاع العلم عليه يعني: ألم تعلموا من قبل فعليكم بهذه تفريطكم في يوسف؟ وقيل: هو في محلّ الرفع على الابتداء، وتمام الكلام عند قوله: مِنَ اللَّهِ يعني: ومن قبلي هذا تفريطكم في يوسف، فيكون ما مرفوعا يخبر [....] الصفة وهو قوله: وَمِنْ قَبْلُ، وقيل: ما صلة، ويعني ومن هذا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ أي قصّرتم وضيّعتم، وقيل: رفع على الغاية.
فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ التي أنا بها وهي أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي بالخروج منها أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها وترك أخي بنيامين بها أو معه، وإلّا فإنّي غير خارج منها، وقال أبو صالح: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالسيف فأحارب من حبس أخي بنيامين.
وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ أفضل وأعدل من يفصل بين الناس.
__________
(1) سورة الإسراء: 47.
(2) سورة المجادلة: 7.
(3) سورة المجادلة: 10.
(4) في المصدر: فكن. [.....]
(5) تفسير الطبري: 13/ 44.
(6) لسان العرب: 9/ 117.
(7) تفسير القرطبي: 9/ 241.(5/245)
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ يقوله الآخر في المحتبس بمصر لإخوته فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ بنيامين سَرَقَ الصواع، وقرأ ابن عباس والضحاك: سرّق بضمّ السين وكسر الراء وتشديده على وجه ما لم يسمّ فاعله، يعني أنّه نسب إلى السرقة مثل: خوّنته وفجّرته [....] أي نسبته إلى هذه الخلال.
وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا يعني ما كانت منّا شهادة في عمرنا على شيء إلّا بما علمنا وليست هذه شهادة منّا إنّما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم، وقال ابن إسحاق: معناه: وما قلنا: إنّه سرق إلّا بما علمنا، قال: وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يسترقّ السارق بسرقته.
وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ قال مجاهد وقتادة: ما كنا نعلم أنّ ابنك يسرق ويصير أمرنا إلى هذا، فلو علمنا ذلك ما ذهبنا به معنا، وإنّما قلنا ونحفظ أخانا ممّا لنا إلى حفظه منه سبيل، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس يعنون: أنّه سرق ليلا وهم نيام والغيب هو الليل بلغة حمير، وقال ابن عباس: لم نعلم ما كان يعمل في ليله ونهاره ومجيئه وذهابه، عكرمة وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ لعلّها دسّت بالليل في رحله.
وقيل معناه: قد أخذت السرقة من رحله ونحن ننظر إليه، ولا علم لنا بالغيب فلعلّهم سرّقوه ولم يسرق، وهذا معنى قول أبي إسحاق، وقال ابن كيسان: لم نعلم أنّك تنصاب كما أصبت بيوسف، ولو علمنا ذلك لم [نأخذ] فتاك ولم نذهب به.
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعني أهل القرية وهي مصر، ابن عباس: قرية من قرى مصر.
وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها يعني القافلة التي كنا فيها وكان معهم قوم من كنعان من جيران يعقوب (عليه السلام) ، قال ابن إسحاق: قد عرف الأخ المحتبس بمصر أنّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لما صنعوا في أمره فأمرهم أن يقولوا هذا الاسم، وَإِنَّا لَصادِقُونَ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ في الآية اختصار معناها، فرجعوا إلى أبيهم وقالوا له ذلك، فقال: بَلْ سَوَّلَتْ أي زيّنت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أردتموه فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً يوسف وبنيامين وأخيهما المقيم بمصر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحزني ووجدي على فقدهم الْحَكِيمُ في تدبير خلقه.(5/246)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
[سورة يوسف (12) : الآيات 84 الى 93]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وذلك أنّ يعقوب لمّا بلغه خبر بنيامين تتامّ حزنه وبلغ جهده وجدّد حزنه على يوسف، فأعرض عنهم وَقالَ يا أَسَفى يا حزني عَلى يُوسُفَ وقال مجاهد: يا جزعاه، والأسف: شدّة الحزن والندم.
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ مقاتل: لم يبصر بهما ستّ سنين فَهُوَ كَظِيمٌ أي مكظوم مملوء من الحزن، ممسك عليه لا يبثّه، ومنه كظم الغيظ، عطاء الخراساني: كَظِيمٌ: حزين، مجاهد: مكبود، الضحّاك: كميد، قتادة: تردّد حزنه في جوفه، ولم يتكلّم بسوء، ولم يتكلّم إلّا خيرا، ابن زيد: بلغ به الجزع حتى كان لا يكلّمهم، ابن عباس: مهموم، مقاتل: مكروب، وكلّها متقاربة.
سعيد بن جبير: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم يعط أمّة من الأمم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ عند المصيبة إلّا أمّة محمّد، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه لم يسترجع: إنّما قال يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ؟» [123] «1» .
وأخبرني ابن فنجويه [قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك] القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، [قال: حدّثني] أبي، عن هشام [بن القاسم] عن الحسن، قال: كانت بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانين عامّا لا تجف عينا يعقوب، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
قالُوا يعني ولد يعقوب تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ أي لا تزال تذكر يوسف، لا تفتر من حبّه، يقال: ما فتئت أقول ذلك، وما فتأت أو أفتؤ، فتأ وفتوّا، قال أوس بن حجر:
فما فتئت حيّ كأن غبارها ... سرادق يوم ذي رياج ترفع «2»
وقال آخر:
__________
(1) جامع البيان للطبري: 13/ 53، تفسير مجمع البيان: 5/ 444 بتفاوت ويوجد بتمامه في التفسير الصافي للفيض الكاشاني: 3/ 38.
(2) تفسير الطبري: 13/ 55، لسان العرب: 12/ 322 وفيه: وما فتئت خيل.(5/247)
فما فتئت خيل تثوب وتدّعي ... ويلحق منها لا حق وتقطع «1»
أي فما زالت.
وحذف (لا) قوله فتئ كقول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي «2»
أي: لا أبرح.
وقال خداش بن زهير:
وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله منتطقا مجيدا «3»
أي لا أبرح ومثله كثير.
حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً اختلف ألفاظ المفسّرين فيه، فقال ابن عباس: دنفا، العوفي: يعني الهد في المرض، مجاهد: هو ما دون الموت، يعني قريبا من الموت، قتادة: هرما، الضحّاك:
باليا مدبرا، ابن إسحاق: فاسدا لا عمل لك، ابن زيد: الحرض: الذي قد ردّ إلى أرذل العمر حتى لا يعقل، الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم، مقاتل: مدنفا، الكسائي: الحرض:
الفاسد الذي لا خير فيه، الأخفش: يعني ذاهبا، المخرج: ذائبا من الهمّ، الفرّاء عن بعضهم:
ضعيفا لا حراك بك، الحسن: كالشنّ المدقوق المكسور، علام تعبا مضنى، ابن الأنباري:
هالكا فاسدا، القتيبي: ساقطا، وكلّها متقاربة.
ومعنى الآية: حتى يكون دنف الجسم مخبول العقل، وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، ومنه قول العرجي:
إنّي امرؤ لجّ بي حبّ فأحرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم «4»
يقال: منه رجل حرض وامرأة حرض ورجلان وامرأتان حرض، ورجال ونساء حرض يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكّر والمؤنّث، لأنّه مصدر وضع موضع الاسم، ومن العرب من يقول للذكر حارض وللأنثى حارضة، فإذا وصف بهذا اللفظ ثنّى وجمع وانّث، ويقال: حرض، يحرّض، حرضا وحراضة فهو حرض، ويقال: رجل محرّض وأنشد في ذلك:
طلبته الخيل يوما كاملا ... ولو آلفته لأضحى محرضا «5»
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 55، زاد المسير: 4/ 205.
(2) الصحاح: 6/ 2222.
(3) تفسير القرطبي: 11/ 9، ولسان العرب: 10/ 354 وفيه: على الأعداء، بدل بحمد الله.
(4) الصحاح: 3/ 107.
(5) تفسير الطبري: 13/ 57.(5/248)
وقال امرؤ القيس:
أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا ... كإحراض بكر في الدّيار مريض «1»
أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ أي الميّتين، وقال يعقوب عند ذلك لمّا رأى غلظتهم وسوء لفظهم، نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
لا إليكم، قال المفسّرون دخل على يعقوب جار له فقال: يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ قال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من مصاب يوسف، فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟
قال: يا ربّ خطيئة أخطأتها فاغفر لي، قال: فإنّي قد غفرتها لك وكان بعد ذلك إذا سئل الَ: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ.
وقال حبيب بن أبي ثابت: بلغني أنّ يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على عينيه، وكان يرفعهما بخرقة، فقال له رجل: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان.
فأوحى الله إليه: يا يعقوب تشكوني، فقال: خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
وعن عبد الله بن قميط، قال: سمعت أبي يقول: بلغنا أنّ رجلا قال ليعقوب (عليه السلام) : ما الذي أذهب بصرك؟ قال: حزني على يوسف، قال: فما الذي قوّس ظهرك؟ قال:
حزني على أخيه، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ وعزّتي وجلالي لو كانا ميّتين لأخرجتهما لك حتى تنظر إليهما، وإنّما وجدت عليكم أنّكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين فلم تطعموه شيئا، وأنّ أحبّ خلقي إليّ الأنبياء ثمّ المساكين، فاصنع طعاما وادع إليه المساكين، فصنع طعاما، ثمّ قال: من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب.
وروى أبو عمران عن أبي الخلد ووهب بن منبه، قالا: أوحى الله تعالى إلى يعقوب:
تدري لم عاقبتك وغيّبت عنك يوسف وبنيامين؟ قال: لا إلهي، قال: لأنّك شويت عتاقا وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه، ويقال: إنّ سبب ابتلاء يعقوب بفقد يوسف، أنّه كانت له بقرة ولها عجول فذبح عجولها بين يديها، وإنّما كانت تخور فلم يرحمها، فأخذه الله به وابتلاه بفقد يوسف أعزّ ولده.
وقال وهب بن منبه والسدّي وغيرهما: أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن، فقال: هل تعرفني أيّها الصدّيق؟ قال: أرى صورة طاهرة وريحا طيّبة، قال: فإنّي رسول ربّ العالمين، وأنا الروح الأمين، قال: فما الذي أدخلك حبس المذنبين وأنت أطيب الطيّبين، ورأس المقرّبين، وأمين ربّ العالمين؟ قال: ألم تعلم يا يوسف أنّ الله يطهّر البيوت لهؤلاء الطيّبين، وأنّ الأرض
__________
(1) لسان العرب: 7/ 134.(5/249)
التي تدخلونها هي أطهر الأرضين، وأنّ الله قد طهّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين؟
قال: كيف لي بابن الصدّيقين وتعدّني من المخلصين، وقد أدخلت مدخل المذنبين، وسمّيت باسم المفسدين؟ قال: لأنّه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربّك فلذلك سمّاك الله في الصدّيقين، وعدّك مع المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين، قال: هل لك علم بيعقوب أيّها الروح الأمين؟ قال: نعم وهب الله له البلاء الجميل وابتلاه بالحزن عليك فَهُوَ كَظِيمٌ، قال:
فما قدر حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فماذا له من الأجر يا جبرئيل؟ قال: أجر مائة شهيد، قال: أفتراني لاقيه؟ قال: نعم، فطابت نفس يوسف، قال: ما أبالي ما ألفيته أن رأيته.
وأمّا قوله ثِّي
فالبثّ: أشدّ الحزن سمّي بذلك لأنّ صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه أي يظهره، يقال: بثّ، يبثّ فهو باثّ وأبثّ [يأبثه أبثا] «1» يبثّ فهو مبثّ إذا أظهره قال ذو الرمّة:
وقفت على ربع لميّة ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه ... تكلّمني أحجاره وملاعبة «2»
وقال الحسن: ثِّي
أي حاجتي، وقال محمّد بن القاسم الأنباري: البثّ: التفرق، وقال محمّد بن إسحاق: معناه: إنّما أشكو حزني الذي أنا فيه إلى الله، وهو من بثّ الحديث.
أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
قال ابن عباس: يقول أعلم أنّ رؤيا يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له، وقال آخرون: وأعلم أنّ يوسف حيّ.
قال السدّي: لما أخبره ولده بسيرة الملك وقوله أحسّت نفس يعقوب فطمع وقال: لعلّه يوسف، ويروى أنّه رأى الملك في المنام فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا والله، وهو حيّ.
ويقال: أرسل الله إليه ذئبا فسلّم عليه وكلّمه، فقال له يعقوب: أكلت ابني وقرّة عيني وثمرة فؤادي؟ قال: قد والله علمت يا يعقوب أنّ لحوم الأنبياء وأولاد الأنبياء علينا حرام، فلذلك قال لبنيه: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ سيروا واطلبوا الخبر، من يوسف وأخيه: وهو تفعّلوا من الحسّ يعني تتّبعوا، قال ابن عباس: التمسوا، وَلا تَيْأَسُوا، أي لا تقنطوا، مِنْ رَوْحِ اللَّهِ: من فرج الله، قال ابن زيد وقتادة، والضحّاك:
من رحمة الله، ف إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ.
يقال: سئل ابن عباس عن الفرق بين التجسّس والتحسّس فقال: لا يبعد أحدهما عن
__________
(1) زيادة لتقويم النصّ من تاج العروس: 1/ 598، وعبارة المخطوط غير مقروءة.
(2) تفسير القرطبي: 9/ 251، لسان العرب: 14/ 391، وفيه: أسقي ربعها بدل أبكي عنده.(5/250)
الآخر إلّا أنّ التحسّس في الخير والتجسّس في الشرّ، الحسن وقتادة: ذكر لنا أنّ نبي الله يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلّا أتى حسن ظنّه بالله من ورائه، وما ساء ظنّه بالله ساعة قط من ليل أو نهار،
الحسن عن الأحنف بن قيس عن ابن عباس بن عبد المطّلب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«قال داود: (إلهي) «1» أسمع الناس يقولون إله «2» إبراهيم وإسحاق ويعقوب فاجعلني رابعا: فقال:
لست هناك، إنّ ابراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلّا اختارني، وإنّ إسحاق جاد لي بنفسه، وإنّ يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف» [124] «3» .
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ في الآية متروك يستدلّ بسياق الكلام عليه تقريره: فجاؤوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف، فقالوا له: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ، يا أيّها الملك بلغة حمير، مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ الشدّة والجوع وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ قليلة، رديئة ناقصة، كاسدة. لا تنفق في شيء من الطعام إلّا [يتوجبن] من البائع فيها، وأصل الإزجاء السوق والدفع، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً «4» قال النابغة الذبياني:
وهبّت الريح من تلقاء ذي أزل ... تزجي مع الليل من صرّادها «5» صرما «6» «7»
وقال حاتم الطائي:
ليبك على ملحان ضيف مدفّع ... وأرملة تزجي مع الليل أرملا «8»
وإنّما قيل للبضاعة: مزجاة لأنّها غير نافقة وإنّما يجوز تجويزا على دفع من أخذها.
وأمالها حمزة والكسائي وفخّمها الباقون.
واختلف المفسّرون في هذه البضاعة ما هي؟ عكرمة عن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفا لا تنفق إلّا بوضيعه بإذن عنه، يعني لا تنفق في الطعام لأنّه لا يؤخذ في ثمن الطعام إلّا الجيّد، ابن أبي مليكة: حبل خلق الغرارة والحبل ورثة المتاع، عبد الله بن الحرث: متاع الأعراب، الصوف والسّمن، الكلبي ومقاتل وابن حيّان: الصنوبر وحبّة خضراء، سعيد بن جبير: دراهم [قليلة] ، ابن إسحاق: قليلة لا تبلغ ما كان يشترى به إلّا أن تتجاوز لنا فيها أحسن كانت أو أوطأ، جويبر عن الضحّاك: النعال والأدم، وروي عنه أنّها سويق المقل.
__________
(1) في المصدر: يا رب. [.....]
(2) في المصدر: رب.
(3) الدرّ المنثور: 5/ 281.
(4) سورة النور: 43.
(5) الصراد جمع الصارد: وهو سحاب بارد ندي ليس فيه ماء.
(6) صرم جمع الصرمة: القطعة من السحاب.
(7) لسان العرب: 11/ 13.
(8) لسان العرب: 11/ 297.(5/251)
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي أعطنا بها ما كنت تعطينا من قبل بالثمن الجيّد الوافي وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا وتفضّل علينا بما بين الثمنين الجيّد والرديء. ولا تنقصنا من السعر، هذا قول أكثر المفسّرين، وقال ابن جريج والضحّاك: تَصَدَّقْ عَلَيْنا بردّ أخينا إلينا.
إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ قال الضحّاك: لم يقولوا: إنّ الله يجزيك أن تصدّقت علينا لأنّهم لم يعلموا أنّه مؤمن، قال عبد الجبار بن العلاء: سئل سفيان بن عيينة: هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم؟ قال سفيان: ألم تسمع قوله: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا أراد سفيان أنّ الصدقة كانت لهم حلالا وأنّها إنّما حرّمت على نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، وروي أنّ الحسن البصري سمع رجلا يقول: اللهمّ تصدّق عليّ، فقال: يا هذا إنّ الله لا يتصدّق إنّما يتصدّق من يبغي الثواب، قل: اللهمّ أعطني أو تفضّل عليّ.
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ اختلفوا في السبب الذي حمل يوسف على هذا القول، فقال ابن إسحاق: ذكر لي أنّهم لمّا كلّموه بهذا الكلام غلبته نفسه وأدركته الرقّة فانفضّ دمعه باكيا ثمّ باح لهم بالذي كان يكتم فقال: قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ.
وقال الكلبي: إنّما قال ذلك حين حكى لإخوانه: أنّ مالك بن أذعر قال: إنّي وجدت غلاما في بئر حاله كيت وكيت وابتعته من قوم بألف درهم فقال: أيّها الملك نحن بعنا ذلك الغلام منه، فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولّى يهوذا وهو يقول: كان يعقوب يحزن لفقد واحد منّا حتى كفّ بصره فكيف به إذا لو قتل بنوه كلّهم، ثمّ قالوا: إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا وإنّه في مكان كذا وكذا، فذاك حين رحمهم وبكى وقال لهم ذلك القول.
وقال بعضهم: إنّما قال ذلك حين قرأ كتاب أبيه إليه وذلك أنّ يعقوب لما قيل له: إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ، كتب إليه: من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله، بن ابراهيم خليل الله أمّا بعد فإنّا أهل بيت موكّل بنا البلاء، فأمّا جدّي فشدّت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأمّا أبي فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكّين على قفاه، ليقتل، ففداه الله، وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البريّة ثمّ أتوني بقميصه ملطّخا بالدم وقالوا: قد أكله الذئب وذهب [..........] «1» ثمّ كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلّى به، فذهبوا به ثمّ رجعوا وقالوا: إنّه سرق، وإنّك حبسته بذلك وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته إليّ وإلّا دعوت عليك دعوة تنزل بالسابع من ولدك، فلمّا قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره فقال لهم ذلك.
__________
(1) كلمة غير مقروءة.(5/252)
وقال بعضهم: إنّما قال ذلك حين سأل أخاه بنيامين: هل لك ولد؟ قال: نعم، ثلاثة بنين، قال: فما سمّيتهم؟ قال: سمّيت الأكبر يوسف قال: ولم؟ قال: محبّة لك، لأذكرك به، قال:
فما سمّيت الثاني؟ قال: ذئبا، قال: ولم سمّيته بالذئب وهو سبع عاقر؟ قال: لأذكرك به، قال:
فما سمّيت الثالث؟ قال: دماء، قال: ولم؟ قال لأذكرك به، فلمّا سمع يوسف المقالة خنقته العبرة، ولم يتمالك، فقال لإخوته: لمّا دخلوا عليه: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إذ فرّقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ، بما يؤول إليه أمر يوسف.
وقيل: يكون المذنب جاهل وقت ذنبه.
قال ابن عباس: إذا أنتم صبيّان، الحسن: شبان وهذا غير بعيد من الصواب لأنّ مظنّة الجهل الشباب.
فإنّ سئل عن معنى قول يوسف ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وقيل ما كان عنهم إلى أخيه وهم لم يسعوا في حبسه، فالجواب أنّهم لمّا أطلقوا ألسنتهم على أخيهم بسبب الصاع [حبس] وقالوا: ما رأينا منكم يا بني راحيل كما ذكرناه، فعاتبهم يوسف على ذلك. وقيل: إنّهما لمّا كانا من أمّ واحدة وكانوا يؤذونه بعد فقد يوسف فعاتبهم على ذلك.
قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ: قرأ ابن محصن وابن كثير: إنّك على الخبر، وقرأ الآخرون على الاستفهام، ودليلهم قراءة أبي بن كعب أو أنت يوسف، قال ابن إسحاق: لمّا قال يوسف لأخوته هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ الآية، كشف عنهم الغطاء ورفع الحجاب فعرفوه، فقالوا: إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ، جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس، قال: قالَ يوسف: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ؟ ثمّ تبسّم، وكان إذا تبسّم كأنّ ثناياه اللؤلؤ المنظوم، فلمّا أبصروا ثناياه شبّهوه بيوسف، فقالوا له استفهاما: إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟، ابن سمعان عن عطاء عن ابن عباس قال: إنّ إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها، وكان لإسحاق مثلها، وكان لسارة مثلها شبه الشامة البيضاء، فلمّا قال لهم: [هَلْ] عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ورفع التاج عنه، فعرفوه فقالوا: إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ «1» . قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بأن جمع بيننا بعد ما فرّقتم إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، وَيَصْبِرْ عمّا حرّم الله عليه، قال ابن عباس: يَتَّقِ الزنا وَيَصْبِرْ على العزوبة، مجاهد: يَتَّقِ معصية الله وَيَصْبِرْ على السجن فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، ف قالُوا مقرّين معتذرين: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا اختارك الله علينا بالعلم والحكم والعقل والفضل والحسن والملك وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ وإن كنّا في صنيعنا بك
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 256.(5/253)
لمخطئين، مذنبين، يقال: خطئ، يخطأ، خطأ وخطأ وأخطأ إذا أذنب، قال أميّة بن الأكسر:
وإنّ مهاجرين تكنّفاه ... لعمر الله قد خطئا وخابا «1»
وقيل لابن عباس: كيف قالوا: إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ وقد تعمّدوا لذلك؟ فقال: أخطئوا الحقّ وإن تعمّدوا، وكلّ من أتى ذنبا كذلك يخطئ المنهاج الذي عليه من الحقّ حتى يقع في الشبهة والمعصية ف قالَ يوسف وكان حليما موفّقا: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ لا تعيير ولا تأنيب عليكم، ولا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم، وأصل التثريب: الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز، ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها»
[125] «2» أي لا يعيّرها، ثمّ دعا لهم يوسف وقال: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
عطاء عن ابن عباس قال: أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت، وقال: «الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» «3» [126] ثمّ قال: «ما «4» تظنون؟» قالوا: نظنّ خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، قال: «وأنا أقول كما قال أخي يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» [127] «5» .
قال السدي وغيره: فلمّا عرّفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل؟ قالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه وقال لهم: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً يعود مبصرا، لأنّه كان دعاء. قال الضحاك: كان ذلك القميص من نسج الجنّة، روى السدّي عن أبيه عن مجاهد عن هذه الآية قال: كان يوسف أعلم بالله عزّ وجل من أن يعلم أنّ قميصه يردّ على يعقوب بصره، ولكنّ ذلك قميص إبراهيم الذي ألبسه الله عزّ وجل في النار من حرير الجنّة، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب وكان يعقوب، أدرج القميص وجعله في قصبة وعلّقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين، ثمّ أمره جبرئيل (عليه السلام) أن أرسل بقميصك فإنّ فيه ريح الجنّة لا يقع على مبتل ولا سقيم إلّا صحّ وعوفي.
وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 13/ 73 وفيه حابا بدل خابا.
(2) كنز العمّال: 5/ 338، ح 13116.
(3) مسند أحمد: 2/ 11، تفسير القرطبي: 9/ 258.
(4) في المصدر: ماذا تظنون يا معشر قريش.
(5) تفسير القرطبي: 9/ 256. [.....](5/254)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
[سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 101]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ يعني خرجت من عريش مصر متوجّهة إلى كنعان.
قالَ أَبُوهُمْ لولد ولده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ روي أنّ الريح استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب (عليه السلام) بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير، فأذن لها فأتته بها، ابن السدّي عن أبيه عن مجاهد، قال: أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيّام وذلك أنّه هبّت فصفقت القميص فاحتملت الريح ريح القميص إلى يعقوب فوجد ريح الجنّة فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنّة إلّا أن تأتي من ذلك القميص فمن ثمّ قال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ، وهو منه على مسيرة ثماني ليال.
وروى شعيبة عن أبي سنان قال: سمعت عبد الله بن أبي الهذيل قال: سمعت ابن عباس يقول: وجد يعقوب ريح يوسف روى أبو سنان عن أبي هذيل قال: سمعت ابن عباس يقول:
وجد يعقوب ريح يوسف وهو منه على مسيرة ثماني ليال، وروى شعيبة عن أبي سنان قال:
سمعت عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس في هذه الآية قال: وجد ريحه من مسيرة ما بين البصرة والكوفة. وقال الحسن: ذكر لنا أنّه كان بينهما يومئذ ثمانون فرسخا.
لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ: سفيان عن حصيف، عن مجاهد لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ، قال: تسفهون الرأي، عن ابن عباس: تجهلون، ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد: لولا أن تقولوا ذهب عقلك: سعيد بن جبير والسدّي ولضحّاك: تكذّبون، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والحسن وقتادة: تهرمون، ومثله روى إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد، ربيع: تحمقون، جويبر عن الضحّاك: تهرمون، فتقولون: شيخ كبير قد خرف وذهب عقله، ابن يسار: تضعفون، أبو عمرو بن العلاء: تقبحون، الكسائي: تعجزون، الأخفش: تلومون، أبو عبيدة: تضللون، وأصل الفند: الفساد، قال النابغة:
إلّا سليمان إذ قال المليك له ... قم في البرية فاحددها عن الفند «1»
__________
(1) تفسير الطبري: 1/ 411، لسان العرب: 3/ 142 وفيه الإله بدل المليك.(5/255)
أي أمنعها من الفساد، ولذلك يقال: اللوم تفنيد، قال الشاعر:
يا صاحبيّ دعا لومي وتفنيدي ... فليس ما فات من أمر بمردود «1»
وقال جرير بن عطية:
يا عاذليّ دعا الملام وأقصرا ... طال الهوى وأطلتما التفنيدا «2»
وقال آخر:
أهلكتني باللوم والتفنيد «3»
والفند: الخطأ في الكلام والرأي ويقال:
أفند فلانا الدهر إذا أفسده، ومنه قول ابن مقبل:
دع الدهر يفعل ما أراد فإنّه ... إذا كلّف الافناد بالناس أفندا «4»
قالُوا يعني أولاد أولاده تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ خطأك الْقَدِيمِ من حبّك يوسف لا تنساه، فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ المبشّر برسالة يوسف، قال ابن عباس: البريد يهوذا بن يعقوب، ابن مسعود: جاءَ الْبَشِيرُ من بين يدي العير قال السدّي: قال يهوذا: أنا ذهبت بالقميص ملطّخا بالدم إلى يعقوب وأخبرته أنّ يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنّه حيّ وأفرحه كما أحزنته، قال ابن عباس: حمله يهوذا دونهم، وخرج حاسرا حافيا وجعل يعدو حتى أتى أباه، وكان معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها، وكانت المسافة ثمانين فرسخا، وروى الضحّاك عن ابن عباس، قال: البشير مالك بن ذعر من أهل مدين.
أَلْقاهُ يعني ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب، فَارْتَدَّ بَصِيراً: فعاد بصيرا بعد ما كان عمي.
عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عبد الله السلمي: قال سمعت يحيى بن مسلم عمّن ذكره قال: كان يعقوب أكرم أهل الأرض على ملك الموت، وإنّ ملك الموت استأذن ربّه في أن يأتي يعقوب فأذن له فجاءه فقال يعقوب: يا ملك الموت أسألك بالذي خلقك، هل أخذت نفس يوسف فيمن قبضت من النفوس؟ قال: لا، قال ملك الموت: يا يعقوب ألا أعلّمك دعاء؟ قال:
بلى، قال: قل: يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا ولا يحصيه غيرك، قال: فدعا به يعقوب في تلك الليلة فلم يطلع الفجر حتى طرح القميص عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً، قال الضحّاك: رجع إليه
__________
(1) زاد المسير: 4/ 213.
(2) تفسير الطبري: 13/ 81.
(3) تفسير القرطبي: 9/ 260.
(4) تفسير الطبري: 13/ 78.(5/256)
بصره بعد العمى والقوّة بعد الضعف والشباب بعد الهرم والسرور بعد الحزن.
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من حياة يوسف وأنّ الله يجمع بيننا قالُوا بعد ذلك يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ مذنبين.
قالَ يعقوب (عليه السلام) : سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي في صلاة الليل، قال أكثر المفسّرين: أخّره من الليل إلى السحر، وذلك أنّ الدعاء بالأسحار لا يحجب عن الله، فلمّا انتهى يعقوب إلى الموعد تقدّم إلى الصلاة بالسحر، فلمّا فرغ منها رفع يده إلى الله تعالى: اللهمّ اغفر لي حزني على يوسف وقلّة صبري عنه، واغفر لولدي ما أتوا على يوسف، فأوحى الله إليه: إنّي قد غفرت لك ولهم أجمعين.
قال محارب بن دثار: كان عمّ لي يأتي المسجد، قال: فمررت بدار عبد الله بن مسعود فسمعته يقول: اللهمّ إنّك دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت فهذا سحر فاغفر لي. فسألته عن ذلك فقال: إنّ يعقوب أخّر استغفار بنيه إلى السحر بقوله: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي.
عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سوف أستغفر لكم ربّي، يقول: حتى يأتي يوم «1» الجمعة» [128] «2» .
قال وهب: كان يستغفر لهم كلّ ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة، وقال طاوس: أخّر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ذلك ليلة عاشوراء.
عن أبي سلمة عن عطاء الخراساني قال: طلب الحوائج إلى الشاب أسهل منها في الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، وقول يعقوب (عليه السلام) :
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي.
أبو الحسن الملاني الشعبي: قال: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، قال: أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفر لكم ربي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ روي أنّ يعقوب (عليه السلام) قال للبشير لمّا أخبره بحياة يوسف، قال: كيف تركت يوسف؟ قال: إنّه ملك مصر، فقال يعقوب: ما أصنع بالملك؟ على أيّ دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. فقال يعقوب: الآن تمّت النعمة.
وقال الثوري: لمّا التقى يعقوب ويوسف (عليهما السلام) عانق كلّ واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف: يا أبة بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ قال:
بلى بنيّ، ولكن خشيت أن تسلب دينك، فيحال بيني وبينك.
__________
(1) في المصدر: ليلة الجمعة.
(2) سنن الترمذي: 5/ 224، تفسير الطبري: 13/ 85.(5/257)
قالوا: قد كان يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي راحلة، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده أجمعين، متهيّأ يعقوب للخروج إلى مصر، فلمّا دنا من مصر كلّ يوسف الملك الذي فوقه فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند، وركب أهل مصر معهما، يتلقون يعقوب، ويعقوب يمشي ويقود ركابه يهوذا، فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال ليهوذا: هذا فرعون مصر؟ قال: لا، هذا ابنك.
فلمّا دنا كلّ واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك وكان يعقوب أحقّ بذلك منه وأفضل، فابتدأه يعقوب بالسلام وقال: السلام عليك أيّها الذاهب بالأحزان، فذلك قوله عزّ وجل: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ.
فإن قيل: كيف قال لهم يوسف: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ بعد ما دخلوها، وقد أخبر الله أنّهم لما دخلوا على يوسف وضمّ إليه أبويه قال لهم هذا القول حين تلقّاهم قبل دخولهم مصر كما ذكرنا.
وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير، وهذا الاستثناء من قول يعقوب حين قال: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ومعنى الكلام: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إن شاء الله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ: ادْخُلُوا مِصْرَ ... آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وهذا معنى قول أبي جرير، وقال بعضهم: إنّما وقع الاستثناء على الأمن لا على الدخول كقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «1»
وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند دخول المقابر: «وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» [129] «2» .
فالاستثناء وقع على اللحوق بهم لا على الموت، وقيل: (إن) هاهنا بمعنى (إذ) كقوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «3» ، وقوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «4» ، وقوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «5» .
وقال ابن عباس: إنّما قال: آمِنِينَ لأنّهم فيما خلا كانوا يخافون ملوك مصر ولا يدخلون مصر لأنّهم لا جواز لهم، وأمّا قوله تعالى آوى فقال ابن إسحاق: أباه وأمّه وقال الآخرون:
__________
(1) سورة الفتح: 27.
(2) صحيح مسلم: 1/ 150.
(3) سورة البقرة: 278.
(4) سورة آل عمران: 139.
(5) سورة النور: 33.(5/258)
أبوه وخالته لعيّا، وكانت راحيل أمّ يوسف قد ماتت في نفاسها وتزوّج يعقوب بعدها أختها لعيا فسمى الخالة أمّا كما سمّى العمّ أبا في قوله: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
وروى إسحاق عن بشر عن سعيد عن الحسن، قال: نشر الله راحيل أمّ يوسف من قبرها حتى سجدت تحقيقا للرؤيا.
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ على السرير، يعني أجلسهما عليه قال ابن إسحاق يعني رفع اسمهما وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً يعني يعقوب وخالته وإخوته، كانت تحيّة الناس يومئذ السجود، ولم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض، لأنّ ذلك لا يجوز إلّا لله تعالى وإنّما هو الانحناء والتواضع على طريق التحيّة والتعظيم والتسليم إلّا على جهة العبادة والصلاة، وهذا قول الأعشى بن ثعلبة:
فلمّا أتانا بعيد الكرى ... سجدنا له ورفعنا العمارا «1»
وقال آخر:
فضول أزمتها لأمّها أسجدت ... سجود النصارى لأربابها «2»
وقيل: السجود في اللغة الخضوع كقول النابغة «3» :
بجمع تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر «4»
أي متطامنة ذليلة.
قال [ثعلبة] : خرّوا يعني مرّوا، ولم يرد الوقوع والسقوط على الأرض، نظيره قوله تعالى:
لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً «5» إنّما أراد لم يمرّوا كذلك، مجاهد: بمعنى المرور، وروي عن ابن عباس أنّ معناه خرّوا لله سجّدا فقوله: له كناية عن الله تعالى وَقالَ يوسف عند ذلك واقشعرّ جلده: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا، وهو قوله إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً.
واختلفوا في مدّة غيبة يوسف عن يعقوب، فقال الكلبي: مائتان وعشرون سنة، سلمان الفارسي: أربعون سنة، عبد الله بن شدّاد: سبعون سنة وقيل: سبع وسبعون سنة، وقال الحسن:
ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد لقائه
__________
(1) الصحاح: 2/ 758.
(2) الصحاح: 2/ 484، تفسير القرطبي: 1/ 291 وفيه لأحبارها بدل لأربابها. [.....]
(3) في المصدر: كقول زيد الخيل بدل النابغة.
(4) الصحاح: 2/ 483، تفسير الطبري: 1/ 427.
(5) سورة الفرقان: 73.(5/259)
بيعقوب ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن عشرين ومائه سنة، وفي التوراة: مائة وستّ وعشر سنين. في قول ابن إسحاق بن يسار: ثمانين وسبعة أعوام، وقال ابن أبي إسحاق: ثماني عشرة سنة، وولد ليوسف من امرأة العزيز: افراثيم وميشا ورحمة امرأة أيّوب، وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة.
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ولم يقل من الجبّ استعمالا للكرم لئلّا يذكّر إخوته صنيعهم، وقيل: لأنّ نعمة الله عليه في النجاة من السجن أكبر من نعمته عليه في إنقاذه من الجب، وذلك أنّ وقوعه في البئر كان لحسد إخوته، ووقوعه في السجن مكافأة من الله لزلّة كانت منه.
وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ وذلك أنّ يعقوب وبنوه كانوا أهل بادية ومواشي، والبدو مصدر قولك: بدا، يبدو، بدوّا، إذا صار بالبادية، مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ أفسد الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ ذو لطف وصنع لِما يَشاءُ عالم بدقائق الأمور وحقائقها، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
روى عبد الصمد عن أبيه عن وهب: قال: دخلوا- يعني يعقوب وولده- مصر وهم اثنان وسبعون إنسانا ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاطنهم ستّمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا سوى الذرّية والهرمى والزمنى، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتا ألف سوى المقاتلة.
قال أهل التاريخ: أقام يعقوب بمصر بعد موافاته بأهله أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش، ثمّ مات بمصر، ولمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك ومضى به حتى دفنه بالشام، ثمّ انصرف إلى مصر.
قال سعيد بن جبير: نقل في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ووافق ذلك يوم مات عيصوا فدفنا في قبر واحد، فمن ثمّ تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس من فعل ذلك منهم، وولد يعقوب وعيص في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعة وأربعين سنة.
قالوا: فلمّا جمع الله ليوسف شمله وأقرّ له عينه وأتمّ له رؤياه، وكان موسّعا له في ملك الدنيا ونعيمها علم أنّ ذلك لا يدوم له وأن لا بدّ له من فراقه فأراد نعيما هو [أدوم] منه، فاشتاقت نفسه إلى الجنّة فتمنى الموت ودعا ربّه، ولم يتمنّ نبي قبله ولا بعده الموت فقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ يعني ملك مصر وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ يعني تعبير الرؤيا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقها وبارئها.
أَنْتَ وَلِيِّي معيني فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تتولّى أمري تَوَفَّنِي اقبضني إليك مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بآبائي النبيين.(5/260)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
قيل: فتوفّاه الله طيّبا طاهرا بمصر، ودفن في النيل في صندوق رخام، وذلك أنّه لما مات تشاحّ الناس عليه كلّ يحب أن يدفن في محلّتهم لما يرجون من بركته، فاجتمعوا على ذلك حتى همّوا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث مفرق الماء بمصر فيمرّ الماء عليه ثمّ يصل الماء إلى جميع مصر، فيكونوا كلّهم فيه شرعا واحدا ففعلوا.
وروى صالح المرّي، عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك، قال: إنّ الله عزّ وجل لمّا جمع ليعقوب شمله خلا ولده نجيّا، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف؟ قالوا: بلى، قال: فإن أعفوا عنكم ولكن كيف لكم بربّكم؟، فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنب أبيه قاعد.
قالوا: يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله، حتى حرّكوه، والأنبياء (عليهم السلام) أرحم البريّة، فقال: ما لكم يا بنيّ؟ قالوا: ألست قد علمت ما كان منّا إليك، وما كان منّا إلى أخينا يوسف؟ قالا: بلى، وقالوا: أفلستما قد عفوتما، قالا:
بلى، قالوا: فإنّ عفوكما لا يغني عنّا إن كان الله لم يعف عنّا، قال: فما تريدون يا بني؟ قالوا:
نريد أن تدعو الله فإذا جاء الوحي من عند الله بأنّه قد عفا صنعنا قرّت أعيننا واطمأنّت قلوبنا، وإلّا فلا قرّة عين لنا في الدنيا أبدا، فقام الشيخ واستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه، وقاموا خلفهما أذلّة خاشعين، فدعا يعقوب وأمّن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة.
قال صالح المرّي: يخيفهم، حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبرئيل على يعقوب فقال:
إنّ الله تبارك وتعالى بعثني إليك أبشّرك، فإنّه قد أجاب دعوتك في ولدك، وإنّه قد عفا عمّا صنعوا، فإنّه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوّة، وذلك الذي ذكرت وقصصت عليك.
[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)(5/261)
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ وما كنت يا محمّد عند أولاد يعقوب إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أي تعاهدوا على إلقاء يوسف في غيابة الجب، وَهُمْ يَمْكُرُونَ بيوسف، وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ على إيمانهم بِمُؤْمِنِينَ وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله مِنْ أَجْرٍ: جعل وجزاء إِنْ هُوَ يعني القرآن والوحي إِلَّا ذِكْرٌ: عظة وتذكير لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ وكم قول فيه عظة وعبرة ودلالة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها.
الحرث بن قدامة عن عكرمة أنّه قرأ: وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها رفعا، عن محمّد بن عمر قال: سمعت عمرو بن وائل يقرأ: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ قطعا، وَالْأَرْضُ يَمُرُّونَ عَلَيْها رفعا، أبو حمزة الثمالي عن السدي: أنّه قرأ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها نصبا، وقرأ: يمرون على الأرض، وعن ابن مجاهد قال: حدّثنا إسحاق الحربي أبو حذيفة، حدّثنا سفيان قال: وقرأ عبد الله: وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمشون عليها.
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ عكرمة في قول الله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال: من إيمانهم إذا سئلوا: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ قالوا: الله، وإذا سئلوا من نزّل القطر؟ قالوا: الله، ثمّ هم يشركون، وروى جابر عن عكرمة وعامر، في قوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قالا: يؤمنون بالله أنّه ربّهم وهو خالقهم ويشركون من دونه، وهذا قول أكثر المفسّرين.
وروى بن جبير عن الضحّاك عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك، تملكه وما ملك، وكان فيها يخزونك من تلبي: فأجب يا الله لولا أن بكرا دونك بني غطفان وهم يلونك، ينزل الناس ويخزونك، ما زال منا غنجا يأتونك، وكانت تلبية حرمهم: خرجنا عبادك الناس طرف وهم تلادك، وهم قديما عمّروا بلادك، وقد تعادوا فيك من يعادك، وكانت تلبية قريش: [اللهمّ لبّيك، لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه وما ملك] «1» ، وكانت تلبية حمدان وغسان وقضاعة وجذام وتلقين وبهرا: نحن عبادك اليماني إنّا نحجّ ثاني [على الطريق الناجي نحن نعادي] جئنا إليك حادي «2» . فأنزل الله وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ يعني في التلبية.
وقال: لمّا سمع المشركون ما قبل هذه الآية من الآيات قالوا: فإنّا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء ولكنّا نزعم أنّ له شريكا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
__________
(1) زيادة عن أخبار مكّة للأزرقي: / 194، وتاريخ دمشق: 19/ 501، والعبارة غير مقروءة في المخطوط.
(2) ذكر اليعقوبي تلبية كلّ قبيلة من العرب مفصّلا فليراجع تاريخ اليعقوبي: 1/ 255 وفيها اختلاف عمّا ذكره المصنّف هنا.(5/262)
عطاء: هذا في الدعاء وذلك أنّ الكفّار أشركوا بربّهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء، بيانه قوله تعالى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «1» وقوله تعالى: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «2» وقوله: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ «3» وقوله: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ «4» .
وقال بعض أهل المعاني: معناه وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قبل إيمانهم، نظيره قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً «5» يعني كانوا هم أشدّ منهم بطشا. وقال وهب: هذه في وقعة الدخان وذلك أنّ أهل مكّة لمّا غشيهم الدخان في سنيّ القحط قالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، وذلك إيمانهم وشكرهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب بيانه قوله: إِنَّكُمْ عائِدُونَ «6» والعود لا يكون، إلّا بعد ابتداء والله أعلم أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ قال ابن عباس: مجللة، مجاهد: عذاب يغشاهم، نظيره قوله:
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «7» : قتادة: وقيعة، الضحّاك: يعني الصواعق والقوارع أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ القيامة بَغْتَةً فجأة، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بقيامها، ابن عباس: تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم.
قُلْ لهم يا محمّد هذِهِ الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها سَبِيلِي سنّتي ومنهاجي، قاله ابن زيد، وقال الربيع: دعوتي، الضحّاك: دعائي، مقاتل: ديني، نظيره قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ «8» أي دينه، أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ على يقين، يقال: فلان مستبصر في كذا أي مستيقن أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي آمن بي وصدّقني فهو أيضا يدعو إلى الله، هذا قول الكلبي، وابن زيد قال: أحقّ والله على من اتّبعه أن يدعو إليّ بما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله.
وقيل: معناه أنا ومن اتّبعني على بصيرة، يقول: كما أنّي على بصيرة، فكذلك من آمن بي واتّبعني فهو على بصيرة أيضا، قال ابن عباس: يعني أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية، معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرحمن. وَسُبْحانَ اللَّهِ أي وقل:
__________
(1) سورة يونس: 22.
(2) سورة لقمان: 32.
(3) سورة يونس: 12.
(4) سورة فصّلت: 51.
(5) سورة ق: 36.
(6) سورة الدخان: 15.
(7) سورة العنكبوت: 55.
(8) سورة النحل: 125.(5/263)
سبحان الله تنزيها له عمّا أشركوا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ: يا محمّد إِلَّا رِجالًا لا ملائكة، نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى يعني من أهل الأمصار دون أهل البوادي لأنّ أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا يعني هؤلاء المشركين المنكرين لنبوّتك فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أخبر بأمر الأمم المكذّبة من قبلهم، فيعتبروا وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا يقول جلّ ثناؤه: هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا أن ننجيهم عند نزول العذاب، وما في دار الآخرة لهم خير، فترك ما ذكرنا، آنفا لدلالة الكلام عليه، وأضيف الدار إلى الآخرة ولا خلاف لتعظيمها كقوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «1» وقولهم: عام الأوّل، وبارحة الأولى ويوم الخميس وربيع الآخر: وقال الشاعر:
ولو أقوت عليك ديار عبس ... عرفت الذلّ عرفان اليقين «2»
يعني عرفانا.
أَفَلا يَعْقِلُونَ يؤمنون حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا اختلف القرّاء في قوله: كُذِبُوا
فقرأها قوم بالتخفيف «3» وهي قراءة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي عبد الرحمن السلمي وعكرمة والضحاك وعلقمة ومسروق والنخعي وأبي جعفر المدني ومحمّد بن كعب والأعمش وعيسى بن عمر الهمداني وأبي إسحاق السبيعي وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة وعلي بن الحسين وابنه محمّد بن علي وابنه جعفر بن محمّد، وعبد الله بن مسلم وابن يسار
، واختارها الكسائي وأبي عبيدة.
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قرأ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مخفّفة
وهي قراءة عائشة و [هرقل] الأعرج ونافع والزهري وعطاء بن أبي رياح وعبد الله بن كثير وعبد الله بن الحارث وأبي رجاء والحسن.
وقتادة وأبي عمرو وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون ويعقوب، ورويت أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمن قرأ بالتخفيف، فمعناه: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبتهم في وجود العذاب.
وروى الخبر عن شعيب بن الحجاج عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري: قال صنعت طعاما فدعوت ناسا من أصحابنا منهم: سعيد بن جبير وأرسلت إلى الضحّاك بن مزاحم فأبى أن
__________
(1) سورة الواقعة: 95. [.....]
(2) تفسير الطبري: 13/ 106.
(3) راجع تفسير القرطبي: 9/ 275، وزاد المسير، تجد اختلاف في الأسماء فتأمّل.(5/264)
يجيئني فأتيته فلم أدعه حتى جاء، قال: فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال: يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت إنّي لا أقرأ هذه السورة: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قال: نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم، وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل كذّبوهم.
قال: فقال الضحّاك: ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكّأ، لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا «1» .
وقال بعضهم: معنى الآية على هذه القراءة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ من إيمان قومهم وظنّت الرسل أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فيما وجدوا من النصرة. وهذه رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال:
كانوا دعوا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنّهم أخلفوا ثمّ قوله تعالى: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ الآية، ومن قرأ بالتشديد فمعناها، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ من قومهم أن يؤمنوا بهم وظنّت الرسل أي استيقنت أنّ أممهم قد كذبوهم جاءَهُمْ نَصْرُنا، وعلى هذا التأويل يكون الظنّ بمعنى العلم واليقين كقول الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي متلبب «2» ... سراتهم في الفارسيّ المسرد «3»
أي أيقنوا.
وهذا معنى قول قتادة، وقال بعضهم: معنى الآية على هذه القراءة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ممّن كذّبهم من قومهم أن يصدّقونهم، وظنّت الرسل أنّ من قد آمن بهم وصدّقوهم قد كذّبوهم فارتدوا عن دينهم لاستبطائهم النصر جاءَهُمْ نَصْرُنا وهذا معنى قول عائشة.
وقرأ مجاهد كذبوا بفتح الكاف والذال مخفّفة ولها تأويلان: أحدهما: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ أن يعذب قومهم، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا، والثاني:
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ من إيمان قومهم وظنّت الرسل أنّ قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم، ويكون معنى الظنّ اليقين على هذا التأويل، والله أعلم.
فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ عند نزول العذاب وهم المطيعون والمؤمنون وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يعني المشركين، واختلف القرّاء في قوله فنجّي فقرأها عامّة القراء فننجّي بنونين على معنى فنحن نفعل بهم ذلك، فأدغم الكسائي أحد النونين في الأخرى فقرأ: فَنُجِّيَ بنون واحدة وتشديد الجيم، وقرأ عاصم بضمّ النون وتشديد الجيم وفتح الياء على مذهب ما لم
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 516، والدرّ المنثور: 4/ 41.
(2) في المصدر: [محجج] .
(3) لسان العرب: 13/ 272، تفسير الطبري: 25/ 179.(5/265)
يسمّ فاعله، واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنّها في مصحف عثمان، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة وقرأ ابن محيصن فنجا من نشاء بفتح النون والتخفيف على أنّه فعل ماض ويكون محلّه على قراءة عاصم وابن محيصن رفعا، وعلى قراءة الباقين نصبا.
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي في خبر يوسف وأخوته عِبْرَةٌ عظة لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ يعني القرآن حَدِيثاً يُفْتَرى يختلق وَلكِنْ تَصْدِيقَ يعني ولكن كان تصديق الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي ما قبله من الكتب وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ممّا يحتاج إليه العباد وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.(5/266)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
سورة الرعد
مدنية قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّها مكّيّة إلّا آيتين، قوله: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا، وقوله وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ.
وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وست أحرف وثمان و [..........] «1» وخمسون كلمة وثلاث وأربعون آية.
سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ سحاب مضى وكلّ سحاب يكون إلى يوم القيامة، وكان يوم القيامة من الموفين بعهد الله عزّ وجلّ» [130] «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
المر قال ابن عباس: معناه: أنا الله أعلم وأرى تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يعني تلك الأخبار التي قصصناها عليك آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة وَالَّذِي أُنْزِلَ يعني وهذا القرآن الذي أنزل إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو الْحَقُّ فاعتصم به واعمل بما فيه، فيكون محلّ الَّذِي رفعا على الابتداء و (الْحَقُّ) خبره، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة، ويجوز أن يكون محلّ
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) تفسير مجمع البيان: 6/ 5.(5/267)
(الَّذِي) خفضا يعني تلك آيات الكتاب وآيات الذي أنزل إليك ثم ابتداء الحقّ يعني ذلك الحقّ كقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ يعني ذلك الحقّ.
وقال ابن عباس: أراد بالكتاب القرآن فيكون معنى الآية على هذا القول: هذه آيات الكتاب يعني القرآن، ثمّ قال: وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربّك هو الحقّ، قال الفرّاء: وإن شئت جعلت (الَّذِي) خفضا على أنّه نعت الكتاب وإن كانت فيه الواو كما تقول في الكلام: أتانا هذا الحديث عن أبي حفص والفاروق وأنت تريد ابن الخطّاب، قال الشاعر:
أنا الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم «1»
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ قال مقاتل: نزلت هذه الآية في مشركي مكّة حين قالوا:
إنّ محمّدا يقول القرآن من تلقاء نفسه، ثمّ بين دلائل ربوبيّته وشواهد قدرته فقال عزّ من قائل:
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ وهذه الآية من جملة مائة وثمانين آية أجوبة لسؤال المشركين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الربّ الذي تعبده ما فعله وصنيعه؟ وقوله: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها يعني السواري والدعائم واحدها عمود وهو العمد والبناء، يقال: عمود وعمد مثل أديم وأدم، وعمدان، وكذا مثل رسول ورسل، ويجوز أن يكون العمد جمع عماد، ومثل إهاب وأهب، قال النابغة:
وخيس الجنّ إنّي قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصّفاح والعمد «2»
واختلفوا في معنى الآية فنفى قوم العمد أصلا، وقال: رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ وهو الأقرب الأصوب، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: يعني ليس من دونها دعامة تدعهما، ولا فوقها علاقة تمسكها، وروى حمّاد بن سملة عن إياس بن معاوية قال: السماء مقبّبة على الأرض مثل القبر، وقال آخرون: معناه: الله الذي رفع السماوات بعمد ولكن لا ترونها، فأثبتوا العمد ونفوا الرؤية، وقال الفرّاء من تأوّل ذلك فعلى مذهب تقديم العرب الجملة من آخر الكلمة الى أوّلها كقول الشاعر:
إذا أعجبتك الدهر حال من أمرى ... فدعه وأوكل «3» حاله واللياليا
تهين «4» على ما كان عن صالح به ... فان كان فيما لا يرى الناس آليا «5»
معناه: وإن كان فيما يرى الناس لا يألو. وقال الآخر:
__________
(1) جامع البيان للطبري: 2/ 137.
(2) لسان العرب: 4/ 291.
(3) في المصدر: وواكل.
(4) في المصدر: يجئن.
(5) تفسير الطبري: 123.(5/268)
ولا أراها تزال ظالمة ... تحدث لي نكبة وتنكرها «1»
معناه: أراها لا تزال ظالمة فقدّم الجحد.
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ علا عليه وقد مضى تفسيره، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ذلّلها لمنافع خلقه ومصالح عباده كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي كلّ واحد منهما يجري الى وقت قدّر له، وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس ويخسف القمر وتنكدر النجوم، وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمّى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهين إليها لا يجاوزانها.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ قال مجاهد: يقضيه وحده يُفَصِّلُ الْآياتِ ينتهيان، لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ لكي توقنوا بوعدكم وتصدّقوه وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ بسطها، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا، واحدتها راسية وهي الثابتة، يقال: إنّما رسيت السفينة، وأرسيت الوتد في الأرض إذا أثبتّها، قال الشاعر:
حبّذا ألقاه سائرين وهامد ... وأشعث أرست الوليدة بالفهر
قال ابن عباس: كان أبو قبيس أوّل جبل وضع على الأرض، وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ صنفين وضربين اثْنَيْنِ: قال أبو عبيدة يكون الزوج واحدا واثنين، وهو هاهنا واحد، قال القتيبي: أراد من كلّ الثمرات لونين حلوا وحامضا يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يستدلّون ويعتبرون وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أبعاض متقاربات متدانيات يقرب بعضها من بعض بالجوار ويختلف بالتفاضل، ومنها عذبة ومنها طيبة ومنها طيبة منبت لأنها بجنته ومنها سبخة لا تنبت.
وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ رفعها ابن كثير وأبو عمرو عطفا على الجنات، وكسرها الآخرون عطفا على الأعناب. والصنوان جمع صنو، وهي النخلات يجمعهن أصل واحد فيكون الأصل واحد، ويتشعب به الرءوس فيصير نخلا، كذا قال المفسرون، قالوا: صِنْوانٌ مجتمع وَغَيْرُ صِنْوانٍ متفرق.
قال أهل اللغة: نظيرها في كلام العرب، صِنْوانٌ واحد، واحدها صنو والصنو المثل وفيه قيل: شمّ الرجل صنوانه ولا فرق فيهما بين التثنية والجمع إلّا بالإعراب وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة وفي الجمع منونة تجري جريان الإعراب.
خالفوا كلهم على خفض الصاد من صنوان إلّا أبا عبد الرحمن السلمي فإنه ضم صاده.
__________
(1) مغني اللبيب: 2/ 393، وتفسير الطبري: 13/ 123.(5/269)
يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ. قرأ عاصم وحميد وابن الحسن وابن عامر: بالياء على معنى يسقى ذلك كله بماء واحد.
وقرأ الباقون: بالتاء لقوله جَنَّاتٌ.
واختاره أبو عبيد قال: وقال أبو عمرو: مما يصدق التأنيث قوله بَعْضَها عَلى بَعْضٍ ولم يقل بعضه. وَنُفَضِّلُ. قرأ الأعمش وحمزة والكسائي: بالياء ردا على قوله يُدَبِّرُ ويفضّل ويُغْشِي.
وقرأها الباقون: بالنون بمعنى ونحن نفضل بعضها على بعض في الأكل.
قال الفارسي: والدفل «1» والحلو والحامض.
قال مجاهد: كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد.
عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول لعلي كرم الله وجهه:
«الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة» [131] ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ حتى بلغ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ «2» .
قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم، كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فبسطها وبطحها فصارت الأرض قطعا متجاورة، فينزل عليها الماء من السماء فيخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها ويخرج قاتها «3» ويحيي موتاها ويخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد. فلو كان الماء مجا قيل: إنما هذه من قبل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترقّ قلوب فتخنع وتخشع، تقسوا قلوب فتلهو وتقسو وتجفو.
وقال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلّا قام من عنده إلّا في زيادة ونقصان.
قال الله عزّ وجلّ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ... إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
__________
(1) هكذا في الأصل. [.....]
(2) مستدرك الصحيحين: 2/ 241، وكنز العمال: 11/ 608، ح 32944، وتاريخ دمشق: 42/ 64، ط.
دار الفكر.
(3) هكذا في المخطوط.(5/270)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
[سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 10]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9)
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10)
وَإِنْ تَعْجَبْ يا محمد من تكذيب هؤلاء المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهة يعبدونها من دون الله، وهم قراء تعبدون من الله وامره وما ضرب الله من الأمثال فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ فتعجب أيضا من قيلهم إِذا كُنَّا تُراباً بعد الموت إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فيعاد خلقنا جديدا كما كنا قبل الوجود.
قال الله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ «1» يوم القيامة وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ جهنم وَيَسْتَعْجِلُونَكَ يعني مشركي مكة بِالسَّيِّئَةِ بالبلاء والعقوبة قَبْلَ الْحَسَنَةِ الرخاء والعافية، وذلك أنّهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن جاءهم العذاب فاستهزأ منهم بذلك.
وقالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «2» الآية وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وقد مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها، العقوبات المنكلات واحدتها: مثلة بفتح الميم وضم التاء مثل صدقة وصدقات.
وتميم: بضم التاء والميم جميعا، وواحدتها على لغتهم مثلة بضم الميم وجزم الثاء مثل عرفة وعرفات والفعل منه مثلت به أمثل مثلا بفتح الميم وسكون الثاء.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ.
أحمد بن منبه عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: ولما نزلت هذه الآية وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد» [132] «3» .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ يعني على محمد صلّى الله عليه وسلّم آيَةٌ علامة وحجة على نبوته، قال الله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مخوف وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ داع يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ إمام يأتمون به.
وقال الكلبي: داع يدعوهم إلى الضلالة أو إلى الحق.
__________
(1) سورة الإسراء: 82.
(2) سورة الأنفال: 32.
(3) الدر المنثور: 4/ 45.(5/271)
أبو العالية: قائد، أبو صالح قتادة مجاهد: نبي يدعوهم إلى الله.
سعيد بن جبير: يعني بالهادي الله عزّ وجلّ.
وهي رواية العوفي، عن ابن عباس قال: المنذر محمد، والهادي الله.
عكرمة وأبو الضحى: الهادي محمد (صلى الله عليه وسلم) .
وروى السدي عن عبد الله بن علي قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المنذر أنا، الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه» [133] «1» .
وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على صدره فقال: «أنا المنذر» وأومأ بيده إلى منكب علي (رضي الله عنه) فقال:
«فأنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون من بعدي» [134] «2» .
ودليل هذا التأويل:
ما
روي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن زيد عن ربيع عن حذيفة: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن وليتموها أبا بكر فزاهد في الدنيا راغب في الآخرة وفي جسمه ضعف، وإن وليتموها عمر فقوي أمين لا تأخذه في الله لومة لائم، وإن وليتموها عليا فهاد مهدي يقيمكم على طريق مستقيم» [135] «3» .
ردا على منكري البعث القائلين أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فقال سبحانه: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ يعني تنقص.
قال المفسرون: غيض الأرحام الحيض على الحمل، فإذا حاضت الحامل كان نقصانا في غذاء الولد وزيادة في مدة الحمل، فإنها بكل يوم حاضت على حملها يوم تزداد في طهرها حتى يستكمل ستة أشهر ظاهرا. فإن رأت الدم خمسة أيام ومضت التسعة أشهر وخمسة أيام، وهو قوله: وَما تَزْدادُ.
روى ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ خروج الدم حتى تحض، يعني حين المولد، وَما تَزْدادُ استمساك الدم إذا لم تهرق المرأة تم الولد وعظم، وفي هذه الآية دليل على أنّ الحامل تحيض وإليه ذهب الشافعي.
وقال الحسن: غيضها ما تنقص من التسعة الأشهر وزيادتها ما تزداد على التسعة الأشهر.
__________
(1) مسند أحمد: 1/ 126.
(2) الدر المنثور: 4/ 35.
(3) كنز العمال: 11/ 631، 33075.(5/272)
الربيع بن أنس: ما يغيض الأرحام يعني السقط وَما تَزْدادُ يعني توأمين إلى أربعة.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ يعني به السقط.
وروى عبيد بن سليمان عن الضحاك قال: الغيض النقصان من الأجل، والزيادة ما يزداد على الأجل، وذلك أنّ النساء لا يلدن لعدّة واحدة ولا لأجل معلوم وقد يولد الولد لستة أشهر فيعيش ويولد لسنتين ويعيش.
قال: وسمعت الضحاك يقول: ولدت لسنتين قد نبتت ثناياي، وروى هيثم عن حصين قال: مكث الضحاك في بطن أمه سنتين.
وروى ابن جريح عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحو ظل المغزل، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وجماعة من الفقهاء «1» .
وقال الشافعي وجماعة من الفقهاء: أكثر الحمل أربع سنين، يدل عليه ما أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ، أحمد بن إبراهيم بن الحسين بن محمد قال: سمعت أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الفرج الأحمري سمعت عباس بن نصر البغدادي سمعت صفوان ابن عيسى يقول: مكث محمد بن عجلان في بطن أمه ثلاث سنين فشق بطن أمه وأخرج وقد نبتت أسنانه.
وروى ابن عائشة عن حماد بن سلمة قال: إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين.
وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ بحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، والمقدار مفعال من القدر عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الذي كل شيء دونه الْمُتَعالِ المستعلي على كل شيء بقدرته سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ في ظلمته وَسارِبٌ ظاهر بِالنَّهارِ ضوءه لا يخفى عليه من ذلك.
وقال أبو عبيدة: سارِبٌ بِالنَّهارِ أي سالك في سربه أي مذهب ووجهة، يقال: سارب سربه بفتح السين أي طريقه.
قال قيس بن الحطيم:
إني سربت وكنت غير سروب ... وتقرب الأحلام غير قريب
الشعبي: سارِبٌ بِالنَّهارِ منصرف في حوائجه يقال: سرب يسرب.
قال الشاعر:
__________
(1) راجع نصب الراية: 3/ 454، وسنن الدارقطني: 3/ 221.(5/273)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
أرى كلّ قوم قاربوا قيد فحلهم ... ونحن خلعنا قيده فهو سارب «1»
أي ذاهب.
قال ابن عباس: في هذه الآية هو صاحب ريبة مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ، فإذا خرج بالنهار رأى الناس أنه بريء من الإثم.
وقال بعضهم: مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أي ظاهر، من قولهم: خفيت الشيء إذا أظهرته، وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي متوار داخل في سرب.
[سورة الرعد (13) : الآيات 11 الى 14]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14)
لَهُ أي لله تعالى مُعَقِّباتٌ ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النهار أعقبتها ملائكة الليل، والتعقيب العود بعد المبدأ، قال الله وَلَمْ يُعَقِّبْ وإنما ذكرها هنا بلفظ جمع التأنيث لأنّ واحدهما معقب وجمعه معقبة، ثم جمع المعقبة معقبات فهي جمع الجمع. كما قيل أما قال قد حالات بكم وقوله:
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ يعني من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار وَمِنْ خَلْفِهِ من وراء ظهره.
قال ابن عباس: ملائكة يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ... مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ فإذا جاء القدر خلوا عنه.
حماد بن سلمة عن عبد الله بن جعفر عن كنانه العمري قالوا: دخل عثمان بن عفان (رضي الله عنه) على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أسألك عن العبد كم معه من ملك؟ قال: «ملك على يمينك يكتب حسناتك، وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: أأكتب؟ قال: لا، لعله يستغفر الله أو يتوب فإذا قال ثلاثا قال: نعم اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عزّ وجلّ وأقل استحياء منا يقول الله ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «2» وملكان من بين يديك
__________
(1) زاد المسير: 4/ 229، وفي لسان العرب: 1/ 462 وفيه (كل أناس) بدل (أرى كل قوم) .
(2) سورة ق: 18.(5/274)
ومن خلفك يقول الله لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلّا الصلاة على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وآله، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحيّة في فيك، وملكان على عينيك هؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل أي ليسوا من ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس مع بني آدم بالنهار وولده بالليل» [136] «1» .
قتادة وابن جريح: هذه ملائكة الله عزّ وجلّ يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، وذكر لنا أنّهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح.
همام بن منبه عن أبي هريرة عن محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون»
[137] «2» .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال: ذكر [أنّ] «3» ملكا من ملوك الدنيا له حرس من دونه حرس فإذا جاء أمر الله لم ينفعوا شيئا.
عكرمة: هؤلاء ملائكة من بين أيديهم ومن خلفهم لحفظهم.
شعبة عن شرفي عن عكرمة قال: الجلاوزة «4» .
الضحاك: هو السلطان المحترس من الله وهم أهل الشرك، وقوله يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ اختلفوا فيه فقال قوم: يعني: بأمر الله، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، وهذا قول مجاهد وقتادة ورواية الوالبي عن ابن عباس، وقال الآخرون: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ما لم يجئ القدر «5» .
لبيد عن مجاهد: ما من عبد إلّا به ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس الهوام فما منهم شيء بأمره يريده إلّا قال فذاك لا يأتي بإذن الله عزّ وجلّ فيه فيصيبه.
وقال كعب الأحبار: لولا وكل الله بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا يحيطكم الجن.
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 294.
(2) صحيح مسلم: 2/ 113.
(3) ما بين المعقوفتين زيادة اقتضاها السياق. [.....]
(4) تفسير الطبري: 13/ 156.
(5) راجع تفسير القرطبي: 9/ 292.(5/275)
وروى عمار بن أبي حفصة عن أبي مجلز قال: جاء رجل من مراد إلى علي (رضي الله عنه) وهو يصلي، فقال: احترس فإنّ ناسا من مراد يريدون قتلك. فقال: إنّ مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإنّ الأجل جنة حصينة
، وقال أهل المعاني: إنّ أوامر الله عزّ وجلّ على وجهين أحدهما قضى حلوله ووقوعه بصاحبه، فذلك ما لا يدفعه أحد ولا يغيره بشر ولا حتى الجن ولم يقض حلوله ووقوعه، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظة كقصة يونس (عليه السلام) ، وقال ابن جريج: معناه يكنصون من الله أمر الله يعني يحفظون عليه الحسنات والسيئات، وقال بعض المفسرين أن هذه الآية أنّ الهاء في قوله: لَهُ راجعة إلى رسول الله (عليه السلام) .
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لَهُ مُعَقِّباتٌ يعني محمد (عليه السلام) من الرحمن حراس مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، يعني من شر الجن والإنس ومن شر طارق الليل والنهار، وقال عبد الرحمن بن زيد: نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وزيد بن ربيعة وكانت قصتهما على ما
روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أقبل علينا زيد بن ربيعة هو وعامر بن الطفيل يريدان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور، وكان من أجمل الناس.
وقال رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل وهو مشرك.
فقال: دعه فإن يرد الله به خيرا بهذه، فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين، قال: تجعل لي الأمر بعدك. قال:
ليس ذلك إليّ إنما ذاك إلى الله يجعله حيث يشاء.
قال: فجعلني على الوبر وأنت على المدر، قال الرجل: فماذا يجعل لي؟ قال: أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها.
قال: أوليس ذلك لي اليوم؟ قال: لا. قال: قم معي أكلمك، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان يوصي إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من ورائه بالسيف فجعل يخاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدار أربد بن ربيعة خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم ليضربه فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله عنه فلم يقدر على قتله وعامر يومئ إليه فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأى أربد وما منع بسيفه.
فقال: اللهم أكفنيهما بما شئت، فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صاح صائف وولى عامر هاربا.
وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا.(5/276)
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة» [138] «1» يعني الأوس والخزرج، فنزل عامر ببيت امرأة سلولية فأنشأ يقول:
بخير أبيت اللعن إن شئت ودّنا ... فإن شئت حربا بأس ومصدق
وإن شئت فنسيا ما يكفي أمرهم ... يكبون كبش العارفين متألق
فلما أصبح ضم إليه سلاحه وقد تغير لونه، وهو يقول:
واللات لئن أصحر محمد إلي وصاحبه- عني ملك الموت- لأنفذنهما برمحي، فلما رأى الله تعالى ذلك منه أرسل ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التارب، وخرجت على ركبته غدة في الوقت كغدة البعير فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير وموت في السلولية ثم مات على ظهر فرسه «2» .
لعمري وما عمري علي بهين ... لقد شأن حمر الوجه طعنة مسهر
قد علم المزنوق أني أكرّ ... على جمعهم كرّ المنيح المشهر «3»
وأزود من وقع السنان زجرته ... وأخبرته أني امرؤ غير مقصر
وأخبرته أن الفرار خزاية ... على المرء ما لم يبل عذرا فيعذر.
لقد علمت عليا هوازن أنني ... أنا الفارس الحامي حقيقة «4» جعفر
فجعل يركض في الصحراء ويقول: أبرز يا ملك الموت، ثم أنشأ يقول:
لا قرب المزنوق ولتجد ما أرى لنفر ... من يوم شره غير حامد.
إلا قرباه إن غاية حرمناه إذا ... قرب المزنوق بين الصفائد هو من عامر قدن
إذا ما دعوتهم أجابوا ... ولبى منهم كل ماجد
وكان بعضهم يعيّر بعضا النزول على سلولية ولذلك ركب فرسه ليموت خارجا من بيتها ما أحس بالموت، ثم دعا بفرسه يركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره.
فأجاب الله تعالى دعاء رسوله صلّى الله عليه وسلّم وقتل عامرا بالطاعون وأربد بالصاعقة، فرثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد بجملة من المراثي فمنها هذه:
وانا لك فاذهب والحق ... بأسرتك الكرام الغيب
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 298.
(2) أسباب النزول للواحدي 184.
(3) المزنوق اسم فرسه، والبيت في لسان العرب: 10/ 146.
(4) الحقيقة: الراية والبيت في لسان العرب: 10/ 52، وجعفر هذا أبو جده.(5/277)
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب «1» ،
يتآكلون مغالة وملاذة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
فنعد في هذا وقل في غيره ... واذكر شمائل من أخ لك معجب
إنّ الرزيئة لا رزيئة بعدها ... مثلها فقدان كل أخ كضوء الكوكب
من معشر بنت لهم آباؤهم ... والعز لا يأتي بغير تطلب
يا أربد الخير الكريم جدوده ... أفردتني أمشري بقرن أعضب «2»
ومنها قوله:
ما أن تعزي المنون من أحد ... لا والد مشنق ولا ولد
أخشى على أربد الحتوف ... أرهب نوأ السماك والأسد
فعين هلا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام النساء في كبد
فجعني البرق والصواعق ... بالفارس يوم الكريهة النجد «3»
فأنزل الله تعالى في هذه القصة سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ الآية
لَهُ مُعَقِّباتٌ يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له معقبات يحفظونه مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يعني تلك المعقبات من أمر الله وهي مقدم ومؤخر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم معقبات يحفظونه مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ تلك المعقبات من أمر الله وقال الذين [آمنوا:] إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ «4» .
وقرأ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ حتى بلغ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ، ... إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية والنعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الحال لا [.........] «5» فيعصون ربهم ويظلمون بعضهم بعضا.
وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً عذابا وهلاكا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ علمها المخاوف «6» بالله وقيل: وال ولي أمرهم ما يدفع العذاب عنهم هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً يخاف أذاه ومشقته وَطَمَعاً للمقيم يرجو بركته وشفعته أن يمطر وَيُنْشِئُ بينهم
__________
(1) تفسير الطبري: 9/ 140.
(2) تفسير القرطبي: 9/ 298.
(3) الأبيات في ديوانه: 153، يرثي بها أخاه أربد وراجع معجم البلدان: 5/ 252، والبداية والنهاية: 5/ 70.
(4) عن تفسير الطبري: 13/ 162.
(5) كلمة غير مقروءة.
(6) هكذا في الأصل.(5/278)
السَّحابَ الثِّقالَ يعني قال إن شاء الله السحابة فيشاء أي أبدأها فبدلت وأسحاب جمع واحدتها سحابة وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أقبلت اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم نسألك خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك قال: فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قالوا: اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «هاتوا» ، قالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: «ملك من الملائكة الموكلة بالسحاب معه مخاريف من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله» .
قالوا: فما هذا الذي نسمع؟ قال: «زجر السحاب إذا زجر حتى ينتهي إلى حيث أمر» .
قالوا: صدقت «1» [139] .
قال عطية: الرعد ملك، وهذا تسبيحه، والبرق سوطه الذي يزجر به السحاب فقال: لذلك الملك رعد وقد ذكرنا معنى الرعد والبرق بما أغنى عن إعادته.
وقال أبو هريرة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [إذا سمع صوت الرعد] قال سبحانه من يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ.
عكرمة عن ابن عباس: إنه كان إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له.
وقال ابن عباس: من سمع صوت الرعد فقال سبحان الذي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ في خيفته وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فإن أصابته صاعقة فعلى ذنبه.
وروى مالك بن أنس عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان من يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ويقول: إن هذا الوعيد لأهل الأرض شديد.
وروى حجاج بن أرطأة عن أبي مطر عن سالم يحدث عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» [140] «2» .
وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ يعني ويسبح الملائكة من خيفة الله وخشيته، وقيل أراد هو أنّ الملائكة أعوان الرعد، جعل لله تعالى له أعوانا فهم جميعا خائفون، خاضعون طائعون به يُرْسِلُ الصَّواعِقَ «3» عن الضحاك عن ابن عباس قال: الرعد ملك يسوق السحاب، وإنّ بحور الماء لفي
__________
(1) سنن الترمذي: 4/ 357 ح 5121، ومسند أحمد: 1/ 274، وذكر تمام الحديث.
(2) مسند أحمد: 2/ 100، وتفسير القرطبي: 1/ 18. [.....]
(3) فتح القدير: 3/ 72.(5/279)
نقرة «1» إبهامه وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث ويؤمر وإنه يسبح الله فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر «2» وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ أصاب أربد بن ربيعة.
قال أبو جعفر الباقر: الصواعق تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب ذاكرا.
وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وقد أصابت أربد وعامر، وقيل نزلت هذه الآية في بعض كفار العرب «3» .
حديث إسحاق الحنظلي عن ريحان بن سعيد الشامي عن عماد بن منصور عن عباس بن الناجي قالت: سألت الحسن عن قوله: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ الآية.
فقال كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم نفرا يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام، فقال لهم: أخبروني عن رب محمد هذا الذي يدعوني إليه وما هو، ومم هو أمن فضة أم حديد أم نحاس، فاستعظم القوم مقالته وانصرفوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا رجلا آخر أكفر منه، ولا أعتى على الله منه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إليه» ، فرجعوا إليه فجعل يزيدهم على مثل مقالته الاولى «4» وقال: أجيب محمدا إلى ربّ لا أراه ولا أعرفه فانصرفوا إليه، فقالوا: يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى إلّا قوله: أجيب محمدا إلى رب لا يعرفه، فقال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ارجعوا إليه، فرجعوا إليه فبينا هم عنده ينازعونه ويدعونه ويعظمون عليه، وهو يقول: هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت ثم برقت فرمت بصاعقة فأحرقت الكافر وهم جلوس فجاؤوا يسعون ليخبروا النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستقبلهم بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا لهم: احترق صاحبكم.
قالوا: من أين علمتم؟ قال: أوحى الله إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ فقال الحسن: ما شَدِيدُ الْمِحالِ؟
قال: شديد الحمل.
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: شديد الأخذ «5» .
مجاهد: شديد القوة. أبو عبيدة: شديد العقوبة، والمحال والمماحلة المماكرة والمغالبة.
__________
(1) في المصدر: بخار.
(2) تفسير القرطبي: 9/ 296.
(3) راجع المصدر السابق.
(4) جامع البيان للطبري: 13/ 165، وأسباب نزول الآيات: 183.
(5) التفسير الطبري: 13/ 167.(5/280)
وأنشد أبو عبيدة للأعشى:
فرع نبع يهتز في غصن المجد ... غزير الندي شديد المحال «1»
وقال الآخر:
ولبس بين أقوام كلّ ... أعد له الشغازب والمحالا «2»
لَهُ لله عزّ وجلّ دَعْوَةُ الْحَقِّ الصدق وأضيفت الدعوة إلى الحق لاختلاف الاسمين وقد مضت هذه المسألة.
قال علي (رضي الله عنه) : دَعْوَةُ الْحَقِّ التوحيد.
ابن عباس (رضي الله عنه) : شهادة أن لا إله إلّا الله.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني المشركين الذين يعبدون الأصنام من دون الله لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ يريدونه منهم من نفع أو دفع إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ إلّا كما ينفع باسط كفيه إلى الماء من العطش يبسطه إياهما إليه يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا.
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هذا مثل لمشرك عبد مع الله غيره، فمثله كمثل الرجل العطشان الذي نظر إلى خياله في الماء من بعيد فتصور أن يتناوله فلا يقدر عليه، عطية عنه يقول: مثل الأوثان التي يعبدون من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كربه الموت وكفاه في الماء وقد وضعهم الا يبلغان تناوله.
الضحاك عنه يقول: كما أنّ العطشان إذا يبسط كفيه إلى الماء لا ينفعه ما لم يحفظهما ويروي بهما الماء ولا يبلغ الماء فاه مادام باسط كفيه إلى الماء ليقبض على الماء لأن القابض على الماء لا شيء في يده.
قال ضابئ بن الحرث المزني:
فإني وإيّاكم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تسقه أنامله «3»
وقال الشاعر:
وأصبحت مما كان بيني وبينها ... من الود مثل القابض الماء باليد «4»
وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ أصنامهم إِلَّا فِي ضَلالٍ يضل عنهم إذا احتاجوا إليه.
__________
(1) لسان العرب: 11/ 619.
(2) لسان العرب: 11/ 619، والبيت لذي الرملة.
(3) تفسير الطبري: 13/ 170، ولسان العرب: 10/ 379.
(4) المصدر السابق، وسيرة ابن هشام: 2/ 464.(5/281)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: ما دُعاءُ الْكافِرِينَ ربهم إِلَّا فِي ضَلالٍ لأن أصواتهم تحجب عن الله تعالى.
[سورة الرعد (13) : الآيات 15 الى 29]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني الملائكة والمؤمنين طَوْعاً وَكَرْهاً يعني المنافقين والكافرين الذين أكرهوا على السجود بالسبعة.
وروى ابن المبارك عن سفيان قال: كان ربيع بن هشيم إذا قرأ هذه الآية قال: بل طوعا يا رباه.
وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ يعني ضلال الساجدين طوعا أو كرها يسجد لله حين يقي ضلل أحدهم عن يمينه أو شماله.
قال ابن عباس: نظيرها في النحل.(5/282)
قال الكلبي: إذا سجد بالغدو أو العشي سجد معه ظله.
وقال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره، وَالْآصالِ جمع أصل، والأصل جمع الأصيل وهو العشاء من العصر إلى غروب الشمس. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومدبرهما فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ولا بد لهم من ذلك فإذا أجابوك قُلْ أنت أيضا اللَّهُ ثم قيل لهم إلزاما للحجّة قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني الأصنام يعبدونها من دون الله وهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ثم نصرف لهم الأفعال قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وكذلك لا يستوي الضال والمؤمن المهتدي.
وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي: أَمْ هَلْ يَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ بالياء.
الباقون: بالتاء واختاره أبو عبيد قال: لأنه يحصل من اسم المؤنث ومن الفعل مقابل والظلمات والنور مثل الكفر والإيمان أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ فأصبحوا لا يدرون أمن خلق الله هو أو من خلق آلهتهم قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [.........] «1» للحق والباطل مثلين. فقال عز من قائل أَنْزَلَ هو مِنَ السَّماءِ يعني المطر ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها الكبير بقدره والصغير بقدره فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ الذي حدث على ذلك الماء زَبَداً رابِياً حال تعريفها يود الماء فالماء الباقي الصافي النافع هو الحق.
والذاهب الزائل الباطل الذي يتعلق بالأشجار وجوانب الأودية والأنهار وهو الباطل ويقال: إن هذا سيل القرآن ينزل من السماء فيحتمل منه القلوب حظها على قدر اليقين والشك والعقل والجهل فهذا مثل الحق والباطل «2» .
والمثل الآخر قوله: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ.
قرأ حميد أبو محجن أبو وهب وحمزة والكسائي يُوقِدُونَ بالياء، واختاره أبو عبيد لقوله تعالى: يَنْفَعُ النَّاسَ ولا مخاطبة هاهنا ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أي زينة يتخذونها أَوْ مَتاعٍ وهو ما ينتفع به وكلّ ما تمتعت به فهو متاع.
قال المشعث:
تمتع يا مشعث أن شيئا ... سبقت به الممات هو المتاع «3»
أراد به جواهر الأرض من الذهب والفضة.
والحديد والصفر والنحاس والرصاص، ومنه يستخلص الأشياء مما ينتفع به من الحلي
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) زاد المسير: 4/ 237.
(3) تفسير الطبري: 13/ 180 وتاج العروس: 5/ 507.(5/283)
والأواني وغيرهما.
زَبَدٌ مِثْلُهُ يقول: له زبد إذا أنث مثل زبد السيل، والباقي الصافي من هذه الجواهر فيذهب خبثه والزبد الذي لا يبقى ولا ينتفع به مثل الباطل.
قال الله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ الذي علا السيل.
فَيَذْهَبُ جُفاءً سريعا متفرقا.
قال أبو عمرو: هو من قول العرب: أجفأت القدر النذر وجنات وذلك إذا غلت فأنصب زبدها أو سكنت لم يبق منه شيء «1» .
وقال القبتي: الجفاء ما رمى به الوادي إلى جنانه. فقال: جفأته إذا صرعه.
وقال ابن الأنباري: جفاء يعني باليا متفرقا.
يقال: جفأت الريح بالغيم إذا فرقته وذهبت به.
قال بعضهم: يعني تباعد الأرض. يقال جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف.
قال الفراء: إنما أراد بقوله جُفاءً الجفاء لأنه مصدر، قولك جفأ الوادي غثاه جفاء فخرج مخرج الاسم وهو مصدر.
وكذلك يفعل العرب في مصدر كل ما كان من فعل شيء اجتمع بعضه إلى بعض كالقماش والرقاق والحطام والغنام يخرجه على مذهب الاسم، كما فعلت ذلك في قولهم أعطيته عطاء بمعنى الإعطاء، ولو أريد من القماش المصدر على الصحة لقيل قمشته قمشا.
وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من العوالق فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ تم الكلام على هذا. ثم قال: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ أطاعوه الْحُسْنى بالجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ يوم القيامة، قال الله أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ مجازيا بالعقوبة، قال إبراهيم النخعي والزبد. أتدري ما سوء الحساب؟
قلت: لا. قال هو أن يحاسب الرجل على معصية فعلها ويكفر عنه خطيئته، وَمَأْواهُمْ في الآخرة جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ الفراش والمصير أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [.........] «2» فهو كافيه كَمَنْ هُوَ أَعْمى عنه لا يعلمه ولا تعمل إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ الخطاب للأصحاب وذوي العقول الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ في أمرهم يعني فرضه عليهم فلا هم يخالفونه إلى ما هم فيه، وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 180. [.....]
(2) كلمة غير مقروءة.(5/284)
قيل أراد الإيمان بجميع الكتب والرسل ولا يعترفون بها.
وقال أكثر المفسرين: يعني الرحم ويقطعونها.
الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: اشتكى أبو الدرداء فعاده عبد الرحمن بن عوف. فقال: خيّرهم أوصلهم ما علمت يا محمد. فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشقتت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» [141] «1» .
عن شيبة قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن موهب وأبوه عثمان بن عبد الله، أنهما سمعا موسى بن طلحة يحدث عن أبي أيوب الأنصاري: أنّ رجلا قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال القوم: ماله وماله. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أرب ماله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم ذرها» [142] قال: كأنه كان على راحلته «2» .
عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن كعب قال: والذي فلق البحر لبني إسرائيل إنّ في التوراة لمكتوبا يا ابن آدم اتق ربك وأبرّ والديك وصل رحمك أمدّ لك في عمرك وايسّر لك يسرك، وأصرف عنك عسرك «3» .
وعن أبي إسحاق عن مغراء العبدي عن عبد الله بن عمرو قال: من اتقى ربه ووصل رحمه نسئ له في عمره وثرا ماله وأحبه أهله «4» .
صالح عن جرير عن برد عن مكحول قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعمل الخير [ليس شيء اطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة] الرحم وليس شيء أعجل عقابا من البغي وقطيعة الرحم، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» [143] «5» .
وَالَّذِينَ صَبَرُوا على طاعة الله وتصبروا عن معصية الله.
قاله ابن زيد، وقال ابن عباس: وصبروا على أمر الله.
قال عطاء: على الرزايا والمصائب والحوادث والنوائب.
أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم.
__________
(1) مسند أحمد: 1/ 194 وفيه (بتته) بدل (قطعته) وبتمامه في تفسير القرطبي: 1/ 104.
(2) صحيح ابن حبان: 8/ 38.
(3) المصنف لابن أبي شيبة: 6/ 97.
(4) والأدب الفرد: 24.
(5) كنز العمال: 3/ 368، الجامع الصغير: 2/ 455.(5/285)
ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ طالب يعتصم بالله ويستغفر ربه أن يعصيه ويخالفه في أمره وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يعني الزكاة وَيَدْرَؤُنَ ويدفعون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ يقال: درأ الله عني بشرّك.
قال ابن زيد: يعني لا يكافئون الشر بالشر ولكن يدفعونه بالخير.
وقال القتيبي: معناه إذا سفه عليهم حلموا فالسفه السيئة والحلم الحسنة.
قتادة: ردوا عليهم معروفا نظيره إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «1» .
قال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا أخلصوا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا.
ابن كيسان: إذا أذنبوا أيسوا وإذا حرفوا أثابوا ليدفعوا بالتوبة عن أنفسهم فغفر الذنب.
فهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه قال: يدفعون بالصالح من العمل الشر من العمل، ويؤيد هذا
الخبر المأثور: إن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله أوصني. قال: «إذا عملت سيئة فاعمل لجنبها حسنة تمحها، السر بالسر والعلانية بالعلانية» [144] «2» .
قال عبد الله بن المبارك: هذه ثماني خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة.
أبو بكر الوراق: هذه ثمانية جسور فمن أراد القربة من الله عبرها «3» .
أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ثم بين فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها.
قرأه العامة: بفتح الياء وضم الخاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: بضم الياء وفتح الخاء.
قال عبد الله بن عمير: وإن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج «4» فيه خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلّا نبي أو صديق أو شهيد «5» .
وَمَنْ صَلَحَ لهن مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أهلهم وولدهم أيضا يدخلونها وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فيه آمنا تقديره ويقولون سلام عليكم بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.
قال مقاتل: يدخلون في مقدار يوم وليلة من أيام الدنيا ثلاث كرات معهم الهدايا والتحف يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ.
صالح عن يزيد عن أنس بن مالك: أنّه تلا هذه الآية جَنَّاتُ عَدْنٍ إلى قوله: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.
__________
(1) سورة الفرقان: 63.
(2) مجمع الزوائد: 4/ 218.
(3) تفسير الثعالبي: 3/ 367.
(4) في الطبري: الروح، وفي مجمع الزوائد (5/ 196) : الصروح.
(5) كنز العمال 15/ 834، وتفسير الطبري: 10/ 232.(5/286)
ثم قال: إنه جنة من در وفضة طولها في الهواء ستون ميلا ليس فيها صدع ولا وصل منه كل زاوية منها أهل فقال: لها أربعة آلاف مصراع من ذهب يقوم على كل باب سبعون ألف من الملائكة مع كل ملك منهم هدية من الرحمن ليس في مثلها، لا يعلون [....] «1» ليس بينهم وبينه حجاب.
وروى ابن المبارك عن عقبة بن الوليد قال: حدثنا أرطأة بن المنذر قال: سمعت رجلا من ملجف بالجند يقال له أبو الحجاج يقول: حدثني خالي أبي أمامة فقال: إنّ المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم وعند طرف السماطين سور فيقبل الملك، يستأذن فيقول الذي يليه: ملك يستأذن، ويقول الذي يليه: ملك يستأذن كذلك حتى يبلغ المؤمن فيقول: ائذنوا فيقول أقربهم إلى المؤمن: ائذنوا فيقول الذي يليه للذي يليه كذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له فيدخل فيسلم ثم ينصرف «2» .
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «الفقراء والمهاجرون الذين تسدّ بهم الثغور ويتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء» [145] «3» .
قال: فيأتيهم الملائكة ف يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ.
وروى سهيل بن أبي صالح عن محمد بن إبراهيم قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: السلام عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.
أبو بكر وعمر وعثمان عليهم السلام كانوا يفعلون كذلك.
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ يعني النار.
وقال سعد بن أبي وقاص: هم الحرورية.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يوسع عليه وَيَقْدِرُ ويقتر ويضيق وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا يعني فرطوا وجهلوا ما عند الله ويطمعون وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ قليل ذاهب قاله مجاهد، وقال عبد الرحمن بن سابط: كزاد الراعي يزود، أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو الشيء يشرب عليه اللبن «4» .
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) تفسير الطبري: 13/ 186.
(3) مسند أحمد: 2/ 168. [.....]
(4) تفسير الطبري: 13/ 189.(5/287)
الكلبي: كمثل السكرجة «1» والقصعة أو القدح والقدر ونحوها ينتفع بها ثم يذهب وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ويرشد الأمّة إلى طاعته من رجع إليه بقلبه ثم وصفهم فقال الَّذِينَ آمَنُوا في محل النصب والأمن قبله من وَتَطْمَئِنُّ وتسكن فستأنس قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ.
مقاتل: بالقرآن أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.
قال ابن عباس: هذا في الحلف ويقولها إذا حلف الرجل المسلم بالله على شيء يم سكن قلوب المؤمنين إليه.
وقال مجاهد: هم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ابتداء طُوبى لَهُمْ خبره، وقيل:
معناه لهم طوبى فطوبى خبر الابتداء الأول.
واختلف العلماء في تفسير «طُوبى» .
الوالبي عن ابن عباس: طُوبى لَهُمْ: فرح وقرة عين لهم، عكرمة: نعم ما لهم، الضحاك:
غبطة لهم.
قتادة: حسنى لهم معمر عنه: هذه كلمة عربية، يقول الرجل للرجل طوبى لكم أي أصبت خيرا.
إبراهيم: خير وكرامة لهم.
شميط بن عجلان: طُوبى يعني دوام الخير. الفراء: أصله من الطيب وإنما جاءت الواو لضم ما قبلها وإتيان بقول العرب: طوباك، طوبى لك.
سعيد بن جبير عن ابن عباس: طُوبى اسم الجنة بالحبشية.
سعيد بن مسجوح: اسم الجنة بالهندية ربيع البستان بلغة الهند «2» .
وروى ابن سعيد الهندي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ رجلا قال له: يا رسول الله ما طُوبى؟
قال: «شجرة في الجنة مسيرة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة يخرج من أكمامها» [146] «3» .
وروى معاوية بن مرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طُوبى شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإنّ أغصانها لترى من وراء سور الجنة» [147] «4» .
__________
(1) السكرجة: إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم.
(2) راجع تفسير القرطبي: 2/ 53.
(3) مسند أحمد: 3/ 71.
(4) كنز العمال: 14/ 357 ح 39250.(5/288)
وقال أبو هريرة: طُوبى شجرة من الجنة [غرسها] الله لها [ثمر] تقتفي لعبدي عياشا صنعه له من الحلي بسرجها ولحمها وعن الإبل بأنّ تحتها قماشا من الكسوة.
وقال مغيث بن سمي: طُوبى شجرة من الجنة، لو أنّ رجلا ركب قلوصا جذعا ثم دار بها لم يبلغ المكان الذي ارتحل منه حتى يموت هرما وما في أهل منزل إلّا فيه غصن من أغصان تلك الشجرة متدلّ يصلهم الماء بالدلاء وإذا أرادوا أن يأكلوا من الثمرة تدلى إليهم فأكلوا منه ما شاؤوا ويجئ عليها الطير أمثال البخت، يعني الطير ويأكلون منه قديدا وشواء ثم تطير «1» .
قال عندر بن عمير: هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي كل دار وغرفة غصن منها لم يخلق الله لونا ولا زهرة إلّا وفيها منها إلّا السواد ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلّا وفيها منها ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل مقابل كل ورقة منها تظل امة عليها ملك يسبح الله بأنواع التسبيح «2» .
وقال أبو سلام: حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبيد السلمي يقول: جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله في الجنة فاكهة؟ قال: «فيها شجرة تدعى طُوبى هي تطابق الفردوس» «3» .
قال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: «ليس تشبه شيئا من شجر أرضك ولكن أتيت الشام» [148] ، فقال: أتيت الشام يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: فإنها تشبه شجرة تدعى الجوز ينبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها. فقال: ما أعظم أصلها.
قال: لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتاها هرما «4» .
قال وهب بن منبه: إنّ في الجنة شجرة. قال: الطوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام ولا يقطعها زهوها رياط وورقها برود وقضبانها عنبر وبطحاؤها ياقوت وترابها كافور وحملها مسك يخرج من أصلها أنها الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة فبينما هم في مجلسهم إذا أتتهم الملائكة من ربهم يقودون لجامها مزمومة بسلاسل من ذهب وجوهها كالمصابيح حسنا ووبرها كخز المرعزي من لينة، عليها رحال ألواحها من ياقوت ودفوفها من ذهب وثيابها مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ فيفتحونها ويقولون: إنّ ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه.
قال: فيركبونها فهي أسرع من الطائر وأوطأ من الفراش نجبا من غير مهنة يسير الرجل إلى
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 195.
(2) العمدة عن الثعلبي: 351، وفتح القدير: 4/ 373 ح 5312.
(3) المعجم الكبير: 17/ 127، جامع البيان للطبري: 13/ 195.
(4) تفسير الطبري: 13/ 195.(5/289)
جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه لا تصيب اذن راحلة منها إذن صاحبتها حتى إنّ الشجرة لتنتحي عن طرقهم فهم لا يفرقون بين الرجل وبين أخيه، قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه فإذا رأوه، قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام وأنت الجلال والإكرام، ويقول تبارك وتعالى عند ذلك: أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي مرحبا بعبادي الذين خشوني بالغيب وأطاعوا أمري، قال: فيقولون ربنا لم نعبدك حق عبادتك ولم نقدّرك حق قدرك فأذن لنا في السجود قدامك، قال: فيقول الله عزّ وجلّ: إنها ليست بدار نصب وعبادة ولكنها دار ملك ونعيم وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة فسلوني ما شئتم فإنّ لكل رجل منكم أمنيته، فيسألونه حتى إن أقصرهم أمنية يقول: رب يتنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها فأتني مثل كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت. فيقول الله عزّ وجلّ: لقد قصرت بك أمنيتك ولقد سألت دون منزلتك هذا لك منّي وسألحقك بمن أتى، لأنه ليس في عطائي تكدير ولا تصدير.
قال: ثم يقول: أعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ولم يخطر لهم على بال، فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أما نبيهم التي في أنفسهم فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منهم سرير من ياقوتة واحدة على كل سرير منها قبة من ذهب مفرغة. في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة في كل قبة منها جاريتان من الحور العين وعلى كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلّا وهو فيهما ولا ريح طيب إلّا وقد عبق بهما ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة حتى يظنّ من يراهما أنهما دون القبة يرى مخهما من فوق سقفهما، كالسلك الأبيض من ياقوتة حمراء.
يريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل ويرى هو لهما مثل ذلك ثم يدخل إليهما فيطيبانه ويقبلانه ويعانقانه «1» ويقولان له: والله ما ظننا أنّ الله يخلق مثلك، ثم يأمر الله الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له «2» .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: ف طُوبى لَهُمْ شجرة أصلها في دار علي في الجنة، وفي دار كل مؤمن منها غصن يقال له طُوبى.
وَحُسْنُ مَآبٍ حسن المرجع.
وروى داود بن عبد الجبار عن جابر عن أبي جعفر قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ.
__________
(1) في المصدر: فيحييانه ويقبلانه ويتعلقان به.
(2) بطوله في تفسير ابن كثير: 3/ 533، وتفسير الدر المنثور: 4/ 60.(5/290)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
فقال: «شجرة أصلها في داري وفرعها في الجنة» . ثم سئل عنها مرة أخرى. فقال:
«شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة» .
فقيل له: يا رسول الله نسألك عنها مرة فقلت: «شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة» فقال: ذلك في داري ودار علي أيضا واحدة في مكان واحد»
[149] «1» .
[سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 34]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)
كَذلِكَ المكان أَرْسَلْناكَ يا محمد فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ليقرأ عليهم القرآن وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ.
قال قتادة ومقاتل وابن جريح: نزلت في صلح الحديبية حتى أرادوا كتاب الصلح. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي (رضي الله عنه) : «اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» [150] «2» .
فقال سهيل بن عمرو والمشركون معه: ما نعرف الرحمن إلّا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، اكتب باسمك اللهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون.
ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. فقال المشركون وقريش: لئن كتب رسول الله بم قاتلناك وصددناك قال فأمسك ولكن اكتب هذا ما صالح محمد ابن عبد الله.
فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: دعنا نقاتلهم. قال: لا ولكن اكتبوا كما تريدون، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 317، والعمدة عن الثعلبي: 351.
(2) تفسير القرطبي: 9/ 317.(5/291)
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ» [151] «1» فقالوا: وَمَا الرَّحْمنُ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال: قُلْ لهم يا محمد: إنّ الرحمن الذي أنكرتم معرفته هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ
ومضى وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً الآية نزلت في نفر من مشركي مكة فيهم أبو جهل ابن هشام وعبد الله بن أبي أمية المخزومي جلسوا خلف الكعبة فأرسلوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتاهم فقال له عبد الله بن أبي أمية: إن تشرك نتبعك فسيّر لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا حتى تفتح. فإنها ضيّقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال يسبح لربه، أو سخّر لنا الريح فنركبها إلى الشام فنقضي عليه أمورنا وحوائجنا ثم نرجع من يومنا.
فقد كان سليمان سخرت له الريح، فكما حملت لنا فلست بأهون على ربك من سليمان في داود.
وأحيي لنا جدك أيضا ومن شئت من موتانا لنسأله أحق ما يقول أم باطل؟ فإنّ عيسى قد كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ وأذهبت عن وجه الأرض أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا.
أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى واختلفوا في جواب لو، فقال قوم: هذا من النزول المحذوف الجواب اقتضى بمعرفة سامعه مراده وتقدير الآية لكان هذا القرآن.
كقول امرئ القيس:
فلو أنها نفس تموت بتوبة ... ولكنها نفس بقطع النفسا
يعني لهان عليّ، وهي آخر بيت في القصيدة.
وقال آخر:
فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مرفعا «2»
فأراد أرددناه، وهذا معنى قول قتادة. لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم.
وقال آخرون: جواب لو يقدم وتقدير الكلام وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ... وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ الآية كأنه قال وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى لكفروا بالرحمن وبما آمنوا.
ثم قال: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 318، أسباب النزول الآيات: 184. [.....]
(2) لسان العرب: 3/ 452.(5/292)
قال المفسرون: أفلم يعلم.
وقال الكلبي: هي بلغة النخع «1» حي من العرب.
وقال القاسم معن: هي لغة هوازن.
وقال سحيم بن وثيل الرياحي «2» :
أقول لهم بالشعب إذ يسرونني ... ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم «3»
أراد ألم يعلموا، وقوله: هاد يسرونني أي يقتسمونني من الميسر كما يقتسم الجزور.
ويروى: لمسرونني من الأسر.
وقال الآخر:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا «4»
ودليل هذا التأويل قراءة ابن عباس: أفلم يتبين، وقيل لابن عباس: المكتوب «أَفَلَمْ يَيْأَسِ» قال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس «5» .
وأما الفراء: فكان ينكر ذلك ويزعم أنه لم يسمع أحد من العرب يقول: يئست وهو يقول هو في المعنى وإن لم يكن مسموعا يئست بمعنى علمت متوجه إلى ذلك، وذلك أنّ الله تعالى قد أوحى إلى المؤمنين أنه لو شاء الله لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً.
فقال ألم ييئسوا علما يقول ييأسهم العلم فكان العلم فيه مضمرا كما يقول في الأعلام يئست منك أن لا يفلح علما كأنه قول علمته علما.
قال الشاعر:
حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا ... غضفا دواجن قافلا اعصامها «6»
بمعنى إذا يئسوا من كل شيء مما يمكن إلّا الذي ظهر لهم أرسلوا فهو في معنى: حتى إذا علموا أن ليس وجه إلّا الذي رأوا وانتهى علمهم فكان ما سواه يأسا «7» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 319.
(2) في المصدر: اليربوعي.
(3) لسان العرب: 5/ 298.
(4) كتاب العين: 7/ 331.
(5) تفسير القرطبي: 9/ 1320.
(6) لسان العرب: 11/ 561، جامع البيان للطبري: 13/ 201.
(7) تفسير الطبري: 13/ 202.(5/293)
أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من كفرهم وأعمالهم الخبيثة قارِعَةٌ داهية ومصيبة وشديدة تقرعهم من أنواع البلاء والعذاب أحيانا بالجدب وأحيانا بالسلب وأحيانا بالقتل وأحيانا بالأسر.
وقال ابن عباس: أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعثهم إليها أَوْ تَحُلُّ أي تنزل أنت يا محمد بنفسك قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ.
وقال قتادة: هي تاء التأنيث يعني وتحل القارعة قريبا من دارهم حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ الفتح والنصر وظهور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودينه، وقيل يعني القيامة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أصلهم واطلب لهم ومنه الملاوة والملوان ويقال طبت حينا، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ عاقبتهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ. أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ أي حافظها ورازقها وعالم بها ومجاز بها ما عملت، وجوابه محذوف تقديره: كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئا ولا يدفع «1» عن نفسه، نظيره قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ يعني كمن ليس بقانت وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ بيّنوا أسماءهم ثم قال: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ يعني يخبرون الله بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ فإنه لم يعلم لنفسه شريكا ولا في الأرض إلها غيره أَمْ بِظاهِرٍ يعني بظاهر مِنَ الْقَوْلِ مسموع وهو في الحقيقة باطل لا أصل له ولا باطل صالح ولا حاصل وكان أستاذنا أبو الاقسم الحبيبي يقول: معنى الآية عندي: قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر من القول يعلمه؟ فإن قالوا بباطن لا يعلمه أحالوا، وإن قالوا: بظاهر يعلمه قل لهم سموهم «2» ، وبينوا من هم، فإن الله لا يعلم لنفسه شريكا، ثم قال:
بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ كيدهم.
قال مجاهد: قولهم! يعني شركهم وكذبهم على الله.
وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وصرفوا عن الدين والطريق المستقيم.
قرأ أهل الكوفة: بضم الصاد واختاره أبو عبيد بأنه قراءة أهل السنة: وفيه إثبات القدر.
وقرأ الباقون: بالفتح، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «3» وقوله وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «4» وقوله الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «5» ... وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يعني إياه فَما لَهُ مِنْ هادٍ موفق لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
__________
(1) زيادة عن تفسير الطبري: 13/ 207- 208.
(2) تفسير القرطبي: 9/ 322.
(3) سورة الحج: 25.
(4) سورة الفتح: 25.
(5) سورة النساء: 167.(5/294)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
بالقتل والأسر وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
أشد وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
مانع يمنعهم من العذاب.
[سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 40]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ في دخولها اختلفوا في الرافع للمثل.
فقال الفراء: هو ابتداء وخبر على قوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وقيل معنى المثل الصفة كقوله وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى «1» أي الصفة العليا وقوله ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ «2» ومجاز الآية صفة الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أنّ الأنهار تجري من تحتها وكذا وكذا.
وقيل مثل وجه مجازها الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، والعرب تفعل هذا كثيرا بالمثل والمثل كقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «3» أي ليس هو كشيء.
وقيل معناه: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى «4» . قيل الجنة [بدل] منها.
قال مقاتل: معناه شبه الجنة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ في الخير والنعمة والخلود والبقاء كشبه النار [في العذاب و] الشدّة والكرب «5» .
أُكُلُها دائِمٌ لا ينقطع ولا يفنى وَظِلُّها ظليل لا يزال وهذا رد على الجهمية، حيث قالوا: إن نعيم الجنة يفنى تِلْكَ عُقْبَى يعني ما فيه الَّذِينَ اتَّقَوْا الجنة وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني القرآن وهم أصحاب محمد يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَمِنَ الْأَحْزابِ يعني الكفار الذين كذبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم اليهود والنصارى
__________
(1) سورة النحل: 60. [.....]
(2) سورة الفتح: 29.
(3) سورة الشورى: 11.
(4) سورة الرعد: 18.
(5) المصدر السابق: 9/ 325.(5/295)
مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وذلك أنهم آمنوا بسورة يوسف وقالوا إنها واطأت كتابنا وهذا قول مجاهد وقتادة.
وقال باقي العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في بدء ما أنزل فلما أسلم عبد الله ابن سلام وأصحابه: ساءهم قلّة ذكر الرحمن في القرآن لأن ذكر الرحمن في التوراة كثير فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك قوله الله تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الآية.
فقالت قريش حين نزلت هذه الآية: ما بال محمد كان يدعو إلى إله واحد فهو اليوم يدعو إلى إلهين: الله والرحمن، ما نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ وهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ وفرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن فأنزل الله وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الله من ذكر الرحمن وَمِنَ الْأَحْزابِ يعني مشركي قريش من يذكر بعضه «1» .
قال الله قُلْ يا محمد إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ مرجعي وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وكما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد وأنكره الأحزاب، كذلك أيضا أنزلنا الحكم والدين حُكْماً عَرَبِيًّا وإنما وصفه بذلك لأنه أنزل على محمد وهو عربي، فنسب الدين إليه إذ كان منزلا عليه فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا، وقال قوم معنى الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغناهم كذلك أنزلنا عليك القرآن حُكْماً عَرَبِيًّا ثم توعده على إتباع هوى الأحزاب فقال وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ قيل بما شاء الله، وقيل في أهل القبلة لأنّه ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ فجعلناهم بشرا مثلك وَجَعَلْنا لَهُمْ ينكحوهن وأولاد ينسلوهم ولم يجعلهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحوهن، فنجعل الرسول إلى قومك ملائكة ولكن أرسلنا إلى قومك بشرا مثلهم كما أرسلنا إلى من قبلهم من الأمم بشرا مثلهم وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وهذا جواب عبد الله بن أبي أمية ثم قال: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ لكل أمر أمضاه الله كان قد كتبه لجميع عبيده، الضحاك: معناه لكل كتاب نزل من السماء أجل ووقت ينزل فيه وهذا من المقلوب يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ.
قرأ حميد وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: وَيُثْبِتُ بالتخفيف.
وقرأ الآخرون: بالتثقيل واختاره أبو عبيد لكثرة من قرأها ولقوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا «2» .
واختلف المفسرون في معنى الآية،
فروى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ إلّا الشقاوة والسعادة والموت» [152] «3» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 326.
(2) سورة إبراهيم: 27.
(3) جامع البيان للطبري: 13/ 217.(5/296)
وعن ابن عباس قال: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ إلا أشياء: الخلق والخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة.
عكرمة عنه هما كتابان سوى أم الكتاب يَمْحُوا اللَّهُ فهما ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ الذي لا يغير منه شيء.
أبو صالح والضحاك: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب وَيُثْبِتُ ما فيه ثواب وعقاب «1» .
وروى عفان عن همام عن الكلبي: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ. قال: يمحو من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الأجل ويزيد فيه. قلت من حدثك؟
قال أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
فقدم الكلبي بعد فسئل عن هذه الآية فقال: حتى إذا كان يوم الخميس يطرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب. مثل قولك أكلت، شربت، دخلت، خرجت ونحوها من الكلام وهو صادق، وَيُثْبِتُ ما كان فيه الثواب وعليه العقاب «2» .
وقال بعضهم: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ كل ما يشاء [من] «3» غير استثناء كما حكى الكلبي عن راذان عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) .
روى أبو عثمان النهدي: أنّ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يطوف بالبيت السبت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فإن كنت كتبت عليّ الذنب والشقوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب «4» .
ابن مسعود: إنه كان يقول: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء وأثبتني في السعداء فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.
وروى حماد بن أبي حمزة عن إبراهيم: أن كعبا قال لعمر (رضي الله عنه) : يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبئنك بما هو كائن إلى يوم القيامة.
قال: وما هو؟ قال: قول الله تعالى يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ «5» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 329.
(2) تفسير الطبري: 13/ 221.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) تفسير القرطبي: 9/ 330.
(5) تفسير الطبري: 13/ 220 تفسير القرطبي: 9/ 330.(5/297)
وروى عطية عن ابن عباس: في هذه الآية قال: هو الرجل يعمل للزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل الذي عمل بطاعة الله وقد كان يقول: خير أمتي يموت وهو في طاعة الله، فهو الذي يثبت «1» .
قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من القرون وَيُثْبِتُ ما يشاء منها كقوله كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ «2» وقوله ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ «3» .
سعيد بن جبير وقتادة: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله وَيُثْبِتُ ما يشاء وما ينسخه.
الحسن: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يعني آجال بني آدم في كتاب يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من جاء أجله فيذهب به وَيُثْبِتُ من لم يجيء أجله إلى أجله.
مجاهد وابن قيس: حين ما أنزل ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «4» ما نراك يا محمد تملك من شيء ولقد فرع من أمره. فأنزلت هذه الآية تخويفا ووعدا لهم أي إن يشاء أحدثها من أمر. قاله بأشياء ويحدث في كل رمضان فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فيمحوا ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وينسئهم له «5» .
محمد بن كعب القرظي: إذا ولد الإنسان. أثبت أجله ورزقه وإذا مات محى أجله ورزقه.
وروى سعيد بن جبير: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من ذنوب عباده فيغفرها وَيُثْبِتُ ما يشاء بتركها فلا يغفرها.
عكرمة: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يعني بالتوبة جميع الذنوب وَيُثْبِتُ بدل الذنوب حسنات فإنه إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «6» .
وروى عن الحسن أيضا: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يعني الآباء وَيُثْبِتُ يعني الأبناء.
السدي: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يعني القمر وَيُثْبِتُ يعني الشمس.
بيانه قوله: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً «7» .
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 220.
(2) سورة يس: 31. [.....]
(3) سورة المؤمنون: 31.
(4) سورة الرعد: 38.
(5) المصدر السابق: 222.
(6) سورة الفرقان: 70.
(7) سورة الإسراء: 12.(5/298)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
ربيع: هذا في الأرواح في حال النوم يقبضها عند النوم فمن أراد موته محا وأمسكه ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه.
بيانه قوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى «1» .
وقيل: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ الدنيا وَيُثْبِتُ الآخرة.
وروى محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه آخر غيره، فيمحو ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ما يشاء» [153] «2» .
ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة جنانها رمان من ياقوت ولله في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو منها ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.
قال قيس بن عباد: العاشر من رجب هو يوم يَمْحُوا اللَّهُ فيه ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ يعني اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدل.
قال قتادة والضحاك: حلية الكتاب وأصله فيه ما يمحو ويثبت.
فسأل ابن عباس كذا عن أم الكتاب.
قال: يعلم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه: كن كتابا فكان كتابا «3» وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك ذلك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الذي عليك [أن تبلغهم] وَعَلَيْنَا الْحِسابُ والجزاء.
[سورة الرعد (13) : الآيات 41 الى 43]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
أَوَلَمْ يَرَوْا يعني أهل مكة الذين يسألون محمدا الإيمان أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نقصدها
__________
(1) سورة الزمر: 42.
(2) تفسير القرطبي: 9/ 332، وفي كنز العمال: 2/ 454.
(3) تفسير الطبري: 13/ 224.(5/299)
نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها يفتحها لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم أرضا بعد أرض حوالي أرضهم فلا يخافون أن نفتح أرضهم كما فتحنا له غيرها، وبنحو ذلك قال أهل التأويل. روى صالح بن عمرو عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال: ظهور المسلمين على المشركين.
وروى وكيع عن سلمة بن سبط عن الضحاك قال: ما تغلب عليه محمد صلّى الله عليه وسلّم من أرض العدو.
جبير عن الضحاك قال: أو لم ير أهل مكة إنا نفتح لمحمد ما حوله من القرى.
وروى إسحاق بن إبراهيم السلمي عن مقاتل بن سليمان قال: الْأَرْضَ مكة ونَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها غلبة النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين عليها وانتقاصهم وازدياد المسلمين. فكيف لا يعتبرون! وقال قوم: معناه أو لم يروا إلى الأرض نَنْقُصُها أفلا تخافون إن جعل بهم وبأرضهم مثل ذلك فيهلكهم ويخرب أرضهم.
ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: خراب الأرض وقبض أهلها.
يزيد الخوي عن عكرمة قال: يعني قبض الناس.
وقال: لو نقصت الأرض لصارت مثل هذه وعقد بيده سويتين.
عثمان بن السنّاج عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها قال: موت أهل الأرض.
طلحة بن أبي طلحة القناد عن الشعبي: قبض الأنفس والثمرات.
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نقصان أهلها وتركها.
عثمان بن عطاء عن أبيه: قال ذهاب علمائها وفقهائها.
قال الثعلبي: أخبرنا أبو علي بن أحمد الفقيه السرخسي قال: حدثنا أبو لبيد بن محمد بن إدريس البسطامي حدثنا سعد بن سعيد حدثنا أبي حدثنا أبو حفص عن محمد بن عبد الله عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا العلم قبل أن يذهب» [154] «1» .
قلنا: وكيف يذهب العلم والقرآن بين أظهرنا قد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نقرأه ونقرئه أولادنا فأنصت ثم قال هل ظلت اليهود والنصارى الا والتوراة بين أظهرهم ذهاب العلم ذهاب العلماء.
__________
(1) سنن الدارمي: 1/ 77.(5/300)
وحدثنا الأستاذ أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظا في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة في آخرين.
قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبو ضمرة وأنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» [155] «1» .
وحدثنا أبو القاسم أخبرنا محمد بن أحمد بن سعيد حدثنا العباس بن حمزة حدثنا [.........] «2» السدي حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان عن عبد الله بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجنيد عن أبي الدرداء أنه قال: يا أهل حمص مالي أرى أنّ علماؤكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون، فأراكم قد أقبلتم على ما يكفل لكم، وضيعتم ما وكلتم به اعلموا قبل أن يرفع العلم فإن رفع العلم ذهاب العلماء «3» .
وأخبرنا أبو القاسم حدثنا عبد الله بن المأمون بهرات حدثنا أبي حدثنا خطام بن الكاد بن الجراح عن أبيه عن جويبر عن الضحاك قال: قال علي (رضي الله عنه) : إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كف لم تعد.
حدثنا أبو القاسم حدثنا أبي حدثنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد الرازي الزعفراني حدثنا عمر بن مدرك البلخي، أبو حفص حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا هشام بن حيان عن الحسين قال: قال عبد الله بن مسعود: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.
ومنه عن الرازي حدثنا عمرو بن تميم الطبري. أخبرنا محمد بن الصلت. حدثنا عباد بن العوام عن هلال عن حيان قال: قلت لسعيد بن جبير ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك علمائهم، ونظير هذه الآية في سورة الأنبياء عليهم السلام.
وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ لا راد لحكمه، والمعقب في كلام العرب الذي يكرّ على الشيء ويتبعه «4» .
__________
(1) صحيح مسلم: 8/ 60.
(2) كلمة غير مقروءة.
(3) المصنف لابن أبي شيبة: 80/ 170.
(4) تفسير الطبري: 13/ 229.(5/301)
قال لبيد:
حتى تهجر في الرواح وهاجه ... طلب المعقب حقه المظلوم «1»
وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ. وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني من قبل مشركي مكة فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يعني له أسباب المكر وبيده الخير والشر وإليه النفع والضر فلا يضر مكر أحد أحدا إلّا من أراد الله ضره، وقيل: معناه له جزاء إليكم.
يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ ... سَيَعْلَمُ: قرأ ابن كثير وأبو عمر: الكافر على الواحد، والباقون على الجمع.
لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ عاقبة الدار الآخرة ممن يدخلون النار ويدخل المؤمنون الجنة وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إني رسوله إليكم، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أيضا يشهدون على ذلك. هم مؤمنو أهل الكتاب.
وقرأ الحسين وسعيد بن جبير: وَمِنْ عِنْدِهِ بكسر الميم والدال. عُلِمَ الْكِتابُ مبني على «2» الفعل المجهول.
وروى أبو عوانة عن أبي الخير قال: قلت لسعيد بن جبير وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أهو عبد الله بن سلام؟ قال: كيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية.
وكان سعيد يقرأها وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتابُ، ودليل هذه القراءة قوله وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً «3» وقوله الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ «4» .
وأخبرنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن بابويه أخبرنا أبو رجاء محمد بن حامد بن محمد المقرئ بمكة حدثنا محمد بن حدثنا عبد الله بن عمر حدثنا سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأها وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتابُ.
وبه عن السمري حدثنا أبو توبة عن الكسائي عن سليمان عن الزهري عن نافع عن ابن عمر قال: قال: وذكر الله أشدّ فذكر إنه حيث جاء إلى الدار ليسلم سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتابُ بكسر الميم وسمعه في الركعة الثانية يقرأ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ الآية.
أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد الفاسي حدثنا القاضي الحسين بن محمد بن عثمان
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 161، ولسان العرب: 1/ 614. [.....]
(2) هكذا في الأصل.
(3) سورة الكهف: 65.
(4) سورة الرحمن: 1. 2.(5/302)
النصيبي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين السميعي بحلب حدثني الحسين بن إبراهيم بن الحسين الجصاص. أخبرنا الحسين بن الحكم حدثنا سعيد بن عثمان عن أبي مريم وحدثني بن عبد الله ابن عطاء قال: كنت جالسا مع أبي جعفر في المسجد فرأيت ابن عبد الله بن سلام جالسا في ناحية فقلت لأبي جعفر: زعموا أنّ الذي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ عبد الله بن سلام. فقال: إنما ذلك علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) .
وفيه عن السبيعي: حدثنا عبد الله بن محمد بن منصور بن الجنيد الرازي عن محمد بن الحسين بن الكتاب.
أحمد بن مفضل حدثنا مندل بن علي عن إسماعيل بن سلمان عن أبي عمر زاذان عن ابن الحنيفة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ قال: هو علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) «1» .
__________
(1) زاد المسير لابن الجوزي: 4/ 252، وتفسير القرطبي: 9/ 336، شواهد التنزيل: 1/ 401.(5/303)
سورة إبراهيم (ع)
كلها مكية غير آيتين وهما قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا «1» . إلى قوله: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ «2» نزلتا في قتلى بدر وأسرائهم، [مكية] وهي ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا وثمانمائة وإحدى وثلاثون كلمة في إثنتين وخمسون آية.
أخبرنا أبو الحسين بن علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، أحمد بن يونس اليربوعي عن سلام بن سليم المدائني، عن عمرو بن كثير عن يزيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة إبراهيم والحجر أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها» [156] «3» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
__________
(1) سورة إبراهيم: 28.
(2) سورة ابراهيم: 30.
(3) تفسير مجمع البيان: 6/ 55.(5/304)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
الر ابتدأ كِتابٌ خبره وإن قلت هذا كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يا محمد يعني القرآن لِتُخْرِجَ النَّاسَ لتدعوهم [إليه] «1» مِنَ الظُّلُماتِ الضلالة والجهالة إِلَى النُّورِ العلم والإيمان بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتوفيق ربهم إياهم ولطفه بهم «2» إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
قرأ أهل المدينة والشام: اللَّهُ، برفع الهاء على الاستئناف وخبره: «الَّذِي» وقرأ الآخرون:
بالخفض نعتا ل الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
وقال أبو عمر: بالخفض على التقديم والتأخير، مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد الله الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. كقول القائل مررت بالظريف عبد الله
لو كنت ذا نبل وذا شريب ... ما خفت شدات الخبيث الذيب «3»
وكان يعقوب بن إسحاق الحضرمي إذا وقف على الْحَمِيدِ رفع قوله اللَّهِ وإذا وصل خفض على النعت «4» وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ يختارون الحياة الدنيا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ويضربون ويميلون الناس عن دين الله وَيَبْغُونَها عِوَجاً ويطلبونها زيغا وقيلا، والعوج بكسر العين في الدين والأمر والأرض كلا لم يكن قائما.
والعوج بفتح العين في كل ما كان قائما كالحائط والرمح ونحوهما أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ بلغتهم ليفهموا لبنية، بيانه قوله لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بالدعوة وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ.
قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة: بنعم الله.
قال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة وما كان في أيام الله الخالية من النقمة والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه لأنها كانت معلومة عندهم.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
__________
(1) أي إلى القرآن.
(2) تفسير الطبري: 13/ 234.
(3) تفسير الطبري: 13/ 235.
(4) راجع تفسير القرطبي: 9/ 339.(5/305)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
قال أهل المعاني: أراد لكل مؤمن لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين وأفعالهم إلى قوله تعالى وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ.
قال الفراء: العلّة الجالبة لهذه الواو إن الله تعالى أخبرهم إن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير الذبح والتذبيح وإن طرح الواو في قوله وَيُذَبِّحُونَ ويقتلون فإنه أراد تفسير صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يتركونهن حبالى لأنفسهنّ ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم»
[157] «1» أي دعوا شبانهم أحياء وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ أي أعلم ودليله قراءة عبد الله بن مسعود وإذ قال ربكم به وأذن ويأذن بمعنى واحد مثل أوعد وتوعد.
لَئِنْ شَكَرْتُمْ نعمتي وآمنتم وأطعتم لَأَزِيدَنَّكُمْ في النعمة قال ابن عيينة: الشكر بقاء النعمة ومن الزيادة ومرضاة المؤمن، وقيل الشكر قيد للموجود وقيد للمفقود.
وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ نعمتي فصددتموها ولم تشكروها.
إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ إلى قوله فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن خلقه حَمِيدٌ محمود في أفعاله لأنه فيها سيفصل أو يعدل.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 17]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
__________
(1) مسند أحمد: 5/ 12.(5/306)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ يعني من كان بعد قوم نوح وعاد وثمود.
وكان ابن مسعود يقرأها: وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ثم يقول كذب النسابون جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ.
قال ابن مسعود: يعني عضوا على أيديهم غيظا.
قال ابن زيد وقرأ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ «1» .
ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا فرجعوا بأيديهم إلى أفواههم.
مجاهد وقتادة: كذبوا الرسل وردّوا ما حلوا به.
الأخفش وأبو عبيدة: أي تركوا ما أمروا به وكفوا عنه ولم يمضوه ولم يؤمنوا.
تقول العرب للرجل إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وسكت: قد ردّ يده في فيه.
قال القيسي: إنا لم نسمع واحدا من العرب يقول ردّ يده في فيه إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى إنهم عضوا على الأيدي حيفا وغيظا.
كقول الشاعر:
تردون في فيه غش الحسود «2»
يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أنامله العشر وقال الهذلي:
قد أفنى أنامله أزمة ... فأضحى يعض على الوظيفا «3»
الوظيف يعني الذراع والساق، واختار النحاس هذا القول لقوله تعالى وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ «4» .
وأنشد
لو أن سلمى أبصرت تخددي ... ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي ... عضت من الوجد بأطراف اليد «5»
__________
(1) سورة آل عمران: 119.
(2) تفسير القرطبي: 9/. [.....]
(3) لسان العرب: 15/ 424.
(4) سورة آل عمران: 119.
(5) لسان العرب: 14/ 348، ومعاني القرآن للنحاس: 3/ 530.(5/307)
قال الكلبي: يعني من الأمم ردّوا بأيديهم إلى أفواههم أي في أفواه أنفسهم إشارة إلى الرسل إن اسكتوا.
مقاتل: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ على أفواه الرسل حين يسكتونهم بذلك وَقالُوا يعني الأمم للرسل، إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ موجب الريبة موقع للتهمة قالَتْ رُسُلُهُمْ إلى قوله تعالى مِنْ ذُنُوبِكُمْ من تعجله وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني الموت فلا يعاجلكم بالعذاب والعقاب قالُوا الرسل إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا في الصورة والهيئة ولستم بملائكة وإنما يريدون بقولكم أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بينة على صحة دعواكم، والسلطان في القرآن على وجهين وجه ملائكة ووجه بينة كقوله وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «1» وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ «2» فصحة قوله إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «3» بهذا وقوله: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «4» .
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوة والحكمة إلى قوله وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا بيّن لنا الرشد وبصرنا طريق النجاة، وَلَنَصْبِرَنَّ اللام للقسم مجازه لنصبرن عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله تعالى فِي مِلَّتِنا يعنون الآن ترجعوا وحتى ترجعوا إلى ديننا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هلاكهم ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أي مقامه وقيامه بين يدي، فأضاف قيام العبد إلى نفسه، كما يقول يذهب على ضربك أي ضربي إياك، وسوف رويتكك أي برويتي إياك. قال الله وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «5» أي رزقي إليكم فإن شئت قلت ذلك لمن يخاف قيامي عليه ومراقبتي له، مثاله قوله أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «6» .
وقال الأخفش: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أي عذابي.
وَخافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُوا واستنصروا الله عليها «7» .
قال ابن عباس ومقاتل: يعني الأمم، وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل
__________
(1) سورة إبراهيم: 22.
(2) سورة سبأ: 21.
(3) سورة يونس: 68.
(4) سورة إبراهيم: 10.
(5) سورة الواقعة: 82.
(6) سورة الرعد: 33.
(7) تفسير الطبري: 13/ 253.(5/308)
صادقين فعذبنا، نظيره قوله تعالى ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «1» وقالوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «2» الآية.
وقال مجاهد وقتادة: يعني الرسل وذلك أنهم لما تبينوا من إيمان قومهم استنصروا عدوّهم ودعوا على قومهم بالعذاب.
بيانه قوله تعالى في قصة نوح ولوط وموسى وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.
مجاهد: معاند للحق ويجانبه.
وقال إبراهيم: الناكب عن الحق.
ابن عباس: المعرض.
وقتادة: العنيد الذي لا يقول لا إله إلّا الله.
مقاتل: المستكبر.
ابن كيسان: الشامخ بالحق.
ابن زيد: المخالف للحق.
والعرب تقول: شر الإبل العنيد الذي يخرج من الطريق خيره، المريد العاصي، ويقال عند العرب إذا لم يرقا دمه «3» .
وقال أهل المعاني: المعاند والعنيد هو المعارض لك بالخلاف وأصله من العند وهو الناحية.
قال الشاعر:
إذا نزلت فاجعلوني وسطا ... إني كبير لا أطيق العندا «4»
مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ يعني أمامه وقدامه كما يقال: إن الموت من ورائك. قال الله وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ «5» .
قال الشاعر:
__________
(1) سورة العنكبوت: 29.
(2) سورة الأنفال: 32.
(3) كذا في المخطوط.
(4) تاج العروس: 1/ 108. [.....]
(5) سورة الكهف: 79.(5/309)
أتوعدني وراء بني رياح ... كذبت لتقصرن يداك دوني «1»
أي قدامهم.
أبو عبيدة: من الأضداد.
وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الآخر من ورائك أي سوف يأتيك وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه «2» .
وقال الشاعر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب «3»
وقال بعضهم إنما يجوز هذا في الأوقات لأن الوقت يمر عليك فيصير إن أخرته خلفك.
مقاتل: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ يعني بعده.
وكان أستاذنا أبو القاسم الحبيبي يقول: الأصل في هذا أنّ كل ما ورائي عندك شيء من خلفك وقدام فهو [....] «4» ، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ ثم بين ذلك لنا فقال صَدِيدٍ وهو القيح والدم.
قتادة: هو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه.
محمد بن كعب والربيع بن أنس: هو غسالة أهل النار وذلك ما يسيل من ابن الزنا يسقى الكافر يَتَجَرَّعُهُ يتحساه ويشربه ويجرع لا بمرة واحدة لمرارته وحرارته وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ لا يكاد أستقبله مجازه ولا يستسيغه كقوله لَمْ يَكَدْ يَراها «5» أي لم يرها.
قال ابن عباس: لم يحبوه، وقيل لا يحبّونه.
وروى أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية يعطى إليه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه فقطع أمعاءه وحتى يخرج من دبره.
يقول الله وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ «6» وقال يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ «7» وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من أعضائه فيجد ألم الموت وسقمه.
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 169، ولسان العرب: 15/ 390.
(2) راجع تفسير القرطبي: 9/ 350. 351.
(3) المعني: 1/ 152.
(4) كلمة غير مقروءة.
(5) سورة النور: 40.
(6) سورة محمد: 15.
(7) سورة الكهف: 29.(5/310)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
وقال إبراهيم التيمي: حتى من تحت كل شعرة في جسده.
الضحاك: حتى من إبهام رجله.
الأخفش: يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سمّاها موتا.
وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ولا يخرج نفسه فيستريح.
وقال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا يرجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة، نظيره قوله لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى «1» وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ شديد.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 27]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ «2» اختلفت النحاة في رفع مثل، قال الفراء: أضاف المثل إلى الكافرين والمثل للأعمال لأن العرب تقدم الأسماء لأنها أعرف ثم تأتي بالخبر الذي يخبر عنه مع صاحبه، ومجاز الآية مثل الذين كفروا بربهم كَرَمادٍ، قوله: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ «3» أي أحسن خلق كل شيء وقوله
__________
(1) سورة طه: 74.
(2) سورة إبراهيم: 18.
(3) سورة السجدة: 7.(5/311)
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «1» معناه يوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة سيئة، في الآية إضمار معناها ولا يمنّ عليك مثل الذين كفروا بربهم، ثم ابتدأ وأخذ يفسره فقال:
أعمالهم كَرَمادٍ وإن شئت جعلت المثل صفة فقلت الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ وصف اليوم بالعصوف وهو من صفة الريح لأن الريح تكون فيه كما يقال يوم بارد وحار لأن البرد والحر يكونان فيه، وليل نائم ونهار صائم. قال الله وَالنَّهارَ مُبْصِراً «2» ويدلّ عليه الليل والنهار.
قال الشاعر:
يومين غيمين ويوما شمسا «3»
وقال الفراء: إن شئت قلت: في يوم في عصوف وإن شئت قلت: في يوم عاصف الريح، تحذف الريح لأنها قد ذكرت قبل ذلك.
كقول الشاعر:
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف «4»
أراد كاسف الشمس.
وقيل هو من نعت الريح غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل (حجر ضب خرب) ونحوه، وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكافر يعني هم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها كما أنّ الرماد الذي فرّقه الريح لا ينتفع به. فذلك قوله لا يَقْدِرُونَ يعني الكفار مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا عَلى شَيْءٍ في الآخرة ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
قرأ أهل الكوفة إلّا عامر: خالق السماوات والأرض على التعظيم «5» .
وقرأ الآخرون: خَلَقَ السَّماواتِ على الفصل بِالْحَقِّ قال المفسرون: لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمر عظيم.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يبدلكم أحسن وأفضل وأطوع منكم، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ منيع متعذر وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً خرجوا من قبورهم وظهروا لله جميعا،
__________
(1) سورة الزمر: 60.
(2) سورة يونس: 67.
(3) جامع البيان للطبري: 13/ 258. [.....]
(4) لسان العرب: 9/ 248، جامع البيان للطبري: 13/ 258.
(5) على وزرن: فاعل، راجع تفسير الطبري: 13/ 260.(5/312)
الاستقبال فَقالَ الضُّعَفاءُ يعني الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني المتبوعين من القادة إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً جمع تابع مثل حارس وحرس، وقيل: راصد ورصد ونافر ونفر، ويجوز أن يكون تبع مصدرا سمي به أي كنا ذوي تبع «1» .
فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي هل أنتم ودافعون عذاب الله عنا، قال المتبوعين قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ إلى قوله مِنْ مَحِيصٍ مهرب ولا منجى، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر وبمعنى الإسم.
يقال حاص فلان عن كذا أي فرّ وزاغ عنه يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا.
قال مقاتل: إنهم يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع.
يقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فحينئذ يقولون سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ يعني إبليس لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من الأمر فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
قال مقاتل: يوضع له منبر من نار فيرقاه ويجتمع الكفار عليه بالأئمة إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ يوفى لكم وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ولاية ومملكة وحجة وبصيرة إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ هذا من الاستثناء المنقطع مجازه لمن يدعونكم فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان وغير برهان ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ بمعينكم وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ بمغنيّ وبمغيثي.
قرأه العامة: بِمُصْرِخِيَّ بفتح الياء.
وقرأ الأعمش وحمزة: بكسر الياء، والأصل فيه بمصرخيين فذهبت النون لأجل الإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، فمن نصب فلأجل التضعيف ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر لأن الياء أخت الكسرة «2» إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ به مِنْ قَبْلُ أي لا يمكن أن أكون شريكا لله فيما أشركتموني به من طاعتكم إياي واستهزأت من ذلك إِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين الواضعين للعباد الطاعة في غير موضعها لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
روى عتبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة قال: يقول عيسى (عليه السلام) :
ذلكم النبي الأمي فيأتونني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي فيشفّعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي.
ثم يقول الكفار: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو غير
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 355.
(2) تفسير القرطبي: 9/ 357.(5/313)
إبليس هو الذي أضلنا فيأتون فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أضللتنا قال: فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم فيقول عند ذلك إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ «1» .
... وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله فِيها سَلامٌ يسلم الله ويسلم الملائكة عليهم أَلَمْ تَرَ يا محمد يعني فإن الله يعلم بإعلامي إياك كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً يعني ما بين الله شبهها كلمة طيبة شهادة أن لا إله إلّا الله كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهي النخلة يدل عليه
حديث عتيب الحجاب قال: كان أبو العالية أميني فأتاني يوما في منزلي بعد ما صليت الفجر فانطلقت معه إلى أنس بن مالك فدخلت عليه فجيء بطبق عليه رطب.
فقال أنس: كل يا أبا العالية فإنّ هذه من الشجرة التي قال الله في كتابه أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ. ثم قال أنس أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقناع بسر، فقرأ «2» هذه الآية
، ومعنى الآية: كشجرة طيبة الثمرة، فترك ذكر الثمرة استغناء بدلالة الطعام عليه.
وقال أبو ظبيان عن ابن عباس: هذه شجرة في الجنة أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض وَفَرْعُها عال فِي السَّماءِ كذلك أصل هذه الكلمة راجع في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق والإخلاص.
وإذا تكلم بالشهادة تذهب في السماء فلا يكتب حتى ينتهي إلى الله تعالى. قال الله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
وروى مقاتل بن حيان عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لله عمودا من نور أسفله تحت الأرض السابعة ورأسه تحت العرش، فإذا قال العبد أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله اهتز ذلك العمود، فيقول الله عزّ وجلّ: اسكن، فيقول: كيف أسكن؟ ولم تغفر لقائلها فيقول الرب: قد غفرت له فيسكن عند ذلك» [158] .
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أكثروا من هز ذلك العمود» [159] «3» .
تُؤْتِي أُكُلَها تعطي ثمرها كُلَّ حِينٍ اختلفوا في الحين.
فقال مجاهد وعكرمة وابن زيد: كل سنة.
قال عكرمة: أرسلت إلى عمر بن عبد العزيز إني نذرت أن أقطع يد رجل من هكذا سنة وحينا، ما عندك فيه. قال ابن عباس: فقلت له: لا تقطع يده واحبسه سنة «4» .
__________
(1) سنن الدارمي: 2/ 327، وتفسير الطبري: 13/ 263.
(2) تفسير الطبري: 13/ 268.
(3) الموضوعات لابن الجوزي: 3/ 167، ومجمع الزوائد باختصار: 10/ 82.
(4) تفسير الطبري: 13/ 274.(5/314)
إنّ ابن عباس يقول: الحين حينان حين يعرف ويبدل وحين لا يعرف. فأما الحين الذي لا يعرف وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ «1» وأما الذي يعرف تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ فهو ما بين العام إلى العام المقبل.
فقال: أصبت يا مولى ابن عباس وأحسنت «2» .
وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن: كل ستة أشهر ما بين عرامها «3» إلى حملها.
وروى طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن رجل حلف ألّا يكلم أخاه حينا فقال: الحين سبعة أشهر، وقرأ هذه الآية.
فقال سعيد بن المسيب: الحين شهران لأن النخلة لا يكون فيها أكلها إلّا شهرين.
وقال الربيع بن أنس: كُلَّ حِينٍ كل غدوة وعشية، كذلك يصعد عمل المؤمن عن أول النهار وآخره، وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس.
قال الضحاك: كل ساعة ليلا ونهارا، شتاء وصيفا يؤكل في جميع الأوقات. كذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها «4» .
وقرأ أبو الحكم في تمثيل الله الإيمان بالشجرة فهي أن الشجرة لا تكون شجرة إلّا بثلاثة أشياء عود راسخ وأصل قائم وفرع عال. كذلك الإيمان لا يتم ولا يقوم إلّا بثلاثة أشياء تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان.
يدل عليه ما
روى جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالإيمان» [160] .
لحميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن مثل هذا الدين مثل شجرة ثابتة، الإيمان أصلها، والزكاة فرعها، والصيام عروقها، والداعي في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن محارم الله خضرتها، فكما لا- يكمل هذه الشجرة إلّا بثمر طيبة، لا يكمل الإيمان إلّا بالكف عن محارم الله» [161] «5» .
والحكمة في تشبهها إياه بالحنطة من بين سائر الأشجار أنها لما كانت أشبه الأشجار بالإنسان شبهت به وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت بالغصون عن جوانبها والنخلة إذا
__________
(1) سورة ص: 88.
(2) معاني القرآن للنحاس باختصار: 3/ 528.
(3) العرام: الغشر، راجع لسان العرب: 12/ 395.
(4) راجع زاد المسير: 4/ 263. 264.
(5) تفسير القرطبي: 9/ 360.(5/315)
قطع رأسها يبست وذهب أصلها ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوانات في الإلقاح لأنها لا تحمل حتى يلقح.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير المال سكة مأبورة ومهدة مأمورة» [162] «1» .
ومنه
حديث ابن عمر: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم لأصحابه: «إن شجرة من الشجر لا يطرح ورقها وهي مثل المؤمن فأخبرني ما هي؟» قال: فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم فاستحييت وسكت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هي النخلة» [163] فذكرت ذلك لأبي فقال: يا بني لو كنت قلتها لكانت أحبّ إليّ من فضلة لأنها من شجرة آدم «2» .
يروى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكرموا عمتكم» فقيل ومن عمتنا يا رسول الله؟ قال:
«النخلة» [164] «3» وذلك أنّ الله تعالى لما خلق آدم فصلت من طينه فصلة فخلق منها النخلة قال الله: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي الشرك كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ هي الحنظلة.
قال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله ولم يخلق هذه الشجرة على وجه الأرض.
اجْتُثَّتْ اقتلعت. قال ابن عباس، والسدي: استرخت.
الضحاك: استوصلت. المؤرخ: أخذت حيث ما هي يقينا مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ يحقق الله إيمانهم وأعمالهم بالقول والتثبيت، وهو شهادة أن لا إله إلّا الله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ يعني في القبر، وقيل: فِي الْحَياةِ في القبر عند الله تعالى وَفِي الْآخِرَةِ إذا بعث.
مقاتل: ذلك أنّ المؤمن إذا مات بعث الله إليه ملكا يقال له: رومان فيدخل قبره فيقول له:
إنه يأتيك الآن ملكان أسودان فيسألانك من ربك ومن نبيك وقادتك فأجبهما بما كنت عليه في حياتك، ثم يخرج فيدخل الملكان وهما منكر ونكير أسودان أزرقان فظان غليظان أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالريح العاصف معهما مهزبة، فيقعدان ويسألانه لا يشعران بدخول رومان فيقول ربي الله ونبيي محمد وديني الإسلام، فيقولان له عند الله سعيد ثم يقولان: اللهم فأرضه كما أرضاك، ويفتح له في قبره باب من الجنة يأتيه منها التحف، فإذا انصرفا عنه قال له: نم
__________
(1) جامع البيان للطبري: 13/ 270. [.....]
(2) صحيح ابن حبان: 1/ 481 ح 12460.
(3) كنز العمال: 12/ 338 ح 35300، تفسير القرطبي: 9/ 360.(5/316)
نومة العروس، فهذا هو التثبيت وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يعني يلعنهم وذلك أنّ الكافر إذا دخل عليه الملكان قالا له: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ قال: لا أدري. قال له: لا دريت ولا هديت عشت عصيا ومتّ شقيا، ثم يقولان له نم نومة المنهوس ويفتح من قبره باب من جهنم ويضربانه ضربة بتلك المرزبة فيشهق شهقة يسمعها كل حيوان إلّا الثقلان ويعلنه كل من يسمع صوته فذلك قوله وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ «1» .
روى البراء بن عازب أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر قبض روح المؤمن فقال: «فيعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره، ويقولان من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد، وينتهرانه ويقولان الثانية من ربك وما دينك ومن نبيك؟ وهو آخر أسئلة الملكان فيثبته الله فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلّى الله عليه وسلّم فينادي مناد في السماء أن ثبت عبدي»
[165] «2» فنزل قوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا الآية.
وقال ابن عباس في هذه الآية: إنّ المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة فإذا مات مشوا مع جنازته وصلوا عليه مع الناس، فإذا دفن جلس في قبره فيقال له من ربك؟ فيقول ربي الله. فيقال له من رسولك؟ فيقول محمد. فيقال له ما شهادتك؟ فيقول أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله فيوسع له في قبره حد بصره، وذلك قوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.
وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جنازة فقال: «يا أيها الناس إنّ هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن ويتفرق عنه أحباؤه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله. فيقول له: صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له: هذا منزلك كان لو كفرت بربك، فأما إذا آمنت به فإنّ الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له فيقال له اسكن ثم يفتح له في قبره، وأما الكافر أو المنافق فيقال له ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا كان منزلك لو آمنت بربك، فأما إذا كفرت فإنّ الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلّا الثقلين» .
قال بعض أصحابه: يا رسول الله ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلّا هيل جزعا لذلك، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» الآية [166] «3» .
__________
(1) سورة البقرة: 159.
(2) جامع البيان للطبري: 13/ 281، ومسند أحمد: 4/ 287، بتفاوت يسير.
(3) كنز العمال: 15/ 637 ح 42509، جامع البيان للطبري: 13/ 281.(5/317)
وقال أبو هريرة: إن الميت يسمع خفق نعالهم حتى يولون عنه مدبرين وإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصيام عن يساره وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف فيصلي الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فيقول للصلاة: أقبلي فتدخل فيؤتى من يمينه فيقول الزكاة اقبلي فتدخل، فيؤتى عن يساره فيقول الصيام قبلي يدخل صوتي من عند رجليه فيقول فعل الخيرات اقبلي فتدخل، فيقال له: اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس وقد دخل الغروب، فيقال له: أخبرنا عما نسألك. فيقول: دعوني حتى أصلي فيقال إنك ستفعل، فأخبرنا عما نسألك عنه فيقول وعم تسألونني؟ فيقال أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ما نقول فيه وماذا شهد عليه، فيقول أمحمد؟ فيقال: نعم، فيقول: أشهد إنه لرسول الله قد جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح إليه في قبره سبعون ذراعا وينوّر له فيه، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: أنظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا، ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك لو عصيته، فيزداد غبطة وسرورا، ثم يجعل نسمه في النسيم الطيب، وهي طير [خضر] تعلق بشجر الجنة ويعاد جسده إلى ما بدئ منه من التراب، وذلك قوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله وَفِي الْآخِرَةِ «1» .
وعن أبي نافع قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشي بغدير وأنا أمشي خلفه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا هديت لا هديت ثلاثا» [167] «2» .
قال أبو نافع قلت: يا رسول الله مالي؟ قال: ليس إياك أريد، وإنما أريد صاحب هذا القبر، يسأل عني فيزعم أنه لا يعرفني فإذا هو قبر قد رشّ عليه الماء حين دفن صاحبه.
وأخبرنا أبو القاسم السلمي عن أبي الطيب محمد بن علي الخياط يقول: سمعت سهيل بن جابر العتكي يقول: رأيت يزيد بن عثمان بعد موته في المنام، فقلت له ما فعل الله بك فقال: إنه أتاني في قبري ملكان فظان غليظان فقالا من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت لهما ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة فذهبا وقالا أكتبت عن جرير بن عثمان؟ قلت: نعم. قالا: إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله «3» .
__________
(1) بطوله في تفسير الطبري: 13/ 283.
(2) المعجم الكبير: 1/ 325.
(3) تفسير القرطبي: 9/ 363.(5/318)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 34]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً يعني غيّروا نعمة الله عليهم في تكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا به وكذبوه فيصيروا نعمة الله عليهم كفرا وَأَحَلُّوا وأنزلوا قَوْمَهُمْ ممن تابعهم على كفرهم دارَ الْبَوارِ الهلاك ثم [ترجم] «1» عن دار البوار ما هي. فقال: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يدخلونها وَبِئْسَ الْقَرارُ المستقر.
عامر بن واثلة سمعت علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) يقول في قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا الآية قال: هم كفار قريش الذين نحروا يوم بدر «2» .
قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : هما الأفجران من قريش بني امية، فأما بنو امية فمتعوا إلى حين، وأما بنو مخزوم فاهلكوا يوم بدر «3» .
ابن عباس: هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه «4» .
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا قرأ الكوفيون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس عن سبيله، وقرأ الباقون بفتح الياء على اللزوم «5» قُلْ تَمَتَّعُوا عيشوا متاع الدنيا.
فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وهذا وعيد.
قوله: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ. قال الفراء: «6» جزم: يقيموا بتأويل الجزاء ومعناه الأمر «7» .
وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً إلى قوله وَلا خِلالٌ مخالة فيقال خلت فلانا فأنا أخاله مخالة وخلال وخلّة «8» .
__________
(1) زيادة عن تفسير الطبري: 13/ 287.
(2) تفسير القرطبي: 9/ 364.
(3) تفسير القرطبي: 9/ 364، ونسبه لعمر وعلي معا.
(4) تفسير القرطبي: 9/ 364.
(5) أي عاقبتهم إلى الإضلال والضلال، فهذه لام العاقبة.
(6) في جزم: يقيموا أوجه هذا أحدها، وقيل إنه على حذف لام الأمر أي: ليقيموا، وقيل أنه جواب الأمر وهو قل. [.....]
(7) زيادة عن تفسير الطبري: 13/ 294، وعبارة المخطوط مشوشة.
(8) المصدر السابق.(5/319)
قال امرؤ القيس:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ... وخلت بمقليّ الخلال ولا قالي «1»
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ إلى قوله الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ.
قال ابن عباس: دؤوبهما في طاعة الله.
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ متعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان والزيادة وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئا فحذف الشيء الثاني اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض كقوله وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «2» يعني وأوتيت من كل شيء في زمانها شيئا وقيل هو التكثير نحو قولك: فلان يعلم كل شيء وأتاه كل الناس، وأنت تعني بعضهم نظيره قوله فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ «3» .
وقال بعض المفسرين: معناه وآتاه من كل ما سألتموه وما لم تسألوه «4» ، وهذه قراءة العامة بالإضافة [.........] «5» .
وقرأ الحسن والضحاك وسلام: مِنْ كُلٍ، بالتنوين على النفي يعني من كل ما لم تسألوه فيكون ما يجد.
قال الضحاك: أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها، صدق الله لكم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطرنا ببال «6» .
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لا تطيقوا ذكرها ولا القيام بشركها لا بالجنان ولا باللسان ولا بالبيان إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ لشاكر غير من أنعم عليه واضع الشكر في غير موضعه كَفَّارٌ جحود لنعم الله، وقيل ظلمه لنفسه بمعصيته كفار لربه في نعمته، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع.
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 294.
(2) سورة النمل: 23.
(3) سورة الانعام: 44.
(4) المصدر السابق: 13/ 297.
(5) كلمة غير مقروءة.
(6) المصدر السابق: 13/ 297.(5/320)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً يعني الحرم مأمونا فيه وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ.
أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ويقال جنبته أجنبه جنبا وأجنبته إجنابا بمعنى وأجنبّك وجنّبته تجنيبا.
قال الشاعر: وهو أمية بن الأشكر الليثي:
وتنفض مهده شفقا عليه ... وتجنّبه فلا يصعي الصّعابا «1»
والأصنام جمع صنم وهو التمثال المصور قال الشاعر:
وهنانة كالزون يجلي ضمه ... تضحك عن أشنب عذب ملثمه «2»
وقال إبراهيم التيمي في قصصه: من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم (عليه السلام) حين يقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعني ضل بهن كثير من الناس عن طريق الهدى حتى عبدوهن وهذا من المغلوب. نظيره قوله الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ «3» أي يخوفكم بأوليائه.
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي على ديني وملتي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال السدي: معناه وَمَنْ عَصانِي فتاب.
مقاتل بن حيان: وَمَنْ عَصانِي فيما دون الشرك.
روى عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا قول إبراهيم (عليه السلام) فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وقول عيسى (عليه السلام) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «4» الآية، فرفع يداه ثم قال: اللهم أمتي اللهم أمتي وبكى، فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسأله ما بك، فأتى جبرئيل فسأله فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال، فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد فقل:
إنا سنرضيك في أمتك ولا يسؤك.
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 298.
(2) تفسير الطبري: 13/ 298.
(3) سورة آل عمران: 175.
(4) سورة المائدة: 118.(5/321)
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي إنما أدخل: «من» للتبعيض ومجاز الآية أسكنت من ذريتي ولدا بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وهو مكة عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ.
قتادة: المحرم من المسجد محرم الله فيه، والاستخفاف بحقه، فإن قيل ما وجه قول إبراهيم عِنْدَ بَيْتِكَ وإنما بنى إبراهيم البيت بعد ذلك بمدة، وقيل معناه عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي كان قبل أن يرفعه من الأرض حتى رفعته في أيام الطوفان.
وقيل عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي قد مضى في علمك أنه يحدث في هذا البلد.
وكانت قصة الآية على ما ذكره سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنّ أول من سعى بالصفا والمروة هاجر أم إسماعيل، وإنّ أول ما أحدثت جرّ الذيول لهي وذلك أنها لما فرت من ساره فأرخت من ذيلها ليعفى أثرها فجاء بها إبراهيم ومعها ابنها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت فوضعهما ثم رجع فأثبتته فقالت: إلى من تكلنا، فجعل لا يرد عليها شيئا، فقالت:
الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا، فرجعت ومضى [إبراهيم] حتى إذا كان على ثنية كداء أقبل على الوادي. فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ الآية «1» .
قال: ومع الإنسانة شنّة فيها ماء فنفذ الماء فعطشت فانقطع لبنها فعطش الصبي، فنظرت إلى الجبال أدنى من الأرض فصعدت الصفا فتسمّعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا فلم تسمع شيئا فانحدرت فلما نزلت على الوادي سعت وما تريد السعي كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد بذلك السعي، فنظرت أيّ الجبال أدنى من الأرض فصعدت المروة فتسمّعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا، فسمعت صوتا، فقالت: كالإنسان الذي يكذب سمعه: صه حتى استيقنت، فقالت: قد أسمعتني صوتك فأغثني فقد هلكت وهلك من معي، فإذا هو الملك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عينا فعجلت الإنسانة فجعلت تفرغ في شنتها،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرحم الله أم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عينا معينا
، وقال لها الملك: لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد فإنما هي عين لشرب ضيفان الله وقال: إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان لله بيتا هذا موضعه.
قال: ومرت رفقة من جرهم تريد الشام فرأوا الطير على الجبل وقال: إن هذا الطير لعائف على ماء فأشرفوا فإذا هم بالإنسانة فأتوا هاجر وقالوا إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك فأذنت لهم فنزلوا معها وكانوا هناك حتى شبّ إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل «2» ، وذكر الحديث في صفة مقام إبراهيم وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران.
__________
(1) صحيح البخاري: 4/ 114.
(2) تاريخ الطبري: 1/ 179. 180 وذكر بقية القصة. [.....](5/322)
رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي تفزع وقيل تشتاق إِلَيْهِمْ وهذا دعاء منه (عليه السلام) لهم بأن يرزقهم حجّ بيته الحرام.
قال سعيد بن جبير: لو يقال أفئدة الناس تهوى إليهم لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ منهم المسلمون.
وقال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند ولكنه أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ ... وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ ما رزقت سكّان القرى ذوات المياه لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ من جميع أمورنا.
وقال ابن عباس ومقاتل من الوجد إسماعيل وأمه حيث أسكنها بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ... وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ.
قال بعضهم: هذه صلة فولد إبراهيم (عليه السلام) .
وقال الآخرون: قال الله عزّ وجلّ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ وهو قول الله عزّ وجلّ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي أعطاني عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ.
قال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.
وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد اثنتي عشرة ومائة سنة.
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أيضا واجعلهم مقيمي الصلاة رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ.
قال المفسرون: أي عبادتي. نظيره
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الدعاء مخ العبادة»
[168] «1» ثم قرأ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي «2» فسمى الدعاء عبادة.
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ إن آمنا وتابا، وقد أخبر الله عن عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة.
وَلِلْمُؤْمِنِينَ كلهم.
قال ابن عباس: من أمة محمّد يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي يبدو ويظهر. قال أهل المعاني:
أراد يوم يقوم الناس للحساب فاكتفى بذكر الحساب عن ذكر الناس إذ كان مفهوما.
__________
(1) كنز العمال: 2/ 62 ح 3114.
(2) سورة غافر: 60.(5/323)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ. قال ميمون بن مهران: فهذا وعيد للظالم وتعزية المظلوم «1» إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يمهلهم ويؤخر عذابهم.
وقرأه العامة: بالتاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ، وقرأ الحسن والسّلمي: بالنون.
لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم قاله الفراء.
مُهْطِعِينَ قال قتادة: مسرعين. سعيد بن جبير عنه: منطلقين.
عابد بن الأوزاعي وسعيد بن جبير: الإهطاع سيلان كعدو الذئب.
مجاهد: مديمي النظر.
الضحاك: شدّة النظر من غير أن يطرف، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، الكلبي:
ناظرين. مقاتل: مقبلين إلى النار.
ابن زيد: المهطع الذي لا يرفع رأسه، وأصل الإهطاع في كلام العرب البدار والإسراع، يقال: أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع «2» .
قال الشاعر:
وبمهطع سرح كأنّ زمامه ... في رأس جذع من أراك مشذب
وقال آخر:
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 310.
(2) تفسير القرطبي: 9/ 279.(5/324)
بمستهطع رسل كأن جديله ... بقدوم رعن من صوام ممنع «1»
وقال آخر:
تعبدني نمر بن سعد، وقد أرى ... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع «2»
مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها.
قال القتيبي: المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه، ومنه الإقناع في الصلاة.
قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وأصل الإقناع في كلام العرب رفع الرأس.
قال الشماخ
يباكرن العضاه بمقنعات ... نواجذهن كالجدا الوقيع «3»
يعني برءوس مرفوعات إليها ليتناولها.
قال الراجز:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنما أبصر شيئا أطمعا «4»
لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا يرجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ قال ابن عباس: خالية من كل خير.
مجاهد ومرة بن شرحبيل وابن زيد: منخرقة خربة ليس فيها خير ولا عقل، كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء: إنما هو هواء. هذه رواية العوفي عن ابن عباس «5» .
سعيد بن جبير: تمور في أجوافهم ليس لها مكان يستقر فيه.
قتادة: انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أمكنتها.
الأخفش: جوفاء لا عقول لها.
والعرب تسمي كلّ أجوف نخبا وهواء، ومنه أهواء وهو الخط الذي بين الأرض والسماء.
قال زهير يصف ناقه:
__________
(1) بغية الطلب: 4/ 2015 وهي في ديوانه: 64. 73.
(2) لسان العرب: 3/ 274.
(3) تفسير الطبري: 13/ 313.
(4) فتح الباري: 5/ 69.
(5) لسان العرب: 9/ 35.(5/325)
كان الرجل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء «1»
وقال حبان
ألا أبلغ أبا سفيان عنّى ... فأنت مجوف نخب هواء «2»
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ وهو يوم القيامة فَيَقُولُ عطف على يوم يأتيهم وليس بجواب فلذلك وقع الَّذِينَ ظَلَمُوا أشركوا رَبَّنا أَخِّرْنا أمهلنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهو الدنيا يعني أرجعنا إليها نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيجابون أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ حلفتم مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ فيها أي لا يبعثون، وهو قوله وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «3» ، ... وَسَكَنْتُمْ في الدنيا فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعصية قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ.
قرأه العامة: بالنون.
وقرأ عمر وعلي وأبن مسعود: وأبيّ: وإن كان مكرهم ما يزال.
لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. قرأه العامة: بكسر اللام الأول وفتح الثانية.
وقرأ ابن جريج والكسائي: بفتح الميم الأولى وضم الثانية بمعنى قراءة العامة الزجاج في قوله وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ، أي ما كان مكرهم لتزول.
أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمر الإسلام وثبوته كثبوت الجبال الراسخة لأن الله وعده إظهار دينه على الأديان كلّها، وقيل معناه: كان مكرهم.
قال الحسن: إن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن يزول منه الجبال، وقال خمس مواضع في القرآن (إن) بمعنى (ما) قوله وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ، وقوله: لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ «4» وقوله: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «5» فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ «6» وقوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ «7» ومن فتح اللام الأولى فعلى استعظام مكرهم «8» .
__________
(1) الصحاح: 1/ 34.
(2) لسان العرب: 9/ 35.
(3) سورة النحل: 38.
(4) سورة الأنبياء: 17.
(5) سورة الزخرف: 81. [.....]
(6) سورة الأحقاف: 26.
(7) سورة يونس: 94.
(8) تفسير القرطبي: 9/ 380.(5/326)
قال ابن جرير: الاختيار القراءة الأولى لأنها لو كانت قالت لم يكن ثابتة وكان مكرهم ما
ذكره علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وغيره قالوا: نمرود الجبار الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ قال: إن كان ما يقوله إبراهيم حقا فلا انتهي حتى أعلم ما في السماء، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور وعلفها اللحم وربّاها حتى شبت واستعلجت ثم قعد في تابوت وجعل معه رجلا آخر «1» ، وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل وربط التابوت بأرجل النسور وعلق اللحم فوق التابوت على عصا ثم خلى النسور فطرن وصعدن طمعا في اللحم حتى بعدن في الهواء.
قال نمرود لصاحبه افتح الباب الأول وانظر في السماء هل ترى منه شيئا ففتح ونظر، فقال: إن السماء كهيئتها ثم قال: افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل ذلك فقال أرى الأرض مثل اللجة البيضاء، والجبال مثل الدخان، وطارت النسور وارتفعت حتى حالت بينها وبين التابوت فقال لصاحبه افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة، ونودي: أيها الطاغية أين تريد.
قال عكرمة: كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب فرمى عليهم فعاد إليه السهم متلطخا بدم. فقال: كفيت نفسك إله السماء واختلفوا في ذلك السهم من أي شيء تلطخ.
قال عكرمة: سمكة فدت نفسها لله من بحر في الهواء معلق.
وقال بعضهم: من طائر من الطيور أصابه السهم.
قالوا: ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم ففعل ذلك فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال حفيف التابوت في النسور ففزعت وظنت أن قد حدث بها حدث في السماء أو أن القيامة قد قامت فذلك قوله وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ.
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ بالنصر لأوليائه وهلاك أعدائه وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره: ولا يحسبن الله مخلف رسله وعده لأن الخلف يقع بالوعد.
يقول الشاعر:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائر باد إلى الشمس أجمع «2»
وقال القتيبي: هو من المقدم الذي يوضحه التأخير والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وهو قولك يخلف وعده رسله، ومخلف رسله وعده لأنه الخلف يقع بالوعد كما يقع بالرسل.
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 320، بتفاوت.
(2) فتح القدير: 3/ 118، وتفسير الطبري: 13/ 326.(5/327)
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وروى عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال: البدل عرض كالفضة نبضا نقية لم يسل فيها دم ولم يعمل عليها خطيئة «1» .
وقال علي (رضي الله عنه) في هذه الآية: الأرض من فضة والسماء من ذهب.
وروى سهل بن سعيد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد» [169] «2» .
فقال سعيد بن جبير ونجد ومحمد بن كعب القرظي: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه «3» .
روى خيثمة عن ابن مسعود قال: تبدل الأرض نارا يصير الأرض كلها يوم القيامة نارا والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها وتلجم الناس العرق ولم يبلغوا الحساب بعد.
قال كعب: يصير السماوات جنانا ويصير مكان البحر نارا وتبدل الأرض غيرها.
ابن عباس: الأرض هي تلك الأرض وإنما تبدل كلها وجبالها وأنهارها.
ثم أنشد:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا بالدار الدار التي كنت أعرف «4»
وتصديق قول ابن عباس،
عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا تَرى فِيها عِوَجاً وأمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأولى من كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها» [170] «5» .
وقيل: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ بأرض [بيضاء كالفضة] .
الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى:
تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ أين يكون الناس يومئذ قال: «على الصراط» [171] «6» .
وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي أسماء عن ثوبان قال: سأل نفر من اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أين الناس يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ؟
__________
(1) تفسير الطبري: 13/ 327.
(2) تفسير الطبري: 13/ 329، وصحيح البخاري: 7/ 194.
(3) تفسير ابن كثير: 2/ 564.
(4) تفسير القرطبي: 5/ 254.
(5) تفسير القرطبي: 9/ 383.
(6) مسند أحمد: 6/ 35.(5/328)
قال: «هم في الظلمة دون الحشر» [172] «1» .
وروى حكيم بن ثوبان الكلابي عن أبي أيوب الأنصاري قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم خبر من اليهود فقال: أرأيت إذ يقول الله عزّ وجلّ في كتابه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ فأين الخلق عند ذلك؟ فقال: أضياف الله فلم يعجزهم ما لديه.
وَبَرَزُوا ظهروا وخرجوا من قبورهم لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الغلاب الذي يفعل ما يشاء وقهر العباد بالموت وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ المشركين يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ مشدودين بعضهم ببعض، وقيل مقرنين بالشياطين. بيانه قوله احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ «2» وهم الشياطين، فقال ابن زيد: مقرّنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم في الأصفاد بالقيود والأغلال، واحدها صفد والصفاد أيضا القيد وجمعه صفد يقال: صفدته صفدا وأصفادا التكثر، قلت:
صفدته تصفيدا.
قال عمرو بن كلثوم:
فأتوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبناء الملوك مصفدينا «3»
سَرابِيلُهُمْ قمصهم واحدها سربال والفعل منه تسربلت وسربلت غيري مِنْ قَطِرانٍ وهو الذي تهنأ به الإبل ويقال له الخضخاض «4» .
قال الحسن وقرأ عيسى بن عمر: قَطْرانٍ بفتح القاف وتسكين الطاء، وفيه لغة ثالثة قطران بكسر القاف وجزم الطاء، ومنه قول أبي النجم:
جون كأن العرق المنتوحا ... لبسه القطران والمسوحا «5»
وقرأ عكرمة: برواية زيد: قَطْرٍ آنٍ على كلمتين منونتين قَطْرٍ آنٍ والقطر النحاس الصفر المذاب. قال الله آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً «6» والآن الذي انتهى خبره قال الله تعالى يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «7» وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ إلى قوله هذا أي هذا القرآن بَلاغٌ تبليغ وعظة لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا حجج الله التي أقامها فيه أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
__________
(1) المستدرك: 3/ 482.
(2) سورة الصافات: 22.
(3) تفسير الطبري: 13/ 334. [.....]
(4) راجع الصحاح: 3/ 74.
(5) كتاب العين للفراهيدي: 3/ 193.
(6) سورة الكهف: 96.
(7) سورة الرحمن: 44.(5/329)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
سورة الحجر
مكية، وهي ألفان وسبعمائة وستون حرفا، وستمائة وأربع وخمسون كلمة وتسع وتسعون آية
روى حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد» [173] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ يعني وآيات قرآن. رُبَما يَوَدُّ.
قرأ عاصم وأهل المدينة: بتخفيف الباء.
وقرأ الباقون: بتشديده، وهما لغتان.
قال أبو حاتم وأهل الحجاز: يخففون رُبَما.
وقيس وبكر وتميم: يثقّلونها وإنما أدخل ما على رب ليتكلم بالفعل بعدها.
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 6/ 97.(5/330)
روى أبو موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة. قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا:
بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم شيئا؟ وقد صرتم معنا في النار. قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فغضب الله لهم بفضل رحمته فأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار يخرجون منها فحينئذ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» [174] «1» وقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية.
وروى مجاهد عن ابن عباس قال: ما يزال الله يدخل الجنة ويرحم ويشفع حتى يقول لمن كان من المسلمين: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فحينئذ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يا محمد يعني الذين كفروا يَأْكُلُوا في الدنيا وَيَتَمَتَّعُوا من لذاتها وَيُلْهِهِمُ ويشغلهم الْأَمَلُ عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ بما وردوا القيامة ونالوا وبال ما صنعوا فنسختها آية القتال وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي من أهل قرية إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أجل مؤقت قد كتبناها لهم لا يعذبهم ولا يهلكهم حتى يلقوه ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من ملة أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ونظيرها فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «2» وَقالُوا يعني مشركي مكة يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ يعني القرآن وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما هلّا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ شاهدين لك على صدق ما تقول إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
قال الكسائي: لولا ولو ما سواء في الخبر والاستفهام.
ومنه قول ابن مقبل:
لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ... ببعض ما فيكما إذا عبتما عودي «3»
يريد لولا الحياء ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ.
قرأ أهل الكوفة: نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بضم النون ورفع اللام، الْمَلائِكَةَ نصبا، واختاره أبو عبيد.
وقرأ الباقون: بفتح التاء ورفع اللام في الْمَلائِكَةُ رفعها، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقوله تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ ...
إِلَّا بِالْحَقِّ بالعذاب ولو نزلت وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ القرآن وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من الباطل ومن الشياطين وغيرهم أن يزيدوا فيه وينقصوا منه ويبدلوا حرفا، نظيره قوله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «4» الآية.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 14/ 5، بتفاوت يسير.
(2) سورة الأعراف: 34.
(3) تفسير الطبري: 14/ 10.
(4) سورة فصّلت: 42.(5/331)
وقيل بأن الهاء في قوله لَهُ راجعة إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم يعني وإنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء نظيره وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ في الآية إضمار، مجازها ولقد أرسلنا من قبلك في شيع أمم من الأولين.
قاله ابن عباس وقتادة، وقال الحسن: فرق الأولين وواحدتها شيعة وهي الفرقة والطائفة من الناس وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كما فعلوا بك يعزي نبيه صلّى الله عليه وسلّم كَذلِكَ نَسْلُكُهُ يعني كما أسلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء بالرسل في قلوب شيع الأولين كذلك نسلكه أي نجعله وندخله فِي قُلُوبِ مشركي قومك لا يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني حتى لا يؤمنوا بمحمد، وفي هذه الآية ردّ على المعتزلة، فقال سلكه يسلكه سلكا وسلوكا وأسلكه إسلاكا.
قال عدي بن زيد:
وكنت لزاز خصمك لم أعرّد ... وقد سلكوك في قوم عصيب «2»
وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وقائع الله لا من خلا من هكذا في الأمم نخوف أهل مكة.
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ يعني ولو فتحنا على هؤلاء القائلين لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ ... باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ فظلت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم عيانا، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، هذا قول ابن عباس وأكثر العلماء «3» .
قال الحسن: هذا العروج راجع إلى بني آدم يعني فظل هؤلاء الكافرون فِيهِ يَعْرُجُونَ أي يصعدون ومنه المعراج لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ سدّت أَبْصارُنا قاله ابن عباس، وقال الحسن:
سحرت.
قتادة: أخذت.
الكلبي: أغشيت وعميت.
وكان أبو عمرو وأبو عبيدة يقولان: هو من سكر الشراب ومعناه قد عش أبصارنا السكر «4» ، المؤرخ: دير بنا «5» .
وقرأ مجاهد وابن كثير: سُكِرَتْ بالتخفيف أي حبست ومنعت بالنظر كما سكر النهر ليحبس الماء بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ سحرنا محمد.
__________
(1) سورة المائدة: 67.
(2) لسان العرب: 10/ 442، وتفسير الطبري: 12/ 107.
(3) راجع المصدر السابق: 14/ 17.
(4) تفسير الطبري: 14/ 17.
(5) تفسير القرطبي: 10/ 8. [.....](5/332)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 21]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً أي قصورا ومنازل وهي كواكب وبروج الشمس والقمر والكواكب السيارة وأسماؤها الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت.
وَزَيَّنَّاها يعني السماء لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ لكن من استرق السمع، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ نار مُبِينٌ بيّن.
قال ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجا يسترق السمع فينفرد المارد منها فيعلو فيرمي بالشهاب فيصيب جبهته أو جبينه أو حيث شاء الله منه فيلتهب فيأتي أصحابه وهو ملتهب فيقول:
إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليه تسعا فيحدثون بها أهل الأرض الكلمة حق والتسع باطل فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاءوا به من كذبهم «1» .
وقال ابن عباس أيضا: كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات فكانوا يدخلونها فيأتون بأخبارها فيلقون على الكهنة بأن ولد عيسى، ومنعوا عن ثلاث سماوات فلما ولد محمد صلّى الله عليه وسلّم منعوا من السماوات أجمع فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلّا رمي بشهاب، فلما منعوا بتلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال لقد حدث في الأرض حدث.
قال: فبعثهم فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتلو القرآن فقالوا: هذا والله حديث وإنهم ليرمون فإذا نوّر النجم عنكم فقد أدركه لا يخطئ أبدا ولكن لا يقتله بحرق وجهة جنبه ويده، وبعضهم من يخبّله فيصبر حولا، يضل الناس في البوادي.
قال يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق: إن أول من فزع للرمي بالنجوم حين رما بها هذا الحي من ثقيف، وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب وأمكرها رأيا فقالوا له: ألم تر ما حدث في السماء في القذف بهذه النجوم؟
قال: بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء؟ لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طيّ الدنيا
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 11.(5/333)
وهلاك الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوم غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا الأمر أراد الله به هذا في الخلق «1» .
وروى عمارة بن زيد عن عبد الله بن العلا عن أبي الشعشاع عن أبيه عن أبي لهب بن مالك قال: حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد ذكرت عنده الكهانة فقلت: بأبي أنت وأمي نحن أول من تطوع لحراسة السماء وزجر الشياطين ومنع الجن من استراق السمع عند قذفها بالنجوم، وإنا لما رأينا ذلك اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه ثلاثمائة وستون سنة هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها فأنا قد فزعنا وخفنا سوء عاقبتها، فقال لنا: اعدوا عليّ في السحر، ائتوني بسحر أخبركم الخبر إما بخير أو ضرر، قال: فانصرفوا عنه يومنا فلما كان في وقت السحر أتينا فإذا هو قائم على قدميه شاخص بعينيه إلى السماء فناديناه يا خطر فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا فانقض من السماء نجم عظيم وصرخ الكاهن بأعلى صوته:
أصابه أصابه خامره عاقبه عاجله عذابه أحرقه شهابه، زايله جوابه، يا ويله ما حاله، تغيرت أحواله «2» .
ثم أمسك وطفق يقول يا معشر بني قحطان:
أخبركم بالحق والبيان ... أقمت بالكعبة والأركان
والبلد المؤتمن السدان ... قد منع السمع عتاة الجان
بثاقب بكف ذي سلطان ... من أجل مبعوث عظيم الشان
يبعث بالتنزيل والفرقان ... وبالهدى وفاضل القرآن
تبطل به عبادة الأوثان
قال: فقلت: ويحك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما فماذا ترى لقومك؟
فقال:
أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير بني الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث في مكة دار الحمس
بمحكم التنزيل غير اللبس
قال: فقلنا له: من هو وما اسمه وما مدته؟ قال:
الحياة والعيش ... إنه لمن قريش
ما في حكمه من طيش ... ولا في خلقه هيش
، تكون في جيش وأي جيش ... من آل قحطان وآل أيش
،
__________
(1) البداية والنهاية: 2/ 376.
(2) في المصدر: بلبله بلباله.(5/334)
والأيش الأخلاط من كل قوم، فقلنا له من أي البطون هو فقال: بطن إسماعيل ولد إبراهيم، فقلنا له بيّن لنا من أي قريش هو؟ قال:
والبيت ذي الدعائم ... والسدير والحمائم
إنه لمن نسل «1» هاشم ... من معشر أكارم يبعث بالملاحم
وقتل كل ظالم
ثم قال: الله أكبر الله أكبر جاء الحق وأظهره وانقطع عن الإنس الخبر هذا هو البيان أخبرني به رأس الجان، ثم قال هذا وسكت وأغمي عليه فما أفاق إلّا بعد ثلاثة أيام فلما أفاق قال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله ثم مات.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سبحان الله سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة وإنه ليحشر يوم القيامة أمة وحده» [175] «2» .
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها على رحبة الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت وَأَنْبَتْنا فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ مقدر معلوم وقيل: بغى به في الجبال وهو جواهر من الفضة والذهب والحديد والنحاس وغيرها حتى الزرنيخ والكحل كل ذلك يوزن وزنا.
قال ابن زيد هي الأشياء: التي توزن.
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة وَمَنْ لَسْتُمْ يعني ولمن لستم لَهُ بِرازِقِينَ هي الدواب والأنعام.
عن شعبة قال: قرأ علينا منصور: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ قال الوحش.
قال أبو حسن: «مَنْ» في محل الخفض عطفا على الكاف والميم في قوله لَكُمْ.
وقد يفعل العرب هذا كقول الشاعر:
هلا سألت بذي الجماجم عنهم ... وأبي نعيم ذي اللوا المخرق
فعطف بالظاهر على المكنى و (مَنْ) في هذه الآية بمعنى: ما، كقوله فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ... وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ «3» ... وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ وما من شيء من أرزاق الخلق «4» إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ من السماء إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ لكل أرض حد مقدر.
__________
(1) في المصدر: نجل.
(2) الإصابة: 5/ 512، وعيون الأثر: 1/ 107.
(3) سورة النور: 45.
(4) زيادة عن تفسير القرطبي: 10/ 14.(5/335)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
قال ابن مسعود: وما من أرض أمطر من أرض، وما عام أمطر من عام ولكن الله يقسمه ويقدره في الأرض كيف يشاء عاما هاهنا وعاما هاهنا ثم قرأ هذه الآية.
وروى إسماعيل بن سالم عن الحكم بن عيينة في هذه الآية: ما من عام بأكثر مطرا من عام ولكن يمطر قوم ويحرم آخرون وربما كان في البحار والقفار قال: وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحصون كل قطرة حيث يقع وما ينبت.
جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: «في العرش مثال كل شيء خلقه الله في البر والبحر. وهو تأويل قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ»
[176] «1» .
[سورة الحجر (15) : الآيات 22 الى 27]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ قرأ العامّة بالجمع لأنها موصوفة وهو قوله: لَواقِحَ، وقرأ بعض أهل الكوفة: الريح على الواحد وهو في معنى الجمع أيضا وإن كان لفظها لفظ الواحد، لأنه يقال: جاءت الريح من كل جانب، وهو مثل قوله: أرض سباسب وثوب أخلاق، وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتّسع، وقول العلماء في وجه وصف الرياح: باللقح، وإنما هي ملقّحة لأنها تلقح السحاب والشجر.
فقال قوم: معناها حوامل لأنها تحمل الماء والخير والنفع لاقحة كما يقال: ناقة لاقحة إذا حملت الولد، ويشهد على هذا قوله: الرِّيحَ الْعَقِيمَ فجعلها عقيما إذا لم تلقح ولم يكن فيها ماء ولا خير، فمن هذا التأويل قول ابن مسعود في هذه الآية قال: يرسل الله الريح فتحمل الماء فيمري السحاب فتدرّ كما تدرّ اللقحة ثمّ يمطر.
قال الطرماح:
لأفنان الرياح للاقح ... قال منها وحائل «2»
وقال الفراء: أراد ذات لقح. كقول العرب: رجل نابل ورامح وتامر.
قال أبو عبيدة: أراد ملاقح جمع ملقحة كما في الحديث «أعوذ بالله من كل لامّة» أي ملمّة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 15.
(2) انظر: زاد المسير: 4/ 288.(5/336)
قال النابغة:
كليني لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب «1»
أي منصب.
قال زيد بن عمر: يبعث الله المبشرة فتقمّ الأرض قمّا، ثمّ يبعث الله المثيرة فتثير السحاب، ثمّ يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب، ثمّ يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر، ثمّ تلا:
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ.
وقال أبو بكر بن عياش: لا يقطر قطرة من السحاب إلّا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيه:
فالصبا تهيّجه، والدبور تلقحه، والجنوب تدرّه، والشمال تفرقه.
ويروي أبو المهزم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الريح الجنوب من الجنة وهي الرياح اللواقح التي ذكر الله في كتابه وفيها منافع للناس»
«2» .
فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي جعلنا المطر لكم سقيا، ولو أراد أنزلناه ليشربه لقال: فسقيناكموه، وذلك أن العرب تقول: سقيت الرجل ماء ولبنا وغيرهما ليشربه، إذا كان لسقيه، فإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته قالوا: أسقيته وأسقيت أرضه وماشيته، وكذلك إذا استسقت له، قالوا: أسقيته واستسقيته، كما قال ذو الرمة:
وقفت على رسم لميّة ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتّى كاد مما أبثّه ... تكلمني أحجاره وملاعبة «3»
قال المؤرخ: ما تنال الأيدي والدلاء فهو السقي وما لا تنال الأيدي والدلاء فهو الإسقاء.
وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ يعني المطر. قال سفيان: بما نعين.
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ بأن نميت جميع الخلق فلا يبقى من سوانا، نظيره قوله: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ «4» .
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ.
ابن عبّاس: أراد ب الْمُسْتَقْدِمِينَ: الأموات، والْمُسْتَأْخِرِينَ: الأحياء.
__________
(1) الصحاح: 3/ 904.
(2) تفسير الطبري: 14/ 30.
(3) المصدر السابق.
(4) سورة مريم: 40.(5/337)
عكرمة: الْمُسْتَقْدِمِينَ: من خلق، والْمُسْتَأْخِرِينَ: من لم يخلق، قد علم من خلق إلى اليوم وقد علم من هو خالقه بعد اليوم.
قتادة: المستقدمون: من مضى، والمستأخرون: من بقي في أصلاب الرجال.
الشعبي: من استقدم في أول الخلق، ومن استأخر في آخر الخلق.
مجاهد: المستقدمون: القرون الاولى، والمستأخرون: أمة محمّد (صلى الله عليه وسلم) .
الحسن: المستقدمون بالطاعة والخير، والمستأخرون المبطئون عن الطاعة والخير.
وقيل: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ في الصفوف في الصلاة، والْمُسْتَأْخِرِينَ فيها بسبب النساء.
وروى أبو الجوزاء وابن أبي طلحة عن ابن عبّاس قال: كانت النساء يخرجن إلى الجماعات فيقوم الرجال صفوفا [خلف] النبي صلّى الله عليه وسلّم والنساء صفوفا خلف صفوف الرجال، وربما كان في الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى الصف الأخير من صفوف الرجال، وربما كان في النساء من في قلبها ريبة فتتقدّم إلى أول صف النساء لتقرب من الرجال، وكانت امرأة من أحسن الناس لا والله ما رأيت مثلها قط، تصلي خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان بعض الناس ويتقدّم في الصف الأوّل لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتّى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع وسجد نظر إليها من تحت يديه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها» «1» .
وقال الربيع بن أنس: حضّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الصف الأوّل في الصلاة فازدحم الناس عليه، وكانت بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد. فقالوا: نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد، فأنزل الله تعالى هذه الآية وفيهم نزلت: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ «2» .
الأوزاعي: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ يعني المصلين في أوّل الأوقات، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ يعني المؤخرين صلاتهم إلى آخر الأوقات.
مقاتل بن حيان: يعني المستقدمين والمستأخرين في صف القتال. ابن عيينة: يعني من يسلم ومن لا يسلم.
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 247، صحيح مسلم: 2/ 32. [.....]
(2) سورة يس: 12.(5/338)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ. قال ابن عبّاس: وكلهم ميت ثمّ يحشرهم ربهم جميعا الأوّل والآخر إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني آدم (عليه السلام) ، قال إنسانا لأنه عهد إليه فنسي. وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة وقالوا: وزنه إنسيان على وزن إفعلان فأسقط الياء منه لكثرة جريانه على الألسن، فإذا صغّر ردت الياء إليه فيقول أنيسان على الأصل لأنه لا يكثر صغرا كما لا يكبر مكبرا.
وقال آخرون: إنما سمّي إنسانا لظهوره وإدراك البصر إياه وإليه ذهب نحاة البصرة وقالوا:
هو على وزن فعلان فزيدت الياء في التصغير كما زيدت في تصغير رجل فقالوا: رويجل وليلة فقالوا: لويلة.
مِنْ صَلْصالٍ وهو الطين اليابس إذا نقرته سمعت له صلصلة أي صوتا من يبسه، قيل:
أن تمسه النار فإذا أصابته النار فهو فخار، هذا قول أكثر المفسرين.
وروى أبو صالح عن ابن عبّاس: هو الطين الحرّ الطيب الذي إذا نضب عنه الماء تشقق وإذا حرّك تقعقع.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هو الطين المنتن، واختاره الكسائي وقال هو من قول العرب: صل اللحم وأصلّ إذا أنتن.
مِنْ حَمَإٍ جمع حمأة مَسْنُونٍ.
قال ابن عبّاس: هو التراب المبتل المنتن، يجعل صلصالا كالفخار ومثله، قال مجاهد وقتادة: المنتن المتغير.
قال الفرّاء: هو المتغير وأصله من قول العرب: سننت الحجر على الحجر أي أحككته وما يخرج من بين الحجرين يقال له السنن والسنانة ومنه المسن.
أبو عبيدة: هو المصبوب، وهو من قول العرب: سننت الماء على الوجه وغيره إذا صببته.
[سيبويه] : المسنون: المصور، مأخوذ من سنة الوجه وهي صورته.
قال ذو الرمة:
[تريك] سنة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب «1» .
وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ.
قال ابن عبّاس: هو أب الجن.
__________
(1) لسان العرب: 9/ 281.(5/339)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
قتادة ومقاتل: هو إبليس، خلق قبل آدم.
مِنْ نارِ السَّمُومِ.
قال ابن عبّاس: السموم: الحارة التي تقتل.
الكلبي عن أبي صالح عنه: هي نار لا دخان لها والصواعق تكون منها، وهي نار بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله له أمرا خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت، فالهدّة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب.
أبو روق عن الضحاك عن ابن عبّاس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ.
روى سعيد عن أبي إسحاق قال: دخلت على عمرو بن الأصم أعوده فقال: ألا أحدثك حديثا سمعته من عبد الله [قال: بلى، قال:] سمعت عبد الله يقول: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان وتلا: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ.
[سورة الحجر (15) : الآيات 28 الى 50]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47)
لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ سأخلق بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ عدلت صورته وأتممت خلقه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فصار بشرا حيا فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ سجود تحية وتكرمة لا سجود صلاة وعبادة فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ المأمورون بالسجود كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ على التأكيد إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ.(5/340)
روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: لما خلق الله الملائكة قال: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، قالوا: لا نفعل. فأرسل عليهم نارا فأحرقهم. ثمّ خلق ملائكة فقال: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فأبوا، فأرسل الله عليهم نارا فأحرقهم. ثمّ خلق ملائكة فقال: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، قالوا: سمعنا وأطعنا إلّا إبليس كانَ مِنَ الْكافِرِينَ.
قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ محل (أن) النصب بفقد الخافض.
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة ومن السماوات فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ملعون طويلا وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي بإغوائك إياي وهو الإضلال والإبعاد لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ معاصيك ولأحببنّها إليهم وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ لأضلنهم أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.
قرأ أهل الكوفة والمدينة والشام: بفتح اللام. واختاره أبو عبيد، يعني إلّا من أخلصته بتوفيقك فهديته واصطفيته.
وقرأ أهل مكة والبصرة: بكسر اللام، واختاره أبو حاتم، يعني من أخلص لك بالتوحيد والطاعة. وأراد بالمخلصين في القرائتين جميعا: المؤمنين.
قالَ الله لإبليس هذا صِراطٌ طريق عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ.
قال الحسن: هذا صراط إليّ مستقيم.
وقال مجاهد: الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج على شيء.
وقال الأخفش: يعني على الدلالة صراط مستقيم.
وقال الكسائي: هذا على الوعيد فإنه تهديد كقولك للرجل خاصمته وتهدده: طريقك عليّ، كما قال الله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «1» فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلّا بأعمالهم.
وقال ابن سيرين وقتادة وقيس بن عبادة وحميد ويعقوب: هذا صراطٌّ عليٌّ برفع الياء على نعت الصراط أي رفيع، كقوله: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا «2» .
__________
(1) سورة الفجر: 14.
(2) سورة مريم: 57.(5/341)
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قوة.
قال أهل المعاني: يعني على قلوبهم.
وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية، فقال: معناه لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عبدي، وهؤلاء يثبت الله الذين رأى فيهم إحسانهم.
إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ أطباق لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ يعني من أتباع إبليس جُزْءٌ مَقْسُومٌ حظ معلوم.
وقال عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) : تدرون كيف أبواب النار؟ قلنا: نعم كنحو هذه الباب.
فقال: لا ولكنها هكذا- ووضع إحدى يديه على الأخرى- وإن الله تعالى وضع الجنان على الأرض، ووضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم وفوقها لظى وفوقهما الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية.
وأبو سنان عن الضحاك في قول الله: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ قال: للنار سَبْعَةُ أَبْوابٍ هي سبعة أدراك بعضها على بعض.
فأولها: أهل التوحيد يعذّبون على قدر أعمالهم وأعمارهم في الدنيا ثمّ يخرجون.
والثاني: فيه اليهود.
والثالثة: فيه النصارى.
والرابع: فيه الصابئون.
والخامسة: فيه المجوس.
والسادس: فيه مشركوا العرب.
والسابع: فيه المنافقون.
فذلك قوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «1» الآية.
أبو رياح عن أنس بن مالك عن بلال قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي في مسجد المدينة وحده، فمرّت به أعرابية فاشتهت أن تصلي خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين، فدخلت وصلت ولم يعلم بها رسول الله، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بلغ هذه الآية: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ فخرّت الأعرابية مغشية عليها فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبتها فانصرف وقال: «يا بلال عليّ بماء» فجاء فصب على وجهها حتّى أفاقت وجلست، فقال
__________
(1) سورة النساء: 145.(5/342)
لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا هذه ما حالك؟» فقالت: رأيتك تصلي وحدك فاشتهيت أن أصلي خلفك ركعتين، فهذا شيء من كتاب الله أو تقول من تلقاء نفسك؟
قال بلال: فما أحسبه إلّا قال: «يا أعرابية بل هو في كتاب الله المنزل» .
فقالت: كل عضو من أعضائي يعذب على باب منها.
فقال: «يا أعرابية لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ يعذب على كل باب على قدر أعمالهم» .
فقالت: والله إني لامرأة مسكينة مالي مال ومالي إلّا سبعة أعبد أشهدك يا رسول الله أن كل عبد منهم على كل باب من أبواب جهنم حرّ لوجه الله. فأتاه جبرئيل فقال: يا رسول الله بشّر الأعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها، وفتح لها أبواب الجنة كلها «1» .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها قرأه العامة بوصل الألف وضم الخاء على الأمر، مجازه: يقال لهم ادخلوها.
وقرأ الحسن: أُدْخِلُوها بضم الهمزة وكسر الخاء على الفعل المجهول، وحينئذ لا يحتاج إلى الضمير.
بِسَلامٍ بسلامة آمِنِينَ من الموت والعذاب والآفات وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً نصب على الحال، وإن شئت قلت: جعلناهم إخوانا عَلى سُرُرٍ جمع سرير مثل جديد جدد مُتَقابِلِينَ يقابل بعضهم بعضا لا ينظر أحد منهم في قفا صاحبه لا يَمَسُّهُمْ لا يصيبهم فِيها نَصَبٌ تعب وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ أخبر عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
قال ابن عبّاس: يعني لمن تاب منهم.
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ لمن لم يتب منهم.
روى ابن المبارك عن مصعب بن ثابت عن عاصم بن عبيد الله عن ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: طلع علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك، فقال: «لا أراكم تضحكون» ، ثمّ أدبر حتّى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال: «إني لمّا خرجت جاء جبرئيل فقال: يا محمّد لم تقنّط عبادي نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «2» .
__________
(1) التخويف من النار لابن رجب الحنبلي: 59 بتفاوت، وتفسير القرطبي: 10/ 32 سواء.
(2) تفسير الطبري: 14/ 52، تفسير القرطبي: 10/ 34.(5/343)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
وقال قتادة: بلغنا أنّ نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورّع عن محارم الله، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه» «1» .
[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 86]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ يعني الملائكة الذين أرسلهم الله ليبشروا إبراهيم بالولد ويهلكوا قوم لوط إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ جمع الخبر لأن الضيف اسم يصلح للواحد والإثنين والجمع والمؤنث والمذكر فَقالُوا سَلاماً قالَ إبراهيم إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [خائفون] قالُوا لا تَوْجَلْ لا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ يعني إسحاق، فعجب إبراهيم من كبره وكبر امرأته قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي على الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ فأي شيء تبشرون.
واختلف القراء في هذا القول، فقرأ أهل المدينة والشام بكسر النون والتشديد على معنى تبشرونني، فأدغمت نون الجمع في نون الإضافة.
وقرأ بعضهم: بالتخفيف على الخفض.
وقرأ الباقون: في النون من غير إضافة.
__________
(1) تفسير الطبري: 14/ 52، تفسير ابن كثير: 2/ 574.(5/344)
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ.
قرأه العامّة: بالألف.
وقرأ يحيى بن وثاب: القانطين.
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ.
قرأ الأعمش وأبو عمرو والكسائي بكسر النون، وقرأ الباقون: بفتحه [وقال الزجاج] : قنط يقنط، وقنط يقنط إذا يئس من رحمة الله.
مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ قالَ لهم إبراهيم فَما خَطْبُكُمْ شأنكم وأمركم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ مشركين إِلَّا آلَ لُوطٍ أتباعه وأهل دينه إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ.
قرأ أهل الحجاز وعاصم وأبو عمرو: (لَمُنَجُّوهُمْ) بالتشديد، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وخففه الآخرون.
إِلَّا امْرَأَتَهُ سوى امرأة لوط قَدَّرْنا قضينا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ الباقين في العذاب، وخفف ابن كثير قَدَرْنا.
قال أبو عبيد: استثنى آل لوط من القوم المجرمين، ثمّ استثنى امرأته من آل لوط فرجعت امرأته في التأويل إلى القوم المجرمين، لأنه استثناء مردود على استثناء، وهذا كما تقول في الكلام: لي عليك عشرة دراهم إلّا أربعة إلّا درهما، فلك عليه سبعة دراهم لأنك لما قلّت:
إلّا أربعة، كان لك عليه ستة، فلما قلت: إلّا درهما كان هذا استثناء من الأربعة فعاد إلى الستة فصار سابعا.
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ لوط لهم إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ يعني لا أعرفكم قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ يعني يشكّون إنه ينزل بهم وهو العذاب وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وجئناك باليقين، وقيل: بالعذاب وَإِنَّا لَصادِقُونَ في قولنا فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي كن ورائهم وسر خلفهم وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ.
قال ابن عبّاس: يعني الشام. وقال خليل: يعني مصدر.
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ يعني وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر، وأخبرناه أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ.
يدل عليه قراءة عبد الله: وقلنا له إن دابر هؤلاء، يعني أصلهم، مَقْطُوعٌ مستأصل مُصْبِحِينَ في وقت الصبح إذ دخلوا فيه وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يعني سدوم يَسْتَبْشِرُونَ(5/345)
بأضياف لوط طمعا منهم في ركوب الفاحشة قالَ لوط لقومه إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي وحق على الرجل بإكرام ضيفه فَلا تَفْضَحُونِ فيهم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فلا تهينون ولا تخجلون، يجوز أن يكون من الخزي، ويحتمل أن يكون الخزاية قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أو لم ننهك أن تضيّف أحدا من العالمين.
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي أزوجهنّ إياكم إن أسلمتم فأتوا النساء الحلال ودعوا ما حرم الله عليكم من إتيان الرجال إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ما أمركم به.
قال قتادة: أراد أن يقي أضيافه ببناته، وقيل: رأى أنهم سادة إليهم يؤول أمرهم فأراد أن يزوجهم بناته ليمنعوا قومهم من التعرّض لأضيافه، وقيل: أراد بنات أمته لأن النبي [أب] لامته، قال الله لَعَمْرُكَ يا محمّد يعني وحياتك.
وفيه لغتان: وعمر وعمر.
يقول العرب: عمرك وعمرك.
إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ ضلالتهم وحيرتهم يَعْمَهُونَ يترددون.
قاله مجاهد، وقال قتادة: يلعبون.
ابن عبّاس: يتمادون.
أبو الجوزاء عن ابن عبّاس قال: فالخلق لله عزّ وجلّ ولا برأ ولا ذرأ نفسا أكرم عليه من محمّد، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلّا حياته قال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ حيث أشرقت الشمس، أي أضاءت، وهو نصب على الحال فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال ابن عبّاس والضحاك: للناظرين.
مجاهد: للمتفرسين.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» «1» [177] ثمّ قرأ هذه الآية.
وقال الشاعر:
توسمته لما رأيت مهابة ... عليه وقلت المرء من آل هاشم «2»
وقال آخر:
__________
(1) سنن الترمذي: 4/ 360.
(2) كتاب العين: 7/ 322، تفسير القرطبي: 10/ 43.(5/346)
أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم «1»
وقال قتادة: للمعتبرين.
وَإِنَّها يعني قرى قوم لوط لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ بطريق واضح.
قاله قتادة، ومجاهد، والفراء، والضحاك: بطريق معلّم ليس بخفي ولا زائغ.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ وقد كان أصحاب الغيضة لكافرين، وهم قوم شعيب كانوا أصحاب غياض ورياض وشجر متناوش متكاوش ملتف وكانوا يأكلون في الصيف الفاكهة الرطبة وفي الشتاء اليابسة وكان عامة شجرهم الدوم وهو المقل فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالعذاب، وذلك أن الله سلّط عليهم الحرّ سبعة أيام لا يمنعهم منه شيء، فبعث الله عليهم سحابة فالتجأوا إلى ظلّها يلتمسون روحها فبعث الله عليهم منها نارا فأحرقتهم «2» فذلك قوله: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وَإِنَّهُما يعني مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب الأيكة لَبِإِمامٍ مُبِينٍ طريق مستبين، وسمّي الطريق إماما لأنه يؤتم به.
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ أي الوادي، وهو مدينة ثمود وقوم صالح وهي فيما بين المدينة والشام الْمُرْسَلِينَ أراد صالحا وحده.
عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله قالا: مررنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم على الحجر، فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلّا أن تكونوا باكين حذرا بأن يصيبكم مثل ما أصابهم» ثمّ قال: «هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلّا رجلا في حرم الله منعه حرم الله من عذاب الله» قيل: من هو يا رسول الله؟ قال: «أبو رغال» [178] ثمّ زجر صلّى الله عليه وسلّم فأسرع حتّى خلفها «3» .
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا يعني الناقة وولدها و [السير] «4» فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من الخراب ووقوع الجبل عليهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ يعني صيحة العذاب والهلاك مُصْبِحِينَ في وقت الصبح وهو نصب على الحال فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الشرك والأعمال الخبيثة. وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ وإن القيامة لجائية فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ فأعرض عنهم واعف عفوا حسنا، نسختها آية القتال.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ.
__________
(1) البيت لطريف بن تميم العنبري، انظر: تفسير الطبري: 16/ 113، الصحاح: 4/ 1402.
(2) تفسير الثعالبي: 4/ 235، الدرّ المنثور: 4/ 104.
(3) جامع البيان للطبري: 14/ 66، كنز العمال: 16/ 16 ح 43742.
(4) هكذا في الأصل. [.....](5/347)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
[سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 99]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي اختلفوا فيه.
روى عبد الوهاب عن ابن مسعود عن أبي نصر عن رجل من عبد القيس يقال له جابر أو جويبر عن ابن مسعود أن عمر قال: السبع المثاني هي فاتحة الكتاب.
روى إسماعيل السدي عن عبد خير عن علي (رضي الله عنه) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال:
فاتحة الكتاب [179] .
عن ابن سيرين أن ابن مسعود قال في السبع المثاني: فاتحة الكتاب، وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ سائر القرآن.
وعن عبد الرحمن عن أحمد الطابقي قال: أتيت أبا هريرة وهو في المسجد فقرأت عليه فاتحة القرآن.
فقال أبو هريرة: هذه السبع المثاني.
شعبة عن قتادة في قوله: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، قال: هي فاتحة الكتاب.
وسمعت الكلبي يقول: هي أمّ الكتاب.
ابن جريج عن عطاء في قوله تعالى سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: هي أم القرآن والآية السابعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
وهذا قول الحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير وإبراهيم وابن أبي مليكة وعبد الله بن عبيد ابن عمرو ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وصالح الحنفي قاضي مرو.
ويدل عليه ما روى أبو سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ سبع آيات إحداهن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وهي السبع المثاني وهي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب» [180] «1» .
__________
(1) تفسير الطبري: 1/ 73.(5/348)
وروى ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم» [181] .
وروى حفص بن عاصم عن أبي سعيد المعلّى عن أبيّ بن كعب قال: كنت أصلي فناداني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم أجبه، فلمّا صلّيت أتيته، فقال: «ما منعك أن تجيبني» ؟ قلت: كنت أصلي، قال: «أو لم يقل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ «1» » [182] الآية.
ثمّ قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن نخرج من المسجد» فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن.
قال: «نعم، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت» «2» .
وعن أبي هريرة قال: قرأ أبي بن كعب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ القرآن. فقال: «والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت» [183] «3» .
عن ابن جريج قال: أخبرني أبي أنّ سعيد بن جبير أخبره فقال له: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، قال: هي أم القرآن، قال: هي، وقرأ عليّ سعيد بن جبير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حتّى ختمها، ثمّ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الآية السابعة.
قال سعيد بن جبير: لأبي: وقرأ عليّ ابن عبّاس كما قرأتها عليك، ثمّ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآية السابعة:
قال ابن عبّاس: قد ادخرها الله لكم فما أخرجها لأحد قبلكم.
فقلت: هذه إختيار الصحاح إن السبع المثاني هي فاتحة الكتاب، وأن الله تعالى امتن على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بهذه السورة كما امتن عليه بجميع القرآن، وقيل: نزلت هذه السورة في [خيبر] .
وفي هذا دليل على إن الصلاة لا تجوز إلّا بها ويؤيد ما قلنا ما
روى الزهري عن محمّد بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فاتحة الكتاب عوض من كل القرآن، والقرآن كلّه ليس منه عوض» [184] .
واختلف العلماء في حديث آيات هذه السورة مثاني، فقال ابن عبّاس والحسن وقتادة والربيع: لأنها تثنى في كل صلاة وفي كل ركعة.
__________
(1) سورة الأنفال: 24.
(2) مسند أبي داود الطيالسي: 178 والسنن الكبرى: 6/ 375.
(3) المصدر السابق.(5/349)
وقال بعضهم: سمّيت مثاني لأنها مقسومة بين الله وبين العبد قسمين اثنين، بيانه والذي يدل عليه ما
روى أبو السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج غير تمام» [185] «1» .
قال أبو السائب لأبي هريرة: إني أحيانا أكون وراء الامام.
قال: فغمز أبو هريرة ذراعي، وقال: يا فارسي اقرأها في نفسك إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل» .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرؤا، يقول: العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فيقول الله: حمدني عبدي، ويقول العبد: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فيقول الله: أثنى عليّ عبدي، فيقول العبد: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فيقول الله: مجّدني عبدي، يقول العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال: هذه الآية بيني وبين عبدي، يقول العبد: اهْدِنَا الصِّراطَ إلى آخره، يقول الله: فهذا لعبدي ولعبدي ما سأل» [186] «2» .
ويقال: سمّيت (مثاني) لأنها منقسمة إلى قسمين: نصفها ثناء ونصفها دعاء، ونصفها حق الربوبية ونصفها حق العبودية، وقيل: لأن ملائكة السماوات يصلّون الصلوات بها، كما أن أهل الأرض يصلّون بها. وقيل: لأن حروفها وكلماتها مثنّاة، ومثل الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِيَّاكَ وإِيَّاكَ، الصِّراطَ ... صِراطَ، عَلَيْهِمْ ... عَلَيْهِمْ، غَيْرِ ... غير، في قراءة عمر.
وقال الحسين بن الفضل وغيره: لأنها تقرأ مرّتين كل مرّة معها سبعون ألف ملك، مره بمكة من أوائل ما نزل من القرآن، ومرة بالمدينة، والسبب هو أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود بني قريضة والنضير في يوم واحد وفيها أنواع من البز وأوعية [وأفاوية] الطيب والجواهر وأمتعة البحر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله فأنزل الله تعالى هذه السورة «3» .
وقال: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع القوافل، ودليل هذه التأويل قوله في عقبها: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية.
وقيل: لأنها متصدرة بالحمد، والحمد كل كلمة تكلم بها آدم حين عطس وهي آخر كلام أهل الجنة من ذريته، قال الله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «4» .
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 285.
(2) الدرّ المنثور: 1/ 6، الجامع الصغير: 2/ 237.
(3) أسباب النزول للواحدي: 187.
(4) سورة يونس: 10.(5/350)
وقيل: لأن الله استثناها وادّخرها لهذه الأمة فما أعطاها غيرهم، كما روينا في خبر سعيد ابن جبير عن ابن عبّاس.
وقال أبو زيد اللخمي: لأنها تثني أهل الدعارة والشرارة عن الفسق والبطالة من قول العرب ثنيت عنائي، قال الله: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ «1» .
وقيل: لأن أولها ثناء على الله عزّ وجلّ.
وقال قوم: إن السبع المثاني هو السبع الطوال، وهي: سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة معا.
وقال بعضهم: يونس، وعليه أكثر المفسرين.
روى سفيان عن منصور عن مجاهد عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، قال: السبع الطوال.
سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: هو السبع الطوال.
وهو قول عمر، ورواية أبي بشر وجعفر بن المغيرة ومسلم البطين عن سعيد بن جبير، ورواية ليث وابن أبي نجيح عن مجاهد، ورواية عبيد بن سليمان عن الضحاك. يدل عليه ما
روى أبو أسماء الرحبي عن ثوبان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المبين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصّل» [187] «2» .
وروى الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: أوتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السبع المثاني الطوال، وأعطي موسى ستا فلما ألقى الألواح رفعت اثنان وبقي أربع.
روى عروة عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أخذ السبع الأول فهو حبر» [188] «3» .
قال ابن عبّاس: وإنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر تثبت فيه.
طاوس وأبو مالك: القرآن كلّه مثاني، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس قال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «4» وسمّي القرآن مثاني لأن القصص ثبتت فيه.
__________
(1) سورة هود: 5.
(2) تفسير القرطبي: 13/ 87 وفيه: وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهنّ نبي قبلي.
(3) مسند أحمد: 6/ 82.
(4) سورة الزمر: 23.(5/351)
وعلى هذا القول المراد بالسبع سبعة أسباع القرآن. ويكون فيه إضمار تقديره: وهي للقرآن العظيم.
فاحتج بقول الشاعر:
الى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم «1»
مجازة: الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة في المزدحم.
وروى عتاب بن بشر عن حنيف عن زياد بن أبي مريم في قوله: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال:
أعطيتك سبعة أجزاء وهي سبع معان في القرآن: مرّ، وانه، وبشّر، وأنذر، واضرب الأمثال وأعدد النعم، وآتيتك نبأ القرآن «2» .
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ يا محمّد إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً أصنافا مِنْهُمْ من الكفار متمنيا إياها. نهى رسوله عن الرغبة في الدنيا.
وقال أنس: مرّت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إبل أيام الربيع وقد حبست في أبعارها وأبوالها. فغطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عينه بكمّه وقال: «بهذا أمرني ربي» [189] ثمّ تلا هذه الآية.
وَاخْفِضْ جَناحَكَ ليّن جانبك لِلْمُؤْمِنِينَ وارفق بهم.
والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه قوله: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ أي جنبك وناحيتك.
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَما أَنْزَلْنا، قال الفراء: مجازه: أنذركم عذابا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. فأختلفوا فيهم.
فروى الأعمش عن أبي ظبيان قال: سمعت ابن عبّاس يقول في قوله: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، قال: هم اليهود والنصارى.
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ جزّءوه فجعلوه أعضاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
وقال عكرمة: سمّوا مقتسمين لأنّهم كانوا يستهزؤن فيقول بعضهم: هذه السورة لي. وقال بعضهم: هذه لي، فيقول أحدهم: لي سورة البقرة، ويقول الآخر: لي سورة آل عمران.
وقال مجاهد: هم اليهود والنصارى، قسّموا كتابهم ففرّقوه وبدّدوه.
وقال مقاتل: كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا عقاب
__________
(1) تفسير الطبري: 2/ 137، تفسير القرطبي: 1/ 385.
(2) تفسير الطبري: 14/ 76. [.....](5/352)
مكة وطرقها وقعدوا على أبوابها وأنقابها وإذا جاء الحجاج، قال فريق منهم: لا تغتروا بخارج منّا يدعي النبوة فإنه مجنون.
وقالت طائفة أخرى: على طريق آخر أنه كاهن.
وقالت طائفة: عرّاف. وقالت طائفة شاعر، والوليد قاعد على باب المسجد نصبوه حكما، فإذا سئل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: صدق لوليك المقتسمين.
وقال مقاتل بن حيان: هم قوم اقتسموا القرآن، فقال بعضهم: سحر، وقال بعضهم:
سمر، وقال بعضهم: كذب. وقال بعضهم: شعر، وقال بعضهم: أساطير الأولين.
وقال بعضهم: هم الذين تقاسموا صالح وأرادوا تبييته.
وقرأ قول الله: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ «1» الآية.
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ يعني عضوا كتاب الله ونبيه وأمره ونهيه أي كذبوا.
وقوله: عِضِينَ، قال بعضهم: هو جمع عضو وهو مأخوذ من قولهم عضيت يعضيه إذا فرّقته.
وقال رؤبة:
وليس دين الله بالمعضى «2»
يعني: بالمفرّق.
وقال آخر:
وعضى بني عوف، فأما عدوهم ... فأرضي وأمّا العز منهم فغيرا «3»
يعني بقوله عضّني بني عوف: سبّاهم وقطعهم بلسانه.
وقال آخرون: بل هو جمع عضة، يقال: عضه وعضين. مثل يره ويرين، وكرة وكرين، وقلة وقلين، وعزة وعزين، وأصله عضهه ذهبت هاؤها الأصلية كما نقصوا الهاء من الشفة وأصلها شفهه ومن الشاة وأصلها شاهه يدلك على ذلك التصغير تقول: شفيهة وغويهة، ومعنى العضة: الكذب والبهتان،
وفي الحديث: «لا يعضه بعضكم بعضا» «4» .
__________
(1) سورة النمل: 48. 49.
(2) تفسير الطبري: 14/ 306.
(3) تفسير الطبري: 14/ 87.
(4) مسند أبي داود الطيالسي: 79، الجامع الصغير: 2/ 757، ح 9974.(5/353)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يوم القيامة عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا.
وروى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية قال: «عن لا إله إلّا الله» «1» .
قال عبد الله: والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلّا سيخلو الله تعالى به يوم القيامة، [كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر] فيقول: يا ابن آدم ماذا غرك مني، يا ابن آدم ما عملت فيما علمت، يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين «2» .
واعترضت الملحدة بأبصار كليلة وأفهام عليلة على هذه الآية على قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ «3» وحكموا عليهما بالتناقض.
والجواب عنه: ما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في قوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ وقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ «4» . قال:
لا نسألهم هل عملتم كذا وكذا، لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لهم: لم عملتم كذا وكذا؟
واعتمد قطرب هذا القول، وقال: السؤال على ضربين: سؤال استعلام واستخبار، وسؤال توبيخ وتقرير. فقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ يعني استعلاما واستخبارا، لأنه كان عالما بهم قبل أن يخلقهم. وقوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يعني تقريعا وتقريرا ليريهم القدرة في تعذيبنا إياهم.
وقال عكرمة: سألت مولاي عبد الله بن عبّاس عن الآيتين، فقال: إن يوم القيامة يوم طويل وفيه مواقف، يسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها. ونظيره قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ «5» وقال في آية أخرى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ «6» .
وقال بعضهم: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ إذا كان المذنب مكرها مضطرا، ولَنَسْئَلَنَّهُمْ إذا كانوا مختارين، وقيل: لا يسأل إذا كان الذنب في حال الصبى أو الجنون أو النوم، بيانه
قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«رفع القلم عن ثلاث»
«7» [190] وقولهم: لَنَسْئَلَنَّهُمْ، إذا كان عملهم خارجا من هذه الأحوال، وقيل: لا يسأل إذا كان الذنب في حال الكفر.
__________
(1) مسند أبي يعلي: 7/ 112.
(2) انظر: تفسير الطبري: 14/ 90، وتفسير القرطبي: 2/ 579.
(3) سورة الرحمن: 39.
(4) سورة الرحمن: 39.
(5) سورة الأنفال: 48.
(6) سورة الزمر: 31.
(7) مسند أحمد: 1/ 116.(5/354)
وقوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ يعني المؤمنين، بيانه قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ «1»
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الإسلام يجبّ ما قبله» [191] «2» .
فَاصْدَعْ.
قال ابن عبّاس: أظهر. الوالبي عنه: فاقض.
عطية عنه: افعل. الضحاك: اعلم، الأخفش: افرق، المؤرّج: افصل، سيبويه: اقض.
بِما تُؤْمَرُ يعني بأمرنا (ما) المصدر.
وأصل الصدع: الفصل والفرق.
قال ذؤيب يصف الحمار والأتن:
وكأنهن ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع «3»
[وقيل] : أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإظهار الدعوة.
روى موسى عن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: ما زال النبي صلّى الله عليه وسلّم مستخفيا حتّى نزلت فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فخرج هو وأصحابه.
وقال مجاهد: أراد الجهر بالقرآن في الصلاة.
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لا تبال بهم إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
يقول الله جل ثناؤه لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فَاصْدَعْ بأمر الله ولا تخف شيئا سوى الله فإن الله كافيك من عاداك وآذاك كما كفاك المستهزئين وهم من قريش ورؤسائهم خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، وعبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان رأسهم، والعاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعيد بن سهم، والأسود بن المطلب بن الحرث بن [أسد] بن عبد العزى أبو زمعة- وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد دعا عليه فقال: «اللهم أعم بصره وأثكله بولده» [192] «4» - والأسود بن عبد يغوث بن وهب ابن عبد مناف بن زهرة، والحرث بن قيس بن الطلاطلة فإنه عيطل.
فأتى جبرئيل محمدا صلّى الله عليه وسلّم والمستهزئون يطوفون بالبيت، فقام جبرئيل وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جنبه فمرّ به الوليد بن المغيرة، فقال جبرئيل: يا محمّد كيف تجد هذا، قال: بئس عبد الله.
__________
(1) سورة الأنفال: 48.
(2) مجمع الزوائد: 9/ 351.
(3) تفسير القرطبي: 10/ 61، ولسان العرب: 1/ 406. [.....]
(4) جامع البيان للطبري: 14/ 94.(5/355)
قال: «قد كفيت» «1» [193] وأومأ إلى ساقه ويده، فمرّ برجل من خزاعة [نبّال] يريّش نبلا له وعليه برد يمان وهو يجر إزاره فتعلقت شظيّة من نبل بإزاره فمنعه الكبر أن يطمئن ونبذ عمامته وجعلت تضرب ساقه فخدشته فمرض منه ومات.
وقال الكلبي: تعلّق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه فمات.
ومرّ به العاص بن وائل، فقال جبرئيل: كيف تجد هذا يا محمّد؟ قال: «بئس عبد الله» ، فأشار جبرئيل لأخمص رجله وقال: «قد كفيت» وقد خرج على راحلته ومعه اثنان يمنعانه فنزل شعبا من تلك الشعاب فوطئ على شرقة فدخلت منها شوكة في أخمص رجله، فقال: الوقت لدغت. فطلبوا ولم يجدوا شيئا فانتفخت رجله حتّى صارت مثل عنق بعير فمات مكانه.
ومرّ به الأسود بن عبد المطلب، فقال جبرئيل: كيف تجد هذا يا محمّد؟
قال: «عبد سوء» فأشار إلى عينه، وقال: «قد كفيت» فعمى [194] «2» .
قال ابن عبّاس: رماه جبرئيل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتّى هلك.
وفي رواية الكلبي: أتاه جبرئيل وهو قاعد في ظل شجرة ومعه غلام له فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك واستغاث بغلامه، فقال غلامه: لا أرى أحدا يصنع بك شيئا غير نفسك حتّى مات وهو يقول: قتلني ربّ محمّد.
ومرّ به الأسود بن عبد يغوث فقال جبرئيل: كيف تجد هذا؟ فقال: «بئس عبد الله، على أنه خالي» ، فقال: قد كفيت، وأشار إلى بطنه فشقّ بطنه فمات حينها «3» .
وفي رواية الكلبي: أنه خرج من أهله فأصابه السموم فاسودّ حتّى عاد حبشيا فأتى أهله فلم يعرفوه فأغلقوا دونه الباب وهو يقول: قتلني ربّ محمّد.
ومرّ به الحرث بن قيس، فقال جبرئيل (عليه السلام) : يا محمّد كيف تجد هذا؟ قال: «عبد سوء» فأومأ إلى رأسه وقال: قد كفيت، فأمتخط قيحا فقتله.
وقال ابن عبّاس: إنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب عليه من الماء حتّى اتّقد بطنه فمات، فذلك قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ يعنى بك وبالقرآن.
__________
(1) زاد المسير: 4/ 309.
(2) مجمع البيان: 6/ 133.
(3) تفسير الطبري: 14/ 97 بتفصيل وتفاوت.(5/356)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وعيدهم وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ.
قال ابن عبّاس: فصلّ يا محمّد لربك.
وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ المتواضعين.
وقال الضحاك: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قال سبحان الله وبحمده وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي المصلين.
ويروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة.
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ يعني الموت، ومجازه: الموفق به.
روى يونس بن زيد عن ابن شهاب: أن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره عن أم العلاء- امرأة من الأنصار قد بايعت النبي صلّى الله عليه وسلّم- أخبرته أنهم اقتسموا المهاجرين قرعة قالت: فصار لنا عثمان ابن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي مات فيه، فلما توفي وغسّل وكفّن في ثوبه دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا عثمان بن مظعون رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما يدريك أن الله أكرمه» قالت: فقلت: بأبي أنت يا رسول الله فمه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا هو فقد جاءه اليقين وو الله إني لأرجو له الخير» «1» .
قالوا: فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أوحي إليّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إليّ أن سبح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» [195] «2» .
__________
(1) تفسير الطبري: 14/ 101، المستدرك: 1/ 379.
(2) تفسير القرطبي: 10/ 64، تفسير الثعالبي: 3/ 409.(5/357)
محتوى الجزء الخامس من كتاب تفسير الثعلبي
سورة التوبة 5 سورة يونس (عليه السلام) 116 سورة هود (عليه السلام) 156 سورة يوسف عليه السلام 196 سورة الرعد 267 سورة إبراهيم (عليه السلام) 304 سورة الحجر 330(5/359)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
الجزء السادس
سورة النحل
مكية، إلى قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخره وهي سبعة ألف وسبعمائة وسبعة أحرف، والفان وثمانمائة وأربعون كلمة، ومائة وثمان وعشرون آية
أبو أمامة الباهلي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ومن قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بالنعم التي أنعمها عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كالذي مات فأحسن الوصية» [1] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي جاء فدنا، واختلفوا في هذا الأمر ما هو.
فقال قوم: هو الساعة.
قال ابن عبّاس: لما أنزل الله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قال الكفار بعضهم لبعض: إن هذا يزعم [أن] يوم القيامة قد قرب فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء، قالوا: ما نرى شيئا، فأنزل الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ «2» الآية.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 6/ 135.
(2) سورة الأنبياء: 1.(6/5)
فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة، فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمّد ما نرى شيئا مما تخوّفنا به فأنزل الله أَتى أَمْرُ اللَّهِ «1» فوثب النبي صلّى الله عليه وسلّم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين- وأشار بإصبعيه- إن كادت لتسبقني» [2] «2» .
وقال ابن عبّاس: كان بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم من أشراط الساعة. وأن جبرئيل لما مرّ بأهل السماوات مبعوثا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم قالوا: الله أكبر قد قامت الساعة.
قال الآخرون: الأمر هاهنا العذاب بالسيف، وهو جواب للنضر بن الحرث حين قال:
اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «3» - الآية- يستعجل العذاب، فأنزل الله هذه الآية، وهذا من الجواب المقصور فقتل النضر يوم بدر صبرا.
وقال الضحاك: أَمْرُ اللَّهِ: الأحكام والحدود والفرائض.
والقول الأوّل أولى بالصواب لأنه لم يبلغنا أن أحدا من الصحابة مستعجل بفريضة الله قبل أن تفرض عليهم، وأمّا مستعجل العذاب من المشركين فقد كانوا كثيرا.
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ.
قرأه العامّة: بضم الياء وكسر الزاي المشدد، الملائكة نصب. وخففه معظم أهل مكة والبصرة بمعنى ينزل الله.
وقرأ المفضل وروح وسهيل وزيد: يَنْزَلُ بفتح الياء والزاي، الْمَلائِكَةُ رفع.
وقرأ الأعمش: يَنْزِلُ بفتح الياء وجزم النون وكسر الزاي من النزول، والْمَلائِكَةُ رفع على هاتين القرائتين والفعل للملائكة.
بِالرُّوحِ بالوحي سمّاه روحا، لأنه تحيا به القلوب والحق، ويموت به الكفر والباطل.
وقال عطاء: بالنبوة فطرة يلقى الروح من أمره.
قتادة: بالرحمة.
أبو عبيدة: بِالرُّوحِ، يعني: مع الروح وهو جبرئيل.
مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ محله نصب بنزع الخافض، ومجازه بأن أَنْذِرُوا أعلموا، من قولهم: أَنْذِرْ بِهِ أي أعلم أَنَّهُ في محل النصب بوقوع الإنذار عليه.
__________
(1) سورة النحل: 1.
(2) أسباب النزول: 187.
(3) سورة الأنفال: 32.(6/6)
لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ يجادل بالباطل مُبِينٌ نظيره قوله: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً «1» نزلت هذه الآية في أبي بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمّد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ نظيرها قوله: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ «2» إلى آخر السورة نزلت في هذه القصة أيضا.
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها يعني الإبل والبقر والغنم لَكُمْ فِيها دِفْءٌ يعني من أوبارها وأصوافها وأشعارها ملابس و [لحفا] وقطن يستدفئون وَمَنافِعُ بالنسل والدرّ والركوب والحمل وغيرها وَمِنْها تَأْكُلُونَ يعني لحومها وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ أي حين يردّونها بالعشي من مراعيها إلى مباركها التي تأوى إليها. يقال: أراح فلان ماشيته يريحها إراحة، والمكان الذي يراح إليه: مراح.
وَحِينَ تَسْرَحُونَ اي يخرجونها بالغداة من مراعيها إلى مسارحها. يقال: سرّح ماشيته يسرّحها سرحا وسروحا إذا أخرجها للرعي، وسرحت الماشية سروحا إذا رعت.
قال قتادة: وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها طوالا أسنمتها.
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ آخر غير بلدكم.
عكرمة: البلد مكة.
لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ أي تكلفتموه إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ.
قرأه العامّة: بكسر الشين، ولها معنيان: أحدهما: الجهد والمشقة.
والثاني: النصف، يعني لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ من القوة وذهاب شق منها حتّى لم تبلغوه إلّا بنصف قوى أنفسكم وذهاب نصفها الآخر.
وقرأ أبو جعفر: بِشَقِّ بفتح الشين. وهما لغتان مثل برَق وبرِق، وحَصن وحصِن، ورطل ورطل.
وينشد قول النمر بن تولب: بكسر الشين.
وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب من شقها ودؤوب «3»
ويجوز أن يكون بمعنى المصدر من شققت عليه يشق شقا.
__________
(1) سورة النساء: 105.
(2) سورة يس: 77.
(3) لسان العرب: 10/ 184. [.....](6/7)
إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ بخلقه حيث خلق لهم هذه الأشياء وهيّأ لهم هذه المنافع والمرافق.
وَالْخَيْلَ يعني وخلق الخيل وهو اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والنساء وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها.
واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على تحريم لحوم الخيل، روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنه سئل عن أكل لحوم الخيل فكرهها وتلا هذه الآية: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً.
قال: هو المركوب، وقرأ التي قبلها: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها الآية، وقال: هذه للأكل.
وقال: الحكم بلحوم الخيل حرام في كتاب الله، ثمّ قرأ هذه الآيات، وقال: جعل هذه للأكل وهذا للركوب.
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء، واحتجوا أيضا في ذلك بما
روى صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب عن أبيه عن جدّه عن خالد بن الوليد أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير» [3] «1» .
وقال الآخرون: لا بأس بأكل لحوم الخيل، وليس في هذه الآية دليل على تحريم شيء، وإنما عرّف الله عباده بهذه الآية نعمه عليهم ونبههم على حجج وحدانيته وربوبيته وكمال قدرته، وإليه ذهب الشافعي واحتج بما
روى محمّد بن علي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمير الأهلية وأذن في لحوم الخيل.
وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر قال: أطعمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعني يوم خيبر- لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر.
وروى سفيان عن عبد الكريم عن عطاء عن جابر قال: كنا نأكل لحوم الخيل، قلت:
والبغال؟ قال: لا.
هشام عن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنه) قالت: أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: نحر أصحابنا فرسا في النخع فأكلوا منه ولم يروا به بأسا.
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ.
__________
(1) سنن النسائي: 7/ 202.(6/8)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
قال بعض المفسرين: يعني ما أعدّ في الجنة لأهلها، وفي النار لأهلها ما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر.
قال قتادة: يعني السوس في الثياب، والدود في الفواكه.
وروى مقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ قال:
يريد أن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع.
يدخل جبرئيل كل سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعظما إلى عظمته فينتفض فيخرج الله من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك بالبيت المعمور وفي الكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة.
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ يعني طريق الحق لكم، والقصد: الطريق المستقيم، وقيل على الله القصد بكم إلى الدين وَمِنْها جائِرٌ يعني ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوج، وإنما أنث للكناية، لأن لفظ السبيل واحد ومعناها جمع، والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز، والقصد من السبيل هو الحنيفية دين الإسلام، والجائر منها اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الملل والكفرة.
وقال جابر بن عبد الله: قَصْدُ السَّبِيلِ يعني بيان الشرائع والفرائض، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله: قَصْدُ السَّبِيلِ السنّة، وَمِنْها جائِرٌ يعني الأهواء والبدع، بيانه قوله: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً «1» الآية. وفي مصحف عبد الله: ومنكم جائز.
وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ نظيرها قوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً «2» وقوله: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها «3» .
[سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 19]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19)
__________
(1) سورة الأنعام: 153.
(2) سورة يونس: 99.
(3) سورة السجدة: 13.(6/9)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ أي من ذلك الماء شَرابٌ يشربونه وَمِنْهُ شَجَرٌ شراب أشجاركم حياة غروسكم ونباتكم فِيهِ، في الشجرة وهو اسم [عام] «1» ، وإنما ذكر الكناية، لأنه ردّه إلى لفظ الشجر.
تُسِيمُونَ ترعون، وننسيكم يقال: أسام فلان إبله يسيمها أسامة، إذا رعاها، فهو مسيم وسامت هي تسوم فهي سائمة.
قال الشاعر:
ومشى القوم بالعماد إلى ... المرعى وأعيا المسيم اين المساق «2»
يعني يدخلون العماد تحت بطون الزرعى [ ... ] «3» .
قال الشاعر:
أولى لك ابن مسيمة الإجمال «4»
أي يا ابن راعية الإبل.
يُنْبِتُ لَكُمْ. قرأه العامّة بالياء يعني: يُنْبِتُ لَكُمْ. وقرأ عاصم برواية المفضل وحماد ويحيى بالنون، والأوّل الاختيار.
بِهِ بالماء الذي أنزل الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ قرأه العامّة بالنصب نسقا على ما قبله.
وروى حفص عن عاصم، وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ: بالرفع على الخبر والابتداء، وقرأ ابن عامر وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ كلها بالرفع على الابتداء والخبر.
بِأَمْرِهِ بأذنه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَما ذَرَأَ يعنى وسخّر ما ذرأ لَكُمْ أي
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) جامع البيان للطبري: 14/ 115، وبتفاوت في الدر المنثور: 4/ 112.
(3) كلمات غير مقروءة.
(4) جامع البيان للطبري: 3/ 278.(6/10)
خلق لأجلكم من الدواب والأشجار والثمار وغيرها فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ نصب على الحال.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا يعني السمك وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً يعني اللؤلؤ والمرجان.
روى حماد بن يحيى عن إسماعيل بن عبد الملك قال: جاء رجل إلى ابن جعفر قال: في حليّ النساء صدقة؟ قال: لا، هي كما قال الله: حِلْيَةً تَلْبَسُونَها.
تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ.
قال ابن عبّاس: جواري.
سعيد بن جبير: معترضة. قتادة ومقاتل: [تذهب وتجيء] «1» مقبلة ومدبرة بريح واحدة.
الحسن: مواقر.
عكرمة والفراء والأخفش: شقاق يشق الماء بجناحيها.
مجاهد: يمخر السفن الرياح ولا يمخر الريح من السفن إلّا الملك العظيم.
أبو عبيدة: سوابح.
وأصل المخرّ الدفع والشق، ومنه مخر الأرض، ويقال: امتخرت الريح وتمخّرتها، إذا نظرت من أين مبعوثها،
وفي الحديث: «إذا أراد أحدكم البول فليمتخر الريح»
«2» أي لينظر من أين مخرها وهبوبها فيستدبرها حتّى لا يرد عليه البول.
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني التجارة وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ يعني لئلّا تميد بكم، أي تتحرك وتميل، والميل: هو الاضطراب والتكفّؤ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحر: ميد.
قال وهب: لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتمور، فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرّة أحدا على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال ولم تدر الملائكة ممّ خلقت الجبال.
وقال علي (رضي الله عنه) : لما خلق الله الأرض رفضت وقالت: أي رب أتجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطيئة ويلقون عليّ الخبث، فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون.
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 89.
(2) نسبه إلى واصل في تفسير القرطبي: 10/ 89.(6/11)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
وَأَنْهاراً يعني وجعل فيها أنهارا وَسُبُلًا طرقا مختلفة لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلاماتٍ فلا تضلون ولا تتحيرون، يعني معالم الطرق.
وقال بعضهم: هاهنا تم الكلام ثمّ ابتدأ.
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ.
قال محمّد بن كعب القرظي والكلبي: أراد بالعلامات الجبال، فالجبال علامات النهار والنجوم علامات الليل.
وقال مجاهد وإبراهيم: أراد بهما جميعا النجوم، فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون به.
قال السدي: يعني بالثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي فيهتدون إلى الطرق والقبلة.
قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاث أشياء: لتكون زينة للسماء، وعلامات للطريق ورجوما للشياطين. فمن قال غير هذا فقد قال برأيه وتكلّف ما لا علم به.
أَفَمَنْ يَخْلُقُ يعني الله تعالى كَمَنْ لا يَخْلُقُ يعني الأصنام أَفَلا تَذَكَّرُونَ نظيرها قوله تعالى: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ «1» وقوله عزّ وجلّ: أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ «2» وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ لما كان منكم من تقصير شكر نعمه رَحِيمٌ بكم حيث وسّع عليكم نعمه ولم يقطعها منكم بتقصيركم ومعاصيكم. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 20 الى 29]
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
__________
(1) سورة لقمان: 11.
(2) سورة فاطر: 40.(6/12)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
قرأه العامّة بالتاء، لأن ما قبله كلّه خطاب.
وقرأ يعقوب وعاصم وسهل بالياء.
لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ثمّ وصف الأوثان فقال: أَمْواتٌ أي هي أموات غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ يعني الأصنام أَيَّانَ متى يُبْعَثُونَ عبّر عنها كما عبّر عن الآدميين «1» وقد مضت هذه المسألة، وقيل: وما يدري الكفّار عبدة الأوثان متى يبعثون.
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جاحدة غير عارفة وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ متعظّمون لا جَرَمَ حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني إذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم مشركوا قريش الذين اقتسموا عقاب مكة وأبوابهم، سألهم الحجاج والوفد أيام الموسم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعما أنزل عليه قالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أحاديثهم وأباطيلهم.
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ ذنوب أنفسهم التي هم عليها مقيمون وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فيصدونهم عن الإيمان أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ألا ساء الوزر الذي يحملون، نظيرها قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ «2» الآية.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما داع دعا إلى ضلاله فاتّبع، فإن عليه مثل أوزار من اتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيّما داع دعا إلى هدى فاتّبع، فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء» [4] «3» .
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهو نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل ولزم منها الصعود إلى السماء ينظر ويزعم إلى إله إبراهيم، وقد مضت هذه القصة.
قال ابن عبّاس ووهب: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراعا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 94 وزاد: «لأنهم زعموا أنها تعقل عنهم وتعلم وتشفع لهم عند الله تعالى فجرى خطابهم على ذلك» ولم ينسبه للمصنف كعادته.
(2) سورة العنكبوت: 13. [.....]
(3) الجامع الصغير: 1/ 466 ح 3010.(6/13)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
وقال كعب ومقاتل: كان طوله فرسخين فهبّت ريح وألقت رأسها في البحر وخرّ عليهم الباقي وانفكت بيوتهم وأحدث نمرود، ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل، وإنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية وذلك قوله تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أي قصد تخريب بنيانهم من أصولها فأتاها أمر الله وهو الريح التي خرّبتها فَخَرَّ فسقط عَلَيْهِمُ السَّقْفُ يعني أعلى البيوت، مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من مأمنهم ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ يذلّهم بالعذاب. وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ تحالفون فيهم لا ينقذونكم فيدفعوا عنكم العذاب.
وقرأ العامّة على فتح النون من قوله: تُشَاقُّونَ إلّا نافع فإنه كسرها على الإضافة قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهم المؤمنون إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ العذاب عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالكفر نصب على الحال، أي في حال كفرهم فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي استسلموا وانقادوا وقالوا: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ شرك، فقالت لهم الملائكة: بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
قال عكرمة: عنى بذلك من قتل من قريش وأهل مكة ببدر وقد أخرج إليها كرها.
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الإيمان.
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 34]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه، فيقولون: شاعر وساحر وكاهن وكاذب ومجنون [ويفرّق الأخوان] «1» ويقولون: إنه لو لم تلقه خير لك، فيقول السائل: أنا شرّ داخل إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة وأستطلع أمر محمّد أو ألقاه، فيدخل مكة فيرى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث، فذلك قوله تعالى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً.
__________
(1) المخطوط مشوش والظاهر ما أثبتناه.(6/14)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
فإن قيل: لم ارتفع جواب المشركين في قولهم أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وانتصب في قوله خَيْراً.
فالجواب: أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل فلما سئلوا قالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني الذي يقوله محمد صلّى الله عليه وسلّم أساطير الأولين، والمؤمنين إنما كانوا مقرّين بالتنزيل، فإذا قيل لهم:
ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً «1» يعنون أنزل خيرا.
ثمّ ابتدأ فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ كرامة من الله، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ثمّ فسّرها فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها بدل عن الدار، فلذلك ارتفع تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ مؤمنين. مجاهد: زاكية أعمالهم وأقوالهم.
يَقُولُونَ يعني في الآية سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
قال القرظي: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: السلام عليك وليّ الله، الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة.
ْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
يقبضون أرواحهم.
ْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
يعني يوم القيامة، وقيل: العذاب ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بتعذيبه إياهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا عقوبات كفرهم وأعمالهم الخبيثة.
وَحاقَ نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 40]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا قل للذين
__________
(1) عنه فتح القدير: 3/ 159.(6/15)
اقتدينا بهم وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فلولا أن رضيها لغير ذلك ببعض عقوباته أو هدانا إلى غيرها.
قال الله: كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ يعني إلّا عليه، فإنّها لم تحرم هذه الأشياء وأنهم ادعوا على الله.
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني بأن اعبدوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وهو كل معبود من دون الله فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ في دينه وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ أي وجبت عَلَيْهِ الضَّلالَةُ حتّى مات على كفره فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي خراب منازلهم وديارهم بالعذاب والهلاك إِنْ تَحْرِصْ يا محمّد عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ.
قرأ أهل الكوفة: يَهْدِي بفتح الياء وقسموا ذلك، ولها وجهان: أحدهما: إن معناه فإنّ الله لا يهدي من أضله الله، والآخر: أن يكون يهدي بمعنى يهتدي، بمعنى من أضله الله لا يهتدي «1» يقول العرب: هدى الرجل وهم يريدون اهتدى.
وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الدال، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم على معنى من أضله الله فلا هادي له، دليله: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ «2» .
وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يمنعونهم من عذاب الله وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ.
الربيع عن أبي العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلّم به: والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا، فقال المشرك: وإنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت فأقسم بالله (لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) فأنزل الله هذه الآية.
قتادة: ذكر لنا أن رجلا قال لابن عبّاس: إن ناسا بالعراق يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة ويتأولون هذه الآية.
فقال ابن عبّاس: كذب أولئك، إنما هذه الآية عامة للناس، لو كان عليّ مبعوثا قبل يوم القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، قال الله ردا عليهم: بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
في الخبر أن الله تعالى يقول: كذّبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني،
__________
(1) راجع تفسير القرطبي 10/ 104.
(2) سورة الأعراف: 186.(6/16)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
وشتمني ابن آدم ولا ينبغي له أن يشتمني، وأمّا تكذيبه إياي فحلفه بي أن لا أبعث الخلق، وأمّا شتمه إياي فقوله اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وأنا الله الواحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كُفُواً أَحَدٌ.
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ هو مردود إلى قوله: لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا يبين لهؤلاء المنكرين المقتسمين الذين يختلفون وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ. إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ الآية، يقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم ولا في غير ذلك [مما نخلق ونكون ونحدث] ، لأنا إذا أردنا خلق شيء وإنشاؤه أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» .
وفي هذه الآية دليل على أنّ القرآن غير مخلوق، فذكر أن الله عزّ وجلّ أخبر أنه إذا أراد شيئا قال لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فلو كان قوله كُنْ مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان ولاحتاج ذلك القول إلى قول ثالث إلى ما لا نهاية فلما بطل ذلك ثبت أن الله خلق الخلق بكلام غير مخلوق.
[سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 50]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا عذّبوا وقتلوا في الله، نزلت في بلال وصهيب وخبّاب وعمار وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فعذّبوهم.
وقال قتادة: يعني أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم ظلمهم أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم حتّى لحق جماعة منهم بالحبشة ثمّ بوّأهم الله بالمدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار الهجرة وجعل لهم على من ظلمهم [أنصارا من المؤمنين والآية تعم الجميع] «2» .
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أنزلهم المدينة وأطعمهم الغنيمة.
__________
(1) تفسير الطبري: 14/ 141.
(2) تصويب العبارة من تفسير القرطبي: 10/ 107.(6/17)
ويروى إن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان إذا أعطى لرجل من المهاجرين عطاء يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أفضل، ثمّ تلا هذه الآية.
وقال بعض أهل المعاني: مجاز قوله تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ليحسنّن إليهم في الدنيا. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُوا في الله على ما نابهم وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ الآية نزلت في مشركي مكة حين أنكروا نبوة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فهلّا بعثت إلينا ملكا.
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعني هم أهل الكتاب إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ فإن قيل: ما الجالب لهذه الباء؟
قيل: قد اختلفوا في ذلك: فقال بعضهم: هي من صلة أرسلنا و (إلا) بمعنى غير، مجازه: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر غير رجال يوحى إليهم ولم نبعث ملائكة. وهذا كما تقول: ما ضرب إلّا أخوك عمر، وهل كلم إلّا أخوك زيدا، بمعنى ما ضرب عمر غير أخيك، هل كلم زيدا غير أخيك.
قال أوس بن حجر:
أبني لبينى لستم بيد ... إلا يد ليست لها عضد «1» .
يعني غير يده، قال الله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «2» أي غير الله.
وقال بعضهم: إنما هذا على كلامين، يريد: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا أرسلنا بالبينات والزبر ويشهد على ذلك بقول الأعمش:
وليس مجيرا إن أتى الحي خائف ... ولا قائلا إلّا هو المتعيّبا «3»
يقول: لو كان بذلك على كلمة لكان خطأ من سفه القائل، ولكن جاء ذلك على كلامين كقول الآخر:
نبّئتهم عذّبوا بالنار جارهم ... وهل يعذّب إلّا الله بالنار «4»
وتأويل الكلام: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ أرسلناهم بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ «5» .
__________
(1) تفسير الطبري: 14/ 146.
(2) سورة الأنبياء: 22.
(3) تفسير الطبري: 14/ 146، ولسان العرب: 1/ 633.
(4) المصدر السابق.
(5) بطوله في تفسير الطبري: 14/ 146- 147.(6/18)
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ يعني نمرود بن كنعان وغيره من الكفار وأهل الأوثان أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ العقاب فِي تَقَلُّبِهِمْ تصرفهم في أسفارهم بالليل والنهار فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ مسابقي الله أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ.
قال الضحاك والكلبي: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ يعني يأخذ طائفة ويدع فتخاف الطائفة الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها.
وقال سائر المفسرين: التخوّف: التنقّص، يعني ينقص من أطرافهم ونواصيهم الشيء بهذا الشيء حتّى يهلك جميعهم.
يقال: تخوّف مال فلان الإنفاق، إذا انتقصه وأخذه من حافاته وأطرافه.
وقال الهيثم بن عدي: هي لغة لازد شنوءة، وأنشد:
تخوّف عدوهم مالي وأهدى ... سلاسل في الحلوق لها صليل «1»
قال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) على المنبر فقال: يا أيها الناس ما تقولون في قول الله: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فسكت الناس، فقام شيخ فقال: يا أمير المؤمنين هذه لغتنا في هذيل، التخوّف: التنقص، فقال عمر: وهل تعرف العرب ذلك في أشعارهم قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي: [يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه] «2» .
تخوّف السير منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن «3»
فقال عمر:
يا أيها الناس عليكم بديوانكم الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم «4» فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني لم يعجّل العقوبة أَوَلَمْ يَرَوْا قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش: (تروا) بالتاء على الخطاب، وقرأ الآخرون بالياء خبرا عن الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ وهو اختيار الأئمة.
__________
(1) غريب الحديث: 2/ 835.
(2) زيادة عن تفسير القرطبي، وفي تاج العروس: أنضاها السير ونسبه لذي الرملة. [.....]
(3) تاج العروس: 9/ 236 ولسان العرب: 9/ 101، ونسبه لابن مقبل وقال في ج 13/ 210: قال الصاغاني: وعزاه الأزهري لابن مقبل وهو لعبد الله بن عجلان النهدي، وفي الأغاني نسبه لابن مزاحم الثمالي.
(4) انظر تفسير القرطبي: 10/ 111.(6/19)
إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يعني من جسم قائم له ظل يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ.
بالتاء أهل البصرة. الباقون بالياء، ومعنى قوله يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ: يميل ويرجع من جانب إلى جانب فهي في أوّل النهار ثمّ تعود إلى حال أخرى في آخر النهار، فميلانها ودورانها من موضع إلى موضع سجودها، ومنه قيل للظل بالعشي: فيء، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق، والفيء: الرجوع، قال الله: حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «1» يقال: سجدت النخلة إذا حالت، وسجد البعير وأسجد إذا جعل للركوب، ومثله قال في هذه الآية على هذا التأويل.
قتادة والضحاك: أمّا اليمين فأول النهار وأمّا الشمال فآخر النهار، تسجد الضلال لله غدوة إلى أن تفيء الظلال ثمّ تسجد أيضا إلى الليل.
وقال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله.
وقال عبد الله بن عمر: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن في صلاة السحر وليس من شيء إلّا وهو يسبح لله تعالى تلك الساعة» ثمّ قرأ يَتَفَيَّؤُا الآية «2» .
الكلبي: الظل قبل طلوع الشمس عن يمينك وعن شمالك وقدامك وخلفك، ولذلك إذا غابت وإذا طلعت كان قدامك، فإذا ارتفعت كان عن يمينك وإذا كان بعد ذلك كان خلفك، فإذا كان قبل أن تغيب الشمس كان على يسارك فهذا تفيؤه أي تضلله هاهنا وهاهنا، وهو سجوده.
وأمّا الوجه في توحيد اليمين وجمع الشمال، فهو أنّ من شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن يبقى واحدة ويلقى الأخرى، واكتفي بالملقي على الملقى بقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ «3» كقوله: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «4» .
وقال بعضهم: اليمين راجع إلى قوله: ما خَلَقَ اللَّهُ ولفظة من أحد، وَالشَّمائِلِ راجعة إلى المعنى وقيل: هذا في الكلام كثير.
قال الشاعر:
بفي الشامتين الصخر إن كان هدني ... رزية شبلي مخدر في الضراغم «5»
__________
(1) سورة الحجرات: 9.
(2) تفسير الثعالبي: 3/ 426.
(3) سورة البقرة: 7.
(4) سورة البقرة: 257.
(5) تفسير الطبري: 14/ 154.(6/20)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
لم يقل: بأفواه الشامتين.
وقال آخر:
الواردون وتيم في ذرا سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس «1»
لم يقل: جلود.
وَهُمْ داخِرُونَ صاغرون وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [وإنما أخبر ب (ما) عن الذي يعقل ولا يعقل على التغلب، كما يغلب الكثير على القليل والمذكر على المؤنث] مِنْ دابَّةٍ يدب عليها كل حيوان يموت، كقوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «2» وقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها «3» .
وَالْمَلائِكَةُ خص الملائكة بالذكر مع كونهم من جملتها في الآية لرفع شأنهم، وقيل:
لخروجهم من جملة الموصوفين بالتسبيب إذ جعل الله لهم أجنحة كما قال تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ «4» فالطيران أغلب عليهم من الدبيب، وقيل: أراد لله يسجد ما في السماوات من الملائكة وما في الأرض من دابة ويسجد ملائكة الأرض.
وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ يعني: يخافون [قدرة] ربهم أن يأتيهم بالعذاب من فوقهم، ويدل عليه قوله: وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ما يؤمرون يعني الملائكة، وقيل:
معناه يخافون ربهم الذي فوقهم بالقول والقدرة فلا يعجزه شيء ولا يغلبه أحد [يدل عليه] قوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ «5» وقوله إخبارا عن فرعون: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ «6» .
[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 60]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
__________
(1) المصدر السابق.
(2) سورة هود: 6.
(3) سورة هود: 56.
(4) سورة فاطر: 1.
(5) سورة الأنعام: 18.
(6) سورة الأعراف: 127.(6/21)
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ الطاعة والإخلاص.
واصِباً دائما ثابتا.
وقال ابن عبّاس: واجبا، تعني الآية أنه ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع عنه بزوال أو هلاك غير الله عزّ وجلّ، فإن الطاعة تدوم له وتصيب واصبا على القطع.
قال أبو الأسود الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا «1»
أي دائما.
وقال الفراء: ويقال خالصا.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ. وَما بِكُمْ.
قال الفراء: (ما) في معنى الجزاء ولها فعل مضمر، كأنه قال: وما يكون لكم من نعمة فمن الله.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ [....] «2» أن لّا تتقوا سواه وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ لذلك دخلت الفاء في قوله: فَمِنَ اللَّهِ.
ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ يصيحون بالدعاء ويضجون بالاستغاثة. وأصله من جؤار الثور إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو فزع. قال القتيبي يصف بقرة:
فطافت «3» ثلاثا بين يوم وليلة ... وكأن النكير أن تضيف وتجأرا «4»
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ بعد ما خلصوا له بالدعاء في حال البلاء لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ كفروا نعمته فيما أعطيناهم من النعماء وكشف الضرّ والبلاء فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وهذا وعيد لهم.
__________
(1) تفسير الطبري: 23/ 5، تفسير القرطبي: 10/ 114. [.....]
(2) غير مقروءة في المخطوط.
(3) ويروى: أقامت.
(4) لسان العرب: 6/ 67 والبيت للنابغة الجعدي.(6/22)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ له نفعا ولا فيه ضرا ولا نفعا نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال وهو ما حملوا لأوثانهم من هديهم وأنعامهم نظيره قوله هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا «1» .
ثمّ رجع من الخبر إلى الخطاب فقال: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ يوم القيامة عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ في الدنيا وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وهم خزاعة وكنانة قالوا: الملائكة بنات الله سبحانه.
وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني البنين، وفي قوله: ما وجهان من الأعراب: أحدهما الرفع على الابتداء، ومعنى الكلام: يجعلون لله البنات ولهم البنين، والثاني: النصب عطفا على البنات تقديره: ويجعلون لله البنات ويجعلون لهم البنين الذي يشتهون.
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا من الكراهة وَهُوَ كَظِيمٌ ممتلئ غما وغيظا يَتَوارى يخفى ويغيب مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من الخزي والعار والحياء ثمّ يتفكر أَيُمْسِكُهُ ذكر الكناية لأنه مردود إلى (ما) عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ يخفيه فِي التُّرابِ فيئده.
وذلك أن مضر وخزاعة وتميما كانوا يدفنون الإناث أحياء- زعموا- خوف الفقر عليهن وطمع غير الأكفاء فيهن، وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت يستحييها بذلك، ولذلك قال الفرزدق:
ومنا الذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم يوأد «2»
أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ بئس ما [يجعلون لله الإناث] ولأنفسهم البنين، نظيره قوله تعالى:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «3» .
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني لهؤلاء الواضعين لله سبحانه البنات مَثَلُ السَّوْءِ احتياجهم إلى الأولاد وكراهيتهم الإناث منهم أو قتلهم إياها خوف الفقر وإقرارا على أنفسهم بالهتك
لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكبر الكبائر أن تدعو لله ندّا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك وأن تزني بحليلة جارك» [5] «4» .
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى الصفة العليا وهي التوحيد والإخلاص.
وقال ابن عبّاس: مَثَلُ السَّوْءِ: النار، والْمَثَلُ الْأَعْلى: شهادة أن لا إله إلّا الله «5» .
__________
(1) سورة الأنعام: 136.
(2) تفسير القرطبي: 10/ 117.
(3) سورة النجم: 21.
(4) تفسير الطبري: 5/ 62، تفسير القرطبي: 13/ 75.
(5) تفسير القرطبي: 10/ 119.(6/23)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 64]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ فيعاجلهم بالعقوبة على كفرهم وعصيانهم ما تَرَكَ عَلَيْها أي على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ يمهلهم عليه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى منتهى آجالهم ساعة وانقضاء أعمارهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ولا يقال «1» موت قبله وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ لأنفسهم، يعني البنات وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى محل (ان) نصب بدل عن الكذب لأنه بيان وترجمة له.
وقرأ ابن عبّاس: والحسن (الْكُذُبُ) برفع الكاف والذال والباء على نعت الألسنة، والكذب: جمع كذوب، مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر.
أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى يعني اليقين ومعنى الآية: ويجعلون له البنات ويزعمون أن لهم البنين.
وقال حيان: يعني بالحسنى الجنة في المعاد إن كان محمّد صادقا في البعث.
لا جَرَمَ حقا، وقال ابن عبّاس: بلى «2» .
أَنَّ لَهُمُ النَّارَ في الآخرة وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ منسيون في النار.
قال ابن عبّاس وسعيد بن جبير: مبعدون.
مقاتل: متروكون.
قتادة: معجلون إلى النار.
الفراء: مقدمون على النار.
وقرأ نافع: (مُفْرِطُونَ) بكسر الراء مع التخفيف أي مسرفون، وقرأ أبو جعفر: بكسر الراء مع التشديد أي مضيّعون أمر الله تعالى.
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ كما أرسلناك إلى هذه الأمة فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ
__________
(1) هذا هو الظاهر من المخطوط.
(2) تفسير الطبري: 14/ 167.(6/24)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
الخبيثة التي كانوا عليها مقيمين فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ناصرهم ومعينهم وقرينهم ومتولي أمورهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من الدين والأحكام وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ عطف الهدى والرحمة على موضع قوله (لِتُبَيِّنَ) لأن محله نصب ومجاز الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلّا بيانا للناس وهدى ورحمة.
[سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 74]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها جدوبها ودروسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ بسمع القلوب ولا بسمع الآذان.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً لعظة نُسْقِيكُمْ.
قرأ أهل المدينة وابن عامر ونافع وعاصم بفتح النون.
وقرأ الباقون بضمه. واختاره أبو عبيد قال: لأنه شراب دائم.
وحكى عن الكسائي أن العرب تقول: أسقيته نهرا وأسقيته لبنا إذا جعلت له سقيا دائما، فإذا أراد أنهم أعطوه شربة قالوا: سقيناه «1» .
وقال غيره: هما لغتان يدل عليه قول لبيد في صفة السقاية:
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال «2»
__________
(1) بغير ألف، راجع المصدر السابق: 14/ 172.
(2) الصحاح: 2/ 53.(6/25)
فجمع بين اللغتين.
مِمَّا فِي بُطُونِهِ ولم يقل بطونها والأنعام جميع، قال المبرد: كناية إلى النعم والنعم والأنعام واحد ولفظ النعم، واستشهد لذلك برجز بعض الأعراب.
إذا رأيت أنجما من الأسد ... جبهته أو الخراة والكند
بال سهيل في الفضيح ففسد ... وطاب ألبان اللقاح فبرد «1»
ولم يقل فبردت لأنه رد إلى [اللبن أو الخراة] «2» .
قال أبو عبيدة والأخفش: النعم يذكر ويؤنث فمن أنّث فلمعنى الجمع، ومن ذكر فلحكم اللفظ، ولأنه لا واحد له من لفظه.
وقال الشاعر يذكره:
أكل عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه
إن له نخيل فلا يحمونه «3» .
وقال الكسائي: ردّ الكناية إلى المراد في بطون ما ذكر.
وقال بعضهم: أراد بطون هذا الشيء، كقول الله: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي «4» وقوله: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ «5» الآية فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ «6» ولم يقل: جاءت.
وقال: الصلتان العبدي.
إن السماحة والمروة ضمّنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح «7»
وقال الآخر:
وعفراء أدنى الناس مني مودة ... وعفراء عني المعرض المتواني «8»
وقال الآخر:
__________
(1) لسان العرب: 2/ 29، تفسير الطبري: 14/ 173.
(2) هكذا في الأصل. [.....]
(3) المصدر السابق ولسان العرب: 12/ 585، دون ذكر البيت الثاني.
(4) سورة الأنعام: 78.
(5) سورة النمل: 35.
(6) سورة النمل: 36.
(7) تفسير الطبري: 14/ 174.
(8) تاريخ دمشق: 40/ 220.(6/26)
إذا الناس ناس والبلاد بغبطة ... وإذ أم عمّار صديق مساعف «1»
كل ذلك على معنى هذا الشخص وهذا الشيء.
وقال المؤرج: الكناية مردودة إلى البعض والجزء، كأنه قال: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ اللبن، إذ ليس لكلّها لبن وإنما يسقى من ذوات اللبن، فاللبن فيه مضمر.
مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وهو ما في الكرش فإذا أخرج منه لا يسمى فرثا وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً خلص من الفرث والدم ولم يختلط بهما سائِغاً لِلشَّارِبِينَ جاهزا هنيئا يجرى في الحلق ولا يغص شاربه، وقيل: إنه لم يغص أحد باللبن قط.
قال ابن عبّاس: إذا أكلت الدابة العلف واستقرّ في كرشها لحينه، وكان أسفله فرث وأوسطه لبن وأعلاه دم الكبد [فما كان] على هذه الأصناف الثلاثة يقسم فيجري الدم في العروق، ويجري اللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو.
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ يعني ذلكم أيضا عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ الكناية في قوله: مِنْهُ عائدة إلى المذكورين.
سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً.
قال قوم: السكر: الخمر، والرزق الحسن: الخل والعنب والتمر والزبيب، قالوا: وهذا قول تحريم الخمر، وإلى هذا القول ذهب ابن مسعود وابن عمرو وسعيد بن جبير وأيوب وإبراهيم والحسن ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى والكلبي، وهي رواية عمرو بن سفيان البصري عن ابن عبّاس قال: السكر: ما حرم من ثمرتها، والرزق الحسن: ما حل من ثمرتهما.
أما السكر فخمور هذه الأعاجم، وأما الرزق الحسن فما تنتبذون وما تخلّلون وما تأكلون.
قال: ونزلت هذه الآية ولم يحرم الخمر يومئذ، وإنما نزل تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة.
وقال الشعبي: السكر: ما شربت، والرزق الحسن: ما أكلت.
وروى العوفي عن ابن عبّاس: أن الحبشة يسمّون الخل السكر.
وقال بعضهم: السكر: النبيذ المسكر وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد، والمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والشعبي برواية مجالد وأبي روق وقول النخعي ورواية الوالبي عن ابن عبّاس، وقيل: هو نبيذ التمر.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الخمر ما اتخذ من العنب، والسكر من التمر، والبتع من العسل، والمزر
__________
(1) تفسير الطبري: 14/ 175.(6/27)
من الذرة [والبيرا] «1» من الحنطة، وأنا أنهاكم عن كل مسكر» [6] «2» .
وقال أبو عبيدة: السكر: الطعم، يقال: هذا سكر لك، أي طعم لك.
وأنشد:
جعلت عيب الأكرمين سكرا «3»
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أي ألقى [على مسامعها] أو قذف في أنفسها ففهمته، والنحل: زنابير العسل، وأحدها نحلة أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ يبنون، وقال ابن زيد: هو الكرم.
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ليس معنى الكل العموم وهو كقوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «4» وقوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها «5» .
فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ فادخلي طرق ربك ذُلُلًا.
قال بعضهم: الذلل يعني الطرق، ويقول هي مذللة للنحل.
قال مجاهد: [لا يتوعر عليها مكان سلكته] .
قال آخرون: الذلل نعت [النحل] «6» .
قال قتادة وغيره: يعني مطيعة منقادة.
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أبيض وأحمر وأصفر فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ.
يروى أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فقال: «اسقه عسلا» فذهب ثمّ رجع فقال: سقيته فلم يغن عنه شيئا. فقال عليه الصلاة والسلام: «اذهب واسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك» [7] «7» فسقاه فكأنما نشط من عقال، [رواه] عطية عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري.
__________
(1) كذا في المخطوط وهي غير موجودة في المصدر.
(2) مسند أبي يعلي: 13/ 216 بتفاوت.
(3) جامع البيان للطبري: 14/ 182.
(4) سورة النمل: 23.
(5) سورة الأحقاف: 25.
(6) في تفسير الطبري (14/ 184) : نعت السبل، ونسبه لمجاهد ثم ذكر على قول: الذلل من نعت النحل، وصوّب الأول
(7) صحيح مسلم: 7/ 26 وسنن الترمذي: 3/ 276. [.....](6/28)
وقال مجاهد: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ أي في القرآن. والقول الأوّل أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب.
روى وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء ما فِي الصُّدُورِ.
الأعمش عن خيثم عن الأسود قال: قال عبد الله: عليكم بالشفائين: العسل والقرآن.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكرنا لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعتبرون وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ صبيانا وشبابا وكهولا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أردؤه، يقال منه: (ذل الرجل وفسل، يرذل رذالة ورذولة ورذلته أنا) «1» .
قال ابن عبّاس: يعني إلى أسفل العمر.
مقاتل: وابن زيد: يعني الهرم.
قتادة: أرذل العمر سبعون سنة.
وروى الأصبغ بن نباتة عن علي (رضي الله عنه) قال: أرذل العمر خمس وسبعون سنة.
لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً أي لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ نظيرها في سورة الحج «2» .
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا في الرزق بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من العبيد حتّى يستووا هم وعبيدهم في ذلك، يقول الله جل ثناؤه: فهم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقناهم سواء وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني. يلزم بهذا المثل الحجة على المشركين، وهذا مثل ضربه الله عزّ وجل، فما منكم من يشرك مملوكه في زوجته وقرابته وماله أفتعدلون بالله خلقه وعباده، فإن لم ترض لنفسك هذا فالله أحق أن ينزه من ذلك ولا تعدل به أحدا من عباده وخلقه «3» .
عبد الله بن عبّاس: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: عيسى ابن الله، يقول:
لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتّى يكون [المولى والملوك] في المنال شرعا سواء فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم نظيرها في سورة الروم ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ «4» [مثلا تعاينه] .
__________
(1) تفسير الطبري: 14/ 186.
(2) سورة الحج: 5.
(3) انظر: تفسير الطبري: 14/ 188.
(4) سورة الروم: 28.(6/29)
قال أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ بالاشراك به.
قرأ عاصم: بالتاء على الخطاب، لقوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ.
وقرأ الباقون: بالياء لقوله: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ «1» واختاره أبو عبيد وأبو حاتم: لقرب المخبر منه.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني أنه خلق من آدم زوجته حوّاء وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً.
ابن عبّاس والنخعي وابن جبير وأبو الأضحى: هم الأصهار أختان الرجل على بناته.
روى شعبة عن عاصم: بن بهدلة قال: سمعت زر بن حبيش وكان رجلا غريبا أدرك الجاهلية قال: كنت أمسك على عبد الله المصحف فأتى على هذه الآية قال: هل تدري ما الحفدة، قلت: هم حشم الرجل.
قال عبد الله: لا، ولكنهم الأختان. وهذه رواية الوالبي عن ابن عبّاس.
وقال عكرمة والحسن والضحاك: هم الخدم.
مجاهد وأبو مالك الأنصاري: هم الأعوان، وهي رواية أبي حمزة عن ابن عبّاس قال:
من أعانك حفدك.
وقال الشاعر:
حفد الولائد حولهن وأسلمت ... بأكفهنّ أزمّة الإجمال «2»
وقال عطاء: هم ولد الرجل يعينونه ويحفدونه ويرفدونه ويخدمونه.
وقال قتادة: [مهنة يمتهنونكم] ويخدمونكم من أولادكم.
الكلبي ومقاتل: البنين: الصغار، والحفدة: كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله.
مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عبّاس: إنهم ولد الولد.
ابن زيد: هم بنو المرأة من الزوج الأوّل. وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس: هم بنو امرأة الرجل الأوّل.
وقال العتبي: أصل الحفد: مداركة الخطر والإسراع في المشي.
__________
(1) سورة النحل: 71.
(2) لسان العرب: 3/ 153 وتفسير الطبري: 14/ 190.(6/30)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
فقيل: لكل من أسرع في الخدمة والعمل: حفدة، واحدهم حافد، ومنه يقال في دعاء الوتر: إليك نسعى ونحفد، أي نسرع إلى العمل بطاعتك.
وأنشد ابن جرير [للراعي] :
كلفت مجهولها نوقا يمانية ... إذا الحداة على أكسائها حفدوا «1»
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ.
قال ابن عبّاس: بالأصنام.
وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ يعني التوحيد الباطل فالشيطان أمرهم بنحر البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ بما أحلّ الله لهم هُمْ يَكْفُرُونَ يجحدون تحليله.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ يعني المطر وَالْأَرْضِ يعني النبات.
شَيْئاً، قال الأخفش: هو بدل من الرزق وهو في معنى: ما لا يملكون من الرزق شيئا قليلا ولا كثيرا.
قال الفراء: نصب (شَيْئاً) بوقوع الرزق عليه. كما قال سبحانه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً «2» أي يكفت الأحياء والأموات. ومثله قوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ «3» .
وَلا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون على شيء، فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ يعني الأشباه والأشكال فيشبهوه بخلقه ويجعلون له شريكا فإنه واحد لا مثيل له إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ خطأ ما يضربون له من الأمثال وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ صواب ذلك من خطأه.
[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 78]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
__________
(1) تفسير الطبري: 14/ 193، لسان العرب: 1/ 138.
(2) سورة المرسلات: 25- 26.
(3) سورة البلد: 14- 15.(6/31)
ثمّ ضرب الله تعالى مثلا المؤمن والكافر فقال عز من قائل: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ هو مثل الكافر رزقه الله مالا فلم يقدّم خيرا ولم [يعمل] فيه بطاعة الله تعالى وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هو مثل المؤمن أعطاه الله مالا فعمل فيه بطاعة الله وأنفقه فيما يرضي الله سرا وجهرا فأثابه الله على ذلك النعيم المقيم في الجنة هَلْ يَسْتَوُونَ ولم يقل يستويان لمكان (من) لأنه اسم مبهم يصلح للواحد، والاثنين، والجميع، والمؤنث، والمذكر، وكذلك قوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً ثمّ قال: وَلا يَسْتَطِيعُونَ بالجمع لأجل (ما) ومعنى الآية: هل يستوي هذا الفقر والبخل والغنى [والسخاء] فكذلك لا يستوي الكافر العاصي المخالف لأمر الله والمؤمن المطيع له.
روى ابن جريج عن عطاء: عَبْداً مَمْلُوكاً قال: هو أبو جهل بن هشام وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً أبو بكر الصديق (رضى الله عنه) .
ثمّ قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يقول الله تعالى: ليس الأمر كما يفعلون ولا القول كما يقولون، ما للأوثان عندهم من يد، ولا معروف فيحمد عليه، إنما الحمد هو الكامل لله خالصا، لأنه هو المنعم والخالق والرازق ولكن أكثر هؤلاء الكفرة لا يعلمون أنها كذلك. ثمّ ضرب مثلا آخر بنفسه والأصنام فقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ يرسله لا يَأْتِ بِخَيْرٍ لأنه لا يفهم ما يقال، ولا يفهم عنه.
وقال ابن مسعود: أينما توجهه لا يأت بخير، هذا مثل للصنم الذي لا يسمع ولا ينطق ولا يعقل ولا يفعل وهو كلّ على [عائده] يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يعني الله قادر متكلم بأمر التوحيد فليس كصنمكم، فإنه لا يأمر بالتوحيد وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
قال الكلبي: يعني وهو يدلكم على صراط مستقيم، وقيل: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
قال الكلبي: يعني وَهُوَ يدلكم عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
آخر: ومن قال: كل المسلمين المؤمن والكافر، وهي رواية عقبة عن ابن عبّاس.
وروى إبراهيم بن عكرمة بن يعلي بن منبّه عن ابن عبّاس قال: نزلت هذه الآية في عثمان ابن عفان (رضي الله عنه) ومولاه. وكان عثمان ينفق عليه ويكفيه المؤنة وكان مولاه يكره الإسلام [ويأباه وينهاه عن] الصدقة ويمنعه من النفقة.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في هاشم بن عمرو بن الحرث بن ربيعة القرشي وكان رجلا قليل الخير يعادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(6/32)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
وقال عطاء: [الأبكم أبي بن حلف] وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون.
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ في قريب كونها وسرعة قيامها إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [كالنظر في البصر] «1» ورجع الطرف لأن ذلك هو أن يقال له: كُنْ فَيَكُونُ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ بل هو أقرب إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ نزلت في الكفار الذين استعجلوا القيامة استهزاء منهم.
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ.
قرأ الأعمش: إِمَّهاتِكُمْ بكسر الألف والميم.
وقرأ حمزة والكسائي بكسر الألف وفتح الميم.
وقرأ الباقون بضم الألف وفتح الميم.
وأصل الأمهات: أمات، فزيدت الهاء للتأكيد كما زادوها في أهرقت الماء وأصله أرقت لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً هذا كلام تام.
ثمّ ابتدأ فقال: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لأن الله تعالى جعل [لعباده السمع] والأبصار والأفئدة قبل إخراجهم من بطون أمهاتهم وإنما [أعطاهم العلم] بعد ما أخرجهم منها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه.
[سورة النحل (16) : الآيات 79 الى 83]
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)
أَلَمْ يَرَوْا. قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ويعقوب بالتاء.
وقرأ عاصم بضمر التاء. واختاره أبو عبيد لما قبلها.
إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ مذللات فِي جَوِّ السَّماءِ أي في الهواء بين الأرض والسماء
__________
(1) هكذا في الأصل.(6/33)
ما يُمْسِكُهُنَّ في الهواء إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ التي هي من الحجر والمدر سَكَناً مسكنا تسكنونه.
قال الفراء: السكن: الدار، والسكن بجزم الكاف: أهل البلد.
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً يعني الخيام والقباب والأخبية [والفساطيط من الأنطاع] والأدم وغيرها تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ رحلكم وسفركم وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ في بلادكم [لا يثقل] عليكم في الحالتين.
واختلف القرّاء في قوله: يَوْمَ ظَعْنِكُمْ.
فقرأ الكوفيون بجزم العين، وقرأ الباقون: بفتحه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنه [أشهر] اللغتين وأفصحهما. وَمِنْ أَصْوافِها يعني أصواف الضان وأوبار الإبل وأشعار المعز.
والكنايات كلها راجعة إلى الأنعام.
أَثاثاً قال ابن عبّاس: مالا «1» ، مجاهد: [مَتاعاً] .
حميد بن عبد الرحمن: [أَثاثاً يعني] «2» الأثاث: المال أجمع من الإبل والغنم والعبيد، والمتاع غيره هو متاع البيت من الفرش والأكسية وغيرها ولم يسمع له واحد مثل المتاع.
وقال أبو زيد: واحد الأثاث أثاثة. قال الخليل: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتّى يكثر ومنه شعر الشعراء كثر وأثّ شعر فلان أي إذا كثر والتف.
قال امرؤ القيس:
أثيث كقنو النخلة المتعال «3»
قال محمّد بن نمير الثقفي في الأثاث:
أهاجتك الظعائن يوم باتوا ... بذي الزي الجميل من الأثاث «4»
وَمَتاعاً [بلاغا] تنتفعون بها إِلى حِينٍ يعني الموت. وقيل: إلى حين يبلى ويفنى.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا تستظلون بها من شدة الحر وهو ظلال الأشجار والسقوف والأبنية ومِنَ الْجِبالِ أَكْناناً يعني الغيران والأسراب والمواضع التي تسكنون فيها واحدها كنّ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ قمصا من الكتان والقطن والخز والصوف تَقِيكُمُ تمنعكم.
__________
(1) في تفسير القرطبي: 10/ 154 ثيابا.
(2) هكذا في الأصل.
(3) لسان العرب: 2/ 110 ومطلعه: وفرع يزين المتن أسود فاحم.
(4) معجم البلدان للحموي: 5/ 298. [.....](6/34)
الْحَرَّ.
[وقال] أهل المعاني: [أراد] الحر والبرد فأكتفى بأحدهما عن الآخر بدلالة الكلام عليه نظيره قوله: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى «1» يعني الهدي والإضلال.
وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ يعني الدروع ولباس الحرب والمعنى: تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ يخضعون له بالطاعة ويخلصون له بالعبادة.
وروى نوفل بن أبي [عقرب] عن ابن عبّاس أنه قرأ: (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَسْلِمُونَ) بالفتح، يعني من الجراحات.
قال أبو عبيد: الاختيار قراءة العامّة، لأن ما أنعم الله علينا في الإسلام أكثر من إنعامه علينا في السلامة من الجراح.
وقال عطاء الخراساني في هذه الآية: إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم ألا ترى إلى قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وما جعل لكم من السهول أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب جبال. وقال: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر. الا ترى إلى قوله: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ «2» وما ينزل من [الثلج] أعظم وأكثر ولكنهم كانوا لا يعرفونه، ألا ترى إلى قوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وما يقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم ظلوا أصحاب حر.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ. يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ.
قال السدي: يعني محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ثُمَّ يُنْكِرُونَها يكذبون ويجحدون نبوّته.
قال مجاهد: يعني ما عدد عليهم في هذه السورة من النعم ينكرون ذلك فيزعمون أنهم ورثوا ذلك عن آبائهم، وبمثله قال قتادة «3» .
وقال الكلبي: وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر هذه النعم لهم فقالوا: نعم هذه كلها من الله تعالى ولكنها بشفاعة آلهتنا.
وقال عون بن عبد الله: هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا، لولا فلان ما أصبت كذا.
__________
(1) سورة الليل: 12.
(2) سورة النور: 43.
(3) تفسير القرطبي: 10/ 161.(6/35)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ الجاحدون.
[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يعني رسولها ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يسترضون، يعني لا يكلّفون أن يرضوا ربهم لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون للرجوع إلى دار الدنيا [فيتوبون] وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يؤخّرون وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا يوم القيامة شُرَكاءَهُمْ أوثانهم قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ أربابا ونعبدهم فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ أي قالوا لهم، يقال: ألقيت إليك كذا، يعني: قلت لك إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ في تسميتنا آلهة ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا علمنا بعبادتكم إيانا وَأَلْقَوْا يعني المشركين إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ استسلموا وانقادوا لحكمه فيهم ولم تغن عنهم آلهتهم شيئا وَضَلَّ زال [......] «1» عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من إنها تشفع لهم.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ.
روى عبد الله بن مرة عن مسروق قال: قال عبد الله: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ، قال:
عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال، ابن عبّاس ومقاتل: يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار يسيل من تحت العرش، يعذبون بها ثلث على مقدار الليل وثلثان على مقدار النهار.
سعيد بن جبير: حيّات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمّتها أربعين خريفا.
وقيل: إنهم يخرجون من حر النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار.
ويقال: هو أنهم يحملون أثقال أتباعهم. كما قال الله تعالى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «2» .
__________
(1) كلام غير مقروء.
(2) سورة العنكبوت: 13.(6/36)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
ويقال: إنه يضاعف لهم العذاب.
بِما كانُوا يُفْسِدُونَ في الدنيا من الكفر وصد الناس عن الإيمان وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني عليها، وإنما قال: مِنْ أَنْفُسِهِمْ لأنه كان يبعث إلى الأمم أنبياءها منها وَجِئْنا بِكَ يا محمّد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ الذين بعثت إليهم وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه من الأمر والنهي، والحلال والحرام، والحدود والأحكام وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ،
[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 100]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يعني بالإنصاف وَالْإِحْسانِ إلى الناس، الوالبي عن ابن عبّاس: العدل: التوحيد، والإحسان أداء الفرائض.
[وقيل:] العدل: شهادة أن لا إله إلّا الله، والإحسان: الإخلاص فيه.
عطاء عنه: العدل: مصطلح الأنداد، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، مقاتل: العدل:
التوحيد، والإحسان: العفو عن الناس، وقيل: العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال.
كقوله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «1» .
وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى صلة الرحم وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ القبيح من الأقوال والأفعال.
وقال ابن عبّاس: الزنا.
وَالْمُنْكَرِ ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة وَالْبَغْيِ الفسق والظلم.
وقال ابن عيينة: [والعدل في مستوى] السر والعلانية. والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتعظون.
قتادة: إن الله تعالى أمر عباده بمكارم الأخلاق ومعاليها، ونهاهم عن سفاسف الأخلاق ومذاقها.
وقال ابن مسعود: وأجمع آية في القرآن هذه الآية.
شهر بن حوشب عن ابن عبّاس قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بفناء بيته بمكة جالسا إذ مرّ به عثمان بن مظعون فكسر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله: «ألا تجلس» [8] قال: بلى، فجلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستقبله فبينما هو يحدّثه إذ شخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصره إلى السماء فنظر ساعة فأخذ يضع بصره حتّى وقع على يمينه في الأرض فتحرّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنّه يستفهم شيئا يقال له، ثمّ شخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصره إلى السماء كما شخص أول مرة فأتبعه بصره حتّى توارى في السماء فأقبل إلى
__________
(1) سورة البقرة: 83.(6/37)
عثمان كحالته الأولى، فقال: يا محمّد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل فعلتك لغداة؟ قال:
«وما رأيتني فعلت» ؟ قال: رأيتك تشخص بصرك إلى السماء ثمّ وضعته على يمينك فتحرّفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفهم شيئا يقال لك. فقال: «أوفطنت إلى ذلك» ؟ قال:
نعم، قال: «أتاني رسول الله جبرائيل آنفا وأنت جالس» قال: نعم: فماذا قال: لك؟ قال: قال:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ إلى آخره.
قال عثمان: فذلك الحين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلّى الله عليه وسلّم «1» .
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ على الوليد بن المغيرة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ إلى آخر الآية، قال له: يا ابن أخ أعد، فأعاد عليه. فقال: إن له والله لحلاوة وإن عليه لطلاوة فإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول بشر، ثمّ لم يسلم، فأنزل الله فيه: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى «2» .
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها تشديدها [ويحنثوا فيها] ، والتوكيد لغة أهل الحجاز، أمّا أهل نجد فإنهم يقولون: أكّدت تأكيدا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا بالوفاء إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية وإن كان حكمها عاما.
فقال بعضهم: نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرهم الله بالوفاء بها.
وقال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية.
ثمّ ضرب جلّ ثناؤه مثلا لنقض العهد، فقال عز من قائل: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أي من بعد إبرامه وإحكامه، وكان بعض أهل اللغة يقول: القوة ما غزل على طاقة واحدة ولم يثن.
الكلبي ومقاتل: هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش يقال لها: ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم كانت اتخذت مغزلا بقدر ذراع وصنارة مثل الإصبع وفتل عظمة على قدرها وكانت تغزل من الصوف والشعر والوبر وتأمر جواريها بذلك فكنّ يغزلنّ من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار أمرت جواريها بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها.
وقوله أَنْكاثاً يعني أنقاضا واحدتها نكثة، وهو كل ما نقض بعد الفتل غزلا كان أو حبالا تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي دخلا وخيانة وخديعة.
قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 189.
(2) سورة النجم: 34.(6/38)
أَنْ تَكُونَ أي لأن تكون أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى أكثر وأجلّ مِنْ أُمَّةٍ.
قال مجاهد: ذلك أنهم كانوا يحالفون الحلف فيجدون أكبر منهم وأعز ويستيقنوه فيحلف هؤلاء ويحالفون الأكثر فنهاهم الله تعالى عن ذلك إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ يختبركم بأمره إياكم بالوفاء بالعهد وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في الدنيا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً على ملّة واحدة، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بخذلانه إياهم عدلا منه فيهم وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بتوفيقه إياهم فضلا منه وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا خديعة وفسادا بَيْنَكُمْ يغرون بها الناس فتسكنون إلى إيمانكم ويأمنون ثمّ ينقضونها ويختلفون فيها فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها فتهلكوا بعد ما كنتم آمنين، والعرب تقول لكل مبتل بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد سلامة: زلّت قدميه.
كقول الشاعر:
سيمنع منك السبق إن كنت سابقاً ... وتلطع إن زلت بك القدمان «1»
وَتَذُوقُوا السُّوءَ العذاب بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني ولا تنقظوا عهودكم تطلبون بنقضها عوضا قليلا من الدنيا، ولكن أوفوا بها
__________
(1) جامع البيان للطبري: 14/ 221 وفيه: النعلان بدل: القدمان، تفسير القرطبي: 10/ 172، وفيه وتقتل بدل وتلطع.(6/39)
فإنما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فصل ما بين العوضين ثمّ بين ذلك ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ بالنون عاصم. الباقون بالياء.
الَّذِينَ صَبَرُوا على الوفاء في السرّاء والضراء أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ دون أسوأها ويغفر سيئاتهم بفضله مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً اختلفوا فيها:
فقال سعيد بن جبير وعطاء والضحاك: هي الرزق الحلال، وهو رواية ابن أبي مالك وأبي الربيع عن ابن عبّاس.
وقال الحسن وعلي وزيد ووهب بن منبّه: هي القناعة والرضا بما قسم الله، وهذه رواية عكرمة عن ابن عبّاس.
وقال مقاتل بن حيان: يعني أحسن في الطاعة، وهي رواية عبيد بن سليم عن الضحاك، فقال: من يعمل صالحا وَهُوَ مُؤْمِنٌ في فاقة أو ميسرة فحياة طيبة. ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل عملا صالحا فمعيشة ضنك لا خير فيها.
أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة.
الوالبي عن ابن عبّاس: هي السعادة، مجاهد وقتادة وابن زيد: هي الجنة، ومثله روي عن الحسن وقال: لا تطيب الحياة لأحد إلّا في الجنة.
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
قال أبو صالح: جلس ناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الأوثان، فقال هؤلاء:
نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ يعني فإذا كنت قارئا للقرآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.
قال محمّد بن جرير، وقال الآخرون: مجازه: فإذا أردت قراءة القرآن فَاسْتَعِذْ، كقوله:
إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا «1» الآية، أي الطهارة مقدمة على الصلاة، وقوله: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ «2» معناها وإذا أردتم تطليق النساء لأنه محال أن يأمرهم بالتطليق المعين بعد ما مضى التطليق. وأما حكم الآية: فاعلم أن الاستعاذة عند قراءة القرآن مستحبة في الصلاة وغير الصلاة، هذا قول جماعة الفقهاء إلّا مالكا، فإنه لا يتعوذ إلّا في قيام رمضان، واحتج بما
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفتتح الصلاة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
، وإنما تأويل هذا
__________
(1) سورة المائدة: 6.
(2) سورة الطلاق: 1.(6/40)
الحديث أنه كان يفتتح القراءة في الصلاة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، يدل عليه أن الصلاة تفتتح بالتكبير بلا خلاف على أن الخبر متروك الظاهر.
ويدل على صحة ما قلنا
حديث جبير بن مطعم قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي فقال:
«الله أكبر كبيرا والحمد لله وسبحان الله بكرة وأصيلا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخة ونفثة وهمزة» .
وقال ابن مسعود: نفخة الكبر ونفثة الشعر وهمزة المرض يعني الجنون، فإذا تقرر هذا ثبت أن الخبر المتقدم متروك بالظاهر مأخوذ المعنى.
واختلف الفقهاء في وقت الاستعاذة:
فقال أكثرهم: قبل القراءة، وهو قول الجمهور، وهو الصحيح المشهور.
وقال أبو هريرة: يتعوذ بعد القراءة وإليه ذهب داود بن علي.
وقال مالك في الصلاة التي يتعوذ فيها وهي قيام رمضان: يتعوذ بعد القراءة واحتج بظاهر الآية، وقد بينّا وجهها، والدليل على أنها قبل القراءة، ما
روى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ثمّ يقرأ
، وأما الكلام في محل الاستعاذة في الصلاة، فقد قال الشافعي: يقولها في أول الركعة، وقيل: إن قال حيث يفتتح كل ركعة قبل القراءة فحسن ما يقرأ به في شيء من الصلاة كما أمره به في أول ركعة. هذا قول عامة الفقهاء.
وقال ابن سيرين: يتعوذ في كل ركعة قبل القراءة. والصحيح المذهب الأوّل، لأن
المروي في الأخبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان يتعوّذ إلّا في الأولى
، وأما صفتها وفي الصلاة فهي أن ينظر فإن كانت صلاة يسرّ فيها بالقراءة أسرّ فيها بالاستعاذة، وإن كانت يجهر فيها بالقراءة:
فقال الشافعي في (الأم) : روي أن أبا هريرة أمّ الناس رافعا صوته: ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم «1» ، وكان ابن عمر يعوذ في نفسه.
قال الشافعي: فإن شاء جهر بها وإن شاء أسرّ بها.
قال الثعلبي: والاختيار الإخفاء ليفرّق بين ما هو قرآن وما هو ليس بقرآن.
فأما لفظة الاستعاذة فالأولى والمستحب أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لنص القرآن
والخبر المتصل المتسلسل، وهو أني قرأت على الشيخ أبي الفضل محمّد بن أبي جعفر
__________
(1) كتاب الام: 1/ 129.(6/41)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
الخزاعي، فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في المواضع كلّها فأني قرأت على أبي الحسين عبد الرحمن بن محمّد بالبصرة فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على عبد الله أبي حامد الزنجاني فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على أبي عثمان إسماعيل بن إبراهيم الأهوازي فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على محمّد بن عبد الله بن بسطام فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على روح بن عبد المؤمن فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على يعقوب الحضرمي فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على سلام بن المنذر، فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عاصم فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على زر بن حبيش فقلت:
أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عبد الله بن مسعود فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم، فقال لي: «يا ابن أم عبد قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرائيل عن القلم عن اللوح المحفوظ» .
قال ابن عجلان: وهكذا علمني أخي أحمد، وقال: هكذا علمني أخي، وقال: هكذا علمني وكيع بن الجراح، وقال: هكذا علمني سفيان الثوري.
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ حجة وولاية عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
قال سفيان: لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ أن يحملهم على ذنب لا يغفر.
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ يطيعونه وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ أي بالله مُشْرِكُونَ.
وقال بعضهم: الكناية راجعة إلى الشيطان، ومجاز الكلام: الذين يسمعون قوله مشركون بالله، وهذا كما يقال: صار فلان بك عالما، أي من أجلك وبسببك عالما.
[سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 106]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106)(6/42)
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ يعني وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ فيما يغيّر ويبدل أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما عدّل من أحكامه قالُوا إِنَّما أَنْتَ يا محمّد مُفْتَرٍ وذلك أن المشركين قالوا: إن محمدا يسجد بأصحابه يأمرهم اليوم ويؤمّرهم غدا ويأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه.
قال الله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حقيقة القرآن وبيان الناسخ والمنسوخ من الأحكام قُلْ نَزَّلَهُ يعني القرآن رُوحُ الْقُدُسِ جبرئيل مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا تثبيتا للمؤمنين وتقوية لإيمانهم [.....] «1» تصديقا ويقينا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ آدمي وما هو من عند الله، واختلف العلماء في هذا البشر من هو:
قال ابن عبّاس: كان قينا بمكة اسمه بلعام وكان نصرانيا يسمى اللسان وكان المشركون يرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدخل عليه ويخرج منه فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عكرمة وقتادة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرّي غلاما لبني المغيرة يقال له يعيش وكان يقرأ الكتب، [فقالوا] : إنما يعلمه يعيش فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الفراء: قال المشركون إنما يتعلّم محمّد عن مملوك كان لحويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه وكان أعجمي فأنزل الله تعالى هذه الآية «2» .
وقال ابن إسحاق: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني، يقال له: خير، عبد لبعض بني الحضرمي وكان يقرأ الكتب.
وقال المشركون: والله ما يعلم محمدا كثيرا ما يأتي به إلّا خير النصراني، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال طلحة بن عمر: بلغني أن خديجة رضى الله عنها كانت تختلف إلى خير فكانت قريش تقول: إن عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة وخديجة، تعلّم محمّدا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال عبيد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا عبدان من أهل [عين التمر] يقال لأحدهما
__________
(1) غير مقروءة في المخطوط.
(2) زاد المسير: 4/ 360. [.....](6/43)
يسار وللآخر خير، وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرآن بالتوراة والإنجيل، فربما مرّ بهما النبي صلّى الله عليه وسلّم وهما يقرآن فيقف فيسمع «1» .
وقال الضحاك: وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا آذاه الكفار يقصد إليهما فيستروح بكلامهما، فقال المشركون: إنما يتعلم محمّد منهما، فنزلت هذه الآية.
وقال السدي: كان بمكة رجل نصراني يقال له ابن ميسرة يتكلّم بالرومي، فربما يقعد إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الكفار: إنما يتعلم محمّد منه، فنزلت هذه الآية.
وروى علي بن الحكم وعبيد بن سليمان عن الضحاك: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ قال: كانوا يقولون: إنما يعلمه سلمان الفارسي، وهذا قول غير مرضي لأن سلمان إنما أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وهذه الآية مكية.
قال الله تكذيبا لهم [وإلزاما] للحجة عليهم: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أي يميلون إليه ويشيرون إليه. وخص الكسائي هذا الحرف من بين سائره فقرأ بفتح الياء والحاء لأنه كان يحدّثه عن سفيان عن أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله كذلك.
أَعْجَمِيٌّ والفرق بين الأعجمي والعجمي، والعربي والإعرابي: أن الأعجمي لا يفصح وأنه كان نازلا بالبادية والعجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا. والإعرابي: البدوي، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحا.
وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ فصيح، وأراد باللسان القرآن لأن العرب تقول للقصيدة واللغة: لسان، كقول الشاعر:
لسان السوء تهديها إلينا ... وحنت ما حسبتك أن تحينا «2»
يعني باللسان القصيدة والكلمة.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ثمّ إن الله تعالى بعد ما أخبر عن إغراء المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما نسبوه إليه من الافتراء على الله وتبين أنهم المفترون دونه، فقال عز من قائل: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ لا محمدا.
روى يعلي بن الأشدق عن عبد الله بن حماد قال: قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال:
«يكون ذلك» . قال: قلت: يا رسول الله المؤمن يسرق؟ قال: «قد يكون ذلك» . قال: قلت:
يا رسول الله المؤمن يكذب؟
__________
(1) زاد المسير: 4/ 360.
(2) مغني اللبيب: 1/ 181.(6/44)
قال: «لا، قال الله إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ» «1» .
وروى [سهيل] بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر يقول: إيّاكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان. مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ اختلف النحاة في العامل في (من) في قوله (مَنْ كَفَرَ) ومن يؤله وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً.
فقال نحاة الكوفة: جوابهما جميعا في قوله: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ إنّما هذان جزءان إن اجتمعا أحدهما منعقد بالآخر فجوابهما واحد، كقول القائل: من يأتنا فمن يحسن نكرمه، بمعنى من يحسن ممن يأتينا نكرمه «2» .
وقال أهل البصرة: بل قوله (مَنْ كَفَرَ) مرفوع بالرد على الذي في قوله إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ومعنى الكلام: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، ثمّ استثنى فقال إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.
قال ابن عبّاس: نزلت هذه الآية في عمار وذلك، أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قلبها بحربة، وقيل: لما أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام رحمة الله ورضوانه عليهما، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها.
قال قتادة: أخذ بنو المغيرة عمارا وغطوه في بئر مصون وقالوا له: أكفر بمحمد [ولم يتعمد] ذلك وقلبه كان مطمئنا فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن عمارا كفر. فقال: «كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه» .
فأتى عمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبكي، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح عينيه، وقال: «ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» [9] .
فأنزل الله هذه الآية «3» .
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في ناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمّد: إن هاجروا إلينا فإنا [لا نرى أنكم] منّا حتّى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركهم قريش بالطريق ففتنوهم فكفروا كارهين.
وروى ابن عون عن محمّد بن سيرين قال: تحدثنا أن هذه الآية نزلت في شأن عياش بن
__________
(1) الدعوات للراوندي: 118 ح 275.
(2) راجع تفسير الطبري: 14/ 236.
(3) أسباب النزول للواحدي: 190.(6/45)
أبي ربيعة، وكان عياش من المهاجرين الأولين [وألجأ يضربه] «1» أن يكون بلغ ما بلغ أصحابه هذه [الفعلة] وكان قدم مهاجرا وكان برا بأمه، فحلفت أن لا تأكل خبزا ولا تستظل بظل حتّى يرجع إليها ابنها قال: فقدم عليه أبو جهل وكان أخاه لأمه ورجل آخر فأراد أن يرجع معه فقال له أبو جهل: أمك [لو قد جاعت ما أكلت ولو قد شمست] ما استظلت، فقال ابنها: بلى ألقاها ثمّ أرجع. فقال: أما إذا أتيت فلا [تعطين راحلتك] أحدا، فإنه لا يزال لك من أمرك النصف ما لم تعط راحلتك أحدا فانطلق هو وأبو جهل والرجل، فلما كانوا ببعض الطريق قال أبو جهل: لو تحوّل كل واحد منا على راحلة صاحبه فتحول كل واحد منهم على راحلة صاحبه فساروا.
وضربه أبو جهل بالسوط على رأسه وحلّفه باللات والعزى فلم يزل به حتّى أعطاه الذي أراد بلسانه، ثمّ انطلق فرجع، وفيه نزلت هذه الآية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في جبر مولى عامر بن الحضرمي، أكرهه سيّده على الكفر فكفر مكرها وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، وأسلم مولى جبر وحسن إسلامه وهاجر خير مع سيده.
وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي فتح صدرا وكفر بالقبول وأتى على اختيار واستحباب فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وفي هذه الآية دليل على أن حقيقة الايمان والكفر تتعلق بالقلب دون اللسان وأن اللسان هو المعبّر والترجمان.
حكم الآية
اتفق الفقهاء على أن المكره على الكفر، وعلى شتم الرسول صلّى الله عليه وسلّم والأصحاب وترك الصلاة وقذف المحصنة وما أشبهها من ترك الطاعات وارتكاب الشبهات بوعيد متلف أو ضرب شديد لا يحتمله إن له أن يفعل ما أكره عليه، وإن أبى ذلك حتى يغضب في الله فهو أفضل له.
وأما الإكراه على الطلاق فاختلفوا فيه:
فأجاز أهل العراق الطلاق المكره، وكذلك قالوا في الإكراه على النذور والايمان [والرجعة] ونحوها، رأوا ذلك [جائزا] ورووا في ذلك أحاديثا واهية الأسانيد.
وأما مالك والأوزاعي والشافعي: فإنهم أبطلوا طلاق المكره وقالوا: لما وجدنا الله سبحانه وتعالى عذر المكره على شيء، ليس [وراءه] في الشر مذهب وهو الكفر ولم يحكم به مع الإكراه، علمنا أن ما دونه أولى بالبطول وأجرى في العذر.
وهو قول عمر بن الخطاب وابنه وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عبّاس وعبد الله بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والقاسم بن مخيمرة وعبيد بن عمير، وللشافعي
__________
(1) هكذا في الأصل.(6/46)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
في هذه المقالة مذهب ثالث: وهو أنه أجاز طلاق المكره إذا كان الإكراه من السلطان، ولم يجوّز ذلك إذا كان الإكراه من غير السلطان.
[سورة النحل (16) : الآيات 107 الى 110]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا إلى قوله ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي [طردوا] ومنعوا من الإسلام [ففتنهم] المشركون ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا على الايمان والهجرة والجهاد إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد تلك الفتنة [والفعلة] لَغَفُورٌ رَحِيمٌ نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخو أبي جهل من الرضاعة، وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي، فتنهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثمّ إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وقال الحسن وعكرمة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرخ، وكان يكتب للنبي صلّى الله عليه وسلّم فاستزلّه الشيطان فلحق بالكفار، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان وكان أخاه لأمه فأجاره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ أسلم وحسن إسلامه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وأما قوله (فُتِنُوا) فقرأ عبد الله بن عامر: (فَتَنُوا) بفتح الفاء والتاء، ردّه إلى من أسلم من المشركين الذين فتنوا المسلمين واعتبر بقوله جاهَدُوا وَصَبَرُوا فأخبر بالفعل عنهم.
وقرأ الباقون: بضم الفاء وكسر التاء، اعتبارا بما قبله إلا من أكره.
[سورة النحل (16) : الآيات 111 الى 117]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها تخاصم وتحتج عن نفسها بما أسلفت من خير(6/47)
وشر [مشتغلا بها لا تتفرّغ] إلى غيرها والنفس تذكر وتؤنث وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
روى أبو صالح المري عن جعفر بن زيد قال: قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لكعب الأحبار: يا كعب خوّفنا وحدّثنا حديثا [تنبهنا به] قال: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو [وافيت] القيامة بمثل عمل سبعين نقيبا، لأتيت عليك ظلمات وأنت لا تهمل إلّا نفسك وأن لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرّب ولا نبي مبعث إلا وقع جاثيا على [ركبتيه] حتّى إن إبراهيم ليدلي [بالخلة] فيقول: يا رب أنا خليلك إبراهيم لا أسالك إلا نفسي وأن تصديق ذلك الذي أنزل عليكم يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها.
وروى عكرمة عن ابن عبّاس في هذه الآية قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتّى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح: يا رب الروح منك وأنت خلقته لم تكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها، ويقول الجسد إنما خلقتني كالخشب ليس لي يد ابطش بها ولا عين أبصر بها ولا رجل أمشي بها، فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني وبه أبصرت عيني وبه مشت رجلي فجدد عليه العذاب. قال: فيضرب الله لهما مثال أعمى ومقعدا دخلا حائطا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمر والمقعد لا يناله، فنادى المقعد الأعمى: أتيني هاهنا حتّى تحملني، قال: فدنا منه فحمله فأصابوا من الثمر فعلى من يكون العذاب، قالا:
عليهما قال: عليكما جميعا العذاب، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً يعني مكة كانَتْ آمِنَةً لا يهاج أهلها ولا يغار أهلها مُطْمَئِنَّةً قارة بأهلها [لا يحتاجون] إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليها سائر العرب يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ يحمل إليها من البر والبحر، نظيره قوله يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ جمع النعمة وقيل: جمع نعم، وقيل:
جمع نعماء مثل بأساء وأبوس فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ
ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرّقة والجيفة والكلاب الميتة [والعلهز] وهو الوبر يعالج بالدم، ثم إن رؤساء مكة تكلموا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون
وَالْخَوْفِ يعني بعوث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسراياه التي كانت تطيف بهم.
وروى الخفاف والعباس عن أبي عمرو: (وَالْخَوْفَ) بالنصب بإيقاع أذاقها عليه بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
روى مشرح بن فأعان عن سليمان بن عمر بن عثمان قال: صدرنا من الحج مع حفصة زوجة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعثمان محصور بالمدينة، فكانت تسأل عنه حين رأت راكبين، فأرسلت إليهما تسألهما فقالا: قتل. فقالت حفصة: والذي نفسي بيده إنها- يعني المدينة- القرية التي قال الله(6/48)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
تعالى وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً الآية. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ إلى قوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ بفتح التاء والكاف بمعنى ولا تقولوا الكذب الذي تصف ألسنتكم وتكون (ما) للمصدر.
وقرأ ابن عبّاس: (الْكُذُبُ) برفع الكاف والذال والباء على نعت الألسنة هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ويقولون: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا وأَمَرَنا بِها ... إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ لا ينجون من عذاب الله مَتاعٌ قَلِيلٌ يعني الذي هم فيه من الدنيا متاع قليل أو لهم متاع قليل في الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة
[سورة النحل (16) : الآيات 118 الى 128]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعني في سورة الأنعام وهو قوله وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «1» الآية.
وَما ظَلَمْناهُمْ بتحريم ذلك عليهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فجزيناهم ببغيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ الآية قيل الهاء في قوله بعدها راجع إلى الجهالة، وقيل:
إلى المعصية لأن السوء بمعنى المعصية، فردّ الكناية إلى المعنى، وقيل: إلى الفعلة إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً أي معلما للخير يأتم بأهل الدنيا، وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة والأخلاق الجميلة ما يجتمع في أمة.
روى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً فقلت: إنما قال الله: (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً) . فقال: أتدري ما الأمة وما
__________
(1) سورة الأنعام: 146.(6/49)
القانت؟ قلت: الله أعلم، قال: الأمة الذي يعلّم الخير والقانت المطيع لله. وكذلك كان معاذ بن جبل فكان يعلّم الخير وكان مطيعا لله ولرسوله.
وقال مجاهد: كان مؤمنا وحده والناس كفار كلهم، وقال قتادة: ليس من أهل دين إلا يقولونه ويرضونه.
شهر بن حوشب قال: لم يبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض ويخرج بركتها، إلّا زمن إبراهيم فإنه كان وحده قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً مسلما مستقيما على دين الإسلام وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني الرسالة والحكمة والثناء الحسن.
وقال مقاتل بن حيان: يعني الصلوات في قول هذه الأمة: اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم، [وقيل] أولادا أبرارا على الكبر. وقيل: القبول العام في جميع الأمم وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً حاجا مسلما وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى إبراهيم (عليه السلام) فراح به إلى منى فصلى به الصلوات جميعا الظهر، والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر ثمّ غدا به إلى عرفات فصلى به الصلاتين جميعا الظهر والعصر، ثمّ راح فوقف به حتّى إذا غربت الشمس أفاض به إلى جمع فصلى به الصلاتين المغرب والعشاء، ثمّ بات به حتّى إذا كان كما عجل ما يصلي أحد من المسلمين صلى به [الفجر] ، ثمّ وقف حتّى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين أفاض به إلى منى فرمى الجمرة وذبح وحلق، ثمّ أفاض به إلى البيت فطاف به» [10] فأوحى الله تعالى إلى محمّد أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» .
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يقول: ما فرض الله تعالى بتعظيم السبت وتحريمه إلّا عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ.
فقال بعضهم: هو أعظم الأيام، لأن الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثمّ سبت يوم السبت.
وقال آخرون: بل أعظم الله يوم الأحد لأنه اليوم الذي ابتدأ الله فيه خلق الأشياء واختاروا تعظيم غير ما فرض الله عليهم تعظيمه، وتركوا تعظيم يوم الجمعة الذي فرض عليهم تعظيمه واستحلوه.
__________
(1) الدر المنثور: 4/ 134.(6/50)
قال الكلبي: أمرهم موسى بالجمعة فقال: تفرغوا لله عزّ وجلّ في كل سبعة أيام يوما واحدا فأعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه لصناعتكم، وستة أيام لصناعتكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا لا نريد إلّا اليوم الذي فرض الله من الخلق يوم السبت، فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم فيه.
ثمّ جاءهم عيسى بن مريم بالجمعة فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، يعنون اليهود واتخذوا [يوم] الأحد فقال الله إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ.
قال قتادة: الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني اليهود واستحله بعضهم وحرمه بعضهم.
روى همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتينا من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد» [11] «1» .
روى المسيب عن أبي سنان عن مكحول الشامي قال: كان لعمر بن الخطاب على يهودي حق فلقيه عمر فقال: والذي أصطفى أبا القاسم على البشر لا تعمل لي وأنا أطلبك [بشيء] .
فقال اليهودي: ما اصطفى الله أبا القاسم على البشر، فرفع عمر عليه السلام يده فلطم عينه، فقال اليهودي: بيني وبينك أبو القاسم، فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال اليهودي: إن عمر زعم إن الله اصطفاك على البشر وإني زعمت أن الله لم يصطفك على البشر، فرفع يده فلطمني، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما أنت يا عمر فأرضه من لطمته، بلى يا يهودي، آدم صفي الله، وإبراهيم خليل الله، وموسى نجي الله، وعيسى روح الله، وأنا حبيب الله، بلى يا يهودي اسمان من أسماء الله تعالى سمّى بهما أمتي، سمّى نفسه السلام وسمّى أمتي المسلمين، وسمّى نفسه المؤمن وسمّى أمتي المؤمنين، بلى يا يهودي طلبتم يوما وذخر لنا- يعني يوم الجمعة- فاليوم لنا عيد وغدا لكم وبعد غد للنصارى، بلى يا يهودي أنتم الأولون ونحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بلى يا يهودي إن الجنة محرّمة على الأنبياء حتّى أدخلها أنا وإنها لمحرمة على الأمم حتّى يدخلها أمتي» [12] «2» .
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ دين ربك بِالْحِكْمَةِ بالقرآن وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يعني مواعظ القرآن وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن.
قال المفسرون: أعرض عن أذاهم ولا تقصّر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق،
__________
(1) كتاب الام للشافعي: 1/ 217، ومسند أحمد: 2/ 312.
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 7/ 444 ح 162.(6/51)
ونسختها آية القتال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ.
قال أكثر المفسرين: سورة النحل مكية كلها إلّا ثلاث آيات وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخرها، فإنها نزلت بالمدينة في شهداء أحد، وذلك
أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلهم يوم أحد في تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة، حتّى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا وقد مثّل به غير حنظلة الراهب فإن أباه أبو عامر الراهب كان مع أبي سفيان، فتركوا حنظلة لذلك، فقال المسلمون حين رأوا ذلك: لئن أظهرنا الله عليهم لتزيدنّ على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ولنفعلنّ ولنفعلنّ، ووقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عمّه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وإذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه، وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمصته ثمّ استرطبتها لتأكلها، فلم تلبث في بطنها حتّى رمت بها، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال:
«أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئا من جسده النار» فلما نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «رحمة الله عليك فإنك ما علمتك ما كنت إلا فعالا للخيرات وصولا للرحم، ولولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أدعك حتّى تحشر من أفواه شتى، أم والله لئن أظفرني الله عليهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك» [13] «1» .
فأنزل الله تعالى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ الآية فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بل نصبر» [14] فأمسك عمّا أراد وكفّر يمينه.
وقال ابن عبّاس والضحاك: وكان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال، فلمّا أعز الله الإسلام وأهله ونزلت براءة وأمروا بالجهاد، نسخت هذه الآية.
وقال قوم: بل هذه الآية محكمة وإنما نزلت فيمن ظلم بظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالم أكثر مما نال الظالم منه أمر بالجزاء أو العفو ونهى عن الاعتداء. وهذا قول النخعي والثوري ومجاهد وابن سيرين، ثمّ قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي بمعونة الله وتوفيقه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ في إعراضهم عنك وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ.
قرأها بكسر الضاد هاهنا وفي سورة النحل ابن كثير والباقون: بالفتح واختاره أبو عبيد، وقال: لأن الضيق في قلة المعاش وفي المساكن، فأما ما كان في القلب والصدر فإنه ضيق.
وقال أبو عمرو وأهل البصرة: الضّيق بفتح الضاد، الغم والضيق بالكسر [الشدّة] .
__________
(1) المستدرك للحاكم: 3/ 197، وأسباب النزول للواحدي: 192.(6/52)
وقال الفراء وأهل الكوفة: هما لغتان معروفتان في كلام العرب مثل رطل ورطل.
وقال ابن قتيبة: الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهيّن ولين وليّن، وعلى هذا التأويل صفته كأنه قال: ولا تكن في أمر ضيق.
مِمَّا يَمْكُرُونَ من مكرهم إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ بالعون والنصرة.
روى شعبة عن أبي يونس عن أبي قزعة عن هرم بن حيان وقالوا له: أوصنا.
قال: أوصيكم بالآيات الأواخر من سورة النحل ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ إلى آخر السورة.(6/53)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
سورة بني إسرائيل (الإسراء)
مكية. وهي ستة ألف وأربعمائة وستون حرفا، وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة، ومائة وإحدى عشر آية
روى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين أعطى في الجنة قنطارين من الأجر والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية والاوقية منها خير من الدنيا [وما فيها] » [15] «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا.
عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تفسير سُبْحانَ اللَّهِ. قال: «تنزيه الله عن كل سوء»
ويكون سبحان بمعنى التعجب.
قال الأعشى:
أقول لما جاءني فخر ... سبحان من علقمة الفاخر
وفي بعض الحديث تفسير سُبْحانَ اللَّهِ: براءة الله من السوء «2» .
فالآية متضمنة للمعنيين جميعا.
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. اختلفوا فيه: قال بعضهم: كان أسراء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مسجد مكة.
__________
(1) مجمع البيان: 6/ 213.
(2) في هامش المخطوط: سبحان علم التسبيح كعثمان للرجل وانتصابه فعل مضمر متروك إظهاره تقديره: سبح الله سبحان ثم ذكر سبحان منزلة الفعل [فدل] على التنزيه من جميع القبائح التي يفعلها أعداءه.(6/54)
يدل عليه ما
روى قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبرئيل بالبراق ... »
وذكر حديث المعراج [16] «1» .
وقال الآخرون: عرج برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من دار أم هاني بنت أبي طالب أخت علي (رضي الله عنه) وزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي.
وقالوا: معنى قوله مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ من الحرم، لأن الحرم كله مسجد.
يدل عليه ما
روى الكلبي عن أبي صالح عن باذان عن أم هاني بنت أبي طالب أنها كانت تقول: ما أسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة فصلى في بيتي العشاء الآخرة فصليت معه، ثمّ قمت فنمت وتركته في مصلاه فلم انتبه حتّى أنبهني لصلاة الغداة، قال:
«قومي يا أم هاني أحدثك العجب» [17] .
فقلت: كل حديثك العجب بأبي أنت وأمي فقام وصلى الغداة فصليت معه فلما انصرف قال: «يا أم هاني لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بعد نومك ثمّ أتاني جبرئيل وأنا في مصلاي هذا فقال: يا محمّد أخرج فخرجت إلى الباب فإذا بملك راكب على دابة فقال لي:
اركب فركبت فسارت بي إلى بيت المقدس، فإذا أتيت على واد طالت يدا الدابة وقصرت رجلاها، فإذا أتيت على عقبة طالت رجلاها وقصرت يداها حتّى إذا انتهيت إلى بيت المقدس فصليت فيه ثمّ صليت صلاة الغداة معكم الآن كما تروني» «2» .
قال مقاتل: كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة.
إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يعني بيت المقدس، سمّي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ بالماء والأنهار والأشجار والثمار.
وقال مجاهد: سمّاه مباركا لأنه مقرّ الأنبياء، وفيه مهبط الملائكة والوحي، وهو الصخرة، ومنه يحشر الناس يوم القيامة.
لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا عجائب أمرنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وأما حديث المسرى، فاقتصرت به على الأخبار المأثورة المشهورة دون المناكير والأحاديث الواهية الأسانيد وجمعتها على نسق واحد مختصر، ليكون أعلى في الاستماع وأدنى إلى الانتفاع، وهو ما
روى الزهري عن ابن سلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) راجع الدر المنثور: 4/ 157، وتاريخ بغداد: 11/ 257. [.....]
(2) مجمع الزوائد: 1/ 77، والمعجم الأوسط: 4/ 165.(6/55)
وروى السدي عن محمّد بن السائب عن باذان عن ابن عبّاس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: دخل كلام بعضهم في بعض قالوا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما كانت ليلة أسري بي وأنا بمكة بين النائم واليقظان، جاءني جبرئيل (عليه السلام) فقال يا محمّد قم فقمت فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل فقال جبرئيل لميكائيل: ائتني بطشت من ماء زمزم لكيما [وعطر قلبه] «1» وأشرح له صدره قال: فشق بطني فغسله ثلاث مرات واختلف إليه ميكائيل بثلاث طشات من ماء زمزم، فشرح صدري ونزع ما كان فيه من غل وملاه حلما وعلما وإيمانا وختم بين كتفيّ بخاتم النبوة، ثمّ أخذ جبرئيل بيدي حتّى انتهى بي إلى سقاية زمزم فقال لملك: ائتني بنور من ماء زمزم ومن ماء الكوثر، فقال:
توضأ فتوضأت ثمّ قال لي: انطلق يا محمّد. قلت: إلى اين؟ قال: إلى ربك ورب كل شيء، فأخذ بيدي وأخرجني من المسجد فإذا أنا بالبراق- دابة فوق الحمار ودون البغل- خدّه كخد الإنسان وذنبه كذنب البعير وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الإبل وأظلافه كأظلاف البقر وصدره كأنه ياقوتة حمراء وظهره كأنه درة بيضاء عليه رحل من رحائل الجنة، وله جناحان في فخذيه يمر مثل البرق خطوة منتهى طرفه فقال لي: اركب، وهي دابة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام.
قال: فلما وضعت يديّ عليه شمس «2» واستعصى عليّ، فقال جبرئيل: مه يا براق، فقال البراق: يا جبرئيل [مس ظهري] «3» فقال جبرئيل: هل مسست [ظهرا] «4» قال: لا والله إلّا إني مررت يوما على [نصاب إبل] فمسحت يدي على رؤسهما وقلت:
إن قوما يعبدونكما من دون الله ضلال. فقال جبرئيل: يا براق أما تستحي فوالله ما ركبك مذ كنت قط نبي أكرم على الله من محمد صلّى الله عليه وسلّم قال: فارتعش البراق وأنصب عرقا حياء مني، ثمّ خفض لي حتى لزق بالأرض، فركبته واستويت عليه قام بي جبرئيل نحو المسجد الأقصى بخطوا البراق مدّ البصر يرسل إلى جنبي لا يفوتني ولا أفوته حينا أنا في مسيري إذا جاءني نداء عن يميني قال: يا محمّد على رسلك أسلك بقولها ثلاثا فلم أرفق عليه ثمّ مضيت حتّى جاوزته، فإذا أنا بامرأة عجوز رفعت لي عليها من كل زينة وبهجة تقول: يا محمّد إليّ، فلم ألتفت إليها وقلت: يا جبرئيل من هذا الذي ناداني عن يميني؟ فقال: داعية اليهود والذي نفسي بيده لو أجبته لتهودت أمتك من بعدك والذي ناداك من يسارك داعية النصارى، والذي نفسي بيده لو أجبت لتنصّرت أمتك من بعدك، فأما التي رفعت لك بهجتها وزينتها فهي الدنيا لو التويت إليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) شمست الدابة: شردت وجمحت وضعت ظهرها.
(3) هكذا في الأصل.
(4) هكذا في الأصل.(6/56)
ثمّ أتيت بإناءين أحدهما اللبن والآخر خمرة فقيل لي: اشرب أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته. فقال لي جبرئيل: أصبت الفطرة أنت وأمتك، أما إنك لو أخذت الخمر لخمرت أمتك من بعدك قال: ثمّ سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسار معه جبرئيل فأتى على قوم يزرعون ويحصدون في يوم واحد، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء المهاجرون في سبيل الله يضاعف لهم الحسنة سبعمائة ضعف، وما أنفقوا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
قال: ثمّ أتى على قوم يرضخ رؤسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيئا. قال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة.
ثمّ أتى على قوم إقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع فيسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع، والزقوم قد صف جهنم وحجارتها فقال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟
فقال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ... وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «1» ثمّ أتى على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج طيب ولحم آخر خبيث، فجعلوا يأكلون الخبيث ويدعون النضيج الطيب، قال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هذا الرجل من يكون عنده المرأة حلالا طيبا فأتى امرأة خبيثة فيبيت معها حتّى يصبح، فالمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي الرجل الخبيث فتبيت معه حتّى تصبح، ثمّ أتى على [امرأة] في الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء آخر إلا فتّته. فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا مثل أمتك يقعدون على الطريق فيقطعون بمثل وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ «2» الآية ثمّ أتى على رجل جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا الرجل من أمتك عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يزيد عليها، ثمّ أتى على قوم يقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت. قال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟ قال هؤلاء خطباء الفتنة، ثمّ أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع.
قال: ما هذا؟ قال: هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثمّ يندم عليها ولا يستطيع أن يردها. قال: ثمّ أتى واد فوجد ريحا طيبة باردة وصوتا. قال: ما هذه الريح الطيبة وما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت الجنة، فقال: ربّ أرني بما وعدتني فقد كثر غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وفواكهي وعسلي ولبني وخمري ومائي، فأتني بما وعدتني. فقال: لك كل مؤمن ومؤمنة من آمن بي وبرسلي
__________
(1) سورة فصّلت: 46.
(2) سورة الأعراف: 56.(6/57)
وعمل صالحا ولم يشرك بي ولم يتخذ من دوني أندادا، ومن خشيني فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته ومن توكل عليّ كفيته، إني أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا لا أخلف الميعاد قد أفلح المؤمنين تبارك اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ قال: قد رضيت. قال ثمّ أتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا منتنه فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: [يا ربّ آتني] «1» ما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري واشتد حرّي ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة وكل خبيث وخبيثة وكل جبار لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ.
قالت: قد رضيت يا رب، ثمّ سار ومعه جبرئيل فقال له جبرئيل: انزل فصل. قال: فنزلت وصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة إلى الله. ثمّ قال: انزل فصلّ قال فنزلت فصليت فقال: أتدري أين صليت! صليت بطور سيناء حيث كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى ثمّ قال:
انزل فصل، قال: فنزلت فصليت. فقال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى (عليه السلام) قال: ثمّ مضينا حتّى أتينا بيت المقدس فلما انتهيت إليه إذا أنا بملائكة قد نزلوا من السماء يتلقونني بالبشارة والكرامة من عند رب العزة يقولون: السلام عليك يا أول ويا آخر ويا حاشر، قال: قلت يا جبرئيل ما تحيتهم إياي؟ قال: إنك أول من تنشر عنه الأرض وعن أمتك، وأول شافع وأول مشفع وإنك آخر الأنبياء وإن الحشر لك وبأمتك يعني حشر يوم القيامة» .
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثمّ جاوزناهم حتّى انتهينا إلى باب المسجد، فأنزلني جبرئيل وربط البراق بالحلقة الي كانت تربط بها الأنبياء (عليه السلام) بحطام عليه من حرير الجنة، فلما دخلت الباب إذا أنا بالأنبياء والمرسلين» [18] «2» .
وفي حديث أبي العالية: «أرواح الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله قبلي من لدن إدريس ونوح إلى عيسى قد جمعهم الله عزّ وجلّ، فسلموا عليّ وحيوني بمثل تحية الملائكة قلت:
يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: إخوتك الأنبياء، زعمت قريش أن لله شريكا، واليهود والنصارى أن لله ولدا، سل هؤلاء المرسلين هل لله شريك؟ وذلك قوله تعالى وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ «3» فأقرّوا بالربوبية لله تعالى ثمّ جمعهم والملائكة صفوفا فقدمني وأمرني أن أصلي بهم فصليت بهم ركعتين. ثمّ إن الأنبياء أثنوا على ربهم فقال إبراهيم (عليه السلام) الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني مُلْكاً عَظِيماً وجعلني
__________
(1) عن تفسير الطبري: 15/ 12.
(2) راجع تفسير الطبري: 15/ 10- 16.
(3) سورة الزخرف: 45.(6/58)
أُمَّةً قانِتاً يؤتم بي وأنقذني من النار وجعلها عليّ بَرْداً وَسَلاماً. ثمّ إن موسى (عليه السلام) أثنى على ربّه فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي كلمني تكليما وجعل هلاك فرعون منه ونجاة بني إسرائيل على يديّ، وجعل من أمتي قوما يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. ثمّ إن داود (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلمني الزبور وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن والطير وأعطاني الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ. ثمّ إن سليمان (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي جنود الشياطين يعملون لي ما شئت مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ، وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلا وآتاني ملكا عظيما لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي وجعل ملكي ملكا طيبا ليس عليّ فيه حساب.
ثمّ إن عيسى (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي جعلني كلمة منه وجعلني أخلق مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وجعلني أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ
ورفعني وطهرني وأعاذني وأمّي مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
ثمّ إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قال: كلكم قد أثنى على ربه وأنا مثن على ربي فقال: الحمد لله الذي أرسلني رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وأنزل عليّ القرآن (فيه بيان كل شيء) وجعل أمتي خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «1» وجعل أمتي أُمَّةً وَسَطاً «2» وجعل أمتي هم الأولون والآخرون وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحا وخاتما.
فقال إبراهيم (عليه السلام) : بهذا أفضلكم محمّد، ثمّ أتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها: إناء فيه ماء فقيل له: اشرب فشرب منه يسيرا، ثمّ دفع إليه إناء آخر فيه لبن فقيل له: اشرب فشرب منه حتّى روى، ثمّ دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له: اشرب، فقال: لا أريده قد رويت. فقال له جبرئيل: قد أصبت أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلّا قليل، ولو رويت من الماء لغرقت وغرقت أمتك ثمّ أخذ جبرئيل (عليه السلام) بيدي فانطلق بي إلى الصخرة فصعد بي إليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثله حسنا وجمالا لم ينظر الناظرون إلى شيء قط أحسن منه. ومنه تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ أصله على صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسماء إحدى عارضيه ياقوتة حمراء والأخرى زبرجدة خضراء درجة من فضة ودرجة من ذهب ودرجة من زمرد مكلل بالدر والياقوت وهو المعراج الذي ينطلق منه ملك الموت لقبض الأرواح [لمغاراتهم فيمنكم شخص أسرعت] «3» عنه المعرفة إذا عاينه لحسنه، فاحتملني جبرئيل حتّى
__________
(1) سورة البقرة: 143.
(2) سورة آل عمران: 110.
(3) هكذا في الأصل.(6/59)
وضعني على جناحه ثمّ ارتفع بي إلى سماء الدنيا من ذلك المعراج، فقرع الباب فقيل: من؟
قال: أنا جبرئيل. قال: ومن معك؟ قال: محمّد.
قال: أوقد بعث محمّد؟ قال: نعم. قال: مرحبا به حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ففتح الباب ودخلنا. قال: فبينما أنا أسير في السماء الدنيا إذ رأيت ديكا له زغب أخضر ورأس أبيض بياض ريشه كأشد بياض ما رأيته قط، وزغب أخضر تحت ريشه كأشد خضرة ما رأيتها قط وإذا رجلا في تخوم الأرض السابعة السفلى ورأسه عند العرش مثنيّ عنقه تحت العرش له جناحان من منكبيه إذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب فإذا كان في بعض [الميل] نشر جناحيه وخفق بهما، وصرخ بالتسبيح لله عزّ وجلّ يقول سبحان الملك القدوس الكبير المتعال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فإذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض كلها وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ فإذا سكن ذلك الديك في السماء سكنت ديكة الأرض كلها، ثمّ إذا هاج بنحو ما فعلوا في السماء صاحت ديكة الأرض جوابا له بالتسبيح لله عزّ وجلّ بنحو قوله.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم أزل منذ رأيت ذلك الديك مشتاقا إليه أن أراه ثانية» .
قال: ثمّ مررت بملك نصف جسده مما يلي رأسه نار والنصف الآخر ثلج وما بينهم رتق، فلا النار يذيب الثلج ولا الثلج يطفئ النار، وهو قائم ينادي بصوت له حسن رفيع: اللهم مؤلف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين.
فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: ملك من الملائكة يقال له حبيب وكلّه الله بأكناف السماوات وأطراف الأرضين، ما أنصحه لأهل الأرض هذا قوله منذ خلقه الله تعالى. قال: ثمّ مررت بملك آخر جالس على كرسي قد جمع الدنيا بين ركبتيه، وفي يديه لوح مكتوب من نور ينظر فيه لا يلتفت يمينا ولا شمالا ينظر فيه كهيئة الحزين. فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ ما مررت أنا بملك أنا أشد خوفا منه شيء من هذا؟ قال: وما يمنعك كلّنا بمنزلتك، هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح وهو أشد الملائكة عملا وأدأبهم. قلت: يا جبرئيل كل من مات نظر إلى هذا؟
قال: نعم. قلت: كفى بالموت من طامة. فقال: يا محمّد ما بعد الموت أطمّ وأعظم، قلت: يا جبرئيل أدنني من ملك الموت أسلم عليه وأساله فأدناني منه فسلمت عليه فأومى إليّ فقال له جبرئيل: هذا محمّد نبي الرحمة ورسول العرب فرحب بي وحياني وأحسن بشارتي وإكرامي.
وقال: أبشر يا محمّد فإني ارى الخير كله في أمتك. فقلت: الحمد لله المنان بالنعم، ما هذا اللوح الذي بين يديك؟ قال: مكتوب فيه آجال الخلائق.
قلت: فأين أسماء من قبضت أرواحهم في الدهور الخالية؟ قال: تلك في لوح آخر قد علمت خلقها، ولذلك أصنع بكل ذي روح إذا قبضت روحه خلّفت عليها، فقلت: يا ملك(6/60)
الموت سبحان الله كيف تقدر على قبض أرواح جميع أهل الأرض وأنت في مكانك هذا لا تبرح؟ قال: ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتي وجميع الخلائق بين عيني ويداي يبلغان المشرق والمغرب وخلقهما فإذا نفد أجل عبد من عباد الله نظرت إليه وإلى أعواني فإذا نظر أعواني من الملائكة اليّ فنظرت إليه عرفوا أنه مقبوض فعمدوا إليه يعالجون نزع روحه فإذا بلغ الروح الحلقوم علمت ذلك ولا يخفى عليّ شيء من أمري، أمددت يدي إليه فقبضته فلا يلي قبضه غيري، فذلك أمري وأمر ذوي الأرواح من عباد الله.
قال: إنما أبكاني حديثه وأنا عنده ثمّ جاوزنا فمررنا بملك آخر ما رأيت من الملائكة خلقا مثله عابس الوجه كريه المنظر شديد البطش ظاهر الغضب، فلما نظر رغبت منه شيئا وسألته فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ فإني رعبت منه رعبا شديدا قال: فلا تعجب أن ترعب منه كلنا بمنزلتك في الرعب منه، هذا مالك خازن النار لم يتبسم قط ولم يزل منذ ولّاه الله عزّ وجلّ جهنم يزداد كل يوم غضبا وغيظا على أعداء الله عزّ وجلّ وأهل معصيته لينتقم منهم، قلت:
ادنني منه. فأدناني منه فسلم عليه جبرئيل فلم يرفع رأسه فقال جبرئيل: يا مالك هذا محمّد رسول العرب فنظر اليّ وحياني وبشرني بالخير. فقلت: مذ كم أنت واقف على جهنم؟ فقال: مذ خلقت حتّى الآن وكذلك إلى أن تقوم الساعة فقلت: يا جبرئيل مرة ليرني طرفا من النار فأمره ففعل فخرج منه لهب ساطع أسود معه دخان مكدر مظلم امتلأ منه الآفاق فرأيت هولا عظيما وأمرا فظيعا أعجز عن صفته لكم فغشي عليّ وكاد يذهب نفسي، فضمّني جبرئيل وأمر أن يرد النار فردّها.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «فجاوزناها فمررنا بملائكة كثيرة لا يحصى عدتهم إلّا الله عزّ وجلّ منهم وجوه بين كتفيه ووجوه في صدره في كل وجه أفواه والسن، فهو يحمد الله ويسبحه بتلك الألسن ورأيت من أجسامهم وخلقهم وعبادتهم أمرا عظيما، ثمّ جاوزناها فإذا برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خليقة الناس عن يمينه باب تخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك فإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى بحزن، فقلت: يا جبرئيل من هذا وما هذان البابان؟ قال: هذا أبوك آدم (عليه السلام) هذا الباب عن يمينه باب الجنة إذا نظر إلى من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر إلى من يدخل من ذريته جهنم بكى وحزن قال: ثمّ صعدنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبرئيل (عليه السلام) فقيل: من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمّد، قيل: وقد أرسله الله.
قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء، فدخلنا فإذا بشابين فقلت: يا جبرئيل من هذان الشابان؟ فقال: هذا عيسى ويحيى أبناء الخالة.(6/61)
قال: ثمّ صعدت إلى السماء الثالثة فاستفتح فقالوا: من هذا؟
قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمّد. قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا:
حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فدخلنا فإذا برجل قد فضّل على الناس بالحسن كأفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب قلت: من هذا يا جبرئيل؟
قال: هذا أخوك يوسف (عليه السلام) » .
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثمّ صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل، قالوا:
ومن معك؟ قال: محمّد. قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فدخلنا فإذا برجل من حاله [كذا] فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: «هذا إدريس رفعه الله مَكاناً عَلِيًّا وهو مسند ظهره إلى دواوين الخلائق التي فيها أمورهم.
قال: ثمّ صعد بي إلى السماء الخامسة فاستفتح قالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل: قالوا: من معك؟ قال: محمّد قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء.
قال: ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس وحوله قوم يقصّ عليهم فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ ومن هؤلاء الذين حوله؟ قال: هذا هارون [المحبب] وهؤلاء الذين حوله بنو إسرائيل» .
قال «ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة فاستفتح فقالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمّد؟ قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس فجاوزناه فبكى الرجل فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: هذا موسى. قلت: فما له يبكي؟ قال: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عزّ وجلّ، وهذا رجل من بني آدم وقد خلفني في دنياه وأنا في آخرتي فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع كل نبي أمته» .
قال: «ثمّ صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح فقيل من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمّد. قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، ثمّ دخلنا فإذا برجل [أشمط] جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم جلوس [بيض] الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء [ ... ] «1»
فقام الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء،
__________
(1) بياض في المخطوط، وفي تفسير الطبري: (15/ 15) الكلام متصل، وفي مجمع الزوائد (1/ 71) زيادة: قال عيسى يعني أبا جعفر الرازي: وسمعته مرة يقول: سود الوجوه. [.....](6/62)
ثمّ دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم وصارت مثل ألوان أصحابهم فجاءوا فجلسوا إلى جنب أصحابهم فقلت: يا جبرئيل من هذا الأشمط ومن هؤلاء وما هذه الأنهار؟ قال: هذا أبوك إبراهيم (عليه السلام) أوّل من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ، فأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً فتابوا فتاب الله عليهم، وأما الأنهار الثلاثة فأولها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً قال: فإذا إبراهيم مستند إلى بيت فسالت جبرئيل، فقال: هذا البيت المعمور يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم.
قال: فاتي بي جبرئيل حتّى انتهينا إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بشجرة لها أوراق الواحدة منها مغطية الدنيا بما فيها وإذا شقها مثل هلال هجر تخرج من أصلها أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فسألت عنها جبرئيل فقال: أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهرين فالنيل والفرات ويخرج أيضا من أصلها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وهي على حد السماء السابعة مما الجنة وعروقها وأغصانها تحت الكرسي.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انتهيت إلى سدرة المنتهى وأنا أعرف أنها سدرة المنتهى وأعرف ورقها وثمرها فغشيها من نور الله ما غشيها وغشيتها الملائكة كأنهم جراد من ذهب من خشية الله تعالى فلما غشيها ما غشيها تحولت حتّى ما يستطيع أحد منعها، قال: وفيها ملائكة لا يعلم عدّتهم إلّا الله عزّ وجلّ، ومقام جبرئيل في وسطها فلما انتهيت إليها قال لي جبرئيل: تقدم.
فقلت: أقدم من؟ تقدم أنت يا محمّد فإنك أكرم على الله مني، فتقدمت وجبرئيل على أثري حتّى انتهى بي إلى حجاب فراس الذهب فحرك الحجاب. فقال: من ذا؟ قال: أنا جبرئيل ومعي محمّد. قال الملك: الله أكبر فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني وخلف جبرئيل فقلت له:
إلى أين؟ قال: يا محمّد وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ إن هذا منتهى الخلائق، وإنما أذن لي في الدنو إلى الحجاب لاحترامك ولجلالك» .
قال: «فانطلق بي الملك أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ فحرك الحجاب. قال الملك: من وراء الحجاب: من هذا؟ قال: أنا صاحب فراس الذهب وهذا محمّد رسول العرب معي.
فقال الملك: الله اكبر وأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني حتّى وضعني بين يديه فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب حتّى جاوزوا بي سبعين حجابا غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام وما بين الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام، ثمّ دلّى لي رفرف أخضر يغلب ضوءه ضوء الشمس فالتمع بصري ووضعت على ذلك الرفرف ثمّ احتملني حتّى وصلني إلى العرش فلما رأيت العرش اتضح كل شيء عند العرش فقربني الله إلى سند العرش وتدلى لي(6/63)
قطرة من العرش فوقف على لساني فما ذاق الذائقون شيئا قط أحلى منها فأنبأني الله عزّ وجلّ بها نبأ الأولين والآخرين وأطلق الله لساني بعد ما كلّ من هيبة الرحمن، فقلت: التحيات لله والصلوات الطيبات. فقال الله تعالى: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقلت:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال: يا محمّد هل تعلم فيم اختصم الملأ «1» الأعلى؟
فقلت: أنت أعلم يا رب بذلك وبكل شيء وأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. قال: اختلفوا في الدرجات والحسنات، فهل تدري يا محمّد ما الدرجات وما الحسنات؟
قلت: أنت أعلم يا رب. قال: الدرجات إسباغ «2» الوضوء في المكروهات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلوات بعد الصلاة والحسنات إفشاء السلم وإطعام الطعام والتهجد بالليل والناس نيام ثمّ قال: يا محمّد آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ؟ قلت: نعم أي رب. قال: ومن؟ قلت: والمؤمنين كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «3» كما فرقت اليهود والنصارى. فقال: ماذا قالوا؟
قلت: قالُوا: سَمِعْنا قولك وَأَطَعْنا أمرك. قال: صدقت فسل تعط. قال: فقلت:
غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ «4» قال: قد غفرت لك ولأمتك سل تعطه؟
فقلت: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال: قد رفعت الخطأ والنسيان عنك وعن أمتك وما استكرهوا عليه، قلت: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ قال: قد فعلت ذلك بك وبأمتك. قلت ربنا وَاعْفُ عَنَّا من الخسف وَاغْفِرْ لَنا من القذف وَارْحَمْنا من المسخ أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «5» قال: قد فعلت ذلك لك ولأمتك، ثمّ قيل: لي سل.
فقلت: يا رب إنك اتخذت إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، وكلمت مُوسى تَكْلِيماً، ورفعت إدريس مَكاناً عَلِيًّا، وآتيت سليمان مُلْكاً عَظِيماً، وآتيت داوُدَ زَبُوراً، فما لي يا رب؟
قال ربي: يا محمّد اتخذتك خليلي كما اتخذت إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وكلمتك كما كلمت مُوسى تَكْلِيماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة وكانا من كنوز العرش ولم أعطها نبيا قبلك، وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعا أبيضهم وأسودهم وإنسهم وجنّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبيا قبلك وجعلت الأرض كلها برّها وبحرها طهورا ومسجدا لك ولأمتك وأطعمتك وأمتك الفيء
__________
(1) المليء: الجماعة منه.
(2) السابغ: الكامل، إسباغ الوضوء إتمامه. الصحاح.
(3) سورة البقرة: 285.
(4) سورة البقرة: 285.
(5) سورة البقرة: 286.(6/64)
ولم أطعمه أمة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوك مسيرة شهر، وأنزلت عليك سيد الكتب كلها ومهيمنا عليها قُرْآناً فَرَقْناهُ ورفعت لَكَ ذِكْرَكَ فتذكر كلما ذكرت في شرائع ديني، وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الإنجيل المبين ومكان الزبور الحواميم، وفضلتك بالمفصّل وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك وجعلت أمتك خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وجعلهم أُمَّةً وَسَطاً وجعلتهم الأولين وهم الآخرون فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» .
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثمّ فوّض لي بعهد بعدها أمور لم يؤذن لي أن أخبركم بها ثمّ فرضت عليّ وعلى أمتي في كل يوم وليلة خمسون صلاة فلما شهد اليّ بعهده وتركني عنده ما شاء قال لي: إرجع إلى قومك فبلغهم عني فحملني الرفرف الأخضر الذي كنت عليه يخفضني ويرفعني حتّى أهوى بي إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بجبرئيل (عليه السلام) أبصره خلفي بقلبي كما أبصر بعيني أمامي، فقال لي جبرئيل: ابشر يا محمّد فإنك خير خلق الله وصفوته من النبيين حياك الله بما لم يحيي به أحدا من خلقه لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولقد وضعك مكانا لم يصل إليه أحد من أهل السماوات والأرض فهنّاك الله كرامته وما حباك من المنزلة الأثيرة والكرامة الفائقة، فخذ ذلك واشكر فإن الله منعم يحب الشاكرين.
فحمدت الله على ذلك ثمّ قال لي جبرئيل: انطلق يا محمّد إلى الجنة حتّى أريك ما لك فيها فتزداد بذلك في الدنيا زهادة إلى زهادتك وفي الآخرة رغبة إلى رغبتك فسرنا نهوي منفضين أسرع من السهم والريح حتّى وصلنا بإذن الله إلى الجنة فهدأت نفسي [وثاب] إليّ فؤادي وأنشأت أسأل جبرئيل عما كنت رأيت [في الجنة] من البحور والنار والنور وغيرها، فقال:
سبحان الله تلك سرادقات عرش رب العزة التي أحاطت بعرشه فهي سترة الخلائق من نور الحجب ونور العرش لولا ذلك لأحرق نور العرش ونور الحجب من تحت العرش من خلق الله وما لم تره أكثر وأعجب، قلت: سبحان الله ما أكثر عجائب خلقه.
قلت: يا جبرئيل ومن الملائكة الذين رأيتهم في تلك البحور الصفوف بعد الصفوف كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ؟
قال: يا رسول الله هم الروحانيون الذين يقول الله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ ومنهم الروح الأعظم، ثمّ بعد ذلك قلت: يا جبرئيل فمن الصف الواحد الذين في البحر الأعلى فوق الصفوف كلها قد أحاطوا بالعرش؟ قال: هم الكروبيون أشراف الملائكة وعظمائهم ولا يجتري أحد من الملائكة أن ينظر إلى ملك من الكروبيين وهم أعظم شأنا من أن أصف صفتهم لك وكفى ما رأيت منهم، ثمّ طاف بي جبرئيل في الجنة بإذن الله فما نزل منها مكانا إلّا رأيته وأخبرني عنه فرأيت القصور من الدر والياقوت والإستبرق والزبرجد ورأيت الأشجار من الذهب الأحمر قضبانهم اللؤلؤ وعروقهن الفضة راسخة في المسك فلأنا أعرف بكل قصر وبيت وغرفة وخيمة ونهر وثمر في الجنة مني بما في مسجدي هذا.(6/65)
قال: ورأيت نهرا يخرج من أصله ماء أشد بياضا من اللبن واحلى من العسل على رضراض درّ وياقوت ومسك أذفر. فقال جبرئيل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله عزّ وجلّ وهو التسنيم يخرج من دورهم وقصورهم وبيوتهم وغرفهم يمزجون بها أشربتهم من اللبن والعسل والخمر فذلك قوله وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ... عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «1» الآية.
ثمّ انطلق بي يطوف في الجنة حتّى انتهينا إلى شجرة لم أر شجرة مثلها، فلما وقفت تحتها رفعت رأسي فإذا أنا لا أرى شيئا من خلق ربي غيرها لعظمها وتفرق أغصانها ووجدت فيها ريحا طيبة لم أشم في الجنة ريحا أطيب منها فقلّبت بصري فيها فإذا ورقها حلل طرائف من ثياب الجنة من بين أبيض وأحمر وأخضر وثمارها أمثال القلال العظام من كل ثمرة خلقها الله في السماوات والأرضين من ألوان شتى وطعوم شتى وريح شتى، فعجبت من تلك الشجرة وما رأيت من حسنها. قلت: يا جبرئيل ما هذه الشجرة؟ قال: هذه التي ذكرها الله عزّ وجلّ [بشرى] طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ولكثير من أمتك ورهطك في ظلها حسن مقيل ونعيم طويل ورأيت في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كل ذلك مفروغ عنه معدّ إنما ينتظر به صاحبه من أولياء الله عزّ وجلّ وما غمني الذي رأيت قلت: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ.
ثمّ عرض عليّ النار حتّى نظرت إلى أغلالها وسلاسلها وحيّاتها وعقاربها وغساقها ويحمومها، فنظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكّل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثمّ يجعل في أفواههم صخرا من نار تخرج من أسافلهم. قلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً. ثمّ انطلقت فإذا أنا بنقر لهم بطون كأنها البيوت وهم على سابلة آل فرعون فإذا مرّ بهم آل فرعون ثاروا فيميل بأحدهم بطنه فيقع فيتوطأهم آل فرعون بأرجلهم وهم يعرضون على النار غُدُوًّا وَعَشِيًّا. قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا ومثلهم كمثل الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ «2» ثمّ انطلقت فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن منكسات أرجلهن. قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هن اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن.
ثمّ أخرجني من الجنة فمررنا بالسموات منحدرا من السماء إلى السماء حتّى أتيت على موسى فقال: فما فرض الله عليك وعلى أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. فقال موسى: أنا أعلم بالناس منك وأني [سرت] «3» الناس بني إسرائيل وعالجتهم أشد المعالجة وأن أمتك أضعف الأمم فارجع إلى ربك واسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لن تطيق ذلك. قال: فرجعت إلى ربي [19] .
__________
(1) سورة المطففين: 27.
(2) سورة البقرة: 275.
(3) هكذا في المخطوط، ولم نجده في المصادر.(6/66)
وفي بعض الأخبار: «فرجعت فأتيت سدرة المنتهى فخررت ساجدا، قلت: يا رب فرضت عليّ وعلى امتي خمسين صلاة ولن أستطيع أن أقوم بها ولا أمتي فخفّف عني عشرا. فرجعت إلى موسى فسألني فقلت: خفف عني عشرا. قال: ارجع إلى ربك فأسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم فإني قد لقيت من بني إسرائيل شدة. قال: فرجعت فردّها إلى ثلاثين فما زلت بين ربي وبين موسى (عليه السلام) حتى جعلها خمس صلوات فأتيت موسى (عليه السلام) فقال: إرجع إلى ربك فأسأله التخفيف. فقلت: فإني قد رجعت إلى ربي حتّى استحيت وما أنا براجع إليه، قال:
فنوديت أني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلوات، ولا يبدل القول لدي فخمسة بخمسين فقم بها أنت وأمتك إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وأجزي بالحسنة عشر أمثالها لكل صلاة عشر صلوات. قال: فرضيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم كل الرضا وكان موسى (عليه السلام) من أشدهم عليه حين مرّ به وخيرهم لهم حين رجع إليه.
ثمّ انصرفت مع صاحبي وأخي جبرئيل لا يفوتني ولا أفوته حتّى انصرف بي إلى مضجعي وكان كل ذلك ليلة واحدة من لياليكم هذه فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وإليّ مفاتيح الجنة يوم القيامة ولا فخر، وأنا مقبوض عن قريب بعد الذي رأيت فإني رأيت من آيات ربي الكبرى ما رأيت وقد أحببت اللحوق بربي عزّ وجلّ ولقاء من رأيت من إخواني، وما رأيت من ثواب الله لأوليائه وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى «1» .
قال: فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به وكان بذي طوى قال: «يا جبرئيل إن قومي لا يصدقونني» .
قال: يصدقك أبو بكر وهو الصديق (رضي الله عنه) .
قال ابن عبّاس وعائشة رضى الله عنهما: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما كانت ليلة أسري بي وأصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت إن الناس تكذبني» .
قال: فقعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتزلا حزينا فمرّ به أبو جهل عدو الله فأتاه فجلس إليه، وقال كالمستهزي: هل استفدت من شيء؟ قال: «نعم إني أسري بي الليلة» قال: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس» قال: ثمّ أصبحت بين ظهرانينا. قال: «نعم» فكان أبو جهل ينكر مخافة أن يجحده، الحديث. قال: أتحدث قومك ما حدثتني؟
قال: «نعم» قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلمّوا.
قال: فانتقضت المجالس فجاءوا حتّى جلسوا إليهما. قال: حدّث قومك ما حدثتني. قال:
«نعم إنّي أسري بي الليلة» . قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس» . قال: ثمّ أصبحت بين
__________
(1) سورة القصص: 60.(6/67)
ظهرانينا قال: «نعم» . قال: فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب، فارتد ناس ممن كان آمن به وصدقه وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر (رضي الله عنه) فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس؟.
قال: أوقد قال؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في عدوه وروحه. فلذلك سمي أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) .
قال: وفي القوم من قد سافر هناك ومن قد اتى المسجد، فقالوا: هل تستطيع أن تصف لنا المسجد؟ قال: «نعم» .
قال: فذهبت أنعت وأنعت فما زلت أنعت حتّى التبس عليّ.
قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتّى وضع دون دار عقيل أو عقال «1» فنعت المسجد وأنا أنظر إليه. فقال القوم: أما النعت فو الله قد أصاب.
ثمّ قالوا: يا محمّد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا من قولك، هل لقيت فيها شيئا؟ قال:
«نعم مررت على عير بني فلان وهي بالروجاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قعب من ماء فعطشت فأخذته فقربته ثمّ وضعته كما كان فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه» .
قالوا: إن هذه آية واحدة. قال: «ومررت بعير فلان وفلان وفلان راكبان قعودا لهما ببني مرة ففر بكرهما مني فرمى بفلان فانكسرت يده فسلوهما عن ذلك.
قالوا: وهذه آية أخرى.
قالوا: أخبرنا عن عيرنا نحن؟ قال: «مررت بها بالنعيم» . قالوا: فما عدتها وأحمالها وغنمها؟ قال: «كنت في شغل من ذلك ثمّ مثلت لي فكأنه بالجزورة وبعدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها» فقال: «نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان تقدمها جعل أورق عليه خزارتان مخيطتان يطلع عليكم عند طلوع الشمس» .
قالوا: وهذه آية، ثمّ خرجوا يشدّون نحو [الثلاثة] وهم يقولون: والله لقد قص محمّد شيئا وبيّنه حتّى أتوا كدا فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبون، إذ قال قائل منهم:
هذا الشمس قد طلعت. وقال الآخر: وهذه الإبل قد طاعت يتقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال لهم، فلم يؤمنوا ولم يفلحوا وقالوا: ما سَمِعْنا بِهذا قط إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
آخر المعراج ولله الحمد والمنة.
__________
(1) راجع تفسير الطبري: 15/ 10 إلى 18.(6/68)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
فإن قيل: إنما قال الله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فلم قال: إنه أسرى إلى السماء.
فالجواب أنه قال: إنما قال: أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كان ابتدأ أمر المعراج كان المسري، والعروج كان بعد الإسراء، وقد أخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدق، والحكمة فيه والله أعلم أنه لو أخبر ابتدأ بعروجه إلى السماء لاشتد إنكارهم وعظم ذلك في قلوبهم ولم يصدقوه، فأخبر بيت المقدس بها فلما تمكن ذلك في قلوبهم وبان لهم صدقة وقامت الحجة عليهم له، أخبر بصعوده إلى السماء العليا وسدرة المنتهى وبقرينة حتّى دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ كما أسرينا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ الآية يعني أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ربّا وشريكا وكفيلا.
قرأه العامّة: يتخذوا بالياء، يعني قلنا لهم لا يتخذوا.
وقرأ ابن عبّاس ومجاهد وأبو عمر: بالياء واختاره أبو عبيد قال: لأنه خبر عنهم ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ فأنجيناهم من الطوفان إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً.
قال المفسرون: كان نوح (عليه السلام) إذا لبس ثوبا يأكل طعاما أو شرب شرابا. قال:
الحمد لله، فسمّي عَبْداً شَكُوراً.
روى النظر بن شقي عن عمران بن سليم قال: إنما سمي نوح (عليه السلام) عَبْداً شَكُوراً لأنه كان إذا أكل طعاما قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني، فإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو أشاء أظماني وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو أشاء أعراني، فإذا اهتدى قال: الحمد لله الذي هداني ولو أشاء لما هداني فإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني الأذى في عافية ولو شاء لحبسه.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 8]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله حَصِيراً.
روى سفيان بن سهيل عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن بني إسرائيل لما اعتدوا وعتوا وقتلوا الأنبياء بعث الله عليهم(6/69)
ملك فارس بخت نصر، وكان الله ملكه سبعمائة سنة فسار إليهم حتّى دخل بيت المقدس فحاصرها ففتحها وقتل على دم يحيى بن زكريا (عليه السلام) سبعين ألف، ثمّ سبى أهلها وسلب حلي بيت المقدس واستخرج منها سبعين ألفا ومائة عجلة من حلي [حتى أورده بابل] «1» » .
قال حذيفة: يا رسول الله لقد كانت بيت المقدس عظيما عند الله قال: «أجل بناه سليمان ابن داود من ذهب وياقوت وزبرجد، وكان بلاطه ذهبا وبلاطه فضة وبلاطه من ذهبا أعطاه الله ذلك وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين فسار بخت نصر بهذه الأشياء حتّى نزل بها بابل وأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنة يستعبدهم المجوس وأبناء المجوس فهم الأنبياء وأبناء الأنبياء، ثمّ إن الله تعالى رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له كورس وكان مؤمنا أن سر إلى بقايا ببني إسرائيل حتّى يستنقذهم فسبا كورش بني إسرائيل وحلي بيت المقدس حتّى رده إليه، فأقام بنو إسرائيل مطيعين لله مائة سنة ثم إنهم عادوا في المعاصي فسلط عليهم ملكا يقال له: إنطياخوش فغزا بني إسرائيل حتّى أتى بهم بيت المقدس فسبا أهلها وأحرق بيت المقدس وقال لهم: يا بني إسرائيل إِنْ عُدْتُمْ في المعاصي عُدْنا عليكم بالسبي، فعادوا في المعاصي فسلط الله عليهم ملكا رومية يقال له: ماقسير بن إسبيانوس فغزاهم في البر والبحر فسباهم وسبا حلي بيت المقدس وأحرق بيت المقدس» .
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فهذا من صفة حلي بيت المقدس ويرده المهدي إلى بيت المقدس وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرمى بها على يافا حتّى ينقل إلى بيت المقدس هديها يجمع الله الأولين والآخرين» [20] «2» .
وقال محمّد بن إسحاق بن يسار: كان مما أنزل الله على موسى في خبر عن بني إسرائيل في أحداثهم وما هم فاعلون بعده وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله حَصِيراً فكانت بنو إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم متعطفا عليهم محسنا إليهم، فكان أول ما أنزل بهم بسبب ذنوبهم من تلك الوقائع كما أخبر على لسان موسى (عليه السلام) أن ملكا منهم كان يدعى صديقة كان الله عزّ وجلّ إذا ملك الملك عليهم بعث الله نبيا يسدده ويرشده ويكون فيما بينه وبين الله تعالى: فيتحدث إليهم في أمرهم لأنزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها وينهونهم عن المعصية ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة، فلما ملك الله ذلك الملك بعث الله شعياء بن أمصيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى، وشعياء هو الذي بشّر بعيسى ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم فقال: ابشروا [ ... ] «3» الآن يأتيك راكب
__________
(1) عن تفسير الطبري: 15/ 29.
(2) راجع تفسير الطبري: 15/ 29- 30.
(3) كلمة غير مقروءة.(6/70)
الحمار ومن بعده راكب البعير، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا، فلما انقضى ملكه عظمت الأحداث وشعياء معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل مع ستمائة ألف راية، فأقبل سائرا حتّى أقبل حول بيت المقدس والملك مريض في ساقه قرحة فجاء إليه شعياء فقال: يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل قد نزل هو وجنوده بستمائة ألف قد هابهم الناس وفرقوا منهم، فكبر ذلك على الملك. فقال: يا نبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده.
فقال له النبي (عليه السلام) : لم يأت وحي فبيناهم إلى ذلك أوحى الله تعالى إلى شعياء النبي (عليه السلام) أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي بوصيته ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته، فأتى شعياء صدّيقة وقال له: إن ربك قد أوحى إليك إن أمرك أن توصي بوصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت. فلما قال ذلك شعياء لصديقة أقبل على القبلة وصلى ودعا وبكى فقال وهو يصلي ويتضرع إلى الله تعالى بقلب مخلص متوكل رصين وظن صادق: اللهمّ رب الأرباب وإله الآلهة قدوس المتقدس يا رحمن يا رحيم يا رؤوف الذي لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ أكرمتني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني بسري وعلانيتي لك وأن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعياء وأمره أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه وقد أخر أجله خمس عشر سنة فأنجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده فأتاه شعياء النبي (عليه السلام) وأخبره بذلك، فلما قال ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا وقال: يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبّحت وكرمت وعظمت، أنت الذي تعطي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أنت الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت ضري فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقه فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بالتين فيجعله على قرحه فيشفى ويصبح قديرا، ففعل ذلك فشفى، وقال الملك لشعياء: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا.
فقال الله لشعياء: قل له إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلّا سنحاريب وخمسة نفر من كتّابه.
فلما أصبحوا جاءه صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فأخرج فإن سنحاريب ومن معه هلكوا، فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمسة من كتّابه أحدهم بخت نصّر، فجعلوهم في الجوامع ثمّ أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآوهم خرّ ساجدا حين طلعت الشمس إلى العصر، ثمّ قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم نقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم(6/71)
غافلون؟ فقال سنحاريب: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادك فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلّا قلة عقلي ولو سمعت وأطعت ما غزوتكم ولكن الشقوة غلبت عليّ وعلى من معي. فقال صديقه: الحمد لله ربّ العزة الذي [كفاناكم] بما شاء أن يبقك لي من معك لكرامة لك عليه وإنما أبقاك ومن معك ليزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من ورائكم بما رأيتم من فعل ربنا، فلذلك وذم من معك [آتون] على الله من دم قراد لو قتلت، ثمّ إن ملك بني إسرائيل أمر أمير جيشه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين ما حول بيت المقدس [وامليا] «1» وكان يرزقهم في كل يوم خبزتين من الشعير لكل رجل منهم.
فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتل خير مما يفعل بنا فأفعل ما أمرت، فأمر بهم الملك إلى سجن القتل فأوحى الله إلى شعياء النبي (عليه السلام) : أن قل لملك بني إسرائيل ليرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم، فبلغ شيعا [للملك ذلك] ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتّى قدموا بابل فلمّا قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده، فقال له كهانته وسحرته: يا ملك [بابل] «2» قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سنحاريب مما خوفوا، ثمّ كفاهم الله إياه تذكرة وعبرة ثمّ لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثمّ مات، واستخلف [بعده] ابن ابنه على ما كان عليه، فعمل فيهم بمثل عمل جده وقضى في الملك حتّى قتل بعضهم [بعضا عليه] ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه ولا يقبلون منه، فلما فعلوا ذلك قال الله لشعياء: قم في قومك أوح على لسانك.
فلما قام النبي (عليه السلام) أطلق الله لسانه بالوحي، فقال: يا سماء استمعي ويا أرض انصتي حتّى فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمة واصطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده واستقبلهم بالكرامة وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضهم بعضا حتّى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون من أين جاءهم الخير، أن البعيد مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الآري الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وأن هؤلاء القوم لا يدرون من أين جاءهم الخير وهم أولوا الألباب والعقول ليسوا بقرا ولا حميرا، وإني ضارب لهم مثلا فليستمعوا، قل لهم: كيف ترون في أرض كانت
__________
(1) بلدة في ناحية الشام. [.....]
(2) زيادة عن تفسير الطبري: 15/ 32.(6/72)
خواء زمانا خربة مواتا لا عمران فيها وكان لها رب حكيم قوي، فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه فأحاط عليها جدارا وشيّد فيها قصرا وأنبط نهرا وصنف فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه قيما ذا رأي وهمة ومتعة حفيظا قويا أمينا وأنتظرها فلما أطلعت جاء طلعها خروبا قالوا: بئست الأرض هذه، نرى أن يهدم جدارها وقصورها ويدفن نهرها ويقبض قيّمها ويحرق غرسها حتّى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها.
قال الله لهم: فإن الجدار ذمتي وإن القصر شريعتي وإن النهر كتابي وإن القيّم نبيّ وإن الغرّاس هم وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وإنهم مثل ضربه الله تعالى لهم يتقربون إليّ بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا أكله، ويدعون أن يتقربون إليّ بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرّمتها فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لي البيوت مساجدا ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها، فأي حاجة إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، أم أي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبّح ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها، يقولون: لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على [أن] يفقّه قلوبنا لفقهها فأعمد إلى عودين يابسين، ثمّ ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون فقل للعودين: إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا ففعل، ذلك في مجلسه اختلطا فصارا واحدا، فقال الله لهم: إني قد قدرت على أن أفقه العيدان اليابسة وعلى أن أؤالف بينهما فكيف لا أقدر على أن أجمع إلفهتم إن شئت، أم كيف لا أقدر على أن أفقّه قلوبهم وأنا الذي صورتها.
يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل [حنين الحمام] وبكينا مثل عواء الذئب في مكان ذلك لا نسمع ولا يستجاب لنا قال الله: فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم، ألست أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين؟ الآن ذلّت يدي؟
قلت: كيف ويداي مبسوطتان بالخير أنفق كيف أشاء ومفاتح الخزائن عندي لا يفتحها غيري أو لأن رحمتي ضاقت فكيف ورحمتي وسعت كل شيء، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها أو لأن [البخل يعتريني] أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات؟ أجود من أعطي وأكرم من سئل لو أن هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم فنبذوها واشتروا بها الدنيا إذا لأبصروا من حيث أتو وإذا لأيقنوا أن أنفسهم [هي] أعدى العداة فيهم، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور [ويتقوون] عليه بطعمة الحرام؟ وكيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني وينتهك محارمي، أم كيف تزكوا عندي صدقاتهم؟ وهم يتصدقون بأموال غيرهم وإنما أؤجر عليها أهلها المغصوبين، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم؟ وإنما هو قول بألسنتهم(6/73)
والفعل من ذلك بعيد وإنما أستجيب للداع اللين وأنا أسمع قول المستضعف المسكين، وإن من علامة رضاي رضا المساكين، فلو رحموا المساكين وقربوا الضعفاء وأنصفوا المظلوم ونصروا المغصوب والمغلوب وأعدلوا الغائب [وأدوا] إلى اليتيم والأرملة والمسكين وكل ذي حق حقه، ثمّ لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذا لكلّمتهم، وإذا لكنت نور أبصارهم وسمع آذانهم ومعقول قلوبهم وإذا لدعمت أركانهم وكنت قوة أيديهم وأرجلهم، وإذا لبثت ألسنتهم وعقولهم.
يقولون: لمّا سمعوا كلامي وبلغتهم رسالاتي: إنها أقاويل متقولة وأحاديث متوارثة وتأليف كما يؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا وأن يطلعوا على علم الغيب، لاطلعوا بما توحي إليهم الشياطين وكلمهم ويستخفى بالذي يقول ويسرّ وهم يعملون أني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما يبدون وما كنتم يكتمون وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع، فإن صدّقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليألفوا مثل الحكمة التي أدبّر بها أمر ذلك القضاء إن كنتم صادقين فإنّي قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الإجراء وأن أجعل الملك في الدعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء والثروة في الأقلاء [والمدائن في الفلوات] والآجام في المغوز والبردة في الغيطان، والعلم في الجهلة والحكم في الأميين فسلهم متى هذا ومن القيّم بها وعلى يد من أسنّه ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيّا أحيا ليس أعمى من عميان ولا ضالا من ضالين وليس بفظ ولا غليظ ولا [بصخاب] في الأصوات [ولا متزين بالفحش] ولا قوال للخنى أسدده لكل جميل أهب له كل خلق [كريم] أجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقولة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل والمعروف سيرته والحق شريعته والهدى امامه والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة، ثمّ أرفع به بعد [الخمالة] وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد المعيلة وأجمع به بعد الفرقة وأولف به قلوبا مختلفة وأهواء متشتتة وأمما متفرقة وأجعل أمته خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إيمانا بي وتوحيدا لي وإخلاصا بي يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجودا ويقاتلون في سلبي صفوفا وزحوفا ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمتهم التكبير والتوحيد والتسبيح والحمد والمدحة والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأسواق ويطهرون لي الوجوه والأطراف ويعقدون في الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم(6/74)
رهابين في الليل ليوث في النهار، ذلك فضلي أديته من أشاء وأنا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيت شجرة وانفلقت له فدخل فيها [وأدركه الشيطان الشجرة] فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتّى قطعوها وقطعوه في وسطها، [فاستخلف الله] على بني إسرائيل بعد قتلهم شعياء رجلا منهم يقال له ناشية بن أموص وبعث لهم الخضر نبيا- واسم الخضر ارميا بن حلفيا- وكان من سبط هارون بن عمران فأما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام [عنها وهي تهتز] خضراء، فقال الله لأرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا أرميا من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، وذكر الحديث بطوله في خطبة أرميا لقومه وفتياه التي أفتى به، ودخول بخت نصر وجنوده بيت المقدس فوطئ الشام كما ذكرنا في سورة البقرة.
فلما رأى ارميا ذلك طار حتّى خالط الوحش ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس فوطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتّى أفناهم وخرب بيت المقدس، ثمّ أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم قربته تراب ثمّ يقذفه في بيت المقدس فقذفوا فيه التراب حتّى ملؤه، ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل واحتمل معه سبايا بني إسرائيل وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم فجمعوا عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم بسبعين ألف صبي.
فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمهم فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك لك غنائمنا كلها [وأقسم بيننا] فلولا الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل، ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة وكان من أولئك الغلمان دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وماشايل وسبعة آلاف من أهل بيت داود وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه ابن يامين، وثمانية ألف من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر الفا من سبط زبالون بن يعقوب [ونفتال] بن يعقوب وأربعة ألف من سبط [يهوذا] بن يعقوب [وأربعة] ألف من سبط [روبيل ولاوي] ابني يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق: فثلثا أقر بالشام وثلثا سبي وثلثا قتل.
وذهب بأبيه بيت المقدس حتّى أقدمها بابل وذهبت بالصبيان التسعين الألف حتّى أقدمهم بابل، فكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بأحداثهم وظلمهم «1» وذلك قول الله فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني بخت نصر وأصحابه.
ما يروى عن حجاج عن ابن جريج عن يعلي بن مسلم عن سعيد بن جبير قال: كان رجل
__________
(1) بتمامه في تفسير الطبري: 3/ 40- 49، و 15/ 52- 45.(6/75)
من بني إسرائيل يقرأ حتّى إذا بلغ بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بكى وفاضت عيناه ثمّ أطبق المصحف وقال: أي رب أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه فأري في المنام مسكينا ببابل يقال له: بخت نصر فانطلق بمال [وبأعبد له] وكان رجلا موسرا [وقيل له أين] تريد؟
قال: أريد التجارة حتّى نزل دارا ببابل [فاستكبر] إلها ليس فيها أحد غيره فجعل يدعو المساكين ويتلطف بهم حتى لا يأتيه أحد فقال: هل بقي غيركم مسكين؟ قالوا: نعم مسكين [يفتح الفلان مريض] يقال له: بخت نصر، فقال لغلمانه: انطلقوا حتى أتاه، فقال: ما أسمك؟
قال: بخت نصر، فقال لغلمانه احتملوه فنقل عليه فمرّضه حتّى برأ فكساه وأعطاه نفقة ثمّ أذن الإسرائيلي بالرحيل فبكى بخت نصر، فقال الإسرائيلي: ما يبكيك؟
قال: أبكي إنك فعلت بي ما فعلت ولا أجد شيئا أجزيك، قال: بلى شيئا يسرا إن ملكت أطعتني فجعل لا يتبعه فيما سأل فقال: تستهزئ بي ولا يمنعه أن يعطيه ما سأل إلّا أنه يرى أنه يستهزئ به قبلي الإسرائيلي، فقال: لقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك إلّا أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضى وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه.
قال صيحورا ملك فارس ببابل: لو إنا بعثنا طليعة إلى الشام قالوا: وما ضرك لو فعلت؟
قال فمن ترون قال: فلان فبعث رجلا وأعطاه مائة ألف وخرج بخت نصر في مطبخه لا يخرج إلّا ليأكل في مطبخه.
فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجالا [جاء وقد كسر] ذلك في ذرعه فلم يسأل قال: فجعل بخت نصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل فإذا غزوتموها ما دون بيت مالها شيء.
قالوا: لا نحسن القتال، قال: ولو أنكم غزوتهم قالوا: لا نحسن القتال ولا نقاتل حتّى أنفذ مجالس أهل الشام، ثمّ رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى وجعل بخت نصر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان، فرفع ذلك إليه فدعاه فأخبره الخبر وقال: إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله فرسا ورجالا جلدا كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء، قال: لم أدع مجلسا شيئا بالشام [الآجال وأصله] فقلت لهم: كذا وكذا، فقالوا لي: كذا وكذا.
قال سعيد بن جبير: وقال صاحب الطليعة لبخت نصر: إن صحبتني أعطي لك مائة ألف وتنزع عما قلت. قال: لو أعطيتني بيت مال بابل لما نزعت فضرب الدهر من ضربة، فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام، فإن وجدوا مساغا وإلا انثنوا ما قدورا عليه، قال: وما ضرّك لو فعلت، قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان. قال: هل الرجل الذي [أخبرني بما أخبرني](6/76)
فدعا بخت نصر فأرسله وانتخب معه أربعمائة ألف من فرسانهم فانطلقوا فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [فسبوا] ما شاء الله ولم [يخرّبوا] ولم يقتلوا، ومات [صيحون فقالوا] : استخلفوا رجلا، قالوا: على رسلكم حتّى يأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم لن ينقضوا عليكم شيئا، أمهلوا فأمهلوا حتّى جاء بخت نصر [بالسبي] وما معه فقسمه في الناس، فقالوا: ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا فملكوه «1» .
وقال السدي بإسناده: إن رجلا من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس هلاك بني إسرائيل [خلي إليّ] غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل يدعى بخت نصر وكانوا يصدقون فيصدق، فأقبل يسأل عنه حتّى [نزل على أبيه] وهو يحتطب فلما جاءوا على رأسه حزمة من حطب ألقاها ثمّ قعد في جانب من البيت فكلمه ثمّ أعطاه ثلاثة دراهم، فقال: اشتر بهذا طعاما وشرابا واشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا، فأكلوا وشربوا حتّى كان اليوم الثاني فعل به مثل ذلك، حتّى إذا كان اليوم الثالث فعل به ذلك، ثمّ قال: إني أحب أن [تكتب لي أمانا] إن كانت ملكت يوما من الدهر، فقال: أتسخر مني؟ قال: إني لا أسخر بك [ولكن ما عليك لن تتخذ] بها عندي مريدا فكلمته أية، فقالت: يا ملك إن كان مالا لم ينقصك شيئا فيكتب به أمانا، فقال: أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك فاجعل لي آية تعرفني بها، قال: ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك بها فكساه وأعطاه.
ثمّ إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا (عليهما السلام) ويدني مجلسه ويستشيره في أمره ولا يقطع أمرا دونه [فإنه هوى] أن يتزوج ابنة امرأة له، فسأل عن ذلك يحيى فنهاه عن نكاحها، قال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أمها فحقدت على [يحيى] حين نهاه أن يتزوج ابنتها [فذهبت إلى جارية] حين حس الملك على شرابه، فألبستها ثيابا رقاقا خضراء وطيبتها وألبستها من الحلي وألبستها فوق ذلك كساء أسود فأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه وأن تتعرض له فإن راودها عن نفسها أتت عليه حتّى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريا (عليهما السلام) في طشت، ففعلت فجعلت تسقيه وتعرض له فلما أخذ منه الشراب راودها عن نفسها، فقالت: لا [أقبل] حتّى تعطيني ما أسألك، قال: ما تسألين؟ قالت: أسألك أن تبعث إليّ يحيى بن زكريا فتأتي برأسه في هذا الطشت، فقال الملك: سليني غير هذا.
قالت: ما أريد إلّا هذا، فلما أبت عليه بعث إليه فأتى برأسه [والرأس يتكلم] في الطشت حين وضع بين يديه وهي تقول [لا يحل لك] ، فلما أصبح إذا دمه يغلي فأمر بتراب فألقى عليه فرمى الدم فوقه فلم يزل يلقي عليه من التراب حتّى بلغ سور المدينة وهو يغلي وبلغ صيحابين فثار في الناس وأراد أن يبعث إليهم جيشا أو يؤمر عليهم رجلا.
__________
(1) تفسير الطبري: 15/ 39 وتصويب العبارة منه.(6/77)
فأتاه بخت نصر فكلمه وقال: إن الذي كنت أرسلته تلك المرة ضعيف وأني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها [فأبعثني] فبعثه فسار بخت نصر حتّى إذا بلغوا ذلك المكان [تحصنوا] منه في مدائنهم فلم يطقهم فلما اشتدّ عليهم المقام وجاع أصحابه أرادوا الرجوع، فخرجت إليه عجوزا من عجائز بني إسرائيل فقالت: أين أمير الجند؟ فأتى بها إليه فقالت له: إنه قد بلغني أنك تريد [.....] «1» ثمّ ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة، قال: نعم، قد طال مقامي وجاع أصحابي فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني، فقالت: أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما أسألك [فتقتل] من أمرتك بقتله وتكف إن أمرتك أن تكف؟ قال لها: نعم، قالت: إذا أصبحت فأقسم جندك أربعة أرباع ثمّ أقم على كل زاوية ربعا ثمّ ارفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا: إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا فإنها سوف تساقط، ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها فقالت له: كف يدك وأقبل على هذا الدم حتّى يسكن وانطلقت به إلى دم يحيى وهو على [تراب كثيرة] فقتل عليه حتّى سكن فقتل سبعين ألفا فلما سكن الدم، قالت له: كف يدك فإن الله تعالى إذا قتل نبي لم يرض حتّى يقتل من قتله ومن رضى قتله، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفة فكف عنه وعن أهل بيته وخرب بيت المقدس وأمر أن يطرح الجيفة فيه، وقال: من طرح جيفة فيه فله جزيته تلك السنة وأعانه الله على خرابة الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى.
فلما خربه بخت نصر ذهبت معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت، فلما قدم أرض بابل وجد صحابين قد مات فملك مكانه وكان أكرم الناس عليه دانيال وأصحابه حسدهم المجوس على ذلك فوشوا بهم إليه وقالوا: إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك وإنما يعبدون غيره ولا يأكلون ذبيحتك فدعاهم فسألهم فقالوا: أجل إن لنا ربا نعبده ولسنا نأكل من ذبيحتكم فأمر بحد فخدّ لهم فألقوا فيه وهم ستة وألقى معهم سبعا ضاريا ليأكلهم، ففعلوا ذلك فانطلقوا ليأكلوا ويشربوا فذهبوا فأكلوا وشربوا ثمّ راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع معترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحدا ولم ينكأه شيئا ووجدوا معهم رجلا فعدوهم فوجدوهم سبعة فقالوا: ما بال هذا السابع وإنما كانوا ستة فخرج إليهم السابع وكان ملكا من الملائكة فلطمه لطمة فصار في الوحش ومسخه الله سبع سنين فيه.
ثمّ إن بخت نصر رأى رؤيا عبّرها له دانيال (عليه السلام) ، وهو ما روى إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل أنه سمع راهبا يقول: إن بخت نصر رأى في آخر زمانه صنما رأسه من ذهب وصدره من فضة وبطنه من نحاس وفخذاه من حديد وساقاه من فخار، ثمّ رأى
__________
(1) كلمة غير مقروءة.(6/78)
حمرا من السماء وقع عليه قذفه ثمّ أتاه الحجر حتّى ربا فملىء ما بين المشرق والمغرب، ورأى شجرة أصلها في الأرض وفروعها في السماء ثمّ رأى رجلا بيده فأس، وسمع مناديا ينادي:
اضرب بجذعها لتفرق الطير من فروعها وتفرق الدواب والسباع من تحتها، وأنزل [....] «1»
عبرها له دانيال (عليه السلام) .
قال: أما الصنم الذي رأيت فأتيت الرأس الذهب فأنت أفضل الملوك، وأما الصدر الذي [رأيت] من فضة فابنك يملك من [بعدك] ، وأما البطن الذي رأيت من نحاس فذلك يكون من بعد [ابنك] وأما رأيت من الفخذ من حديد فهو ملك أهل فارس يكون ملكهم شديدا مثل الحديد، وأما الرجل من فخار فتفرق أهل فارس فرقتين ولا يكون فيهم حينئذ قوام كما لم يلين قوام الصنم على رجلين من فخار، وأما الحجر الذي ربا حتّى ملأ ما بين المشرق والمغرب فنبي يبعثه الله في آخر الزمان فيفرق ملكهم كله «2» فيربوا ملكه حتّى يكون ما بين المشرق والمغرب.
وأما الشجر الذي رأيت والطير الذي عليها والسباع والدواب التي تحتها وما أمر [بقطعها فيذهب] ملكك فيردك الله طائرا يكون شرا ملك الطير ثمّ يردك ثورا ملك الدواب ثمّ يردك الله أسدا ملك السباع والوحش سبع سنين كان مسخه كله سبع سنين. في ذلك كله قلبك قلب إنسان حتّى تعلم أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو يقدر على الأرض ومن عليها، وما رأيت أصلها [قائما] «3» فإن ملكك قائم، فمسخ بخت نصر نسرا من الطير وثورا من الدواب وأسدا من السباع ثمّ ردّ الله إليه ملكه فأمن ودعا الناس إلى الله.
[وسئل وهب بن منبه] أكان مؤمنا؟ قال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فمنهم من قال: مات مؤمنا، ومنهم قال: أحرق بيت الله وكتبه وقيد الأنبياء، وغضب الله عليه غضبا، فلم يقبل منه حينئذ توبته.
وقال بخت نصر لما رجع إلى صورته ثانية بعد المسخ [فردّ الله] إليه ملكه: كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسدتهم المجوس وقالوا لبخت نصر: إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عارا فجعل لهم بخت نصر طعاما فأكلوا وشربوا وقال للبواب: أنظر أول من يخرج عليك ليبول فاضربه بالطبرزين «4» وإن قال: أنا بخت نصر، فقل:
كذبت بخت نصر أمرني به فحبس الله عن دانيال البول وكان أول من قام من القوم يريد البول بخت نصر وكان مدلا وكان ليلا، فقام يسحب ثيابه فلما رآه البوّاب شد عليه فقال: أنا بخت
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) هكذا في الأصل.
(3) هكذا في الأصل.
(4) الطبرزين: آلة من السلاح تشبه الطبر والفأس.(6/79)
نصر قال: كذبت بخت نصر أمرني أن أقتل أول من يخرج فضربه فقتله «1» .
وأما محمّد بن إسحاق بن يسار فإنه قال: في هلاك بخت نصر غير ما قال السدي، وذلك أنه قال بإسناده: لما أراد الله [......] ليبعث فقال لمن كان في [......] «2» وكان يعذبه من بني إسرائيل: أن أتتم هذا البيت الذي خربته وهؤلاء الناس الذين قلت من هم وما هذا البيت، فقالوا: هذا بيت الله ومسجد من مساجده وهؤلاء أهله، كانوا من [ذراري الأنبياء] وظلموا [وتعذروا] «3» وعصوا عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السماوات والأرض ورب الخلق كلهم يكرههم ويمنعهم [ويحرمهم] ، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم.
قال: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا لعلي أطلع عليها فأقبل من فيها واتخذها ملكا فإني قد [فرغت] من الأرض ومن فيها، قالوا: ما يقدر عليه أحد من الخلائق، قال: لتفعلن [أو لأقتلنكم عن آخركم] «4» فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه، فبعث الله عليه بقدرته بعوضة ليرى ضعفه وهو انه فدخلت في منخره ثمّ سلفت في منخره حتّى عضت بأم الدماغ، فما كان [يقر ولا يسكن] «5» حتّى توجأ له رأسه على أم دماغه فلما عرف الموت قال لخاصته من أهله: إذا مت فشقوا رأسي وانظروا ما هذا الذي قتلني، فلما مات شق رأسه فوجد البعوضة عاضة بأم دماغه، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه ويحيى الله من كان بقي في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى إيليا والشام فبنوا فيها وأربوا وكثروا حتّى كانوا على أحسن ما كانوا عليه.
ويزعمون أن الله تعالى اختار توليت الموتى الذين قتلوا ولحقوا بهم، ثمّ إنهم لما رجعوا إلى الشام وقد أحرق التوراة [وليس معهم عهد] من الله جدد الله توراته وردها عليهم على لسان عزيز (عليه السلام) وقد مضت القصة، فهذا الذي ذكرت جميع أمر بخت نصر على ما جاء في التفسير المعتمد في أخبار الأنبياء، إلّا أن رواية من روى أن بخت نصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند [قتلهم] يحيى بن زكريا غلط [أهل السير] والأخبار والعلم بأمور الماضين من أهل الكتاب والمسلمين، ذلك أنهم مجمعون على أن بخت نصر غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم شعياء وفي عهد أورميا بن حلفيا (عليه السلام) وهي الوقعة الأولى التي قال الله فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني بخت نصر وجنوده، قالوا ومن عهد أروميا
__________
(1) بتمامه في تفسير الطبري مع تفاوت: 15/ 45.
(2) كلام غير مقروء.
(3) هكذا في الأصل.
(4) هكذا في الأصل.
(5) هكذا في الأصل.(6/80)
وتخريب بخت نصر بيت المقدس إلى عهد يحيى بن زكريا أربعمائة وإحدى وستون سنة، وذلك أنهم يعدون من لدن تخريب بخت نصر بيت المقدس إلى حين [عمارته في عهد كوسك] «1» سبعين سنة، ثمّ من بعد عمرانه إلى ظهور الإسكندر على بيت المقدس وحيازة ملكها إلى مملكة الإسكندر ثمانية وثمانين سنة، ثمّ من بعد مملكة الإسكندر إلى موت يحيى بن زكريا (عليه السلام) بثلاثمائة وثلاث وستون، ويروى بثلاثمائة سند وثلاث سنين.
وإنما الصحيح من ذلك ما ذكر محمّد بن إسحاق بن يسار قال: كثر عن بني إسرائيل بعد ما عمرت الشام وعادوا إليها بعد اخراب بخت نصر إياها وسبيهم منها، فجعلوا بعد ذلك يحدثون الأحداث بعد مهلك عزيز (عليه السلام) ويتوب الله عليهم وبعث الله فيهم الأنبياء وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون حتّى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى وكانوا من بيت آل داود، فمات زكريا وقتل يحيى بسبب رغبة الملك عن نكاح ابنته، في قول عبد الله ابن الزبير وابنة أخته في قول السدي وابنة أخيه في قول ابن عبّاس.
وهو الأصح إن شاء الله، لما روى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير قال: بعث عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان مما نهوهم نكاح بنت الأخ، قال: وكانت لملكهم ابنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها وكانت لها في كل يوم حاجة يقضيها، وذكر الحديث بطوله في مقتل يحيى «2» .
رجعنا إلى حديث ابن إسحاق، فلما رفع الله موسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا، وبعض الناس يقول: قتلوا زكريا انبعث عليهم ملك من ملوك بابل يقال له: خردوس فسار إليهم بأهل بابل حتّى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رؤوس جنوده يدعى [نبور زاذان] صاحب القتل فقال له: إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتّى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلّا أني لا أجد أحدا أقتله، فأمره ان يقتلهم حتّى يبلغ ذلك منهم نبور زاذان، فدخل بيت المقدس وكان في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم [فوجد فيها دما يغلي] فسألهم عنه، قالوا: هذا دم قربان قربناه فلم يقبل منا فلذلك هو يغلي كما تراه ولقد قربنا منذ ثمانمائة سنة القربان فتقبل منا إلّا هذا القربان، قال: ما صدقتموني الخبر قالوا له: لو كان كأول زماننا لقبل منا ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يتقبل منا فذبح منهم [نبور زاذان] على ذلك الدم سبعمائة وسبعون رأسا من رؤسائهم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم فذبحهم «3» على الدم فلم يرد ولم يهدأ
__________
(1) كذا في تفسير القرطبي: 10/ 220 وعند الطبري: كيرش. [.....]
(2) راجع تفسير القرطبي: 10/ 219.
(3) هكذا في الأصل.(6/81)
فلما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: ويلكم يا بني إسرائيل اصدقوني واصبروا على أمر ربكم [فقد طال] ما ملكتم في الأرض، تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك نافخ نار لا أنثى ولا ذكر إلا قتلته فلما [رأوا الجهد] وشدة القتل صدقوه القول فقالوا له: إن هذا دم نبي منا كان ينهاها عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا وكان يخبرنا بالملك فلم نصدقه فقتلناه فقال لهم نبور زاذان: ما كان اسمه؟ قال: يحيى بن زكريا، قال: وهل صدقتموني، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم، فلما رأى نبور زاذان أنهم قد صدقوه خرّ ساجدا وقال لمن حوله:
أغلقوا أبواب المدينة واجمعوا من كان هاهنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل.
قال: يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم من أجلك فاهدأ بأذن الله قبل أن لا يبقي من قومك أحد، فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله، ورفع نبور زاذان عنهم القتل [وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وصدقت به وأيقنت أنه لا رب غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح ولو كان له شريك لم تستمسك السموات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلح، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم ملك الملوك الذي له ملك السموات السبع والأرض وما فيهن وما بينهن، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فله الحكم والعلم والعزة والجبروت وهو الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لئلا تزول، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه] «1» فأوحى الله تعالى إلى رؤس من رؤوس بقية الأنبياء أن نبور زاذان حبور «2» صدوق.
وأن نبور زاذان قال لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتّى تسيل دماءكم وسط عسكره وإني لست أستطيع أن أعصيه قالوا له: افعل ما أمرت به فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتّى سال الدم في العسكر وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم حتّى كانوا فوقهم، فلم يظن خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى نبور زاذان أن أرفع عنهم القتل فقد بلغني دماؤهم [وقد انتقمت منهم لما فعلوا] «3» ثمّ انصرف عنهم إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاده، وهو الوقعة الاخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ الآيات.
وكانت الوقعة الأولى: بخت نصر وجنوده ثمّ ردّ الله لهم الكرة عليهم وكانت الوقعة الاخيرة خردوس وجنوده فلم [.....] همام بعد ذلك [.....] . فانتقل الملك بالشام
__________
(1) راجع تفسير الطبري: 15/ 55.
(2) الحبور بالعبرانية: حديث الإيمان.
(3) راجع تفسير الطبري: 15/ 55.(6/82)
ونواحيها إلى الروم واليونان، ثم إن بني إسرائيل كثروا وانتشروا بعد ذلك وكانت لهم ببيت المقدس [بزواجها] على غير وجه الملك وكانوا في أهبة ومنعة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث وانتهكوا المحارم وضربوا الحدود فسلط الله عليهم ططوس بن سيبانو الرومي، فأخرب بلادهم وطردهم عنها ونزع الله عنهم الملك والرئاسة وضرب عليهم الذلة، فليسوا في أمة من الأمم إلّا وعليهم [الصغار] والملك في غيرهم وبقي بيت المقدس خرابا إلى أيام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عمّره المسلمين بأمره.
وروى أبو عوانة عن أبي بشير قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ الآيات، فقال: أما الذين فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ فكان مرحا بن الجزري فإذا جاء إلى قوله تَتْبِيراً فكان جالوت الجزري شعبة من [.....] «1» .
ثمّ قال: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ إلى قوله تَتْبِيراً قال: هذا بخت نصر الذي خرب بيت المقدس.
ثمّ قال لهم بعد ذلك عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [على هذا ثمّ] «2» وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قال فعادوا فعيد عليهم فبعث الله عليهم ملك الروم ثمّ عادوا أيضا فعيد عليهم فبعث الله عليهم ملك [......] «3» ثمّ عادوا أيضا فعيد عليهم سابور ذو الأكتاف.
قتادة في هذه الآية (وَقَضَيْنا) قضى على القوم كما تسمعون فبعث عليهم في الأولى جالوت، فسبى وقتل وخرب وجاسوا خِلالَ الدِّيارِ، ... ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ يعني يا بني إسرائيل الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ والملك في زمان داود (عليه السلام) فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ آخر الكرتين بعث الله عليهم بخت نصر أبغض خلق الله، فسبى وقتل وخرب بيت المقدس وسامهم سوم العذاب، ثمّ قال عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ «4» فعاد الله إليهم برحمته ثمّ عاد [الله إليهم بشر] «5» بما عذبهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من آفته وعقوبتة، ثمّ بعث الله عليهم هذا الحي من العرب كما قال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «6» [....] «7» .
__________
(1) كلام غير مقروء.
(2) هكذا في الأصل.
(3) كلمة غير مقروءة.
(4) هكذا في الأصل.
(5) هكذا في الأصل.
(6) سورة الأعراف: 167.
(7) كلام غير مقروء.(6/83)
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أي أخبرناهم وعلمناهم في ما آتيناهم من الكتب.
وقال ابن عبّاس وقتادة: يعني وقضينا عليكم، وعلى هذا التأويل يكون (إلى) بمعنى (على) وبمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ، لَتُفْسِدُنَّ قيل: لام القاسم مجازة: والله لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ بالمعاصي لَتَعْلُنَّ ولتستكبرن ولتظلمن الناس عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يعني أولي المرتين واختلفوا فيها فعلى قول قتادة: إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة [وحكموا] ربهم ولم يحفظوا أمر نبيهم موسى (عليه السلام) وركبوا المحارم وتعدوا على الناس.
وقال السدي: في خبر ذكره عن أبي مالك وأبي جهل عن ابن عبّاس وعن أمية الهمذاني عن ابن مسعود: إن أول الفسادين قتل زكريا.
وقال ابن إسحاق: إن إفسادهم في المرة الأولى قتلهم شعياء بن أمصيا في عهد أرمياء في الشجرة.
وقال ابن إسحاق: إن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وأن المقتول هو شعياء (عليه السلام) .
بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا يعني [جالوت الجزري] وجنوده وهو الذي قتله داود.
قال قتادة: وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس، وقال أبو المعلى ويعلى «1» عن سعيد بن جبير: هم صحاريب من أهل نينوى، وهي الموصل.
أبو بشير عنه: صرخان الخزري، وقال: ابن إسحاق: بخت نصر البابلي وأصحابه.
أُولِي بَأْسٍ يعني بطش، وفي الحرب شَدِيدٍ فَجاسُوا أي خافوا وداروا.
قال ابن عبّاس: مشوا، الفراء: قتلوكم بين بيوتكم.
وأنشد لحسان:
ومنا الذي لاقى بسيف محمّد ... فجاس به الأعداء عرض العساكر
أبو عبيدة: طلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها «2» .
القتيبي: [عاشوا وقتلوا] وأفسدوا «3» .
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) راجع تفسير القرطبي: 10/ 216. [.....]
(3) راجع زاد المسير لابن الجوزي: 5/ 8 ونسبه لأبي عبد الرحمن.(6/84)
ابن جرير: طافوا من الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين فجمع التأويلات.
وقرأ ابن عبّاس: فحاسوا بالحاء ومعناها واحد.
خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا قضاء كائنا لا خلف فيه ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ الرجعة والدولة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً عددا.
قال القتيبي: والنفير من نفر «1» مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، يقال: النفير والنافر، وأصله القدير والقادر.
إِنْ أَحْسَنْتُمْ يا بني إسرائيل أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لها ثوابا ونفعها وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها أي فعليها كقوله فَسَلامٌ لَكَ أي عليك.
وقال محمّد بن جرير: قالها كما قال بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي إليها، وقيل: فَلَها الجزاء والعقاب.
وقال الحسين بن الفضل: يعني فَلَها رب يغفر الإساءة «2» .
فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي المرة الآخرة من إفسادكم وذلك على قصدهم قتل عيسى (عليه السلام) يحيى حين رفع، وقتلهم يحيى بن زكريا (عليه السلام) فسلط الله عليهم الفرس والروم [...........] «3» قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن بلادهم وأخذوا بلادهم وأموالهم فذلك قوله لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي ليحزن، واختلف القراء فيه،
فقرأ الكسائي: لنسوؤ بالنون وفتح الهمزة على التعظيم اعتبارا، وَقَضَيْنا وبَعَثْنا ورَدَدْنا وأمددنا وجعلنا.
وروى ذلك عن علي (رضي الله عنه)
: وتصديق هذه القراءة قرأ أبي بن كعب: لنسؤنّ وجوهكم بالنون وحرف التأكيد.
وقرأ أهل الكوفة: بالياء على التوحيد، ولها وجهان: أحدهما ليسؤ الله وجوهكم، والثاني ليسؤ [العدو] وجوهكم.
وقرأ الباقون: لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ بالياء وضم الهمزة على الجمع، بمعنى ليسؤ العباد أولي بأس شديد وجوهكم وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعني بيت المقدس ونواحيه كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا وليهلكوا أو ليدمروا ما عَلَوْا غلبوا عليه [تدميرا] تَتْبِيراً عَسى لعلّ رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد انتقامهم منكم وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا.
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) تفسير القرطبي: 10/ 217.
(3) كلام غير مقروء.(6/85)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
قال ابن عبّاس: وَإِنْ عُدْتُمْ إلى المعصية عُدْنا إلى العقوبة، فعادوا فبعث الله عليهم محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعطون الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ... وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً معينا سجنا ومحبسا من الحصر وهو الحبس، والعرب تسمى [النخيل] حصورا والملك حصيرا [لأنه محجوب محبوس] «1» عن الناس.
قال لبيد:
وقماقم غلب الرقاب كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام
أي باب الملك ومنه: انحصر في الكلام إذا [احتبس عليه] وأعياه، والرجل الحصور عن النساء وحصر الغائط.
قال الحسن وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي فراشا ومهادا، ذهب إلى الحصير الذي يفرش، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا، وهو وجه حسن وتأويل صحيح.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 16]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13)
اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي الطريقة التي [هي أسد وأعدل وأصوب] «2» وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وهو الجنة وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وهي النار وَيَدْعُ الْإِنْسانُ حذفت الواو هنا في اللفظ والخط ولم يحذف في المعنى لأنها في موضع رفع وكان حذفها باستقالتها اللام الساكنة كقوله سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «3» يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ «4» ، ويُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ ويُنادِ الْمُنادِ ... فَما تُغْنِ النُّذُرُ ومعنى الآية وَيَدْعُ الْإِنْسانُ على [ماله وولده ونفسه بالسوء] وقوله عند الضجر
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) تفسير القرطبي: 10/ 225.
(3) سورة العلق: 18.
(4) سورة الشورى: 24.(6/86)
والغضب: اللهم العنه اللهم أهلكه دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي كدعائه ربه أن يهب له العافية والنعمة ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده [بالشر لهلك] ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك، نظيره قوله تعالى وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا عجلا بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه.
قال مجاهد وجماعة من المفسرين، وقال ابن عبّاس: [يريد] ضجرا لا صبرا له على سراء ولا ضرّاء.
وقال قوم من المفسرين: أراد الإنسان آدم.
قال سلمان الفارسي: أول ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق جسده فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لو يبث فيها الروح، فقال: يا رب عجّل قبل الليل فذلك قوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا.
وروى الضحاك عن ابن عبّاس قال: لما خلق الله رأس آدم نظر إلى جسده فأعجبه، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [وقيل: المراد آدم فإنه لما انتهى الروح إلى سرته ذهب لينهض فسقط،
يروى أنه علم وقع أسيرا إلى سودة بنت زمعة فرحمته لأنينه فأرخت من كتافه فهرب فدعا النبي عليها بقطع اليد ثم ندم فقال: اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له فنزلت هذه الآية] «1»
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ دلالتين وعلامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا وعدد السنين والحساب فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ
قال أبو الطفيل: سأل ابن الكواء عليا (رضي الله عنه) فقال: ما هذا السواد في القمر؟ فقال علي: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً وهو المحو «2» .
وقال ابن عباس: الله نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر سبعين جزءا فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد «3» .
وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ وهي الشمس مُبْصِرَةً [منيرة مضيئة] «4» .
__________
(1) عن هامش المخطوط.
(2) تفسير الطبري: 15/ 64.
(3) راجع تفسير القرطبي: 10/ 227.
(4) هكذا في الأصل.(6/87)
وقال أبو عمرو بن العلا: يعني بصرها.
قال الكسائي: هو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء وصار بحالة يبصرها.
وقال بعضهم: هو كقولهم: [رجل خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافا فكذلك النهار مبصرا إذا كان أهله بصراء] «1» .
لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ إلى قوله فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بينّاه تبيينا.
مقاتل بن علي عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى لما أبرم خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسا من نور عرشه وقمرا فكانا جميعا شمسان فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا فإنه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها فيحولها قمرا فخلقها دون الشمس من العظيم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض، فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا النهار من الليل ولا كان يدرك الأجير إلى متى يعمل ومتى يأخذ أجره ولا يدري الصائم إلى متى يصوم ومتى يفطر، ولا تدري المرأة كيف تعتد ولا يدري المسلمون متى وقت صلاتهم ومتى وقت حجهم، ولا يدري الديان متى يحل دينهم ولا تدري الناس متى يبذرون ويزرعون لمعاشهم ومتى يسكنون لراحة أبدانهم فكان الرب سبحانه أنظر لعباده وأرحم بهم فأرسل جبرائيل [فأمّر] جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور، فذلك قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [والسواد] «2» الذي ترونه في جوف القمر يشبه الخطوط، فهو أثر المحو «3» .
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال ابن عباس: وما قدر عليه [من خير وشر] فهو ملازمه أينما كان «4» .
الكلبي ومقاتل: خيره وشره معه لا يفارقه حتّى يحاسب به [وتلا الحسن: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ] ثمّ قال يا بن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان أحدهما عن يمينك والآخر [عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذين عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً] «5» .
__________
(1) مقوّمة من تفسير القرطبي والمخطوط لا يقرأ.
(2) هكذا في الأصل. [.....]
(3) ذكره ابن الجوزي مختصرا في الموضوعات: 1/ 139.
(4) راجع تفسير القرطبي: 10/ 229.
(5) تفسير الطبري: 15/ 69.(6/88)
مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلّا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد.
وقال أهل المعاني: أراد بالطائر ما قضى عليه [أنه] عامله في ما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، وإنّما عبر عنه بالطائر على عادة العرب كما كانت تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها «1» .
أبو عبيد والعيني: أراد بالطائر حظه من الخير والشر عن قولهم طار منهم فلان بكذا أيّ جرى له الطائر بكذا.
وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء: طئره في عنقه بغير ألف وإنّما خص عنقه دون سائر أعضائه، لأن العنق موضع السمات وموضع القلائد والأطراف وغير ذلك مما يشين أو يزين، فجرى كلام العرب [بنسبة الأشياء اللازمة] «2» إلى الأعناق فيقولون هذا في عنقي حتّى أخرج منه وهذا الشيء [لازم صليت] عنقه.
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً قرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن ويعقوب: وَيَخْرُجُ بفتح الياء وضم الراء على معنى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا نصب كِتاباً على الحال، ويحتمل أن يكون معناه ويخرج له الطائر فيصير كتابا.
وقرأ أبو جعفر: وَيُخْرَجُ بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل ومجازه ويخرج له الطائر كتابا.
وقرأ يحيى بن وثاب: وَيُخْرِجُ أي ويخرج الله.
وقرأ الباقون: بنون مضمومة وكسر الراء على معنى ونحن نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ونصب كِتاباً بإيقاع الإخراج عليه واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله أَلْزَمْناهُ ...
يَلْقاهُ قرأ أبو عامر وأبو جعفر: تُلَقَّاهُ بضم التاء وتشديد القاف يعني تلقى الإنسان ذلك الكتاب أي [يؤتى] . وقرأ الباقون: بفتح الياء أي يراه.
مَنْشُوراً نصب على الحال.
عن بسطام بن مسلم قال: سمعت أبا النباج يقول سمعت أبا السوار العدوي يقرأ هذه الآية ثمّ قال: نشرتان وعليه ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك منشورة فاعمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت ثمّ إذا بعثت نشرت.
__________
(1) تفسير الطبري: 15/ 66.
(2) هكذا في الأصل.(6/89)
اقْرَأْ كِتابَكَ يعني فيقال له اقرأ كتابك كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً محاسبا مجازيا.
قتادة: سيقرأ يومئذ كل من لم يكن في الدنيا [مجازيا] «1» .
وقال الحسن: [قد عدل والله عليك] من جعلك حسيب نفسك.
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لها نوليه وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأن عليها عقابه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ولا يحمل حامله عمل أخر من الأثام وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا إقامة للحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها.
قرأ عثمان النهدي وأبو رجاء العطاردي وأبو العالية [وأبو جعفر] ومجاهد: أَمَّرْنا بتشديد الميم أيّ خلطنا [شرارها] «2» فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم.
وقرأ الحسن وقتادة وأبو حياة الشامي ويعقوب: آمرنا ممدودة أي أكثرنا.
وقرأ الباقون: بكسر الميم، أي أمرناهم بالطاعة فعصوا، ويحتمل أن يكون بمعنى جعلناهم أمرا لأن العرب تقول أمر غير مأمور أي غير مؤمر، ويجوز أن يكون بمعنى أكثر ما يدل عليه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة»
«3» [21] «4» أراد بالمأمورة كثرة النسل ويقال للشيء الكثير: أمر، والفعل منه أمر يأمرون أمرا إذا كثروا.
وقال لبيد:
كل بني حرة مصيرهم ... قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا، ... يوما يصيروا للهلك والنفذ
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم وقرأه العامّة.
وقال أبو عبيد: إنما اخترنا هذه القراءة، لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والأمارة والكثرة، مُتْرَفِيها
[.........] «5» وهم أغنياؤها ورؤساءها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
يوجب عليها العذاب فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
فجزيناهم [وأهلكناهم إهلاكا بأمر فيه أعجوبة] .
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) هكذا في الأصل.
(3) السكة: الطريقة المصطفة من النخل والمأبورة الملقحة، والمعنى: خير المال نتاج وزرع.
(4) الآحاد والمثاني للضحاك: 2/ 424، والمعجم الكبير: 7/ 91.
(5) كلمة غير مقروءة ولعلها: خلق.(6/90)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
روى معمر عن الزهري قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما على [زينب] وهو يقول: «لا إله إلّا الله للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون، قال: «نعم إذا كثر الخبث» «1» [22] .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 17 الى 25]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ تخوف كفار مكة وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً وقد اختلفوا في مبلغ مدة القرن:
قال عبد الله بن أبي: وفي القرن عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أول قرن كان وآخرهم يزيد بن معاوية.
وروى محمّد بن القاسم عن عبد الله بن بشير المازني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وضع يده على رأسه وقال: «سيعيش هذا الغلام قرنا» فقلت: كم القرن؟ قال: «مائة سنة» .
قال محمّد بن القاسم: ما زلنا نعدّ له حتّى [تمت] مائة سنة ثمّ مات.
وقال الكلبي: القرن ثمانون سنة.
وروى عمر بن شاكر عن ابن سيرين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القرن أربعون سنة» [23] .
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ يعني الدنيا فعبرنا بحرف عن الاسم، أراد بالدار العاجلة عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ من البسط والتقدير لِمَنْ نُرِيدُ أن يفعل به ذلك [أوّل] إهلاكه، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ في الآخرة يَصْلاها يدخلها مَذْمُوماً مَدْحُوراً مطرودا مبعدا وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وعمل لها عملها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً مقبولا غير مكفور كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ أيّ نمد كل الفريقين، من يريد العاجلة ومن يريد الآخرة
__________
(1) تفسير الطبري: 15/ 73.(6/91)
فيرزقهما جميعا مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ثمّ يختلف بهما الحال في المال وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ممنوعا [محبوسا] «1» عن عباده انْظُرْ يا محمّد كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الرزق والعمل، يعني طالب العاجلة وطالب الآخرة وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره فَتَقْعُدَ فتبقى مَذْمُوماً مَخْذُولًا وَقَضى أمر رَبُّكَ.
قال ابن عبّاس وقتادة والحسن قال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن وقال إنه طلق امرأته ثلاثا، فقال: إنك عصيت ربك وبانت منك امرأتك، فقال الرجل: قضى الله ذلك عليّ.
قال الحسن وكان فصيحا: ما قضى الله، أي ما أمر الله وقرأ هذه الآية وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فقال الناس: تكلم الحسن في [القدر] .
وقال مجاهد وابن زيد: وأوصى ربك، ودليل هذا التأويل
قراءة علي وعبد الله وأبيّ:
ووصى ربك.
وروى أبو إسحاق [الكوفي] عن شريك بن مزاحم أنه قرأ: ووصى ربك وقال: إنهم [ادنوا] الواو بالصاد فصارت قافا.
وقال الربيع بن أنس: [وأوجب] «2» رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأمر بالأبوين إحسانا برا بهما وعطفا عليهما إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ الكسائي بالألف، وقرأ الباقون: يَبْلُغَنَّ بغير الألف على الواحدة وعلى هذه القراءة قوله أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما كلام [مستأنف] كقوله عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ «3» وقوله وَأَسَرُّوا النَّجْوى «4» ثمّ ابتدأ فقال: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فيه ثلاث لغات بفتح الفاء [حيث قد رفع] «5» وهي قراءة أهل مكة والشام واختيار يعقوب وسهيل.
و (أُفٍّ) بالكسر والتنوين وهي قراءة أهل المدينة وأيوب وحفص.
و (أُفِّ) مكسور غير منون وهي قراءة الباقين من القراء، وكلها لغات معروفة معناها واحد.
قال ابن عبّاس: هي كلمة كراهة. مقاتل: الكلام الرديء الغليظ.
أبو عبيد: أصل الأف والتف الوسخ على الأصابع إذا فتلته وفرق الآخرون بينهما فقيل
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) هكذا في الأصل.
(3) سورة المائدة: 71. [.....]
(4) سورة طه: 62.
(5) هكذا في الأصل.(6/92)
الأف ما يكون في المغابن من العرق والوسخ، والتف ما يكون في الأصابع، وقيل: الأف وسخ الأذن والتف وسخ [الأظفار] وقيل: الأف وسخ الظفر والتف ما رفعت يدك من الأرض من شيء حقير.
وَلا تَنْهَرْهُما لا تزجرهما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً حسنا جميلا.
وقال ابن المسيب: كقول العبد المذنب للسيد الفظ «1» .
وقال عطاء: لا تسمهما ولا تكنّهما وقل لهما: يا أبتاه ويا أماه.
مجاهد في هذه الآية: إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويحدثان فلا تتعذرهما «2» .
ولا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ حين ترى الأذى وتميط عنهما الخراء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا [ولا تؤذهما] «3» [وروى سعيد بن المسيب: أن [العاق] يموت ميتة سوء،
وقال رجل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن أبوي بلغا من الكبر أني أوليهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما؟ قال (صلى الله عليه وآله) : [ «لا فإنهما كانا يفعلان لك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل وأنت تريد موتهما» ] «4» [24] .
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.
قال عروة بن الزبير: إن لهما حتّى لا يمتنع من شيء أحياه.
مقاتل: ألن لهما جانبك فاخضع لهما.
وقرأ الحسن وسعيد بن جبير وعاصم الجحدري: جَناحَ الذِّلِّ بكسر الذال أي [لا تستصعب معهما] .
وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً.
قال ابن عبّاس: هو منسوخ بقوله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى الآية.
روى شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«رضى الله تعالى مع رضا الوالدين وسخط الله مع سخط الوالدين» [25] «5» .
__________
(1) راجع تفسير الطبري: 15/ 84.
(2) هكذا في الأصل.
(3) هكذا في الأصل.
(4) عن هامش المخطوط.
(5) سبل السلام للعسقلاني: 4/ 164، والدر المنثور: 4/ 172.(6/93)
عطاء عن عائشة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقال للعاق اعمل ما شئت إني لا أغفر لك ويقال للبار اعمل ما شئت وإني أغفر لك» [26] «1» .
روى عطاء عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أمسى مرضيا لوالديه وأصبح أمسى وأصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة، وإن أمسى وأصبح مسخطا لوالديه أصبح وله بابان إلى النار وان واحدا فواحد» [27] «2» .
فقال رجل: يا رسول الله وإن ظلماه؟ قال: «وإن ظلماه» ، ثلاث مرات.
وروى رشيد بن سعد عن أبي هاني الخولاني عن أبي عمر [القصبي] «3» قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله دلني على عمل أعمله يقربني إلى الله؟ قال: «هل لك والدة ووالد؟» قال: نعم. قال: «فإنما يكفي مع البر بالوالدين العمل [اليسير] » [28] .
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من بر الوالدين وعقوقهما إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أبرارا مطيعين فيما أمركم الله به بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين، وغير ذلك من فرائض الله فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ بعد المعصية والهفوة غَفُوراً.
وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: هو الرجل يكون منه المبادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلّا الخير، فإنه لا يؤخذ به.
واختلف المفسرون في معنى الأوابين:
فقال سعيد بن جبير: الراجعين إلى الخير، سعيد بن المسيب: الذي يذنب ثمّ يتوب ثمّ يذنب ثمّ يتوب.
مجاهد عن عبيد بن عمر: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلا فيستغفر الله تعالى عنها.
عمرو بن دينار: هو الذي يقول: اللهم اغفر لي ما أصبت في [مجلسي] هذا.
ابن عبّاس: الراجع إلى الله فيما [لحق به وينويه] «4» والأبواب فعال من أوب إذا رجع.
قال عبيد بن الأبرص: وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب.
وقال عمرو بن شرحبيل: وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس دليله قوله يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «5» .
__________
(1) كنز العمال: 16/ 476.
(2) تفسير القرطبي: 10/ 245.
(3) هكذا في الأصل.
(4) هكذا في الأصل.
(5) سورة سبأ: 10.(6/94)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
الوالبي: عنه المطيعين المخبتين.
قتادة: المصلين. عون العقيلي: هم الذين يصلون صلاة الضحى.
ابن المنكدر: بين المغرب والعشاء.
روى ابن إدريس عن أبيه عن سعيد بن جبير قال: الأوابين الرغابين.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 43]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ يعني صلة الرحم. وقال بعضهم: عني بذلك قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
روى السدي عن ابن الديلمي قال: قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام أقرأت القرآن؟ قال نعم؟ قال: أفما قرأت في بني إسرائيل وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ قال: انكم القرابة الذين أمر الله أن يؤتى حقه؟ قال: نعم.
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ يعني مار الطريق، وقيل: الضيف وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ولا تنفق مالك في المعصية.
وروى سلمة بن كهيل عن أبي [عبيدة] عن ابن الضرير أنه سأل ابن مسعود ما التبذير؟
فقال: إنفاق المال في غير حقه «1» .
__________
(1) تفسير مجاهد: 1/ 361.(6/95)
وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في [الحق ما كان] تبذيرا، فلو أنفق يدا في باطل كان تبذيرا به.
وقال شعيب: كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة، فأتى على دار تبنى بجص وآجر فقال: هذا التبذير في قول عبد الله: إنفاق المال في غير حقه «1» .
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أولياؤهم وأعوانهم، والعرب تقول: لكل [من يلزم] سنّة قوم وتابع أمرهم هو أخوهم وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً جحود النعمة.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ الآية
نزلت في منجع وبلال وصهيب وسالم وخباب، كانوا يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد لهم متسعا، فيعرض عنهم حياء منهم
فأنزل الله عزّ وجلّ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ يعني وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم حقوقهم عند مسألتهم إياك ما لا يجد إليه سبيلا حياء منهم.
ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ابتغاء رزق من الله تَرْجُوها أن يأتيك فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ليّنا وعدهم وعدا جميلا وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً الآية.
قال جابر بن عبد الله: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعد فيما بين الصحابة أتاه صبي فقال: يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعا، ولم يكن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا قميصه، فقال الصبي: من ساعة إلى ساعة يظهر يعد وقتا آخر، فعاد إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا، فأذن بلال للصلاة فانتظروا فلم يخرج فشغل قلوب الصحابة فدخل عليه [بعضهم فرآه] عاريا فأنزل الله تعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ «2» يعني ولا تمسك يدك عن النفقة في الحق، كالمشدودة يده على عنقه فلا يقدر على مدها والإعطاء.
وَلا تَبْسُطْها بالعطاء كُلَّ الْبَسْطِ فتعطي جميع ما تملك فَتَقْعُدَ مَلُوماً يلومك سائلوك إذا لم تعطيهم مَحْسُوراً منقطعا بك لا شيء عندك تنفقه، فقال: حسرته بالمسألة إذا [أكلّته] «3» ودابة حسيرة إذا كانت كالة [رازحة] «4» وحسير البصر إذا كل، قال الله يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ «5» وقال قتادة: نادما على ما سلف منك «6» .
__________
(1) تفسير الطبري: 15/ 94. [.....]
(2) أسباب النزول للواحدي: 194.
(3) كذا في المخطوط.
(4) هكذا في الأصل.
(5) سورة الملك: 4.
(6) راجع تفسير القرطبي: 10/ 251.(6/96)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يقتر ويضيق إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً نظيرها قوله: [ولو وسع] «1» الله الرزق لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ الآية وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ضيق وإقتار نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يأدون بناتهم خشية الفاقة فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأخبرهم أن رزقهم ورزق بناتهم على الله تعالى إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً اختلف القراء فيه:
فقرأ أبو جعفر وابن عامر: بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة.
وقرأ ابن كثير: بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة.
وقرأ الآخرون: بكسر الخاء وجزم الطاء، وكلها لغات بمعنى واحد، ويكون اسما ومصدرا.
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ وبحقها بما
روى حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله، فإذا قالوها [عصموا] في دمائهم وأموالهم إلّا بحقها وحسابهم على الله» [29] قيل: وما حقها؟ قال: زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس فيقتل بها «2» .
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً قوة وولاية على قاتل وليه فإن لما استفاد منه فقتله وأن الله أخل الدية وإن شاء عفا عنه فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ قرأ حمزة والكسائي وخلف: تسرف بالتاء أي فلا تسرف أيها القاتل، ويجوز أن يكون الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمراد منه الأيمة والأمة من بعده، ومن قرأ بالياء رجع إلى المولى.
واختلفوا في الإسراف ما هو: فقال ابن عبّاس: لا يقتل غير قاتله.
قال الحسن وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم حتّى يقتلوا أشرف من الذي قتله، فيعمد ولي المقتول إلى الشريف من قبيلة القاتل فيقتله بوليه ويترك القاتل، فنهى الله عن ذلك،
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن من أعتى الناس على الله جل ثناؤه قتل غير قاتله أو قتل بدخن الجاهلية أو قتل في حرم الله» [30] «3» .
وقال الضحاك: كان هذا بمكة ونبي الله صلّى الله عليه وسلّم بها، وهو أول شيء نزل من القرآن في شأن القتل وكان المشركون من أهل مكة يقتلون أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال الله: من قتلكم من المشركين
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) تفسير الطبري: 15/ 103.
(3) المصدر السابق: 15/ 106.(6/97)
فلا يحملنكم قتله إياكم على أن لا تقتلوا إلا قاتلكم، فلا يقتلوا له أبا أو أخا أو أحدا فإن كانوا من المشركين فلا يحملنكم ذلك [................] «1» على فلا تقتلوا إلا قاتلكم «2» .
وهذا قبل أن تنزل سورة براءة وقبل أن يؤمروا بقتال المشركين.
وقال سعيد بن جبير: لا يقبل [........] على العدة.
قتادة وطارق بن حبيب وابن كيسان: [لا يمثل به] .
إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً اختلفوا في هذه الكناية [إلى من ترجع فقيل: ترجع] على ولي المقتول، هو المنصور على القاتل [فيدفع الامام] إليه القاتل، فإن شاء قتل وإن شاء عفا عنه وإن شاء أخذ الدية، وهذا قول قتادة.
وقال الآخرون: (مَنْ) راجعة إلى المقتول في قوله وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً يعنى أن المقتول [منصور] في الدنيا بالقصاص وفي الآخرة [بالتوبة] وهو قول مجاهد.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إلى قوله مَسْؤُلًا عنه، وقيل معناه: كان مظلوما وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ.
قرأ أهل الكوفة: القسطاس بكسر القاف.
الباقون: بفتحه وهو الميزان مثل القرطاس، والقسطاس معناه الميزان صغيرا كان أو كبيرا «3» .
مجاهد: هو العدل بالرومية. وقال الحسن: هو القبان.
ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة.
[قال الحسن] : ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقدر رجل على حرام ثمّ يدعه ليس لديه «4» إلا مخافة الله إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك» [31] «5» .
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه وهذه رواية على عن ابن عبّاس.
__________
(1) كلام غير مقروء.
(2) هكذا في الأصل.
(3) راجع تفسير القرطبي: 10/ 257.
(4) في المصدر: به.
(5) كنز العمال: 15/ 787، وتفسير الطبري: 15/ 109.(6/98)
قال مجاهد: ولا ترم أحدا بما ليس لك به علم، وهي رواية عطية عن ابن عبّاس «1» .
وقال ابن الحنفية: هو شهادة الزور.
قال [القتيبي] : لا تتبع الحدس والظنون، وكلها متقاربة، وأصل القفو البهت والقذف بالباطل. ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا» «2» .
وقال النابغة:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن ... بهن الحياء لا يشعن التقافيا «3»
وقال الكميت:
فلا أرمي البريء بغير ذنب ... ولا أقفوا الحواصين أن [قفينا] «4»
وقال [القتيبي] : فهو مأخوذ من القفاء كأنه يقفوا الأمور ويكون في أقفائها يعقبها [ويتتبعها] ويتعرفها. يقال: قفوت أثره على وزن دعوت والنهي منه لا يقف، كقولك: لا تدع.
وحكى الفراء عن بعضهم: أن أصله من القيافة، وهو اتباع الأثر وإذا كان كذلك وجب أن يكون (وَلا تَقْفُ) بضم القاف وسكون الفاء مثل: ولا تقل، قال: والعرب تقول: قفوت أثرها وقفت مثل قولهم: قاع الجمل الناقة إذا ركبها وقعا، وعاث وعاثا واعتام واعتمى واحتاج ماله واحتجا.
قال الشاعر:
ولو إني رميتك من قريب ... لعاقك «5» من دعاء الذئب عاق
أي عانق.
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي كل هذه الجوارح والأعضاء ما يقل تلك.
كقول الشاعر، وهو جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام «6»
__________
(1) راجع زاد المسير لابن الجوزي: 5/ 27. [.....]
(2) المعجم الكبير للطبراني: 1/ 236، والطبقات الكبرى: 1/ 22 بلفظ: ولا ندعي لغير أبينا.
(3) التقافيا: التقاذف، والبيت في تفسير الطبري نسبه لبعض البصريين: 15/ 110.
(4) هكذا في الأصل.
(5) هكذا في الأصل.
(6) راجع تفسير الطبري: 15/ 111.(6/99)
ويجوز «1» أن يكون راجع «2» إلى أصحابها وأربابها.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً بطرا وفخرا وخيلاء، وهو تفسير المشي لا نعته فإن ذلك أخرجه على المصدر قل لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تقطعها بكعبيك حتّى تبلغ آخرها، يقال فلان أخرق الأرض من فلان إذا كان أكثر سفرا وعزة.
وقال روبة:
وقائم [الأعماق] «3» خاوي المخترق
أي المقطع وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي [لن تساويها بطولك ولا تطاولك] وأخبر أن صاحبه لا ينال به شيئا [.....] «4» . عنه غيره كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً.
قرأ الحسن ويحيى بن يعمر وابن عمر وأهل الكوفة: سَيِّئُهُ على الاضافة، بمعنى كل هذا الذي ذكرنا من قوله وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.
(كان سيئة) أي سيء بما ذكرنا ووعدنا عليك عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً، قالوا: لأن فيما ذكره الله من قوله وَقَضى رَبُّكَ إلى هذا الموضع أمورا مأمورات بها ومنهيات عنها، واختار أبو عبيد هذه القراءة لما ذكرنا من المعنى، ولأن في قراءة أبي حجة لها، وهي ما روى أبو عبيد عن حجاج عن هارون في قراءة [أبي بن كعب] (كان سيئاته) قال: فهذه تكون بإضافة سيئة منوّنة منصوبة، بمعنى كل ذلك الذي ذكرنا ووعدنا من قوله وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ إلى هذا الموضع كان سيئة لا حسنة في فجعلوا «كلا» محيطا بالمنهي عنه دون غيره «5» .
فإن قيل: هلا جعلت مكروها خبر ثان، قلنا: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: كل ذلك كان مكروها سيئة، وقيل هو فعل [.....] كالبدل لا على الصفة، مجازة: كل ذلك كان سيئة وكان مكروها.
وقال أهل الكوفة: رجع إلى المعنى، لأن السيئة الذنب وهو [غير حقيقي] ذلِكَ الذي ذكرنا [ووعدنا] «6» مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ إلى قوله مَدْحُوراً مطرودا مبعدا من كل نصير والمراد به غيره.
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) كلمة غير مقروءة.
(3) هكذا في الأصل.
(4) كلمة غير مقروءة.
(5) راجع تفسير القرطبي: 10/ 262.
(6) هكذا في الأصل.(6/100)
قال الكلبي: [الثمان عشرة] آية كانت في ألواح موسى وهي عشر آيات في التوراة.
أَفَأَصْفاكُمْ اختاركم واختصكم رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً بنات إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً يخاطب مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله.
وَلَقَدْ صَرَّفْنا قرأه العامّة: بالتشديد على التكثير.
وقرأ الحسن: صَرَفْنا بالتخفيف.
فِي هذَا الْقُرْآنِ يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والأعلام.
سمعت أبا القاسم الحسين يقول: بحضره الإمام أبي الطيب لقوله تعالى صَرَّفْنا معنيان أحدهما: لم يجعله نوعا واحدا، بل وعدا ووعيدا وأمرا ونهيا ومحكما ومتشابها وناسخا ومنسوخا وأخبارا وأمثالا، مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وتصريف الأفعال من الماضي إلى المستقبل ومن الفاعل إلى المفعول ونحوها.
والثاني: لم ينزله مرة واحدة بل [نجوما] مثل قوله وَقُرْآناً فَرَقْناهُ ومعناه أكثرنا صرف جبرئيل إليك «1» .
لِيَذَّكَّرُوا. قرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي لِيَذْكُرُوا مخففا.
وقرأ الباقون: بالتشديد وإختيار أبو عبيد أي ليتذكروا وَما يَزِيدُهُمْ أي التصريف والتذكير إِلَّا نُفُوراً ذهابا وتباعدا عن الحق قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ.
قرأ ابن كثير وحفص: يَقُولُونَ بالياء. الباقون: بالتاء.
إِذاً لَابْتَغَوْا لطلبوا يعني الآلهة القربة إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فالتمست الزلفة عنده.
قال قتادة: يقول لو كان [الأمر] كما يقولون إذا لعرفوا الله فضله ومقربته عليهم، فامضوا ما يقربهم إليه.
وقال الآخرون: إذا لطلبوا مع الله منازعة وقتالا، كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض، ثم نزه نفسه، فقال سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ.
الأعمش وحمزة والكسائي، واختاره أبو عبيد عنهم بالتاء عُلُوًّا كَبِيراً ولم يقل تعاليا كقوله [وجعل] «2» إليه سبيلا.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي: 10/ 265.
(2) هكذا في الأصل.(6/101)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 44 الى 52]
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قرأ الحسن: وأبو عمرو ويعقوب وحمزة والكسائي وحفص: بالتاء، غيرهم: يسبح بالياء واختاره أبو عبيد [.....] «1» وهو التأنيث ومعنى التسبيح التنزيه والطاعة والالتزام بالربوبية وكونها دالة على وجوده وتوحيده.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.
قال ابن عبّاس: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ حي.
وقال الحسن والضحاك: يعني كل شيء فيه الروح.
قال قتادة: يعني الحيوانات والنباتات [........] «2» .
قال عكرمة: الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح.
قال أبو الخطاب: كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في فقدموا الخوان فقال يزيد الرقاشي يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان؟ فقال كان يسبح مرة «3»
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: « [ما سبحت عصا إلا ترك] التسبيح» [32] .
وقال إبراهيم: الطعام يسبح.
وروى موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«الا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحا قال لابنه: يا بني آمرك أن تقول: سبحان الله وبحمده فإنها صلاة الخلق وتسبيحهم [وبها يرزق الخلق] » [33] «4» .
__________
(1) كلمة غير مقروءة. [.....]
(2) كلمة غير مقروءة.
(3) راجع تفسير الطبري: 15/ 116.
(4) مصنف ابن أبي شيبة: 7/ 68، وكتاب الدعاء للطبراني: 488 بتفاوت.(6/102)
قال الله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «1» .
قال وهب: إن [.........] «2» إلا وقد كان يسبح لله ثلاثمائة سنة.
وروى عبد الله بن [...........] «3» عن المقداد بن معد يكرب قال: إن التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الجوزة لتسبح ما لم ترفع من موضعها، فإذا رفعت ترك التسبيح، وإن الورق يسبح مادام على الشجرة، فإذا سقط ترك التسبيح وإن الماء ليسبح مادام ماءا فإذا [تغير] ترك التسبيح، وإن الثوب يسبح مادام جديدا فإذا وسخ ترك التسبيح، وإن الوحش إذا صاحت سبحت فإذا سكتت تركت التسبيح، وإن الثوب [الخلق] لينادى في أول النهار: اللهمّ اغفر لمن [.......] «4» .
وروى أبو عتبة عن ثابت البنائي عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ كفا من حصى فسبحن في يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى سمعنا التسبيح، ثمّ صبّهن في يد أبي بكر حتّى سمعنا التسبيح ثمّ صبهن في عمر حتّى سمعنا التسبيح، ثمّ صبّهن في يد عثمان حتّى سمعنا التسبيح، ثم صبّهن في أيدينا فما سبحت في أيدينا.
وعن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: «مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتاه جبرئيل بطبق فيها رمان وعنب فتناول النبي صلّى الله عليه وسلّم فسبح، ثمّ دخل الحسن والحسين فتناولا فسبح العنب والرمان، ثمّ دخل عليّ فتناول منه فسبح أيضا، ثمّ دخل رجل من أصحابه فتناول فلم يسبح، فقال جبرئيل: إنما يأكل هذا نبي أو وصي أو ولد نبي» [34] «5» .
وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ يعني لا تعلمون تسبيح ما عدا من تسبيح بلغاتكم وألسنتكم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ يا محمّد [على] المشركين جَعَلْنا بَيْنَكَ بينهم حجابا يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به.
قتادة: هو حجاب مستور، والمستور يعني الساتر كقوله إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا الآية مفعول بمعنى فاعل.
وقيل: معناه مَسْتُوراً عن أعين الناس فلا يرونه. وفسّره بعض المفسرين: بالكتاب عن الأعين الظاهرة [فلا يرونه ولا يخلصون] إلى أدلته.
__________
(1) المصدر السابق.
(2) كلمة غير مقروءة.
(3) كلمة غير مقروءة.
(4) كلمة غير مقروءة.
(5) مناقب آل أبي طالب: 3/ 160، والشفا للقاضي عياض مختصرا: 1/ 307.(6/103)
عطاء عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر (رضي الله عنه) فقال: يا رسول الله لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذيئة.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه سيحال بيني وبينها» فلم تره فقالت لأبي بكر: يا أبا بكر هجاني صاحبك قال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله.
فقالت: وإنك لمصدقه فاندفعت راجعة. قال أبو بكر: يا رسول الله أما رأتك؟ قال: «لا ما زال ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت» [35] «1» .
وروى الكلبي عن رجل من [أهل الشام] «2» عن كعب في هذه الآية قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستتر من المشركين بثلاث آيات: الآية التي في الكهف جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً «3» والآية التي في النحل أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ إلى قوله هُمُ الْغافِلُونَ «4» .
والآية التي في الجاثية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ إلى قوله غِشاوَةً «5» فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأهن يستتر من المشركين.
قال كعب: فحدثت بهن رجلا من أهل الشام فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثمّ قرأ بهنّ فخرج هاربا وخرجوا في طلبه حتّى كانوا يكونون على طريقه ولا يبصرونه.
قال الكلبي: حدثت به رجلا بالري فأسر بالديلم فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثمّ قرأهنّ وخرج هاربا وخرجوا في طلبه حتّى جعل ثيابهم لتلتمس ثيابه فما يبصرونه.
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ يقول: وإذا قلت: لا إله إلّا الله في القرآن وحده وأنت تتلوه وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً كارهين له معرضين عنها.
حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عبّاس في قوله وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً قال: هم الشياطين «6» والنفور جمع نافر مثل قاعد وقعود وجالس وجلوس، وجائز أن يكون مصدرا أخرج على غير لفظه إذا كان قوله وَلَّوْا بمعنى نفروا، فيكون معناه [نُفُوراً] «7» .
__________
(1) راجع تفسير القرطبي: 10/ 269.
(2) هكذا في الأصل.
(3) سورة الكهف: 25
(4) سورة النحل: 108.
(5) سورة الجاثية: 23.
(6) راجع تفسير الطبري: 15/ 119. [.....]
(7) هكذا في الأصل.(6/104)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ لن يقرأ القرآن وَإِذْ هُمْ نَجْوى متناجون في أمرك، بعضهم يقول: هو مجنون، وبعضهم يقول: هو كاهن، وبعضهم: ساحر، وبعضهم:
شاعر إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ بمعنى الوليد بن المغيرة وأصحابه حين رجع إليه كفار مكة من أمر محمّد وشاوروه فقال إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مطبوبا، وقيل: مخدوعا، وقال أبو عبيدة: [مَسْحُوراً] يعني رجلا له سحر يأكل ويشرب مثلكم والسحر الرئة يقول العرب للجبان:
قد سحره ولكل من أكل وشرب من آدمي وغيره مسحور ومسحر.
قال الشاعر امرئ القيس:
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
أي: نغذي ونعلل.
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ شبّهوا ذلك الأشباه.
فقالوا: شاعر وساحر وكاهن ومجنون فَضَلُّوا فجالوا وجاروا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا مخرجا ولا يهتدون إلى طريق الحق «1» .
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً بعد الموت وَرُفاتاً.
قال ابن عبّاس: غبارا.
قال مجاهد: ترابا، والرفات ما تكسر وبلا من كل شيء، كالفتات والحطام والرضاض.
أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً في الشدة والقوة أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني خلقا مما يكبر عندكم عن قبول الحياة وبعثكم وعملكم على [..........] إحياؤه فإنه يجيئه، وقيل: ما يليه من بعد ورائهم الموت، وقيل: السموات والأرض، وقيل: أراد به البعث وقيل الموت.
وقال أكثر المفسرين: ليست في نفس بني آدم أكبر من الموت، يقول: لو كنتم الموت لأميتنكم ولأبعثنكم.
سفيان عن مجاهد وعكرمة في قوله أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قالا: الموت.
وروى المعمر عن مجاهد قال: السماء والأرض والجبال يقول كونوا ما شئتم فإن الله يميتكم ثمّ يبعثكم فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا خلقا جديدا بعد الموت قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي يحركون رؤوسهم متعجبين ومستهزئين يقال: نغضت سنه إذا حركت وأقلعت من أصله.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي: 10/ 273.(6/105)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
قال الراجز:
أبغض نحوي رأسه وأقنعا
وقال آخر:
لما رأسني الغضت لي الرأسا
وقال الحجاج:
[أمسك بقضبا لابني] «1» مستهدجا.
وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً يعني هو قريب لأن عسى من الله واجب نظيره قوله لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «2» ، ولَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «3» .
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ من قبوركم إلى [موقف يوم القيامة] فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ. قال ابن عباس: بأمره.
قتادة: بمعرفته وطاعته، ويحمدونه [وهو مستحق] للحمد.
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ في الدنيا في قبولكم إِلَّا قَلِيلًا
زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس على أهل لا إله إلّا الله وحشة في قبرهم ولا حشرهم، كأني بأهل لا إله إلّا الله وهم ينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «4» الآية» [36] «5» .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 59]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) سورة الأحزاب: 63.
(3) سورة الشورى: 17.
(4) سورة فاطر: 34.
(5) تفسير ابن كثير: 3/ 49.(6/106)
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ نزلت في عمر بن الخطاب، وذلك أن رجلا من العرب شتمه فأمره الله تعالى بالعفو.
الكلبي: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقول والفعل، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية على ذلك.
وَقُلْ لِعِبادِي المؤمنين يَقُولُوا للكافرين الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني الكلمة التي هي أحسن لا تكافئهم.
قال الحسن: يقول هداك الله يرحمك الله، وهذا قبل أن أمروا بالجهاد.
وقيل: الأحسن كلمة الإخلاص لا إله إلّا الله إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ يفتري، وألقى بينهما العداوة ويعزى بينهم إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ يوفقكم فتؤمنوا أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ يميتكم على الشرك فيعذبكم، قاله ابن حريج «1» .
وقال الكلبي: إن الله يرحمكم فيحفظكم من أهل مكة، وإن يشأ يعذبكم فيسلطهم عليكم وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وكفيلا، نسختها آية القتال وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فجعلهم مختلفين في أخلاقهم من أمورهم وأحوالهم ومالهم، كما يختلف بعض المتقين على بعض.
قتادة: في هذه الآية اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، فقال لعيسى كُنْ فَيَكُونُ وأتى سليمان ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعده، وأتى داوُدَ زَبُوراً كتابا علمه داود فيه دعاء وتحميد وتمجيد وليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود وغفر [لمحمد] ما تقدم من ذنبه وما تأخر قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنها آلهة مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا [عنكم] «2» إلى غيركم، قيل: هو ما أصابهم من القحط سبع سنين.
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ. قتادة عن عبد الله بن عبد الزنجاني عن ابن مسعود أنه قرأ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ تَبْتَغُونَ بالتاء.
وقرأهما الباقون: بالياء يَبْتَغُونَ.
إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ القربة إلى ربهم أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إليه وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً قال ابن عبّاس ومجاهد وأكثر العلماء: هم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي: 10/ 278.
(2) هكذا في الأصل.(6/107)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
وقال عبد الله بن مسعود: كان نفر من الانس يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجن ولم يعلم الانس الذين كانوا يعبدونهم بإسلامهم فتمسكوا بعبادتهم فغيرهم الله بذلك وأنزل هذه الآية.
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ يعني وما من قرية إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أي مخربوها ومهلكوا أهلها بالسيف أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا.
وقال بعضهم: هذه الآية عامة.
قال مقاتل: أما الصالح فبالموت وأما الطالح فبالعذاب.
قال ابن عبّاس: إذا ظهر الزنا والربا في أهل قرية أذن الله في هلاكها.
كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً مكتوبا وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ.
قال ابن عبّاس: قال أهل مكة: اجعل لنا الصفا ذهبا، فأوحى الله الى رسوله: إن شئت أن تستأني بهم فعلت وإن شئت أوتيهم ما سألوا، فعلت، فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم. فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا بل أستأني بهم فأنزل الله تعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ التي سألها كفار قومك إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك أهلكتهم أيضا لأن من خسفنا في الأمم إذا سألوا الآيات فيأتيهم ثم لم يؤمنوا أن نعذبهم ونهلكهم ولا نمهلهم
، فإن الأوّل في محل النصب وقوع المنبع عليه، وإن الثانية في محل رفع ومجاز الأول: سمعنا إرسال الآيات إلّا تكذيب الأولين بها قالوا وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً مضيئة بينة فَظَلَمُوا بِها أي [قروا] «1» بها إنها من عند الله وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ بالعبر والدلالات إِلَّا تَخْوِيفاً للعباد ليؤمنوا ويتذكروا فإن لم يفعلوا عذبوا.
قال قتادة: إن الله يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعيون أو يذكرون أو يرجعون، ذكر أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال: يا أيها الناس إن الله ليس يعتبكم فأعتبوه.
وروى محمّد بن يوسف عن الحسن في قوله عزّ وجلّ وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً قال الموت الذريع.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 60 الى 72]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وهو مانعك منهم وحافظك فلا تهبهم وأمض لما أمرك به في تبليغ رسالته، قاله أكثر المفسرين.
قال ابن عبّاس: يعني أحاط علمه بهم فلا يخفى عليه منهم شيء.
__________
(1) هكذا في الأصل.(6/108)
مقاتل والبراء: أَحاطَ بِالنَّاسِ يعني أهل مكة أي أنها ستفتح لك.
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ.
قال قوم: هي رؤيا عين وهو ما أرى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج من العجائب والآيات فكان ذلك فتنة للناس، فقوم أنكروا وكذبوا، وقوم ارتدوا، وقوم صدقوا، والعرب تقول: [رأيت بعيني] رؤية ورؤيا وعلى هذا يحمل حديث معاوية أنه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: كانت رؤيا من الله صادقة أي [رؤيا عيان] أرى الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم وما ذكرنا من تأويل الآية، قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وأبي مالك وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد وابن جريج وعطية وعكرمة وعطية عن ابن عبّاس.
وقال آخرون: هي ما أرى الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسرى بروحه دون بدنه فلما قصها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه [........] «1» من أصحاب المسلمين وطعن فيها ناس من المنافقين. وهو ما
روى جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي، يحدث عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صلى الغداة أستقبل الناس [بوجهه] فقال: «هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا» ؟ فإن كان أحدا رأي تلك الليلة رؤيا قصها عليه فيقول فيها ما شاء الله أن يقول فسألنا يوما. فقال: «هل رأى منكم أحد الليلة رؤيا» ، قلنا: لا، قال: «لكني أتاني الليلة آيتان فقالا لي: انطلق فانطلقت معهما فأخرجاني إلى أرض مستوية فإذا رجل مستلقي على قفاه ورجل قائم بيده صخرة فشدخ بها رأسه [فيتبع] الحجر فإذا ذهب يأخذه عاد رأسه كما كان فهو يصنع به مثل ذلك، فقلت: ما هذا؟
قالا: انطلق فانطلقت معهما فأتينا على رجل مستلق لقفاه يرمش عينه، فإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد فإذا هو يأخذ أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه وعينه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه ثمّ يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ذلك فما يفرغ من ذلك حتّى يصبح ذلك الجانب كما كان ثمّ يعود إليه، فقلت لهما: سبحان الله ما هذا؟ قالا لي: انطلق فانطلقت معهما فأتيا على بيت مبني مثل بناء التنور أعلاه ضيق [وأسفله واسع] يوقد فيه النار فأطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب من أسفل [ضجّوا] ، قلت لهما: ما هؤلاء؟
قالا لي: انطلق فانطلقنا فأتينا على نهر من دم أحمر وإذا في البحر سابح يسبح فإذا على شاطئ النهر رجل عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا فيذهب فيسبح ما يسبح ثمّ يرجع إليه كما رجع إليه فيفغر له فاه «2» فألقمه حجرا قال: فقلت ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقت فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما رأيت
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) هكذا في الأصل.(6/109)
رجلا وإذا هو عنده نار [يحشها ويسعى] حولها قلت لهما: ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة [معتمة] فيها من كل نوع الربيع وإذا شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ طويل فإذا حوله صبيان كأكثر ولدان رأيتهم قط. قال: قلت ما هؤلاء؟ قالا: انطلق فانطلقنا فأتينا على دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها [ولا أحسن] قالا لي: أرق فارتقينا فانتهينا إلى مدينة مبنية من ذهب ولبن فضة فأتينا باب المدينة فاستفتحناها ففتح لنا فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم [كأحسن] ما رأيت [وشطر كأقبح] ما رأيت، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر وإذا نهر معترض يجري كأنه المخيض من البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا وقد ذهب السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قال: فقلت لهما [والله] إني ما رأيت مثل الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت قالا إنا [سنخبرك أما الذي] «1» أتيت عليه يشدخ رأسه بالحجر فإنه رجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة وأما الذي أتيت عليه يشرشر شدقه وعينه ومنخره إلى قفاه فإنه [رجل يغدوا] «2» من بيته فيكذب [الكذبة تبلغ الآفاق] «3» .
وأما الرجل والنساء العراة الذين في مثل التنور فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرأة الذي عنده النار يحشها فإنه مالك خازن النار، وأما الرجل الطويل الذي في [الروضة] فإبراهيم (عليه السلام) وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة.
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) هكذا في الأصل. [.....]
(3) مستدركة عن الدر المنثور.(6/110)
أما القوم الذين كانوا شطر خلقهم حسنا وشطر قبيحا فإنهم قوم خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً فتجاوز الله عنهم، وأما الروضة فهي جَنَّاتِ عَدْنٍ وأما المدينة التي دخلت فدار الشهداء.
قال: بينما بصري صعدا فإذا مثل الذبابة البيضاء، قالا لي: ها هو ذا منزلك، وأنا جبرئيل وهذا ميكائيل. فقلت: بارك الله فيكما دعاني أدخل داري، فقالا: إنه قد بقي لك ولم تستكمله ولو استكملته دخلت دارك [37] «1» .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس قال: هي رؤيا التي رأى أنه يدخل مكة عام الحديبية هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة فعجّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السير إلى مكة قبل الأجل فردّه المشركون.
فقال ناس: قد ردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كان حدثنا إنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم وقد كان في العام المقبل سار إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخلها فأنزل الله عزّ وجلّ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ.
سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن حذيفة عن سعيد بن المسيب، من قول الله تعالى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال: أرى بني أمية على المنابر فساءه ذلك فقيل له إنها الدنيا يعطونها [فتزوى] عنه إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال: بلاء للناس.
وروى عبد المهيمن عن بن عبّاس عن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتّى مات، فأنزل الله في ذلك وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ المذكورة فِي الْقُرْآنِ يعني شجرة الزقوم
، ومجاز الآية: الشجرة الملعونة المذكورة في القرآن، ونصب الشَّجَرَةَ عطفا بها على الرُّؤْيَا تأويلها: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلّا فتنة للناس فكانت فتنتهم في الرؤيا ما ذكرت، وفتنتهم في الشجرة الملعونة أن أبا جهل قال- لما نزلت هذه الآية: أليس من الكذب ابن أبي كبشة أن يوعدكم بحرق الحجارة ثمّ يزعم إنه ينبت فيها شجرة وأنتم تعلمون إن النار تحرق الشجرة فما يقولون في الزقوم.
فقال عبد الله بن [الزبوي] «2» : إنها الزبد والتمر بلغة بربرة.
__________
(1) بطوله في تفسير الدر المنثور: 3/ 274 بتفاوت يسير.
(2) هكذا في الأصل.(6/111)
فقال أبو جهل: يا جارية زقمينا فأتته بالزبد والتمر، فقال: يزعموا يا قوم فإن هذا ما يخوفكم به محمّد والله ما يعلم الزقوم إلّا الزبد والتمر، فأنزل الله تعالى إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ «1» ووصفها في الصافات فقال: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ «2» أي خلقت من النار وحذيت بها وأنزل الله وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً.
وروى ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن مولى لبني هاشم حدثه إن عبد الله بن الحرث ابن نوفل [أرسل] «3» إلى ابن عبّاس: نحن الشجرة الملعونة في القرآن؟ قال: فقال: الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر يعني الكشوث «4» .
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً يعني من طين.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: بعث رب العزة إبليس فأخذ كفا من أديم الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى السعادة وإن كان ابن كافرين، وكل شيء خلقه من ملحها فهو صائر إلى الشقاوة وإن كان ابن نبيين.
قال: ومن ثمّ قال إبليس: أأسجد لمن خلقت طينا أيّ هذه الطينة أنا جئت بها، ومن ثمّ سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض «5» .
قالَ إبليس أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي فضلته لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وأمهلتني لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أيّ لأستولين على أولاده ولأحتوينهم ولأستأصلنهم بالإضلال ولأجتاحنهم.
يقال: [احتنك] فلان ما عند فلان من علم أو كمال مما استقصاه وأخذه كله، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله كله.
قال الشاعر:
أشكوا إليك سنة قد أجحفت ... وأحنكت أموالنا واجتلفت
ويقال: هو من قول العرب حنّك الدابة يحنكها إذا شد في حنكها الأسفل حبلا يقودها به حتى يثبت.
إِلَّا قَلِيلًا يعني المعصومين الذين استثناهم الله في قوله إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ
__________
(1) سورة الدخان: 43، 44.
(2) سورة الصافات: 64.
(3) هكذا في الأصل.
(4) راجع تفسير القرطبي: 15/ 286.
(5) تفسير الطبري: 15/ 145.(6/112)
«1» قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي جزاءك وجزاء أتباعك جَزاءً مَوْفُوراً وأمرا مكملا وَاسْتَفْزِزْ [استولي] واستخف واستزل واستمل مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم بِصَوْتِكَ.
قال ابن عبّاس وقتادة: بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية فهو من جند إبليس.
وقال مجاهد: بالغناء والمزامير.
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي اجمع وصح. مقاتل: استفز عنهم.
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي ركبان جندهم ومشاتهم.
قال المفسرون: كل راكب وماش في معاصي الله.
ابن عبّاس ومجاهد وقتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس، فما كان من راكب يقاتل في معصية فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل يقاتل في معصية الله فهو من رجل إبليس والرجل الرجالة.
وقرأ حفص: وَرَجِلِكَ بكسر الراء، وهما لغتان يقال: راجل ورجل مثل تاجر وتجر، وراكب وركب.
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ قال قوم: هو كل مال أصيب من حرام وأنفق في حرام، وهذا قول مجاهد والحسن وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد، ورواية عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس.
عطاء بن أبي رباح: هو الربا. قتادة: ما كان المشركون يحرمونه من الأنعام كالبحائر «2» والسوايب والوصيلة والحوامي وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس.
وقال الضحاك: هو ما كان يذبحونه لآلهتهم.
وَالْأَوْلادِ.
قال بعضهم: هم أولاد الزنا، وهو قول مجاهد والضحاك ورواية عطية عن ابن عبّاس.
الوالبي عنه: هو ما قبلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام.
الحسن وقتادة: عدو الله شاركهم في أموالهم وأولادهم فمجّسوا وهوّدوا ونصّروا وصبّغوا غير صبغة الإسلام «3» .
__________
(1) سورة الحجر: 42.
(2) واحدتها: بحيرة.
(3) تفسير الطبري: 15/ 152.(6/113)
أبو صالح عن ابن عبّاس: مشاركته إياهم في الأولاد وتسميتهم أولادهم عبد الحرث وعبد شمس وعبد فلان.
وَعِدْهُمْ ومنّهم الجميل في طاعتك. قال الله وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً باطلا وخديعة لأنه لا يغني عنهم من عذاب الله إذا نزل بهم شيئا كقوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ «1» .
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا. رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي [يسوي ويجري] .
لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إلى قوله وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أصابكم [الجهد] فِي الْبَحْرِ وخفتم الغرق ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ إلا دعاؤكم إياه فلم تجدوا ما يكفيكم سواه فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من البحر وأخرجكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن الايمان والطاعة وكفرتم بما جاءكم وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أَفَأَمِنْتُمْ بعد ذلك أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ يغيبكم ويذهبكم في جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً حجارة تمطر عليكم من السماء كما أمطر على قوم لوط.
وقال أبو عبيد والقتيبي: الحاصب الذي يرمي بالحصباء، وهي الحصا الصغار.
قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام يضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ في البحر تارَةً مرة أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي قاصفا وهي الريح الشديدة.
قال ابن عبّاس وقال أبو عبيدة: هي التي تقصف كل شيء أيّ تدقّه وتحطّمه وهي التي تقصف الشجر أي تكسره فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً ناصرا ولا ثائرا.
واختلف القراء في هذه الآية. فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: نخسف ونرسل ونعيدكم ونغرقكم كلها بالنون لقوله (عَلَيْنا) .
وقرأ الباقون: كلها بالياء لقوله (إِيَّاهُ) . إلّا أبا جعفر فإنه قرأ (تغرقكم) بالتاء يعني الريح.
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ميمون بن مهران عن ابن عبّاس في قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قال: كل شيء يأكل بفيه إلّا ابن آدم يأكل بيديه، وعنه أيضا بالعقل.
الضحاك: بالنطق وثمّ التمييز.
__________
(1) سورة إبراهيم: 22.(6/114)
عطاء: تعديل العامّة وامتدادها، يمان: بحسن الصورة.
محمّد بن كعب: بأن جعل محمّدا منهم، وقيل: الرجال باللحي والنساء بالذواب.
محمّد بن جرير: بتسليطهم على غيرهم من الخلق وتسخير سائر الخلق لهم.
وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني لذيذ المطاعم والمشارب.
مقاتل: السمن والزبد والتمر والحلاوى وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم.
وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا.
قال قوم: قوله: (كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) استثناء للملائكة.
قال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم غير طائفة من الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم.
وقال الآخرون: المراد به جميع من خلقنا فالعرب قد تضع الأكبر والكثير في موضع الجمع والكل، كقول الله عزّ وجلّ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ «1» والمراد به جميع الشياطين.
معمر عن زيد بن أسلم، في قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قال: قالت: الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة، فقال:
وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
حماد بن سلمة عن أبي المهرم قال: سمعت أبا هريرة يقول: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده.
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال مجاهد وقتادة: بنبيهم، يدل عليه ما
روى السدي عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال: بنبيهم.
وقال أبو صالح وأبو نضر والضحاك وابن زيد: بكتابهم الذي أنزل عليهم وهي
رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد وعن علي بن الحسين بن علي المرتضى (عليهم السلام) عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال: «يؤتى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنّة نبيهم» [38] .
أبو العالية والحسن: بأعمالهم، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في سياق الآية
__________
(1) سورة الشعراء: 222- 223(6/115)
فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ الآية ونظيرها قوله وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ فسمي الكتاب إماما.
روى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من باب الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب [الريان] » .
فقال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما علي من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى من تلك الأبواب كلها أحد؟ قال: «نعم، وأرجو أن تكون منهم» [39] «1» .
وتصديق هذا القول أيضا حديث الألوية والرايات.
باذان وسعيد بن جبير عن ابن عبّاس: بِإِمامِهِمْ الذي دعاهم في الدنيا إلى الضلالة أو الهدي.
عليّ بن أبي طلحة: بأئمتهم في الخير والشر.
قال الله تعالى وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا «2» قال: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ «3» ، وقيل: لمعبودهم.
محمّد بن كعب: بأمهاتهم.
قالت الحكماء: في ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها: لأجل عيسى (عليه السلام) ، والثاني: أخيار الشرف الحسن والحسين (عليهما السلام) ، والثالث: لئلا يفضح أولاد الزنا.
فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ إلى قوله تعالى فِي هذِهِ أَعْمى اختلفوا في هذه الإشارة.
فقال قوم: هي راجعة إلى النعم التي عددها الله في هذه الآيات.
عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عبّاس فسأله رجل عن هذه الآية فقال: اقرأ ما قبلها رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ إلى قول الله سَبِيلًا فقال ابن عبّاس: من كان في هذه النعم التي رأى وعاين أعمى فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
وقال آخرون: هي راجعة إلى الدنيا يقول مَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا أَعْمى عن قدرة الله وآياته فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى.
__________
(1) صحيح البخاري: 2/ 227، وصحيح مسلم: 3/ 91. [.....]
(2) سورة الأنبياء: 73.
(3) سورة القصص: 41.(6/116)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
وقال أبو بكر الوراق: مَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا أَعْمى عن حجته فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى عن جنته.
وقال الحسن: من كان في الدنيا ضالا كافرا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا، لأنه لم يتب في الدنيا ففي الآخرة لا تقبل توبته.
واختلف القراء في هذين الحرفين. فأمالها أهل الكوفة وفخمها الآخرون.
وأمّا أبو عمرو فكان يكسر الأول ويفتح الآخر يعني فهو في الآخرة أشد عمي لقوله:
وَأَضَلُّ سَبِيلًا هي اختيار أبي عبيدة.
قال الفراء: حدثني بالشام شيخ من أهل البصرة إنه سمع من العرب تقول: ما أسود شعره.
قال الشاعر:
أما الملوك فأنت اليوم الأمم ... لؤما وأبيضهم سربال طباخ «1»
[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 77]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الآية اختلفوا في سبب نزولها.
فقال سعيد بن جبير: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يستلم الحجر الأسود فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك حتّى تلم بآلهتنا فحدث نفسه وقال: ما عليّ أن ألمّ بها والله يعلم إني لها كاره بعد أن يدعونني أستلم الحجر فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
قتادة: ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة إلى الصباح يكلمونه ويخيرونه ويسودونه ويقارنونه وكان في قولهم أن قالوا: إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس وأنت سيدنا فأين سيدنا فما زالوا يكلمونه حتّى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون ثمّ عصمه الله تعالى من ذلك وأنزل هذه الآية.
مجاهد: مدح آلهتهم وذكرها ففرحوا. ابن [جموح] : أتوه وقالوا له: أئت آلهتنا فأمسها فذلك قوله شَيْئاً قَلِيلًا.
ابن عبّاس: قدم وفد ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال.
__________
(1) لسان العرب: 7/ 124، والمستدرك: 4/ 551.(6/117)
قال: ما هن؟ فقالوا: لا ننحني في الصلاة ولا نكسر أصناما بأيدينا [وتمتعنا باللات] سنة.
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأما الطاعة للات فإني غير ممتعكم بها «1» » [40] .
فهنا قالوا لرسول الله: فإنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعطه غيرنا فإن كرهت ذلك وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعاهم ليؤمنوا، فعرف عمر (رضي الله عنه) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لما سألوه فقال: ما لكم آذيتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحرق الله أكبادكم إن رسول الله لا يدع الأصنام في أرض العرب إما أن تسلموا وإما أن ترجعوا فلا حاجة لنا فيكم «2» .
فأنزل الله تعالى هذه الآية ووعدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعطيهم ذلك.
عطية عنه قالت ثقيف للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أجّلنا سنة حتّى نقبض ما تهدي لآلهتنا فإذا قبضنا التي تهدى لآلهتنا كسرناها وأسلمنا، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يؤجلهم فأنزل الله تعالى وَإِنْ كادُوا وقد هموا لَيَفْتِنُونَكَ ليستزلونك ويصرفونك عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ لتختلف عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لو فعلت ما دعوك إليه لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي والوك وصافوك
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ على الحق بعوننا لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ تميل إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا ولو فعلت ذلك إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ المحتضر أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني ضعّفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ناصرا يمنعك من عذابنا.
قال قتادة: فلما نزلت هذه الآيات، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» [41] .
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليستخفونك مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها الآية.
قال الكلبي: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة حسدت اليهود مقامه بالمدينة وكرهوا قربه منهم فأتوا فقالوا: يا محمّد أنبي أنت؟ قال: نعم، قالوا: والله لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء وإن أرض الأنبياء الشام، وكأنى بها إبراهيم و [الأنبياء] : فان كنت نبيا مثلهم فأت الشام وقد علمنا إنما يمنعك الخروج إليها مخافتك الروم وإن الله سيمنعك بها من الروم إن كنت رسوله وهي الأرض المقدسة وإن الأنبياء لا يكونوا بهذا البلد.
فعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ثلاثة أميال من المدينة وأربعة أميال، وفي بعض الروايات إلى
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) تاريخ المدينة لابن شبة: 2/ 511، والسيرة النبوية لابن كثير: 4/ 56.(6/118)
ذي الحليفة، حتّى ترتاد ويجتمع عليه أصحابه [وينظر] «1» إليه الناس. فأنزل الله عزّ وجلّ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ التي كنت بها وهي أرض المدينة «2» .
وروى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن الحكم: إن اليهود أتوا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقا أنك نبي فالحق بالشام فإنها أرض المحشر والنشر وأرض الأنبياء فصدّق رسول الله ما قالوا وقد كان في غزوة تبوك لا يريد بذلك إلّا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آية من سورة بني إسرائيل بعدها ختمت السورة وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ الآية وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال: فيها خيلك وملكك وفيها مبعثك.
قال مجاهد وقتادة: همّ أهل مكة عمدا بإخراج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة ولو فعلوا ذلك لما توطنوا ولكن الله كفهم عن إخراجه حتّى أمره ولقلما لبثوا مع ذلك بعد خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة حتّى أهلكهم الله يوم بدر «3» .
وهذا التأويل أليق بالآية لأن ما قبلها خبر من أهل مكة ولم يجد لليهود ذكر ولأن هذه السورة مكية.
وقيل: هم الكفار كلهم كادوا أن يستخفوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينالوا منه ما أملوا من الظفر ولو أخرجوه من أرض العرب لم يميلوا أن يقيموا فيها على كفرهم بل أهلكوا بالعذاب فذلك قوله وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ أي بعدك وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز واختاره أبو عبيد.
وقرأ الباقون: خِلافَكَ واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ «4» ومعناه أيضا بعدك.
قال الشاعر:
عفت الديار خلافها فكأنما ... بسط الشواطب منهن حصيرا
أيّ بعدها.
إِلَّا قَلِيلًا حتّى تهلكوا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أيّ كسنّتنا فيمن أرسلنا
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) هذا من أوضح المفتريات أن يدع الرسول الأعظم الوحي ويأخذ من اليهود، فإن الإنسان العادي الساذج لا يأخذ بهذا القول فكيف بنبي الهدى الذي لا ينطق عن الهوى، والذي هو أعقل العرب وأسيسها والمعصوم عن الزلل، كما أجمعت عليه الفرق الإسلامية وثبت في محله.
(3) راجع تفسير الطبري: 15/ 166.
(4) سورة التوبة: 81.(6/119)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
قبلك من رسلنا إذا يكذبهم الأمم أهلكناهم بالعذاب ولا يعذبهم مادام فيهم بين أظهرهم فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم عذبناهم وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا تبديلا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 84]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ قال إبراهيم النخعي ومقاتل بن حيان والسدي ويمان وابن زيد: دلوكها غروبها.
قال الشاعر:
هذا مقام قدمي رياح ... غدوة حتّى هلكت براح
أي غربت الشمس، وبراح اسم للشمس مثل قطام وجذام ورفاش.
ويروى، براح بكسر الباء يعني إن الناظر يضع كفه على حاجبه من شعاعها لينظر ما بقي من غبارها، ويقال ذلك للشمس إذا غاب.
قال ذو الرمة:
مصابيح ليست باللواتي يقودها ... نجوم لا بالأفلات الدوالك
ودليل هذا التأويل حديث عبد الله بن مسعود إنه كان إذا غرب الشمس صلى المغرب وأفطر إن كان صائما ويحلف بالله الذي لا إله إلّا هو أن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة وهي التي قال الله أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ.
وقال ابن عمرة وابن عبّاس وجابر بن عبد الله وأبو العالية وعطاء وقتادة ومجاهد والحسن ومقاتل وجعفر بن محمّد وعبيد بن حجر: دلوكها زوالها
، وبه قال الشافعي (رضي الله عنه) ، يدل عليه
حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتاني جبرئيل لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر» [42] «1» .
__________
(1) تفسير الطبري: 15/ 171.(6/120)
وقال أبو برزة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي الظهر إذا زالت الشمس ثمّ تلا هذه الآية أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ.
قال جابر بن عبد الله: دعوت النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ثمّ خرجوا حين زالت الشمس فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس» .
وعلى هذا التأويل يكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها، فدلوك الشمس صلاة الظهر والعصر، وغسق الليل صلاتا العشاء، وتصديق هذا التفسير إن جبرئيل (عليه السلام) حين علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيفية الصلاة إنما بدأ بصلاة الظهر.
وروى محمّد بن عمار عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاءني جبرئيل صلّى الله عليه وسلّم فصلى صلاة الظهر حين زاغت الشمس ثمّ جاءني فصلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثمّ صلى بي المغرب حين غربت الشمس ثمّ صلى بي العشاء حين غاب الشفق ثمّ جاءني فصلى بي الصبح حين طلع الفجر، ثمّ جاءني في الغد فصلى بي الظهر حين كان ظل كلّ شيء مثله ثمّ صلى بي العصر حين كان ظل كلّ شيء مثليه ثمّ صلى بي المغرب حين غربت الشمس ثمّ صلى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل ثمّ صلى بي الصبح حين أسفر ثمّ قال: هذه صلاة النبيين من قبلك فألزمهم» [43] «1» .
عطاء بن أبي رياح عن جابر قال: أن جبرئيل أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلمه مواقيت الصلاة فتقدم جبرئيل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى الظهر حين زالت الشمس وآتاه حين كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع فتقدم جبرئيل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى العصر.
ثمّ أتاه حين وجبت فصلى المغرب وقد تقدم جبرئيل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى المغرب ثمّ أتاه حين غاب الشفق فتقدم جبرئيل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى العشاء ثمّ أتاه جبرئيل حين انشق الفجر فتقدم جبرئيل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى الغداة ثمّ أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه فصنع مثل ما صنع بالأمس صلى الظهر. ثمّ أتاه حين كان ظل الرجل منّا مثل شخصيه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر ثمّ أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب متمنيا ثمّ تمنا ثمّ قمنا فأتاه فصنع كما صنع بالأمس صلى العشاء.
ثمّ ابتدأ الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة فصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة ثمّ قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت.
__________
(1) المصنف لعبد الرزاق: 1/ 532 ح 2029.(6/121)
وعن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عبّاس إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتاني جبرئيل عند باب الكعبة مرتين فصلى الظهر حين كان الفيء مثل الشراك ثمّ صلى العصر حين كان كل شيء بقدر ظله ثمّ صلى المغرب حين أفطر الصائم ثمّ صلى العشاء حين غاب الشفق ثمّ صلى الصبح حين حرم الطعام والشراب على الصائم ثمّ صلى الظهر في المرة الأخيرة حين كان كل شيء بقدر ظله لوقت العصر بالأمس، ثمّ صلى العصر حين كان ظل شيء مثليه ثمّ صلى المغرب للوقت الأول لم يؤخرها ثمّ صلى العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل ثمّ صلى الصبح حين أسفره ثمّ التفت فقال: يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك، الوقت فيما بين هذين الوقتين» [44] «1» .
إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ إقباله بظلامه.
قال ابن عبّاس: بدو الليل. قتادة: صلاة المغرب.
مجاهد: غروب الشمس. أبو عبيدة: سواده.
ابن قيس الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا ... فاشتكيت الهم والأرقا «2»
وقيل: غسق يغسق غسوقا «3» .
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أيّ صلاة الفجر فسمى الصلاة قرآنا لأنها لا تجوز إلّا بقرآن، وقيل: يعني قُرْآنَ الْفَجْرِ ما يقرأ به في صلاة الفجر.
وانتصاب القرآن من وجهين: أحدهما: أنه عطف على الصلاة أي أقم قرآن الفجر، قاله الفراء، وقال أهل البصرة: على [الإغراء] «4» أي وعليك بقرآن الفجر.
وقال بعضهم: اجتماعه وبيانه وحينئذ يكون مجاز أقم الصلاة لدلوك الشمس بقرآن الفجر.
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً يشهد ملائكة الليل وملائكة النهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار، وفي هذه الآية دليل واضح على تعلق وجوب الصلاة بأول الوقت فاستحباب التغليس بصلاة الفجر.
الزهوي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح» «5» .
__________
(1) المصدر السابق ح 2028.
(2) لسان العرب: 10/ 288.
(3) راجع تفسير القرطبي: 10/ 304. [.....]
(4) هكذا في الأصل.
(5) كنز العمال: 7/ 553 ح 20218، ومسند أحمد: 2/ 266.(6/122)
قال: يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أي قم بعد نومك وصل.
قال المفسرون: لا يكون التهجد إلّا بعد النوم يقال: تهجد إذا سهر، وهجد «1» إذا نام.
وقال بعض أهل اللغة: يقال تهجد إذا نام وتهجد إذا سهر وهو من الاضداد.
روى حميد بن عبد الرحمن بن عوف: عن رجل من الأنصار إنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر وقال: لأنظرنّ كيف يصلي النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ استيقظ فرفع رأسه إلى السماء فتلا أربع آيات من سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... لَآياتٍ ثمّ أهوى بيده إلى القربة وأخذ مسواكا فاستنّ به ثمّ توضأ ثمّ صلى ثمّ نام ثمّ استيقظ، فصنع كصنيعه أول مرة، ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله تعالى «2» .
نافِلَةً لَكَ قال ابن عبّاس: خاصة لك، مقاتل بن حيان: كرامة وعطاء لك.
ابن عبّاس: فريضتك.
وقال: أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيام الليل خاصة وكتبت عليه، ويكون معنى النافلة على هذا القول فريضة فرضها الله عليك فضلا عن الفرائض التي فرضها الله علينا زيادة.
وقال قتادة: تطوعا وفضيلة «3» .
وقال بعض العلماء: كانت صلاة الليل فرضها عليه في الابتداء ثمّ رخص له في تركها فصارت نافلة «4» .
وقال مجاهد: والنافلة للنبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة من أجل أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهو نافلة لك من أجل أنه لا يعمل ذلك كفارة لذنوبهم، فهي نوافل له وزيادة للناس يعملون ويصلون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها فليست للناس نوافل.
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
قال أهل التأويل: عسى ولعلّ من الله جزاء لأنه لا يدع أن يفعل لعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على طاعاتهم لأنه ليس من صفته الغرور، ولو أن رجلا قال لآخر: اهدني والزمني لعلي أن أنفعك فلزمه ولم ينفعه مع إطماعه فيه ووعده لكان عارا له وتعالى الله عن ذلك، وأما المقام المحمود فالمقام الذي يشفع فيه لأمته يحمده فيه الأولون والآخرون.
__________
(1) الهجود النوم منه.
(2) السنن الكبرى: 6/ 84 ح 10139.
(3) تفسير الطبري: 15/ 179.
(4) راجع تفسير القرطبي: 10/ 309.(6/123)
عاصم بن أبي النجود عن زيد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله ثمّ قرأ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» [45] «1» .
وعن حذيفة بن اليمان قال: يجمع الناس في صعيد واحد فلا تكلم نفس فتكون أول من يدعو محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وبك وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا منك إلّا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت فذلك قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
قتادة عن مأمون بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم (عليه السلام) فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله عزّ وجلّ بيده وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من هذا المكان فيقول لهم لست هناك، ويذكر ذنبه الذي أصابه فيستحي ربّه من ذلك ولكن ائتوا نوحا فإنه أول الرسل بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحا فيقول لست هناك ويذكر خطيئته وسؤاله ربه هلاك قومه فيستحي ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتون إبراهيم (عليه السلام) فيقول: لست هناك ولكن ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتون موسى (عليه السلام) فيقول: لست هناك، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس فيستحي من ذلك فيقول ائتوا عيسى عبد الله ورسوله هو كلمة الله وروحه فيأتون عيسى (عليه السلام) فيقول لست هناك ولكن ائتوا محمّدا عبدا غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتونني فأقوم وأمشي بين سماطين من المؤمنين حتّى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثمّ يقول: ارفعك رأسك ثم يقول: قل يسمع وسلّ تعط واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحدّ لي حدا فأدخلهم الجنة، ثمّ أعود إليه الثانية فإذا رأيت ربي وقعت أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ قال: ارفع يا محمّد رأسك قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد بتحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحدّ لي حدا فأدخلهم الجنة.
ثمّ أعود إليه الثالثة فإذا رأيت ربي وقعتا وخررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقال ارفع يا محمّد رأسك قل تسمع وسل تعطه واشفع فشفع فأرفع رأسي فأحمده تحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثمّ أعود إليه الرابعة، وأقول يا رب ما بقي إلّا من حبسه القرآن.
قال أنس بن مالك: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وكان في
__________
(1) علل الدارقطني: 5/ 320، وضعيف سنن الترمذي: 490 ح 753.(6/124)
قلبه من الخير ما يزن شعيرة ثمّ يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» [46] «1» .
وروى أبو عاصم محمّد بن أبي أيوب الثقفي عن يزيد بن صهيب قال: كنت قد شغلني رأي من رأى الخوارج وكنت رجلا شابا، قال: فخرجنا في عصابة ذوي عدد يزيد أن يحج ثمّ يخرج على الناس فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس إلى سارية وإذا هو قد ذكر الجهنميين فقلت له: يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدث والله عزّ وجلّ يقول: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وكُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها.
فقال لي: تقرأ القرآن؟ قلت: نعم فقال: فهل سمعت مقام محمّد المحمود الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمّد صلّى الله عليه وسلّم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار «2» .
ثمّ نعت وضع الصراط ومرور الناس عليه قال: وأخاف أن لا أكون حفظت ذلك غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس. قال: فرجعنا وقلنا أيرون كهذا الشيخ يكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فو الله ما خرج منا غير رجل واحد.
الزهري عن علي بن حسين قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة مدّ الأرض مدّ الأديم [بالعكاظي] «3» حتّى لا يكون لبشر من الناس إلّا موضع قدميه» [47] .
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فأكون أنا أول من يدعى وجبرئيل عن يمين الرحمن والله ما رآه قبلها، وأقول: يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إليّ فيقول الله تعالى: صدق، ثمّ أشفع فأقول يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض قال: وهو المقام المحمود» [48] «4» .
وروى سفيان عن سلمة بن سهيل عن أبي الزعراء قال: قال عبد الله: يكون أول شافع يوم القيامة روح القدس جبرئيل ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسى ثمّ يقوم نبيكم صلّى الله عليه وسلّم رابعا فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه وهو المقام المحمود «5» .
سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن بالبراق قال لجبرائيل: والذي بعثك بالحق لا يركبني حتّى يضمن لي الشفاعة.
__________
(1) بطوله في تفسير ابن كثير: 3/ 60.
(2) إلى هنا في تفسير الدر المنثور: 4/ 198.
(3) هكذا في الأصل.
(4) تفسير الطبري: 15/ 183.
(5) تفسير الطبري: 15/ 180.(6/125)
عبد الله بن إدريس عن عبد الله عن نافع عن ابن عمرو قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
قال: يدنيني فيقعدني معه على العرش.
ابن فنجويه: أجلسني معه على سريره.
أبو أسامة عن داود بن يزيد [الأزدي] عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: «الشفاعة» [49] .
عاصم عن أبي وائل عن عبد الله قال: إن الله تعالى اتخذ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وإن صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق على الله ثمّ قرأ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: يقعده على العرش.
وروى سعيد الجروي عن سيف السدوي عن عبد الله بن سلام قال: إذا كان يوم القيامة يؤتي نبيكم صلّى الله عليه وسلّم فيقعد بين يدي الرب عزّ وجلّ على الكرسي.
وروى ليث عن مجاهد في قوله عزّ وجلّ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال:
يجلسه على العرش.
قال الأستاذ الإمام أبو القاسم الثعلبي: هذا تأويل غير مستحيل لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء قائما بذاته ثمّ خلق الأشياء من غير حاجة له إليها، بل إظهارا لقدرته وحكمته ليعرف وجوده وحده وكمال علمه وقدرته بظهور أفعاله المتقنة بالحكمة، وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما يشاء من غير أن صار له مما شاء أو كان له العرش مكان بل هو الآن على الصفة التي كان عليها قبل أن خلق المكان والزمان، فعلى هذا القول سواء أقعد محمدا صلّى الله عليه وسلّم على العرش أو على الأرض لأن استواء الله على العرش ليس بمعنى الاستقبال والزوال أو تحول الأحوال من القيام والقعود أو الحال الذي يشغل العرش، بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف، وليس إقعاده محمّدا صلّى الله عليه وسلّم على العرش موجبا له صفة الربوبية أو مخرجا إياه من صفة العبودية بل هو رفع لمحله وإظهار لشرفه وتفضيل له على غيره من خلقه، وأما قولهم: في الأخبار معه، فهو شابه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «1» ورَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ «2» ونحوهما من الآيات، كل ذلك راجع إلى الرتبة والمنزلة لا إلى المكان والجهة والله أعلم.
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ قرأه العامّة: بضم الميمين على معنى الإدخال والإخراج.
__________
(1) سورة الأعراف: 205.
(2) سورة التحريم: 11. [.....](6/126)
وقرأ الحسن: بفتحهما على معنى الدخول والخروج.
واختلف المفسرون في تأويلها.
فقال ابن عبّاس والحسن وقتادة أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ المدينة وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ من مكة نزلت حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة
فروى أبو حمزة الثمالي عن جعفر بن محمّد عن محمّد بن المنكدر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حين دخل الغار رَبِّ أَدْخِلْنِي يعني الغار مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي من الغار مُخْرَجَ صِدْقٍ إلى المدينة» [50] «1» .
وقال الضحاك: وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ من مكة آمنا من المشركين أَدْخِلْنِي مكة مُدْخَلَ صِدْقٍ ظاهرا عليها بالفتح.
عطية عن ابن عبّاس أَدْخِلْنِي القبر مُدْخَلَ صِدْقٍ عند الموت وَأَخْرِجْنِي من القبر مُخْرَجَ صِدْقٍ عند البعث.
الكلبي أَدْخِلْنِي المدينة مُدْخَلَ صِدْقٍ حين أدخلها بعد أن قصد الشام وَأَخْرِجْنِي منها إلى مكة افتحها لي.
مجاهد أَدْخِلْنِي في أمرك الذي أدخلتني به من النبوة مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي منه مُخْرَجَ صِدْقٍ.
قتادة عن الحسن: أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ في طاعتك وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ بالصدق أي سالما غير مقصر فيها.
وقيل: معناه أَدْخِلْنِي حيث ما أدخلتني بالصدق وَأَخْرِجْنِي بالصدق أي لتجعلني ممن أدخل بوجه وأخرج بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون أمينا عند الله.
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً مجاهد: حجة بينة.
قال الحسن: يعني ملكا قويا ينصرني به على من والاني وعزّا ظاهرا أقيم به دينك، قال:
فوعده الله تعالى لينزعن ملك فارس والروم وعزتهما فجعله له.
قتادة: إن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلّا بسلطان فسأل سُلْطاناً نَصِيراً بكتاب الله وحدوده، وفرائضه وإقامة دينه وإن السلطان رحمة من الله جعلها من أظهر عباده لا يقدر بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم.
وقيل: هو فتح مكة.
__________
(1) تفسير أبي حمزة الثمالي: 237 ح 187 عن الثعلبي.(6/127)
وروى موسى بن إسماعيل عن حماد عن الكلبي في قوله وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً قال: سلطانه النصير.
عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية: استعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل مكة [قال له:] انطلق فقد استعملتك على أهل الله يعني مكة فكان شديدا على [المنافقين] ليّنا للمؤمنين.
قال: لا والله لا أعلم متخلفا ينطلق عن الصلاة في جماعة إلّا ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عنها إلّا منافق.
فقال أهل مكة: يا رسول الله تستعمل على آل الله عتاب بن أسيد أعرابيا حافيا؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني رأيت فيما يرى النائم، كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقه الباب ففلقها «1» لا شديدا حتّى فتح له فدخلها فأعز الله به الإسلام لنصرته المؤمنين على من يريد ظلمهم فذلك السلطان النصير» [51] «2» .
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ يعني أتى وَزَهَقَ الْباطِلُ أي ذهب الشيطان وهلكه، قاله قتادة.
وقال السدي: الحقّ الإسلام، والباطل الشرك. وقيل: الحق دين الرحمن والباطل الأوثان.
وقال ابن جريح: الحق الجهاد والقتال.
إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ذاهبا.
يقال: زهقت نفسه إذا خرجت وزهق السهم إذا جاوز الفرض فاستمر على جهته.
قال ابن مسعود وابن عبّاس: لما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، صنم كل قوم بحيالهم ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً بجعل الصنم ينكب لوجهه وجعل أهل مكة يتعجبون، ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلا أسحر من محمّد.
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي بيان من الضلالة والجهالة بيّن للمؤمن ما يختلف فيه ويشكل عليه، فيشفي به من الشبهة ويهدي به من الحيرة وإذا فعل ذلك رحمه الله، فهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها كما يشفي المريض إذا زالت العلل عنه.
قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه.
__________
(1) في الإصابة: 4/ 357: فقعقها.
(2) كنز العمال: 11/ 737 ح 33604 بتفاوت.(6/128)
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً لأنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه.
وقال همام: سمعت قتادة يقول: ما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ثمّ قرأ هذه الآية.
وروت ساكنة بنت الجرود قالت: سمعت رجاء الغنوي يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله» [52] «1» .
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن ذكرنا وَنَأى بِجانِبِهِ وتباعدنا بنفسه.
وقال عطاء: تعظم وتكبر.
واختلف القراء في هذا الحديث، فقرأ أبو عمر وعاصم ونافع وحمزة في بعض الروايات عنهم: بفتح النون وكسر الهمزة على الإمالة.
وقرأ الكسائي وخلف وحمزة في سائر الروايات: بكسرهما، اتبعوا الكسرة.
وقرأ أكثرهم: بفتحهما على التفخيم وهي اللغة العالية.
وقرأ أبو جعفر وعامر: بالنون ولها وجهان: أحدهما: مقلوبة من نأي كما يقال رأى وراء، والثاني: إنها من النوء وهو النهوض والقيام ويقال أيضا للوقوع الجلوس نوء وهو من الاضداد.
وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ الشدة والضر كانَ يَؤُساً قنوطا قُلْ يا محمّد كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ.
قال ابن عبّاس: على ناحيته. مجاهد: على حدته.
الحسن وقتادة: على نيته. ابن زيد: على دينه.
مقاتل: على [جدلته] «2» . الفراء: على طريقة التي جبل عليها.
أبو عبيدة والقتيبي: على خليقته وطبيعته.
وهو من الشكل، يقال: لست على شكلي وشاكلتي، وقيل: على سبيله الذي اختاره لنفسه، وقيل: على اشتباهه من حولهم، أشكل عليّ الأمر أي اشتبه، وكل هذه الأقاويل متقاربة.
يقول العرب: طريق ذو شواكل إذا ينشعب الطرق [منه] ، ومجاز الآية: كل يعمل ما يشبهه، كما قيل في المثل السائر: كل امرئ يشبه فعله ما فعل المروء فهو أهله.
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 318.
(2) هكذا في الأصل.(6/129)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 85 الى 89]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ.
الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وهو متكئ على عسيب فمرّ بقوم من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم:
لا تسألوه، فقام متكأ على العسيب، قال عبد الله، وأنا خلفه فظنيت أنه يوحي إليه فقال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
فقال بعضهم لبعض: قلنا لكم لا تسألوه
، وفي غير الحديث عن عبد الله، قالوا: فكذلك نجد مثله إن الروح من أمر الله تعالى.
وقال ابن عبّاس: قالت اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرنا ما الروح وكيف يعذب الروح في الجسد ولم يكن نزل فيهم شيء؟ فلم يجبهم فأتاه جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية.
ويروى أن اليهود اجتمعوا فقالوا لقريش حين سألوهم عن شأن محمّد وحاله سألوا محمدا عن الروح. وعن فتية فقدوا في الزمان الأوّل، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها، فإن أجاب في ذلك كله فهو نبي وإن لم يجب من ذلك كله فليس بنبي، وإن أجاب في بعض ذلك وأمسك عن البعض فهو نبي فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عنها فأنزل الله عزّ وجلّ فيما سألوه عن الفتية قوله أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ «1» إلى آخر القصة.
وأنزل عن الجواب الذي بلغ شرق الأرض وغربها وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ «2» إلى آخر القصة.
وأنزل في الروح قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ الآية.
واختلفوا في هذا الروح المسئول عنه ما هو: فقال الحسن وقتادة: هو جبرئيل.
قال قتادة: وكان ابن عبّاس يكتمه.
__________
(1) سورة الكهف: 9.
(2) سورة الكهف: 83.(6/130)
وروى أبو الميسرة ممن حدثه عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه قال: في قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ الآية، قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة، يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها، يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
ابن عبّاس: الروح خلق من خلق الله صورهم على صور بني آدم، وما نزل من السماء ملك إلّا ومعه واحد من الروح أبو صالح: الروح كهيئة الإنسان وليسوا بناس.
مجاهد: الروح على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون الطعام وليسوا بملائكة.
سعيد بن جبير: لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن بلغ السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل صورة، خلقه على صورة الملائكة وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، فيقوم يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد لولا أن سندس الملائكة سترا من نور لاحترق أهل السماوات من نوره.
وقال قوم: هو الروح المركب في الخلق الذي يفقده [فأوهم وبوجوده مقاديم] «1» وقال بعضهم: أراد بالروح القرآن وذلك
أن المشركين قالوا: يا محمّد من أتاك بهذا القرآن، فأنزل الله تعالى بهذه الآية وبيّن أنه من عنده
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يعني القرآن ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا ناصرا ينصرك ويرده عليك.
وقال الحسن: وَكِيلًا ناصرا يمنعك منا إذا أردناك.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يعني لكن لا يشاء ربك رحمة من ذلك، إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً.
هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج وهو معصوب الرأس من وجع فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «أيها الناس ما هذه الكتب التي يكتبون الكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقا إلّا قليلا إلّا أخذ منه» .
قالوا: يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ؟ قال: «من أراد الله به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلّا الله» [53] «2» .
وروى شداد بن معقل عن عبد الله بن مسعود قال: إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة
__________
(1) هكذا في المخطوط.
(2) مجمع الزوائد: 1/ 150، وكتاب الدعاء للطبراني: 437.(6/131)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
وآخر ما تفقدون الصلاة والمصلين قوم لا دين لهم، وإن هذا القرآن تصبحون يوما وما معكم منه شيء، فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبد الرحمن وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة.
قال: يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف ما في القلوب [فتصبح الناس كالبهائم] ثمّ قرأ عبد الله وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية «1» .
وروى موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ناجية بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عبد الله قال: أكثروا الطواف بالبيت قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه وأكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع؟ قالوا: هذه المصاحف يرفع فكيف بما في صدور الرجال.
قال: يسري عليه ليلا يصبحون منه فقراء [وينسون] قول لا إله إلّا الله فيتبعون في قول أهل الجاهلية وإشعارهم فذلك حين يقع عليهم القول.
وعن عبد الله بن عمرو قال: لا يقوم الساعة حتّى يرفع القرآن من حيث نزل له دوي كدوي النحل فيقول الله تعالى: ما بالك، فيقول: منك خرجت وإليك أعود أتلي ولا يعمل فيّ.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ لا يقدرون على ذلك.
قال السدي: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ لأنه غير مخلوق ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله.
وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً عونا.
نزلت هذه الآية حين قال الكفار: لو شئنا لَقُلْنا مِثْلَ هذا فأكذبهم الله تعالى وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ إلى قوله إِلَّا كُفُوراً جحودا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 100]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
__________
(1) راجع تفسير القرطبي: 10/ 325.(6/132)
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً.
عكرمة عن ابن عبّاس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري بن هشام، والأسود بن المطلب وزمعة ابن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا- أو من اجتمع منهم- بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة.
فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمّد وكلموه وخاصموه حتّى تعذروا فيه، فبعث إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريعا وهو [يظن بأنه] بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم.
فقالوا: يا محمّد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعنّت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلّا وقد جئته فيما بيننا [وبينك] ، وإن كنت إنما جئت بهذا الحدث تطلب به مالا حظنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك به رأي قد غلب عليك- فكانوا يسمون من الجن من يأتي الإنسان بالخير والشر فربما كان ذلك- بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتّى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم أطلب به أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فأن تقبلوا مني ما جئتكم فهو حظكم في الدنيا والآخرة وأن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم» [54] «1» .
فقالوا: يا محمّد وإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت إنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق
__________
(1) خلق أفعال العباد للبخاري: 81، وأسباب النزول للواحدي: 198.(6/133)
وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن ممن يبعث لنا فيهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم» [55] «1» .
قالوا: فإن لم تفعل هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك وسله فيجعل لك تيجان وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك فإذن نراك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه.
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: « [ما أنا بفاعل] ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بَشِيراً وَنَذِيراً» [56] .
قالوا: فأسقط السماء [عَلَيْنا كِسَفاً] كما زعمت أن ربك [إن] شاء فعل.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك» [57] .
قالوا: قد بلغنا إنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنّا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمّد أما والله لا نتركك وما بلغت منا حتّى نهلكك أو تهلكنا.
وقال قائل منهم لن نؤمن لك حتّى تأتينا بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا.
فلما قالوا ذلك قام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن محروم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال له: يا محمّد عرض عليك ما عرضوا فلم تقبل منهم ثمّ سألوك لأنفسهم أمرا فليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثمّ سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أومن بك أبدا حتّى تتخذ إلى السماء سلما ثمّ ترقى فيه وأنا أنظر حتّى تأتيها وتأتي بنسخة مصورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت ألّا أصدقك، ثمّ انصرف وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فقال: أبو جهل، حين قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا معشر قريش إن محمّد قد أتى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آلهتنا وسفه أحلامنا وسبّ آباءنا فإني أعاهد الله لأجلسنّ له عند الحجر قدر ما أطيق حمله وإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه.
__________
(1) تفسير الطبري: 15/ 206، وتفسير الدر المنثور: 4/ 202.(6/134)
وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا لما فاته من متابعة قومه ولما رأى من مباعدتهم فأنزل الله تعالى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ «1» «2» .
قال أهل الكوفة: (تَفْجُرَ) خفيفة بفتح التاء وضم الجيم، واختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد.
[قرأ] الباقون بالتشديد على التفعيل، واختاره أبو عبيد ولم يختلفوا في الثانية أنها مشددة لأجل الأنهار لأنها جمع، والتشديد يدل على التكثير من الأرض يعني أرض مكة يَنْبُوعاً يعني عيونا هو مفعول من نبع الماء.
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها وسطها تَفْجِيراً [رقيقا] أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً قرأ أكثر قراء العراق: بسكون السين أي قطعة أجمع كسفه وهو جمع الكثير، مثل تمرة وتمر وسدرة وسدر.
تقول العرب: أعطني كسفة من هذا الثوب أي قطعة، ويقال: منه جاءنا ببريد كسف أي قطع خبز، وقيل: أراد جاثيا.
وفتح الباقون السين، وهو القطع أيضا جمع القليل للكسفة.
أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا.
قال ابن عبّاس: كفيلا. الضحاك: ضامنا. مقاتل: شهيدا.
مجاهد: جمع القبيلة أيّ بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة.
قتادة: عيانا. الفراء: هو من قول العرب: لقيت فلانا قبلا وقبلا أي معاينة.
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب وأصله الزينة.
مجاهد: كنت لا أدري ما الزخرف حتّى رأيته في قراءة ابن مسعود: بيت من ذهب.
أَوْ تَرْقى تصعد فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أيّ من أجل رقيك صعودك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أمرنا فيه باتباعك قُلْ يا محمّد سُبْحانَ رَبِّي.
وقرأ أهل مكة والشام: قال سبحان ربي يعني محمد صلّى الله عليه وسلّم هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا وليس ما سألتم في طوق البشر ولا قدرة الرسل وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ جهلا منهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا وإن الأولى في محل النصب والثانية في
__________
(1) بطوله في تفسير الطبري: 15/ 206، 205.
(2) زاد المسير لابن الجوزي: 5/ 61. [.....](6/135)
محل الرفع وفي الآية اختصار فتأويلها هلّا بعث الله ملكا رسولا فأجابهم الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ مستوطنين مقيمين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا لأن الملائكة إنما تبعث إلى الملائكة ويراهم الملائكة قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إنه رسوله إليكم إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً إلى قوله أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ دونهم وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ.
شيبان عن قتادة عن أنس: إن رجلا قال: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الذي أمشاه على رجاله قادر أن يمشيه على وجهه [في النار] » [58] «1» .
وروى حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة وصنفا ركبان وصنفا يمشون على وجوههم» .
قيل: يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» [59] «2» .
عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا إن قيل: وكيف وصف الله عزّ وجلّ هؤلاء يأتيهم يوم القيامة عمي وصم وبكم، وقال تعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ «3» فقال: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وقال دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً والجواب عنه ما قال ابن عبّاس: عُمْياً لا يرون شيئا يسرهم، بُكْماً لا ينطقون بحجة، صُمًّا لا يسمعون شيئا يسرهم.
وقال الحسن: هذا حين [جاءتهم] الملائكة وحين يساقون إلى الموقف عمي العيون وزرقها سود الوجوه إلى أن يدخلوا النار.
مقاتل: هذا حين يقال لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك.
وقيل: عُمْياً لا يبصرون الهدى، وَبُكْماً لا ينطقون بخير، وَصُمًّا لا يسمعون الحق.
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ قال ابن عبّاس: [سكنت] مجاهد: [طفيت] قتادة: لانت وضعفت.
زِدْناهُمْ سَعِيراً وقودا ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 229، وصحيح ابن حبان: 16/ 316 ح 17321.
(2) مسند أحمد: 2/ 363.
(3) سورة الكهف: 53.(6/136)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
فأجابهم الله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ في عظمها وشدتها وكثرة أجزائها وقوتها قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في صغرهم وضعفهم نظيره قوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «1» وقوله أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «2» .
وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا أي وقتا لعذابهم وهلاكهم لا رَيْبَ فِيهِ إنه إليهم، وقيل: إن هذا جواب لقولهم أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، وقيل: هو يوم القيامة، وقيل: هو الموت الذي يعاينونه فَأَبَى الظَّالِمُونَ الكافرون إِلَّا كُفُوراً جحودا قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أيّ أملاك ربي وأمواله وأراد بالرحمة هاهنا الرزق إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ لبخلتم وحبستم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي الفاقة، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا ممسكا ضيقا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 111]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105)
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ قال ابن عبّاس والضحاك: هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
وقال: عكرمة: مطر، الوراق وقتادة ومجاهد والشعبي وعطاء: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الثمرات.
وعن محمّد بن كعب القرظي قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن الآيات التسع، فقلت:
الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ وعصا موسى ويده والطمس والبحر.
فقال عمر: وأنا أعرف إن الطمس إحداهن.
__________
(1) سورة المؤمن: 57.
(2) سورة النازعات: 27(6/137)
قال محمّد بن كعب: إن رجل منهم كان مع أهله في فراشه وقد صار حجرين، وإن المرأة منهم لقائمة تختبز وقد صارت حجرا، وإن المرأة منهم لفي الحمام وإنها تصير حجرا.
فقال عمر: كيف يكون الفقه إلّا هكذا ثمّ دعا بخريطة فيها أشياء مما كانت أصيبت لعبد العزيز بن مروان بمصر حين كان عليها من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة مشقوقة [قطعا] وإنها لحجر وأخرج الجوزة مشقوقة وإنها لحجر وأخرج أشباه ذلك من الفواكه وإنها لحجارة، وأخرج دراهم ودنانير وفلوسا وإنها لحجارة. فعلى هذا القول يكون الآيات بمعنى الدلالات والمعجزات.
وقال بعضهم: هي بمعنى آيات الكتاب.
روى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن غسان المرادي: إن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتّى نسأل هذا النبي، فقال الآخر: لا تقل نبي لأنه لو سمع صارت له أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تشركوا بالله شيئا ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ولا تزنوا ولا تَأْكُلُوا الرِّبَوا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرقوا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة في اليهود أن لا يتعدوا في السبت» [60] «1» .
فقبّلوا يده [ورجله] «2» وقالوا: نشهد أنّك نبي، قال: «فما يمنعكم أن تتبعوني؟» قالوا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، وإنّا نخاف إن اتبعناك تقتلنا اليهود «3» .
فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ موسى (عليه السلام) ، وهو قراءة العامة، وروى حنظلة السّدوسي عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنّه قرأ فَسَأَلَ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ على الخبر وقال: سأل موسى فرعون أن يخلّي سبيل بني إسرائيل ويرسلهم معه.
فقال له فرعون: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي قد سحروك، قاله الكلبي، وقال ابن عباس: مخدوعا، وقال محمّد بن جرير: يعطي علم السحر فهذه العجائب التي يفعلها من سحرك، وقال الفرّاء وأبو عبيد: ساحرا فوضع المفعول موضع الفاعل، كما يقال: هو مشؤوم وميمون أي شائم ويامن، وقيل: معناه: وإنّي لأعلمك يا موسى بشرا ذا سحر، أي له رئة «4» .
قال موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ قراءة العامة بفتح التاء خطابا لفرعون، وقرأ الكسائي بضم التاء وهي قراءة علي.
__________
(1) الدر المنثور: 4/ 204، وفتح القدير: 3/ 265.
(2) زيادة من المصدر.
(3) تفسير الطبري: 15/ 216، ومسند أحمد: 4/ 240.
(4) فتح القدير: 4/ 63، ومختار الصحاح: 156.(6/138)
روى شعبة عن أبي إسحاق عن رجل من مراد عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه قرأها:
لَقَدْ عَلِمْتُ برفع التاء وقال: والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم، قال: فبلّغت ابن عباس فقال: إنها لَقَدْ عَلِمْتَ تصديقا لقوله: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ.
قال أبو عبيد: والمأخوذ عندنا نصب التاء، وهو أصح من المعنى الذي احتجّ به ابن عباس، ولأن موسى (عليه السلام) لا يحتج بأن يقول علمت أنا وهو الرسول الداعي، ولو كان مع هذا كلّه تصح تلك القراءة [عن علي] لكانت حجة، ولكنها ليست تثبت عنه إنما هي عن رجل مجهول، ولا نعلم أحدا من القرّاء تمسك بها غير الكسائي، والرجل المرادي الذي روى عنه أبو إسحاق هو كلثوم المرادي «1» .
ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات التسع إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ جمع بصيرة وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال ابن عباس: يعني ملعونا، مجاهد: هالكا، قتادة: مهلكا «2» .
وروى عيسى بن موسى عن عطية العوفي في قوله: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال:
مبدّلا «3» ، ابن زيد: مخبولا، لا عقل لك، مقاتل: مغلوبا، ابن كيسان: بعيدا عن الخيرات، وروى سفيان بن حصين عن الحسن في قوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال [سلاحا] «4» في القطيفة.
قال مجاهد: دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له فألقى موسى عصاه فرأى فرعون جانبي البيت بين [فقميها] ، ففزع فرعون وأحدث في قطيفته.
وعن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: كنت قائما على رأس المأمون وهو يناظر رجلا فسمعته يقول: يا مثبور، ثم أقبل عليّ فقال: يا إبراهيم ما معنى: يا مثبور؟ قلت: لا أدري، فقال: حدّثني الرشيد قال: حدّثني أمير المؤمنين المنصور فسمعته يقول لرجل يا مثبور، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما معنى مثبور؟ قال: قال ميمون بن مهران قال ابن عباس في قوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال: ناقص العقل، قال الفرّاء: يعني مصروفا ممنوعا من الخير، والعرب تقول: ما ثبرك عن هذا الحق؟ أي ما منعك عنه وصرفك، وثبره الله يثبره ومثبره وهو لغتان، وقال ابن الزهري: الغليظ الأرب إذا بارى الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبور.
فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ يعني يخرجهم، أي بني إسرائيل مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مصر والشام.
__________
(1) راجع الثقات لابن حبان: 7/ 461.
(2) كذا في المخطوط، وفي تفسير الطبري: مالكا، كما عن مجاهد.
(3) كذا في المخطوط، وفي تفسير الطبري: مالكا، كما عن مجاهد.
(4) تفسير الطبري: 15/ 19.(6/139)
فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ونجّينا موسى وقومه وَقُلْنا لهم مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد هلاك فرعون وقومه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ يعني مصر والشام فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وهي الساعة جِئْنا بِكُمْ من قبوركم الى موقف القيامة لَفِيفاً مختلطين وقد التفّ بعضكم ببعض لا تتعارفون ولا ينحاز [أحدكم] إلى قبيلته وحيّه، وهو من قول الجيوش إذا اختلطوا، وكل شيء اختلط بشيء تعطّف به والتفّ.
وقال مجاهد والضحاك: (لَفِيفاً) أي جميعا، ووحّد اللفيف وهو خبر عن الجمع لأنه بمعنى المصدر كقول القائل: لففته لفا ولفيفا.
وقال الكلبي فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعني مجيء عيسى ابن مريم من السماء جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً وقال البزّار: من هاهنا وهاهنا، يقول: جميعا.
وهذه القصة تعزية لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم وتقوية لقلبه، يقول الله تعالى: كما أنزلت عليك القرآن فكذبك كفار قومك من مكة كذلك آتيت موسى التوراة فكذبه فرعون وقومه، وكما أراد أهل مكة أن يستفزّوك منها، كذلك أراد فرعون أن يستفزّ موسى وبني إسرائيل من مصر، فأنجيناهم منهم وأظفرتهم عليهم، وكذلك أظفرتك على أعدائك، وأتمّ نعمتي عليك وعلى من اتّبعك نصرة للدين وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، فأنجز الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده وله الحمد والمنّة.
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ يعني القرآن وَما أَرْسَلْناكَ يا محمد إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَقُرْآناً فَرَقْناهُ أي وأنزلناه قرآنا ففصّلناه.
قرأ ابن عباس: فرّقناه بالتشديد وقال: لأنه لم ينزل مرة واحدة وانما أنزل [نجوما] في عشرين سنة، وتصديقه قراءة أبي بن كعب وقرآنا فرّقناه عليك، وقرأ الباقون بالتخفيف كقوله فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ.
قال ابن عباس فصّلناه، قال الحسن: فرّق الله به بين الحق والباطل، وقرأ الآخرون:
بيّناه.
لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي تؤدة ومهل في ثلاث وعشرين سنة وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا. قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا أمر وعد وتهديد إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن وخروج محمد صلّى الله عليه وسلّم وهم مؤمنو أهل الكتاب إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن يَخِرُّونَ يسقطون لِلْأَذْقانِ على الأذقان وهي جمع الذقن وهو مجتمع اللحيين، قال ابن عباس أراد الوجوه سُجَّداً. وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا قال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم خرّوا سجدا وقالوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ أي وقد كان وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ نزول القرآن خُشُوعاً وخضوعا وتواضعا لربّهم.(6/140)
قال عبد الأعلى التيمي: من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه، وتلا هذه الآية «1» ، نظيرها قوله: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا «2» .
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الآية،
قال ابن عباس: تهجّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: يا الله يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون: كان محمد يدعو إلها واحدا فهو الآن يدعوا إلهين اثنين الله والرحمن، والله ما نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
قال ميمون بن مهران: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في أول ما أوحي إليه يكتب: باسمك اللهم حتى نزلت هذه الآية: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فكتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية «3» .
الضحاك: قال أهل الكتاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّك لتقلّ ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فأنزل الله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الآية «4» .
أَيًّا ما تَدْعُوا من هذين الاسمين ومن جميع أسمائه فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [.....] مجازه: أيّا تدعوا، كقوله: عَمَّا قَلِيلٍ «5» وجُنْدٌ ما هُنالِكَ.
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها
قال ابن عباس: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن تلا به «6» كما حكاه القرآن: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «7» ربما صفّروا ليغلّطوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ويخلطوا عليه قراءته فأنزل الله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي في الصلاة فيسمع المشركون فيؤذوك، ولا تُخافِتْ بِها فلا يسمع أصحابك حتى يأخذوا عنك «8» .
وقال سعيد: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجهر بقراءة القرآن في المسجد الحرام، فقالت قريش: لا تجهر بالقراءة فتؤذي آلهتنا فنهجو ربك
، وقال مقاتل: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في دار أبي سفيان بن حرب عند الصفا، يجهر بقرائته فمرّ به أبو جهل فقال: لا تفتر على الله، فجعل يخفت
__________
(1) سنن الدارمي: 1/ 88، وتفسير الثعالبي: 4/ 154. [.....]
(2) سورة مريم 58.
(3) أسباب النزول للواحدي: 200.
(4) المصدر السابق.
(5) سورة المؤمنون: 42.
(6) تفسير الطبري: 15/ 230، وفيه: ومن جاء به.
(7) سورة فصلت: 26.
(8) تفسير الطبري: 15/ 230.(6/141)
صوته، فقال أبو جهل للمشركين: ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة، رددته عن قراءته فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .
وروى [علقمة] عن ابن سيرين في هذه الآية قال: كان أبو بكر (رضي الله عنه) يخافت بالقراءة في الصلاة ويقول: أناجي ربي، وقد علم بحاجتي، وكان عمر بن الخطاب يرفع صوته ويقول:
أزجر الشيطان وأوقظ المنان، فأمر أبو بكر حين نزلت هذه الآية أن يرفع صوته شيئا، وأمر عمر أن يخفض شيئا «2» .
وقالت عائشة رضي (رضي الله عنه) : نزلت هذه الآية في التشهد، كان الأعرابي يجهر فيقول:
التحيات لله والصلوات ويرفع بها صوته، فنزلت هذه الآية، وقال الحسن: [لا تراء] بصلاتك في العلانية ولا [تسئها] في السر.
الوالبي عن ابن عباس: لا تصلّ مرائيا الناس، ولا تدعها مخافة الناس، ابن زيد: كان أهل الكتاب يخافتون في الصلاة، لم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح ويصيح من وراءه، فنهاه الله أن يصيح كما يصيحون، وخافت كما يخافتون، والسبيل الذي بين ذلك الذي بيّن له جبرئيل في الصلاة.
وقال: علي والنخعي ومجاهد وابن مكحول: هي في الدعاء «3»
، [وبه
قال أشعث عن] عطية «4» عن ابن عباس، وقال عبد الله بن شدّاد: كان أعراب من بني تميم إذا سلّم النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: «اللهم ارزقنا» ، فقال لهم: أتجهرون؟ فأنزل الله هذه الآية.
ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن دراج أبي السمح أن شيخا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدّثه أن رسول الله قال في هذه الآية: «إنما أنزلت في الدعاء، يقول: لا ترفع صوتك في الدعاء عند استغفارك واذكر ذنوبك فيسمع منك فتعبّر بها وتخافت في الصوت والسكون» [61] ،
ومنه يقال للميّت إذا برد خفت.
وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ أي بين الجهر والإخفات سَبِيلًا وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً قال الحسين بن الفضل: يعني الذي عرّفني أنّه لم يتخذ ولدا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ قال مجاهد: لم يذل فيحتاج الى ولي يتعزز به.
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً وعظّمه أن يكون له شريك أو ولي، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قول العبد: «الله أكبر» خير من الدنيا وما فيها.
__________
(1) زاد المسير 5/ 70.
(2) تفسير الطبري: 15/ 232.
(3) يراجع تفسير ابن كثير: 3/ 73.
(4) في تفسير ابن كثير: عكرمة عن ابن عباس.(6/142)
وروى سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «آية العزّ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً» [62] الى آخره.
وروى سفيان بن وكيع عن سفيان بن عيينة عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علّمه هذه الآية سبع مرات «1» .
وروى محمد بن سلمة عن عبد الحميد بن واصل قال: من قرأ آخر بني إسرائيل كتب الله له من الأجر ملء السموات والأرض لأن الله يقول فيمن زعم أن له ولدا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «2» قال: فيكتب له من الأجر على قدر ذلك.
__________
(1) المصنف لابن أبي شيبة: 1/ 383.
(2) سورة مريم: 90- 91.(6/143)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
سورة الكهف
مكيّة
في فضلها.
وهي سبعة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا، وألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة، ومائة وعشر آيات.
روى مطرّف «1» جندب عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضرّه فتنة الدجال، ومن قرأ السورة كلها دخل الجنّة» [63] «2» .
وروى إسماعيل بن رافع عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أدلّكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك حين نزلت ملأ فضلها «3» ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك» ؟. قالوا بلى يا رسول الله. قال: «سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ولياليها مثل ذلك، وأعطي نورا يبلغ به السماء ووقي فتنة الدّجال» «4» [64] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قَيِّماً مستقيما. قال ابن عباس: عدلا. الفرّاء: قَيِّماً على الكتب كلّها ناسخا لشرائعها. وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً
__________
(1) في المصدر: سمرة. [.....]
(2) تفسير مجمع البيان: 6/ 306.
(3) في المصدر: ملأ.
(4) تفسير القرطبي: 10/ 346، وتفسير مجمع البيان: 6/ 306.(6/144)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
: مختلفا لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً أي لتنذركم بأسا شديدا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً وهي الجنّة.
ماكِثِينَ: مقيمين فِيهِ أَبَداً. وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً نصب على التمييز والقطع، تقديره: كبرت الكلمة كلمة، تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ: ما يقولون إِلَّا كَذِباً.
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ: قاتل نفسك عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ: القرآن أَسَفاً: حزنا وجزعا وغضبا.
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من كل شيء زِينَةً لَها، قال الضحّاك من الزاكية خاصّة زينة لها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أزهد فيها.
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً: مستويا جُرُزاً: يابسا أملس لا تنبت شيئا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 16]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)
أَمْ حَسِبْتَ، معناه: بل أم حسبت، يعني: أظننت يا محمد أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً؟ يعني: ليسوا أعجب آياتنا فإنّ ما خلقت من السماوات والأرض وما فيهنّ من العجائب أغرب منهم. والكهف هو الغار في الجبل. واختلفوا في الرقيم، فقال «1» فيه ما
روى ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ ثلاثة نفر خرجوا يرتادون لأهلهم، بينا هم يمشون إذ «2» أصابتهم السماء، فأووا إلى كهف فسقطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف فانقفل عليهم، فقال قائل منهم:
اذكروا أيّكم عمل حسنة لعل الله برحمته «3» يرحمنا.
__________
(1) كذا في المخطوط.
(2) في المخطوط: إذا.
(3) ببركته، عن هامش المخطوط.(6/145)
فقال رجل منهم: قد عملت حسنة مرة، كان لي أجراء يعملون عملا استأجرت كل رجل منهم بأجر معلوم، فجاءني رجل ذات يوم وسط النهار فاستأجرته بشرط أصحابه، فعمل في بقية نهاره كما عمل الرجل منهم في نهاره كله، فرأيت عليّ في الذّمام ألّا أنقصه ممّا استأجرت به أصحابه، لما جهد في عمله، فقال رجل منهم: أتعطي هذا ما أعطيتني ولا يعمل إلّا نصف النهار؟ قلت: يا عبد الله لم أبخسك شيئا من شرطك، وإنما هو مالي أحكم فيه ما شئت.
قال: فغضب وذهب وترك أجره، فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء الله، ثمّ نزل بي بعد ذلك بقر فاشتريت به فصيلة من البقر، فبلغت ما شاء الله، فمرّ بي بعد حين شيخ ضعيف لا أعرفه، فقال لي: إنّ لي عندك حقا. فذكره حتى عرفته، قلت: إيّاك أبغي وهذا حقّك.
فعرضتها عليه جميعا فقال: يا عبد الله، لا تسخر بي إن لم تتصدّق علي فأعطني حقي. قلت:
والله لا أسخر، إنها لحقك ما لي فيه شيء، فدفعتها إليه. اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا. فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء فأبصروا.
وقال الآخر: قد عملت حسنة مرّة، كانت لي فضل، وأصاب النّاس شدّة، فجاءتني امرأة تطلب مني معروفا، فقلت: والله ما هو دون نفسك. فأبت عليّ، وذهبت ورجعت ثلاث مرات وقلت: لا والله ما هو دون نفسك. فأبت عليّ وذهبت، وذكرت لزوجها، فقال لها: أعطيه نفسك وأغيثي عيالك. فرجعت إليّ ونشدتني بالله، فأبيت عليها وقلت: والله ما هو دون نفسك. فلمّا رأت ذلك أسلمت إلىّ نفسها، فلمّا تكشّفتها وهممت بها ارتعدت من تحتي، فقلت لها: ما شأنك؟ قالت: أخاف الله رب العالمين. فقلت لها: خفته في الشدّة ولم أخفه في الرخاء! فتركتها وأعطيتها ما يحق عليّ بما تكشفتها. اللهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا. فانصدع حتى تعارفوا وتبيّن لهم.
وقال الآخر: قد عملت حسنة مرّة، كان لي أبوان شيخان كبيران، وكان لي غنم، فكنت أطعم أبوىّ وأسقيهما ثمّ أرجع إلى أهلي. قال: فأصابني يوما غيث حبسني حتى أمسيت فأتيت أهلي فأخذت محلبي وحلبت غنمي وتركتها قائمة فمضيت إليهما، فوجدتهما ناما، فشقّ عليّ أن أوقضهما، وشقّ عليّ أن أترك غنمي فما برحت جالسا ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما. اللهم إن فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا «1» » [65] .
قال النعمان لكأني أسمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الجبل طاق، ففرج الله عنهم وخرجوا» [66] «2» .
وقال ابن عباس: الرقيم واد بين غطفان وأيلة، وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف.
__________
(1) في المخطوط بعدها علامة سقط. لكن لم يظهر في مصوّرته.
(2) مسند أحمد: 4/ 275، ومجمع الزوائد: 8/ 140 بتفاوت يسير.(6/146)
وقال كعب هي قريتهم. وهو على هذا التأويل من رقمة الوادي وهو موضع الماء منه، تقول العرب: عليك بالرقمة، ودع الضّفة. والضّفتان: جانبا الوادي. وقال سعيد بن جبير: الرّقيم لوح من حديد، وقيل: من رصاص، كتبوا فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم، ثمّ وضعوه على باب الكهف. وهو على هذا التأويل بمعنى المرقوم، أي المكتوب. والرّقم: الخط والعلامة، والرقم: الكتابة.
ثمّ ذكر قصتهم فقال: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ، أي رجعوا وصاروا. واختلفوا في مسيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق بن يسار: مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح ابن مريم (عليه السلام) ، متمسكين بعبادة الله عزّ وجلّ وتوحيده. وكان ممّن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس كان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه في ذلك ممّن أقام على دين المسيح. وكان ينزل بقرى الروم فلا يترك في قرية ينزلها أحدا إلّا فتنه حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف وهي أفسوس، فلما نزلها كبر ذلك على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه. وكان دقيانوس قد أمر حين قدمها أن يتتبّع أهل الإيمان، فيجمعوا له، واتّخذ شرطا من الكفار من أهلها، فجعلوا يتتبعون أهل الإيمان في مساكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس فيقدمهم إلى الجامع الذي يذبح فيه للطواغيت، فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأصنام والذبح للطواغيت، فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل.
فلما رأى ذلك أهل الشّدة في الإيمان بالله عز وجلّ، جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقتّلون ويقطّعون ثمّ يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها كلّها وعلى كلّ باب من أبوابها، حتّى عظمت الفتنة على أهل الإيمان فمنهم من أقرّ فترك ومنهم من صلب على دينه فقتل.
فلمّا رأى الفتية ذلك حزنوا حزنا شديدا، فقاموا وصلّوا وصاموا واشتغلوا بالدعاء والتسبيح لله عز وجلّ، وكانوا من أشراف الرّوم، وكانوا ثمانية نفر، فبكوا وتضرّعوا وجعلوا يقولون: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً، اكشف عن عبادك هذه الفتنة، وارفع عنهم البلاء، وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك حتى يعلنوا عبادتك.
فبينا هم على ذلك إذ أدركهم الشرط، وكانوا قد دخلوا في مصلّى لهم فوجدوهم سجودا على وجوههم يبكون ويتضرّعون إلى الله عز وجلّ ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفئته. فلما رآهم أولئك الكفرة قالوا لهم: ما خلفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه. ثمّ خرجوا من عندهم فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس، فقالوا: نجمع الجميع وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يسخرون منك ويعصون أمرك؟(6/147)
فلما سمع ذلك أتي بهم تفيض أعينهم من الدّمع، معفّرة وجوههم في التراب، فقال لهم:
ما منعكم أن تشهدوا لذبح الآلهة الّتي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم؟ اختاروا إمّا أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح النّاس وإما أن أقتلكم. فقال مكسلمينا- وكان أكبرهم-: إن لنا إلها ملأ السماوات والأرض عظمته، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أبدا، ولن نقرّ بهذا الذي تدعونا إليه أبدا، ولكنّا نعبد الله ربّنا، وله الحمد والتكبير والتّسبيح من أنفسنا خالصا، إيّاه نعبد، وإيّاه نسأل النجاة والخير فأمّا الطواغيت وعبادتها، فلن نعبدها أبدا، فاصنع بنا ما بدا لك. ثمّ قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له، فلما قالوا ذلك أمرهم فنزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم، ثمّ قال: أمّا إذا فعلتم فإنّي سأؤخركم، وسأفرغ لكم فأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن اعجل ذلك لكم إلّا أني أراكم شبابا، حديثة أسنانكم، ولا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تذكّرون فيه، وتراجعون عقولكم.
ثمّ أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت منهم، ثمّ أمر بهم حتى أخرجوا من عنده، وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي كانوا بها قريبا منهم لبعض أموره، فلما رأى الفتية أن دقيانوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم، فائتمروا بينهم أن يأخذ كلّ رجل نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا بها ويتزوّدوا مما بقي، ثمّ ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس فيمكثون فيه، ويعبدون الله عزّ وجلّ، حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء.
فلما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كلّ فتى منهم إلى بيت أبيه وأخذ نفقة فتصدّقوا بها، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم، وأتبعهم كلب كان لهم، حتى إذا أتوا ذلك الكهف الذي في ذلك الجبل تلبثوا فيه.
وقال كعب الأحبار: مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مرارا، فقال لهم الكلب: ما تريدون منّي؟ لا تخشون إجابتي. أنا أحب أحبّاء الله، فناموا حتى أحرسكم.
وقال ابن عباس: هربوا ليلا من دقيانوس بن جلانوس حيث دعاهم إلى عبادة الأصنام، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب، وكان على دينهم، فخرجوا من البلد فأووا إلى الكهف، وهو قريب من البلدة، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلّا الصلاة والتسبيح والتكبير والتّحميد ابتغاء وجه الله تعالى، فجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له تمليخا، فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرّا، وكان من أجملهم وأجلدهم. وكان تمليخا يصنع ذلك، فإذا دخل البلد يضع ثيابا كانت عليه حسانا، ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها، ثمّ يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري طعاما وشرابا ويسّمّع ويتجسس لهم الخبر: هل ذكروا أصحابه بشيء؟ ثمّ يرجع إلى أصحابه.(6/148)
فلبثوا بذلك ما لبثوا، ثمّ قدم دقيانوس الجبّار إلى المدينة فأمر العظماء فذبحوا للطواغيت، ففزع من ذلك أهل الإيمان، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل، فأخبرهم أنّ الجبّار دقيانوس قد دخل المدينة، وأنهم ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ليذبحوا للطواغيت. فلما أخبرهم فزعوا ووقعوا سجودا يدعون الله عز وجلّ ويتضرّعون ويتعوّذون به من الفتنة.
ثمّ إنّ تمليخا قال لهم: ارفعوا رؤوسكم فاطعموا من رزق الله وتوكّلوا على بارئكم.
فرفعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا وخوفا على أنفسهم، فطعموا منه وذلك مع غروب الشمس. ثمّ جلسوا يتحدّثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضا، فبينا هم على ذلك إذ ضرب الله عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بباب الكهف، فأصابه ما أصابهم، وهم مؤمنون موقنون، ونفقتهم عند رؤوسهم. فلما كان من الغد تفقّدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم، فقال لبعضهم: لقد ساءني هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا ظنوني غضبا عليهم بجهلهم ما جهلوا من أمري، ما كنت لأحمل عليهم في نفسي ولا لواحد منهم إن تابوا وعبدوا آلهتي! فقال له عظماء المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم، وقد كنت أجّلت لهم أجلا، فلو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل، ولكنّهم لم يتوبوا.
فلما قالوا له ذلك غضب غضبا شديدا، ثمّ أرسل إلى آبائهم فسألهم عنهم، فقال:
أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني. فقالوا له: أمّا نحن فلم نعصك، فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثمّ انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى ينجلوس؟ فلما قالوا له ذلك خلّى سبيلهم، وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية، فألقى الله عز وجلّ في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم، أراد الله عز وجل أن يكرمهم ويجعلهم آية لأمّة يستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ «1» .
فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم، وقال: دعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبرا لهم. وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، قد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ، بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم، يتقلّبون ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ.
ثمّ إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما، اسم أحدهما بيدروس، واسم الآخر روتاس ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص يجعلانه في تابوت من نحاس، ثمّ يجعلان التابوت في البنيان، وقالا: لعل الله
__________
(1) إشارة إلى الآية: 70 من سورة الحج.(6/149)
يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ هذا الكتاب. ففعلا، ثمّ بنيا عليه، فبقي دقيانوس ما بقي، ثمّ مات وقومه وقرون بعد كثيرة، وخلفت الملوك بعد الملوك.
وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتيانا مطوّقين مسوّرين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان- وكان أحدهم وزير الملك- فآمنوا، وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن صاحبه فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر بعضهم لبعض: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه، ثمّ خرج آخر فرآه جالسا وحده، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك، فجلس إليه ثمّ خرج الآخرون فجاؤوا فجلسوا إليهما، فاجتمعوا وقال بعضهم لبعض: ما جمعكم، وكل واحد يكتم إيمانه على صاحبه مخافة على نفسه؟ ثمّ قالوا: ليخرج كل فتيين منكم فيخلوا ثمّ ليفش كل واحد منكم إلى صاحبه.
فخرج فتيان منهم فتواقفا ثمّ تكلّما فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه، فأقبلا مستبشرين إلى أصحابهما فقالا: قد اتفقنا على أمر واحد. فإذا هم جميعا على الإيمان، وإذا كهف في الجبل قريب منهم، فقال بعضهم لبعض: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً. فدخلوا ومعهم كلب صيد، فناموا ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً.
قال: وفقدهم قومهم، وطلبوهم فعمّى الله عليهم آثارهم وكهفهم، فلما لم يقدموا كتب أحدهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا، فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان بن فلان. ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا: ليكوننّ لهذا شأن. ومات ذلك الملك، وجاء قرن بعد قرن.
وقال وهب بن منبّه: جاء أحد حواريّ عيسى بن مريم (عليه السلام) الى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلّا سجد له. فكره أن يدخلها فأتى حمّاما قريبا من تلك المدينة، فكان فيه، وكان يؤاجر نفسه من الحمامي ويعمل فيه.
ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة، ودرّ عليه الرزق، وجعل يقوم عليه، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم خبر السماء وخبر الأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدّقوه، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة. وكان شرطه على صاحب الحمام: إن الليل لي لا يحول بيني وبين الصلاة أحد، وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامراة فدخل بها الحمام، فعيّره الحواري وقال له: أنت ابن الملك وتدخل مع هذه؟ فاستحيا، فذهب، فرجع مرّة أخرى فقال له مثل ذلك، فسبّه وانتهره ولم يلتفت حتى دخلا معا فماتا جميعا في الحمام، فأتي الملك فقيل(6/150)
له: قتل صاحب الحمام ابنك. فالتمس فلم يقدر عليه، فهرب، فقال: من كان يصحبه؟ فسمّوا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة، فمرّوا بصاحب لهم في زرع وهو على مثل إيمانهم فذكروا له أنهم التمسوا، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوا وقالوا: نبيت هاهنا الليلة، ثمّ نصبح إن شاء الله فترون رأيكم. فضرب الله عَلَى آذانِهِمْ.
فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، وكلّما أراد الرجل منهم دخوله أرعب، فلم يطق أحد دخوله، وقال قائل: أليس لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال:
بلى. قال: فابن عليهم باب الكهف واتركهم فيه يموتوا عطشا وجوعا. ففعل.
قال وهب: تركهم بعد ما سدّ عليهم باب الكهف زمانا بعد زمان، ثمّ إنّ راعيا أدركه المطر عند الكهف فقال: لو فتحت هذا الكهف فأدخلته غنمي من المطر! فلم يزل يعالجه حتى فتح، وردّ الله إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا.
وقال محمد بن إسحاق: ثمّ ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له تيدوسيس، فلما ملك بقي في ملكه ثمانيا وثلاثين سنة فتحزب الناس في ملكه، وكانوا أحزابا منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذّب بها، فكبر ذلك على الملك الصالح، وبكى إلى الله عز وجلّ، وتضرّع إليه، وحزن حزنا شديدا. فلما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون: لا حياة إلّا الحياة الدنيا، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فأما الجسد فتأكله الأرض. ونسوا ما في الكتاب، فجعل تيدوسيس يرسل إلى من يظن فيه خيرا وأنه معه في الحق، فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يحولون الناس عن الحقّ وملّة الحواريين.
فلما رأى ذلك الملك الصالح تيدوسيس دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحا وجعل تحته رمادا ثمّ جلس عليه فدأب ليله ونهاره زمانا يتضرع إلى الله ويبكي مما يرى فيه الناس، ويقول:
أي رب، قد ترى اختلاف هؤلاء الناس، فابعث إليهم من يبين لهم. ثمّ إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية له وحجة عليهم، وليعلموا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وأن يستجيب لعبده الصالح تيدوسيس ويتم نعمته عليه، ولا ينزع عنه ملكه ولا الإيمان الذي أعطاه، وأن يعبد الله ولا يشرك به شيئا، وأن يجمع من كان ببلده من المؤمنين.
فألقى الله عز وجلّ في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف- وكان اسم ذلك الرجل أولياس- أن يهدم ذلك البنيان الّذي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان بها تلك الحظيرة حتى نزعا ما على فم الكهف، وفتحا عليهم باب الكهف، فحجبهم الله تعالى من الناس بالرعب. فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم أن يدخل من باب الكهف لم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم إلى باب الكهف، نائما.(6/151)
فلما نزعا الحجارة وفتحا باب الكهف أذن الله عز وجلّ بالقدرة والعظمة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم، فسلّم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون بها إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها. ثمّ قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون، لا يرى في وجوههم ولا أبشارهم ولا ألوانهم شيء ينكرونه، وإنما هم كهيئتهم حين رقدوا، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس الجبّار في طلبهم.
فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: ائتنا يا أخانا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبّار وهم يظنون أنهم قد رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون، وقد خيّل إليهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها، حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض: كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ.
وكل ذلك في أنفسهم يسير، فقال لهم تمليخا: افتقدتم والتمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت أو يقتلكم، فما شاء الله بعد ذلك فعل. فقال لهم مكسلمينا:
يا إخوتاه، اعلموا أنكم ملاقو الله، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غدا. ثمّ قالوا لتمليخا:
انطلق إلى المدينة فتسمّع ما يقال [عنّا] «1» بها اليوم وما الذي نذكر به عند دقيانوس، وتلطف ولا تشعرنّ بنا أحدا، وابتع لنا طعاما فائتنا به، فإنه قد نالنا الجوع، وزدنا على الطّعام الذي جئتنا به فإنه كان قليلا فقد أصبحنا جياعا. ففعل تمليخا كما كان يفعل، ووضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكّر فيها، فأخذ ورقا من نفقتهم الّتي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس، وكانت كخفاف الربع. فانطلق تمليخا خارجا فلمّا مرّ بباب الكهف رأى حجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها، ثمّ مرّ فلم يبال بها، حتى أتى باب المدينة مستخفيا يصدّ عن الطريق تخوّفا أن يراه أحد من أهلها فيعرفه فيذهب إلى دقيانوس، ولا يشعر العبد الصالح أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة.
فلما رأى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان، فلمّا رآها عجب وجعل ينظر إليها مستخفيا، فنظر يمينا وشمالا ثمّ ترك ذلك الباب فتحوّل إلى باب آخر من أبوابها فنظر فرأى مثل ذلك، فجعل يخيّل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى ناسا كثيرا محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك، فجعل يمشي ويعجب ويخيل إليه أنه حيران، ثمّ رجع إلى الباب التي أتى منها، فجعل يتعجب منه ومن نفسه ويقول: يا ليت شعري أمّا هذه عشية أمس فكان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها، فأما اليوم فإنها ظاهرة فلعلّي حالم ثمّ يرى أنه ليس بنائم، فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثمّ دخل المدينة، فجعل يمشي بين
__________
(1) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: لنا.(6/152)
ظهراني سوقها فيسمع ناسا كثيرين يحلفون باسم عيسى بن مريم، فزاده فرقا فرأى أنه حيران، فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدر المدينة ويقول في نفسه: والله ما أدري ما هذا، أمّا عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلّا قتل، وأمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى ولا يخاف.
ثمّ قال في نفسه: لعلّ هذه المدينة ليست بالمدينة التي أعرفها اسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدا منهم والله ما أعلم مدينة قرب مدينتنا! فقام كالحيران لا يتوجّه وجها، ثمّ لقي فتى من أهل المدينة، فقال: ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ قال: دفسوس. فقال في نفسه: لعل بي مسّا أو أمرا أذهب عقلي، والله يحقّ لي أن أسرع بالخروج منها قبل أن أخزى أو يصيبني شر فأهلك.
هذا الذي حدّث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم. ثمّ إنّه أفاق فقال: والله لو عجّلت الخروج منها قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي. فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلا منهم، فقال: يا عبد الله، بعني بهذا الورق طعاما. فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها، فعجب منها ثمّ طرحها إلى رجل من أصحابه، فنظر إليها. ثمّ جعلوا يتطارحونها من رجل إلى رجل، ويعجبون منها، ثمّ جعلوا يتسارّون من أجله، ففرق فرقا شديدا وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه، فقال لهم وهو شديد الفرق: أفصلوا عليّ، قد أخذتم ورقي فأمسكوا، وأما طعامكم فلا حاجة لي به. فقالوا: من أنت يا فتى؟ وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأوّلين، وأنت تريد أن تخفيه عنا، انطلق معنا فأرناه وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت فإنك إن لم تفعل نأت بك السّلطان فنسلمك إليه فيقتلك.
فلما سمع قولهم عجب في نفسه، وقال: قد وقعت في كل شيء أحذر منه، ثمّ قالوا: يا فتى، إنك والله ما تستطيع أن تكتم ما حدث، ولا تظن في نفسك أنك سنخفي عليك.
فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم، وفرق حتى ما يخبرهم شيئا، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطوقوه في عنقه، ثمّ جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكببا، حتى سمع به من فيها، فقيل: أخذ رجل عنده كنز، فاجتمع عليه أهل المدينة، صغيرهم وكبيرهم، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون: والله ما هذه الفتى من أهل هذه المدينة، وما رأيناه فيها قط، وما نعرفه. فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم مع ما يسمع منهم، فلما اجتمع عليه أهل المدينة فرق وسكت ولم يتكلم، ولو قال إنه من أهل المدينة لم يصدّق، وكان مستيقنا أن أباه وإخوته بالمدينة، وأن حسبه في أهل المدينة من عظماء أهلها، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا، وقد استيقن أنه عشية أمس يعرف كثيرا من أهلها وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحدا.
فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله: أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم(6/153)
إذ اختطفوه، فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبّران أمرها، وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أرموس واسم الآخر أسطيوس. فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه، فجعل يلتفت يمينا وشمالا، وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون والحيران، فجعل تمليخا يبكي ثمّ رفع رأسه إلى السماء وإلى الله عزّ وجلّ، ثمّ قال: اللهم إله السماء والأرض أفرغ عليّ اليوم صبرا وأولج معي روحا منك تؤيّدني به عند هذا الجبار. وجعل يبكي ويقول في نفسه: فرّق بيني وبين إخوتي، يا ليتهم يعلمون ما لقيت وأين يذهب بي، ولو أنهم يعلمون فيأتون فنقوم جميعا بين يدي هذا الجبار، فإنا كنا تواثقنا [لنكونن معا] «1» لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا ولا نعبد الطواغيت من دون الله [ف-] فرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبدا، وقد كنا تواثقنا على ألّا نفترق في حياة ولا موت، يا ليت شعري ما هو فاعل بي؟ أقاتلي أم لا؟
هذا ما حدث به تمليخا أصحابه عن نفسه حتى انتهي به إلى الرجلين الصالحين: أرموس وأسطيوس، فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء، فأخذ أرموس وأسطيوس الورق، فنظرا إليه وعجبا منه ثمّ قال أحدهما: أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ هذا الورق يشهد عليك أنك وجدت كنزا. فقال لهم تمليخا: ما وجدت كنزا، ولكن هذا الورق ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، وما أدري ما أقول لكما. فقال أحدهما: فمن أنت؟ فقال له: أمّا ما أرى فكنت أرى أني من أهل القرية. قالوا له:
فمن أبوك [ومن «2» ] يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحدا يعرفه، ولا أباه، فقال له أحدهما: أنت رجل كذّاب لا تخبرنا بالحقّ. ولم يدر ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض، فقال بعض من حوله: هذا رجل مجنون. وقال بعضهم: ليس بمجنون، ولكن يحمّق نفسه عمدا لينفلت منكم. فقال له أحدهما، ونظر إليه نظرا شديدا: أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال، أبيك وضرب هذا الورق ونقشها أكثر من ثلاثمائة سنة، وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر بنا، ونحن شرط كما ترى، وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها، وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار؟ إنني لأظنني سآمر بك فتعذّب عذابا شديدا ثمّ أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت.
فلمّا قال له ذلك، قال تمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتم صدّقتم ما عندي. قالوا له: سل، ما نكتمك شيئا. فقال: ما فعل الملك دقيانوس؟ قالا له: ليس نعرف ملكا يسمى دقيانوس على وجه الأرض، ولم يكن إلّا ملكا قد هلك منذ زمان ودهر طويل،
__________
(1) في المخطوط: معا لنكونن.
(2) في المخطوط: فبيّن.(6/154)
وهلكت بعده قرون كثيرة. قال لهم تمليخا: فو الله ما هو بمصدّقي أحد من الناس بما أقول، لقد كنا فتية، وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاما وأتجسّس الأخبار فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل ينجلوس أركم أصحابي. فلما سمع أرموس ما يقول تمليخا، قال: يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله عزّ وجلّ جعلها لكم على يدي هذا الفتى، فانطلقوا بنا معه يرنا أصحابه كما قال.
فانطلق معهم أرموس وأسطيوس وانطلق معهما أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف ينظرون إليهم.
ولمّا رأى الفتية أصحاب الكهف أن تمليخا قد احتبس عليهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به، ظنوا أنه قد أخذ فذهب به إلى ملكهم دقيانوس الذي هربوا منه، فبينا هم يظنون ذلك ويتخوفون إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم، وظنوا أنهم رسل دقيانوس الجبّار وأنه بعث إليهم ليؤتى بهم، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة، وسلّم بعضهم على بعض، وقالوا: انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا، فإنه الآن بين يدي الجبّار دقيانوس ينتظر متى نأتيه، فبينا هم يقولون ذلك، وهم جلوس بين ظهراني الكهف، فلم يروا إلّا أرموس وأصحابه وقوفا على باب الكهف، وسبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو ويبكي، فلما رأوه «1» يبكي، بكوا معه وسألوه عن شأنه، فأخبرهم بخبره وقصّ عليهم النبأ كلّه فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمان كلّه، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتصديقا للبعث، وليعلموا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها.
ثمّ دخل على آثر تمليخا أرموس فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة فقام بباب الكهف، ثمّ دعا رجالا من عظماء المدينة ففتح التابوت عندهم فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوبا فيها: (إن مكسلمينا ومجسلمينا وتمليخا ومرطولس وكسوطونس وبيوسرس وتكريوس وبطينوس «2» كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخلوا هذا الكهف، فلمّا أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسدّ عليهم بالحجارة، وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثروا عليهم.
فلمّا رأوه عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم آية البعث فيهم، ثمّ إنهم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه، ثمّ دخلوا على فتية الكهف فوجدوهم جلوسا بين ظهرانيه مشرقة وجوههم، لم تبل
__________
(1) في المخطوط: رأوهم.
(2) يلاحظ أن المعدود ثمانية لا سبعة. [.....](6/155)
ثيابهم، فخرّ أرموس وأصحابه سجّدا، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته، ثمّ كلّم بعضهم بعضا وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس.
ثمّ إن أرموس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح تيدوسيس أن عجّل، لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله على ملكك، وجعلها آية للعالمين لتكون نورا وضياء وتصديقا للبعث، فاعجل على فتية بعثهم الله تعالى، وقد كان توفّاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة.
فلما أتى الملك الخبر قام من المسندة التي كان عليها ورجع إليه عقله، وذهب عنه همّه، ورجع إلى الله عز وجلّ، فقال: أحمدك الله ربّ السماوات والأرض، وأعبدك وأسبّح لك تطوّلت علي، ورحمتني برحمتك، فلم تطفئ النّور الذي كنت جعلت لآبائي وللعبد الصالح قسطيطوس الملك.
فلمّا نبّأ به أهل المدينة ركبوا وساروا حتى أتوا مدينة دقيانوس فتلقّاهم أهل المدينة وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف وأتوه، فلما رأى الفتية تيدوسيس فرحوا به وخرّوا سجّدا على وجوههم، وقام تيدوسيس قدامهم ثمّ اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبّحون الله عزّ وجلّ ويحمدونه، ثمّ قال الفتية لتيدوسيس: نستودعك الله، ونقرأ عليك السلام، وحفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شرّ الجن والإنس.
فبينا الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفّى الله أنفسهم، وقام الملك إليهم فجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل لكل رجل منهم تابوت من ذهب، فلما أمسوا ونام أتوه في المنام فقالوا: إنّا لم نخلق من ذهب ولا فضّة، ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير، فاتركنا كما كنّا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عزّ وجلّ منه. فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله تعالى حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجد يصلّى فيه، وجعل لهم عيدا عظيما، وأمر أن يؤتى كل سنة.
وقيل: إنهم لما أتوا إلى باب الكهف قال تمليخا: دعوني حتّى أدخل على أصحابي فأبشّرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم. فدخل فبشّرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، وعمي عليهم مكانهم، فلم يهتدوا إليه. فهذا حديث أصحاب أهل الكهف.
ويقال: إنّ نبي الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم سأل ربّه أن يريه إيّاهم، فقال: «إنّك لن تراهم في دار الدنيا، ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك» .
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبرئيل (عليه السلام) : «كيف أبعثهم؟» . قال: «ابسط كساء لهم، وأجلس على طرف من أطرافها أبا بكر، وعلى الثاني عمر وعلى الثالث عليّا، وعلى الرابع أبا(6/156)
ذر، ثمّ ادع الريح الرخاء المسخّر لسليمان بن داود (عليهما السلام) فإن الله تعالى أمرها أن تطيعك» .
ففعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أمره، فحملتهم الريح حتى انطلقت بهم إلى باب الكهف، فلما دنوا من الباب قلعوا منه حجرا، فقام الكلب حين أبصر الضوء فهرّ وحمل عليهم، فلما رآهم حرّك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ برأسه أن ادخلوا، فدخلوا الكهف وقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فردّ الله إليهم أرواحهم، فقاموا بأجمعهم وقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقالوا: إنّ نبي الله محمد ابن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ عليكم السلام. فقالوا: على محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض، وعليكم بما بلّغتم. ثمّ جلسوا بأجمعهم يتحدثون، فآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقبلوا دين الإسلام، وقالوا: أقرئوا محمدا منّا السلام. فأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي.
ويقال: إنّ المهدي يسلّم عليهم، فيحييهم الله عزّ وجلّ، ثمّ يرجعون إلى رقدتهم ولا يقومون إلى يوم القيامة.
ثمّ جلس كل واحد منهم على مكانه، وحملتهم الريح، وهبط جبرئيل (عليه السلام) [على النبي صلّى الله عليه وسلّم] وأخبره بما كان [منهم] «1» ، فلما أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف وجدتموهم؟ وما الذي أجابوا؟» . فقالوا: يا رسول الله، دخلنا عليهم فسلّمنا عليهم، فقاموا بأجمعهم، فردّوا السّلام، وبلّغناهم رسالتك فأجابوا وأنابوا وشهدوا أنّك رسول الله حقا، وحمدوا الله عزّ وجلّ على ما أكرمهم بخروجك وتوجيه رسولك إليهم، وهم يقرئونك السلام.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تفرّق بيني وبين أصهاري وأحبائي وأختاني، واغفر لمن أحبّني وأحب أهل بيتي وحامّتي، وأحبّ أصحابي» «2» [67] .
فذلك قوله عزّ وجلّ إِذْ أَوَى أي صار وانضم الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ، وهو غار في جبل ينجلوس، واسم الكهف خيرم، فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي يسّر لنا ما نلتمس من رضاك. وقال ابن عباس: رَشَداً أي مخرجا من الغار في سلامة.
وقيل: صوابا.
قوله: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ هذا من فصيحات القرآن التي أقرّت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله، ومعناه: أنمناهم وألقينا وسلّطنا عليهم النوم، كما يقال: ضرب الله فلان بالفالج، أي ابتلاه به وأرسله عليه. وقيل: معناه حجبناهم عن السّمع، وسددنا نفوذ الصوت إلى مسامعهم، وهذا وصف الأموات والنيام. وقال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الأمير علي يد
__________
(1) في المخطوط: منه.
(2) تفسير القرطبي: 10/ 390 بتفاوت يسير.(6/157)
الرعية، إذا منعهم عن العبث والفساد، وضرب السّيد على يدي عبده المأذون في التجارة، إذا منعه عن التصرّف فيها. قال الأسود بن يعفر، وكان ضريرا:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ... ضربت عليّ الأرض بالأسداد «1»
سِنِينَ عَدَداً أي معدودة، وهو نعت للسنين، فالعدّ المصدر، والعدد الاسم المعدود، كالنقص والنقض والخبط والحبط. وقال أبو عبيدة: هو نصب على المصدر.
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ، يعني من نومهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً، وذلك حين تنازع المسلمون الأوّلون أصحاب الملك، والمسلمون الآخرون الذين أسلموا حين أوى أصحاب الكهف في قدر مدّة لبثهم في الكهف، فقال المسلمون الأولون: مكثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وقال المسلمون الآخرون: بل مكثوا كذا وكذا. فقال الأوّلون: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا، فذلك قوله: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ، لتعلموا أَيُّ الْحِزْبَيْنِ: الفريقين أَحْصى:
أصوب وأحفظ لِما لَبِثُوا في كهفهم نياما، أَمَداً: غاية.
وقال مجاهد: عددا. وفي نصبه وجهان: أحدهما على التفسير والثاني لوقوع لِما لَبِثُوا عليه.
نَحْنُ نَقُصُّ، أي نقرأ وننزل عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ، أي خبر أصحاب الكهف بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ: شبان وأحداث آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، حكم الله لهم بالفتوّة حين آمنوا بلا واسطة لذلك. وقال أهل اللّسان: رأس الفتوّة الإيمان. وقال الجنيد: الفتوّة كفّ الأذى وبذل الندى، وترك الشكوى. وقيل: الفتوّة شيئان: اجتناب المحارم، واستعمال المكارم. وقيل: الفتى من لا يدّعي قبل الفعل، ولا يزكّي نفسه بعد الفعل. وقيل: ليس الفتى من يصبر على السياط، إنما الفتى من جاز على الصراط. وقيل: ليس الفتى من يصبر على السكين، إنما الفتى من يطعم المسكين.
وَزِدْناهُمْ هُدىً إيمانا وبصيرة وإيقانا.
وَرَبَطْنا: وشددنا عَلى قُلُوبِهِمْ بالصبر، وألهمناهم ذلك، وقوّيناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش، وفرّوا بدينهم إلى الكهف، إِذْ قامُوا بين يدي دقيانوس فَقالُوا حين عاتبهم على تركهم عبادة الصنم: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا: لن نعبد مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً، يعني إن دعونا غير الله، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. قال ابن عباس ومقاتل: جورا. قال قتادة: كذبا. وأصل الشطط والإشطاط: مجاوزة القدر، والإفراط.
هؤُلاءِ قَوْمُنَا، يعني أهل بلدهم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ، أي من دون الله آلِهَةً، يعني
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 10.(6/158)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
الأصنام يعبدونها من دون الله لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي هلّا يأتون على عبادتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ:
بحجة واضحة فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، فزعم أنّ له شريكا وولدا؟
ثمّ قال بعضهم لبعض: إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ، يعني قومكم وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، أي واعتزلتم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله. وكذلك هو في مصحف عبد الله: (وما يعبدون من دون الله) .
فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ، أي صيروا إليه يَنْشُرْ، أي يبسط لكم ويظهر لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً، أي رزقا رغدا. والمرفق: ما يرتفق به الإنسان، وفيه لغتان: مرفق، ومرفق.
[سورة الكهف (18) : الآيات 17 الى 22]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ، أي تتزاور، وقرأ أهل الكوفة بالتخفيف على حذف أحد الزاءين، وقرأ أهل الشام: تزورّ على وزن تحمرّ، وكلّها بمعنى واحد، أي تميل وتعدل عن كهفهم ذاتَ الْيَمِينِ، أي جانب اليمين، وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ، قال ابن عباس: تدعهم. قال مقاتل بن حيان: تجاوزهم. وأصل القرض: القطع. ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ، أي متّسع من الكهف، وجمعها فجوات وفجىّ. أخبرنا الله تعالى بحفظه إيّاهم في مهجعهم، وعرفنا لطفه بهم في مضجعهم واختياره لهم أصلح المواضع للرقاد فأعلمنا أنّه بوّأهم في مغناة من الكهف مستقبلا بنات نعش، تميل عنهم الشمس طالعة وغاربة وجارية لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرّها وتغيّر ألوانهم وتبلى ثيابهم، وإنهم في متّسع منه ينالهم فيه برد الريح ونسيمها وتنفي عنهم كربة الغار وغمومه، ذلِكَ الذي ذكرت من أمر الفتية مِنْ آياتِ اللَّهِ:(6/159)