على آخرها، ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يجيء فقراء المهاجرين يوم القيامة للحساب فيقولون هل أعطيتمونا شيئا فتحاسبوننا عليه فيدخلون الجنّة قبل الأغنياء بخمس مائة عام، حتّى إنّ الرجل من الأغنياء ليدخل في غمارهم فيؤخذ فيستخرج، فأراد عمر أن يجعلني ذلك الرجل وما يسرّني إنّي كنت ذلك الرجل وإن لي الدنيا وما فيها» [196] «1» .
أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي حبسوا ومنعوا في طاعة الله لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً سيرا فِي الْأَرْضِ وتصرّفا فيها للتجارة وطلب المعيشة، نظيره قوله تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ «2» .
قال الشاعر:
قليل المال يصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وحفظ المال أيسر من بغاه ... [وضرب] في البلاد بغير زاد «3»
قال قتادة: معناه: حبسوا أنفسهم في سبيل الله عزّ وجلّ للغزو والعبادة ف لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ ولا يتفرّغون إلى طلب المعاش. وقال ابن زيد: من كثرة ما جاهدوا لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ، فصارت الأرض كلّها حربا عليهم لا يتوجّهون جهة إلّا ولهم فيها عدو.
وقال سعيد: هؤلاء قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصاروا زمنى فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض، واختاره الكسائي، قال: أُحْصِرُوا من المرض، فلو أراد الحبس لقال: حصروا، وإنّما الإحصار من الخوف أو المرض، والحصر الحبس في غيرهما «4» .
يَحْسَبُهُمُ قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة والأعمش وحمزة وعاصم يحسب وبابه بفتح السين في جميع القرآن.
والباقون بالكسر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم وقيل إنّها لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه وافد بني المشفق قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا وصاحب لي فذكر حديثا فقال صلّى الله عليه وسلّم للراعي: «أذبح لنا شاة» ، ثم قال: «لا تحسبن أنا أنّما ذبحناها من أجلكم- ولم يقل يحسبن أنا إنما ذبحناها لك-، ولكن لنا مائة من الغنم فإذا زادت
__________
(1) تاريخ دمشق: 21/ 144 ط. دار الفكر.
(2) سورة المزمّل: 20.
(3) تاريخ دمشق: 11/ 372، وفيه: وعسف في البلاد، وكذا في السيرة النبوية لابن كثير: 1/ 112.
(4) زاد المسير: 1/ 283. [.....](2/276)
شاة ذبحنا شاة لا نريد أن تزيد على المائة» [197] «1» .
الْجاهِلُ بأمرهم وحالهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ من تعففهم عن السؤال، والتعفف:
[التفعل] من العفّة وهو الترك، يقال: عفّ عن الشيء إذا كفّ عنه، وعفيف إذا تكلّف في الإمساك.
قال رؤبة:
فعفّ عن إسرارها بعد الغسق
وقال محمد بن الفضل: يمنعهم علوّ همّتهم رفع جوابهم إلى مولاهم.
تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ قرأ حمزة والكسائي بالإمالة. الباقون بالتفخيم، والسيما والسيميا:
العلّامة التي يعرف بها الشيء، وأصلها من السّمة، واختلفوا في السيميا التي يعرفون بها.
فقال مجاهد: هو التخشّع والتواضع. الربيع والسدي: أثر الجهد من الحاجة والفقر.
الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع والضر، ابن زيد: رثاثة ثيابهم فالجوع خفي على الناس، يمان: النحول والسكينة. الثوري: فرحهم بفقرهم واستقامة أحوالهم عند موارد البلاء عليهم، [المرتضى] : غيرتهم على فقرهم وملازمتهم إياه. أبو عثمان: إيثار ما يملكون مع الحاجة إليه.
قال بعضهم: تطيب قلوبهم وبشاشة وجوههم وحسن حالهم ونور أسرارهم وجولان أرواحهم في ملكوت ربّهم.
لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً قال عطاء: يعني إذا كان عنده غداء لا يسأل عشاء، فإذا كان عنده عشاء لم يسأل غداء. وقال أهل المعاني: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ولا غير إلحاف لأنّه قال مِنَ التَّعَفُّفِ، والتعفف ترك السؤال أصلا وقال أيضا: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ولو كانت المسألة من شأنهم لما كان [للنبي صلّى الله عليه وسلّم] إلى معرفتهم بالعلامة والدلالة حاجة، إذ السؤال يغني عن حالهم وهذا كما قلت في الكلام: قال ما رأيت مثل هذا الرجل، ولعلّك لم تر مثله قليلا ولا كثيرا، قال الله عزّ وجلّ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ «2» وهم كانوا لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا.
وأنشد الزجاج:
على لا حب لا يهتدى لمنارة «3» ... إذا ساقه العود النباطي جرجرا «4»
__________
(1) مسند أحمد: 4/ 33، والمستدرك: 2/ 233.
(2) سورة البقرة: 88.
(3) لسان العرب: 15/ 321.
(4) تفسير كنز الدقائق: 1/ 661.(2/277)
معناه: ليس له منار فيهتدي له.
كذلك معنى الآية: ليس لهم سؤال فيقع فيه، الحاف، والإلحاف: الإلحاح واللجاج في السؤال، وهو مأخوذ من لحف الحبل وهو خشونته، كأنّه استعمل الخشونة في الطلب.
روى هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) يقول: «من سأل وله أربعون درهما فقد ألحف» [198] «1» .
قال هشام: قال الحسن: صاحب الخمسين درهما [غني]
عطاء بن يسار عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنّما المسكين المتعفّف» . اقرءوا إن شئتم لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [199] «2» .
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ يحب أن يرى أثر النعمة على عبده، ويكره البؤس والتبأوس، ويحب الحليم المتعفّف من عباده ويبغض الفاحش البذي السائل اللحف» [200] «3» .
وعن قبيصة بن مخارق قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم استعنته في حمالة فقال: «أقم عندنا حتّى تأتينا الصدقة فإما أن نحملها وإما أن نعينك فيها، وأعلم إنّ المسألة لا تحل إلّا لثلاثة: لرجل يحمل حمالة عن قوم فسأل فيها حتّى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته حاجة فأذهبت ماله فسأل حتّى يصيب سدادا من عيش أو قواما من عيش ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة حتّى شهد له ثلاثة من ذوي الحجا من قومه فسأل حتّى يصيب سدادا أو قواما من عيش ثم يمسك، فما سوى ذلك من المسائل سحت يأكله صاحبه يا قبيصة سحتا» «4» .
وروى قتادة عن هلال بن حصن عن أبي سعيد الخدري قال: أعوزنا مرّة فقيل لي: لو أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته، فانطلقت إليه معتفيا، فقال أوّل ما واجهني به: «من استعفف عفّه الله ومن استغنى أغناه الله ومن سألنا لم ندّخر عنه شيئا نجده» .
قال: فرجعت إلى نفسي فقلت: ألا استعفف فعفّني الله، فرجعت فما سألت نبي الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا بعد ذلك من حاجة حتّى مالت علينا الدنيا فغرقتنا «5» إلّا من عصمه الله محمد صلّى الله عليه وسلّم «6» إنّ الله
__________
(1) كنز العمال: 6/ 511 ح 16771.
(2) مسند أحمد: 2/ 395.
(3) كنز العمال: 6/ 643 ح 17192 بتفاوت وفي تفسير مجمع البيان: 2/ 203 بتمامه.
(4) مسند أحمد: 5/ 60.
(5) في تاريخ دمشق (20/ 388) ففرقتنا أو عرقتنا.
(6) في تفسير الطبري (3/ 137) إلّا من عصم الله.(2/278)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
عزّ وجلّ كره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ونهى عن عقوق الأمّهات ووأد البنات وعن منع وهات «1» .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي الوسطى ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، ومن سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة كدوحا أو خموشا أو خدوشا «2» في وجهه» . قيل: وما غناه يا رسول الله؟ قال: «خمسون درهما أو عدّها من الذهب» «3» .
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ قال فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وعليه يجازيه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 274 الى 276]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً الآية.
مجاهد عن ابن عباس قال:
كان عند عليّ بن أبي طالب- كرّم الله وجهه- أربعة دراهم لا يملك غيرها، فتصدق بدرهم سرّا، ودرهم علانيّة، ودرهم ليلا ودرهم نهارا، فنزلت الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ الآية «4» .
وعن يزيد بن روان قال: ما نزل في أحد من القرآن ما نزل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يسبق الدرهم مائة ألف» قالوا: يا رسول الله وكيف يسبق الدرهم مائة ألف؟ قال: «رجل له درهمان فأخذ أحدهما وتصدّق به، ورجل [ ... ] «5» فأخرج من غرضها مائة ألف فتصدّق بها» «6» .
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: لما أنزل الله عزّ وجلّ لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية، بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفة حتّى أغناهم، وبعث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في جوف الليل بوسق من تمر- والوسق ستون صاعا-
__________
(1) هكذا في المخطوط، وهكذا في تفسير مجمع البيان: 2/ 203.
(2) الكدح دون الخدش والخدش دون الخمش.
(3) بتفاوت في المعجم الكبير: 10/ 129.
(4) معاني القرآن للنحاس: 1/ 305، وأسباب النزول للواحدي: 58. [.....]
(5) غير مقروءة في المخطوط.
(6) كنز العمال: 6/ 360 ح 16059 بتفاوت يسير.(2/279)
وكان أحب الصدقتين إلى الله عزّ وجلّ صدقة عليّ رضي الله عنه فأنزل الله فيهما الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الآية، فعنى بالنهار عَلانِيَةً صدقة عبد الرحمن بن عوف وبِاللَّيْلِ ... سِرًّا صدقة عليّ رضي الله عنه «1» .
وقال أبو امامة وأبو الدرداء ومكحول والأوزاعي ورباح بن يزيد: هم الذين يمتطون «2» الخيل في سبيل الله ينفقون عليها بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً، نزلت فيمن لم يرتبط الخيل تخيلا ولا افتخارا، يدلّ عليه ما
روى سعيد بن سنان عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً قال: «نزلت في أصحاب الخيل» .
قال غريب: والجن لا يقرب بيتا فيه عتيق من الخيل، ويروى أنه أشار إلى بعض خيل كانت في الخيانة فأشار إلى عتاق تلك الخيل فقال: هؤلاء الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ.
الآية.
وعن حبس بن عبد الله الصنعاني أنّه قال: حدّث ابن عباس في هذه الآية: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فقال: في علف الخيل «3» . وعن أبي سريح عمّن حدّثه عن أبي الفقيه أنّه قال: من حبس فرسا كان ستره من النار، [وسقطت منه حسنة] «4» ، وكان أبو هريرة إذا مرّ بفرس سمين تلا هذه الآية، وإذا مرّ بفرس أعجف سكت.
شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أرتبط فرسا في سبيل الله فأنفق عليه احتسابا، كان شبعه وجوعه وريّه وظمؤه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة» .
عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن مكحول قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «المنفق في سبيل الله على فرسه كالباسط كفّيه بالصدقة» [201] «5» .
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ قال الأخفش [ ... ] «6» : إنّه جعل الخبر بالفاء إذا كان الاسم الذي وصل به [ ... ] «7» ، لأنّه في معنى من وجواب من بالفاء في الجزاء، ومعنى الآية: من أنفق فله أجره.
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا ومعنى الربا: الزيادة على أصل المال في غير بيع يقال: ربي الشيء إذا زاد، وأربى عليه و [عامل] عليه إذا زاد عليه
__________
(1) راجع زاد المسير: 1/ 285.
(2) في أسباب النزول: يرتبطون.
(3) أسباب النزول للواحدي: 57.
(4) تفسير الدر المنثور: 3/ 196.
(5) أسباب النزول: 57، ومسند أحمد: 6/ 458.
(6) غير مقروءة في المخطوط.
(7) غير مقروءة في المخطوط.(2/280)
في الربا. قال عمر رضي الله عنه: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلّا مثل بمثل، ولا تبيعوا الورق بالورق إلّا مثل بمثل، ولا تبيعوا الذهب بالذهب أحدهما غائب والآخر حاضر، وإن استنظرك حتّى يلج بيته فلا تنظره إلّا يدا بيد هات وهذا أني أخاف عليكم الربا «1» .
قالوا: وقياس كتابته بالياء لكسرة أوّله، وقد كتبوه في القرآن بالواو. قال الفراء: إنّما كتبوه كذلك لأنّ أهل الحجاز تعلّموا الكتابة من أهل الحيرة ولغتهم الربوا، فعلّموهم صورة الحرف على لغتهم فأخذوه كذلك عنهم. وكذلك قرأها الضحاك [الربوا] بالواو.
وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة مكان كسرة الراء. وقرأ الباقون بالتفخيم بفتحة الباء، قالوا:
اليوم فأنت فيه [بالخيار إن شئت] كتبته على ما في المصحف موافقة له، وإن شئت بالياء وإن شئت بالألف. ومعنى قوله الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا [يأكلونه] حق الأكل لأنّه معظم الأمر.
والربا في أربعة أشياء: الذهب، والفضّة، والمأكول، والمشروب. فلا يجوز بيع بعضها ببعض إلّا مثلا بمثل ويدا بيد، وإذا اختلف الصنفان جاز التفاضل في النقد وحرّم في النسيئة، ولا يجوز صاع بر بصاعين لا نقدا ولا نسيئة لأنّهما جنس واحد، وكذلك الذهب بالذهب مثقال باثنين لا نقدا ولا نسيّة، وكذلك الفضّة بالفضّة، وكذلك صاع بر بصاعين شعير وصاع شعير بصاعين بر نقدا ولا يجوز نسيئة. ويجوز مثقال بعشرين درهما أو أقل أو أكثر نقدا ولا يجوز نسيئة، وجماع ما شايع الناس عليه ثلاثة أشياء: أحدهما: ما يعتدي به ممّا كان مأكولا أو مشروبا. والثاني: ما كان ثمنا للأشياء وقيمة للمتلفات وهو الذهب والفضّة فهذان فيهما الربا فلا يجوز بيع شيء متفاضلا نقدا ونسيئة، والصنف الثالث: ما عدا هذين مما لا يؤكل ولا يشرب ولا يكون ثمنا، فلا ربا فيه فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا نقدا ونسيئة. فهذا جملة القول فيما فيه الربا على مذهب الشافعي.
وقال مالك: كلّ ثمن أو يقتات أو ما يصلح به القوت فهو الذي فيه الربا «2» .
وقال أهل العراق: كلّ مكيل أو موزون فيه الربا. وقال أهل الحجاز ما
روي محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار وعبد الله بن عبك قالا: جمع المنزل بين عبادة بن الصاحب ومعاوية، فقال عبادة: نهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر، وقال أحدهما: والملح بالملح، وقال الآخر: إلّا مثلا بمثل ويدا بيد، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق والورق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر ويدا بيد كيف شئنا.
قال أحدهما: فمن ناد أو ازداد فقد أربى.
__________
(1) المجموع لمحيي الدين النووي: 10/ 73.
(2) راجع المغني: 4/ 127.(2/281)
قوله تعالى: لا يَقُومُونَ يعني يوم القيامة من قبورهم إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ أي يصرعه ويخبطه الشَّيْطانُ وأصل الخبط الضرب والوطء ويقال ناقة خبوط، التي تطأ الناس وتضرب بقوائمها الأرض. قال زهير:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطي يعمر فيهرم «1»
مِنَ الْمَسِّ الجنون. يقال: مسّ الرجل وألس فهو ممسوس ومالوس، إذا كان مجنونا، وأصله مسّ الشيطان إياه. ومعنى الآية: إنّ آكل الربا يبعثه الله يوم القيامة مجنونا [] «2» وذلك علامة أهل الربا يبعثون وفيهم خبل من الشيطان. قاله قتادة.
أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قصّة الإسراء، قال:
«فانطلق بي جبرائيل إلى رجال كثير كلّ رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدّين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غُدُوًّا وَعَشِيًّا.
قال: فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة [لا يسمعون ولا يعقلون] فإذا أحسّ بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون، ثم يقوم أحدهم فتميل بطنه فيصرع فلا يستطيعون أن يبرحوا حتّى يغشاهم آل فرعون فيطؤونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة» . قال: «وآل فرعون يقولون اللهمّ لا تقم الساعة أبدا قال: ويوم يقال لهم: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «3» قال: قلت: يا جبرائيل من هؤلاء؟
قال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» «4» .
حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أسري به رأى في السماء رجالا بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى خارج بطونهم فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟
قال: هؤلاء أكلة الربا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هكذا واستحلالهم إياه.
وذلك إنّ أهل الجاهليّة كان أحدهم إذا أجلّ ماله على غريمه فطالبه بذلك يقول الغريم لصاحب الحقّ: زدني في الأجل وامهلني حتّى أزيدك في مالك فيفعلان ويقولان: سواء علينا الزيادة في أوّل البيع بالربح أو عند محل المال لأجل التأخير. فكذّبهم الله تعالى فقال:
__________
(1) لسان العرب: 7/ 281.
(2) غير مقروءة في المخطوط.
(3) سورة غافر: 46. [.....]
(4) تفسير القرطبي: 3/ 355.(2/282)
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ تذكير وتخويف. قال السدي: أمّا الموعظة فالقرآن، وإنّما ذكر الفعل لأنّ الموعظة والوعظ واحد.
وقرأ الحسن: فمن جاءته موعظة كقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «1» .
مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى من أكل الربا فَلَهُ ما سَلَفَ أي ما مضى من ذنبه قبل النهي فهو مغفور له وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يعني النهي إن شاء عصمه حتّى يثبت على الانتهاء وان شاء خذله حتّى يعود، وقيل: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فيما يأمره وينهاه ويحلّ له ويحرّم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء. وفيه يقول محمود الورّاق:
إلى الله كلّ الأمر في كلّ خلقه ... وليس إلى المخلوق شيء من الأمر
وَمَنْ عادَ بعد التحريم والموعظة إلى أكل الربا مستحلّا له فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الربا سبعون بابا أهونها عند الله كالذي ينكح أمّه» [202] «2» .
وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده «3» .
الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أراد الله بقرية هلاكا أظهر فيهم الربا» «4» .
يَمْحَقُ اللَّهُ أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته وإن كان كثيرا كما يمحق القمر.
وعن عبد الله بن مسعود رفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قلّة» [203] «5» .
وروي جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: يَمْحَقُ اللَّهُ يعني لا يقبل منه صدقة ولا جهاد ولا حجّا ولا صلة.
وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ أي يزيدها ويكثرها ويبارك فيها في الدنيا ويضاعف الأجر والثواب في العقبى وإن كانت قليلة، قال عزّ من قائل: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً «6» .
__________
(1) سورة يونس: 57.
(2) المنقى من السنن المسندة لابن الجارود النيسابوري: 163 بتمامه، وكنز العمال: 4/ 108 ح 9774 بتفاوت يسير.
(3) سنن أبي داود: 2/ 110 ح 3333.
(4) كنز العمال: 4/ 104 ح 9751.
(5) فتح الباري: 8/ 152.
(6) سورة البقرة: 245.(2/283)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
القاسم بن محمد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلّا الطيّب ويأخذها بيمينه ويربيها كما يربّي أحدكم مهره أو [فصيله] حتّى أن اللقمة لتصير مثل أحد» «1»
وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ «2» .
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ قال يحيى بن معاد: لا أعرف حبّة تزن جبال الدنيا إلّا الحبّة من الصدقة وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ بتحريم الربا مستحل له أَثِيمٍ [متماد في الإثم] «3» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 277 الى 281]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا
قال عطاء وعكرمة: نزلت هذه الآية في العبّاس بن عبد المطلب وعثمان بن عفّان وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر: لا يبقى ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حقّكما كلّه فهذا لكما أن تأخذا النصف وتؤخّرا النصف وأضعف لكما فقبلا، فلمّا جاء الرجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنهاهما وأنزل الله هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما.
وقال السدي: نزلت في العبّاس عبد المطلب وخالد بن الوليد وكانا شريكان في الجاهليّة يسلّفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير. ناس من ثقيف. ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وإنّ كلّ ربا من ربا الجاهليّة موضوع وأوّل الربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب، وكلّ دم من دم الجاهليّة موضوع وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحرث ابن عبد المطلب. كان مرضعا في بني ليث قتله هذيل» .
وقال مقاتلان: أنزلت في أربعة أخوة: من ثقيف مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة، وهم
__________
(1) مسند الشاميين: 3/ 115.
(2) سورة التوبة: 104.
(3) زيادة عن تفسير الطبري: 19/ 153.(2/284)
بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي وكانوا يداينون المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكانوا يربون، فلما ظهر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الطائف وصالح ثقيفا أسلم هؤلاء الأربعة الأخوة وطلبوا رباهم من بني المغيرة، فقالت بنو المغيرة: والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله ورسوله عن المؤمنين، فما يجعلنا أشقى الناس بهذا، فاختصموا إلى عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة.
وكان عامل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على مكّة وقال: «أبعثك على أهل الله» فكتب عتّاب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقصّة الفريقين وكان ذلك مالا عظيما فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا
وذر لفظ تهديد، وقرأ الحسن ما بقي بالألف وهي لغة طيئ، ويقول للحجارية:
جاراة، وللناصية: ناصاة.
قال الشاعر منهم:
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقا ... على الأرض قيسي يسوق الأباعرا «1»
إِنْ كُنْتُمْ إذا كنتم مُؤْمِنِينَ كقوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ «2» فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فإنّ لم تذروا ما بقي من الربا فَأْذَنُوا قرأ الأعمش وعاصم وحمزة رواية أبي بكر فَآذَنُوا ممدودا على وزن آمنوا
وقرأ الباقون فَأْذَنُوا مقصورا مفتوح الذال، وهي قراءة علي واختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
فمن قصر معناه: فاعلموا أنتم واسمعوا، يقال: أذن الشيء يأذن أذنا وأذانة إذا سمعه وعلمه. قال الله: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ «3» . ومن مدّ معناه: فاعلموا غيركم. قال الله تعالى:
قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ «4» .
وأصل الكلمة من الأذن أي أقعوه في الأذان.
بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لا تأكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وروى الوالبي عنه قال: من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه، فحقّ على إمام المسلمين أن يستتيبه فإنّ نزع وإلّا ضرب عنقه.
وقال أهل المعاني: حرب الله النار وحرب رسوله السيف وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ بطلب الزيادة وَلا تُظْلَمُونَ النقصان عن رأس المال. وروى آبان والمفضّل عن عاصم بضم التاء الأولى وفتح الثانية. قال أهل المعاني أنّها شرط التوبة لأنّهم أن لم يتوبوا كفروا بردّ حكم الله واستحلال ما حرّم الله فيصير مالهم فيأ للمسلمين. فلما نزلت هذه الآيات
__________
(1) تفسير الطبري: 11/ 127.
(2) سورة آل عمران: 139.
(3) سورة الانشقاق: 2.
(4) سورة فصّلت: 47. [.....](2/285)
قالت بنو عمرو [بن عمير لبني المغيرة:] بل نتوب إلى الله فإنّه ليس لنا يدان بحرب الله وحرب رسوله فرضوا برأس المال وسلّموا لأمر الله فشكى بنو المغيرة العسرة وقالوا: أخرونا إلى أن ندرك الغلات، فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله:
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ رفع الكلام باسم كان ولم يأت لها بخبر وذلك جائز في النكرة.
يقول العرب: إنّ كان رجل صالح فأكرمه، وقيل: كان لمعنى وقع الحدث وحينئذ لا يحتاج إلى الخبر.
وقرأ أبي وابن مسعود وابن عباس: إنّ كان ذا عسرة على إضمار الإسم وان الغريم أو المطلوب ذا عسرة. وقرأ آبان بن عثمان: ومن كان ذا عسرة لهذه الغلّة. وقرأ الأعمش: وإن كان معسر وهو دليل قراءة العامّة.
والعسرة: الفقر والضيق والشدّة. وقرأ أبو جعفر: عسُرة بضم السين، وهما لغتان.
فَنَظِرَةٌ أمر في صيغة الخبر، والفاء فيه لجواب الشرط تقديره: فعليه نظرة، أي قال:
واجب نظره بالنصب على معنى فلينظر نظرة لكان صوابا كقوله فَضَرْبَ الرِّقابِ، والنظرة:
الإنظار.
وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة: فناظرة بكسر الضاد ورفع الراء والهاء أي منتظرة. وقرأ عطاء بن أبي رباح: فنظْرة ساكنة الظاء وهي مصدر يجوز أن يكون من النظر والانتظار جميعا.
إِلى مَيْسَرَةٍ قرأ عطاء وشيبة ونافع وحميد بن محيص: مَيْسُرَةٍ بضم السين والتنوين.
وقرأ عمر وعلي وأبو رجاء والحسن وقتادة وعبد الله بن مسلم وأبو جعفر وأبن كثير وابن عامر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو ويعقوب وأيوب: مَيْسَرَةٍ بالتنوين وفتح السين
وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّها اللغة السائرة. وقرأ مجاهد وأبو سراح الهذلي: (ميسُره) بضم السين مضافا هو مثله روى زيد عن يعقوب، وروى الأعمش عن عاصم عن زرّ عن عبد الله أنّه كان يقرأها: فناظروه إلى ميسورة، وكلّها لغات معناها اليسار والغنى والسعة.
وَأَنْ تَصَدَّقُوا رؤوس أموالكم على المعسر فلا تطالبونه بها خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وقرأ عاصم: تَصَدَّقُوا بتخفيف الصاد. الباقون بتشديده.
ذكر حكم الآية
أمر الله تعالى بانظار المعسر فمتى ما أعسر الرجل وتبيّن إعساره، فلا سبيل لرب المال إلى مطالبته بماله إلى أن يظهر يساره، فإذا ظهر يساره كان عليه توفير الحق إلى ربّ المال وعلم أنّ الحقوق [تخلف] وكلّ حق لزم الإنسان عوضا عن مال حصل في يده مثل قرض أو ابتياع(2/286)
سلعة، فإذا ادّعى الإعسار لزمته البيّنة على الإعسار لأنّ الأصل فيه استغناؤه بحصول ما صار في يده، وكلّ حق لزمه من غير حصول مال في يده كالمهر والضمان، فإذا ادّعى الإعسار لزم ربّ المال أمامه البيّنة على كونه موسرا لأن الأصل في الناس الفقر، وإذا لم يعلم له حالة استغناء كان الحكم فيه البقاء على أصل ما كان عليه إلى أن يتبيّن يساره.
وقال الحسن: إذا قال: أنا معدم، فالقول قوله مع يمينه وعلى غرامه إظهار ماله ببيّنة أو عيان.
وكان أبو حنيفة يرى أن يحبس شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه في السرّ، فإنّ تبيّن أنّه معسر خلّى عنه.
ودليل من قال: لا يحبس،
حديث أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في ثمار فكثر دينه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا ما وجدتم ليس لكم إلّا ذلك» .
وكان أبو هريرة على قضاء المدينة فأتاه رجل بغريم فقال: أريد أن تحبسه.
قال: هل تعلم له عين مال نأخذه منه فنعطيك؟
قال: لا، قال: فهل تعلم له أصل مال فنبيعه ونعطيك؟
قال: لا، قال: فما تريد، قال: أريد أن تحبسه، قال: «لكنّي ادعه يطلب لك ولنفسه وعياله فإذا أيسر لزمه قضاء الدين» .
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) : «من مشى إلى غريمه بحقّه صلت عليه دواب الأرض ونون الماء وكتب الله عزّ وجلّ بكلّ خطوة شجرة يغرس له في الجنّة وذنبا يغفر له فإنّ لم يفعل ومطل فهو متعدّ» [204] «1» .
أبو الزياد الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الظلم مطل الغنى فإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع» [205] «2» .
في فضل إنظار المعسر
زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أنظر معسرا أو وضع له، أظلّه الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه» «3»
، وعن ابن عمر قال: قال رسول
__________
(1) كنز العمال: 6/ 226 ح 15461.
(2) مسند أحمد: 2/ 315، وسنن ابن ماجة: 2/ 803 ح 2403.
(3) سنن الترمذي: 2/ 385.(2/287)
الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أحب أن يستجاب دعوته ويكشف كربته فلييسّر على المعسر» [206] «1» .
ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال: أتى الله عزّ وجلّ بعبده يوم القيامة فقال أي ربّ ما عملت لك خيرا قط أريدك به إلّا إنّك رزقتني مالا فكنت أتوسّع على المعسر. وأنظر المعسر، فيقول الله عزّ وجلّ: أنا أحق بذلك منك فتجاوزوا عن عبدي.
قال: فقال أبو مسعود الانصاري: فاشهد على رسول الله أنّه سمعه منه.
الأعمش عن أبي داود عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة» ثم قال بعد ذلك: «من أنظر معسرا كان له بكلّ يوم مثل الذي أنظره صدقة» قال: فقلت:
يا رسول الله قلت: من أنظر معسرا فله بكلّ يوم صدقة، ثم قلت: من أنظر معسرا كان له بكلّ يوم مثل الذي أنظره صدقة.
قال: «إن قولي بكل يوم صدقة قبل الأجل، وقولي بكل يوم مثل الذي أنظره صدقة بعد الأجل»
وعن سعيد بن أبي سعيد عن أخيه عن أبيه: أن جابر بن عبد الله خرج إلى غريم له يتقاضاه فقال هاهنا [حقّي] ، فقالوا: لا فتنحّى فلم يلبث أن خرج مستحييا منه فقال: ما حملك على أن تحبسني حقّي وتغيّب وجهك عنّي؟ قال: العسرة، قال: قال الله: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ، فأخرج كتابه فمحاه.
فصل في الدّين
جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ مع الدائن حتّى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكره الله عزّ وجلّ» قال: فكان عبد الله بن جعفر يقول لخازنه: أذهب فخذ لنا بدين فإني أكره أن أبيت ليلة إلّا والله عزّ وجلّ معي منذ سمعت هذا الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» .
عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أدان دينا وهو ينوي أن لا يؤدّيه فهو سارق» [207] «3» .
عثمان بن عبد الله عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه: إنّ رجلا أتى به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليصلّي عليه، فقال: «صلّوا على صاحبكم فإنّ عليه دينا» قال أبو قتادة: فأنا أكفل به، قال: «بالوفاء» ، قال بالوفاء فصلّى عليه وكان عليه ثمانية عشر درهما أو سبعة عشر درهما.
__________
(1) مسند أبي يعلى: 10/ 78.
(2) السنن الكبرى للبيهقي: 5/ 355.
(3) كنز العمال: 16/ 322 ح 44724 بتفاوت يسير.(2/288)
وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أعوذ بالله من الكفر والدين» فقال رجل: يا رسول الله يعدل الدين بالكفر؟
قال: «نعم» «1» .
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدين راية الله في الأرض، فإذا أراد أن يذلّ عبده ابتلاه بالدين وجعله في عنقه» «2» .
وعن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من خطيئة أعظم عند الله بعد الكبائر من أن يموت الرجل وعليه أموال الناس دينا في عنقه لا يوجد لها قضاء» .
يزيد بن أبي خالد عن ابن أيوب عن أنس بن مالك: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والدين فإنّه هم بالليل ومذلّة بالنهار» «3» .
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ قرأ أبو بحرية وابو عمرو وسلام ويعقوب:
تَرْجِعُونَ بفتح التاء واعتبروا بقراءة أبيّ (فاتقوا يوما تصيرون فيه إلى الله) . وقرأ الآخرون بضمّ التاء اعتبارا بقراءة عبد الله. (واتقوا يوما تردّون فيه إلى الله) .
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ قال: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال جبرائيل: ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة.
سفيان عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس قال: [هذه] آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فصل في تفصيل آخر ما نزل من القرآن
قال المفسّرون: لمّا نزلت هذه الآية إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «4» قال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) : «ليتني أعلم متّى يكون ذلك» «5» فأنزل الله تعالى سورة النصر، فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) بعد نزول هذه السورة يسكت من التكبير والقراءة فيقول فيها: «سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» فقيل: إنّك لم تكن تقوله يا رسول الله قبل هذا، قال:
«إنّها نفسي نعيت إلي» ثمّ بكى بكاء شديدا فقيل: يا رسول الله أو تبكي من الموت وقد عفا الله
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 38.
(2) كنز العمال: 6/ 231 ح 15478 بتفاوت يسير.
(3) كنز العمال: 6/ 232 ح 15483.
(4) سورة الزمر: 30.
(5) تفسير مجمع البيان: 2/ 214.(2/289)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
لك ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، قال: «فأين هول المطلع فأين ضيق القبر وظلمة اللحد فأين القيامة والأهوال» فعاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستة أشهر ثم لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حجّة الوداع نزلت عليه في الطريق يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «1» إلى آخرها فسمّى آية الصيف.
ثم نزل عليه وهو واقف بعرفة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «2» الآية فعاش بعدها أحدا وثمانين يوما، ثم نزلت عليه آيات الربا، ثم نزلت بعدها وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وهي آخر آية نزلت من السماء، فعاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها أحدا وعشرين يوما.
قال ابن جريج: تسع ليال. سعيد بن جبير ومقاتل: سبع ليال ثم مات يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل حين زاغت الشمس سنة أحدى عشرة من الهجرة وأحدى من ملك أردشير شيرون بن أبرويز بن هرمز بن نوشروان.
[سورة البقرة (2) : آية 282]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ قال ابن عباس: لمّا حرّم الله الربا، أباح السلم، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ أي داين بعضكم بعضا، والدين ما كان مؤجّلا والعين ما كان حاضرا، يقال: دان فلانا يدينه، إذا أعطاه الدين فهو دائن، والمعطا مدين ومديون. قوله إِذا تَدايَنْتُمْ يدخل فيه الدين والنسيئة والسلم وما كان مؤجّلا من الحقوق.
فإنّما قال: بِدَيْنٍ والمداينة لا تكون إلّا بدين لأنّ المداينة قد [تكون] «3» مجازاة وتكون معاطاة فأبان ذلك وقيّده بقوله بِدَيْنٍ.
وقيل: هو بمعنى التأكيد كقوله: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «4» وقوله:
__________
(1) سورة النساء: 176.
(2) سورة المائدة: 3.
(3) غير مقروءة في المخطوط والظاهر ما أثبتناه. [.....]
(4) سورة الأنعام: 38.(2/290)
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ «1» .
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت معلوم فَاكْتُبُوهُ أي اكتبوا الذي تداينتم به بيعا كان أو قرضا لئلّا يقع فيه جحود ولا نسيان ولا تدافع.
واختلفوا في هذا الكتابة، هل هي واجبة أم لا؟ فقال بعضهم: فرض واجب، قال ابن جريج: من أدان فليكتب، ومن باع فليشهد. وهذا القول اختيار محمد بن جرير الطبري، يدلّ عليه ما
روى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم:
رجل كانت عنده امرأة سيئة الخلق فلم يطلّقها. ورجل كان له دين فلم يشهد، ورجل أعطى سفيها مالا، وقد قال الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ «2» » .
قال قوم: هو أمر استحباب وتخيير فإن كتب فحسن وإن ترك فلا بأس.
كقوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «3» . وقوله: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «4» . هو اختيار الفراء.
وقال آخرون: كان كتاب الدين والإشهاد والرهن فرضا ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ «5» وهو قول الشعبي.
ثم بيّن كيفيّة الكتابة فقال عزّ من قائل: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وقرأ الحسن وَلْيَكْتِبْ بكسر اللام، وهذه اللام، لام الأمر ولا يؤمر بها غير الغائب، وهي إذا كانت مفردة فليس فيها إلّا الحركة، فإذا كانت قبلها واو أو فاء أو ثم، فأكثر العرب على تسكينها طلبا للخفّة ومنهم من يكسرها على الأصل.
ومعنى الآية: وَلْيَكْتُبْ كتاب الدين. بيع البائع والمشتري والطالب والمطلوب. كاتِبٌ بِالْعَدْلِ أي بالحق والإنصاف فلا يزيد فيه ولا ينقص منه ولا يقدّم الأجل ولا يؤخّره ولا يكتب به شيئا يبطل به حقّا لأحدهما لا يعلمه هو.
وَلا يَأْبَ ولا يمتنع كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وذلك إنّ الكتّاب كانوا قليلا علي عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) سورة الحجر: 30.
(2) المستدرك: 2/ 302.
(3) سورة المائدة: 2.
(4) سورة الجمعة: 10.
(5) سورة البقرة: 283.(2/291)
واختلف العلماء في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد، فقال مجاهد والربيع: واجب على الكاتب أن يكتب إذ أمر. وقال الحسن: ذلك في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع، فإذا كان كذلك فهو فريضة، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره.
وقال الضحاك: كانت هذه عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. السدي: هو واجب عليه في حال فراغه.
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. المديون والمطلوب يقرّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه، والإملال والإملاء لغتان فصيحتان جاء بهما القرآن.
قال الله تعالى: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا «1» .
أصل الإملال: إعادة الشيء مرّة بعد مرّة والإلحاح عليه. قال الشاعر:
ألّا يا ديار الحيّ بالسبعان ... أملّ عليها بالبلى الملوان «2»
ثم خوّفه فقال: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً. أي لا ينقص من الحقّ الذي عليه شيئا، يقال: بخسه حقّه وبخسه إذا أنقصه ونظائرها في القرآن كثيرة.
فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. يعني وإن كان المطلوب الذي عليه المال سَفِيهاً.
جاهلا بالمال. قاله مجاهد، وقال الضحاك والسدي: طفلا صغيرا أَوْ ضَعِيفاً. أو شيخا كبيرا. السدي وابن زيد: يعني عاجزا أحمق أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ. لخرس أو عيّ أو غيبة أو عجمة أو زمانة أو حبس لا يمكنه حضور الكتاب أو جهل ماله عليه فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ. أي قيّمه ووارثه.
ابن عبّاس والربيع ومقاتل: يعني فليملل وليّ الحق وصاحب الدين لأنّه أعلم بدينه بِالْعَدْلِ بالصدق والحق والإنصاف وَاسْتَشْهِدُوا. هذا السين للسؤال والطلب شَهِيدَيْنِ.
شاهدين مِنْ رِجالِكُمْ. يعني الأحرار البالغين دون العبيد والصبيان ودون أحرار الكفّار. وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وسفيان وأكثر الفقهاء.
وأجاز شريح وابن سيرين بشهادة العبد وهو قول أنس بن مالك. وأجاز بعضهم شهادتهم في الشيء التافه. فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ. يعني فإنّ لم يكن الشاهدان رجلين فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ. أو فليشهد رجل وامرأتان.
__________
(1) سورة الفرقان: 5.
(2) الصحاح: 3/ 1227.(2/292)
وأجمع الفقهاء على أنّ شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال، واختلفوا في غير الأموال. وكان مالك والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأحمد لا يجزونها إلّا في الأموال. وكان أبو حنيفة وسفيان وأصحابهما يجيزون شهادتين مع الرجل في كلّ شيء ما عدا الحدود والقصاص. مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ. يعني من كان مرضيّا في ديانته وأمانته وكفائته.
قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: من أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا فأجبناه عليه ومن أظهر لنا شرّا ظننا به شرّا وأبغضناه عليه، وإذا حمد الرجل جاره وقرائبه ورفيقه فلا تشكّوا في صلاحه.
وقال إبراهيم النخعي: العدل: من لم يظهر منه ريبة. وقال الشعبي: العدل: من لم يطعن عليه في بطن ولا فرج.
وقال الحسن: هو من لم يعلم له خزية.
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرّب عليه شهادة زور ولا التابع مع أهل البيت- يعني الخادم لهم-[ولا الظنين في ولاء ولا قرابة] » «1» .
وجملة القول فيمن تقبل شهادته: أن تجتمع فيه عشر خصال: يكون حرّا بالغا مسلما عدلا عالما بما يشهد به ولا يجز بشهادته إلى نفسه منفعة ولا يدفع عن نفسه مضرّة ولا يكون معروفا بكثرة الغلط ولا يترك المروءة ولا يكون عنده لين [ولا] يشهد عليه عبده، فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال كان مقبول القول جائز الشهادة.
وتقبل شهادة النساء على الانفراد لا رجل معهن في أربع مواضع: عيوب النساء وهو ما يكون عيبا في موضع هي عورة منها- في الحرّة في جميع بدنها إلّا وجهها وكفّيها، ومن الأمة ما بين سرّتها إلى ركبتها- وفي الرضاع، وفي الولادة، وفي الاستهلال.
ولا خلاف في ذلك كلّه إلّا في الرضاع. وان أبا حنيفة ذهب إلى أنّ شهادة النساء على الانفراد لا تقبل فيه حتّى يشهد رجلان أو رجل وامرأتان.
وأمّا صفة الشهادة
فروى طاوس عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الشهادة فقال: «ترى الشمس» ؟
قال: نعم، قال: «على مثلها فاشهد أو دع»
«2»
وعن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكرموا الشهود فإنّ الله عزّ وجلّ يستخرج بهم
__________
(1) كنز العمال: 7/ 15 ح 17747.
(2) كنز العمال: 7/ 23 ح 17782.(2/293)
الحقوق ويدفع بهم الظلم» [208] «1» .
خارجة بن نور عن عبد الرحمن بن عبيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حبس ذكر حقّ بعد ما تقبض ما فيه ثلاثا فعليه قيراط من الإثم» [209] .
أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى. قرأ الأعمش وحمزة: «إِنْ» بكسر الألف (فتذكرُ) رفعا، ومعناه الجزاء والابتداء، وموضع (تَضِلَّ) جزم للجزاء إلّا أنّه لا يتبيّن في التضعيف (فَتُذَكِّرَ) رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ.
وقراءة العامّة بنصب الألف، فالفاء على الاتصال بالكلام الأوّل وموضع (أَنْ) نصب بنزع حرف الصفة يعني لأنّ، و (تَضِلَّ) محلّه نصب بأن (فَتُذَكِّرَ) مسوّق عليه. ومعنى الآية: فرجل وامرأتان كي تذكّر إحداهما الأخرى إنّ ضلّت.
وهذا من المقدّم والمؤخّر، كقولك: إنّه ليعجبني أن يسأل فيعطى، يعني: يعجبني أن تعطي السائل إذا سأل لأن العطاء تعجّب لا السؤال. قال الله: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا «2» الآية.
ومعناه: لولا أن يقولوا إذا أصابتهم مصيبة: هلّا أرسلت إلينا رسولا.
ومعنى قوله (أَنْ تَضِلَّ) : أي تنسى، كقوله: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى «3» . وقوله: قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ «4» وحَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا «5» وذهاب قول العرب: ضلّ الماء في اللبن، وقال الله: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «6» وقرأ عاصم الجحدري: أن تُضلّ أحداهما بضمّ التاء وفتح الضاد على المجهول، وقرأ زيد بن أسلم: فتذكّر من المذاكرة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأبو حاتم وقتيبة: فتذكر خفيفه، وقرأ الباقون مشددا.
وذكّر وأذكر بمعنى واحد كما يقال: نزّل وأنزل وكرّم وأكرم، وهما معها الذكر الذي هو [ضد] النسيان قال الشاعر:
تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا غربها أفل «7»
__________
(1) كنز العمال: 7/ 12 ح 17733.
(2) سورة القصص: 47.
(3) سورة طه: 52.
(4) سورة الشعراء: 20. [.....]
(5) سورة النحل: 36.
(6) سورة السجدة: 10.
(7) تفسير القرطبي: 14/ 118.(2/294)
قال أبو عبيد: حدثت عن سفيان بن عينية أنّه قال: هو من الذكر، يعني أنّها إذا شهدت مع أخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر.
قلت: هذا القول لا يعجبني لأنّه معطوف على النسيان والله أعلم.
وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا. قال بعضهم: هذا في محمل الشهادة وهو أمر إيجاب.
قال قتادة والربيع: كان الرجل يطوف في الحيّ العظيم فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتّبعه أحد منهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الشعبي: هو مخيّر في تحمّل الشهادة إذا وجد غيره، فإن شاء شهد وإن شاء لم يشهد، فإذا لم يوجد غيره فترك إلّا ما فرض عليه. وقال بعضهم: هذا أمر ندب وهو مخيّر في جميع الأحوال إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد. وهو قول عطاء وعطيّة.
وقال أبو بحريّة: قلت للحسن: أدعى إلى الشهادة وأنا كاره، قال: فلا تجب ولا تشهد إن شئت. وقال مغيرة: قلت لإبراهيم: إنّي أدعى إلى الشهادة وإنّي أخاف أن أنسى، قال: فلا تشهد أن تحب.
وقال بعضهم: هذا في إقامة الشهادة وأدائها، ومعنى الآية: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا لإقامة الشهادة إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك. وهو قول مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي، وروى سفيان عن جابر عن عامر قال الشاهد بالخيار ما لم يشهد. وقال الحسن والسدي هذه الآية في الأمرين جميعا في التحمّل والاقامة إذا كان فارغا.
وَلا تَسْئَمُوا. ولا تملّوا يقال: سئمت أسأم سأما وسأمة، قال زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
وقال لبيد:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد
وأن في محلّ النصب من وجهين: إن شئت جعلته مع الفعل مصدرا وأوقعت السآمة عليه، تقديره: ولا تسأموا كتابته، وإن شئت نصبت بنزع حروف الصفة، تقديره: ولا تسأموا من أن تكتبوه، والهاء راجع إلى الحق.
وقرأ السلمي: ولا يسأموا بالياء.
صَغِيراً. كان الحقّ أَوْ كَبِيراً. قليلا كان المال أو كثيرا، وانتصاب الصغير والكبير من وجهين: أحدهما على الحال والقطع من الهاء، والثاني أن تجعله خبرا لكان وأضمر، يعني:
وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً كان الحق أَوْ كَبِيراً(2/295)
إِلى أَجَلِهِ
. إلى محلّ الحق ذلِكُمْ. الكتاب أَقْسَطُ. أعدل عِنْدَ اللَّهِ. لأنّه أمر به، واتباع أمره أعدل من تركه وَأَقْوَمُ. وأصوب لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى. وأحرى وأقرب إلى أَلَّا تَرْتابُوا. تشكّوا في الشهادة ومبلغ الحق والأجل إذا كان مكتوبا، نظير قوله: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها «1» وهو أفعل من الدنو، ثم استثنى فقال:
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً. قرأها عاصم بالنصب على خبر كان وأضمر الاسم، مجازه: إلّا أن تكون التجارة تجارة، والمبايعة تجارة. وأنشد الفراء:
لله قومي أي قوم بحرة ... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا «2»
أي إذا كان اليوم يوما. وأنشد أيضا:
أعينيّ هل تبكيان عفاقا ... إذا كان طعنا بينهم وعناقا «3»
أراد إذا كان الأمر.
وقرأ الباقون بالرفع على وجهين: أحدهما: أن يكون معنى الكون الوقوع، أراد: إلّا أن تقع تجارة، وحينئذ لا خبر له.
والثاني: أن يجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل، وهو قوله تعالى: تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ تقديره: إلّا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم، ومعنى الآية: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً يدا بيد تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ ليس فيها أجل ولا نسيئة.
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها. يعني التجارة وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ. قال الضحاك: هو عزم من الله عزّ وجلّ، والاشهاد واجب في صغير الحق وكبيره نقده ونسأه ولو على باقة بقل وهو اختيار محمد بن جرير.
وقال أبو سعيد الخدري: الأمر فيه إلى الامانة. قال الله فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. وقال الآخرون: هو أمر ندب إن شاء أشهد وإن لم يشاء لم يشهد ثم قال:
وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. هو نهي الغائب، وأصله يضارر فأدغمت الراء في الراء ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين، والفتح أخفّ الحركات فحركت إليه.
وأما تفسير الآية، فأجراها بعضهم على الفعل المعروف، وقال: أصله يضارر بكسر الراء وجعل الفاعل الكاتب والشهيد، معناه: وَلا [يُضَارَّ] كاتِبٌ فيكتب ما لم يملل عليه يزيد أو ينقص
__________
(1) سورة المائدة: 107.
(2) تفسير الطبري: 3/ 180.
(3) جامع البيان: 3/ 179.(2/296)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
أو يحرّف، وَلا شَهِيدٌ فيشهد ما لم يشهد عليه أو يمتنع من إقامة الشهادة، وهذا قول طاوس والحسن وقتادة وابن زيد. وأجراه آخرون على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين وقالوا: أصله لا يضار.
ومعنى الآية: هو أن الرجل يدعوا الكاتب أو الشهيد وهما على حاجة مهمّة فيقولان: إنا مشغولان فاطلب غيرنا، فيقول الذي يدعوه: إن الله أمر كما أن تجيبا في الكتابة والشهادة ويلحّ عليهما ويشغلهما عن حاجتهما فنهى الله عزّ وجلّ [عن مضارتهما] وأمر أن يطالب غيرهما.
وقال الربيع بن أنس: لما نزلت هذه الآية وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا. كان أحدهما يجيء إلى الكاتب فيقول له: أكتب، فيقول: إنّي مشغول، أو لي حاجة فانطلق إلى غيري، فيلزمه ويقول: إنّك قد أمرت بالكتابة، فلا يدعه فيضاره بذلك وهو يجد غيره. وكذلك يفعل مع الشاهد، فأنزل الله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ.
ودليل هذا التأويل قراءة عمر وأبيّ وابن مسعود ومجاهد: ولا يضارر كاتب ولا شهيد بإظهار التضعيف على وجه ما لم يمنع [وَلا يُضَارَّ] .
وقرأ أبو جعفر: ولا يضارْ، مجزوما مخفّفا القى راء واحدة أصلا، وقرأ الحسن ولا يضارِّ بكسر الراء مشدّدا.
وَإِنْ تَفْعَلُوا. ما نهيتكم عنه من الضراء فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ. خروج عن الأمر وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 283 الى 286]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً. قرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد: كتابا،(2/297)
وقالوا: ربّما وجد الكاتب ولم يجد المداد ولا الصحيفة، وقالوا: لم تكن [قبيلة] من العرب إلّا كان فيهم كاتب ولكن كانوا لا يقدرون على القلم والدواة.
وقرأ الضحاك: كتّابا على جمع الكاتب. وقرأ الباقون: كاتِباً على الواحد وهو الأنسب مع المصحف.
فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ. قرأ ابن عباس وإبراهيم وزر بن حبيش ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو: فرُهُن بضم الراء والهاء. وقرأ عكرمة والمنهال وعبد الوارث: فرُهْن بضم الراء وجزم الهاء، وقرأ الباقون: فَرِهانٌ وهو جمع الرهن، ذلك [نحو] فعل وفعال، وحبل وحبال وكبش وكباش، وكعب وكعّاب.
والرهن جمع الرهان: جمع الجمع، قاله الفراء والكسائي. وقال غيرهما وأبو عبيدة: هو جمع الرهن. قالوا: ولم نجد فعلا يجمع على فعل إلّا ثمانية أحرف: خلق وخلق، وسقف وسقف، وقلب وقلب، [وجد وجد بمعنى الحظ، وثط وثط، وورد وورد،] ونسر ونسر. ورهن ورهن.
قال الأخطل وعمرو بن أبي عوف: [ ... ] «1»
به حتّى يغادره العقبان والنسر.
وأنشد الفراء:
حتّى إذا بلّت حلاقيم الحلق ... أهوى لأدنى فقرة على شفق
وقال أبو عمرو: وإنّما قرأنا (فرهن) ليكون قرفا [بينها وبين] رهان الخيل، وأنشد لقعنب ابن أم الصاحب:
بانت سعاد وأمسى دونها عدن ... وغلّقت عندها من قلبك الرهن «2»
أي وحب لها.
والتخفيف والتثقيل في الرهن لغتان مثل كتّب وكتب ورسّل ورسل.
ومعنى الآية: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً الآن للكتابة فارتهنوا ممن تداينونه رهونا ليكون وثيقة لكم بأموالكم. وأجمعوا: إن الرهن لا يصح إلّا بالقبض، وقال مجاهد: ليس الرهن إلّا في السفر عند عدم الكاتب. وأجاز غيره في جميع الأحوال.
ورهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم درعه عند يهوديّ.
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. مدني. حرف أبيّ، فإن أمن. يعني: فإن كان الذي عليه
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) تفسير الطبري: 3/ 189، وتاج العروس: 9/ 222.(2/298)
الحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئا لثقته وحسن ظنّه فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ. أفتعل من الأمانة، وهي الثقة كتبت همزتها واوا لاضمام ما قبلها أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ. في أداء الحق.
ثم رجع إلى خطاب الشهود فقال: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ. إذا دعيتم إلى إقامتها، وقرأ السلمي: ولا يكتموا بالياء ومثله يعملون.
ثم ذكر وعيد كتمان الشهادة فقال عزّ من قائل: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ. فاجر قلبه وهو ابتداء وخبر. وقرأ إبراهيم بن أبي عيلة: فإنّه أثم قلبه على وزن أفعل أي جعل قلبه أثما.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. من بيان الشهادة وكتمانها.
روى مكحول عن أبي بردة عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كتم الشهادة إذا دعي، كان كمن شهد بالزور» «1» .
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. الآية. اختلف العلماء في هذه الآية، فقال قوم:
هي خاصة. ثم اختلفوا في وجه خصوصها، فقال بعضهم: نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها يعني: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ. أيّها الشهود من كتمان الشهادة أَوْ تُخْفُوهُ. الكتمان يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. وهو قول الشعبي وعكرمة ورواية مجاهد ومقسم عن ابن عباس، يدلّ عليه قوله فيما قبله: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ.
وقال بعضهم: نزلت هذه الآية فيمن يتولّى الكافرين من المؤمنين. يعني: وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفّار أو تستروه يحاسبكم الله. وهو قول مقاتل والواقدي. يدلّ عليه قوله في آل عمران: [قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ. من ولاية الكفّار يَعْلَمْهُ اللَّهُ] «2» يدلّ عليه ما قبله.
وقال آخرون: هذه الآية عامّة. ثم اختلفوا في وجه عمومها، فقال بعضهم: هي منسوخة.
روت الرواية بألفاظ مختلفة.
قال: لمّا نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وناس من الأنصار إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله والله ما نزلت آية أشد علينا من هذه الآية وإنّا لا نسر أن يكون لأحدنا الدنيا وما فيها وإنّا لمأخوذون ما نحدّث به أنفسنا هلكنا والله، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا نزلت» . قالوا: هلكنا وكلّفنا من العمل ما لا نطيق.
قال: «فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام سَمِعْنا وَعَصَيْنا، بل قولوا:
سَمِعْنا وَأَطَعْنا» [210] .
__________
(1) مجمع الزوائد: 4/ 200، والمعجم الأوسط: 4/ 270.
(2) سورة آل عمران: 29.(2/299)
واشتد ذلك عليهم فمكثوا بذلك حولا، فأنزل الله عزّ وجلّ الفرج والراحة بقوله تعالى:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. فنسخت الآية ما قبلها.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ قد تجاوز لأمّتي ما حدّثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلّموا به» «1» .
وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وابن عباس برواية سعيد بن جبير وعطاء، ومن التابعين وأتباعهم محمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وقتادة والكلبي وشيبة.
قال سعيد بن مرجانة: بينما نحن جلوس عند عبد الله بن عمر إذ تلا هذه الآية وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ.
فقال ابن عمر: إن أخذنا الله بها لنهلكن، ثم بكا حتّى سمع. قال ابن مرجانة: فذكرت ذلك لابن عباس فقال: يغفر الله لأبي عبد الرحمن فقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد فأنزل الله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. وكانت الوسوسة ممّا لا طاقة للمسلمين بها، فصار الأمر إلى القول والفعل به فنسخت تلك الآية.
وقال بعضهم: هذه الآية محكمة غير منسوخة، لأن النسخ والأخبار غير جائز إلّا في خبر فيه أمر أو نهي أو شرط. ثم اختلفوا في وجه تأويلها فقال قوم من أهل المعاني: قد اثبت الله عزّ وجلّ للقلب كسبا فقال: بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ. وكلّ عامل مأخوذ بكسبه ومجازى على عمله، [فلا تظنّ] الله عزّ وجلّ بتارك عبدا يوم القيامة أسرّ أمرا أو أعلنه من حركة في جوارحه أو [همسة] في قلبه دون أن يعرّفه إياه ويخبره به، ثم يغفر ما شاء لمن يشاء ويعذّب من شاء بما يشاء.
معنى الآية: وإن تظهروا ما في أنفسكم من [المعاصي] فتعملوه أي تضمروا إرادتها في أنفسكم فتخفوها يخبركم به ويحاسبكم عليه، ثم يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء.
وهذا معنى قول الحسن، والربيع، وقيس بن أبي حازم، ورواية الضحاك عن ابن عباس، يدلّ عليه قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «2» .
وقال آخرون: معنى الآية إن الله تعالى يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم وأخفوه، ويعاقبهم عليه غير أن معاقبته إيّاهم على ما أخفوه ممّا لم يعملوها، بما يحدث في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها ويألمون بها، وهذا قول عائشة،
روي بأنّها سئلت عن هذه الآية فقالت: ما سألت عنها أحد فقد سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 61.
(2) سورة الإسراء: 36.(2/300)
عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمّى والنكبة حتّى الشوكة والبضاعة يضعها في [جيبه] فيفقدها فيفرغ لها فيجدها في جيبه، حتّى أن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكيس [211] «1» » .
يدلّ عليه قوله مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ «2» يعني في الدنيا.
وقال مجاهد: في رواية منصور وابن أبي جريج قال: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ. يعني من اليقين والشك.
وقال جعفر بن محمد: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ. يعني الإسلام أَوْ تُخْفُوهُ. يعني الإيمان.
وقال بعضهم: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ. يعني ما في قلوبكم ممّا عرفتم وعقدتم عليه أَوْ تُخْفُوهُ. فلا تبدوه وأنتم مجمعون وعازمون عليه، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، فأمّا ما حدّثتم به أنفسكم ممّا لم تعزموا عليه فإن ذلك ممّا لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ولا يؤاخذ به. ودليل هذا التأويل قوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ «3» .
وعن عبد بن المبارك قال: قلت لسفيان: ليؤاخذ العبد بالهمّة، قال: إذا كان عزما أخذ بها. وعن عمرو بن جرير قال: خرجت وأنا شاب لأمر هممت به، فمررت بأبي طالب القاص والناس مجتمعون عليه وكان أوّل شيء تكلّم به أن قال: أيّها الهامّ بالمعصية علمت أن خالق الهمّة مطّلع على همّتك، قال: فخررت والله مغشيّا عليّ، فما أفقت إلّا عن توبة.
وعن إسماعيل بن أبي خالد قال: أصابت بني إسرائيل مجاعة فمرّ رجل على رمل فقال:
[وددت] أن هذا الرمل دقيق لي فأطعمه بني إسرائيل، فأعطي على نيّته «4» .
وعن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان رجل يطوف على العلماء، يقول: من يدلّني على عمل لا أزال منه عاملا لله عزّ وجلّ فإنّي أحب أن لا تأتي عليّ ساعة من الليل والنهار إلّا وأنا عامل، فقيل له: قد وجدت حاجتك فأعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت أو تركته فهمّ بعمله إنّ الهامّ بعمل الخير كعامله. وهذا يعني
قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «نيّة المؤمن خير من عمله»
[212] «5» لأن العمل ينقطع والنيّة لا تنقطع.
__________
(1) تفسير الطبري: 5/ 399.
(2) سورة النساء: 123. [.....]
(3) سورة البقرة: 225.
(4) المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 317.
(5) كنز العمال: 3/ 419 ح 7236.(2/301)
وقال محمد بن علي: معنى الآية: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ. من الأعمال الظاهرة أَوْ تُخْفُوهُ من الأحوال الباطنة، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. العابد على أفعاله والعارف على أحواله.
وقال بعضهم: إنّ الله يقول يوم القيامة: [يَوْمَ] تُبْلَى السَّرائِرُ وتخرج الضمائر، وأن كتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلّا ما ظهر منها، وأنا مطّلع على سرائركم ما لم يعلموه ولم يكتبوه فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم عليه لتعلموا أنّه لا يعزب عنّي مثقال ذرة من أعمالكم ثم أغفر لمن شئت وأعذّب من شئت.
فأمّا المؤمنون فيخبرهم بذلك ويغفر لهم ولا يؤاخذهم بذلك إظهارا لفضله، وأمّا الكافرون فيخبرهم بها ويعاقبهم عليها إظهارا لعدله.
فمعنى الآية: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ فتعملوا به أَوْ تُخْفُوهُ ممّا أضمرتم وأسررتم وأردتم، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ويخبركم ويعرّفكم إياه، فيغفر للمؤمنين ويعذّب الكافرين. وهذا معنى قول الضحاك والربيع ورواية العوفي والوالبي عن ابن عباس، يدلّ عليه قوله: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ.
ولم يقل: يؤاخذكم، والمحاسبة غير المعاقبة، والحساب ثابت والعقاب ساقط، وممّا يؤيّد هذا حديث النجوى وهو ما
روى قتادة عن صفوان بن محرز قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمرو إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في النجوى، فقال: سمعت نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يدنو المؤمن من ربّه حتّى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول: هل أذنبت ببعض كذا، فيقول: ربّ أعرف، فيوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا، فيقول الله: أنا الذي سترتها عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم لم يطلع على ذلك ملكا مقرّبا ولا نبيّا مرسلا.
وأمّا الكفّار والمنافقون فينادون على رؤوس الأشهاد هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» «1» .
الأعمش عن معرور بن سويد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى الرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرض عليه، فيقال: عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا وهو يقرّ ولا ينكر ويخبأ عنه كبار ذنوبه وهو منها مشفق فيقول: أعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة، فيقول: إنّ لي ذنوبا ما أراها هاهنا» [213] .
قال: قال أبو ذر: فلقد رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه «2» .
وقال الحسين بن مسلم: يحاسب الله عزّ وجلّ المؤمنين يوم القيامة بالمنّة والفضل، والكافرين بالحجّة والعدل.
__________
(1) السنن الكبرى: 6/ 364 بتفاوت.
(2) مسند أحمد: 5/ 157، تفسير القرطبي: 13/ 78.(2/302)
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ. رفعهما أبو جعفر وابن عامر وابن محيصن والحسن وعاصم ويعقوب وأختاره أبو حاتم، ونصبها ابن عباس، وجزمها الباقون فالجزم على النسق والرفع على الابتداء أي فهو يغفر، والنصب على الصرف، وقيل: على إضمار (أن) الخفيفة.
وروى طاوس عن ابن عباس: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ. الذنب العظيم وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ.
على الذنب الصغير لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» .
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ. الآية.
روى طلحة بن مصرف عن مرّة عن عبد الله قال: لمّا أسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى به إلى سدرة المنتهى، فأعطى لنا الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك [بالله] من أمّته شيئا إلّا المقحمات «2» .
وعن علقمة بن قيس عن عقبة بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنزل الله عزّ وجلّ آيتين من كنوز العرش كتبهما الرحمن عزّ وجلّ قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من [يقولها] بعد العشاء الآخرة مرّتين أجزأتا عنه قيام الليل: آمَنَ الرَّسُولُ. إلى آخر السورة» .
وروى أبو قلابة عن أبي الأشعث الهمداني عن النعمان بن بشير عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل فيه آيتين فختم بهما سورة البقرة، فلا يقرآن في دار فيقربها شيطان ثلاث ليال» «3» .
وروى عبد الرحمن عند ابن زيد عن ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفياه» [214] «4» .
موسى بن حذيفة عن ابن المنكدر قال: حدّثنا حديثا رفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «في آخر سورة البقرة آيات أنهنّ قرآن وأنّهن دعاء وأنّهن يرضين الرحمن»
«5»
وفي الحديث: أنّه قيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إن بيت ثابت بن أويس بن شمّاس يزهر الليلة كالمصابيح، قال: «لعلّه يقرأ سورة البقرة» ، فسئل ثابت فقال: قرأت سورة البقرة.
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ،
قيل: إن هذه الآية نزلت حين شقّ على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يوعدهم الله عزّ وجلّ به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى
__________
(1) سورة الأنبياء: 23.
(2) مسند أحمد: 1/ 387، والمقحمات: الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار.
(3) مسند أحمد: 4/ 274.
(4) مسند أحمد: 4/ 121.
(5) تفسير مجمع البيان: 2/ 231.(2/303)
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «لعلّكم تقولون سَمِعْنا وَعَصَيْنا كما قالت بنو إسرائيل؟» فقالوا: بل نقول سَمِعْنا وَأَطَعْنا، فأنزل الله عزّ وجلّ ثناء عليهم وإخبارا عنهم: آمَنَ الرَّسُولُ أي صدّق بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
قال قتادة: لمّا أنزلت آمَنَ الرَّسُولُ «1» ، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وحق له أن يؤمن» .
وَالْمُؤْمِنُونَ.
وفي قراءة عليّ وعبد الله: وآمن المؤمنون كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ
. وحّد الفعل على لفظ كلّ، المعنى: كلّ واحد منهم آمن، فلو قال: آمنوا، لجاز لأن (كلّ) قد تجيء في الجمع والتوحيد، فالتوحيد قوله عزّ وجلّ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ «2» والجمع قوله كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ «3» وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «4» .
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ [قرأ] «5» ابن عباس وعكرمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وكتابه. على الواحد بالألف. وقرأ الباقون: (كُتُبِهِ) بالجمع، وهو ظاهر كقوله:
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ.
والتوحيد وجهان: أحداهما: إنّهم أرادوا القرآن خاصّة، والآخر: إنّهم أرادوا جميع الكتب. يقول العرب: كثر اللبن وكثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، يريدون الألبان والدراهم والدنانير. يدلّ عليه قوله: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ «6» .
وَرُسُلِهِ. جمع رسول.
وقرأ الحسن وابن سلمة بسكون السين لكثرة الحركات، وكذلك روى العباس عن ابن عمرو، وروى عن نافع وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. مخفّفين، الباقون بالإشباع فيها على الأصل.
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ كما فعلت اليهود والنصارى، وفي مصحف عبد الله لا نفرّقن.
قرأ جرير بن عبد الله وسعيد بن جبير وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ويحيى بن يعمر والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب: لا يفرّق بالياء على معنى لا نفرّق الكلّ، فيجوز أن يكون خبرا عن الرسول.
__________
(1) تفسير القرطبي: 3/ 428.
(2) سورة النور: 41.
(3) سورة الأنبياء: 93.
(4) سورة النمل: 88. [.....]
(5) في المخطوط: قال.
(6) سورة البقرة: 213.(2/304)
وقرأ الباقون بالنون على إضمار القول تقديره: وقالوا لا نفرّق كقوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ «1» وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ «2» يعني فيقال لهم: أكفرتم. وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا «3» أي يقولون: ربّنا. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ «4» أي يقولون: ما نعبدهم.
وما يقتضي شيئين فصاعدا، وإنّما قال (بين أحد) ولم يقل آحاد لأن الآحاد يكون للواحد والجميع «5» . قال الله فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «6» .
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما أحلّت الغنائم لأحد سود الرؤوس غيركم» [215] «7» .
قال رؤبة:
ماذا [أمور] الناس ديكت دوكا ... لا يرهبون أحدا رواكا
وَقالُوا سَمِعْنا. قولك وَأَطَعْنا. أمرك خلاف قول اليهود.
وروى حكيم بن جابر أن جبرائيل عليه السّلام أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين نزلت آمَنَ الرَّسُولُ. فقال: إن الله عزّ وجلّ قد منّ عليك وعلى أمّتك فاسأل تعطى، فسأل رسول الله عزّ وجلّ فقال: غفرانك.
غُفْرانَكَ. وهو نصب على المصدر أي أغفر غفرانك، مثل قولنا: سبحانك أي نسبّحك سبحانك.
وقيل معناه: نسألك غفرانك.
رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. ظاهر الآية قضاء الحوائج، وفيها إضمار السؤال والحاجة، كأنّه قال لهم: تكلّفنا إلّا وسعنا، فأجاب الله فقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.
والوسع: اسم لما يسع الإنسان وما [يشقّ] عليه. وقيل: [يشق] ويجهد.
وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة الشامي: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وَسِعَها. بفتح الواو وكسر
__________
(1) سورة الرعد: 23.
(2) سورة آل عمران: 106.
(3) سورة السجدة: 12.
(4) سورة الزمر: 3.
(5) راجع تفسير القرطبي: 3/ 429.
(6) سورة الحاقة: 47.
(7) تفسير الطبري: 10/ 59 وفيه: من قبلكم.(2/305)
السين على الفعل، يريد: إلّا وسعها أمره، أو أراد إلّا ما وسعها فحذف (ما) .
واختلفوا في تأويله، فقال ابن عطاء والسدي وأكثر المفسّرين: أراد به حديث النفس، وذلك
أنّ الله تعالى لمّا أنزل: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. جاء المؤمنون [عامة] وقالوا: يا رسول الله هذا لنتوب من عمل الجوارح، فكيف نتوب من الوسوسة وكيف نمتنع من حديث النفس؟
فأنزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. أي طاقتها، وكان حديث النفس مما لم يطيقوا.
قال ابن عباس في رواية أخرى: [ ... ] «1» المؤمنون خاصّة وسّع الله عليهم أمر دينهم.
ولم يكلّفهم إلّا ما هم له مستطيعون، فقال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ «2» ، وقال: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3» ، وقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «4» .
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع السجري بهراة قال: سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي قال: سمعت عبد الجبّار بن العلاء العطّار يقول: سئل سفيان بن عيينة عن قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.
فقال: إلّا يسرها لا عسرها، ولم يكلّفها طاقتها ولو كلّفها طاقتها لبلغ المجهود منها.
قال الثعلبي: وهذا قول حسن لأنّ الوسع ما دون الطاقة، فقال بعض أهل الكلام: يعني إلّا ما يسعها ويحل لها، كقول القائل: ما يسعك هذا الأمر؟ أي ما يحلّ الله لك؟ فبيّن الله تعالى أن ما كلّف عباده فقد وسعه لهم والله أعلم.
لَها ما كَسَبَتْ. أي للنفس ما عملت من الخير والعمل الصالح، لها أجره وثوابه وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. من الشرّ بالعمل السيء عليها وزره.
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا. لا تعاقبنا.
قال أهل المعاني: وإنّما خرج على لفظ المفاعلة وهو فعل واحد لأنّ المسيء قد أمكر وطرق السبيل إليها وكأنّه أعان عليه من يعاقبه بذنبه ويأخذه به فشاركه في أخذه إِنْ نَسِينا.
جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو.
__________
(1) غير مقروءة في المخطوط.
(2) سورة البقرة: 185.
(3) سورة الحج: 78.
(4) سورة التغابن: 16.(2/306)
قال الكلبي: كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا ممّا أمروا به وأخطئوا، عجّلت لهم العقوبة فيحرّم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله تعالى نبيّه والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك.
وقال بعضهم: هو من النسيان الذي هو الترك والإغفال. قال الله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ. والأوّل أجود.
أَوْ أَخْطَأْنا. جعله بعضهم من القصد والعمد، يقال: خطيء فلان إذا تعمّد يخطأ خطأ وخطأ.
قال الله: إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً. وأنشد [أمية بن أبي الصلت] «1» :
عبادك يخطئون وأنت ربّ ... يكفّيك المنايا والحتوم «2»
وجعله الآخرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو وهو الأصح لأن ما كان عمدا من الذنب غير معفو عنه، بل هو في مشيئة الله تعالى ما لم يكن كفرا.
قال عطاء: إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. يعني إن جهلنا أو تعمّدنا له.
وقال ابن زيد: إِنْ نَسِينا شيئا ممّا افترضته علينا، أَوْ أَخْطَأْنا شيئا ممّا حرّمته علينا.
وقال الزهري: سمع عمر رجلا يقول: اللهمّ [اغفر] لي خطاياي، فقال: إن الخطايا مغفور ولكن قل: اللهمّ أغفر لي عمدي.
قال النبطي: وحدّثنا ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن شنبة قال: حدّثنا عبد الله بن المصفّى السكري قال: حدّثنا محمد بن المصلّى المحمدي، قال: حدّثنا الوليد قال:
حدّثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه» .
رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. قال بعضهم: يعني عهدا وعقدا وميثاقا لا نطيق ذلك ولا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقصه كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا. يعني اليهود فلم يقوموا به فأهلكتهم وعذّبتهم، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل والسدي والكلبي وابن جريج والفراء، ورواية عطيّة وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس، يدلّ عليه قوله: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي «3» أي عهدي.
__________
(1) بياض في المخطوط وما أثبتناه من المصادر. [.....]
(2) تفسير الطبري: 12/ 258، وكتاب العين للفراهيدي: 3/ 195.
(3) سورة آل عمران: 81.(2/307)
وقال بعضهم: الأصر: الثقل، أي لا تشقق علينا ولا تشدد ولا تغلظ الأصر علينا كما شددت على من كان قبلنا من اليهود، وذلك أن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة، وأمرهم بأداء ربح أموالهم في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها، ومن أصاب منهم ذنبا أصبح وذنبه مكتوب على بابه، ونحوها من الأثقال [والأغلال] التي كانت عليهم. وهذا معنى قول عثمان بن عطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة والمؤرخ والقتيبي وابن الأنباري يدلّ عليه قوله: ويضع عنهم إصرهم والأثقال التي كانت عليهم «1» .
وقال ابن زيد: معناه: لا تحمل علينا ذنبا ليس فيه توبة ولا كفّارة وإلّا يفعل في هذه كلّها العقد والأحكام، ويقال للشيء الذي تعقد به الأشياء: الأصر، ويقال: بينه وبين فلان أصرة رحم، وما تأصرني، أي ما [يعطفني عليه عهد ولا قرابة] «2» .
وقال: أنشدني أبو القاسم السدوسي، قال: أنشدني السميع بن محمد الهاشمي، قال:
أنشدنا أبو الحسن العبسي، قال: أنشدنا العباس بن محمد الدوري الشافعي:
إذا لم تكن لامرئ نعمة ... لدي ولا بيننا آصره
[ولا لي] في ودّه حاصل ... ولا نفع في الدنيا ولا الآخرة
وأفنيت عمري على بابه ... فتلك إذا صفقة خاسرة «3»
رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. أي لا تكلّفنا من الأعمال مالا نطيق، هذا قول قتادة والضحاك والسدي وابن زيد. وقال بعضهم: هو حديث النفس والوسوسة. وعن أبي ثوبان عن أبيه عن مكحول في قوله تعالى: وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. قال [ ... ] «4» وعن أبي القاسم عن مالك الشامي أن أبا إدريس الحولاني كان يأتي أصحابه ويقول: اللهمّ أعذني و [ ... ] «5» جرف إلى جهنم.
سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم في قوله تعالى وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ.
قال: المشقة.
وعن أبي القاسم عبد الله بن يحيى بن عبيد قال: سمعت أبا القاسم عبد الله بن أحمد قال: سمعت محمد بن عبد الوهاب وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. قال: يعني العشق. قال
__________
(1) سورة الأعراف: 157.
(2) راجع معاني القرآن للنحاس: 1/ 335، ولسان العرب: 4/ 22.
(3) تاج العروس: 3/ 176.
(4) بياض في المخطوط.
(5) بياض في المخطوط.(2/308)
خباب: حضرت مجلس ذي النون المصري في فسطاطه، فتكلّم ذلك اليوم في محبّة الله فمات أحد عشر نفسا في المجلس، فصاح لا يحل من المزيد بر فقال: يا أبا القيس ذكرت محبّة الله فاذكر محبّة المخلوقين، فتأوّه ذو النون تأوّها شديدا ومدّ يده إلى وجهه ووقف منتصبا وقال له:
خلقت قلوبهم واستعبرت عيونهم وتألّفوا السهاد، وفارقوا الرقاد فليلهم طويل نومهم وقليل أحزانهم لا تعد وهمومهم لا تعقد، أمورهم عسيرة ودموعهم غزيرة باكية عيونهم قريحة جفونهم.
[عاداهم] الرفاق والأهل والجيران. وقال يحيى: لو تركت العقوبة بيدي يوم القيامة ما عذّبت العشّاق لأن ذنوبهم اضطرارا لا اختيارا.
قال ابن جريج: هو مسخ القردة والخنازير، وقال بعضهم: هو شماتة الأعداء. وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبّه قال: قيل لأيّوب عليه السّلام: ما كان أشق عليك في طول بلائك؟ قال: شماتة الأعداء. وأنشد ابن الأعرابي:
كلّ المصائب قد تمرّ على الفتى ... فتهون غير شماتة الحسّاد
إنّ المصائب تنقضي أيامها ... وشماتة الأعداء بالمرصاد
وقيل: هو القطيعة والفرقة نعوذ بالله منها. وقيل: قطع الأوصال أيسر من قطع الوصال، وقال النظّام: لو كان للبين صورة لما [راع] الذنوب ولهدّ الجبال ولجمر الغضا أقل من [ ... ] «1» ولو عذّب الله سبحانه أهل النار بالفراق لاستراحوا إلى [حرّ العذاب] .
وَاعْفُ عَنَّا. أي تجاوز واصفح عن تقصيرنا وذنوبنا. وَاغْفِرْ لَنا. واستر علينا ذنوبنا وتجاوز عنها ولا [تعاقبنا] وَارْحَمْنا. فإنا لا ننال العمل لطاعتك ولا ترك معصيتك إلّا برحمتك، وقيل: وَاعْفُ عَنَّا من المسخ، وَاغْفِرْ لَنا عن السيئات، وَارْحَمْنا من القذف. وقيل:
وَاعْفُ عَنَّا، من الأفعال، وَاغْفِرْ لَنا من الأقوال، وَارْحَمْنا من العقود والأضمان. وقيل: وَاعْفُ عَنَّا الصغائر، وَاغْفِرْ لَنا الكبائر، وَارْحَمْنا بتثقيل الميزان مع إفلاسنا. وقيل: وَاعْفُ عَنَّا في سكرات الموت، وَاغْفِرْ لَنا في ظلمة القبر، وَارْحَمْنا في ظلمة القبر.
أَنْتَ مَوْلانا. أي ناصرنا وحافظنا ووليّنا ووال بنا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
عطاء عن سعيد عن ابن عباس في قول الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ. إلى قوله: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. قال: قد غفرت لكم لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. قال: لا أواخذكم رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. قال:
لا أحمل عليكم. وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. قال: لا أحمّلكم وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. قال: قد عفوت عنكم وغفرت لكم
__________
(1) كلمة غير مقروءة.(2/309)
ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين.
وروى سفيان عن أبي إسحاق عن رجل عن معاذ بن جبل أنّه كان إذا ختم البقرة قال:
آمين.
يتلوه سورة آل عمران.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وصلّى الله على محمد خير الأوّلين والآخرين وعلى آله الطيّبين الطاهرين أجمعين وسلّم.
قال مسروق: نعم كنز الصعلوك سورة البقرة وآل عمران يقرأهما من آخر الليل.
وقال وهب بن منبّه: من قرأ ليلة الجمعة سورة البقرة وآل عمران كان له نور ما بين عجيبا إلى غريبا. وعجيبا الأرض السابعة وغريبا العرش.
وقال مسروق: من قرأ سورة البقرة في ليلة توّج بها.
وفي الحديث السورة التي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن.
سؤال: فإنّ قيل: أيجوز أن يحمّل الله أحدا مالا يطيق؟.
قال الزجاج: قيل له: إن أردت ما ليس في قدرته، فهو محال، وإن أردت ما يثقل عليه، فلله تعالى أن يفعل من ذلك ما شاء لأن الذي كلّفه بني إسرائيل من قتل أنفسهم ثقل عليهم.
وهذا كقولك: ما أطيق كلام فلان، فليس المعنى ليس في قدرتك ولكن معناه أن يثقل عليك.
فإن قيل: هل يجوز على العادل أن يكلّف فوق الوسع؟.
قيل: قد أخبر عن سعته ورحمته وعطفه على خلقه كما نفى الظلم عن نفسه، وإن كان لا يتوهّم منه الظلم بحال. وقال قوم: لو كلّف فوق الوسع لكان له لأن الخلق خلقه والأمر أمره، ولكنّه أخبر أنّه لا يفعله والسلام.(2/310)
محتوى الجزء الثاني من كتاب تفسير الثعلبي
تكملة سورة البقرة فصل في معنى الإخلاص 6 ذكر حكم الآيات 54 حكم الآية 55 فصل في حكم الآية 66 حكم الآية 96 في افراد الحج 97 في القران 98 حكم الآية 104 تفصيل حكم الآية 191 صفة قتل داود جالوت 217 ذكر حكم الآية 286 في فضل إنظار المعسر 287 فصل في الدّين 288 فصل في تفصيل آخر ما نزل من القرآن 289(2/311)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
الجزء الثالث
سوره آل عمران
روي أنّها أربعة عشر ألف حرف، وخمس مائة وخمسة وعشرون حرفا، وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانين كلمة، ومائتا آية.
فضلها:
روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تغيب الشمس» [1] «1» .
زرّ بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكلّ آية منها أمانا على جسر جهنّم» [2] «2» .
رويعن أبي إسحاق عن سليم بن حنظلة، قال: قال عبد الله بن مسعود: «من قرأ آل عمران فهو غني» .
يحيى بن نعيم عن أبيه عن أبي المعرش عن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «تعلّموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان، وإنهما يأتيان يوم القيامة في صورة ملكين شفعاء له جزاء حتى يدخلاه الجنّة» [3] «3» .
إبراهيم بن أبي يحيى عن أبي الحرين عن أبي عبد الله الشاميّ، قال: «من قرأ سورة البقرة وآل عمران في ليلة الجمعة يبدل له يوم القيامة جناحات يطير بهما على الصراط» [4] «4» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)
__________
(1) مجمع الزوائد: 2/ 168.
(2) تفسير مجمع البيان: 2/ 232.
(3) مسند أحمد: 5/ 361، مجمع الزوائد: 7/ 159 مع اختلاف في الحديث.
(4) ميزان الاعتدال: 2/ 424، وفيه: جناحين منظومين بالدرّ والياقوت.(3/5)
أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر الزبير، ومحمد بن مروان عن الكلبي، وعبد الله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع بن أنس، قالوا: نزلت هذه في وفد نجران، وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وفي الاربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم العاقب، وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدّرون عن رأيه، واسمه عبد المسيح. والسيّد [عالمهم] وصاحب رحلهم واسمه [الأيهم ويقال: شرحبيل] «1» وأبو حارثة بن علقمة الذي يعتبر حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد شرف فيهم ودرّس كهنتهم من حسن عمله في دينهم، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه [وموّلوه وبنو له] الكنائس لعلمه واجتهاده.
فقدموا على رسول الله المدينة ودخلوا مسجده- حين صلى العصر- عليهم ثياب الحبرة وأردية مكفوفة بالحديد، في جمال رجال بلحرث «2» بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما رأينا وفدا مثلهم! وقد حانت صلاتهم فقاموا وصلّوا في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلّوا الى المشرق.
فكلّم السيد والعاقب رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أسلمنا. قالا:
قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام [ادّعاء كما] «3» لله ولدا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير.
قالا: إن لم يكن ولد لله فمن [أبيه] «4» وخاصموه جميعا في عيسى عليه السلام، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: [إنّه لا يكون ولد إلّا وشبه أباه. قالوا: بلى، قال: ألستم] تعلمون أن ربّنا حي لا يموت وإنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا:
لا. قال: ألستم تعلمون إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ؟ قالوا: بلى.
__________
(1) تاريخ المدينة لابن شبه: 2/ 581.
(2) للتخفيف وهو بالأصل: بني الحرث. [.....]
(3) في المخطوط: (دعاءكما) .
(4) هكذا في الأصل.(3/6)
قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلّا ما علّم؟
قالوا: لا.
قال: فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث؟
قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون إنّ عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة حملها، ثم غذي كما يغذى الصبي، وكان يطعم ويشرب ويحدث، قالوا: بلى. قال:
فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا.
فأنزل الله تعالى فيهم صدر سورة آل عمران الى بضع وثمانين آية منها.
فقال عزّ من قائل: الم
قرأ ابن جعفر بن زبير القعقاع المدني ال م مفصولا، ومثلها جميع حروف التهجّي المفتح بها السور.
وقرأ ابن جعفر الرواسي والأعشى والهرحمي: الم اللَّهُ مقطوعا والباقون موصولا مفتوح الميم. فمن فتح الميم ووصل فله وجهان:
قال البصريون: لالتقاء الساكنين حركت إلى أخف الحركات.
وقال الكوفيون: كانت ساكنة لأن حروف الهجاء مبنية على الوقف فلمّا تلقاها ألف الوصل وأدرجت الألف فقلبت حركتها وهي الفتحة الى الميم.
ومن قطع فله وجهان:
أحدهما: نية الوقف ثم قطع الهمزة للابتداء، كقول الشاعر:
لتسمعنّ وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا «1»
والثاني: أن يكون أجراه على لغة من يقطع ألف الوصل.
كقول الشاعر:
إذا جاوز الاثنين سرّ ... فإنه بنت وتكثير الوشاة قمين «2»
ومن فصل وقطع فللتفخيم والتعظيم تعالى اللَّهُ ابتداء وما بعده خبر، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نعت له، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ قرأ إبراهيم بن أبي عبلة: نَزَلَ بتخفيف (الزاي) ، الْكِتابُ: برفع الباء، وقرأ الباقون: بتشديد الزاي ونصب الباء على التكثير لأنّ القرآن كان ينزل نجوما شيئا بعد شيء والتنزيل يكون مرّة بعد مرّة، وقال: (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) لأنهما نزلتا
__________
(1) البداية والنهاية: 7/ 219 وتاج العروس: 3/ 70.
(2) الصحاح: 1/ 294.(3/7)
دفعة نَزَّلَ عَلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ القرآن بِالْحَقِّ: بالعدل، والصدق، مُصَدِّقاً: موافقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ: لما قبله من الكتب في التوحيد، والنبوّات، والأخبار، وبعض الشرائع.
وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ قال البصريون: أصلها ووريه دوجله وحرقله فحوّلت الواو الاولى تاء وجعلت الياء المفتوحة ألفا فصارت توراة، ثم كتبت بالياء على أصل الكلمة، وقال الكوفيون: هي تفعله والعلة فيه ما ذكرنا مثل (توصية) ، و (توفية) فقلبت الياء ألفا كما يفعل طيئ، فيقول للجارية: جاراة، وللناصية: ناصاة، وأصلها من قولهم: «وري الزند» إذا أخرجت ناره وأولته أنا، قال الله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ «1» ، وقال: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً «2» فتسمى تورية لأنه نور وضياء دلّ عليه قوله تعالى: وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ «3» قاله الفراء، وأكثر العلماء، وقال [المؤرج:] هي من التورية وهي كتمان الشيء والتعريض لغيره.
ومن الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا أراد شيئا وري بغيره» [5] .
وكان أكثر التورية معارض وتلويحا من غير إيضاح وتصريح، وقيل: هي بالعبرانية «نوروثو» ومعناه: الشريعة.
والإنجيل أفضل من [النجل] وهو الخروج، ومنه سمّي الولد «نجلا» لخروجه.
قال الأعشى:
أنجب أزمان والداه به ... إذ نجّلاه فنعم ما نجلا «4»
فسمي بذلك لأن الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا.
ويقال: هو من المتنجل، وهو سعة الجن، يقال: قطعته نجلا أي: واسعة فسمي بذلك لأنه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم نورا وضياء، وقيل: هو بالسريانية «انقليون» ومعناه:
الشريعة:
وقرأ الحسن الْأَنْجِيلَ بفتح الهمزة، يصححه الباقون بالكسر مثل: الإكليل.
مِنْ قَبْلُ رفع على الغاية والغاية هاهنا قطع الكتاب عنه كقوله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وقال زهير:
وما كان من خير أتوه ... فإنّما توارثه آباء آبائهم قبل «5»
__________
(1) سورة الواقعة: 71.
(2) سورة العاديات: 2.
(3) سورة الأنبياء: 48.
(4) الصحاح: 1/ 222.
(5) تفسير القرطبي: 3/ 173.(3/8)
هُدىً لِلنَّاسِ هاد لمن تبعه، ولم ينته لأنّه مصدر وهو في محل النصب على الحال والقطع.
وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ الفرق بين الحق والباطل، قال السدي: في الآية تقديم وتأخير تقديرها:
وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للمتقين.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ.
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ذكرا وأنثى، قصيرا وطويلا، أسودا وأبيضا، حسنا وقبيحا، سعيدا وشقيا.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ متقنات مبينات مفصلات.
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام ويجمع الحلال والحرام ويفرّغ لأهل الإسلام، وهنّ آيات التوراة والإنجيل والقرآن، وفي كل كتاب يرضى به أهل كل دين، ولا يختلف فيه أهل كل بلد.
والعرب تسمي كلّ شيء فاضل جامع يكون مرجعا لقوم، كما قيل للّوح المحفوظ: أم الكتاب، والفاتحة: أمّ القرآن، ولمكّة: أمّ القرى وللدماغ: أمّ الرأس، وللوالدة: أم، وللراية:
أم، وللرجل الذي يقوم بأمر العيال: أم، وللبقرة والناقة أو الشاة التي يعيش بها أهل الدار: أم، وكان عيسى (عليه السلام) يقول للماء: «هذا أبي» ، وللخبز: «هذه أمّي» لأنّ قوام الأبدان بهما.
وإنّما قال أُمُّ الْكِتابِ ولم يقل أمّهات الكتب لأنّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة، وكلام الله واحد.
وقيل: معناه كلمة واحدة ف هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ كما قال: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً «1» أي كل واحد منهما آية.
وَأُخَرُ: جمع أخرى ولم يصرف لأنّه معدول عن أواخر، مثل عمر، وزفر وهو قاله الكسائي.
وقيل: ترك أخراه لأنّه نعت مثل جمع، وكسع لم يصرفا لأنّهما نعتان.
__________
(1) سورة المؤمنون: 50.(3/9)
وقيل: لأنّه مبني على واحدة في ترك الصرف وواحدة اخرى غير مصروف.
مُتَشابِهاتٌ: تشبه بعضها بعضا، واختلف العلماء في المحكم والمتشابه كليهما فقال قتادة والربيع والضحاك والسدي: «المحكم: الناسخ الذي يعمل له» .
«والمتشابه: المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به، هي رواية عطية عن ابن عباس» .
روى علي ابن أبي طلحة عنه قال: «محكمات القرآن ناسخة، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به» .
والمتشابهات: منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله واقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به.
زهير بن معاوية عن أبي إسحاق قال: قال ابن عباس: قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ قال: هي الثلاث الآيات في سورة الأنعام قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ «1» إلى آخر الآيات الثلاث، نظيرها في سورة بني إسرائيل وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «2» الآيات.
وقال مجاهد، وعكرمة: «المحكم: ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه [يصدّق] بعضها بعضا» .
قد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: المحكم: ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد.
والمتشابه: ما أحتمل من التأويل أوجها.
وقال ابن زبير: من المحكم ما ذكر الله تعالى في كتابه من قصص الأنبياء (عليهم السلام) ، وفصلت وتنته لمحمد صلى الله عليه وسلّم وأمّته، كما ذكر قصة نوح في أربع وعشرين آية منها، وقصة هود في عشر آيات، وقصّة صالح في ثمان آيات، وقصة إبراهيم في ثمان آيات، وقصة لوط في ثمان آيات، وقصة شعيب في عشر آيات، وقصة موسى في آيات كثيرة.
وذكر [آيات] حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أربع وعشرين آية.
والمتشابه: هو ما أختلف به الألفاظ من قصصهم عند التكرير، كما قال في موضع من قصة نوح: قُلْنَا احْمِلْ «3» وقال وفي موضع آخر: فَاسْلُكْ «4» .
__________
(1) سورة الأنعام: 151.
(2) سورة الإسراء: 23.
(3) سورة هود: 40.
(4) سورة المؤمنون: 27. [.....](3/10)
وقال في ذكر عصا موسى: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى «1» ، وقال في موضع آخر: ثُعْبانٌ مُبِينٌ «2» ونحوها.
وإن بعضهم قال: «المحكم: ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه» .
«والمتشابه: ما ليس لأحد الى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه» وذلك نحو الخبر عن وقت خروج الدجّال، ونزول عيسى، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدّنيا، ومحوها.
وقال أبو فاختة: «المحكمات التي هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ فواتح السور منها يستخرج القرآن الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ «3» منها استخرجت البقرة، والم اللَّهُ «4» استخرجت آل عمران.
وقال ابن كيسان: «المحكمات حجتها واضحة، ودلائلها لائحة، لا حاجة بمن سمعها الى طلب معانيها في المتشابه الذي شك علمه، بالنظر فيه يعرف العوّام تفصيل الحق فيه من الباطل» .
وقال بعضهم: «المحكم ما أجمع على تأويله، والمتشابه ما ليس معناه واضح» .
وقال أبو عثمان: المحكم فاتحة الكتاب.
وقال الشعبي: رأيت في بعض التفاسير «5» أنّ المتشابه هو [ما خفي لفظه والمحكم ما كان لفظه واضح وعلى هذا القرآن كلّه] «6» محكم من وجه على معنى [بشدّة] [.....] «7» ، قال الله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ «8» .
والمتشابه من وجه فهو إنّه يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا.
وقال ابن عبّاس في رواية شاذان: المتشابه حروف التهجّي في أوائل السّور، وذلك
بأنّ حكام اليهود هم حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف ونظراءهما أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له حيي:
__________
(1) سورة طه: 20.
(2) سورة الأعراف: 107.
(3) سورة البقرة: 1. 2.
(4) سورة آل عمران: 1. 2.
(5) راجع تفسير مجمع البيان: 2/ 242، عن تفسير الماوردي، وتفسير القرطبي: 4/ 10.
(6) زيادة منّا لتقويم المعنى.
(7) كلمة غير مقروءة.
(8) سورة هود: 1.(3/11)
بلغنا أنّه أنزل عليك (الم) أأنزلت عليك؟ قال: نعم، فإن كان ذلك حقّا فإنّي أعلم من هلك بأمّتك وهو إحدى وسبعون سنة فهل أنزلت عليك غيرها؟ قال: نعم والى المص «1» ، قال: هذه أكبر من تلك هي إحدى وستون ومائة سنة فربما غيرها؟ قال: نعم الر «2» قال: هذه أكثر من مائة وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليلة؟ ونحن ممّن لا يؤمن بهذا
، فأنزل تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: أي ميل عن الحق، وقيل: شك.
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: اختلفوا في معنى هذه الآية،
فقال الربيع: هم وفد نجران خاصموا النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: ألست تعلم أنّه كلمة الله وَرُوحٌ مِنْهُ؟ قال: بلى، قالوا: فحسبنا ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الكلبي: هم اليهود [أجهل] هذه الأمّة باستخراجه بحساب الجمل. وقال ابن جري:
هم المنافقون.
[قال] الحسن: هم الخوارج.
وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ قال: إن لم يكونوا آخرون فالسبابيّة ولا أدري من هم.
وقال بعضهم: هم جميع المحدثة.
وروي حمّاد بن سلمة وأبو الوليد يزيد بن أبي ميثم وأبوه جميعا عن عبد الله بن أبي مليكة الفتح عن عائشة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الّذين يسألون عمّا تَشابَهَ مِنْهُ ويجادلون فيه الّذين عنى الله عزّ وجلّ فاحذروهم ولا تخالطوهم [6] «3» .
ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: طلب الشرك قاله الربيع، والسدي، وابن الزبير، ومجاهد: ابتغاء الشبهات واللبس ليضلّوا بها جهّالهم.
وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: تفسيره وعلمه دليله قوله تعالى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً «4» .
وقيل: ابتغاء عاقبته، وطلب مدة أجل محمّد، وأمته من حساب الجمل، دليله قوله تعالى
__________
(1) سورة الأعراف: 1.
(2) سورة يونس: 1.
(3) تفسير القرطبي: 4/ 9 بتفاوت، وتفسير الدرّ المنثور: 2/ 5، من طرق كلّها متفاوتة.
(4) سورة الكهف: 78.(3/12)
ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا «1» أي عاقبته، وأصله من قول العرب: تأول الفتى إذا انتهى.
قال: الأعشى:
على أنّها كانت تأوّل حبها ... تأوّل ربعي السقاب فأصحبا «2»
يقول: هذا السجي لها فانقرت لها وابتغتها، قال الله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واختلف العلماء في نظم هذه الآية وحكمها.
فقال قوم: الواو في قوله الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واو العطف، يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم يقولون: آمَنَّا بِهِ.
وهو قول مجاهد والربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير، واختيار القتيبي قالوا: معناها يعلمونه ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ فيكون قوله: يَقُولُونَ، حالا والمعنى: الراسخون في العلم قائلين آمنّا به.
قال ابن المفرغ الحميري:
أضربت حبك من امامه ... من بعد أيام برامه
الريح تبكي شجوها ... والبرق يلمع في الغمامة «3»
أراد والبرق لا معا في غمامه وتبكي شجوه أيضا، ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعانه معنى.
ودليل هذا التأويل قوله: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ «4» . ثم قال: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «5» الآية.
ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ «6» : أي والذين تبؤوا الدار، ثم قال: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ. ثم أخبر عنهم أنّهم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا «7» الآية.
ولا شك في أنّ قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ عطف على قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ
__________
(1) سورة النساء: 59.
(2) الربعي: نتاج الربيع، وأصحب الرجل: إذا بلغ ابنه، والبيت في تفسير الطبري: 3/ 250. [.....]
(3) تفسير القرطبي: 4/ 17، واحكام القرآن للجصّاص: 2/ 7.
(4) سورة البقرة: 177.
(5) سورة الحشر: 8.
(6) سورة الحشر: 9.
(7) سورة الحشر: 10.(3/13)
، وانّهم يشاركون للفقراء المهاجرين والأنصار في الفيء ويَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا من جملة الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ. فمعنى الآية وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ وهم مع استحقاقهم الفيء يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا «1» أي قائلين على الحال. فكذلك هاهنا في يَقُولُونَ رَبَّنا أي ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ.
ومما يؤيد هذا القول أنّ الله تعالى لم ينزل كتابه إلّا لينتفع له مبارك، ويدل عليه على المعنى الذي اراده فقال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ «2» ، وقال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «3» .
والمبين الظاهر، وقال: بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ «4» . فوصف جميعه بالتفصيل والتبيين وقال:
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «5» .
ولا يجوز أن تبيّن ما لا يعلم، وإذا جاز أن يعرفه الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع قوله لا يعلمه إلّا الله، جاز أن يعرفه الربانيون من أصحابه.
وقال: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ «6» ولا تؤمر باتّباع ما لا يعلم ولأنّه لو لم يكن للراسخين في العلم هذا لم يكن لهم على المعلمين والجهال فضل لأنهم ايضا يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: ولأنّا لم نر من المفسرين على هذه الغاية [قوما] يوفقوا عن شيء من تفسير القرآن وقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلّا الله، بل أعزوه كله وفسروه حتى حروف التهجي وغيرها.
وكان ابن عباس يقول: في هذه الآية: أنا من الراسخين في العلم.
وقرأ مجاهد هذه الآية وقال: أنا ممّن يعلم تأويله.
وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلم ولا أعلم أربعة: غِسْلِينٍ، وحَناناً، والأوّاه، والترقيم. وهذا إنّما قال ابن عباس في وقت ثم علمها بعد ذلك وفسّرها.
وقال آخرون: الواو في قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واو الاستئناف وتم الكلام، وانقطع عند قوله: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. ثم ابتدأ وقال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌ
__________
(1) سورة الحشر: 10.
(2) سورة ص: 29.
(3) سورة الشعراء: 195.
(4) سورة الأعراف: 52.
(5) سورة النحل: 44.
(6) سورة الأعراف: 3.(3/14)
مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ... وَالرَّاسِخُونَ أبتداء وخبره في يَقُولُونَ، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير، ورواية طاوس عن ابن عباس، واختيار الكسائي والفراء والمفضّل بن سلمة ومحمد بن جرير قالوا: إنّ الراسخين لا يعلمون تأويله، ولكنهم يؤمنون به. والآية راجعة على هذا التأويل الى العلم بما في أجل هذه الأمة ووقت قيام الساعة، وفناء الدنيا، ووقت طلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى (عليه السلام) ، وخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، وعلم الروح ونحوها مما استأثر الله لعلمه ولم يطلع عليه أحد من خلقه.
وقال بعضهم: [اعلم أنّ المتشابه من الكتاب قد] «1» أستأثر الله بعلمه دوننا، ونفسّره نحن، ولم نتعبد بذلك. بل ألزمنا العمل بأوامره واجتناب نواهيه، ومما يصدّق هذا القول قراءة عبد «2» الله أنّ تأويله لا يعلم إلّا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به.
وفي حرف [] «3» الراسخون في العلم آمنّا به.
ودليله أيضا ما روي عن عمر بن عبد العزيز، إنّه قرأ هذه الآية ثم قال: انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن الى أن قالوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا «4» .
وقال أبو نهيك الأسدي: إنّكم تصلون هذه الآية وإنّها مقطوعة وهذا القول أقيس العربيّة وأشبه مظاهر الآية والقصة والله أعلم.
والرَّاسِخُونَ: الداخلون في العلم الذين أتقنوا علمهم، واستنبطوه فلا يدخلهم في معرفتهم شك، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته وأوجب فيه يقال: (رسخ الإيمان في القلب فلان) فهو يرسخ رسخا ورسوخا وكذلك في كل شيء ورسخ رصخ، وهذا كما يقال: مسلوخ ومصلوخ قال الشاعر:
لقد رسخت في القلب منك مودة ... للنبي أبت آياتها أن تغيرا «5»
وقال بعض المفسّرين من العلماء: الراسخون علما: مؤمني أهل الكتاب، مثل عبد الله بن سلام و [ابن صوريا وكعب] .
[قيل:] الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هم بعض الدارسين علم التوراة.
وروي عن أنس بن مالك [وأبي الدرداء وأبي أمامة] : أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل من
__________
(1) عن تفسير القرطبي: 4/ 18.
(2) في معاني القرآن للنحاس أنّها قراءة ابن عباس (1/ 351) .
(3) كلمة غير مقروءة في المخطوط. [.....]
(4) تفسير الطبري: 3/ 249.
(5) تفسير القرطبي: 4/ 19 وفيه: الصدر، بدل القلب.(3/15)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؟ فقال: «من برّت يمينه، وصدق لسانه واستقام قلبه، وعف بطنه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم» [7] «1» .
وقال وهيب: سمعت مالك بن أنس يسأل عن تفسير قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ من هم؟ قال: العالم العامل بما علم تبع له.
وقال نافع بن يزيد: كما أن يقال الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ المؤمنون بالله، المتذللون في طلب مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا [يحقّرون] من دونهم «2» .
وقال بعضهم: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: من وجد في عمله أربعة أشياء:
التقوى بينه وبين الله تعالى، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه «3» .
وقال ابن عباس ومجاهد والسدي بقولهم: (آمَنَّا بِهِ) سمّاهم الله تعالى: الراسخين في العلم فرسوخهم في العلم قولهم: آمَنَّا بِهِ أي بالمتشابه كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، ما علمناه وما لم نعلمه.
قال المبرد: زعم بعض الناس أن (عِنْدِ) هاهنا صلة ومعناه كل من ربّنا. وَما يَذَّكَّرُ:
يتعظ بما في القرآن.
إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: ذووا العقول ولبّ كل شيء خالصه [فلذلك قيل للعقل لب] .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 8 الى 14]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا: أي ويقول الراسخون كقوله في آخر السورة: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
__________
(1) المعجم الكبير: 8/ 152، وتفسير الطبري: 3/ 251.
(2) تفسير ابن كثير: 1/ 356.
(3) فغني المحتاج: 3/ 60.(3/16)
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا «1» أي ويقولون ربنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا لا تملها عن الحق والهدى، كما ازغت قلوب اليهود والنصارى، والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ.
يقال: زاغ- يزيغ- ازاغة إذا مال.
وزاغ- تزيغ- زيغا- وزيوغا- وزيغانا إذا حال.
بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا: وفقنا لدينك، والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك.
وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً: وآتنا من لدنك رحمة وتوفيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الهدى والإيمان.
وقال الضحاك: تجاوزا ومغفرة الصّدق [.....] «2» على شرط السنة.
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ: تعطي. وفي الآية ردّ على القدرية.
وروي عن أسماء بنت يزيد: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر في دعائه: «اللهم [يا] مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» [8] «3» .
قالت: فقلت: يا رسول الله وإنّ القلوب لتقلب؟. قال: نعم ما خلق الله من بني آدم من بشر إلّا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ فإن شاء أزاغه، وإن شاء أقامه على الحق، فنسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنّه هو الوهاب «4» .
قالت: قلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟
قال: بلى قولي: «اللهم ربّ محمّد النبي، اغفر لي ذنبي، واذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلّات الفتن ما أحييتني» [9] «5» .
وعن أبي موسى الأشعري قال: وإنما مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض «6» .
خالد بن معدان عن أبي عبيدة بن الجراح: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنّ قلب ابن آدم مثل العصفور يتقلب في اليوم سبع مرات «7» .
__________
(1) سورة آل عمران: 191.
(2) كلمة غير مقروءة.
(3) مسند أحمد: 6/ 302.
(4) إلى هنا الحديث في تفسير ابن كثير: 1/ 356.
(5) مسند أحمد: 6/ 302.
(6) الدرّ المنثور: 2/ 8.
(7) المصدر السابق.(3/17)
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ: [بالبعث ليوم القيامة] «1» وقيل: اللام بمعنى في أيّ يوم.
لا رَيْبَ فِيهِ: لا شك فيه وهو يوم القيامة [ ... ] «2» عند ما قرأ الآية [ ... ] «3» ولذلك انصرف عن الخطر الى الخبر.
إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وهو مفعال من الوعد.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ قرأ السلمي (يغني) بالياء المتقدمة من الفعل ودخول [الحائل] بين الاسم والفعل.
وقرأ الحسن (لن يغني) بالياء وسكون الياء الأخيرة «4» كقول الشاعر:
كفى باليأس من أسماء كافي ... وليس لسقمها إذا طال شافي
وكان حقّه أن يقول: كافيا، فأرسل الياء، وأنشد الفرّاء في مثله:
كأن أيديهنّ بالقاع القرق ... أيدي جوار يعاطين الورق
القرق والقرقة لغتان في القاع «5» .
ومعنى قوله (لن يغني) : أي لن ينفع، ولن يدفع وإنما سمى المال غنى لأنه ينفع الناس ويدفع عنهم الفقر والنوائب.
عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.
قال الكسائي وقال أبو عبيدة: معناه عند الله شيئا، من بمعنى الحال.
أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ نظم الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ: عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون، وكفّار الأمم الخالية عاقبناهم ف لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ.
وأما معنى كَدَأْبِ: فقال [ابن عباس] وعكرمة ومجاهد والضّحاك وأبو روق والسدّي وابن زيد: كمثل آل فرعون [مع موسى] يقول كعب اليهود: لكفر آل فرعون وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
ربيع والكسائي وأبو عبيدة: كسنّة آل فرعون. الأخفش: كأمر آل فرعون.
قال امرؤ القيس:
__________
(1) عن تفسير الثعالبي: 2/ 13.
(2) كلمتان غير مقروءتان. [.....]
(3) كلمتان غير مقروءتان.
(4) فتح القدير: 1/ 320، وتفسير القرطبي: 4/ 21.
(5) عن تفسير القرطبي: 4/ 22.(3/18)
كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل «1»
وهذا أصل الحرف يقال: دائب في الأمر أو أبة دأبا ودائب [ويدأ ودءوبا] إذا أدمنت العمل ونعيته.
وأدأب السير أدآبا، فإنّما يرجع معناه الى النّساب والحاك والعادة.
قال الشاعر «2» :
لأرتحلن بالفجر ثمّ لادئبنّ
قال سيبويه: موضع الكاف رفع لأن الكاف للتشبيه تقوم مقام الاسم، وتقديره: دأبهم كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كدأب الأمم الماضية كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ:
فعاقبهم.
بِذُنُوبِهِمْ: نظيره قوله فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «3» .
وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ: قرأ إسحاق وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلق بالياء فيهما، الباقون بالتاء، فمن قرأهما بالياء فعلى الأخبار عنهم أنّهم يحشرون ويقلبون، ومن قرأهما بالتاء فعلى الخطاب أي قلّ لهم إنكم ستغلبون وتحشرون وكلا الوجهين [صحيح] لأنه لم يوح إليهم، وإذا كان المخاطب بالشيء غير حاضر وكانت مخاطبته [في] الكلام بالتاء على الخطاب، وبالياء على الأخبار والأعلام كما تقول: (قل لغير الله ليضربن ولتضربن) .
واختلف المفسرون في المعنى لهذه الآية من هم؟ فقال مقاتل: هم مشركو مكّة، ومعنى الآية قيل لكفّار مكّة: سَتُغْلَبُونَ يوم بدر وَتُحْشَرُونَ في الهجرة،
فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للكافرين يوم بدر: «إنّ الله غالبكم وحاشركم الى جهنّم» [10] .
دليل التأويل قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ «4» .
وقال بعضهم: المراد بهذه الآية اليهود.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّ يهود أهل المدينة قالوا لمّا هزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشركين يوم بدر: هذا والله النبي الأمّي الذي بشّرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته
__________
(1) فتح القدير: 1/ 321.
(2) وهو زهير راجع تفسير مجمع البيان: 2/ 244 والمعنى: إلّا أن يمنعني ولادة طفل.
(3) سورة العنكبوت: 40.
(4) سورة القمر: 45. 46.(3/19)
وصفته، وأنّه لا تردّ له راية، وأرادوا تصديقه واتّباعه، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى الى وقفة أخرى به، فلمّا كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شكّوا وقالوا: لا والله ما هو به فغلب عليهم الشقاء ولم يسلموا، وقد كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد الى مدة لم تنقض فنقضوا ذلك العهد من أجله.
وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا الى أهل مكّة، أبي سفيان وأصحابه، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتكون كلمتنا واحدة، ثم رجعوا الى المدينة، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وقال محمد بن إسحاق عن رجاله لمّا أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا ببدر، وقدم الى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: «يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم قد عرفتم إنّي نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم» [11] «1» .
فقالوا: يا محمّد لا يغرنّك أن لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة، لك والله لو قاتلناك لعرف منا البأس، فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا «2» : يعني اليهود سَتُغْلَبُونَ وتهزمون وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ في الآخرة، وهذه رواية عكرمة، وسعيد بن جبير عن أبن عباس.
قال: أهل اللغة اشتقاق جهنّم من الجهنام وهي البئر البعيدة القعر.
وَبِئْسَ الْمِهادُ يعني النار قَدْ كانَ ولم يقل كانت لأنّ (آيَةٌ) تأنيثها غير حقيقي، وقيل: ردّها الى البيان أي: قد كان لكم بيان فذهب الى المعنى وترك اللفظ كقول امرؤ القيس:
برهرهة رأدة رخصة ... كخرعوبة البانة المنقطر «3»
ولم يقل المنفطرة لأنّه ذهب الى القضيب، وقال الفراء: ذكّره لأنّه فرق بينهما بالصفة فلما حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث ذكّر الفعل وأنّثه:
إنّ امرؤا غرّه منكره واحدة بعدي ... وبعدك في الدنيا لمغرور
وكل ما جاء في القرآن من هذا النحو، فهذا وجهه، فمعنى الآية قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ: أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم سَتُغْلَبُونَ.
__________
(1) أسباب نزول الآيات: 62.
(2) سورة آل عمران: 12.
(3) الصحاح: 1/ 119.(3/20)
فِي فِئَتَيْنِ: فرقتين وجماعتين وأصلها في الحرب من بعضهم بقي الى بعض.
الْتَقَتا يوم بدر.
فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: طاعة لله وهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه،
وقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، على عدّة أصحاب طالوت الّذين جازوا معه النهر وما جاز معه إلّا مؤمن، سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون رجلا من الأنصار.
وكان صاحب راية النبي صلّى الله عليه وسلّم والمبارزين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكانت الإبل في جيش النبي صلّى الله عليه وسلّم سبعين بعيرا والخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمر الكندي، وفرس لمرثد بن أبي فهد العنزي «1» ، وكان معهم من السلاح: ستة أدرع وثمانية سيوف وجميع من أستشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلا من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
وَأُخْرى وفرقة أخرى كافِرَةٌ: وهم مشركو مكّة ورأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا مقاتلا وكانت خيلهم مائة فرس، وكان حرب بدر مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان سبب ذلك أعين بن سفين، واختلف القرّاء في هذه الآية، قرأها منهم فِئَةٌ بالرفع على معنى منهما فئة أو إحداهما فئة.
وقرأ الزهري بالخفض على البدل من الفئتين.
وقرأ ابن السميقع: فما!، على المدح.
وقرأ مجاهد: يقاتل بالياء ردّه الى القوم وجهان على لفظه، وقرأ الباقون بالتاء.
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قرأ أبو رجاء وأبو الحرث والحسن، وأبو جعفر، وشيبة ونافع ويعقوب وأيوب بالتاء واختاره أبو حاتم، الباقون بالياء، والباقون ممن قرأ بالتاء بمعناه ترون يا معشر اليهود والكفار أهل مكّة مثلي المسلمين.
ومن قرأ بالياء فاختلف في وجهه فجعل بعضهم الخطاب للمسلمين، ثم له تأويلان أحده:
ما يرى المسلمون المشركين مثلهم في العدد، ثم ظهر العدد القليل على العدد الكثير بخمس أمثال فتلك الآية فإن قيل كذا جاز أن يقول مثليهم وهم قد كانوا ثلاثة أمثالهم، فالجواب أن يقول: هذا مثل وعندك عبد محتاج إليه وإلى مثله، احتاج إلى مثليه فأنت محتاج الى ثلاثة، ويقول: معي ألف وأحتاج الى مثليه فأنت محتاج الى ثلاثة آلاف، فإذا نويت أن يكون الألف داخلا في المثل كان المثل والاثنان ثلاثة.
__________
(1) لعلّه: ابن أبي مرثد.(3/21)
قاله الفرّاء: التأويل الآخر أن معناه يرى المسلمون المشركين مثلي عدد أنفسهم قللهم الله في أعينهم حتى رأتها ستمائة وستة وعشرون، وكانوا ثلاثة أمثالهم تسعمائة وخمسين، ثم قلّلهم في أعينهم في حالة أخرى حتى رأتها مثل عدد أنفسهم.
قال ابن مسعود: في هذه الآية نظرنا الى المشركين فرأيناهم يضاعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا ولا واحدا، ثم قللهم الله في أعينهم حتى رأتهم عددا يسيرا أقل عددا من أنفسهم.
وقال ابن مسعود أيضا: لقد قلّلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل الى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا، وقال بعضهم:
الروية راجحة الى المشركين يعني: يرى المشركون المؤمنين مثليهم قلّلهم الله في أعينهم قبل القتال يعني في أعين المشركين ليجترؤوا عليهم ولا ينصرفوا، فلمّا أخذوا في القتال كثّرهم في أعينهم ليجبنوا وقلّلهم في أعين المؤمنين ليجتروا فذلك قوله: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا «1» الآية.
محمّد أبي الفرات عن سعيد ابن أبي آوس في قوله: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ قال:
كان المشركون يرون المسلمين مثليهم فلمّا أسروهم سألهم المشركون كم كنتم؟ قالوا: ثلاثمائة وبضعة عشرة، قالوا: ما كنّا نراكم إلّا تضاعفون علينا، قال: وذلك ممّا نصر به المسلمون.
وقرأ السلمي يُرَوْنَهُمْ بضم الياء على ما لم يسمي فاعله وإن شئت على معنى الظن.
رَأْيَ الْعَيْنِ أي في رأي العين نصب ونزع حرف الصفة وإن شئت على المصدر أي ترونهم رأي العين، أي: في نظر العين يقال: رأيت الشيء رأيا ورؤية ورؤيا ثلاث مصادر إلّا أنّ الرؤيا أكثر ما يستعمل في المنام ليفهم في رأى العين بمعنى النظر إذا ذكر.
وقال الأعشى:
فلما رأى لا قوم من ساعة ... من الرأي ما أبصروه وما أكتمن
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ: يقوي بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ: التي ذكرت لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ: لذوي العقول، وقيل: لمن أبصر الجمعين.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ: جمع شهوة وهي نزوع عن النفس إليه، وإنّما حرّكت الهاء في الجمع ليكون فرقا بين جمع الاسم وبين جمع النعت لأنّ النعت لا تحرك نحو: ضخمة،
__________
(1) سورة الأنفال: 44.(3/22)
ضخمات، وحبلة حبلات، والاسم يحرك مثل: تمرة وتمرات، هو نفقة الجيل ونفقات، فإذا كان ثاني الاسم تاء أو واوا، فأكثر العرب على تسكينها [استثقالا] لتحريك الياء والواو كقولك:
بيضة وبيضات، جوزة وجوزات.
وعن أنس بن مالك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النّار بالشهوات» [12] «1» .
مِنَ النِّساءِ: بدأ بهنّ لأنهنّ حبائل الشيطان وأقرب الى الافتان.
وَالْبَنِينَ:
عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للأشعث بن قيس: هل لك من ابنة حمزة من ولد؟ قال: نعم لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني حيلة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لئن قلت ذلك إنّهم لثمرة القلوب وقرّة الأعين وإنّهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة «2» .
وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ: المال الكثير بعضه على بعض.
ابن كيسان: المال العظيم، أبو عبيدة: تقول العرب هو أن لا يحدّ.
وقال الباقون: فلا محدود، ثم اختلفوا فيه،
فروى أبو صالح عن أبي هريرة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «القنطار: إثنا عشر ألف أوقية» [13] «3» .
وعن يزيد الرقاشي قال: دخلت أنا وثابت وناس معنا الى أنس بن مالك فقلنا له: يا أبا حمزة ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في قيام الليل؟ قال أنس: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ في ليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية أعطي قيام ليلة كاملة، ومن قرأ مائتي آية ومعه القرآن فقد أدّى حقّه، ومن قرأ خمسمائة آية الى أن يبلغ ألف آية كان كمن تصدّق بقنطار قبل أن يصبح، قيل: وما القنطار؟ قال: ألف دينار.
سالم بن أبي الجعد عن معاذ بن جبل قال: القنطار ألف ومائتا أوقيّة، وهو قول ابن عمر ومثله
روي زر بن حبيش عن أبي بن كعب: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية» [14] «4» .
وروى عطية عن ابن عباس وعبد الله بن عمر عن الحكم عن الضحاك: «إنّ القنطار ألف ومائتا مثقال» .
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 153.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 30. [.....]
(3) مسند أحمد: 2/ 363.
(4) تفسير القرطبي: 4/ 30.(3/23)
ومثله روى يونس عن الحسن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرسلا.
روي حمزة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «القنطار ألف دينار» [15] «1» .
سعيد بن جبير عن عكرمة: هو مائة ألف ومائة من، ومائة [رطل] ومائة مثقال ومائة درهم، ولقد جاء الإسلام يوم جاء [وبمكة] «2» مائة رجل.
[وعن سفيان عن] إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح قال: القنطار: مائة رطل «3» .
فقال الحكم: القنطار ما بين السماء والأرض من مال.
أبو نظرة: مسك ثور ذهبا أو فضّة.
سعيد بن المسيّب وقتادة: ثمانون ألفا.
ليث عن مجاهد القنطار: سبعون ألفا.
شريك: أربعون ألف مثقال.
الحسن: القنطار دية أحدكم.
ومثله روى الوالبي عن ابن عباس وجويبر عن الضحّاك قال: إثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار دية أحدكم.
وعن أبي حمزة الثمالي قال: القنطار بلسان أفريقيا والأندلس ثمانية آلاف جروال من ذهب أو فضة.
وروى الثمالي عن السدي قال: أربعة آلاف مثقال.
قال الثعلبي: ورأيت في بعض الكتب أنّ القناطير [مأخوذة من عقد الشيء وإحكامه] وأصلها من الإحكام يقال: قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سمّيت القنطرة المقنطرة «4» .
قال الضحاك: الْمُقَنْطَرَةِ: المحصّنة المحكمة.
قتادة: هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض كأنّها المدفونة يقال: قنطر إذا كثر.
السدي: المخزونة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير.
قال الفراء: المضعّفة كأن القنطار ثلاثة والْمُقَنْطَرَةِ تسعة.
__________
(1) الدرّ المنثور: 2/ 10.
(2) كذا في المخطوط ولعلّه: والقناطر.
(3) تفسير الطبري: 3/ 273.
(4) تفسير القرطبي: 4/ 30، ونسبه للزجاج.(3/24)
أبو عبيدة: هو مفعللة من القنطار مثل قولك ألف مؤلّف.
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: قيل سمّي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى، والفضّة لأنّه تنفض أي تفرق.
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ: الخيل جمع هو لا واحد له من لفظه. واحده «فرس» كالقوم والنساء والرهط والجيش ونحوها. واختلف العلماء في معنى «الْمُسَوَّمَةِ» فقال مجاهد، وسعيد بن جبير، والربيع: هي الراعية.
ومثله روى عطيّة عن ابن عباس والحسن: هي المرعيّة يقال: سامت الخيل يسوم سوما، فهي سائمة، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة، وسوّمتها تسويما فهي مسوّمة. قال الله:
فِيهِ تُسِيمُونَ «1» .
وفيه قول الأخطل:
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله ... أولى لك ابن مسيمة الآجال «2»
يعني: ابن الإبل.
حبيب بن أبي ثابت، وابن أبي نجيع عن مجاهد: المطهّمة الحسان ليث عنها المصوّرة، وعن عكرمة: تسويمها حسنها «3» .
السدّي: هي الرايعة، وكلها بمعنى واحد.
أبو عبيدة، والحسن، والأخفش، والقتيبيّ: المعلّمة. ومثله روى الوالبي عن ابن عباس.
قتادة: شيباتها وألوانها، المؤرّج المكويّة، المبرد: المعرفة في البلدان.
ابن كيسان: اليحلق وكلها قد قسارية وأصلها من السومة، والمسيما وهي العلامة. يقال:
سومت الخيل تسويما إذا علمتها. قال الله تعالى: بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ «4» .
قال النابغة في صفة الخيل:
بسمر كالقداح مسوّمات ... عليها معشر اشبها جنّ «5»
وقال الأعشى:
وفرسان الحفاظ بكل ثغر ... يقودون المسوّمة العرابا
__________
(1) سورة النمل: 10.
(2) الأغاني: 8/ 319، (دار الكتب المصرية) وفيه: كابن البزيعة.
(3) فتح القدير: 1/ 324.
(4) سورة آل عمران: 125.
(5) جامع البيان للطبري: 3/ 277.(3/25)
وقال ابن زيد وأبان بن ثعلب: المسومة: المعدّة للحرب والجهاد.
قال لبيد:
ولعمري لقد بلي كليب ... كلّ قرن مسوّم القتال
قال الثعلبي: ورأيت في بعض التفاسير: أنّها الهماليخ.
فصل في الخيل
«صفة خلقها»
روى الحسن بن علي عن أبيه علي (عليه السّلام) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله لما أراد أن يخلق الخلق قال للريح الجنوب: إنّي خالق منك خلقا. فأجعله عزّا لأوليائي، ومذلة على أعدائي، وجمالا لأهل طاعتي، فقال الريح: أخلق. فقبض منها قبضة فخلق فيها فرسا.
فقال له: خلقتك عربيا وجعلت الخير معقودا بناصيتك، والغنائم مجموعة على ظهرك، عطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطير بلا جناح، وأنت للطلب وأنت للهرب، وسأجعل على ظهرك رجالا يسبّحوني ويحمدونني، ويهلّلوني ويكبّروني، تسبّحين إذا سبّحوا، وتهلّلين إذا هلّلوا، وتكبّرين إذا كبّروا» .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من تسبيحة، وتحميدة وتمجيدة، وتكبيرة يكبّرها صاحبها وتسعه إلّا وتجيبه بمثلها» [16] «1» .
ثم قال: «لما سمعت الملائكة صفة الفرس عاتبوا خالقها قالت: ربّ نحن ملائكتك نسبّحك، ونحمدك فماذا لنا؟ فخلق الله لها خيلا بلقاء أعناقها كأعناق البخت، قال: فلما أرسل الفرس الى الأرض فاستوت قدماه على الأرض صهل، فقيل: بوركت من دابّة أذلّ بصهيله المشركين، أذل به أعناقهم، أملأ منه آذانهم، وأرعب به قلوبهم.
فلما عرض الله على آدم من كل شيء قال: أختر من خلقي ما شئت، فاختار الفرس. فقال له: اخترت عزّك وعزّ ولدك خالدا ما خلدوا وباقيا ما بقوا. [يلقح فينتج منه أولادك أبد الآبدين] بركتي عليك وعليه ما خلقت خلقا أحبّ الي منك ومنه» [17] «2» .
فضلها:
روى أبو صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم القيامة» [18] «3» .
__________
(1) الدر المنثور: 3/ 195.
(2) كنز العمّال: 4/ 465، ح 11382، والدرّ المنثور: 3/ 195، و: 4/ 111.
(3) مسند أحمد: 2/ 49. [.....](3/26)
وعن سعيد بن عروبة عن قتادة عن آنس قال: لم يكن شيء أحبّ الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد النساء من الخيل.
وعن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ليس من فرس عربي إلّا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول: اللهم خولتني من خولتني من بني آدم، وجعلتني له، فاجعلني أحبّ ماله وأهله إليه، أو من أحب ماله وأهله إليه» [19] «1» .
شأنها:
عن أبي وهب الحسيني، وكانت له صحبة قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلّم «وارتبطوا الخيل، وامسحوا نواصيها وأكفالها، وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار، وعليكم بكل كميت أغرّ «2» محجّل أو أشقر محجل، أو أدهم أغرّ محجّل» [20] «3» .
وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي يكره الشكال «4» من الخيل
، قال أبو عبد الرحمن: الشكال من الخيل أن يكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة أو يكون ثلاث قوائم مطلقة، ورجل محجلة، وليس تكون الشكال إلا في الرجل «5» .
وروى سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار» [21] «6» .
وجوهها:
زيد بن أسلم عن أبي صالح التمار عن أبي هريرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخيل لثلاثة:
لرجل أجر، ولرجل ستر. ولرجل وزر، فأما الذي هو له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج والروضة، كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرّفن كانت أن آثارها وأرواثها حسنات له. ولو أنّها مرّت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقيها منه كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر. ورجل ربطها تقنّنا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها وظهرها فهي لذلك ستر. ورجل ربطها فخرا ورياء ونوى لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر» [22] «7» .
__________
(1) مسند أحمد: 5/ 170.
(2) الأغر: هو ما له غرّة في جبهته بيضاء فوق الدرهم.
(3) سنن النسائي: 6/ 218.
(4) الشكال: بياض في اليدين أو فقط في اليمنى والرجل اليمنى، وقيل: عكسه في اليسرى.
(5) نيل الأوطار للشوكاني: 8/ 254.
(6) مسند أحمد: 2/ 136.
(7) السنن الكبرى: 10/ 15.(3/27)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
وعن خباب بن الإرث قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخيل ثلاثة فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان فأمّا فرس الرحمن فما اتخذ في سبيل الله، وقتل عليه أعداء الله، وأما فرس الإنسان فما استبطن ويحمل عليه، واما فرس الشيطان فما روهب ورهن عليه وقومر عليه» [23] «1» .
وَالْأَنْعامِ: جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، جمع لا واحد له من لفظه.
وَالْحَرْثِ: يعني الزرع.
ذلِكَ: الذي ذكرت.
مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا: لا عتاد المعاد والعقبى.
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ: أي المرجع مفعل من أب، يؤوب أوبا مثل المتاب.
زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عبد الله بن الأرقم وهو يقول لعمر (رضي الله عنه) : يا أمير المؤمنين إنّ عندنا حلية من حلية جلود وآنية من ذهب وفضّة فما رأيك فيها. فقال عمر: إذا رأيتني فارغا فائتني، فقال: يا أمير المؤمنين إنّك اليوم فارغ. قال: فما نطلق معه، فجيء بالمال. فقال: أبسطه قطعا، فبسط ثم جيء بذلك المال وصبّ عليه ثم قال: «اللهم إنّك ذكرت هذه المال فقلت: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ «2» ثم قلت لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ «3» اللهم إنا لا نستطيع أن لا نفرح بما آتينا، اللهم أنفقه في حق، وأعوذ بك منه، قال: فأتى بابن له يحمله، يقال له عبد الرحمن، فقال: يا أبه هب لي خاتما.
قال: اذهب الى أمك تسقيك سويقا، فلم يعطه شيئا.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 22]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)
__________
(1) مجمع الزوائد: 5/ 260.
(2) سورة آل عمران: 14.
(3) سورة الحديد: 23.(3/28)
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ: أخبركم.
بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ: الذي ذكرت تم الكلام هاهنا. ثم ابتدأ فقال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ: تقع خبر حرف الصلة.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ: قرأ العامة بكسر الراء. وروى أبو بكر عن عاصم: بضم الراء من الرضوان في جميع القرآن وهو لغة قيس وغيلان، وهما لغتان كالعدوان والعدوان والطغيان والطغيان.
زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يقول الله عزّ وجل لأهل الجنة: «يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربّنا وسعديك والخير في يديك. فيقول:
هل رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحد من خلقك» .
فيقول: «ألا أعطكم أفضل من ذلك» فيقولون: وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ قال: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» [24] «1» .
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إن شئت جعلته محل (الَّذِينَ) على الجر ردا على قوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا «2» . وإن شئت رفعته على الابتداء كقوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ «3» . ثم قال في صفتهم مبتدئا: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ.
رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا صدّقنا.
فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا: أسترها علينا وتجاوزها عنا.
وَقِنا عَذابَ النَّارِ. الصَّابِرِينَ: في أداء الأمر، وعن ارتكاب الزنى وعلى الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ. وان شئت نصبتها وأخواتها على المدح، وإن شئت خفضتها على النعت.
وَالصَّادِقِينَ: في إيمانهم، قال قتادة: هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السر والعلانية وَالْقانِتِينَ: المطيعين المصلين.
__________
(1) صحيح البخاري: 8/ 205، صحيح مسلم: 8/ 144.
(2) سورة آل عمران: 15.
(3) سورة التوبة: 111.(3/29)
وَالْمُنْفِقِينَ: أموالهم في طاعة الله.
وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لله ملكا ينادي: اللهم اعط منفقا خلفا، واعط ممسكا تلفا» [25] «1» .
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ: قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، والكلبي والواقدي: يعني المصلين بالأسحار. نظير قوله وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ «2» أي يصلّون.
وقال يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي الزهري قال: قلت لزيد بن اسلم: من الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ؟ قال: هم الذين يشهدون الصبح «3» .
وكذلك قال ابن كيسان: يعني صلاة الصّبح في المسجد.
وقال الحسن: صلّوا الصلاة الى السحر ثم استغفروا.
قال نافع: كان ابن عمي يحيي الليل، ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصلاة، وإذا قلت: نعم، فيستغفر الله ويدعوا حتى الصبح «4» .
وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر يتهجّد في المسجد وهو يقول: ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي. فنظرت فإذا هو ابن مسعود (رضي الله عنه) .
وروى صالح وحماد بن سلمة عن ثابت وأبان وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنّ الله عزّ وجل يقول: «إني لأهمّ بأهل الأرض عذابا فإذا نظرت الى عمّار بيوتي والى المتهجدين والى المتحابين فيّ، والى الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ صرفت عنهم» [26] «5» .
محمد بن زاذان عن أم سعد قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ ثلاثة أصوات يحبهم الله عزّ وجلّ صوت الديك، وصوت الذي يقرأ القرآن، وصوت الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» [27] «6» .
حمّاد بن سلمة عن سعيد الجريري قال: بلغنا أنّ داود نبي الله سأل جبرائيل (عليه السلام) : أي الليل أفضل؟ فقال: ما أدري إلا أنّ العرش يهتز من السحر «7» .
__________
(1) صحيح مسلم: 3/ 84، والمستدرك: 4/ 559، بتفاوت يسير. [.....]
(2) سورة الذاريات: 18.
(3) تفسير الطبري: 3/ 284، وفيه: يرويه يعقوب عن زيد مباشرة.
(4) مجمع الزوائد: 9/ 347.
(5) كنز العمّال: 7/ 579، ح 20343.
(6) كنز العمّال: 12/ 335، ح 35285.
(7) المصنّف لابن أبي شيبة: 8/ 115، وتاريخ بغداد: 4/ 54.(3/30)
وقال سفيان الثوري: إنّ لله ريحا يقال لها: الصبّحية تهب وقت الأسحار تحمل الأذكار والاستغفار الى الملك الجبّار.
قال سفيان انّه إذا كان من أوّل الليل، نادى مناد: ألا ليقم العابدون، فيقومون فيصلّون ما شاء الله، ثم ينادي منادي في شطر الليل: ليقم القانتون، فيقومون كذلك يصلّون الى السحر.
فإذا كان نادى مناد: ألا ليقم المستغفرون، فيقومون فيستغفرون، ويقوم آخرون يصلّون فيلحقون بهم. فإذا طلع الفجر نادى مناد: اللهم ليقم الغافلون فيقومون، من فراشهم كأنهم نشروا من قبورهم.
وقال لقمان لابنه: «يا بني لا يكون الديك أكيس منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم.
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
عن غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش وكنت اختلف إليه. فلما كنت ذات ليلة أردت أن أنحدر الى البصرة قام من الليل يتهجد فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية. ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قالها مرارا. قلت: لقد سمع. فما شيئا فصلّيت معه وودعته، ثم قلت: آية سمّعتك نردّدها فما بلغك فيها؟ قال: والله لا أحدث بها الى سنة. فلبثت على بابه ذلك اليوم، وأقمت سنة، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد مضت السنة، فقال: حدثنا أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يجيء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله: عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى بالعهد. أدخلوا عبدي الجنة» [28] «1» .
خالد بن زيد عن يزيد الرقاسي عن أنس بن مالك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قرأ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية.. عند منامه خلق الله عزّ وجلّ له سبعين ألف ملك يستغفرون له الى يوم القيامة» [29] «2» .
وعن الزبير بن العوام قال: قلت: لأدنونّ هذه [العشية] من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي عشية عرفه حتى أسمع ما يقول، فحبست ناقتي من ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وناقة رجل كان الى جنبه.
فسمعته يقول: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية. فما زال يردّدها حتى دفع.
يعقوب عن جعفر عن سعيد بن جبير قال: كان حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنما. فلما نزلت شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية، خرّوا سجّدا.
__________
(1) مجمع الزوائد: 6/ 326.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 42.(3/31)
قال الكلبي: قدم حبران من أهل الشام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة صفة مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يخرج آخر الزمان! فلما دخلا على النبي صلّى الله عليه وسلّم عرفاه بالصفة والنعت. فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم. قالا: وأنت أحمد؟ قال: إنا محمد وأحمد قالا: إنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنّا بك وصدّقناك. فقال: بلى. قالا:
أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله؟ فأنزل الله هذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية.. فأسلم الرجلان.
واختلف القرّاء في هذه الآية. فقرأ أبو نهيك وأبو الشعثاء: شَهِدَ اللَّهُ بالرفع والمدّ على معنى: هم شهداء يعني: الذين مرّ ذكرهم.
وروى المهلّب عن محارب بن دثار: شَهِدَ اللَّهَ منصوبة على الحال والمدح.
وقرأ الآخرون: شَهِدَ اللَّهُ على الفعل أي بيّن لأن الشهادة تبيين.
وقال مجاهد: حكم الله، الفرّاء وأبو عبيدة: قضى الله، المفضّل: لعلم الله.
ابن كيسان: شَهِدَ اللَّهُ بتدبيره العجيب، وصنعه المتقن، وأموره المحكمة من خلقه أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وهذا كقول القائل:
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد ... وفي كل شيء له آية تدل على أنّه واحد «1»
وقيل لبعض الأعراب: ما الدليل على أنّ للعالم صانعا؟
فقال: إنّ البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، وهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة أما يدلّان على الصانع الخبير.
قال ابن عباس: «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، وشهد بنفسه لنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا برّ ولا بحر، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» [30] .
وقرأ ابن مسعود: (أنّ لا آله إلا هو ... )
وقرأ ابن عباس: شَهِدَ اللَّهُ إِنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: بكسر الألف جعله خبرا مستأنفا معترضا في الكلام على توهم الفاء، كأنه قال: فإنّه لا إله إلّا هو، قاله أبو عبيدة والمفضّل، وقال بعضهم: كسره لأن الشهادة قول وما بعد القول يكون مكسورا على الحكاية فتقديره قال الله:
أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
وَالْمَلائِكَةُ: قال المفضّل: معنى شهادة الله للإخبار والإعلام، ومعنى شهادة ملائكة
__________
(1) تفسير الثعالبي: 2/ 149.(3/32)
الله والمؤمنين الإقرار كقوله: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
«1» أي أقررنا فنسق شهادة الملائكة، وَأُولُوا الْعِلْمِ على شهادة الله تعالى.
والشهادتان مختلفتان معنى لا لفظا كقوله عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ «2» والصلاة من الله «الرحمة» ومن الملائكة «الاستغفار والدعاء» ، وَأُولُوا الْعِلْمِ: يعني الأنبياء (عليهم السلام) .
وقال ابن كيسان: يعني المهاجرين والأنصار.
مقاتل: مؤمني أهل الكتاب، عبد الله بن سلام: وأصحابه: نظيره قوله: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «3» ، وقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «4» .
وقال السدي والكلبي: يعني علماء المؤمنين كلهم. فقرّب الله تعالى شهادة العلماء بشهادته لأن العلم صفة الله العليا ونعته العظمى. والعلماء أعلام الإسلام والسابقون الى دار السلام وسرج الأمكنة وحجج الأزمنة.
وروى صفوان عن سليم عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ساعة من عالم متّكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاما» [31] «5» .
المسيب بن شريك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه لله حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وتذكره لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل الجنة والنار، والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة، والميراث في الخلوة، والدليل على السرّاء والضرّاء، والسلاح على الأعداء، والقرب عند الغرباء، يرفع الله به أقواما ويجعلهم في الخير قادة يقتدى بهم، ويبيّن آثارهم، ويرموا أعمالهم، وينهى الى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلواتهم تستغفر لهم، وكل رطب ويابس يستغفر لهم حتى حيتان البحر وسباع الأرض وأنعامها والسماء ونجومها، ألا فإن العلم خير أنقاب عن الصمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأحرار، ومجالس الملوك، والفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام، به يعرف الحلال والحرام، وبه توصّل الأرحام، إمام العمل والعقل تابعه، يلهم السعد أو يحرم إذا شقي» [32] «6» .
__________
(1) سورة الأنعام: 130.
(2) سورة الأحزاب: 56.
(3) سورة الإسراء: 107.
(4) سورة الرعد: 43.
(5) الجامع الصغير: 2/ 39، ح 4622. [.....]
(6) تفسير الثعالبي: 2/ 12.(3/33)
قائِماً بِالْقِسْطِ: أي بالعدل ونظام الآية «شهد الله قائما بالقسط» . وهو نصب على الحال.
وقال الفرّاء: هو نصب على القطع كأن أصله القائم، وكذلك هو في (عبد الله) فلما قطعت الألف واللام نصب لقوله تعالى: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «1» .
وقال أهل المعاني في قوله: قائِماً بِالْقِسْطِ: أي مدبّر، رازق، مجازي بالأعمال كما يقال: فلان قائم بأمري: أي مدبّر له متعهد لأسبابه، وقائم بحق فلان: أي بحاله.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: كرّر لأنّ الأولى حلت محل الدعوى، والشهادة الثانية حلت في محل الحكم.
وقال جعفر الصّادق: الأولى [وصف وتوحيد] والثانية رسم وتعليم يعني قولوا: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2» .
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ: يعني [بالدين الطاعة والملّة] لقوله: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «3» .
وفتح الكسائي ومحمد بن عيسى الاصفهاني ألف (إنّ) ردا على (أنّ) الأولى في قوله:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ يعني: شهد الله أنّه، وشهد أن الدين عند الله الإسلام، وكسر الباقون على الابتداء. والإسلام [من السلم: الإيمان و] الطاعة يقال: أسلم أي: دخل في السلم. وذلك كقولهم: أستى وأربع وأمحط واخبت: أي دخل فيها.
سفيان: قال قتادة: في قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قال: [شهادة] أن لا إله إلا الله. والإقرار بأنّها من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله ودلّ عليه أولياءه ولا يقبل غيره ولا جزى إلّا به.
وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية، قال الربيع: إنّ موسى (عليه السلام) لما حضرته الوفاة دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل، واستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليها، واستخلف يوشع بن نون.
فلمّا مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم، وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السبعين حتى أوقعوا بينهم الدماء، ووقع الشر والإختلاف وذلك مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعني: بيان ما في التوراة بَغْياً بَيْنَهُمْ: أن طلبها للملك والرئاسة والتحاسد والمناقشة فسلط الله عليهم الجبابرة.
__________
(1) سورة النحل: 52.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 43.
(3) سورة المائدة: 3.(3/34)
وقال بعضهم: أراد وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ، يعني: بيان نعته وصفته في كتبهم.
وقال محمد بن جعفر عن الزبير: نزلت هذه الآية في نصارى نجران ومعناها: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هو الإنجيل في أمر عيسى (عليه السلام) ، وفرّقوا القول فيه إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ، بأن الله واحد، وأنّ عيسى عبده ورسوله بَغْياً بَيْنَهُمْ: أي للمعاداة والمخالفة.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ: لا يحتاج الى عقد وقبض يد.
وقال الكلبي: نزلت في يهوديين تركوا اسم الإسلام وتسمّوا باليهودية والنصرانية، قال الله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ قال: دين الله هو الإسلام بغيا منهم فلمّا وجدا نظيره قوله: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ «1» فقالت اليهود والنصارى: لسنا على ما سميتنا به يا محمد إنّ اليهودية والنصرانية سبّ هو الشرك، والدين هو الإسلام ونحن عليه.
فَإِنْ حَاجُّوكَ: خاصموك يا محمد في الدين، فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ: أي انقدت [لأمر الله] لِلَّهِ: وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي، إنّما خص الوجه لأنّه أكرم جوارح الإنسان، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء فقد خضع له سائر جوارحه التي هي دون وجهه.
وقال الفرّاء: معناه أخلصت عملي لله.
يقال: أسلمت الشيء لفلان وسلمته له، أي دفعته إليه [......] «2» ومن هذا يقال:
أسلمت الغلام إلى [....] «3» وفي صناعة كذا. أي أخلصت لها.
والوجه: العمل كقوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ: أي قصده وعمله. وقوله: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى «4» .
وَمَنِ اتَّبَعَنِ: «من» في محل الرفع عطفا على التاء في قوله: أَسْلَمْتُ أي: ومن اتبعني أسلم كما أسلمت.
وأثبت بعضهم «5» ياء قوله: اتبعني على الأصل، وحذفه الآخرون على لفظ ينافي المصحف [إذا وقعت فيه بغير ياء] . وأنشد:
__________
(1) سورة البيّنة: 4.
(2) كلمة غير مقروءة.
(3) كلمة غير مقروءة.
(4) سورة الليل: 20.
(5) وهم نافع وأبو عمرو ويعقوب راجع تفسير القرطبي: 4/ 45.(3/35)
كفاك كفّ ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف دما «1»
وقال آخر:
ليس تخفى يسارتي قدر يوم ... ولقد يخف شيمتي إعساري «2»
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ: يعني العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) : لفظ استفهام ومعناه أمر، أي أسلموا كقوله:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ: أي نهوا، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا:
فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، فقال أهل الكتاب: أسلمنا. فقال للنصارى: أتشهدون أنّ عيسى كلمة من الله وعبده ورسوله، فقالوا: معاذ الله.
وقال لليهود: إنّ عزير هو عبد الله ورسوله، قالوا: معاذ الله فذلك قوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ. بتبليغ الرسالة، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ: عالم بمن يؤمن بالله ومن لا يؤمن بالله وبأهل الثواب وبأهل العقاب.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ: يجحدون، بِآياتِ اللَّهِ: بحجّة وأعلامه، وقيل: هي القرآن، وقيل: هم اليهود والنصارى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ قرأ الحسن ويُقَتِّلُونَ بالتشديد فهما على تكثر.
وقرأ حمزة: (وتقاتلون الّذين يأمرون) اعتبارا بقراءة مسعود (وقاتلوا الذين يأمرون به) ، ووجه هذه القراءة يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وقد «قاتلوا الذين يأمرون» لأنه غير جائز عطف الماضي على المستقبل وفي حرف. أي: ويقتلون النبيين بغير حق والذين يأمرون بالقسط، قال مقاتل: أراد به ملوك بني إسرائيل.
وقال معقل بن أبي سكين، وابن جريح: كان الوحي يأتي الى أنبياء بني إسرائيل، ولم يكن يأتيهم كتاب فيذكّرون قومهم فيقتلون. فيقوم رجال فمن اتّبعهم وصدقهم فيذّكرون قومهم فيقتلون أيضا. فهم الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ.
وعن قبيصة بن دويب الخزاعي عن أبي عبيدة الجرّاح قال: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: «رجل قتل نبيا، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف» ، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ إلى قوله: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا في أول النهار ساعة واحدة، فقام مائة وإثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل فأمروا من قبلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر
__________
(1) فتح القدير: 5/ 433.
(2) جامع البيان للطبري: 30/ 217.(3/36)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم، فهم الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه فأنزل الآية فيهم» [33] .
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بئس القوم قوم يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وبئس القوم قوم يمشي المؤمن فيهم بالتقية والكتمان» [34] «1» .
فَبَشِّرْهُمْ.. أخبرهم بعذاب أليم، وإنما أدخل الفاء [في خبرها] «2» لأنه قوله: (الَّذِينَ) موضع الجزاء [ «وإنّ» لا تبطل معنى الجزاء لأنّها بمزلة الابتداء عكس: ليت] «3» .
وقيل: أدخل الفاء على الغاء أن وتقديره: «الذين يكفرون ويقتلون فبشّرهم بعذاب أليم رجيح.
أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ: ذهبت وبطلت.
وقرأ أبو واقد والجرّاح: «حَبَطَتْ» بفتح التاء مستقبلة «تحبط» بكسر الباء وأصله من «الحبط» وهو أن ترعى الماشية [بلا دليل ورديع] «4» فتنتفخ من ذلك بطونها، وربّما ماتت منه، ثم جعل كل شيء يهلك حبطا.
ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا إذ يلم» [35] «5» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 32]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ: أي نصيبا وحظا من الكتاب. يعني: اليهود يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ.
واختلفوا في هذا الكتاب الذي أخبر الله تعالى إنّهم يدعون إليه فيعرضون عنه. فقال قوم:
هو القرآن.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال: إنّ الله عزّ وجلّ جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله، فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنّهم على غير دين الهدى فأعرضوا عنه.
وقال قتادة: هم أعداء الله اليهود. دعوا الى حكم القرآن واتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم فأعرضوا، وهم يجدونه مكتوبا في كتبهم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 46.
(2) زيادة منّا للإيضاح.
(3) زيادة منّا للإيضاح، والمخطوط لا يقرأ. [.....]
(4) هكذا الظاهر، وفي تفسير القرطبي (3/ 46) الحبط: هو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأ فتنتفخ أجوافها وربّما تموت من ذلك.
(5) صحيح ابن حبّان: 8/ 23، كنز العمّال: 3/ 204.(3/37)
السّديّ: دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم اليهود إلى الإسلام، فقال له النعمان بن أبي أوفى: هلمّ يا محمّد نخاصمك إلى الأحبار، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل الى كتاب الله. فقال: بل الى الأحبار.
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الآخرون: هي التوراة.
روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيت المقدس على جماعة من اليهود، فدعاهم الى الله عزّ وجلّ.
فقال له نعيم بن عمر وابن الحارث بن فهد: على أيّ دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملّة إبراهيم. قالا: إنّ إبراهيم كان يهوديا. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فأسلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّ رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا، وكانا في شرف منهم، وكان في كتابهم الرجم. فكرهوا رجمهما لحالهما وشرفهما، ورجوا أن يكون عند رسول الله رحمة في أمرهما، فرفعوا الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحكم عليهما بالرجم، فقال له النعمان ابن أبي أوفى ونخري بن عمر: جرت علينا يا محمد. ليس عليهما الرجم، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم. قالوا: قد أنصفتنا. قال فمن أعلمكم؟
فقالوا: رجل أعمى يسكن فدك، يقال له ابن صوريا، فأرسلوا إليه، فقدم المدينة وكان جبرائيل (عليه السلام) قد وصفه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله: لأنت ابن صوريا؟ قال:
نعم. قال: أنت أعلم اليهود؟ قال كذلك يزعمون، قال: فدعا رسول الله بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب. فقال له: أقرأ. فلما أتى آية الرجم وضع كفه عليه وقرأ ما بعدها. فقال ابن سلام: يا رسول الله قد جاوزها ووضع كفه عليها، وقام ابن سلام الى ابن صوريا فرفع كفه عنها، ثم قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اليهوديان المحصنان إذا زنيا، وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها» [36] «1» . فأمر رسول الله باليهوديين فرجما، فغضب اليهود لذلك غضبا شديدا، وانصرفوا. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
__________
(1) فتح الباري: 12/ 150، يلاحظ لم يذكر كلمة: اليهوديان، في الحديث.(3/38)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ حظا من التوراة.
يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ، فقد علمهم أنّها في التوراة.
وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ: أي فكيف يصنعون لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ: وهو يوم القيامة.
وَوُفِّيَتْ: ذكرت.
كُلُّ نَفْسٍ: برّ أو فاجر.
ما كَسَبَتْ: أي جزاء ما عملت من خير أو شر.
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ: لا ينقصون من حسناتهم ولا يزداد على سيئاتهم.
روى الضحاك عن ابن عباس، قال: «أوّل راية ترفع لأهل الموقف ذلك اليوم من رايات الكفار راية اليهود، فيقمعهم الله على رؤوس الاشهاد ثم يأمر بهم الى النار» .
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ،
قد روى الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وروى جعفر ابن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما أراد الله أن ينزّل فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، وشَهِدَ اللَّهُ، وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ...
إلى بِغَيْرِ حِسابٍ تعلقن بالعرش، وليس بينهن وبين الله حجاب، وقلن: يا رب تهبطنا دار الذنوب وإلى من يعصيك ونحن متعلقات بالطيور والعرش. فقال تعالى: وعزّتي وجلالي ما من عبد قرأكنّ في دبر كل صلاة مكتوبة إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان فيه، وإلّا نظرت له بعيني في كل يوم سبعين مرة، وإلّا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلّا أعذته من كل عدو ونصرته عليه، ولا يمنعه دخول الجنة إلّا الشرك» .(3/39)
وقال معاذ بن جبل: أحتبست عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما لم أصلّ معه الجمعة. فقال: يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة؟ قلت: يا رسول الله كان ليوحنا اليهودي عليّ أوقية [من تبر] ، وكان على بابي يرصدني، فأشفقت أن يحبسني دونك. فقال: «أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك؟» . قلت: نعم يا رسول الله. قال: قل اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ.. إلى قوله: بِغَيْرِ حِسابٍ، وقل: «يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها تعطي منها ما تشاء وتمنع منها ما تشاء، أقض عني ديني. فإن كان عليك ملئ الأرض ذهبا قضاه الله عنك» [37] «1» .
قال قتادة: ذكر لنا أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن عباس، وأنس بن مالك: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم. قالت: المنافقين واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس، هم أعزّ وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، قال: خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخندق في عام الأحزاب. ثمّ قطع أربعين ذراعا بين كلّ عشرة، قال: فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منّا. وقال الأنصار:
سلمان منّا.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سلمان منّا أهل البيت» [38] .
قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا، فحفرنا حتى بلغنا الصدى أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقّت علينا. فقلنا يا سلمان: آت إلى رسول الله وأخبره خبر هذه الصخرة. فإمّا أن نعدل عنها فإنّ المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمر، فإنّا لا نحب أن نجاوز خطة.
قال: فرقى سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ضارب عليه قبّة تركية. فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق، وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيء منها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك فإنّا لا نحب أن نجاوز خطك، قال: فهبط رسول الله مع سلمان الخندق وبقينا نحن التسعة على شفة الخندق. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، يعني المدينة، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكبير فتح، وكبّر المسلمون، ثم ضربها صلّى الله عليه وسلّم فكسرها،
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 52، ومسند الشاميين: 3/ 320، ح 2398.(3/40)
وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكبير فتح، وكبّر المسلمون معه. فأخذ بيد سلمان ورقى. فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط! فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى القوم فقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول الله [بأبينا أنت وأمّنا وقد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج، فرأيناك تكبّر فنكبّر ولا نرى شيئا غير ذلك] «1» قال: ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل (عليه السلام) أنّ أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور بصرى من أرض الروم كأنّها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل (عليه السلام) أنّ أمتي ظاهرة عليها. [ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل أنّ أمتي ظاهرة عليها] «2» فأبشروا. فاستبشر المسلمون، وقالوا:
الحمد لله موعود صدق بأن وعدنا النصر بعد الحصر. [فطبقت الأحزاب فقال: المسلمون:
هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ «3» الآية] .
وقال المنافقون: ألا تعجبون يمنّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنّه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنّها تفتح لكم وأنتم إنّما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، قال: فأنزل القرآن: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «4» وأنزل الله في هذه القصة قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «5» .
واختلف النحاة في وجه دخول الميم في هذا الاسم وأصله (الله) وفي نصبه.
وقال بعضهم: إنّما أدخل الميم في آخره بدلا من حرف النداء المحذوف من أوله لأنّ أصله (يا الله) فحذفت حرف النداء وأدخلت الميم خلفا منه.
كما قالوا: فم، ودم، وزرقم محذوف وستهم، وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف «6» .
واحتجوا بأنّ نحوها من الأسماء والنعوت إذا حذف منها حرف أبدل مكانه ميم، ولمّا كان المحذوف من هذا الاسم حرفين كان البدل ميمين، فأدغمت إحداها في الأخرى فجاء التشديد
__________
(1) عن تفسير الطبري: 21/ 163.
(2) غير موجود في تفسير الطبري.
(3) سورة الأحزاب: 22.
(4) سورة الأحزاب: 12.
(5) تفسير الطبري: 21/ 163.
(6) في المخطوط بياض صوّبناه من تفسير الطبري: 3/ 299.(3/41)
لذلك، وفي سائر أخواتها مخففة لأنّ المحذوف حرف واحد ثم نصب لحق التضعيف.
وأنكر الآخرون هذه القول وقالوا: سمعنا العرب يدخل الميم فيه مع ياء النداء وأنشد الفرّاء:
وما عليك أن تقولي كلما ... سبّحت أو هللت يا اللهمّ ما
اردد علينا شيخنا مسلما ... فإنّنا من خيره لن نعدما «1»
قالوا: ونرى أنّما أصله الله في الدعاء. بمعنى (يا الله) ضم إليها أمّ وحذف حرف النداء.
يراد يا الله آتنا الخير أي: أقصدنا به ثمّ ضرب في الكلام حتى اختلطت به. فحذفت الهمزة استخفافا كقولهم: هلمّ إلينا كان أصله هل لم إلينا، أي أقصد أو أسرع. ثم كثرت هذه اللفظة حتى قالوا: لاهم بمعنى اللهم، وربما خفضوا ميمها أيضا، والله أعلم.
وقال أبو رجاء العطاردي: هذه الميم في قوله: (اللهم) : تجمع سبعين اسما من أسمائه عزّ وجلّ مالك الملك. قال الله تعالى في بعض الكتب: أنا الله مالك الملوك ومالك الملك، قلوب الملوك ونواصيها بيدي، فإذا العباد أطاعوني جعلت عليهم رحمة، وإذا العباد عصوني جعلت عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبّ الملوك، ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم.
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، قال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني ملك النبوة، الكلبي: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: محمد وأصحابه، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: أبي جهل وصناديد قريش.
وقال معتصم: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: العرب. وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: الروم والعجم وسائر الأمم.
السدّي: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: آتى الله الأنبياء وأمر العباد بطاعتهم. وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: نزع من الجبّارين وأمر العباد بخلافهم.
وقيل: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: آدم وولده، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ إبليس وجنده.
وقيل: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: داود. وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: جالوت.
وقيل: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: صخرا. وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: سليمان (عليه السلام) كان يطعم الخبز الجواري ويأكل خبز الشعير، وكان يلبس المرقعة ولم ينظر أربعين سنة إلى السماء تخشّيا لله.
وكان يدخل المسجد فيرتاد فقيرا يقعد بجنبه، ويقول: مسكين جالس مسكينا وَتَنْزِعُ
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 53.(3/42)
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: ملك النفس حتى يغلبه هواه ويتخذه إلها. كما قال الله عزّ وجل أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «1» .
وقال الشاعر:
ملكت نفسي فذاك ملك ... ما مثله للأنام ملك
فصرت حرا بملك نفسي ... فما لخلق عليّ ملك.
آخر:
من ملك النفس فحر [ضاهي] «2» ... والعبد من يملكه هواه
وقيل: هو ملك العافية. قال الله تعالى: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً «3»
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أصبح منكم آمنا في سربه. معافى في بدنه، وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» [39] «4» .
وقيل: هو القناعة.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ملوك أمتي القانع يوما بيوم، فمن أوتي ذلك فلم يقبله بقبوله ولم يصبر عليه شاكرا قصر عمله، وقل عقله» [40] .
وعن ابن المبارك قال: دخلت على سفيان الثوري بمكة، فوجدته مريضا شارب دواء، وبه غم شديد فسلمت عليه، وقلت: ما لك يا عبد الله؟ فقال: أنا مريض شارب دواء وبي غم شديد، فقلت: أعندك بصلة؟ قال: نعم، فقلت: آتيني بها فأتاني بها، فكسرتها ثم قلت: شمّها فشمّها فعطس عند ذلك فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فسكن ما به، فقال لي: يا بن المبارك أنت فقيه وطبيب. أو قال: عالم وطبيب، فقلت له: مجرّب يا أبا عبد الله. قال: فلمّا رأيته سكن ما به وطابت نفسه. قلت: إني أريد أن أسألك حديثا. فقال: سل ما شئت.
فقلت: أخبرني ما الناس؟ قال: الفقهاء. قلت: فما الملوك؟ قال: الزّهاد. قلت: فما الأشراف؟ قال: الأتقياء. قلت: فما الغوغاء؟ قال: الذين يكتبون الأحاديث ليستأكلوا به أموال الناس. قلت له: أخبرني رحمك الله: ما السفلة؟ قال: الظلمة. ثم ودّعته وخرجت من عنده.
قال: يا ابن المبارك عليك بهذا الخبر فإنه موجود رخيص قبل أن يغلوا فلا يوجد بالثمن.
وقال عبد العزيز بن يحيى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: يعني الملك على المهين وقهر الشيطان. كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم» [41] «5» .
__________
(1) سورة الجاثية: 23.
(2) كذا في المخطوط.
(3) سورة المائدة: 20. [.....]
(4) سنن الترمذي: 4/ 5.
(5) مسند أحمد: 3/ 156.(3/43)
وقال تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: يعني ملك المعرفة، كما آتى السحرة: وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، كما نزع من إبليس وبلعام.
الحسين بن الفضل: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: يعني ملك الجنة كما آتى المؤمنين قال الله تعالى: وَمُلْكاً كَبِيراً «1» ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: كما نزع من الكفار وأهل النّار.
أبو عثمان: أراد (بالملك) : توفيق للإيمان والطاعة.
وحكى الأستاذ أبو سعيد الواعظ: إنّه سمع بعض زهّاد اليمن يقول: هو قيام الليل.
الشبلي: الاستغناء بالمكون عن الكونين.
الواسطي: افتخر الملوك بالملك. فأخبرهم الله تعالى أنّ الملك [زائل] «2» عندهم لقوله تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ.
قالت الحكماء في هذه الآية: هذا إخبار عن كمال القدرة. وأنّ القادر على الكمال هو القادر على الشيء وضده، فأخبر أنّه قادر على أن يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: قال عطا: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: المهاجرين والأنصار، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: فارس والروم.
وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: محمدا وأصحابه حين دخلوا مكة وعشرة آلاف ظاهرين عليها، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: أبا جهل وأصحابه حين حزّوا رؤوسهم وألقوا في القليب.
وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بالإيمان والمعرفة. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالخذلان والحرمان.
وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بالتمليك والتسليط. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بسلب الملك وتسليط عدوه عليه.
الورّاق: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بقهر النفس ومخالفة الهوى. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: باتباع الهوى.
الكياني: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بقهره الشيطان. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بقهر الشيطان لنا.
وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بالقناعة والرضا. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالخزي والطمع.
قال الثعلبي (رحمه الله) : وسمعت السلمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت محمد بن الفضل يقول: سمعت الزبير بن عبد الواحد يقول: سمعت بنان الحمّال يقول: الحرّ عبد ما طمع. والعبد حر ما قنع.
__________
(1) سورة الإنسان: 20.
(2) كلمة غير مقروءة والظاهر ما أثبتناه.(3/44)
وقال وهب: خرج الغنى والعز يجولان فلقيا القناعة فاستقرا «1» .
وقال عيسى (عليه السلام) لأصحابه: لأنتم أغنى من الملوك.
قالوا: كيف يا روح الله ولسنا نملك شيئا؟ قال: أنتم ليس عندكم شيء ولا تريدونها، وعندهم أشياء ولا تكفيهم.
وللشافعي (رضي الله عنه) :
ألّا يا نفس أن ترضي بقوت ... فأنت عزيزة أبدا غنية
دعي عنك المطامع والاماني ... فكم أمنية جلبت منيّة «2»
وقال الآخر:
أفادتني القناعة كل عز ... وهل عزّ «3» أعزّ من القناعة
فصيّرها لنفسك رأس مال ... وصيّرها مع التقوى بضاعة «4»
وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بالإخلاص، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالرياء.
وقال الحسن بن الفضل: وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالجنة والرؤيا. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالنار والحجاب.
بِيَدِكَ الْخَيْرُ: يعني الخير والشر، فأكتفي بذكر الخير فإنّه الأفضل والأغلب كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «5» : أي الحر والبرد إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ: [أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر] حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة [وهو أطول ما يكون] ، والليل تسع ساعات، [وهو أقصر ما يكون] «6» .
وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ: حتى يكون الليل خمس [عشر] «7» ساعة، والنهار تسع ساعات فما نقص عن هذا زيد في الآخر نظير قوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ «8» .
__________
(1) تاريخ دمشق: 11/ 278، وفيه: الغنى والشعر.
(2) روضة الواعظين للفتال النيشابوري: 457.
(3) في المصدر: وأين غنى.
(4) كشف الخفاء: 2/ 102.
(5) سورة النحل: 81.
(6) ما بين معكوفين زيادة عن تفسير القرطبي: 4/ 56.
(7) تفسير الطبري: 3/ 303
(8) سورة الزمر: 5.(3/45)
قال سعيد بن جبير: يوم وليلة ويوم وليلة عند خلق السموات والأرض إلى أن تقوم الساعة، ثم قرأ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قال ابن مسعود وابن جبير ومجاهد وقتادة والضحّاك وإبراهيم والسدّي وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الرحمن بن زيد: يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة، ويخرج النطفة من الحيوان.
عكرمة والكلبي: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، أي الفرخ من البيضة ويخرج البيضة من الطير.
أبو مالك: يخرج النخلة من النواة، ويخرج النواة من النخلة، ويخرج السنبلة من الحبة والحبّة من السنبلة.
الحسن: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن عبد حي الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد يدل عليه قوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.. «1» .
معمر عن الزهري: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة الهيئة، فقال:
من هذه؟ قالت: إحدى خالاتك، فقال: إن خالاتي بهذه البلاد [كثير] أي خالاتي هذه؟ قالت:
هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال: «سبحان الله الذي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» [42] .
وكانت امرأة صالحة. وكان مات أبوها كافرا «2» .
الفرّاء: يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب.
وقال أهل الإشارة: يخرج الحكمة من قلب الفاجر حتى لا تستقر فيه، والسّقطة من لسان العارف.
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: كان الحجّاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد ظفروا «3» بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن جهيمة لأولئك النفر:
اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومخاطبتهم وملازمتهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وقال المقاتلان: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودّة لكفار مكة فنهاهم الله عزّ وجل عن ذلك.
__________
(1) سورة الأنعام: 122.
(2) مجمع الزوائد: 9/ 264، جامع البيان للطبري: 3/ 306. [.....]
(3) في المصدر: كظنوا.(3/46)
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم.
وروى يوسف بن داود الضبي عن بعضهم، قال: لا يتخذوا المؤمنين بالرفع خبرا عنهم وفيه معنى النهي كقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ «1» .
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري، وكان بدريا تقيا، وكان له حلفاء من اليهود، فلمّا خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب، قال عبادة: يا نبي الله إنّ معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهرتهم على العدوّ، فأنزل الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ الآية «2» .
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ: أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم، وإظهارهم على عدّة المسلمين، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ: وفيه اختصار، أي ليس من دين الله في شيء.
وقال الحسن والسدّي: ليس من الولاية في شيء، فقد بريء الله منه، ثم استثنى فقال:
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً: يعني: إلّا أن تخافوا منهم مخافة.
وقرأ أبو العالية عن الحسن، والضحاك وأبو رجاء وجابر بن زيد وحميد بن مجاهد: تقية على وزن نقية، [وخالفهما] أبو حاتم قال: لأنهم كتبوها بالياء مثل حصاة ونواة إلّا بالألف.
قرأ حمزة والكسائي وخلف: «تقية» بالاحتجاج فكان الياء.
وقرأ الباقون «تُقاةً» بالتضميم. وأختاره أبو عبيدة.
وقرأ الأخفش: «تقاءة» مثل تكأة ويؤده ونحوها، وهي مصدر [أتقى] ومثال تقيه تقاة وتقية وتقي وتقوى «3» ، وإذا قلت: أتقنت كان مصدره الاتقاء، وإنّما قال: «تَتَّقُوا» من الأتقياء، ثم قال: «تُقاةً» «4» ولم يقل اتّقاء لأن العرب إذا كان بالكلمتين واحدا واختلف ألفاظها أخرجوا مصدر أحد اللفظين مصدر اللفظ الآخر فيقولون: التقيت فلانا لقاء حسنا.
وقال القطامي في وصف غيث:
قد لجّ بجانب الجبلين ... «5» .. ... ركام يحفر الترب احتفارا
__________
(1) سورة البقرة: 2.
(2) سورة المصدر السابق.
(3) راجع مجمع البيان: 2/ 273.
(4) أقول: وأصلها: وفاة فأبدلت الواو المضمومة تاء استثقالا لها.
(5) كلمة غير مقروءة.(3/47)
ولم يقل حفرا قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «1» . وقال: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «2» .
وأما معنى الآية فقال المفسرون: نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين عن ملاطفة الكافرين وموالاتهم ومداهنتهم ومبايعتهم إلّا أن يكون الكفّار ظاهرين غالبين، أو يكون المؤمن في قوم كفّار ليس فيهم غيره، ويخافهم ويداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يسفك دما حراما، أو مالا حراما، أو يظهر الكافرين على عورة المؤمنين، فالمتّقي لا يكون إلّا مع خوف القتل وسلامة النية كفعل عمار بن ياسر.
عبد الرحمن بن حرملة عن ابن المسيب، قال: ورد رجل على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة فقال: ما أراني إلّا قد هلكت، قال: مالك؟ قال: قد عذّبني قريش. فقلت: ما قالوا؟ قال: كيف كان قلبك؟ قال: مطمئن، قال: فإن عادوا لك فعد لهم مثل ذلك، قالها ثلاث مرات.
المسيب بن عبيدة عن إبراهيم، قال: قال ابن مسعود: خالطوا النّاس ونائلوهم وصافحوهم بما يشتهون، ودينكم لا يكون به ريبة.
وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد «3» : أنا كنت أحبّ إلى أبيك منك، وأنت أحبّ إليّ من أبي «4» ولذا أوصيك بخصلتين: خالص المؤمن وخالق «5» الكافر فإنّ الكافر يرضى منك بالخلق الحسن، ويحق عليك أن تخالص المؤمن «6» .
وروي عن جعفر بن محمد الصادق أنّه قال: التقية واجبة، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستر بالسارية منه لئلا يراني
. وقال: الرياء مع المؤمن شرك ومع المنافق في داره عبادة.
وأنكر قوم التقيّة اليوم:
فقال معاذ بن جبل عن مجاهد: كانت التقيّة في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، فأمّا اليوم فقد أعزّ الله عزّ وجل الإسلام، فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتّقوا من عدوهم.
__________
(1) سورة نوح: 17.
(2) سورة المزمّل: 8.
(3) في المصدر: لابن يزيد.
(4) في تاريخ دمشق: ابني.
(5) في تاريخ دمشق (24/ 98) خالف.
(6) مسند ابن راهويه: 3/ 1017.(3/48)
وقال يحيى البكاء: قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجّاج: إنّ الحسن كان يقول لكم:
التقيّة باللسان والقلب مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. قال سعيد: ليس في الإسلام تقيّة إنّما التقيّة في أهل الحرب.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ: أي يخوّفكم الله على موالاة الكفار وارتكاب المنهي ومخالفة المأمور من نفسه.
قال المفسرون: من عذاب نفسه وعقوبته وبطشه.
وقال أهل المعاني: معناه ويحذّركم الله إيّاه لأن الشيء والنفس والذات والإسم عبارة عن الوجود، ونفس الشيء هو الشيء بعينه كقوله: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» : أي ليقتل بعضكم بعضا.
وقال الأعشى:
يوما بأجود نائلا منه إذا ... نفس البخيل تجهمت سؤالها «2»
أراد إذا البخيل تجهم سؤاله.
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ، قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ: قلوبكم من مودة الكفّار. أَوْ تُبْدُوهُ: من موالاتهم قولا وفعلا، يَعْلَمْهُ اللَّهُ: وقال الكلبي: أي ستروا ما في قلوبكم لرسول الله من التكذيب، ويظهرون بحربه. وقال: يَعْلَمْهُ اللَّهُ ويحفظ عليكم حتى يحاربكم به ويعاقبكم عليه، ثم قال: وَيَعْلَمُ: رفع على الاستئناف كقولهم: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ «3» بالرفع.
وقوله: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ «4» ، ثم قال: وَيُحِقُّ الْحَقَّ: وكيف يخفى عليه موالاتكم الكافرين وميلكم إليهم، مودّة بالقلب: أي معونة بالقلب والفعل.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ: نصب يوما، نزع حرف الصفة أي في يوم. وقيل: نصب بإضمار فعل، أي: اذكروا واتقوا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً: موفرا لم يبخس منه شيء. قراءة العامة بنصب الضاد على المفعول قد صدّهم قوله:
__________
(1) سورة النساء: 66.
(2) حقائق التأويل للشريف الرضي: 79. [.....]
(3) سورة التوبة: 14. 15.
(4) سورة الشورى: 24.(3/49)
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً «1» : وقرأ عبيد عن عمير مُحْضِراً بكسر الضاد يريد أن عمله يحضره الجنّة يسرع به من الحضور أو الحضر.
وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ: جعل بعضهم خبرا في موضع النصب، وأعمل فيها الوجود وجعل عملت صلة لها، أي: ويجد عملها، وجعله بعضه خبرا مستأنفا، وحينئذ يجوز في تَوَدُّ الرفع، والجزم، دليل هذا التأويل: قراءة عبد الله وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ. لَوْ أَنَّ بَيْنَها:
بين النفس وَبَيْنَهُ: يعني بين السوء أَمَداً بَعِيداً: والأمد: الأجل والغاية الّتي ينتهي إليها.
قال الله: أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً «2» ، وقال: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ «3» .
قال النابغة:
ألا لمثلك أو من أنت سابقة ... بسبق الجواد إذا ستويا على الأمد
قال السدي: أَمَداً بَعِيداً أي: مكان بعيد.
مقاتل: كما بين المشرق والمغرب.
قال الحسن: ليس أحدهم أن لا يلقى عمله أبدا ولا يودّ لو أن يعلمه.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ: أي بالمؤمنين منهم.
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ الآية،
قال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّهم يحبّون الله، فقالوا: يا محمّد إنّا نحب ربّنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وجعل اتّباع نبيه علما لحبّه تعالى.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: وقف النبي صلّى الله عليه وسلّم على قريش وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم وعلّقوا عليها بعض النعام وجعلوا في آذانها السيوف وهم يسجدون لها. فقال: يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام. فقالت له قريش: يا محمّد إنّا نعبدها حبّا لله، لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى، فقال الله تعالى: قُلْ يا محمّد إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وتعبدون الأصنام ليقرّبوكم إليه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، وأنا رسوله إليكم وحجّته عليكم وأنا أولى بالتعظيم من الأصنام.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّ اليهود لمّا قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، أنزل الله هذه الآية، فلمّا نزلت عرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على اليهود، فأبوا أن يقبلوها.
__________
(1) سورة الكهف: 49.
(2) سورة الجن: 25.
(3) سورة الحديد: 16.(3/50)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
روى محمد بن إسحاق عن محمّد بن جعفر عن الزبير: قال: نزلت في نصارى أهل نجران وذلك أنّهم قالوا: إنّا نعظم المسيح ونعبده حبّا لله سبحانه وتعظيما له، فقال الله: قُلْ يا محمّد:
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وكان عظيم قولكم في عيسى حبّا لله سبحانه وتعالى وتعظيما له فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، أي: اتّبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله، وحب المؤمنين لله إتباعهم أمره وقصدهم طاعته ورضاه، وحبّه عزّ وجلّ للمؤمنين [منّة] عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم وذلك قوله: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال الثعلبي: أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو أحمد محمد بن ابراهيم الصريمي قال: أنشدنا علي بن محمد قال: أنشدني الحسن بن إبراهيم البجلي لعبد الله بن المبارك:
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه ... هذا لعمري في الفعال قبيح
لو كان حبّك صادقا لأطعته ... إنّ المحب لمن يحبّ مطيع «1»
عروه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الشرك أخفّ من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحبّ على شيء من الجور أو تبغض على شيء من العدل وهل الدين إلّا الحبّ في الله والبغض في الله قال الله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «2» [43] .
فلما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي [لأصحابه: إنّ محمّدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبّه] كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم «3» ، فنزل: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا: أعرضوا عن طاعتهما. فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ: لا يرضى فعلهم ولا شيء لهم ولا يغفر لهم.
وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاعني فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ومن أطاع الإمام فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى الإمام فقد عصاني» [44] «4» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 43]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
__________
(1) تهذيب الكمال: 6/ 360، وتاريخ دمشق: 32/ 469.
(2) الجامع الصغير للسيوطي: 2/ 85، ح 4935.
(3) زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 319.
(4) المصنّف للكوفي: 7/ 566.(3/51)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ: قال ابن عباس: قالت اليهود:
نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم ومنهاجهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
يعني: إنّ الله اصطفى هؤلاء الّذين قالوا بالإسلام، وأنتم على غير دين الإسلام، واصطفى [افتعل] من الصفوة وهو الخالص من كل شيء، يعني: اختاروا واستخلصوا آدم أبو البشر ونوحا شيخ المرسلين، وآل إبراهيم وآل عمران.
قال بعضهم: أراد بآل إبراهيم وآل عمران: إبراهيم وعمران نفسهما، كقوله عزّ وجلّ:
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ «1» : يعني موسى وهارون (عليهم السلام) .
قال الشاعر:
ولا تبك ميتا بعد ميّت أحبّه ... علي وعبّاس وآل أبي بكر «2»
يعني: أبا بكر.
قال الباقون: آلَ إِبْراهِيمَ: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإنّ محمّدا (عليه السلام) من آل إبراهيم وآل عمران.
وقال مقاتل: هو عمران بن يصهر بن فاهاث «3» بن لاوي بن يعقوب وآله موسى وهارون.
قال الحسن ووهب بن منبه: هو عمران بن أشهم بن أمون من ولد سليمان بن داود وآله مريم وعيسى.
__________
(1) سورة البقرة: 248.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 63.
(3) وروي: قاهث، راجع تفسير الطبري: 1/ 400.(3/52)
وقيل: هو عمران بن ماتان «1» ، وامرأته حنّة «2» ، وخصّه من الأنبياء لأنّ الأنبياء والرسل بقضّهم وقضيضهم من نسلهم. عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً: نصب على حال قاله الأحفش.
الفرّاء على [القطع] لأنّ الذريّة نكرة وآل إبراهيم وآل عمران معرفة «3» .
الزجّاج: نصب على البدل. وقيل: على النكرة أي اصطفى ذريّة بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ:
وقيل: على الحال أي بعضها من ولد بعض. وقال أبو روق: بعضها على دين بعض «4» .
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: قال الحروي: لمّا مات الحسن البصري وكان مماته عشية الجمعة، فلمّا صلّى النّاس الجمعة حملوه، فلم [تترك الصلاة] في المسجد الجامع بالبصرة منذ كان الإسلام إلّا يوم ممات الحسن، فإن الناس اتّبعوا جنازته فلم يبق أحد يصلّي في المسجد صلاة العصر.
قال الجزائري: سمعت مناديا ينادي: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ، واصطفى الحسن البصري على أهل زمانه.
الأعمش عن أبي وائل، قال: قرأت في مصحف عبد الله بن مسعود: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ، فقال ابن عباس ومقاتل: هو عمران بن مايان وليس هو بعمران أبو موسى وبينهما ألف وثلاثمائة سنة، وكان بنو مايان «5» رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.
وقال ابن إسحاق «6» : هو عمران بن أشهم بن آمون بن ميثا بن حوقتا بن إحرين بن يونام بن عواريا بن إمضيا بن ياوس بن جربهوا بن يارم بن صف شاط بن لمساين بن يعمر بن سليمان بن داود (عليه السلام) .
إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً: أي جعلت الذي في بطني محرّرا نذرا منّي لك، والنذر: ما أوجبه الإنسان على نفسه بشريطة كان ذلك أو بغير شريطة.
__________
(1) في القرطبي 4/ 63 نسبه للسهيلي.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 63، والقول للسهيلي. [.....]
(3) تفسير الطبري: 3/ 318.
(4) مجمع البيان: 5/ 84.
(5) وروي: ماتان. ماثان.
(6) في تاريخ الطبري (1/ 418) : عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا بن إحزيق بن يوثام بن عزريا ابن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهشافاظ بن أسا بن أبيا بن رجعم بن سليمان.
وفي تاريخ دمشق: مريم بن عمران بن هاثان بن المعاذر بن اليود بن اجبن بن صادوق بن عيازور بن الياقيم بن أيبود بن زربائيل بن شالتان بن يوحينا بن لرشتيا بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أجاز بن يوثام بن عزريا بن بورام بن يوسافاط بن أسا بن إيبا بن رضيعم بن سليمان، أقول: الاختلاف في الأغلب من اختلاف قراءة المخطوطات.(3/53)
قال الله فقولي: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً «1» : أي أوجبت.
وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» [45] .
قال الأعشى:
غشيت لليلي بليل خدورا ... وطالبتها ونذرت النذورا «2»
ومن هذا قولهم: نذر فلان دم فلان: أي أوجبت على نفسه قتله.
وقال جميل:
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي ... وحموا لقائي يابثين لقوني
مُحَرَّراً: أي عتيقا خالصا لله خادما للكنيسة حبيسا عليها مفرغا لعبادة الله ولخدمة الكنيسة، لا يشغله شيء من الدنيا وكلّما أخلص فهو محرّر، يقال: حرّرت العبد إذا أعتقته، وحرّرت الكتاب إذا أخلصته وأصلحته فلم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاحه، ورجل حرّ إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه متعلق، والطين الحر الذي خلص من الرمل والحصاة والعيوب.
ومُحَرَّراً: نصب على الحال.
وقال الكلبي وابن إسحاق وغيرهما: فإن الحر رجل إذا حرّر وجعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم، ثم يخيّر فإن رغب أن يقيم فيها أقام، وإن أحبّ أن يذهب ذهب حيث شاء، فإن أراد أن يخرج بعد التخير لم يكن له ذلك، ولم يكن أحد من [الأنبياء] والعلماء إلّا ومن نسل محرّرا ببيت المقدس، ولم يكن محرّرا إلّا الغلمان، وكانت الجارية لا تكلف ذلك ولا تصلح له لمّا يمسها من الحيض والأذى، فحرّرت أمّ مريم ما في بطنها.
وكان القصة في ذلك أنّ زكريّا وعمران تزوجا أختين، وكانت إيشاع «3» بنت فاقود أم يحيى عند زكريّا وحنّة بنت فاقود أم مريم عند عمران، وقد كان أمسك على حنّة الولد حتى أيست وعجزت، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت لذلك شهوتها للولد، ودعت الله أن يهب لها ولدا وقالت: اللهم لك عليّ إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه نذرا وشكرا، فحملت بمريم فحرّرت ما في بطنها ولا تعلم ما هو، فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت! أرأيت إن كان ما في
__________
(1) سورة مريم: 26.
(2) تاريخ دمشق: 20/ 140 ط دار الفكر، وديوان الأعشى: 88 ط بيروت.
(3) لسان العرب: 12/ 151.(3/54)
بطنك أنثى [والأنثى عورة] لا تصلح لذلك فوقعا جميعا في همّ من ذلك، فهلك عمران وحنّة حامل بمريم.
فَلَمَّا وَضَعَتْها: أي ولدتها وإذا هي جارية، فالهاء في قوله: وَضَعَتْها راجعة إلى النذيرة أي مريم من حنّة، لذلك أنّث.
قالَتْ: عذرا وكانت ترجوا أن تكون غلاما ولذلك حررت.
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى: اعتذار إلى الله عزّ وجلّ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ: [ما ظنّت] «1» عن السدي، وقرأ [العامّة بتسكين التاء] وقرأ علي وأبو ميثم النجفي وابن عامر وأبو بكر ويعقوب: وُضَعَتْ بضمّ التاء جعلوها من كلام أمّ مريم «2» .
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى: في خدمة الكنيسة والعبّاد الذين فيها لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس والأذى.
وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ: وهي بلغتهم: [الخادمة والعبادة، وكانت أجمل النساء في وقتها وأفضلها] «3» .
روى أبو زرعة عن أبي هريرة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «حسبك من نساء العالمين أربع:
مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد» [46] «4» .
وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ: آمنها وأجيرها بك. وَذُرِّيَّتَها: وأولادها.
مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ: الطريد اللعين المرمي بالشهب.
ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مولود إلّا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إيّاه إلّا مريم وابنها» [47] ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:
وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «5» .
سعيد عن قتادة قال: «كل أدمي طعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم وأمه جعل بينهما حجاب فأصاب الطعن الحجاب ولم ينفذ إليها منه شيء» [48] .
__________
(1) راجع زاد المسير: 1/ 322.
(2) راجع مجمع البيان: 2/ 280، وفتح القدير: 1/ 334، وفيه زيادة: وقرأ ابن عباس بكسر التاء.
(3) قصص الأنبياء للثعلبي: 371. 374.
(4) تفسير الطبري: 3/ 326، وتفسير الدرّ المنثور: 2/ 19، مورد الآية.
(5) مسند أحمد: 2/ 275، وأخرجاه في الصحيحين.(3/55)
قال: وذكر لنا أنّهما كانا لا يصيبان من الذنوب كما يصيبه سائر بني آدم.
وقال وهب بن منبه: «لمّا ولد عيسى (عليه السلام) أتى الشياطين إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام منكّسة، فقال: هذا لحادث حدث، وقال: مكانكم، فطار حتى جاء خافقي الأرض فلم يجد شيئا، ثم جاء البحار فلم يجد شيئا، ثمّ طار أيضا فوجد عيسى قد ولد، وإذا الملائكة قد حفّت حوله فلم يصل إليه إبليس فرجع إليهم، فقال: إنّ نبيا قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلّا أنا بحضرتها إلّا هذه، فأيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة «1» .
فَتَقَبَّلَها: أي تقبل الله من حنّة مريم ورضيها مكان المحرر، يقال: قبل ولأن الشيء إذا رضيه يقبله قبولا بالفتح مصدر، مثل الزارع والزروع والقبول، ولم يأت غير هذه الثلاثة، والقياس الضم مثل الدخول والخروج، قاله أبو عمرو الكسائي والأئمّة، وقال بعضهم: معنى التقبّل: التكفّل في التربية والقيام بشأنها.
وقال الحسن: قبوله إيّاها أنه ما عذّبها ساعة من نهار ولا ليل «2» .
رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ: ولم يقل بتقبّل وهذا النوع يقال له: المصدر على غير المصدر.
قال الفرّاء: مثل قولك تكلمت كلاما.
قال الفطامي: وخير الأمر ما استقلّت فيه وليس بأن يتبعه اتباعا.
وقال آخر: وإن مشيتم تعاودنا عوادا، ولم يقل: تعاودوا.
وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً: ولم يقل: إنباتا.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ يقول: سلك بها طريق السعداء وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً: يعني سوّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان. وكانت تنبت في اليوم كمثل ما ينبت المولود في عام واحد.
ابن جريج: أَنْبَتَها ربها في غذائه ورزقه نَباتاً حَسَناً حتى تمت امرأة بالغة تامة.
وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا: قال المفسرون: أخذتها أمّ مريم حين ولدتها، فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، فوضعتها عند الأحبار أولاد هارون وهم يومئذ يكونون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافس فيها الأحبار لأنّها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها [لأن] عندي خالتها.
__________
(1) قصص الأنبياء: 372.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 69. [.....](3/56)
فقال له الأحبار: لا تفعل ذلك فإنّها لو تركت وحقّ الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها، ولكنّا نقرع عليها فتكون عند من خرج سهمه، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين «1» رجلا إلى نهر جاري.
قال السدي: هو نهر الأردن، فألقوا أقلامهم في الماء، فارتفع قلم زكريا فوق الماء وانحدرت أقلامهم [ورسبت] في النهر، قاله ابن إسحاق وجماعة.
وقال السدي وجماعة: بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين وجرت أقلامهم مع جريان «2» الماء [فذهب بها الماء] ، فسهمهم وقرعهم زكريا، وكان رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ضمّها إلى نفسه وقام بأمرها.
قال ابن إسحاق: فلمّا كفّلها زكريا ضمّها إلى خالتها أم يحيى واسترضع لها، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء بنى لها محرابا: أي غرفة في المسجد، وجعل بابه إلى وسطها، لا يرقى إليها إلّا بسلّم مثل باب الكعبة، فلا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كلّ يوم.
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً: يعني وجد زكريا عندها فاكهة في غير أوانها، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف غضّا طريّا. قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا فإنّها كانت إذا رزقها الله شيئا وسألت عنه قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
«3»
[أخبرنا عبد الله بن حامد بإسناده عن جابر بن عبد الله: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقام أيّاما لم يطعم طعاما، حتى شقّ ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه، فلم يصب في بيت أحد منهنّ شيئا، فأتى فاطمة رضي الله عنها فقال: «يا بنيّة هل عندك شيء آكل فإنّي جائع؟» فقالت: لا والله بأبي أنت وأمّي، فلمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عندها، بعثت إليها جارة لها برغيفين وبضعة لحم، فأخذته منها ووضعته في جفنة وغطّت عليه وقالت: لأوثرنّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة من طعام، فبعثت حسنا وحسينا إلى جدّهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجع إليها، فقالت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله قد أتانا الله بشيء فخبّأته لك، قال: «فهلمّي به» ، فأتي به فكشف عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما، فلمّا نظرت إليه بهتت وعرفت أنّها من بركة الله، فحمدت الله تعالى وصلّت على نبيّه،
__________
(1) في القصص للثعلبي: عشر.
(2) في التفاسير: جرية.
(3) السقط مستدرك من المؤلّف نفسه في كتابه قصص الأنبياء: 372. 373.(3/57)
فقال (عليه السلام) : «من أين لك هذا يا بنيّة؟» قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، فحمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء بني إسرائيل، فإنّها كانت يرزقها الله رزقا حسنا فسئلت عنه قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ] «1» .
فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى علي رضي الله عنه، ثم أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلي وفاطمة والحسن والحسين وجميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته جميعا حتى شبعوا.
قالت فاطمة: وبقيت الجفنة كما هي فأوسعت منها على جميع جيراني فجعل الله فيها بركة وخيرا [49] «2» .
قال أهل التفسير: فلما رأى زكريا ذلك قال: إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب ولا فعل أحد لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي غلاما على الكبر، فطمع في الولد وذلك إن أهل بيته كانوا قد انقرضوا، وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد.
قال الله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ: أي فعند ذلك. و «هنا» إشارة إلى الغاية كما أن «هذه» إشارة إلى الحاضر.
والكاف: اسم المخاطب وكسرت اللام لالتقاء الساكنين.
قال المفضل بن سلمة: أكثر ما يقال هنالك في الزمان وهناك في المكان وقد جعل هذا مكان هذا.
دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ: فدخل المحراب وغلق الأبواب وناجى ربه. قالَ رَبِّ: أي يا رب فحذف حرف النداء من أوله والياء من آخره، استغني بكسر الباء عن الياء. هَبْ لِي:
أعطني، مِنْ لَدُنْكَ: من عندك. وفي لدن أربع لغات «3» : لدن بفتح اللام وضم الدال وجزم النون وهو أفصحها، ولد بفتح اللام وضم الدال وحذف النون، ولدن بفتح اللام وسكون الدال وفتح النون، ولدن بضم اللام وجزم الدال وفتح النون.
قال الفرّاء: وهي يخصّص بها على الإضافة، وترفع على مذهب مذ «4» ، وأنشد قول أبي سفيان بن حرب على الوجهين:
__________
(1) في المخطوط سقط وكلام مطموس استدركناه عن المصنّف في قصص الأنبياء: 374. 373 باب في ذكر مولد مريم (عليها السلام) .
(2) بطوله في قصص الأنبياء للثعلبي: 373. 374، وتفسير ابن كثير مسندا: 1/ 368، والدرّ المنثور: 2/ 20، وسبل الهدى والرشاد: للشامي: 9/ 483، و 11/ 47. والبداية والنهاية لابن كثير: 6/ 122.
(3) راجع لسان العرب: 13/ 385.
(4) راجع تاج العروس: 9/ 332. 333.(3/58)
ما زال مهري مزجر الكلب منهم ... لدن غدوة حتى دنت لغروب «1»
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً: نسلا مباركا تقيّا صالحا رضيّا، والذرية تكون واحدا أو جمعا ذكرا أو أنثى، وهو هاهنا واحد يدل عليه قوله: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا «2» ، ولم يقل أولياء وإنّما أنث طيبة لتأنيث لفظ الذرية.
كما قال الشاعر:
أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال «3»
فأنث ولدته لتأنيث لفظ الخليفة، فكما قال آخر:
فما تزدري من حية جبلية سكات ... إذا ما غض ليس بأدردا «4»
فأنث الجبلية لتأنيث لفظ الحية ثم رجع إلى المعنى، فقال: غض لأنه أراد حية ذكرا والحية تكون الذكر والأنثى، وإنّما جوّز هذا فيما لم يقع عليه فلأن من الأسماء كالدابة والذرية والخليفة فإذا سمي بشيء من ذلك رجل هو كان من معنى رجلان، لم يجز تأنيث فعله ولا نعته فلا تقول من ذلك: حدثنا مغير الضبي، ولا يجوز حدثتنا مغيرة الضبية.
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ: أي سامعه وقيل مجيبه، لقوله تعالى: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ: أي فأجيبون. وقولهم: سمع الله لمن حمده: أي أجابه.
وأنشد:
دعوت الله حتى خفت ألا ... يكون الله يسمع ما أقول «5»
: أي بكيت
قتادة عن أنس بن مالك قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «أيما رجل مات وترك ذرية طيبة أجرى الله عليه مثل أجر عملهم لا ينقص من أجورهم شيئا» [50] «6» .
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ: قرأ يحيى وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: فناداه بالياء، وأبو عمارة وأبو عبيدة، وقرأ الباقون: بالتّاء واختاره أبو حاتم: فإذا تقدم الفعل فأنت فيه بالخيار إن شئت أنّثت وإن شئت ذكّرت، إلّا أنّ من قرأ بالتاء فلأجل تأنيث الملائكة للفظ والجمع مع إن الذكور إذا تقدم فعلهم وهو جماعة كان التأنيث فيه أحسن وأفصح كقوله: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا «7» ، ومن ذكّر خلها.
__________
(1) البداية والنهاية: 4/ 24.
(2) سورة مريم: 5.
(3) الصحاح: 4/ 1356.
(4) الصحاح: 1/ 253.
(5) الفائق في غريب الحديث: 2/ 158.
(6) تفسير القرطبي: 4/ 72.
(7) سورة الحجرات: 14. [.....](3/59)
روى القاسم بن سلام عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم، قال: كان عبد الله يذكّر الملائكة في القرآن، قال أبو عبيدة: إنما يرى [أن] الله اختار ذلك خلافا على المشركين في قولهم:
الملائكة بنات الله فأراد بالتذكير هاهنا إكذابهم.
وروى الشعبي أن ابن مسعود قال: إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياء وذكّروا القرآن «1» .
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: إذا كان الحرف في القرآن تاء وياء فأجعلوها ياء. وأراد بالملائكة هاهنا: جبريل وحده وذلك أنّ زكريا الحبر الكبير الذي تعهد بالقربان، وبفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول، فبينا هو قائم في المسجد عند المذبح يصلي والناس ينتظرونه أن يأذن لهم في الدخول، إذ هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه فناداه وهو جبريل: يا زكريا أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى فذلك قوله: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ:
يعني جبريل وحده نظيره قوله في هذه السورة وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ «2» : يعني جبريل وحده، وقوله في النحل: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ»
: يعني جبريل ما يروح بالوحي لأنّ الرسول إلى جميع الأنبياء جبريل (عليه السلام) ، يأت عليه قوله ابن مسعود، فناداه جبريل وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ: وهذا جائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم: ركب فلان في السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وخرج على بغال البريد، وإنما على بغل واحد، وسمعت هذا الخبر من الناس، وإنما سمع من واحد نظير قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ «4» : يعني نعيم بن مسعود. إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ «5» : يعني أبا سفيان ونحوها كثرة.
وقال المفضل بن سلمة: إذا كان القائل رئيسا فيجوز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه، فلمّا كان جبريل رئيس الملائكة وكل ما يبعث إلّا ومعه جمع منهم فهي على هذا.
وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ: يعني في المسجد، نظيره قوله: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ «6» : أي المسجد، وقوله: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ «7» : أي المسجد، وهو مفعال من الحرب، قيل: سمي بهذا لأنّه تحارب فيه الشيطان، كما قيل: مضمار للميدان الذي تضمر فيه الخيل، وأمال ابن عامر المحراب في جميع القرآن، وفخّمه الآخرون.
__________
(1) المصنّف لابن أبي شيبة: 7/ 202، وفيه: فإنّ القرآن ذكّر فذكّروه، ورواه الشعبي عن علقمة عن عبد الله.
(2) سورة آل عمران: 42.
(3) سورة النحل: 2.
(4) سورة آل عمران: 173.
(5) سورة آل عمران: 173.
(6) سورة مريم: 11.
(7) سورة ص: 21.(3/60)
أَنَّ اللَّهَ قرأ ابن عامر وعيسى بن عمرو والأعمش وحمزة: بكسر الألف على إضمار القول تقديره: فنادته الملائكة فقالت: إن الله لأن النداء قول.
وقرأ الباقون: بالفتح بإيقاع النداء عليه كأنه قال: فنادته الملائكة أن الله يبشرك.
وقرأ عبد الله: وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ يا زكريا إن الله يبشرك: اختلف الفرّاء في مستقبل هذا الفعل وجملها في القرآن عشرة: موضعين هاهنا وفي التوبة يُبَشِّرُهُمْ «1» ومريم وفي الحجر إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ «2» ، وفَبِمَ تُبَشِّرُونَ «3» وفي سبحان والكهف وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «4» ، وفي مريم موضعين: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ولِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وفي حم عسق: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ «5» فهذه عشرة مواضع اتّفقوا على واحد منها إنها مشددة، وهو قوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ واختلفوا في التسعة الباقية فقرأها: حمزة كلها بفتح الباء وجزم الياء وضم الشين وتخفيفها.
وقرأ يحيى بن رئاب والكسائي خمسة منها مخففة، موضعين هاهنا وفي سبحان والكهف وعسق.
وخفّف ابن كثير وأبو عمرو منها حرفا واحدا وهو قوله: في حم، عسق ... ذلِكَ النبي الَّذِي يَبْشُرُ اللَّهُ عِبادَهُ.
وقرأها كلها حميد بن قيس: بضم الياء وجزم الباء وكسر الشين وتخفيفها.
الباقون: بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين وتشديده، فمن خفّف الشين وضم الباء وهو من أبشر يبشر، قال الشاعر:
يا أمّ عمرو أبشري بالبشرى ... موت ذريع وجراد عظلي «6»
ومن قرأ بتخفيف الشين مع فتح الباء فهو من بشر يبشر، وهو لغة أهل تهامة وقراءة ابن مسعود. قال الشاعر:
نشرت عوالي إذا رأيت حيفة ... ماسك من الحجّاج تعلى كتابها
__________
(1) سورة التوبة: 21.
(2) سورة الحجر: 53.
(3) سورة الحجر: 54.
(4) سورة البقرة: 223، والتوبة: 112.
(5) سورة الشورى: 21. 23.
(6) الجراد العظلى: الذي لا يبرح، ومراده بأمّ عمرو: أمّ عامر كناية عن الضبع راجع تفسير القرطبي: 4/ 75، والبيت أيضا في كتاب العين: 2/ 85.(3/61)
وقال الفرّاء:
وإذا رأيت الباهشين «1» إلى العلى ... غبرا أكفهم بقاع ممحل
فأعنهم وأبشر بما بشروا به ... وإذا هم نزلوا بضنك فأنزل «2»
روي عبد الرحمن بن أبي حماد عن معاذ الكوفي، قال: من قرأ يُبَشِّرُهُمْ مثقلة فإنّه من البشارة ومن قرأ يبشرهم مخفّفة بنصب الياء فإنّه من السرور، يسرّهم «3» ، وتصديق هذه القراءة ما
روى ابن زيد بن أسلم عن أبيه: إن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لرجل: إن الله يبشرك بغلام فولدت امرأته غلاما.
ومن قرأ بالتشديد من بشر يبشر بشيرا وهو أعرب اللغات وأفصحهم. قال جرير:
يا بشر حق لوجهك التبشير ... هلا غضبت لنا وأنت أمير «4»
ودليل التشديد: إنّ كلّ ما في القرآن من هذا الباب من فعل واجب أو أمر فهو بالتثقيل لقوله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ «5» ، وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ «6» ، قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ «7» .
بِيَحْيى: هو اسم لا يجري لمعرفته، والمزايد في أوله مثل: يزيد ويعمر ويشكر وأماله قوم لأجل الياء وفخّمه الآخرون، وجمعه «يحيون» مثل موسون وعسون، واختلفوا فيه لم سمي «يحيى» .
قال ابن عباس: لأن الله أحيا به عقر أمه. قتادة: لأن الله أحيا قلبه بالإيمان. بعضهم:
لأن الله أحيا قلبه بالنبوة.
الحسن بن الفضل: لأن الله أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية.
ما روى عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من أحد إلّا ويلقى الله عز وجل قد همّ بخطيئة قد عملها إلّا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها.
قال الثعلبي: [سمعت] الأستاذ أبا القاسم بن حبيب يقول: سمي بذلك لأنه أستشهد والشهداء أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
__________
(1) من بهش إليه إذا نظر إلى الشيء فأعجبه. [.....]
(2) لسان العرب: 4/ 62.
(3) تفسير الطبري: 3/ 342.
(4) شرح شافية ابن الحاجب: 4/ 328.
(5) سورة المزمّل: 17. 18.
(6) سورة الصافّات: 112.
(7) سورة الحجر: 55.(3/62)
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من هوان الدنيا على الله إن يحيى بن زكريا قتلته امرأة» [51] «1» .
قال الثعلبي: وسمعت أبا منصور [الجمشاذي] يقول: عن عمر بن عبيد الله المقدسي:
أوحى الله إلى إبراهيم الخليل: أن قل ليسارة وكذلك كان اسمها: أني مخرج منكما عبدا لا يموت بمعصيتي اسمه حيي فهبي له من اسمك حرفا، فوهبت له أول حرف من اسمها فصار يحيى وصارت امرأة إبراهيم سارة.
مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ: نصب على الحال مِنَ اللَّهِ: يعني عيسى (عليه السلام) سمي كلمة لأن الله قال له: كُنْ من غير أب فكان، فوقع عليه اسم الكلمة لأنه كان بها، ويحيى أول من آمن بعيسى فصدّقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر، وكانا ابني خالة، ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى (عليهما السلام) .
وقال أبو عبيدة وعبد العزيز بن يحيى: بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وآياته، يقول: أنشدني كلمة فلان:
أي قصيدته.
وَسَيِّداً: من فيعمل نحو ساد يسود أصله يسود، وهو الرئيس الذي يتّبع وينتهى إلى قوله.
قال المفضل: أراد سيدا في الدين.
شريك عن أبي روق عن الضحاك قال: السيد الحسن الخلق.
وروى شريك بإسناده أيضا عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: السيد هو الذي يطيع ربه عز وجل.
سعيد بن المسيب: السيد الفقيه العالم. قتادة: سيد في العلم والصوم، سعيد بن جبير:
الحليم، الضحّاك: التقي، عكرمة: الذي لا يغضب، مجاهد: الكريم على الله، ابن زيد:
الشريف الكبير، سفيان الثوري: الذي لا يحسد.
روى يوسف بن الحسين الرازي عن ذي النون المصري قال: الحسود لا يسود.
قال الخليل بن أحمد: مطاعا.
الزجّاج: هو الذي ينوي وبكل شيء من الخير أقرانه.
أحمد بن عاصم: السيد القانع بما قسم له.
أبو بكر الورّاق: الراضي بقضاء الله تعالى.
__________
(1) الجامع الصغير: 1/ 383، ح 2502.(3/63)
محمد بن علي الترمذي: المتوكل على الله.
أبو زيد البسطامي: هو الذي قد عظمت همته ونبل قدره، لم يحدث نفسه بدار الدنيا، وقيل: هو السخي.
روى ابن الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سيدكم يا بني سلمة؟
قالوا: جد بن قيس غير أنّه بخيل جبان. قال: وأيّ داء أدوى من البخل، بل سيدكم عمرو بن جموح «1» .
روى عبد الله بن عباس: إنه كان قاعدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاءه بضعة عشر رجلا عليهم ثياب السفر، فسلموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى القوم، ثم قالوا: من السيد منكم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فعرفوا أنه رسول الله، فقالوا: فما في أمتك سيد، قال: بلى رجل أعطى مالا حلالا ورزق سماحة، وأدنى الفقراء وقلت شكايته «2» .
وروى أن أسد بن عبد الله قال لرجل من بني شيبان: بلغني أن السودد فيكم رخيص.
فقال: أما نحن فلا نسود إلّا من يعطينا رحله، ويفرش لنا عرضه، ويعطينا ماله. فقال: والله إن السودد فيكم لغال.
وَحَصُوراً: أصله من الحصر وهو الحبس، يقال: حصرت الرجل عن حاجته إذا حبسته، وحصرت من كذا أحصر إذا امتنع منه، وحصر فلان في قرأته إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها، ومنه إحصار العدو. قال الله تعالى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً «3» : أي محبسا. ويقال للرجل الذي يكتم السر ويحبسه ولا يظره حصر.
قال جرير:
ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا ... حصرا بسرك يا أميم ضنينا «4»
فالحصور في قول ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبي الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد: الذي لا يأتي النساء ولا يقربهنّ، فهو على هذا القول: مفعول بمعنى فاعل يعني: أنه يحصر نفسه عن الشهوات.
وقال سعيد بن المسيب والضحّاك: هو العنّين الذي لا ماء له، ودليل هذا التأويل ما
روى أبو صالح عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلّا يحيى بن زكريا فإنه كان سَيِّداً وَحَصُوراً» [52] .
__________
(1) أحكام القرآن: 2/ 15 بتفاوت.
(2) الدرّ المنثور: 6/ 197.
(3) سورة الإسراء: 8.
(4) الصحاح: 2/ 631.(3/64)
وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ: ثم أهوى النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: «كان ذكره مثل هذه القذاة» [53] «1» .
وقال المبرد: الحصور الذي لا يدخل في اللعب والعبث والأباطيل، وأصله من قول العرب الذي لا يدخل في الميسر حصور. قال الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار «2»
فلما نادت الملائكة زكريا بالبشارة قالَ رَبِّ: يا سيدي قاله لجبرائيل (عليه السلام) ، وهذا هو قول الكلبي وأكثر المفسرين.
وقال الحسن بن الفضل: إنّما قال زكريا لله يا رب لا لجبرائيل.
أَنَّى يَكُونُ: من أين يكون، لِي غُلامٌ: ابن. وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ: قال أبو حمزة والفرّاء والمورّخ بن المفضّل: هذا من المقلوب: أي قد بلغت الكبر كما يقال: بلغني الجهد:
أي إني في جهد، ويقول هذا القول لا يقطعني أي لا يبلغ [بي] ما أريد [أن] يقطعه، وأنشد المفضل:
كانت فريضة ما زعمت ... كما كانت الزناء فريضة الرجم «3»
وقيل معناه: وقد نالني الكبر وأدركني وأخذ مني وأضعفني.
قال الكلبي: كان يوم بشر بالولد ابن اثنين وتسعين سنة، وقيل: ابن تسع وتسعون سنة «4» ، فذلك قوله: وَامْرَأَتِي عاقِرٌ: أي عقيم لا تلد، يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر، وقد عقر بضم القاف، يعقر عقرا وعقارة، وقيل: تكلم حتى أعقر بكسر القاف يعقر عقرا إذا أبقى فلم يقدر على الكلام.
وقال عامر بن الطفيل:
ولبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا ... جبانا فما عذري لدى كل محضر «5»
وإنما حذف الهاء لاختصاص الإناث بهذه، وقال به تارة الخليل «6» .
__________
(1) كنز العمّال: 11/ 520، ح 32428، مجمع الزوائد: 8/ 209.
(2) لسان العرب: 4/ 194.
(3) تفسير الطبري: 2/ 111، وزاد المسير: 5/ 24، ولسان العرب: 14/ 359، والبيت للجعدي وفيه:
ما تقول كما. [.....]
(4) وقيل: ثمان وتسعون راجع تفسير البغوي: 1/ 299، وقيل غير ذلك راجع زاد المسير: 1/ 328.
(5) فتح الباري: 6/ 337.
(6) عبارة غير مقروءة والظاهر ما ذكرناه.(3/65)
وقال سيبويه: للنسبة أي ذات عقر، كما يقال: امرأة مرضع أي ذات ولد رضيع وكل [ ... ] «1» امرأتي عنى عاقر، وشخص عاقر.
وقال عبيد: عاقر مثل ذات رحم، أو خانم مثل من [ينحب] .
قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ: فإن قيل: لم تنكر زكريا ذلك وسأل الآية بعد ما بشرته به الملائكة أكان ذلك [شكّ في صدقهم] أم أنّ [ذلك منه استنكارا لقدرة ربّه] «2» ؟ وهذا لا يجوز أن يوصف به أهل الإيمان فكيف الأنبياء (عليهم السلام) ؟
قيل: إن الجواب عنه ما روى عكرمة والسدي: إن زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان، فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعته ليس من الله، إنما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من الله لأوحاه إليك خفيا، كما (ناداك) خفيا وكما يوحى إليك في سائر الأمور، فقال ذلك دفعا للوسوسة.
والجواب الثاني: إنه لم يشك في الولد وإنما شك في كيفيته والوجه الذي يكون منه الولد فقال: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ: أي فكيف يكون لي ولد؟ أتجعلني وامرأتي شابين؟ أم ترزقنا ولدا على كبرنا؟ أم ترزقني من امرأتي أو غيرها من النساء؟ قال ذلك مستفهما لا منكرا، وهذا قول الحسن وابن كيسان.
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً: علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكرا لك.
قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ: تكف عن الكلام.
ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً: تقبل بكلمتك على عبادتي وطاعتي لا أنه حبيس لسانه عن الكلام، ولكنه نهي عنه يدل عليه قوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ.
قال بعض أهل المعاني وقال أكثر المفسرين: عقد لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مساءلة الملائكة إياه، فلم يصدر على الكلام ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً: إشارة.
قال الفرّاء: ويكون الرمز باللسان من غير أن يبين، وهو الصوت الخفي شبه الهمس.
وقرأ الأعمش: رَمَزاً: بفتح الميم وهو الصلاة كالطلب به.
وقال عطا: أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلّا رمزا.
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: يعني جبرئيل وحده.
__________
(1) سقط في أصل المخطوط.
(2) تفسير الطبري: 3/ 350.(3/66)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ: بولادة عيسى من غير أب.
وَطَهَّرَكِ: من [مسيس] الرجل «1» . وقال السدي: كانت مريم لا تحيض.
وَاصْطَفاكِ: بالتحرير في المسجد، عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ: عالمي زمانها ولا يحرر غيرها.
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي: أطيعي وأطيلي الصلاة، لِرَبِّكِ: كلمت به الملائكة شفاها.
قال [الأوزاعي] : لمّا قالت لها الملائكة ذلك، قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالتا دما وقيحا «2» .
وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 44 الى 54]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)
ذلِكَ: الذي ذكرت من حديث زكريا ومن حديث ويحيى ومريم وعيسى، مِنْ أَنْباءِ:
أخبار، الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ: ردّ الكناية إلى ذلك فلذلك ذكر. وَما كُنْتَ: يا محمد، لَدَيْهِمْ: عندهم، إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ سهامهم وقداحهم للاقتراع في الماء واحدها: قلم، وقيل: [أقلامهم التي كانوا يكتبون بها] «3» التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء.
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ: [....] «4» .
__________
(1) تفسير الجلالين: 72.
(2) تفسير الطبري: 4/ 84.
(3) تفسير القرطبي: 4/ 86.
(4) كلام غير مقروء.(3/67)
وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ: في كفالتها.
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ وقرأ أبو السماك «1» وهب بن يزيد العدوي: (بِكِلِمَةٍ) مكسورة الكاف مجزومة اللام في جميع القرآن، وهي لغة فصيحة مثل كتف وفخذ.
اسْمُهُ: رد كناية إلى عيسى وكذلك ذكر. وقيل: رده إلى الكلام لأن الكلمة والكلام واحد.
الْمَسِيحُ: قال بعضهم: هو فعيل بمعنى المفعول يعني: أنه مسح من الأقذار وطهر.
وقيل: مسح بالبركة.
وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن «2» .
وقيل: لأنه مسح القدمين لا أخمص له.
وقيل: مسحه جبرئيل بجناحه من الشيطان حتى لم يكن للشيطان فيه سبيل في وقت ولادته.
وقال بعضهم: هو بمعنى الفاعل مثل عليم وعالم، وسمي ذلك لأنه كان يمسح المرضى فيبرءون بإذن الله.
قال الكلبي: سمي بذلك لأنه كان يمسح عين الأعمى فيبصره.
وقيل: سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض يخوضها ولا يقيم في مكان، وعلى هذا القول الميم فيه زائدة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: المسيح الملك.
وقال أبو تميم النخعي: المسيح الصديق، فإما هو المسّيح بكسر الميم وتشديد السين، وقال غيره: هذا قول لا وجه له بل الدجال مسيح أيضا فعيل بمعنى مفعول لأنه ممسوح إحدى العينين كأنها عين طافية، ويكون بمعنى [السائح] «3» لأنه يسيح في الأرض فيطوف الأرض كلها إلّا مكة والمدينة وبيت المقدس.
قال الشاعر:
__________
(1) في بعض المصادر دون اسمه: أبو السمال واسمه قعنب، راجع تاج العروس: 7/ 381، ولسان العرب:
11/ 347، وإكمال الكمال: 4/ 354.
(2) زاد المسير: 1/ 331، وهو قول أبو سليمان الدمشقي.
(3) في المخطوط: الساحل، ولم نجده في التفاسير.(3/68)
إنّ المسيح يقتل المسيحا «1»
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً: نصب على الحال، أي شريفا [ذا جاه وقدر] «2» .
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ إلى ثواب الله وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صغيرا قبل [أوان] «3» الكلام.
روى ابن أبي [نجيح] عن مجاهد قال: قالت مريم (عليها السلام) : كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدثته. فإذا شغلني عنه إنسان سبّح في بطني وأنا أسمع «4» .
وَكَهْلًا: قال مقاتل: يعني إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء.
وقال الحسن بن الفضل: (كَهْلًا) بعد نزوله من السماء.
وقال ابن كيسان: أخبرهما أنّه يبقى حتّى يكتهل.
وقيل: يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ: صبيّا وَكَهْلًا نبيّا [ولم يتكلّم في المهد من الأنبياء] «5» إلّا عيسى (عليه السلام) ، فكلامه في المهد معجزة وفي الكهولة دعوة.
وقال مجاهد: وَكَهْلًا أي عظيما والعرب تمدح بالكهولة لأنّها أعظم؟ على في احتناك السنّ، واستحكام العقل، وجودة الرأي والتجربة.
وَمِنَ الصَّالِحِينَ أي فهو من العباد الصالحين.
قالَتْ رَبِّ يا سيّدي بقولها لجبرئيل أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يعني رجل.
قالَ كَذلِكِ اللَّهُ: كما تقولين يا مريم ولكن الله يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً:
[ ... ] «6» .
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: كما يريد.
قال بعض أهل المعاني: ذكر القول هاهنا بيان وزيادة إلى ذكره ليتعارف النّاس به سرعة كون الشيء فيما بينهم.
وقال آخرون: هذا وقع على الموجود في علمه وإرادته وتحت قدرته وإن كان معدوما في ذاته.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 89.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 90، نسبه للأخفش. [.....]
(3) كذا الظاهر.
(4) المصنف لابن أبي شيبة: 7/ 460 ما ذكره في فضل عيسى.
(5) زيادة يقتضيها السياق وعبارة المخطوط مشوشة.
(6) سقط في أصل المخطوط.(3/69)
ونصب بعض القرّاء النون في قوله فَيَكُونُ على جواب الأمر بالفاء، ورفع الباقون على إضمار (هو) أي فهو يكون. وقيل: على تكرير الكلام تقديره: فإنّما يقول له كن فيكون.
وَيُعَلِّمُهُ: قرأ أهل المدينة ومجاهد وحميد والحسن وعاصم: بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله تعالى كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ: قد جرى ذكره عزّ وجلّ.
وقال المبرد: ردّوه على قوله إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ ... وَيُعَلِّمُهُ وقرأ الباقون بالنون على التعظيم، واحتجّ أبو عمرو في ذلك لقوله ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ...
الْكِتابَ: أي الكتابة والخط والعلم.
وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَرَسُولًا: أي ونجعله رسولا.
إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ: فترك ذكره لأن الكلام عليه، كقول الشاعر:
ورأيت بعلك «1» في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا «2»
أي وحاملا رمحا.
وأنشد الفرّاء لرجل من عبد القيس:
علفتها تبنا وماء باردا ... حتى شتت همالة عيناها «3»
يعني سقيتها ماء باردا.
قال الأخفش: وإن شئت جعلت الواو في قوله (وَرَسُولًا) مضخمة والرسول حالا للهاء، تقديره: ويعلّمه الكتاب رسولا «4» ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى (عليه السلام) «5» .
روى محمد بن إسكندر عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف من بني إسرائيل» .
[54] «6» فلمّا بعث قال لهم:
[ ... ] «7» .
__________
(1) في المصدر: زوجك.
(2) تفسير الطبري: 3/ 374.
(3) لسان العرب: 2/ 287.
(4) تفسير القرطبي: 4/ 93.
(5) وهو حديث أبي ذر الطويل، راجع تفسير القرطبي.
(6) البداية والنهاية: 2/ 182 بتفاوت.
(7) سقط في أصل المخطوط.(3/70)
قال الكسائي: وإنمّا فتح لأنّه أوقع الرسالة عليه وقيل: بأنّي أو لأنّي.
قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ: والآية مِنْ رَبِّكُمْ: يصدّق قولي ويحقق رسالتي.
قال الخليل والفرّاء: أصلها بآيّة بتشديد الياء فثقل عليهم التشديد فأبدلوا لانفتاح ما قبل التشديد وتقديرها فعله.
وقال الكسائي: هي في الأصل أبيه مثل فاطمة فحذفت أحدى الياءين فلمّا قال ذلك عيسى لبني إسرائيل. قالوا: وما هي؟ قال: إنّي، قول نافع بكسر الألف على الاستئناف وإضمار القول.
وقرأ الباقون بالفتح على معنى بأنّي.
أَخْلُقُ: أي أصور وأقدّر.
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ: قرأ الزهري وأبو جعفر: كهيّة بتشديد الياء. والآخرون بالهمزة. والهيئة الصورة المهيّأة، وهي من قولهم هيأت الشيء إذا قصرته وأصلحته. وقرأ أبو جعفر (الطائر) بالألف، والباقون بغير ألف.
فَأَنْفُخُ فِيهِ: أي في الطين.
فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ: قرأه العامة على الجمع لأنّه خلق طيرا كثيرا.
وقرأ أهل المدينة: (طائرا) على الواحد ذهبوا إلى نوع واحد من الطير، لأنه لم يخلق غير الخفّاش، وإنمّا خصّ الخفّاش لأنه أكمل الطير خلقا، ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثديا وأسنانا وهي تحيض وتطير.
وقال وهب: كان يطير ما دام النّاس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميّتا ليتميّز فعل الخلق من خلق الله، وليعلموا أنّ الكمال لله تعالى.
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ: أي أشفيهما وأصححهما فقال: أبرأ الله المريض من أبرأ- وبرىء- هو يبرأ- وبريء- مبرأ- برأوا فيهما جميعا. واختلفوا في الأكمه:
فقال عكرمة والأعمش، ومجاهد والضحّاك: [هو الذي] يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل.
ابن عباس وقتادة: هو الذي ولد أعمى ولم يبصر ضوء قط، الحسن والسّدي: هو [الأعمى، وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه هو الذي يولد أعمى وهو الذي يعمى وان كان بصيرا] «1» هو المعروف من كلام العرب يقال: كمهت عينه تكمه كمها وكمهتها أنا إذا أعميتها.
__________
(1) زيادة عن زاد المسير: 1/ 334.(3/71)
قال سويد بن أبي كاهل:
كمهت عيناه حتى ابيضّتا ... فهو يلحى نفسه لمّا نزع «1»
قال رؤبة:
وكيد مطال وخصم [مبده] «2»
هدجن فإن تكلم [ ... ] «3» الأكمه هرّجت بالسّبع وقد صحت به، والأبرص الذي به وضح.
وإنمّا خصّ هذين لأنهما عميان وكان [الغالب] على زمن عيسى الطبّ فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك داعيا لا دواء له.
وقال وهب: ثم اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق أتاه عيسى يمشي إليه. إنّما كان يداويهم بالدّعاء على شرط الإيمان.
وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ: قيل: أحيا أربعة أنفس: عازر «4» وكان صدّيقا فأرسل أخته إلى عيسى أنّ أخاك عازر يموت فأته وكان بينه وبين داره ثلاثة أيّام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيّام، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، فانطلقت معهم إلى قبره وهو في صخرة مطبقة. فقال عيسى: اللهم ربّ السموات السّبع والأرضين السّبع، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك وأخبرهم أنّي أحيي الموتى بإذنك فأحيي عازر. قال: فقام عازر وودكه تقطر، فخرج من قبره وبقي وولد له.
وابن العجوز مرّ به ميّتا على عيسى (عليه السلام) على سرير يحمل فدعا الله عيسى (عليه السلام) فجلس على سريره ونزّل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له.
والبنت العاقر «5» قيل له: أتحييها وقد ماتت أمس؟ فدعا الله فعاشت فبقيت وولد لها.
وسام بن نوح دعا عيسى (عليه السلام) باسم الله الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه. فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا ولكني دعوتك باسم الله الأعظم. قال: ولم يكونوا
__________
(1) لسان العرب: 13/ 536.
(2) لسان العرب: 13/ 476. [.....]
(3) سقط في أصل المخطوط.
(4) في تفسير القرطبي: 4/ 95: العاذر.
(5) عند القرطبي: بنت العاشر.(3/72)
يشيبون في ذلك الزّمان. وكان سام قد عاش خمسمائة سنة وهو شاب، ثم قال: مت. فقال:
بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت. فدعا الله عزّ وجلّ ففعل.
قال الكلبي: كان عيسى (عليه السلام) يحيي الأموات ب: يا حىّ يا قيّوم.
وَأُنَبِّئُكُمْ: أخبركم، بِما تَأْكُلُونَ: ممّا أعاينه، وَما تَدَّخِرُونَ: وما ترزمونه، فِي بُيُوتِكُمْ: حتى تأكلوه، وهو يفعلون من دخرت وقرأ مجاهد وأيوب السختياني: تذخرون، بالذال المعجمة وسكونها وفتح الخاء من ذخر يذخر ذخرا.
قال الكلبي: فلما أبرأ عيسى الأكمه والأبرص وأحيى الموتى قالوا: هذا سحر، ولكن أخبرنا بما نأكل وما ندّخر وكان يخبر الرجل بما أكل من غدائه وبما يأكل في عشائه.
وقال السدي: كان عيسى (عليه السلام) إذا كان في الكتّاب يحدّث الغلمان بما يصنع أبوهم، ويقول للغلام انطلق، فقد أكل أهلك كذا وكذا، ورفعوا لك كذا وكذا، وهم يأكلون كذا وكذا. فينطلق الصبي إلى أهله، ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون له من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى، فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فحبسوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم. قالوا: ليسوا عندنا. فقال: فما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير. قال عيسى: كذلك يكونون. ففتحوا عليهم، فإذا هم خنازير «1» ، ففجئنا لذلك في بأس [ ... ] «2» بنو إسرائيل، فلمّا خافت عليه أمه حملته على حميّر لها، وخرجت به هاربة إلى مصر.
وقال قتادة: إنّما هذا في المائدة وكان خوانا ينزل عليهم إنّما كانوا كالمنّ والسلوى، وأمر القوم أن لا يخونوا لا يخبئوا لغد، وحذّرهم البلاء إن فعلوا ذلك [ ... ] «3» وخونوا. فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما ادخروا منه. فمسخهم الله خنازير.
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت لكم.
لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقاً عطفها على قوله: وَرَسُولًا.
لِما بَيْنَ يَدَيَّ: لما قبلي.
مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ: من اللحوم والشحوم. وقالوا أيضا:
يعني كل الذي حرّم عليهم من الأطبّاء، و (بعض) يكون بمعنى «كل» ويكون كقول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها «4»
__________
(1) إلى هنا في تفسير الطبري: 3/ 381.
(2) كلمات غير مقروءة في المخطوط.
(3) كلمات غير مقروءة في المخطوط.
(4) تفسير القرطبي: 4/ 96.(3/73)
أي كل النفوس.
وقال آخر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض «1»
يريد بعض الشر أهون من كله.
وقرأ إبراهيم النخعي: حرم مثل كرّم أي [صار حراما] .
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ: يعني ما ذكرنا من الآفات، وأما تعدّها لأنّها جنس واحد في [الدلالة] .
على رسالته.
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى: [ ... ] .
وقال أبو عبيد: عرف.
مقاتل: رأى. نظر.
قرأه ضحّاك: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ. وقوله: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا.
مِنْهُمُ الْكُفْرَ: وأرادوا قتله استنصر عليهم وقال: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ: قال السدي: كان بسبب ذكر أنّ عيسى (عليه السلام) لمّا [بعثه الله] إلى بني إسرائيل وأمره بالدعوة نفته بنو إسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمّه يسيحون في الأرض، فنزل في قرية [على رجل فضافهم] «2» وأحسن إليهم، وكان كبير المدينة جبّار معتد. فجاء ذلك الرجل يوما مهتما حزينا، فدخل منزله، ومريم عند امرأته فقالت: ما شأن زوجك أراه كئيبا؟ قالت: لا تسأليني. قالت:
أخبريني لعلّ الله يفرّج كربته. قالت: إنّ لنا ملكا [يجعل على كل رجل يوما يطعمه هو وجنوده ويسقيهم من الخمر] . فإن لم يفعل عاقبه، واليوم نوبتنا وليس لذلك [عندنا سعة] . قالت: فقولي له لا تهتم، فإنّي آمر ابني فيدعو له، فيكفى ذلك. فقالت مريم لعيسى في ذلك. فقال عيسى: إن فعلت ذلك كان في ذلك شر، قالت: لا تبال، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا.
قال عيسى: فقولي له إذا اقترب ذلك فأملأ قدورك وخوابيك، ففعل ذلك. فدعا الله عيسى فحوّل القدر لحما ومرقا وخبزا وما في الخوابي خمرا لم ير النّاس مثله قط. فلمّا جاء الملك أكل فلمّا شرب الخمر قال: من أين هذا الخمر؟ قال: من أرض كذا. قال الملك: فإنّ خمري
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 96.
(2) كلمات غير مقروءة في المخطوط.(3/74)
أوتى بها من هذه الأرض وليست مثل هذه. قال: هي من أرض أخرى، فاختلط على الملك فشدد عليه. قال: أنا أخبرك، عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إيّاه. وإنّه دعا الله تعالى [فجعل الماء خمرا] وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيّام. وكان أحبّ الخلق إليه. فقال: إنّ رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرا ليستجابنّ له حتى يحيي ابني، فدعا عيسى فكلّمه في ذلك. فقال عيسى: لا تفعل، فإنه إن عاش كان شرا، فقال الملك: لا أبالي، أليس أراه، فلا أبالي ما كان.
فقال عيسى: فإن أحييته تتركوني وأمّي نذهب حيث نشاء. قال: نعم. فدعا الله فعاش الغلام. فلمّا رآه أهل مملكته قد عاش بادروا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه. فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا.
وذهب عيسى وأمّه فمرّا بالحواريين وهم يصطادون السمك. فقال عيسى: ما تصنعون؟
قالوا: نصطاد السمك. قال: أفلا [تمشون] حتى نصطاد النّاس؟ قالوا: كيف ذلك. قالَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم عبد الله ورسوله. فآمنوا به وانطلقوا معه. فهم الحواريون وذلك قوله فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «1» .
قال السدي وابن جريج والكسائي: مع الله، تقول العرب: الذّود إلى الذّود إبل.
وقال النابغة.
فلا تتركوني بالوعيد كأنني ... إلى النّاس مطليّ به القار أجرب «2»
أي مع الناس.
وقال آخر «3» :
ولوح ذراعين في بدن «4» ... إلى جؤجؤ رهل المنكب «5»
أي مع جؤجؤ.
نظيره قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «6» : أي مع أموالكم.
وقال الحسن وأبو عبيدة [من أنصاري في السبيل إلى الله] «7» ، تعني في: أي من أعواني في الله؟: أي في ذات الله وسبيله.
__________
(1) تفسير الطبري: 3/ 388 وما بين معقودين منه، والحديث طويل.
(2) لسان العرب: 15/ 435 وفيه تتركني بدل تتركوني.
(3) في المصدر: البيت للجعدي.
(4) في المصدر: بركة.
(5) لسان العرب: 15/ 167. [.....]
(6) سورة النساء: 2.
(7) زيادة عن تفسير القرطبي: 4/ 97.(3/75)
وقال طرفة:
وإن ملتقى «1» الحيّ الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الكريم المضمّد «2» «3»
أي في ذروة.
وقال أبو ذؤيب:
بأري التي تأري اليعاسيب «4» أصبحت ... إلى شاهق دون السماء ذؤابها درجها «5»
قالَ الْحَوارِيُّونَ: اختلفوا فيهم:
فقال السدّي: كانوا ملّاحين يصطادون السمك.
وكذلك روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا صيّادين سمّوا حواريين لبياض ثيابهم.
وقال أبو أرطأة: كانوا قصّارين سمّوا بذلك لأنّهم كانوا يحوّرون الثياب أي يبيّضونها.
وقال عطاء: سلّمت مريم عيسى إلى أعمال سري، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قوما قصارين وصبّاغين، فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه. فاجتمع عنده ثياب، وعرض له سفر. فقال لعيسى: إنّك قد تعلّمت هذه الحرفة، وأنا خارج في سفر إلى عشرة أيّام، وهذه ثياب مختلفة الألوان، وقد أعلمت على كل صنف منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغا منها وقت قدومي. فخرج وطبخ عيسى (عليه السلام) جبّا واحدا على لون واحد أدخله جميع الثياب. وقال لها: كوني بإذن الله على ما أريد منك. فقدم الحواري والثياب كلها في جبّ واحد فقال: ما فعلت؟ قال: قد فرغت منها. قال: أين هي؟ قال: في الجب. قال:
كلّها؟ قال: نعم.
قال: كيف تكون كلها أحمر في جبّ واحد؟ فقد أفسدت تلك الثياب. قال: قم فانظر.
فأخرج عيسى ثوبا أحمر وثوبا أصفر وثوبا أخضر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها.
فجعل الحواري يتعجب ويعلم أنّ ذلك من الله، وقال للنّاس: تعالوا وانظروا إلى ما صنع. فآمن به وأصحابه فهم الحواريون.
وروى يوسف الفريابي عن مصعب قال: الحواريون إثنا عشر رجلا اتّبعوا عيسى بن مريم،
__________
(1) في المصدر: يلتقي.
(2) في المصدر: المصمد.
(3) تفسير مجمع البيان: 10/ 483.
(4) اليعسوب: أمير النحل.
(5) لسان العرب: 1/ 379.(3/76)
وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا، فيضرب بيده الأرض سهلا كان أو جبلا فيخرج لكل إنسان منهم رغيفين فيأكلوهما، وإذا عطشوا قالوا: يا روح الله قد عطشنا، فيضرب بيده إلى الأرض فيخرجون منه ماء فيشربون. قالوا: يا روح الله من أفضل منّا إذا شئنا أطعمنا وإذا شئنا سقينا وآمنّا بك فاتّبعناك؟ قال: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه. قال: فصاروا يغسلون الثياب بالكراء.
وقال الضحّاك: سمّوا حواريين لصفاء قلوبهم.
وقال عبد الله بن المبارك: سمّوا حواريين لأنّهم كانوا نورانيين عليهم أثر العبادة ونورها وحسنها. قال الله تعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ «1» .
وأصل الحور عند العرب شدة البياض. يقال: رجل أحور وامرأة حوراء، شديد بياض نفلة العينين. ويقال للدقيق الأبيض: الحواري، وكل شيء بيّضته فقد حوّرته. ويقال للبيضاء من النساء حواريّة.
قال ابن [حلّزة] «2» :
فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح «3»
وقال الفرزدق:
فقلت أنّ الحواريات تغطية «4» ... إذا زيّن «5» من تحت الجلابيب «6»
وقال ابن عون: صنع ملك من الملوك طعاما. فدعا النّاس إليه، وكان عيسى على قصعة، فكانت القصعة لا تنقص. فقال له الملك: من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. قال: إنّي آتك ملكي هذا واتبعك، فانطلق واتبعه ومن معه فهم الحواريون.
وقال الكلبي وأبو روق: الحواريون أصفياء عيسى وكانوا إثنا عشر رجلا.
الحسن: الحواريون الأنصار والحواري الناصر.
النضر بن شميل: الحواريون: خاصة الرجل. عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال:
الحواري: الوزير.
__________
(1) سورة الفتح: 29.
(2) في المصدر: أبو جلدة.
(3) الصحاح: 2/ 640.
(4) في المصدر: معطبة.
(5) في المصدر: تفتلن.
(6) لسان العرب: 4/ 219.(3/77)
وعن روح بن القاسم قال: سألت قتادة عن الحواريين فقال: هم الذين تصلح لهم الخلافة.
والحواري في كلام العرب الضامن خاصة الرجل الذي يستعين به فيما ينوبه. يدل عليه ما
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكلّ نبيّ حواري وحواريي الزبير بن العوّام» [55] «1» .
وروى أبو سفيان بن معمر قال: قال قتادة: إنّ الحواريّين كلهم من قريش. أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والعباس وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عروة وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام. قال: الحواريون وأسماؤهم في سورة المائدة.
نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ: أعوان دين الله ورسوله.
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ: من كتابك.
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ عيسى.
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ الذين شهدوا لأنبيائك بالصّدق.
قال عطاء: مع النبيّ لأنّ كل نبيّ شاهد أمّته [....] «2» مع محمّد وأمّته «3» .
وَمَكَرُوا: يعني كبار بني إسرائيل الذين أحسّ عيسى منهم الكفر ودبّروا في قتل عيسى.
والمكر ألطف التدبير. وذلك أنّ عيسى بعد إخراج قومه إيّاه وأمّه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهمّوا بقتله وتواطأوا على القتل. فذلك مكرهم به.
وقال أهل المعاني: المكر. السعي في الفساد في ستر ومداجاة، وأصله من قول العرب:
مكر الليل.
وَمَكَرَ اللَّهُ: قال الفرّاء: المكر من المخلوقين الخبث والخديعة والحيلة، وهو من الله استدراجه العباد. قال الله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ «4» قال ابن عباس: معناه كلّما أحدثوا خطيئة جدّدنا لهم نعمة.
__________
(1) كنز العمال: 11/ 331 ح 31656. [.....]
(2) كلمة سقط في أصل المخطوط.
(3) راجع زاد المسير: 1/ 336 مورد الآية.
(4) سورة الأعراف: 182.(3/78)
قال الزجاج: مكر الله مجازاتهم على مكرهم فسمّى باسم الابتداء كقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «1» ، وقوله: وَهُوَ خادِعُهُمْ
«2» .
وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا «3»
قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله البغدادي يقول: سأل رجل جنيدا «4» كيف رضي المكر لنفسه، وقد عاب به غيره؟ فقال: لا أدري ما يقول ولكن لسيد بني [.....] «5» الطبرانية:
فديتك قد جعلت على هواكا ... فنفسي لا تنازعني سواكا
أحبك لا ببعضي بل بكلي ... وإن لم يبق حبك لي حراكا
ويقبح [من] سواك الفعل عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا «6»
فقال الرجل: أسألك عن آية من كتاب الله وتجيبني بشعر الطبرانية فقال: ويحك قد أجبتك إن كنت تعقل.
إن تخليته إيّاهم مع المكر به. مكر منه بهم، ومكر الله تعالى خاص بهم في هذه الآية إلقاء الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل وصلب ورفع عيسى إلى السماء.
قال ابن عباس: إنّ ملك بني إسرائيل أراد قتل عيسى، وقصده أعوانه. فدخل خوخة فيها كوّة، فرفعه جبرئيل من الكوّة إلى السماء. فقال الملك: لرجل منهم خبيث أدخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله عليه شبه عيسى فخرج إلى النّاس فخبرّهم أنّه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنّوا أنّه عيسى.
وقال وهب: طرقوا عيسى في بعض الليل فأسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه فلمّا أرادوا صلبه أظلمت الأرض وأرسل الله الملائكة فحالوا بينهم وبينه وصلبوا مكانه رجلا يقال له يهودا وهو الذي دلّهم عليه. وذلك أنّ عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم، ثم قال: ليكفرنّ أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة. فخرجوا وتفرّقوا، وكانت اليهود تطلبه. فأتى
__________
(1) سورة البقرة: 15.
(2) سورة النساء: 142.
(3) لسان العرب: 3/ 177.
(4) نسبه في إفحام المخاصم (39) لسمنون.
(5) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
(6) إفحام المخاصم لشيث بن إبراهيم: 39.(3/79)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
أحد الحواريين إلى الجنود فقال لهم: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له مائتين درهما فأخذها ودلّهم عليه فألقى الله عليه شبه عيسى لمّا دخل البيت. فرفع عيسى، وأخذ الذي دلّهم عليه فقال: أنا الذي دللتكم عليه، فلم يلتفتوا إلى قوله وقتلوه وصلبوه، وهم يظنّون أنّه عيسى. فلمّا صلب شبه عيسى جاءت أم عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأ لها ابنة من الجنون. تبكيان عند المصلوب فجاءهما عيسى فقال لهما: علام تبكيان؟ فقالتا: عليك. فقال:
إنّ الله قد رفعني ولم يصبني إلّا خير وأنّ هذا الصّبي شبّه لهم. فلما كان بعد سبعة أيّام. قال الله عزّ وجلّ لعيسى: اهبط على مريم في المحراب موضع لأمّه في خبائها فإنّها لم يبك عليك أحد بكاها، ولم يحزن عليك أحد حزنها.
ثم لتجمع لك الحواريين حيث هم في الأرض. دعاه الله تعالى فأهبط الله عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا فجمعت له الحواريين حيث هم في الأرض دعاه الله تعالى ثم رفعه إليه.
وتلك الليلة هي الليلة التي يدخن فيها النّصارى، فلمّا أصبح الحواريون حدّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.
وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أفضل المعاقبين. قال أهل التواريخ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاثة عشر سنة ودارت بعيسى بيت اللحم من أرض أورشليم لمضي خمسة وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل. ولإحدى وخمسين سنة مضت من ملك الكلدانيين وأوحى الله عز وجلّ لأمّه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين، وعاشت أمّه مريم بعد رفعه ستّ سنين.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 55 الى 64]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ اختلفوا في معنى التوفّي هاهنا:(3/80)
فقال كعب والحسن والكلبي ومطر الوراق «1» ومحمد بن جعفر بن الزبير وابن جريج وابن زيد: معناه: إنّي قابضك.
وَرافِعُكَ: من الدّنيا.
إِلَيَّ: من غير موت، يدلّ عليه قوله فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي قبضتني إلى السماء وأنا حيّ لأنّ قومه إنّما تنصّروا بعد رفعه لا بعد موته. وعلى هذا القول للتوفّي تأويلان:
أحدهما: إنّي رافِعُكَ إِلَيَّ وافيا لن ينالوا منك. من قولهم: توفّيت كذا واستوفيته أي أخذته تامّا.
والآخر: إنّي مسلّمك، من قولهم: توفيت منه كذا أي سلّمته. وقال الربيع بن أنس:
معناه أنّي منيمك ورافعك إليّ من قومك، يدل عليه قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «2» : أي ينيمكم لأنّ النوم أخو الموت، وقوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها «3» .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: إنّي مميتكم، يدلّ عليه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «4» ، وقوله وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ «5» وله على هذا القول تأويلان:
أحدهما: ما قال وهب: توفّى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه.
والآخر: ما قاله الضحّاك وجماعة من أهل المعاني: إنّ في الكلام تقديما وتأخيرا، معناه إنّي رافعك إليّ ...
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا: ومتوفّيك بعد إنزالك من السماء كقوله عز وجلّ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى «6» .
وقال الشاعر:
ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السّلام «7»
أي عليك السلام ورحمة الله.
__________
(1) وهو أبو بكر الوراق.
(2) سورة الأنعام: 60.
(3) سورة الزمر: 42.
(4) سورة السجدة: 11.
(5) سورة يونس: 46. [.....]
(6) سورة طه: 129.
(7) معاني القرآن للنحاس: 1/ 400، تفسير القرطبي: 4/ 100.(3/81)
وقال آخر:
جمعت وعيبا نخوة ونميمة ... ثلاث خصال لسن من ترعوي
أي جمعت نخوة ونميمة وعيبا.
وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأنبياء إخوة لعلّات شتّى ودينهم واحد، وأنا أولى النّاس بعيسى بن مريم لأنّه لم يكن بيني وبينه نبيّ، وإنّه عامل على أمّتي وخليفتي عليهم، إذا رأيتموه فاعرفوه فإنّه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأن شعره ممطر وإن لم يصبه بلل، بين ممصّرتين يدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال، وليسلكنّ الروحاء حاجّا أو معتمرا أو كلتيهما جميعا، ويقاتل النّاس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملك كلها ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذّاب الدجّال، ويقع في الأرض الأمنة حتى يرتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الأغنام، ويلعب الصبيان بالحيّات لا يضرّ بعضهم بعضا، ويلبث في الأرض أربعين سنة» [56] «1» .
وفي رواية كعب: «أربعا وعشرين سنة، ثم يتزوج ويولد، ثم يتوفى ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه في حجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم» [57] «2» .
وقيل للحسن بن الفضل: هل تجد نزول عيسى (عليه السلام) في القرآن. فقال: نعم.
قوله: وَكَهْلًا، وهو لم يكتهل في الدنيا، وإنّما معناه وَكَهْلًا بعد نزوله من السماء.
وعن محمد بن إبراهيم أنّ أمير المؤمنين أبا جعفر حدّثه عن الآية عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف تهلك أمّة أنا في أوّلها وعيسى في آخرها والمهدي من أهل بيتي في أوسطها» «3» [58] .
وقال أبو بكر محمد بن موسى الواسطي: معناه إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عن شهواتك وحطوط نفسك، ولقد أحسن فيما قال لأنّ عيسى لمّا رفع إلى السّماء صار حاله كحال الملائكة.
وَرافِعُكَ إِلَيَّ: قال البشالي والشيباني: كان عيسى على [....] «4» فهبّت ريح فهرول عيسى (عليه السلام) فرفعه الله عزّ وجلّ في هرولته، وعليه مدرعة من الشعر.
قال ابن عباس: ما لبس موسى إلا الصوف وما لبس عيسى إلا الشعر حتى رفع.
__________
(1) تفسير الطبري: 3/ 396، الدر المنثور: 2/ 242 بتفاوت.
(2) تفسير الطبري: 3/ 396 بتفاوت.
(3) كنز العمال: 14/ 269 ح 38682.
(4) كلمة غير مقروءة في المخطوط.(3/82)
وقال ابن عمر: رأينا النبي صلّى الله عليه وسلّم يتبسم في الطواف فقيل له في ذلك. فقال: استقبلني عيسى في الطواف ومعه ملكان.
وقيل: معناه رافِعُكَ بالدرجة في الجنّة ومقرّبك إلى الإكرام وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا:
أي مخرجك من بينهم ومنجيك منهم.
وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ: قتادة والربيع والشعبي ومقاتل والكلبي: هم أهل الإسلام الذين اتّبعوا دينه وسنّته من أمّة محمّد فو الله ما اتّبعه من دعاه ربا فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا: ظاهرين مجاهرين بالعزة والمنعة والدليل والحجة.
الضحّاك ومحمد بن أبان: يعني الحواريّين فوق الذين كفروا، وقيل: هم الرّوم.
وقال ابن زيد: وجاعل النّصارى فوق اليهود. فليس بلد فيه أحد من النّصارى إلا وهم فوق اليهود، واليهود مستذلّون مقهورون، وعلى هذين القولين يكون معنى الاتّباع الادّعاء والمحبة لا اتّباع الدّين والملّة.
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة.
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ: من الدين وأمر عيسى (عليه السلام) .
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا: بالقتل والسّبي والذّلّة والجزية وَالْآخِرَةِ: بالنار.
وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ.
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ: قرأ الحسن وحفص ويونس:
بالياء، والباقون بالنون.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. ذلِكَ: أي هذا الذي ذكرته.
نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هو القرآن.
وقيل: هو اللوح المحفوظ، وهو معلّق بالعرش في درّة بيضاء، والحكيم: هو الحكم من الباطل.
قال مقاتل: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ الآية: وذلك
أنّ وفد نجران قالوا: يا رسول الله مالك تشتم صاحبنا؟ قال: وما أقول؟ قالوا: تقول إنّه عبد؟ قال: أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول. فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله؟ فأنزل الله عز وجلّ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ في كونه خلقا من غير أب(3/83)
كَمَثَلِ آدَمَ في كونه خلقا من غير أب ولا أم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ
: تم الكلام.
ثُمَّ قالَ لَهُ: يعني لعيسى.
كُنْ فَيَكُونُ: يعني فكان.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ:
قال الفرّاء: رفع لخبر ابتداء مضمر يعني هو الحق أي هذا الحق. وقال أبو عبيدة: هو استئناف بعد انقضاء الكلام وخبره في قوله: مِنْ رَبِّكَ، وقيل بإضمار فعل أي حال الحق، وإن شئت رفعته بالضمّة ونويت تقديما وتأخيرا تقديره من ربّك الحق كقولهم: منك يدك، وإن كان مثلا.
فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمّته لأنّه لم يكن ينهاه في أمر عيسى.
فَمَنْ حَاجَّكَ: خاصمك وجادلك بأمر يا محمد.
فِيهِ: في عيسى.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ: بأنه عبد الله ورسوله.
فَقُلْ تَعالَوْا: قرأ الحسن وأبو واقد الليثي وأبو السمّاك العدوي: تَعالُوا بضم اللام، وقرأ الباقون بفتحها والأصل فيه تعاليوا لأنّه تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضّمة على الياء فسكنت ثم حذفت وبقيت [اللام على محلّها وهي عين الفعل] «1» ضم فإنّه نقل حركة الياء المحذوفة التي هي لام الفعل إلى اللام.
قال الفرّاء: معنى تعال كأنّه يقول ارتفع.
نَدْعُ: جزم لجواب الأمر وعلامة الجزم فيه سقوط الواو.
أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ: وقيل: أراد نفوسهم، وقيل: أراد الأزواج.
ثُمَّ نَبْتَهِلْ: نتضرّع في الدّعاء. قاله ابن عباس.
مقاتل: نخلص في الدعاء.
الكلبي: نجهد ونبالغ في الدّعاء. الكسائي وأبو عبيدة: نلتعن بقول: لعن الله الكاذب منّا، يقال: عليه بهلة الله، وبهلته: أي لعنته.
قال لبيد: في قدوم سادة من قولهم نظر الدهر إليهم فابتهل.
__________
(1) سقط في أصل المخطوط.(3/84)
فَنَجْعَلْ: عطف على قوله: نبتهل.
لَعْنَتَ اللَّهِ: مصدر. عَلَى الْكاذِبِينَ: منّا ومنكم في أمر عيسى،
فلمّا قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا ثمّ نأتيك غدا. فخلا بعضهم ببعض، فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال:
والله يا معشر النّصارى لقد عرفتم أنّ محمدا نبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما لاعن قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن نعلم ذلك لنهلكنّ. فإن رأيتم إلّا البقاء لدينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرّجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد غدا رسول الله محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي (رضي الله عنه) خلفها وهو يقول لهم: إذا أنا دعوت فأمّنوا.
فقال أسقف نجران: يا معشر النّصارى إنّي لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم. فأبوا. قال: فإنّي أنابذكم بالحرب. فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنّا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي سكّة ألفا في صفر وألفا في رجب. فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذلك. وقال: والذي نفسي بيده إنّ العذاب قد نزل في أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولا ستأصل الله نجران وأهله حتّى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا «1» .
قال الله تعالى:
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ إلى فَإِنْ تَوَلَّوْا: أعرضوا عن الإيمان.
فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ: الّذين يعبدون غير الله ويدعون النّاس إلى عبادة غيره.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ الآية.
قال المفسرون: قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا في إبراهيم فأتاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد إنّا اختلفنا في إبراهيم ودينه فزعمت النصارى أنّه كان نصرانيا وهم على دينه وأولى النّاس به. وقالت اليهود: بل كان يهوديا وأنّهم على دينه وأولى النّاس به. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفا وأنا على دينه فأتبعوا دينه الإسلام. فقالت اليهود: يا محمد ما تريد إلا أن نتّخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا. وقالت النصارى: والله يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير.
__________
(1) الدر المنثور: 2/ 39، والفصول المهمة: 23- 25.(3/85)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
فأنزل الله تعالى قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ عدل بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ
وكذلك كان يقولها ابن مسعود قال: دعا فلان إلى السّواء أي إلى النصف، وسواء كل شيء وسطه. قال الله فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «1» ، وإنّما قيل للنصف سواء لأن أعدل الأمور وأفضلها أوسطها.
وسواء نعت للكلمة إلا أنّه مصدر والمصادر لا تثنّى ولا تجمع ولا تؤنث. فإذا فتحت السين مدّت، وإذا كسرت أو ضمّت قصرت. كقوله عزّ وجلّ: مَكاناً سُوىً «2» : أي مستو به ثم فسّر الكلمة فقال: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ: محل (أن) رفع على إضمار هي «3» .
قال الزجاج: محلّه رفع [بمعنى أنه لا نعبد] «4» ، وقيل: محله نصب بنزع حرف الصفة معناه: بأن لا نعبد إلا الله.
وقيل: محله خفض بدلا من الكلمة أي تعالوا أن لا نعبد إلّا الله.
وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ: كما فعلت اليهود والنصارى. قال الله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. قال عكرمة: هو سجود بعضهم لبعض.
وقيل معناه: لا تطع في المعاصي أحدا، وفي الخبر من أطاع مخلوقا في معصية الله فكأنّما سجد سجدة لغيره.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: أنتم لهم اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ: مخلصون بالتوحيد،
وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية إلى قيصر وملوك الروم، «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم ...
سلام عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى.
«أمّا بعد.... فإنّي أدعوك إلى الإسلام أسلم تسلم. أسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فلن تملكوا إلا أربع سنين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، يا أهل الكتاب تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ الآية» [59] «5» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 74]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
__________
(1) سورة الصافات: 55.
(2) سورة طه: 58.
(3) التقدير: هي أن لا نعبد إلّا الله، وقيل موضع «أن» خفض على البدل من «كلمة» .
(4) تفسير القرطبي: 4/ 106.
(5) مسند أحمد: 1/ 263، صحيح البخاري: 1/ 6، كنز العمال: 4/ 384 ح 10035.(3/86)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ: وتزعمون أنه كان على دينكم اليهودية والنصرانية، وقد حدثت اليهودية بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل.
وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ: بعد مهلك إبراهيم بزمان طويل، وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة.
أَفَلا تَعْقِلُونَ: بعرض حجّتكم وبطلان قولكم.
ها أَنْتُمْ: قرأه أهل المدينة بغير همز ولا مدّ إلا بقدر خروج الألف الساكنة، وقرأ أهل مكّة مهموزا مقصورا على وزن هعنتم، وقرأ أهل الكوفة بالمدّ والهمز، وقرأ الباقون بالمدّ دون الهمز.
واختلفوا في أصله فقال بعضهم: أصله أنتم والهاء تنبيها. وقال الأخفش: أصله أأنتم فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم: هرقت وأرقت.
هؤُلاءِ: مبني على الكسر، وأصله أولاء فدخلت عليه هاء التنبيه، وفيه لغتان: القصر والمد، ومن العرب من يعضها.
أنشد أبو حازم «1» :
لعمرك أنا والأحاليف هؤلا ... لفي محنة أطفالها لم تفطم «2»
وهؤلاء ها هاهنا في موضع النداء يعني يا هؤلاء.
حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ: يعني في أمر محمد، لأنهم كانوا يعلمونه مما يجدون من نعته في كتابهم فحاجّوا به بالباطل.
فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ: من حديث إبراهيم فليس في كتابكم أنّه كان يهوديا أو نصرانيا.
__________
(1) في المصدر: حاتم. [.....]
(2) تفسير الطبري: 4/ 108 وفيه: أظفارها لم تقلم.(3/87)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ: نزّه إبراهيم (عليه السلام) وبرّأه من ادعائهم فقال:
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً: فالحنيف الّذي يوحّد ويحج ويضحّي ويختن ويستقبل القبلة وهو أسهل الأديان وأحبّها إلى الله وأهله أكرم الخلق على الله.
وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ:
قال ابن عباس: قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وأنّه كان يهوديا وما بك إلّا الحسد لنا، فأنزل الله هذه الآية «1» .
روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويونس بن بكير عن محمد بن إسحاق رفعه. دخل حديث بعضهم في بعض. قالوا: لما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة، وقالوا: إنّ لنا في الّذين عند النجاشي من أصحاب محمد ثأرا بمن قتل منكم ببدر. فاجمعوا مالا وهدوه إلى النجاشي لعلّه يدفع إليكم من عنده من قومكم، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم.
فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط بالهدايا، الأدم وغيره. فركبا البحر وأتيا الحبشة فلمّا دخلا على النجاشي سجدا له، وسلّما عليه وقالا له: إنّ قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبّون، وإنّهم بعثونا إليك لنحذّرك هؤلاء القوم الّذين قدموا عليك لأنّهم قوم رجل كذّاب خرج فينا فزعم أنّه رسول الله، ولم يبايعه أحد منّا إلا السفهاء وإنّا كنّا قد ضيّقنا عليهم الأمر. وألجأناهم إلى شعب أرضنا لا يدخل إليهم أحد. ولا يخرج منهم أحد. قد قتلهم الجوع والعطش. فلما اشتد عليه الأمر. بعث إليك ابن عم له ليفسد عليك دينك وملكك ورعيّتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم. قالوا: وآية ذلك أنّهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها النّاس رغبة عن دينك وسنّتك.
قال: فدعاهم النّجاشي فلمّا حضروا صاح جعفر بالباب: يستأذن عليك حزب الله. فقال النّجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه. ففعل جعفر. فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمّته. فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه. فقال: ألا تسمع كيف يدخلون بحزب الله وما أجابهم النجاشي. فساءهما ذلك، ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له.
فقال عمرو: ألا ترى إنّهم يستكبرون أن يسجدوا لك. فقال لهم النّجاشي: ما منعكم ألّا تسجدوا لي وتحيّوني بالتحيّة التي يحيّيني بها من أتى من الآفاق. قالوا: نسجد لله الّذي خلقك
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 68.(3/88)
وملكك- قال- وإنما كان للملك التحية لنا ونحن الأوثان. فبعث الله فينا نبيا صادقا، وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا. وهو السلام تحية أهل الجنّة. فعرف النّجاشي أن ذلك حق فيما جاء في التوراة والإنجيل. قال: أيّكم الهاتف: يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر: أنا.
قال: تكلّم. قال: إنّك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم، وأنا أحبّ أن أجيب عن أصحابي فمن هذين الرّجلين أن يتكلّم أحدهما وينصت الآخر. فتسمع محاورتنا. فقال عمرو لجعفر: تكلّم.
فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين. أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنّا عبيدا أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم. فقال النجاشي: أعبيد هم يا عمرو أم أحرار؟ قال: لا، بل أحرار كرام.
فقال النجاشي: نجّوا من العبودية، ثم قال جعفر: سلهما هل أهرقنا دما بغير حق؟ فاقتصّ منّا.
فقال عمرو: لا ولا قطرة. فقال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال النّاس بغير حق فعلينا إيفاؤها.
فقال النّجاشي: قل يا عمرو. وإن كان قنطارا. فعليّ قضاؤه قال: لا ولا قيراط. قال النّجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو: كنّا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا، وتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره. ولزمناه نحن فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا.
فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الّذي اتبعتموه؟ قال جعفر: أمّا الدين الذي كنّا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره. كنّا نكفر بالله ونعبد الحجارة. وأما الذي تحولنا إليه فدين الإسلام جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له. فقال النجاشي:
يا جعفر تكلّمت بأمر عظيم فعلى رسلك. فأمر النجاشي فضرب بالناقوس. فاجتمع إليه كل قسّيس وراهب. فلمّا اجتمعوا عنده قال النّجاشي: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى.
هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيّا مرسلا؟ فقالوا: اللهم نعم. قد بشرّنا به عيسى (عليه السلام) فقال: من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي. فقال النجاشي لجعفر: هيه: أي هات ماذا يقول لكم هذا الرّجل؟ وما يأمركم به؟ وما ينهاكم عنه؟ فقالوا: يقرأ علينا كتاب الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويأمر بحسن الجوار، وصلة الرحم، ويأمر للوالدين واليتيم، ويأمر بأن نعبد الله وحده لا شريك له. فقال: اقرأ عليّ شيئا ممّا يقرأ عليكم. فقرأ عليهم سورة العنكبوت والرّوم. فغاضت أعين النّجاشي وأصحابه من الدمع. وقالوا: يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطّيب. فقرأ عليهم سورة الكهف. فأراد عمرو أن يغضب النّجاشي.
فقال: إنّهم يشتمون عيسى وأمّه. فقال النّجاشي: ما تقولون في هذا؟ فقرأ جعفر عليهم سورة مريم فلمّا أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النّجاشي نفسه من سواكه قدر ما يقذي العين وقال: ما زاد المسيح على ما يقولون.
ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول آمنون من سبّكم أو(3/89)
آذاكم غرّم، ثم قال: أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم (عليه السلام) قال عمرو للنّجاشي: ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرّهط وصاحبهم الّذي جاءوا من عنده ومن اتبعه، ولكنّكم أنتم المشركون.
ثم ردّ النّجاشي على عمرو وأصحابه المال الّذي حملوه، وقال: إنّما هديّتكم رشوة إلي.
فاقبضوها، ولكنّ الله ملّكني ولم يأخذ مني رشوة. قال جعفر: فانصرفنا فكنّا في خير دار، وأكرم بلد وأنزل الله ذلك اليوم في خصومتهم على رسوله وهو في المدينة «1» إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ: على مثله.
وَهذَا النَّبِيُّ: يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.
روى مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكلّ نبيّ ولاء من النبيّين وإنّ وليّي منهم أبي وخليل ربّي ثم قرأ الآية إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ ... » [60] .
وَدَّتْ: تمنّت.
طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.... الآية: نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمّار ابن ياسر حين دعاهم اليهود إلى دينهم، قد مضت هذه القصة في سورة البقرة.
وَدَّتْ: تمنّت. طائِفَةٌ: جماعة من أهل الكتاب يعني اليهود.
لَوْ يُضِلُّونَكُمْ: يزلّونكم عن دينكم ويردّوكم إلى الكفر. وقال ابن جرير: يهلكونكم كقول الأخطل يهجو جرير بن عطية:
كنت القذى في موج أكدر مزبد ... قذف الآتي به فضّل ضلالا «2»
أي هلك هلاكا.
وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ.
يا أَهْلَ الْكِتابِ: يعني اليهود والنّصارى. لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ: يعني القرآن وبيان نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ: إنّ نعته مذكور في التوراة والإنجيل.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ: تخلطون الْحَقَّ بِالْباطِلِ: الإسلام باليهوديّة والنصرانيّة.
وقال ابن زيد: التوراة الّتي أنزل الله على موسى بالباطل الّذي غيّرتموه، وحرّفتموه، وضيّعتموه، وكتبتموه بأيديكم.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 71.
(2) تفسير الطبري: 1/ 68.(3/90)
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ: أنّ محمدا رسول الله ودينه حقّ.
وقرأ أبو مجلز: تلبّسون بالتشديد. وقرأ حسن بن عمير: تلبسوا وتكتموا بغير نون ولا وجه له.
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا: الآية.
قال الحسن والسّدي: تواطأ إثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عربية، وقال بعضهم لبعض: أدخلوا دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا آخر النهار وقولوا: إنّا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينهم، وقالوا: إنّهم أهل الكتاب وهم أعلم به منّا فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، وقالوا: إنّهم أهل.
وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: هذا في تبيان القبلة لما صرفت إلى الكعبة. فشقّ ذلك على اليهود لمخالفتهم. فقال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بالّذي أنزل على محمد من أمر الكعبة، وصلّوا إليها أول النّهار ثمّ اكفروا آخر النّهار، وارجعوا إلى قبلتكم الصّخرة لعلّهم يقولون أهل الكتاب هم أعلم منّا فيرجعون إلى قبلتنا، فحذّر الله نبيّه مكر هؤلاء وأطلعه على سرّهم. فأنزل: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ: أوّله وسمّي الوجه وجها لأنّه أحسنه، وأول ما يواجه به الناظر فيرى، ويقال لأول الشيب وجهه.
قال الربيع بن زياد:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار «1»
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ: يشكّون. يَرْجِعُونَ: عن دينهم. وَلا تُؤْمِنُوا: ولا تصدّقوا.
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ: هذا من كلام اليهود أيضا بعضهم لبعض ولا تؤمنوا ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم أي وافق ملّتكم وصلّى إلى قبلتكم واللام في قوله لِمَنْ: صلة. يعني ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم اليهوديّة كقول الله تعالى قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ «2» قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ الآية: اختلف القرّاء والعلماء فيه، فقرأت العامّة: أن يؤتى بالفتح من الألف وقصرها ووجه هذه القراءة إنّ هذا الكلام معترض بين
__________
(1) لسان العرب: 13/ 556.
(2) سورة النمل: 72.(3/91)
كلامين وهو خبر عن الله تعالى أنّ البيان وما يدلّ قوله قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ متصل بالكلام الأوّل إخبارا عن قول اليهود بعضهم لبعض، ومعنى الآية: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ
، ولا تؤمنوا أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من العلم والحكمة والحجّة في المنّ والسلوى، وفلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات. ولا تؤمنوا أن يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لأنّكم أصحّ دينا منه، وهذا معنى قول مجاهد والأخفش.
وقال ابن جريج وابن زيّاب: قالت اليهود لسفلتهم: لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ كراهية أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ وأيّ فضل يكون لكم عليهم حيث علموا ما علمتم وحينئذ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ: يقولون عرفتم أنّ ديننا حقّ فلا تصدّقوهم لئلّا يعلموا مثل ما علّمتم ولا يحاجّوكم عند ربكم، ويجوز أن يكون على هذا القول لا مضمرا كقوله تعالى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «1» يكون تقديره وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ لئلّا يؤتى أحد من العلم مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ وألا يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ.
وقرأ الحسن والأعمش: إن يؤتى بكسر الألف ووجه هذه القراءة إنّ هذا كلّه من قول الله بلا اعتراض وأن يكون كلام اليهود تاما عند قوله إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ومعنى الآية: قُلْ يا محمد إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى ما يؤتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يا أمّة محمد أَوْ يُحاجُّوكُمْ، يعني إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم وقوله: عِنْدَ رَبِّكُمْ أي عند فضل ربّكم لكم ذلك ويكون (أنّ) على هذا القول بمعنى الجحد والنفي.
وهذا معنى قول سعيد بن جبير والحسن وأبي مالك ومقاتل والكلبي. وقال الفرّاء: ويجوز أن يكون (أو) بمعنى حتّى كما يقال: تعلّق به أو يعطيك حقّك أي حتى يعطيك حقّك.
وقال امرؤ القيس:
فقلت له لا تبك عينك «2» إنّما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا «3»
أي حتى نموت.
والمعنى لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ما أعطى أحدا مثل ما أعطيتم يا أمة محمد من الدّين والحجّة حتّى يحاجّوكم عند ربّكم.
وقرأ ابن كثير: أن يؤتى بالمدّ وحينئذ يكون في الكلام إختيار تقديرها: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة تحسدونهم ولا تؤمنون بهم وهذا قول قتادة والربيع.
__________
(1) سورة النساء: 176.
(2) في المصدر: عيناك.
(3) كتاب العين: 8/ 438.(3/92)
وإلّا هذا من قول الله عز وجلّ: قُلْ لهم يا محمد إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ لما أنزل كتابا مثل كتابكم وبعث نبيّا مثل نبيّكم حسدتموه وكفرتم به.
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ الآية.
قال أبو حاتم: إنّ معناه الآن فحذف لام الجزاء استخفافا وأبدلت مدّه كقراءة من قرأ:
أَنْ كانَ ذا مالٍ أي الآن كان.
وقوله: أَوْ يُحاجُّوكُمْ على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين ويكون أو بمعنى أن لأنّها حرفا شك وجزاء ويوضع أحدهما موضع الآخر وتقدير الآية: وإن يحاجّوكم يا معشر المؤمنين عند ربّكم فقل يا محمد: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ ونحن عليه.
ويحتمل أن يكون الجميع خطابا للمؤمنين ويكون نظم الآية: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يا معشر المؤمنين [فلا تشكّو عند تلبيس اليهود] «1» ف قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ.
وإن حاجّوكم ف قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ.
فهذه وجوه الآيات باختلاف القرآن. ويحتمل أن يكون تمام الخبر عن اليهود عند قوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فيكون قوله وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ إلى آخر الآية من كلام الله عزّ وجلّ. وذلك إنّ الله تعالى مثبّت لقلوب المؤمنين ومشحذ لبصائرهم لئلّا يشكّوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم أي: ولا تصدّقوا يا معشر المؤمنين إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ولا تصدّقوا أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الدين والفضل، ولا تصدّقوا أن يُحاجُّوكُمْ في دينكم عِنْدَ رَبِّكُمْ فيقدرون على ذلك ف إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ: فتكون الآية كلّها خطاب الله عز وجلّ للمؤمنين عند تلبيس اليهود عليهم لئلّا يزلّوا ولا يرتابوا والله أعلم. يدل عليه قول الضحّاك قال: إنّ اليهود قالوا: إنّا نحاجّ عند ربنا من خالفنا في ديننا فبيّن الله تعالى أنّهم هم المدحضون أي المغلوبون، وإنّ المؤمنين هم الغالبون.
وقال أهل الإشارة في هذه الآية: لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم فإنّ من لا يوافقكم لا يرافقكم.
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ: بنبوّته ودينه ونعمته.
مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ: وقال أبو حيّان: إجمال القول يبقى مع رجاء الرّاجي وخوف الخائف.
__________
(1) زيادة لتقويم النص.(3/93)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 85]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ: الآية: قال أكثر المفسّرين: نزلت هذه الآية في اليهود كلّهم، أخبر الله تعالى إنّ فيهم أمانة وخيانة. والقنطار عبارة عن المال الكثير، والدينار عبارة عن المال القليل.
فإن قيل: فأيّ فائدة في هذه الأخبار وقد علمنا أنّ النّاس كلّهم لم يزالوا كذلك منهم الأمين ومنهم الخائن.
قلنا: تحذير من الله تعالى للمؤمنين أن يأتمونهم على أموالهم أو يغترّوا بهم لاستحلالهم أموال المؤمنين.
وهذا كما
روي في الخبر: أتراعون عن ذكر الفاجر؟ اذكروه بما فيه كي يحذره النّاس.
وقال بعضهم: الأمانة راجعة إلى من أسلم منهم، والخيانة راجعة إلى من لم يسلم منهم.
وقال مقاتل: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ: عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من الذّهب فأدّاه إليه فمدحه الله.
وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ: في مخاض بن عازورا وذلك أنّ رجلا من قريش استودعه دينارا فخانه.(3/94)
وفي بعض التفاسير: إنّ الّذي يؤدّي الأمانة في هذه الآية هم النصارى، والذين لا يؤدّونه هم اليهود.
وفي قوله تَأْمَنْهُ: قراءتان.
قرأ الأشهب العقيلي: تيمنه بكسر التاء وهي لغة بكر وتميم، وفي حرف ابن مسعود ما لك لا تيمنّا.
وقراءة العامّة تَأْمَنْهُ بالألف. والدينار أصله دنّار فعوّض من إحدى النّونين ياء طلبا للخفّة لكثرة استعماله، يدلّ عليه أنّك تجمعه دنانير.
وفي قوله يُؤَدِّهِ وأخواته خمس قراءات.
فقرأها كلّها أبو عمرو والأعمش وعاصم وحمزة: ساكنة الهاء.
وقرأ أبو جعفر ويعقوب: مختلسة مكسورة. وقرأ سلام: مضمومة مختلسة. وقرأ الزهري:
مضمومة مشبعة.
وقرأ الآخرون: مكسورة مشبعة فمن سكّن الهاء فإنّ كثيرا من النحاة خطّئوه، لأن الجزم ليس في الهاء إذا تحرك ما قبلها والهاء اسم المكنّى والأسماء لا تجزم.
قال الفرّاء: هذا مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرّك ما قبلها فيقول: ضربته ضربا شديدا، كما يسكّنون ميم أنتم وقمتم وأصلها الرفع.
وأنشد:
لمّا رأى أن لا دعه ولا شبع ... مال إلى أرطأة حقف «1» فاضطجع «2»
وقال بعضهم: إنّما جاز إسكان الهاء في هذه المواضع لأنّها وضعت في موضع الجزم وهو الياء الذاهب، ومن اختلس فإنّه اكتفى بالضمّة عن الواو وبالكسر عن الياء وأنشد الفرّاء:
أنا ابن كلاب وابن أوس ... فمن يكن قناعه مغطيّا فإنّي لمجتلى «3»
وأنشد سيبويه:
فإن يكن غثّا أو سمينا فإنّه ... سيجعل عينيه لنفسه مغمضا
ومن أشبع الهاء فعلى الأصل لما كان الحرف ضعيفا قوي بالواو في الضم وبالياء في الكسر.
__________
(1) الارطاة: واحد الارط وهو شجر من شجر الرمل. والحقف: (بالكسر) ما اعوج من الرمل.
(2) لسان العرب: 5/ 304.
(3) الصحاح: 6/ 2447.(3/95)
قال سيبويه: يجيء بعد هاء المذكّر واو كما يجيء بعد هاء المؤنّث ألف. ومن ضمّ الهاء فعلى الأصل لأنّ أصل الهاء الضمّة مثل هو، وهما وهم، ومن كسر فقال لأنّ قبله ياء وإن كان محذوفا فلأنّ ما قبلها مكسور.
إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً: قرأ يحيى وثابت والأعمش وطلحة بكسر الدّال، والباقون بالضّم.
من ضمّ فهو من دام. يدوم، ومن لغة العالية. ومن كسر فله وجهان، قال بعضهم: هو أيضا من دام يدوم إلا أنّه على وزن فعل. يفعل، يقول دمت تدوم مثل مت. تموت، قاله الأخفش. وليس في الأفعال الثلاثيّة فعل- يفعل بكسر العين في الماضي وضمّها في الغابر من الصحيح الآخر فإنّ فضل. يفضل، ونعم. ينعم، ومن المعتلّ متّ. أموت ودمت. أدوم وهما لغة تميم.
قال أكثر العلماء: من كرام- يدام- فعل- يفعل مثل خاف- يخاف، وهاب يهاب.
قائِماً: قال ابن عبّاس: ملحا.
مجاهد: مواظبا. سعيد بن جبير: مرابطا. قتادة: قائما تقتضيه. السّدي: قائما على رأسه.
العتيبي: مواظبا بالاقتضاء وأصله إنّ المطالب للشيء يقوم فيه والتّارك له يقعد عنه، ودلالة قوله: أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي: عاملة بأمر الله غير تاركة.
أبو روق: يعترف بما دفعت إليه ما دمت قائما على رأسه، فإن سألته إيّاه في الوقت حينما تدفعه إليه يردّه عليك وإن أنظرته وأخّرته أنكر وذهب به وذلك الاستحلال والخيانة.
بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ: أي في حال العرب. نظيره هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ «1» ... سَبِيلٌ: إثم وحرج. دليله قوله: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «2» وذلك إنّ اليهود قالوا لا حرج علينا في حبس أموال العرب قد أحلّها الله لنا لأنّهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلّون ظلم من خالفهم في دينهم يقولون لم يجعل الله لهم في كتابنا حرمة.
الكلبي: قالت اليهود إنّ الأموال كلّها كانت لنا فما كانت في أيدي العرب منها فهو لنا وإنّما ظلمونا وغصبونا ظلما فلا سبيل علينا في أخذنا إيّاه منهم.
__________
(1) سورة الجمعة: 2. [.....]
(2) سورة التوبة: 91.(3/96)
الحسن وابن جريج ومقاتل: بايع اليهود رجالا من المسلمين في الجاهلية فلمّا أسلموا تقاضوهم بقيمة أموالهم فقالوا: ليس لكم علينا حقّ ولا عندنا قضاء لكم تركتم الدّين الذي كنتم عليه وانقطع العهد بيننا وبينكم، وادّعوا إنّهم وجدوا ذلك في كتابهم فكذّبهم الله تعالى فقال:
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وفي الحديث: لما نزلت الآية قال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنّها موفاة «1» إلى البرّ والفاجر» «2» [61] .
وروى أبو إسحاق الهمداني عن صعصعة: إنّ رجلا سأل ابن عباس فقال: إنّا نصيب في الغزو من أموال أهل المدينة الدّجاجة أو الشاة قال ابن عبّاس: ويقولون ماذا قال: يقولون:
ليس علينا بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ «3» إنهم إذا أدّوا الجزية لم يحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ثمّ قال الله تعالى ردّا عليهم: بَلى: أي ليس كما قالوا ولكن مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ: الذي عاهد الله في التوراة من الإيمان بمحمّد والقرآن وأداء الأمانة.
والهاء في قوله بِعَهْدِهِ راجعة إلى الله عزّ وجلّ قد جرى ذكره في قوله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. ويجوز أن تكون عائدة إلى أَوْفى.
وَاتَّقى: من الكفر والخيانة ونقض العهد.
فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ: من هذه صفته.
وعن الحسن: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ثلاثة من كنّ فيه فهو منافق وإن صلّى وصام وزعم أنّه مؤمن، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» [62] «4» .
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من ائتمن على أمانة فأدّاها ولو شاء لم يؤدّها زوّجه الله من الحور العين ما شاء» [63] «5» .
الحسن عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «التّاجر الصّدوق الأمين مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ» [64] «6» .
وهب عن حذيفة قال: حدّثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر،
__________
(1) في المصدر: مؤداة.
(2) فتح القدير: 1/ 354، تفسير مجمع البيان: 2/ 327.
(3) سورة آل عمران: 75.
(4) كنز العمال: 1/ 171.
(5) تفسير مجمع البيان: 2/ 327.
(6) المستدرك: 2/ 6.(3/97)
حدّثنا: «إنّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجّال، ونزل القرآن فتعلّموا من القرآن وتعلّموا من أصل السّنة» [65] «1» .
ثم حدّثنا عن رفعهما فقال: «ينام الرّجل النومة فينزع الأمانة من قلبه فيظل أثرها كأثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فتراه منتثرا وليس فيه شيء» . ثم أخذ حذيفة حصاة فدحرجها على ساقه قال: فيصبح النّاس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتّى يقال له: فلان رجلا أمينا، وحتّى يقال للرّجل: ما أجلده، ما أعقله، وأظرفه وما في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان. ولقد أتى عليّ حين ولا أبالي أيّكم بايعت لئن كان مسلما ليردّن على إسلامه ولئن كان يهوديا أو نصرانيا ليردّن على ساعيه فأنا اليوم فما كنت لأبايع رجلا منكم إلّا فلانا وفلانا «2» .
وقيل: أكمل الدّيانة ترك الخيانة، وأعظم الجناية خيانة النّاس.
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا: اختلفوا في نزول هذه الآية:
فقال عكرمة: نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وغيرهم من رئيس اليهود كتبوا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمّد صلى الله عليه وسلّم وبدّلوه وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا إنّه من عند الله لئلا يفوتهم الرّشى والمأكل التي كانت لهم على أتباعهم.
وقال الكلبي: إنّ ناسا من علماء اليهود أولي فاقة كانوا ذوي حظ من علم التوراة فأصابهم سنة. فأتوا كعب بن الأشرف يستميرونه فسألهم كعب: هل تعلمون أنّ هذا الرّجل رسول الله في كتابكم؟ فقالوا: نعم، وما تعلمه أنت؟ قال: لا. قالوا: فإنّا نشهد إنّه عبد الله ورسوله، قال كعب: قد كذبتم عليّ فأنا أريد أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيرا كثيرا.
قالوا: فإنّه شبّه لنا. فرويدا حتى نلقاه. قال: فانطلقوا فكتبوا صفة سوى صفته، ثم أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلّم فكتموه ثم رجعوا إلى كعب، فقالوا: قد كنّا نرى رسول الله فأتيناه، فإذا هو ليس بالنعت الّذي نعت لنا وأخرجوا الّذي كتبوه. ففرح بذلك كعب، ومكرهم فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، نظيرها قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا «3» الآية.
وروى منصور بن أبي وائل قال: قال عبد الله: من حلف على عين يستحقّ بها مالا وهو فيها فاجر لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان. فأنزل الله تعالى تصديق ذلك إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الآية.
وقال الأشعث بن قيس: فيّ نزلت، وكانت بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى
__________
(1) غريب الحديث: 4/ 117- 118 بتفاوت.
(2) مسند أحمد: 5/ 383.
(3) سورة البقرة: 174.(3/98)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «شاهداك أو يمينه» . فقلت: إنّه إذا يحلف ولا يبالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«من حلف على عين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجر لقي الله تعالى وهو عليه غضبان» [66] «1» .
فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ... الآية.
وقال ابن جريج: إنّ الأشعث بن قيس اختصم هو ورجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أرض كانت في يده لذلك ليعزّره في الجاهلية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أقم بيّنتك؟» . قال الرجل: ليس يشهد لي على الأشعث بن قيس أحد. قال: «لك يمينه» [67] . فقام الأشعث وقال: أشهد الله وأشهدكم أنّ خصمي صادق. فردّ إليه أرضه وزاده من أرض نفسه زيادة كثيرة مخافة أن يبقى في يده شيء من حقّه فهو لعقب ذلك الرجل من بعده «2» .
وروى بادان عن ابن عباس قال: نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي استعدى عليه عبدان بن أشرع فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحلف، فلمّا همّ أن يحلف نزلت هذه الآية. فامتنع امرئ القيس أن يحلف وأقرّ لعبدان بحقّه ودفعه إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لك عليها الجنّة.
وقال مجاهد والشعبي: أقام رجلا سلعته أوّل النّهار فلمّا كان آخره جاء رجل فساومه فحلف لقد منعها أوّل النّهار من كذا ولولا المساء لما باعها به. فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ: أي يستبدلون بعهد الله وإيفاء الأمانة وَأَيْمانِهِمْ الكاذبة ثَمَناً قَلِيلًا.
أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ: ونعيمها وثوابها وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ كلاما ينفعهم ويسرّهم. قاله المفسرون، وقال المفضل: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ: بقبول حجّة يحتجّون بها.
وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ: أي لا يرحمهم ولا يعطف عليهم ولا يحسن إليهم ولا يكلمهم خيرا. يقال نظر فلان لفلان، ونظر إليه إذا رحمه وأحسن إليه.
قال الشاعر:
فقلت انظري ما أحسن النّاس كلّهم ... لبني غلّة صدبان قد شفّه الوجد
وعن أبي عمرو الجوني قال: ما نظر الله إلى شيء إلا رحمه ولو قضى أن ينظر إلى [أهل] النّار لرحمهم، ولكن قضى أن لا ينظر إليهم.
روى عبد الله بن كعب عن أبي أمامة الخازني: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من اقتطع حقّ امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النّار وحرّم عليه الجنّة» ، فقال رجل وإن كان شيئا يسيرا قال: «وإن كان قضيبا من أراك» [68] «3» .
__________
(1) صحيح البخاري: 3/ 160 وفيه يمين يستحق بدل عين يستحق.
(2) تفسير الطبري: 3/ 436.
(3) مسند أحمد: 5/ 260.(3/99)
وروى محمد بن زيد القرشي عن عبد الله بن أبي أمامة الخازني عن عبد الله بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس. والذي نفسي بيده لا يحلف أحد وإن كان على مثل جناح بعوضة إلا كانت وكنة في قلبه إلى يوم القيامة»
[69] «1» .
وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:
رجل على فضل ما بالطريق فمنع ابن السّبيل، ورجل بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه ما يريد وفي له وإلّا لم يف له، ورجل يساوم سلعته بعد العصر. فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا فصدّقه الآخر وأخذها.
وروى الحارث الأعور عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إيّاكم واليمين الفاجرة. فإنّها تدع الدّيار بلاقع من أهلها» [70] «2» .
وروى معمّر في رجل من بني تميم عن أبي الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:
«اليمين الفاجرة تعقم الرحم» [71] «3» .
العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب» [72] «4» .
وَإِنَّ مِنْهُمْ: يعني من أهل الكتاب الذين تقدّم ذكرهم وهم اليهود.
لَفَرِيقاً: طائفة وهم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصّف، وحيي بن الأخطب، وأبو ياسر وحيي وسبعة بن عمرو الشاعر.
يَلْوُونَ: قرأ أهل المدينة يُلَوُّونَ مضمومة الياء مفتوحة اللام مشدّدة الواو على التكثير.
وقرأ حميد: يلون بواو واحدة على نية الهمز، ثم ترك الهمزة ونقل حركتها إلى اللام.
وقرأ الباقون بواوين ولام ساكنة مخففة ومعناها جميعا يعطفون أَلْسِنَتَهُمْ: بالتحريف المتعنّت وهو ما غيّروا من صفة محمد صلى الله عليه وسلّم وآية الرّجم. يقال: لوى لسانه عن كذا أي غيّره، ولوى الشيء عمّا كان عليه إذا غيّره إلى غيره، ولوى فلانا عن رأيه، إذا أماله عنه، ومنه: ليّ الغريم، قال النابغة الجعدي:
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 495. [.....]
(2) كنز العمال: 16/ 96 ح 44052.
(3) كنز العمال: 16/ 696 ح 46380.
(4) شرح مسلم: 2/ 126.(3/100)
لوى الله علم الغيب عم سواءه ... ويعلم منه ما مضى وتأخرا «1»
ونظيره قوله: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ... الآية.
لِتَحْسَبُوهُ: لتظنّوا ما حرّفوا مِنَ الْكِتابِ: الذي أنزله الله.
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ... وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ: إنّهم كاذبون.
وروى جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: إنّ الآية نزلت في اليهود والنّصارى جميعا والذين هم حرّفوا التوراة والإنجيل، وضربوا كتاب الله بعضه ببعض وألحقوا به ما ليس منه فأسقطوا منه الدين الحنفي، فبيّن الله تعالى كذبهم للمؤمنين.
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ الآية.
قال الضحّاك ومقاتل: ما كانَ لِبَشَرٍ يعني عيسى (عليه السلام) أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ يؤتى الحكمة. نزلت في نصارى أهل نجران.
وقال ابن عباس وعطاء: ما كانَ لِبَشَرٍ يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ: يعني القرآن وذلك
أنّ أبا رافع القرظي من اليهود والرئيس من نصارى أهل نجران قالا: يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» [73] «2» . فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الحسن: بلغني أنّ رجلا قال: يا رسول الله نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: «لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيّكم واعرفوا الحق لأهله» [74] «3» . فأنزل الله ما كانَ لِبَشَرٍ: يعني ما ينبغي لبشر
، كقوله وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً «4» وكقوله ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا «5» : يعني ما ينبغي.
وقال أهل المعاني: هذه اللام منقولة وأن بمعنى اللام، وتقدير الآية: ما كان لبشر ليقول ذلك. نظير قوله: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ «6» : أي ما كان الله ليتخذ ولدا وقوله ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «7» أي ما كان لنبىّ ليغلّ. والبشر جميع بني آدم لا واحد من لفظه: كالقوم والجيش، ويوضع موضع الواحد والجمع.
__________
(1) لسان العرب: 14/ 413.
(2) تفسير الطبري: 3/ 441.
(3) أسباب نزول الآيات: 74، تفسير مجمع البيان: 2/ 331.
(4) سورة النساء: 92.
(5) سورة النور: 16.
(6) سورة مريم: 35.
(7) سورة آل عمران: 161.(3/101)
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ: يعني الفهم والعلم، وقيل أيضا الأحكام عن الله تعالى، نظير قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ «1» .
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ: نصب على العطف، وروى محبوب عن أبي عمرو: ثمّ يقولُ بالرفع على الاستئناف.
كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ: قال ابن عباس: هذه لغة مزينة تقول للعبيد عباد.
وَلكِنْ كُونُوا: أي ولكن يقول كونوا، فحذف القول.
رَبَّانِيِّينَ: اختلفوا فيه:
فقال عليّ وابن عباس والحسن والضحّاك: كونوا فقهاء علماء.
مجاهد: فقهاء وهم دون الأحبار. أبو رزين وقتادة والسّدّي: حكماء علماء، وهي رواية عطية عن ابن عباس. وروى سعيد بن جبير عنه: فقهاء معلّمين.
وقال مرّة بن شرحبيل: كان علقمة من الرّبانيّين الذين يعلّمون النّاس القرآن.
وروى الفضل بن عياض عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير: حكماء أتقياء.
ابن زيد: ولاة النّاس، وقادتهم بعضهم متعبدين مخلصين.
عطاء: علماء حكماء نصبا لله في خلقه. أبو عبيد: لم يعرف العرب الرّبانيّين.
أبو [عبيد] : سمعت رجلا عالما يقول: الرّباني: العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي.
العارف بأنباء الأمّة وما كان وما يكون.
المؤرّخ: كونوا ربّانيّين تدينون لربّكم، كأنّه فعلاني من الربوبية.
وقال بعضهم: كان في الأصل ربّي، فأدخلت الألف للتضخيم وهو لسان السريّانية، ثم أدخلت النون لسكون الألف كما قيل: صنعاني وبحراني وداراني.
المبّرد: الرّبانيون: أرباب العلم واحدها ربّان وهو الذي يرث العلم ويربّب النّاس أي يعلّمهم ويصلحهم فيقوم بأمرهم، والألف والنون للمبالغة. كما قالوا: ريّان وعطشان وشبعان وغوثان ونعسان من النّعاس ووسنان ثم ضمّ إليه ياء النسبة كما قيل. وقال الشاعر:
لو كنت مرتهنا في الحقّ أنزلني ... منه الحديث وربّاني أحباري «2»
وقد جمع علي (رضي الله عنه) هذه الأقاويل أجمع فقال: هو الّذي يربى علمه بعمله.
وقال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس: مات ربّاني هذه الأمّة.
__________
(1) سورة الأنعام: 89.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 122.(3/102)
بِما كُنْتُمْ: معناه الوجوب أي: بما أنتم. كقوله وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً «1» : أي وامرأتي، وقوله مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا «2» أي من هو في المهد صبيّا.
تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ: قرأ السلمي والنخعي وابن جبير والضحّاك وأهل الكوفة: تُعَلِّمُونَ بالتشديد من التعليم، واختاره أبو عبيدة، وقرأ الباقون تعلمون بالتخفيف من العلم، واختاره أبو حاتم، وقال أبو عمرو: وتصديقها وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فلم يقل يدرسون وقرأ الحسن تُعَلِّمُونَ، التاء والعين وتشديد اللام على معنى تعلمون، وقرأ أبو عبيدة: تُدْرِسُونَ من أدرس يدرس. وقرأ سعيد بن جبير: تُدَرِّسُونَ من التدريس. الباقون: يدرسون من الدرس أي يقرءون، نظيره في سورة الأعراف وَدَرَسُوا ما فِيهِ «3» .
جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حرّ ولا عبد مملوك إلّا ولله عزّ وجلّ عليه حقّ واجب أن يتعلّم من القرآن ويتفقّه فيه، ثم تلا هذه الآية وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» «4» .
وَلا يَأْمُرَكُمْ: قرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وحمزة: وَلا يَأْمُرَكُمْ بالنصب عطفا على قوله ثُمَّ يَقُولَ.
وقيل: على إضمار أنّ وهو على هذه القراءة مردود على البشر. وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف والانقطاع من الكلام الأوّل، يدلّ عليه قراءة عبد الله وطلحة ولن يأمركم ثمّ اختلفوا فيه، فقرأ الأكثر على معناه وَلا يَأْمُرَكُمْ الله. وقال ابن جريح: وَلا يَأْمُرَكُمْ محمد عليه الصّلاة والسّلام، وقيل: وَلا يَأْمُرَكُمْ البشر.
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً: كقول قريش وبني مليح حيث قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود والنّصارى حيث قالوا في المسيح وعزير ما قالوا.
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: على ظهر التعجّب والإنكار، يعني: لا يفعل هذا.
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، قرأ سعيد بن جبير لَمَّا بتشديد الميم، وقرأ يحيى بن رئاب والأعمش وحمزة والكسائي بجرّ اللام وتخفيف الميم.
وأما الباقون: بفتح اللام وتخفيف الميم، فمن فتح اللام وخفّف الميم فقال الأخفش: هي
__________
(1) سورة مريم: 5.
(2) سورة مريم: 29. [.....]
(3) سورة الأعراف: 169.
(4) تفسير القرطبي: 4/ 122.(3/103)
لام الابتداء أدخلت على ما الخبر كقول القائل: لزيد أفضل منك، وما آتيتكم والذي بعده صلة له وجوابه في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ فإن شئت جعلت خبر ما. من كتاب الله. وتقول من زائدة معناها: لما آتيتكم كتاب وحكمة، ثم ابتدأ فقال: ثُمَّ يعني: ثم يجيئكم، وإن شئت قلت: ثم أن جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ: اللام لام القسم تقديره: والله لتؤمننّ به. فأكّد في أول الكلام بلام التأكيد، وفي آخر الكلام بلام القسم.
وقال الفرّاء: من فتح اللام جعلها لاما زائدة لقوله: اليمين إذا وقعت على جملة صيّرت فعل ذلك الجزاء على هيئة فعل، وصيّرت جوابه كجواب اليمين، والمعنى: أي كتاب آتيتكم ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به، للّام في قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ.
وقال المبرّد والزجّاج: هذه لام التحقيق دخلت على ما الجزاء كما تدخل على أن، ومعناه: مهما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، اللام في قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ جواب الجزاء كقوله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ «1» ونحوه.
وقال الكسائي: لَتُؤْمِنُنَّ: متصل بالكلام الأول وجواب الجزاء في قوله: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ، ومن كسر اللام فهي لام الإضافة دخلت على ما الذي، ومعناه: الذي آتيتكم يعني: أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي أمامهم من كتاب وحكمة ثم أن جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ من بعد الميثاق لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف، وهو كما نقول في الكلام أخذت ميثاقك لتفعلن كذا وكذا كأنك قلت: استحلفتك لتفعلن.
وقال صاحب النظم: من كسر اللام فهو بمعنى بعد يعني: بعد ما آتيتكم من كتاب وحكمة، كقول النابغة:
توهّمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع «2»
أي: بعد ستة أعوام، ومن شدد الميم فمعناه: حين آتيتكم لقوله تعالى آتَيْتُكُمْ.
قرأ أهل الكوفة: آتيناكم على التعظيم، وقرأ الآخرون: آتَيْتُكُمْ على التفريد، وهو الاختيار لموافقة الخط كقوله: وَأَنَا مَعَكُمْ «3» والقول مثمر في الآية على الأوجه الثلاثة تقديرها: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) .
واختلف المفسّرون في معنى هذه الآية، فقال قوم: إنّما أخذ الميثاق على الأنبياء أن
__________
(1) سورة الإسراء: 86.
(2) لسان العرب: 4/ 569.
(3) سورة آل عمران: 81.(3/104)
يصدق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض، فذلك معنى آخر بالتصديق، وهذا قول سعيد بن جبير وطاوس وقتادة والحسن والسدّي، يدل عليه ظاهر الآية،
وقال علي (رضي الله عنه) : لم يبعث الله نبيا. آدم ومن بعده. إلّا أخذ عليه العهد في محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمره بأخذ العهد على قومه لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولئن بعث وهم أحياء لينصرنّه
، وقال آخرون: إنّما أخذ الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل منهم النبيين، وهو قول مجاهد والربيع.
قال مجاهد: هذا خلط من الكتاب وهو من قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، قالوا: ألا ترى إلى قوله ثم جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وإنّما كان محمد صلّى الله عليه وسلّم مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النبيين.
وقال بعضهم: إنّما أخذ الميثاق على النبيين وأممهم [ليؤمنن به] ، ففرد الأنبياء عن ذكر الأمم لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على الأتباع، وهذا معنى قول ابن عباس وهذا أولى بالصواب.
قال الله: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي وقبلتم على ذلك عهدي، نظير قوله تعالى: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ «1» أي فاقبلوه، وقوله تعالى: لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أي لا يقبل منها فداء، وقوله: يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي يقبلها، قالُوا أَقْرَرْنا.
قال الله: فَاشْهَدُوا على أنفسكم وعلى أتباعكم وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ عليكم وعليهم.
قال ابن عباس: فَاشْهَدُوا: يعني فاعلموا، قال الزجّاج: فَاشْهَدُوا أي فبيّنوا لأن الشاهد هو الذي عين دعوى المدّعى، وشهادة الله للنبيين بيّنوا أمر نبوتهم بالآيات والمعجزات، وقال سعيد بن المسيب: قال الله تعالى للملائكة: فَاشْهَدُوا عليهم، فتكون كناية عن غير مذكور.
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ الإقرار والإشهاد فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ العاصون، الخارجون عن الإيمان.
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ الآية.
قال ابن عباس: اختصم أهل الكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم (عليه السلام) كل فرقة زعمت أنّه أولى بدينه، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم، فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فأنزل الله أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ
وهو قراءة الحسن وحميد ويعقوب وسلام وسهل وصفوان بالياء لقوله: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
__________
(1) سورة المائدة: 41.(3/105)
، وقرأ أبو عمرو: يَبْغُونَ بالياء وترجعون بالتاء، قال: لأن الأول خاص والثاني عام ففرّق بينهما لافتراقهما في المعنى، وقرأ الباقون: بالتاء فيهما على الخطاب لقوله: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ.
وَلَهُ أَسْلَمَ خضع وانقاد من في السموات والأرض طَوْعاً والطوع الانقياد والاتباع بسهولة من قولهم: فرس طوع العنان، أي منقاد وَكَرْهاً والكره: ما كان بمشقة وإباء من النفس، كرها بضم الكاف وهما مصدران وضعا موضع الحال، كأنّه قال: وله أسلم من في السموات والأرض طائعين وكارهين، واختلفوا في قوله طَوْعاً وَكَرْهاً،
فروى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً قال: «الملائكة أطاعوه في السماء، والأنصار وعبد القيس أطاعوه في الأرض» [75] «1» .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبّوا أصحابي فإنّ أصحابي أسلموا من خوف الله، وأسلم الناس من خوف السيف» [76] «2» .
وقال الحسن والمفضّل: الطوع لأهل السموات خاصة، وأهل الأرض منهم من أسلم طوعا ومنهم من أسلم كرها.
ابن عباس: عبادتهم لله أجمعين طوعا وكرها وانقيادا له.
الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً قال: كل بني آدم أقرّ على نفسه أنّ الله ربّي وأنا عبده، فهذا الإسلام لو استقام عليه، فلمّا تكلّم به صار حجة عليه، ثم أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومنهم من شهد أنّ الله ربّي وأنا عبده، ثم أخلص العبودية فهذا الذي أسلم طوعا، وقال الضحّاك: هذا حين أخذ منه الميثاق وأقرّ به.
مجاهد: طَوْعاً: ظل المؤمن وَكَرْهاً: ظل الكافر، يدلّ عليه قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ «3» ، وقوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ «4» .
الشعبي: هو استعاذتهم به عند اضطرارهم، يدلّ عليه قوله تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «5» .
__________
(1) الدر المنثور: 2/ 48.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 128.
(3) سورة الرعد: 15.
(4) سورة النحل: 48.
(5) سورة العنكبوت: 65.(3/106)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
قتادة: المؤمن أسلم طائعا والكافر كارها فإما المؤمن فأسلم طائعا فنفعه ذلك وقبل منه، وأما الكافر فأسلم كارها في وقت البأس والمعاينة حتى لا يقبل منه ولا ينفعه، يدل عليه قوله:
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «1» .
الكلبي: طَوْعاً: الذين ولدوا في الإسلام، وَكَرْهاً: الذين أجبروا على الإسلام.
عكرمة: وَكَرْهاً: من اضطرته [الحجة] إلى التوحيد، يدلّ عليه قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «2» ، وقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «3» .
ابن كيسان: وَلَهُ أَسْلَمَ أي خضع مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيما صيّرهم عليه وصوّرهم فيه وما يحدث فهم لا يمتنعون عليه، كرهوا ذلك أو أحبوه.
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ «4» الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شموسا فليقرأ في أذنها هذه الآية.
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ إلى قوله وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً الآية نزلت في اثني عشر رجلا ارتدّوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة ولحقوا بمكة كفارا منهم: الحرث بن سويد الأنصاري أخو الحلاس بن سويد، وطعمة بن أشرف الأنصاري، ومقيس بن صبابة الليثي، وعبد الله بن أنس بن خطل من بني تميم بن مرة، ووجوج بن الأسلت، وأبو عاصم بن النعمان، فأنزل الله فيهم: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 92]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
__________
(1) سورة غافر: 85.
(2) سورة الزخرف: 87.
(3) سورة العنكبوت: 61. [.....]
(4) سورة آل عمران: 83.(3/107)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ: لفظه استفهام ومعناه جحد، أي لا يهدي الله.
قال الشاعر:
كيف نومي على الفراش ولمّا ... تشمل الشام غارة شعواء «1»
أي لا نوم لي، نظير قوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ «2» : أي لا يكون لهم عهد، وقيل: معناه كيف يستحقون العبادة؟ وقيل: معناه كيف يهديهم الله للمغفرة إلى الجنّة والثواب؟
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ «3» أي لا يرشدهم ولا يوفقهم، وهو خاص فيمن علم الله عز وجل منهم، وأراد ذلك منهم، وقيل: معناه: لا يثيبهم ولا ينجيهم [إلى الجنة] . أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ ... «4» إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وذلك
أنّ الحرث بن سويد لما لحق بالكفار ندم، فأرسل إلى قومه أن اسألوا رسول الله هل له من توبة؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «5» لما كان، فحملها إليه رجل من قومه وقرأها عليه، فقال الحرث: إنّك والله ما علمت لصدوق، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصدق منك، وأنّ الله عز وجل لأصدق الثلاثة، فرجع الحرث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في رجل من بني عمرو بن عوف كفر بعد إيمانه ولحق بالروم فتنصّر، فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآيات: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً....
قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني: نزلت هذه الآية في اليهود، كَفَرُوا بعيسى (عليه السلام) والإنجيل بَعْدَ إِيمانِهِمْ بأنبيائهم وكتبهم، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن.
أبو العالية: نزلت في اليهود والنصارى، كَفَرُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لما رأوه وعرفوه بَعْدَ إِيمانِهِمْ بنعته وصفته في كتبهم، ثُمَّ ازْدادُوا ذنوبا في حال كفرهم. مجاهد: نزلت في الكفار كلهم، أشركوا بعد إقرارهم بأنّ الله خالقهم، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أي أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه.
الحسن: كلّما نزلت عليم آية كفروا بها فازدادوا كفرا. قطرب: كما ازدادوا كفرا بقولهم نتربص بمحمد رَيْبَ الْمَنُونِ.
__________
(1) لسان العرب: 11/ 368.
(2) سورة التوبة: 7.
(3) سورة التوبة: 19.
(4) سورة آل عمران: 87.
(5) سورة آل عمران: 89.(3/108)
الكلبي: نزلت في أحد عشر أصحاب الحرث بن سويد، لما رجع الحرث قالوا: نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا، فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا، فينزل فينا ما نزل في الحرث، فلمّا فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلت توبته، فنزل فيمن مات منهم كافرا
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الآية، فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وقد سبقت حكمة الله تعالى في قبول توبة من تاب؟ قلنا: اختلف العلماء فيه، فقال بعضهم: لن يقبل توبتهم عند الغرغرة والحشرجة.
قال الحسن وقتادة وعطاء: لن يقبل توبتهم لأنّهم لا يؤمنون إلّا عند حضور الموت، قال الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ... الآية.
مجاهد: لن يقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر. ابن عباس وأبو العالية: لن يقبل توبتهم ما أقاموا على كفرهم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً أي حشوها، وقدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها ذهبا، نصب على التفسير في قول الفراء.
وقال المفضّل: ومعنى التفسير أن يكون الكلام تاما وهو مبهم، كقولك: عندي عشرون، فالعدد معلوم والمعدود مبهم، وإذا قلت: عشرون درهما فسّرت العدد، وكذلك إذا قلت: هو أحسن الناس، فقد أخبرت عن حسنه ولم تبين في أي شيء هو، فإذا قلت: وجها أو فعلا منه فإنّك بيّنته ونصبته على التفسير، وإنّما نصبته لأنّه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه، فلمّا خلا من هذين نصب لأنّ النصب أخف الحركات فجعل لكل ما لا عامل فيه، وقال الكسائي: نصب ذهبا على إضمار من، أي من ذهب كقولهم: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أي من صيام.
وَلَوِ افْتَدى بِهِ:
روى قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم، فيقال لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك»
[77] «1» ، قال الله: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ «2» .
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ: يعني الجنّة، قاله ابن عباس ومجاهد وعمر بن ميمون والسدّي، وقال عطية: يعني الطاعة.
أبو روق: يعني الخير، مقاتل بن حيان: التقوى، الحسن: لن يكونوا أبرارا.
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 218، جامع البيان للطبري: 3/ 468.
(2) سورة آل عمران: 91.(3/109)
حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ: أي مما تهوون ويعجبكم من كرائم أموالكم وأحبّها إليكم طيّبة بها أنفسكم، صغيرة في أعينكم.
مجاهد والكلبي: هذه الآية منسوخة، نسختها آية الزكاة.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: أراد بهذه الآية الزكاة يعني: حتى تخرجوا زكاة أموالكم، وقال عطاء: لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحّاء أشحّاء، تأملون العيش، وتخشون الفقر، وقال الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من ماله يبتغي به وجه الله تعالى فإنّه من الذي عنى الله سبحانه بقوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ حتى التمرة.
وروي أنّ أبا طلحة الأنصاري كان من أكثر الأنصار نخلا بالمدينة، وكان أحب أمواله إليه بئر ماء «1» ، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلمّا نزلت لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إنّ الله يقول:
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإنّ أحبّ أموالي إليّ بئر ماء وإنّها صدقة أرجو برّها وذخرها عند الله عز وجل، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بخ بخ، ذلك مال رابح لك وقد عرفت «2» ما قلت، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين» [78] «3» .
فقال له: أفعل يا رسول الله، فقسّمها في أقاربه وبني عمّه.
وروى معمّر عن أيوب وغيره قال: لما نزلت: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ جاء زيد بن حارثة بفرس كانت له يحبّها وقال: هذه في سبيل الله، فحمل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد. فكان زيدا واجدا في نفسه وقال: إنّما أردت أن أتصدق به، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما إنّ الله قد قبلها منك» [79] «4» .
وقال حوشب: لمّا نزلت لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ قالت امرأة لجارية لها لا تملك غيرها: أعتقك وتقيمين معي غير أنّي لست أشرط عليك ذلك، فقالت: نعم، فلمّا أعتقتها ذهبت وتركتها فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته به فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دعيها فقد حجبتك عن النار، وإذا سمعت بسبيي قد جاءني فأتيني» [80] .
وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قالوا: كتب عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) أن يبتاع جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فقال سعد بن أبي وقاص: فدعا بها
__________
(1) بئر ماء: مال وموضع وبستان كان لأبي طلحة بالمدينة بجوار المسجد.
(2) في المصدر: «سمعت» .
(3) سنن الدارمي: 1/ 390، وصحيح البخاري: 2/ 126.
(4) الدر المنثور: 2/ 50، تفسير القرطبي: 4/ 132.(3/110)
عمر فأعجبته فقال: إنّ الله عز وجل يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فأعتقها.
وروى حمزة بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر قال: خطرت على قلبي هذه الآية:
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ ... فتذكرت ما أعطاني الله، فما كان شيء أعجب إليّ من فلانة فقلت: هي حرة لوجه الله، ولولا أنني لا أعود في شيء جعلته لله عز وجل لنكحتها.
ويقال: ضاف أبا ذر الغفاري ضيف فقال للضيف: إنّي مشغول فاخرج إلى أبواء فإنّ لي بها إبلا فأتني بخيرها، فذهب وجاء بناقة مهزولة فقال له أبو ذر: جئتني بشرها، فقال: وجدت خير الإبل فحلها فتذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر: إنّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي مع أنّ الله عز وجل يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.
وعن رجل من بني سليم يقال له عبد الله بن سيدان عن أبي ذر قال: في المال ثلاث شركاء: القدر لا يستأمرك أن تذهب بخيرها أو شرها من هلاك أو موت أو فعل، والوارث ينتظرك أن تضع رأسك ثم يستاقها وأنت ذميم، والثالث أنت فإن استطعت أن لا يكون أعجب إليك مالا فإنّ الله عز وجل يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وإنّ هذا الجمل كان مما أحب من مالي فأحببت أن أقدّمه لنفسي.
وروي عن ربيع بن خيثم أنّه وقف سائل على بابه، فقال: أطعموه سكرا فقيل: ما يصنع هذا بالسكّر فنطعمه خبزا فهو أنفع له، فقال: ويحكم أطعموه سكّرا فإنّ الربيع يحب السكّر.
وروي عن الربيع بن خيثم أيضا أنّه جاءه سائل في ليلة باردة، فخرج إليه فرآه كأنّه مقرور قال: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فنزع برتشا له وأعطاه إياه وذكر أنّه كساه عروة.
وبلغنا أن زبيدة أم جعفر اتخذت مصحفا في تسعين قطعة كتب بالذهب على الرق وجعلت ظهورها من الذهب مرصعة بالجواهر، فبينما هي تقرأ القرآن ذات يوم فقرأت هذه الآية، فلم يكن شيء أحبّ إليها من المصحف، فقالت: عليّ بالصاغة، فأمرت بالذهب والجواهر حتى بيعت وأمرت حتى حفرت الآبار وأشرف الحياض بالبادية.
وقال أبو بكر الورّاق: دلّهم بهذه الآية على الفتوة، وقال: لن تنالوا برّي بكم إلّا ببرّكم إخوانكم والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم وما تحبّون، فإذا فعلتم ذلك نالكم برّي وعطفي.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ: أي فإنّ الله يجازي عليه لأنّه إذا علمه جازى عليه، وتأويل (ما) تأويل الشرط والجزاء وموضعها نصب لينفقوا، المعنى: وأي شيء ينفقون فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.(3/111)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 103]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ الآية.
قال أبو روق والكلبي: كان هذا حين
قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أنا على ملة إبراهيم» .
فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحلّه» [81] «1» فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرّمه فإنّه كان محرّما على نوح وإبراهيم هاجرا حتى انتهى إلينا، فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم: كُلُّ الطَّعامِ المحلل لكم اليوم كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ.
إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ وهو يعقوب عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ.
واختلف المفسّرون في ذلك الطعام، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وأبو مجلز: هي العروق وكان [سبب] ذلك أنّ يعقوب (عليه السلام) اشتكى عرق النساء، وكان أصل وجعه ذلك، ما روى جويبر ومقاتل عن الضحاك أنّ يعقوب بن إسحاق كان قد نذر إن وهب الله له اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم، فتلقّاه ملك من الملائكة فقال له: يا يعقوب إنّك رجل قوي، هل لك في الصراع؟ فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه، ثم غمزه الملك غمزة فعرض له عرق النساء من ذلك، ثم قال: أما أنّي لو شئت أن أصرعك لفعلت، ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنّك قد كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولدك، وجعل الله لك بهذه الغمزة مخرجا، فلمّا قدمها يعقوب أراد ذبح ابنه ونسي قول الملك، فأتاه الملك فقال: أنا غمزتك هذه الغمزة للمخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ولدك.
__________
(1) أسباب نزول الآيات: 75.(3/112)
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: أقبل يعقوب (عليه السلام) من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيص وكان رجلا بطّيشا قويا، فلقيه ملك فظنّ [يعقوب] أنّه لصّ فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب ثم صعد إلى السماء ويعقوب ينظر إليه، فهاج به عرق النساء ولقي من ذلك بلاء شديدا وكان لا ينام بالليل من الوجع [ويبيت] وله زقاء أي صياح، فحلف يعقوب (عليه السلام) لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقا ولا طعاما فيه عرق، فحرّمها على نفسه فجعل بنوه يبتغون العروق يخرجونها من اللحم «1» ، وقال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبي: كان ذلك لحمان الإبل وألبانها.
وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس أن عصابة حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أشهدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أنّ يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه عليه، فنذر لله لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحبّ الطعام والشراب إلى نفسه، وكان أحبّ الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها» [82] «2» فقالوا: اللهم نعم.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما أصاب يعقوب عرق النساء ووصف له الأطباء أن يجتنب لحوم الإبل، فحرّم يعقوب على نفسه لحوم الإبل، فقالت اليهود: إنّا حرّمنا على أنفسنا لحوم الإبل لأنّ يعقوب حرّمها وأنزل الله تحريمها في التوراة فأنزل الله هذه الآية.
وقال الحسن: حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ لحوم الجزور تعبدا لله عز وجل فسأل ربّه عز وجل أن يجيز له ذلك، فحرّمه الله على ولده، وقال عكرمة: حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ زائدة الكبد والكليتين والشحم إلّا ما على الظهور، وروى ليث عن مجاهد قال: حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ لحوم الأنعام ثم اختلفوا في هذا الطعام المحرّم على إسرائيل بعد نزول التوراة، وقال السدي:
إنّ الله لما أنزل التوراة حرّم عليهم ما كانوا يحرّمونها قبل نزولها اقتداء بأبيهم يعقوب (عليه السلام) ، وقال عطية: إنّما كان ذلك حراما عليهم لتحريم إسرائيل ذلك عليهم وذلك أنّ إسرائيل قال حين أصابه عرق النساء: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد، ولم يكن ذلك محرّما عليهم في التوراة.
وقال الكلبي: لم يحرّمه الله عليهم في التوراة وإنّما حرّم عليهم بعد التوراة لظلمهم وكفرهم، وكان بنو إسرائيل كلما أصابوا ذنبا عظيما حرّم الله عليهم طعاما طيبا، أو صبّ عليهم
__________
(1) المجموع للنووي: 18/ 72. [.....]
(2) مسند أحمد: 1/ 273 بتفاوت يسير.(3/113)
رجزا وهو الموت، وذلك قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1» ، وقوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ إلى قوله وَإِنَّا لَصادِقُونَ «2» .
وقال الضحاك: لم يكن شيء من ذلك علينا حراما، ولا حرّم الله عليهم في التوراة وإنّما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتّباعا لأبيهم، وأضافوا تحريمه إلى الله فكذّبهم الله تعالى فقال:
قُلْ لهم يا محمد فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها حتى يتبين أنّه كما يقول لا كما قلتم، فلم يأتوا، فقال الله فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
«3» .
وروى أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عرق النساء يأخذ أليّة كبش عربي لا صغير ولا كبير فيقطع صغارا فيخرج أهالته فيخرج على ثلاث قسم، ويأكل كل يوم على ريق النفس «4» ، قال أنس: فوصفته لأكثر من مائة فشفاهم الله «5» .
وروى شعبة أنّه رأى شيخا في زمن الحجاج بن يوسف يقول لعرق النساء: أقسم عليك بالله الأعلى لئن لم تنته لأكوينّك بنار أو لألحقنك بموسى، قال شعبة: فإنّه يقول ذلك ويمسح على ذلك الموضع فيبرأ بإذن الله.
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ الآية.
قال مجاهد: تفاخر المسلمون واليهود، فقال اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنّها مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ وقرأ ابن السميقع: وَضَعَ بفتح الواو والضاد يعني وضعه الله لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وليس ذلك في بيت المقدس وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وليس ذلك في بيت المقدس وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وليس ذلك في بيت المقدس.
واختلف العلماء في تأويل قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ فقال بعضهم: هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند ما خلق الله السماء والأرض فخلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الأرض فدحيت الأرض من تحتها، هذا قول عبد الله بن عمرو ومجاهد وقتادة والسدي.
__________
(1) سورة النساء: 160.
(2) سورة الأنعام: 146.
(3) سورة آل عمران: 94.
(4) مسند أحمد: 3/ 219 بتفاوت يسير وموجود بتمامه في تفسير القرطبي: 4/ 136.
(5) المستدرك على الصحيحين: 2/ 292.(3/114)
وقال بعضهم: هو أوّل بيت وضع: بني في الأرض،
يروى أنّ علي بن الحسين سئل عن بدء الطوفان، فقال: إنّ الله تعالى وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور الذي ذكره الله، وقال للملائكة: طوفوا به ودعوا العرش، فطافت الملائكة به وتركوا العرش، وكان أهون عليهم، ثم أمر الله الملائكة الذين يسكنون في الأرض أن يبنوا له في الأرض بيتا على مثاله وقدره، فبنوا، واسمه الضراح، وأمر من في الأرض من خلقه أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
وقيل: هو أول بيت بناه آدم في الأرض، قاله ابن عباس.
وقال الضحاك: إنّ أول بيت وضع فيه البركة وأحسن من الفردوس الأعلى.
وروى سماك عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي (رضي الله عنه) فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت كان في الأرض؟ قال: لا، فأين كان قوم نوح وعاد وثمود، ولكنه أول بيت مبارك وهدى وُضِعَ لِلنَّاسِ.
وقيل: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ يحج إليه لله، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا، وقيل:
هو أول بيت جعل قبلة للناس.
وقال الحسن والكلبي والفراء: معناه: إن أول مسجد ومتعبد وضع للناس يعبد الله فيه، يدل عليه قوله: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً «1» يعني مساجدهم وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً، وقوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ «2» يعني المساجد.
إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه سئل عن أول مسجد وُضِعَ لِلنَّاسِ، قال: «المسجد الحرام ثم بيت المقدس» [83] «3» ، وسئل: كم بينهما قال: أربعون عاما حيث ما أدركتك الصلاة فصلّ فثم سجد للذي ببكة.
قال الضحاك والمدرج: هي مكة، والعرب تعاقب بين الباء والميم، فتقول: سبد رأسه وسمد، واغبطت عليه الحمى واغمطت، وضربة لازم ولازب.
وقال ابن شهاب وضمرة بن ربيعة: بكة: المسجد والبيت، ومكة: الحرم كله.
وقال الآخرون: مكة اسم البلد كله، وبكة موضع البيت والمطاف، وسمّيت بكة لأن الناس يتباكون فيها: أي يزدحمون، يبكي بعضهم بعضا، ويصلي بعضهم بين يدي بعض، ويمر بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلّا بمكة.
__________
(1) سورة يونس: 87.
(2) سورة النور: 36.
(3) مسند أحمد: 5/ 167.(3/115)
قال الراجز:
إذا الشريب أخذته أكه ... فخلّه حتى يبك بكه «1»
قال عطاء: مرّت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي وهي تطوف بالبيت فدفعها، فقال أبو جعفر الباقر: إنّها بكة يبك بعضهم بعضا.
وقال عبد الرحمن بن الزبير: سميت بكة لأنّها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها، فلم يقصدها جبار يطلبها إلّا وقصمه الله، وأما مكة فسميت بذلك لقلة مائها من قول العرب: مكت الفصيل ضرع أمّه وامتكّه إذا امتص كل ما فيه من اللبن، قال الشاعر:
مكّت فلم تبق في أجوافها دررا «2»
عن الحسين عن ابن عباس قال: ما أعلم اليوم على وجه الأرض بلدة ترفع فيها الحسنات بكل واحدة مائة ألف ما يرفع بمكة، وما أعلم بلدة على وجه الأرض يكتب لمن صلّى فيها ركعة واحدة بمائة ألف ركعة ما يكتب بمكة، وما أعلم بلدة على وجه الأرض [يكتب لمن تصدّق فيها بدرهم] واحد يكتب له مائة ألف درهم ما يكتب بمكة، وما أعلم بلدة على وجه الأرض [يكتب] لمن فيها شراب الأحبار ومصلى الأخيار إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ما مس شيئا أحد فيها إلّا كانت تكفير الخطايا إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة إذا دعا فيها آمن له الملائكة فيقولون: آمين آمين ليس إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة [.......] «3»
إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة يكتب لمن نظر إلى الكعبة من غير طواف ولا صلاة عبادة الدهر وصيام الدهر إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ورد إليها جميع النبيين [ما قد] صدر إلى مكة، وما أعلم بلدة يحشر فيها من الأنبياء والأبرار والفقهاء والعباد من الرجال والنساء ما يحشرون من مكة أي يحشرون وهم آمنون يوم القيامة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ينزل فيها كل يوم من روح الجنّة ورائحتها ما ينزل بمكة حرسها الله «4» .
مُبارَكاً: نصب على الحال وَهُدىً لِلْعالَمِينَ: لأنه قبلة المؤمنين فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ:
قرأ ابن عباس: آية بينة.
مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [.......] «5»
__________
(1) الصحاح للجوهري: 4/ 1573.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 138.
(3) كلمات غير مقروءة في المخطوط.
(4) بطوله في فضائل مكة للبصري مع تفاوت: 20.
(5) سقط في أصل المخطوط من الآية 97 إلى الآية 102. [.....](3/116)
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً.
[حدثنا ابن حميد قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثنا بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله المزني عن أبي عبد الرحمن بن عسيلة الضابحى عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثنى عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشّيتم شيئا من ذلك] «1» .
فأخذتم [بحدّه] في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذّبكم وإن شاء غفر لكم، قال: وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، فلمّا انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم، وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ، وكان أول مقرئ بالمدينة، وكان منزله على أسعد بن زرارة، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: انطلق إلى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارنا ليسفّها ضعفاءنا فازجرهما، فإنّ أسعد ابن خالتي، ولولا ذاك لكفيتك، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني الأشهل، وكلاهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حرسه ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في حائط، فلمّا رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيّد قومه قد جاءك والله، فاصدق الله فيه.
قال مصعب: إن يجلس نكلّمه، قال: فوقف عليهما مشتّما، فقال: ما جاء بكما إلينا؟
تسفّهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكرهه، قال: أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلّمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن.
قال: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهّله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، وتطهّر ثوبك ثم تشهد بشهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام واغتسل وطهّر ثوبه، وشهد بشهادة الحق، ثم قام وصلّى ركعتين، ثم قال لهما: إنّ ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلمّا نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم، فلمّا وقف على
__________
(1) سقط في المخطوط وما بين معكوفتين مستدرك عن تاريخ الطبري: 2/ 88.(3/117)
النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلّمت الرجلين، فو الله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما، فقالا: لا نفعل إلّا ما أحببت.
وفي الحديث أنّ بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنّهم عرفوا أنّه ابن خالتك ليحقروك، فقام سعد مغضبا مبادرا للذي ذكره له، فأخذ الحربة منه، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، فلمّا رآهما مطمئنين عرف أنّ أسيدا إنّما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما مشتّما ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره، وقد قال لمصعب: جاءك والله سيد قومه إن تبعك لم يخالفك منهم أحد، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته قد كفاك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلّم في إشراقه وتسهّله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهّر ثوبك وتشهد بشهادة الحق، ثم تصلّي ركعتين، فقام فاغتسل فطهّر ثوبه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلمّا رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلمّا وقف عليه قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلّا مسلما ومسلمة ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسيد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها رجال ونساء من المسلمين إلّا ما كان من بني أمية بن زيد وحطمة ووائل وواقف [وتلك أوس الله وهم من أوس بن حارثة وذلك أنه] «1» كان فيهم أبو قيس الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق قالوا: إنّ مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية.
قال كعب بن مالك- وكان شهد ذلك-: فلمّا فرغا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه، فكنّا نكتم عمّن معنا من المشركين من قومنا أمرنا، وكلّمناه وقلنا له: يا جابر إنّك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنّك ترغب بك عمّا أنت فيه أن نكون حطبا للنار غدا، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم فأخبرناه
__________
(1) زيادة عن تاريخ الطبري: 2/ 90.(3/118)
بميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشهد معنا العقبة وكان تقيا، فبتنا تلك الليلة في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنتسلّل مستخفين تسلل القطا، حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب أم عمارة احدى نساء بني النجّار، وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة وهي أمّ منيع، واجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى جاء ومعه عمّه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلّا أنّه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثّق له فلمّا جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج. وكانت العرب إنما يسمّون هذا الحي من الأنصار: الخزرج خزرجها وأوسها. إنّ محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلّا الانقطاع لكم واللحوق بكم.
فإن كنتم ترون أنكم وافون له ما دعوتموه إليه و [مانعوه] «1» ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنّكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن دعوه فإنّه في عز ومنعة.
قال: فقلنا: سمعا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخذ لنفسك ولربك ما شئت.
قال: فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام وقال: «أبايعكم على أن تمنعوني عمّا تمنعون منه نساءكم» .
قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة [وإنّا] «2» ورثناها كابرا عن كابر.
قال: فاعترض القول. والبراء يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الناس حبالا. يعني اليهود. وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك [الله] أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم وأنتم مني وأنا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم بما فيهم، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم عليه السلام» [84] «3» ، فأخرجوا اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس» .
قال عاصم بن عمر بن قتادة: إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال العباس بن
__________
(1) في المخطوط: مانعه.
(2) في المخطوط: نسانا.
(3) الطبقات الكبرى: 1/ 223.(3/119)
عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ إنّكم تبايعونه على حرب الأسود والأحمر، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة؟ وأشرافكم قتل أسلمتموه، فمن الآن فهو والله خزي في الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون بالعهد له فيما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: «الجنة» . قالوا: ابسط يدك. فبسط يده فبايعوه، فأول من ضرب على يده البراء بن معرور، ثم تتابع القوم. قال: فلما بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب «1» هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا والله زنا العقبة اسمع أي عدو الله، أما والله لأفرغن لك» . ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إلى رحالكم» . فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» .
قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا [ف] غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا وقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، فإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه. وصدقوا لم يعلموا. وبعضنا ينظر إلى بعض، فقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان قال: فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ. وأنت سيد من ساداتنا. مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟
قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه، ثم رمى بهما إليّ وقال: والله لتنتعلنّهما، فقال أبو جابر: والله أخفظت الفتى فاردد إليه نعليه. قال: قلت: لا أردهما، قال: والله صلح، والله لئن صدق لأسلبنه.
قال: ثم انصرف أبو جابر إلى المدينة، وقد شدّدوا العقد، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «إنّ الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها» [85] «2» .
فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم الأنصار، فكان ممن هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ثم عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة، ثم عبد الله بن
__________
(1) الجباجب هنا المنازل وفي الصحاح: الجبجبة جمع جباجب: زبيل من جلود ينقل فيه التراب، وتسمّى «القفّة» راجع لسان العرب: 8/ 291.
(2) بطوله في تاريخ الطبري: 2/ 88 إلى 94، ومسند أحمد: 3/ 462.(3/120)
جحش. ثم تتابع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إرسالا إلى المدينة، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينتظر أن يؤذن له في الهجرة إلى أن أذن، فقدم المدينة فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام، وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، ورفع عنهم العداوة القديمة، وألّف بينهم، وذلك قوله وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يا معشر الأنصار إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً قبل الإسلام فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالإسلام فَأَصْبَحْتُمْ: فصرتم، نظيره قوله في المائدة: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» وقوله:
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ «2» وفي حم السجدة فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ «3» وفي الكهف:
أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً «4» .
بِنِعْمَتِهِ: بدينة الإسلام إِخْواناً في الدين والولاية، نظيره قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «5» .
وعن أبي سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى هاهنا. وأشار بيده إلى صدره. حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» [86] «6» .
أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» ، وشبك بين أصابعه «7» .
الشعبي عن النعمان بن بشير أنه قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: المؤمنون كرجل واحد.
قال: «المؤمنون كرجل واحد لجسد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائره بالحمى والسهر» [87] «8» .
وَكُنْتُمْ يا معشر الأوس والخزرج عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ. قال الراجز:
نحن حفرنا للحجيج سجله ... نابتة فوق شفاها بقله
ومعنى الآية: كنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلّا أن تموتوا على كفركم، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالإيمان. قال: وبلغنا أنّ أعرابيا سمع ابن عباس وهو يقرأ هذه
__________
(1) المائدة: 30.
(2) المائدة: 31.
(3) فصلت: 23.
(4) الكهف: 41.
(5) سورة الحجرات: 10.
(6) مسند أحمد: 2/ 288. 67. 277.
(7) صحيح البخاري: 1/ 123. [.....]
(8) مسند أحمد: 4/ 277.(3/121)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
الآية فقال: والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها. فقال ابن عباس: خذوه من غير فقيه. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 115]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ أي ولتكونوا أمة من صلة، كقوله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» ، ولم يرد اجتناب رجس الأوثان وإنما فاجتنبوا «2» الأوثان وإنها رجس. واللام في قوله وَلْتَكُنْ لام الأمر. يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ: الإسلام وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعنا ابن الزبير يقرأ: (ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون على ما أصابهم) . وروي مثله عن عثمان [........] «3» .
فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
روى حسان بن سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه» [88] «4» .
__________
(1) سورة: الحج: 30.
(2) في المخطوط بعدها: من.
(3) بياض في مصوّرة المخطوط.
(4) الكامل لابن عدي: 6/ 84.(3/122)
وعن عبد الله بن عمر عن درة بنت أبي لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: «آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله تعالى، وأوصلهم لأرحامه» [89] .
عن ابن عباس قال: قلنا: يا رسول الله، ما نعمل نأتمر بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف شيء إلّا ائتمرنا به، وننتهي عن المنكر حتى لا يبقى من المنكر شيء إلّا انتهينا عنه، ولم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر، فقال: «مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله» [90] «1» .
الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل الفاسق في القوم كمثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل إنسان منها نصيب فأخذ رجل منهم فأسا فجعل ينقر في موضعه، وقال له أصحابه: أي شيء تصنع، تريد أن تغرق وتغرقنا؟ قال: هو مكاني، فإن أخذوا على يده نجوا ونجا وإن تركوه غرق وغرقوا» [91] «2» .
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشنآن الفاسقين فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، ومن شنأ المنافقين وغضب لله عز وجل غضب الله تعالى له» [92] .
وقال أبو الدرداء: لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجلّ كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم، ويستنصرون فلا ينصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم.
وقال حذيفة اليماني: يأتي على الناس زمان لئن يكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
وقال الثوري: إذا كان الرجل محبّبا في جيرانه محمودا عند القوم فاعلم أنه مداهن «3» .
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا. الآية. قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأمّة.
عن عبد الله بن شدّاد قال: وقف أبو أمامة وأنا معه على رؤوس الحرورية بالشام عند باب حمص أو دمشق فقال لهم كلاب النار، كلاب النار. مرتين أو ثلاثة. شرّ قتلى تظل السماء وخير قتلى قتلاهم. [قيل] : أشيء من قبل رأي رأيته أو شيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: «إن هو من جل رأي رأيته، إني إذن لجريء إن لم أسمعه من رسول
__________
(1) مجمع الزوائد: 7/ 277، والمعجم الصغير: 2/ 78 وفيهما: وإن لم تجتنبوه كله.
(2) المعجم الأوسط: 3/ 149 بتفاوت.
(3) سير أعلام النبلاء: 7/ 278.(3/123)
الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا مرة أو مرتين. حتى عدّ سبع مرات. ما حدثت به. فقال رجل فإني رأيتك دمعت عيناك. قال: هي رحمة رحمتهم إنهم كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم، ثم قرأ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا إلى قوله بَعْدَ إِيمانِكُمْ ثم قال: هم الحرورية «1» .
وروى قبيصة عن جابر أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لما نزل بباب من أبواب دمشق يقال له الجابية، حمد الله فأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كمقامي فيكم ثم قال: «من سرّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الفذ «2» وهو من الاثنين أبعد» [93] «3» .
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، ... يَوْمَ نصب على الظرف، أي في يوم، وانتصاب الظرف على التشبيه بالمفعول وقرأ يحيى بن وثّاب (تِبيض وتِسود) . بكسر التاءين. على لغة تميم.
وقرأ الزهري: (تبياض وتسواد) . فأما الذين [اسوادت] «4» .
و [المعنى] «5» تبيض وجوه المؤمنين، وتسود وجوه الكافرين. وقيل: يوم تبيض وجوه المخلصين، وتسود وجوه المنافقين.
وقال عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه قريظة والنضير. سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ قال: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم مما كانوا يعبدونه فيسعى كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، وهو قوله تعالى: نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى «6» ، فإذا انتهوا إليه حزنوا فيسود وجوههم من الحزن. ويبقى أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئا مما رفع لهم، فيأتهم الله عز وجل فيسجد له من كان سجد في دار الدنيا مطيعا مؤمنا، ويبقى أهل الكتاب والمنافقون كأنهم لا يستطيعون السجود ثم يؤذن لهم فيرفعون رؤوسهم ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضا، والمنافقون وأهل الكتاب قيام كأن في ظهورهم السفافيد فإذا نظروا إلى وجوه المؤمنين وبياضها حزنوا حزنا شديدا واسودت وجوههم فيقولون: ربنا سوّدت وجوه من يعبد غيرك فما لنا مسودة وجوهنا ف وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ فيقول الله للملائكة: انظروا كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 168، ومسند الشاميين: 2/ 248 بتفاوت فيهما، وتاريخ دمشق: 12/ 367.
(2) الفذّ: الفرد. كتاب العين: 8/ 177. فذ.
(3) المصنف لعبد الرزاق: 11/ 341.
(4) في المخطوط: اسودن.
(5) في المخطوط: معنى.
(6) سورة: النساء: 115. [.....](3/124)
وقال أهل المعاني: ابيضاض الوجوه: إشراقها واستبشارها وسرورها بعملها وثواب الله عز وجل، واسودادها حزنها وكآبتها وكسوفها بعملها وبعذاب الله تعالى يدل عليه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ «1» . الآية. وقوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ «2» ، وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ «3» ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ «4» .
ثم بين حالهم ومآلهم فقال فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ، فيه اختصار يعني:
فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ واختلفوا فيه فروى الربيع عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب أنهم كل من كفر بعد إيمانه بالله يوم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم (عليه السلام) وقال لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «5» ، فيعرفهم الله عز وجل يوم القيامة بكفرهم فيقول: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ يوم الميثاق.
قال الحسن: هم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم.
وقال يونس بن أبي مسلم: سألت عكرمة عن هذه الآية فقال: لو فسرتها لم أخرج من تفسيرها ثلاثة أيام، ولكني سأجمل لك: هؤلاء قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم، مصدقين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث، ولما بعث كفروا به، فذلك قوله أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ.
وقال الآخرون: هم من أهل ملتنا.
قال الحارث الأعور: سمعت عليا (رضي الله عنه) على المنبر يقول: «إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به الجنة، وإنّ الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به النار» [94] . ثمّ قرأ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ الآية.
ثم نادى الذين كفروا بعد الإيمان [أَكَفَرْتُمْ] ، يدل عليه
حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يأتي على أمتي زمان يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا يبيع دينه بعرض يسير من الدنيا» [95] «6» .
وقال أبو أمامة الباهلي: هم الخوارج. وقال قتادة: هم أهل البدع كلهم.
ودليل هذه التأويلات قوله: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «7»
__________
(1) يونس: 26.
(2) يونس: 27.
(3) القيامة: 22.
(4) القيامة: 24- 22.
(5) الأعراف: 172.
(6) المصنّف: 8/ 593، مسند ابن راهويه: 1/ 401.
(7) الزمر: 60.(3/125)
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليردنّ الحوض من صحبتي أقوام حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولن:
أصحابي، أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» [96] «1» .
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ هؤلاء أهل طاعته والوفاء بعهده، فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ: جنّة الله هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ فيعاقبهم بلا جرم.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ.
الآية. قال عكرمة ومقاتل: نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ وسالم مولى أبي حذيفة، وذلك أن ابن الصيف ووهب بن يهود اليهوديين قالا لهم: إن ديننا خير مما تدعوننا إليه ونحن خير وأفضل منكم. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ هم الذين هاجروا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة. وروى جويبر عن الضحاك قال: هم أصحاب محمد خاصة الرواة الدعاة الذين أمر الله عز وجل بطاعتهم. يدل عليه ما روى السدي أن عمر الخطاب قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.
وعن عمر بن الحصين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى لمن رآني ولمن رأى من رآني ولمن رأى من رأى من رأى «2» من رآني» [97] «3» .
الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» [98] «4» .
وقال آخرون: هم جمع المؤمنين من هذه الأمة وقوله: كُنْتُمْ يعني أنتم كقوله: مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا «5» أي من هو في المهد. وإدخال (كان) واسقاطه في مثل هذا المعنى واحد، كقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا «6» وقال في موضع آخر: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ «7» .
وقال محمد بن جرير «8» : هذا بمعنى التمام، وتأويله: خلقتم ووجدتم خير أمة.
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 381 و 5/ 50.
(2) كذا في المخطوط مكرّرة.
(3) المعجم الصغير: 2/ 34، ومعرفة علوم الحديث للحاكم: 288.
(4) مسند أحمد: 3/ 11، وسنن الترمذي: 5/ 357.
(5) مريم: 29.
(6) الأعراف: 86.
(7) الأنفال: 26. [.....]
(8) جامع البيان للطبري: 4/ 62.(3/126)
وقال: معنا كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ عند الله في اللوح المحفوظ، أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال قوم:
للناس من صلة قوله: خَيْرَ أُمَّةٍ: يعني أنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة: معناه كنتم خير الناس للناس يجيئون بهم في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام. قتادة هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر نبي قبله بالقتال فيسبون من سبي الروم والترك والعجم فيدخلونهم في دينهم، فهم خير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
مقاتل بن حيان: ليس خلق من أهل الأديان ولا يأمرون من سواهم بالخير وهذه الآية يأمرون كل أهل دين وأنفسهم لا يظلم بعضهم بعضا، بل يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر فأمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم خير أمم الناس.
وقال آخرون: قوله: لِلنَّاسِ من صلة قوله: أُخْرِجَتْ ومعناه ما أخرج الله للناس أمّة خيرا من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فهم خير أمة أقامت وأخرجت للناس، وعلى هذا تتابعت الأخبار.
روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنّه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: «إنكم تتمّون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل» [99] «1» .
وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، منها ثمانون من هذه الأمة» [100] «2» .
نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أمة إلّا وبعضها في النار، وبعضها في الجنّة، وأمتي كلّها في الجنة» [101] «3» .
ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره» [102] «4» .
وعن أنس قال: أتى رسول الله أسقف فذكر أنه رأى في منامه الأمم كانوا يمنعون على الصراط [.......] «5» حتى أتت أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم غرّا محجلين قال: فقلت: من هؤلاء الأنبياء؟ قالوا: لا، قلت: مرسلون؟ قالوا: لا، فقلت: ملائكة؟ قالوا: لا، فقلت: من هؤلاء؟
قالوا: أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم غرّا محجلين عليهم أثر الطهور، فلما أصبح الأسقف أسلم.
__________
(1) مسند أحمد: 4/ 447 وفيه: توفون، وتفسير الطبري: 4/ 61.
(2) المعجم الأوسط: 1/ 172.
(3) تاريخ بغداد: 9/ 384.
(4) المعجم الأوسط: 4/ 231.
(5) كلمة غير مقروءة.(3/127)
عن سعيد بن المسيب، عن عمر، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» [103] «1» .
وروى أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أمتي أمة مرحومة، إذا كان يوم القيامة أعطى الله كل رجل من هذه الأمة رجلا من الكفّار فيقول: هذا فداؤك من النار» [104] «2» .
وعن أنس قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا بصوت يجيء من شعب، قال: «يا أنس، انطلق فانظر ما هذا الصوت» ، قال: فانطلقت فإذا برجل يصلي إلى شجرة فيقول: «اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، المغفور لها، المستجاب لها، المتاب عليها» . فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأعلمته ذلك فقال: «انطلق فقل له إن رسول الله يقرئك السلام ويقول: من أنت؟» . فأتيته فأعلمته ما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أقرىء منّي رسول الله السلام وقل له: أخوك الخضر يقول [أسألك] «3» أن يجعلني من أمتك المرحومة المغفور لها المستجاب لها المتاب عليها» [105] «4» .
وقيل لعيسى (عليه السلام) : يا روح الله، هل بعد هذه الأمة أمة؟ قال: «علماء حلماء حكماء، أبرار أتقياء، كأنهم من العلم أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلّا الله» «5» .
وبلغنا أن كعب الأحبار قيل له: لم لم تسلم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر، وأسلمت على عهد عمر؟ فقال: لأن أبي دفع إلي كتابا مختوما، وقال: لا تفكّ ختمه. فرأيت في المنام أيام عمر (رضي الله عنه) قائلا قال لي: إن أبي خانك في تلك الصحيفة، ففككتها فإذا فيها نعت أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم: سالوما وعالوما وحاكوما وصافوحا وخاروجا، فسألوه عن تفسيرها، فقال: هو أن شعارهم أن يسلم بعضهم على بعض، وعلماؤهم مثل أنبياء بني إسرائيل، وحكم الله لهم بالجنّة، ويتصافحون فيغفر لهم ويخرجون من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمّهاتهم.
وقال يحيى بن معاذ: هذه الآية مدحة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن ليمدح قوما ثم يعذبهم.
__________
(1) مجمع الزوائد: 1/ 69.
(2) بتفاوت في المعجم الصغير: 1/ 10، والمعجم الأوسط: 1/ 5.
(3) بياض في مصوّرة المخطوط، والظاهر ما أثبتناه.
(4) الإصابة: 2/ 260، والمستدرك على الصحيحين: 2/ 674، ح 4231.
(5) تاريخ دمشق: 47/ 382.(3/128)
ثم ذكر مناقبهم فقال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ إلى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً. الآية. قال مقاتل: إنّ رؤوس اليهود كعبا وعديا والنعمان وأبا رافع وأبا ياسر وكنانة وأبو صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم عبد الله بن سلام وأصحابه: فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله تعالى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً يعني لن يضركم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلّا أذى باللسان يعني وعيدا وطعنا. وقيل: دعاء إلى الضلالة. وقيل: كلمة الكفر إن يسمعوها منهم يتأذّوا بها وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ منهزمين، وهو جزم بجواب الجزاء، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ استأنف «1» لأجل رؤوس الآي لأنها على النون، كقوله وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «2» . تقديرها: ثم هم لا ينصرون.
وقال في موضع آخر: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا «3» إذ لم يكن رأس آية.
قال الشاعر:
ألم تسأل الربع القديم فينطق
أي فهو ينطق.
قال الأخفش: قوله لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً استثناء خارج من أول الكلام، كقول العرب:
ما اشتكى شيئا إلّا خيرا، قال الله تعالى لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً «4» ولأن هذا الأذى لا يضرهم. ومعناه لكن آذى.
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا: حيثما وجدوا ولقوا، يعني: حيث ما لقوا غلبوا واستضعفوا وقتلوا فلا يؤمنون إِلَّا بِحَبْلٍ: عهد من الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ: محمد والمؤمنين يردون إليهم الخراج فيؤمنونهم. وفي الكلام اختصار، يعني: إلّا أن يعتصموا بحبل، كقول الشاعر:
رأتني بحبليها فصدّت مخافة ... وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
أي أقبلت بحبليها.
وقال آخر:
حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خامل أدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدا أني بقيد
__________
(1) أي جعلت ثُمَّ استئنافية لا عاطفة، ولو جعلها عاطفة لجزم الفعل بعدها.
(2) المرسلات: 36.
(3) فاطر: 36. [.....]
(4) النبأ: 25.(3/129)
يعني: رآني مقيد [بقيد] «1» .
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ إلى لَيْسُوا سَواءً. الآية. قال ابن عباس ومقاتل: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود قالت رؤوس اليهود: ما آمن بمحمد إلّا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وقالوا لهم: لقد خسرتم حيث استبدلتم بدينكم دينا غيره «2» ، فأنزل الله تعالى لَيْسُوا سَواءً وسواء يقتضي شيئين اثنين فصاعدا، واختلفوا في وجه هذه الآية فقال قوم: في الكلام إضمار تقديره:
ليسوا سواء «3» . مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ وأخرى غير قائمة فتزلّ الأخرى لاكتفائه بذكر أحد الفريقين كقول أبي ذؤيب:
عصيت إليها القلب إني لأمرها ... مطيع فما أدري أرشد طلابها
أراد: أرشد أم غيّ، فحذفه لدلالة الكلام عليه.
وهذا قول مجموع مقدم كقولهم: (أكلوني البراغيث) و (ذهبوا أصحابك) . وقال: تمام القول عند قوله: لَيْسُوا سَواءً وهو وقف لأن ذكر الفريقين من أهل الكتاب قد جرى في قولهم مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ ثم قال لَيْسُوا سَواءً يعني المؤمنين والفاسقين، ثم وصف الفاسقين فقال: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً، ثم وصف المؤمنين فقال: أُمَّةٌ قائِمَةٌ. الآية. فهو مردود على أول الكلام، وهو مختار محمد بن جرير «4» والزجاج، قال: وإن شئت جعلت قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ابتداء لكلام آخر لأنّ ذكر الفريقين قد جرى، ثمّ قال: ليس هذان الفريقان سواء وهم، ثمّ ابتدأ فقال: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.
قال ابن مسعود: معناها لا يستوي اليهود وأمة محمد القائمة بأمر الله تعالى يعني الثابتة على الحقّ المستقيم. ابن عباس: أُمَّةٌ قائِمَةٌ مهتدية قائمة على أمر الله لن تنزع عنه ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيّعوه. مجاهد: عادلة، السدي: مطيعة قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده. وقيل: قائمة في الصلاة. قال الأخفس أمة قائمة أي ذو أمّة قائمة، والأمّة: الطريقة، من قولهم: أممت الشيء أي قصدته. قال النابغة:
وهل يأتمن «5» ذو أمّة وهو طائع.
أي ذو طريقة.
__________
(1) في المخطوط: لقيد.
(2) أحكام القرآن للجصاص: 2/ 45.
(3) كذا في المخطوط، وهناك علامة سقط على كلمة سواء، لكن لم يشر لهذا السقط في هامش مصوّرة المخطوط.
(4) تفسير الطبري: 4/ 71.
(5) كذا في المخطوط، والظاهر أنّه يأتمر.(3/130)
ومعنى الآية ذوا «1» طريقة مستقيمة.
يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ يقرءون كتاب الله. قال مجاهد: يتبعون، يقال: تلاه، أي اتّبعه. قال الشاعر:
قد جعلت دلوي تسيلينني ... ولا أريد تبع القرين «2»
إني لم أردهما [ ... ] «3» .
أي تستتبعني.
آناءَ اللَّيْلِ، أي ساعاته، وإحداها إني مثل نحي وأنحاء وإنى مثل معى.
قال الشاعر:
حلو ومر كعطف القدح شيمته ... في كل إني قضاء الليل ينتعل «4»
أي تسليه آناء الليل بأمر مضى فيه ولم يتأخر.
قال الراجز في اللغة الأخرى:
لله درّ جعفر أي فتى ... مشمّر عن ساقه كلّ إنى
وقال السدي: آناءَ اللَّيْلِ جوفه.
الأوزاعي عن حسان عطية قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها، ولولا أن يشق على أمّتي لفرضتهما عليهم» [106] «5» .
وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي يصلون لأنّ التلاوة لا تكون في الركوع والسجود، نظيره قوله:
وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي يصلّون وفي القرآن: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ «6» أي صلوا، وقوله: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا «7» . واختلفوا في نزول الآية ومعناها فقال بعضهم: هي قيام الليل عن مجمع بن يحيى الأنصاري عن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب فقال: إنا نجد كلاما من كلام [الرب] «8» أيحسب راعي إبل وغنم، إذا جنه الليل انخذل بكن وهو قائم وساجد آناء الليل.
__________
(1) كذا في المخطوط.
(2) الصحاح: 6/ 2273.
(3) كلمتان غير مقروءتين.
(4) لسان العرب: 14/ 50. إنى.
(5) تفسير مجمع البيان: 2/ 368.
(6) الفرقان: 60.
(7) النجم: 62.
(8) في المخطوط: العرب. [.....](3/131)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
ابن مسعود: هو في صلاة العتمة، يصلونها ومن حولهم من أهل الكتاب لا يصلونها.
عاصم عن زرين عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة، قال: «أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله عز وجل ذه الساعة غيركم» [107] «1»
، فأنزل الله هذه الآية: لَيْسُوا سَواءً حتى بلغ قوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
وروى الثوري عن منصور قال: بلغنا أنها نزلت في قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء.
وقال عطاء في قوله: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ. الآية. تزيد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى (عليه السلام) وصدقوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وكان من الأنصار منهم عدة قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم، منهم أسعد ابن زرارة والبراء بن معرور ومحمّد بن مسلمة وأبو قيس هرمة «2» بن أنس، وكانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقرّون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله عز وجل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فصدقوه ونصروه.
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، قرأ الأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وحفص وخلف: بالياء فيهما، اخبار عن الأمة القائمة. وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيدة. وقرأ الآخرون بالتاء فيهما على الخطاب كقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، وهي اختيار أبي حاتم. وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعا: الياء والتاء.
ومعنى الآية وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ: فلن يقدروا ثوابه، ولن يجحدوا جزاءه بل يشكر [لهم] «3» ويجازون عليه، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ: المؤمنين.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 129]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
__________
(1) مسند أحمد: 1/ 396، وأسباب النزول للواحدي: 79.
(2) كذا في المخطوط.
(3) في المخطوط: لكم.(3/132)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وإنما خص الأولاد لأنهم أقرب الأنساب إليه وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ، إنما جعلهم من أصحابها لأنهم من أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها كصاحب الرجل الذي لا يفارقه، وقرينه الذي لا يزايله. يدل عليه قوله: هُمْ فِيها خالِدُونَ.
َلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
، قال يمان: يعني نفقات أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد على عداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
مقاتل: يعني نفقة سفلة اليهود على علمائهم ورؤسائهم كعب وأصحابه.
مجاهد: يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا وصدقاتهم. وضرب الله مثلا فقال مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
، قال ابن عباس: يعني السموم الحارة التي تقتل، ومنه خلق الله الجان. ابن كيسان: الصر ريح فيها صوت ونار.
سائر المفسرين: برد شديد.
ابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
: زرع قوم لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بالكفر والمعصية ومنع حق الله عز وجل أَهْلَكَتْهُ
. ومعنى الآية: مثل نفقات الكفار في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها وقت حاجتهم إليها بعد ما كانوا يرجون من عائدة نفعها كمثل زرع أصابه ريح بارد أو نار فأحرقته وأهلكته، فلن ينتفع أصحابه منه بشيء بعد ما كانوا يرجون من عائدها نفعه، قال الله تعالى:
ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
بالكفر والمعصية ومنع حق الله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ. الآية.
عن أبي أمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ قال: «هم الخوارج» [108] «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 179.(3/133)
قال ابن عباس: كان رجل من المسلمين يواصل رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم. مجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادفون المنافقين ويخالطونهم، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ: أولياء وأصفياء من غير أهل ملّتكم. والبطانة: مصدر يوضع موضع الاسم فسمي بها الواحد والاثنان والجميع والمذكر والمؤنث، قال الشاعر:
أولئك خلصائي نعم وبطانتي ... وهم عيبتي من دون كلّ قريب
وإنّما ما قيل لخليل الرجل: بطانة تشبيها لما ولي بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطّلاعه من أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه محل ما ولي جسده من ثيابه. ثم ذكر العلة في النهي عن مباطنتهم وعرفهم ما هم منطوون عليه من الغش والخيانة والبغي والغوائل فقال عز من قائل: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا، أي لا يقصّرون ولا يتركون عهدهم وطاقتهم فيما يورّثكم فوق الشر والفساد. يقال: ما ألوته خيرا أو شرا أي ما قصرت في فعل ذلك. ومنه قول ابن مسعود في عثمان:
ولم تأل عن خير لأخرى باديه «1» وقال امرؤ القيس:
وما المرء مادامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آل «2»
أي مقصّر في الطلب.
الخبال: الشر والفساد، قال الله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «3» ونصب خَبالًا على المفعول الثاني لأن الإلو تتعدى إلى مفعولين. وإن شئت: المصدر، أي يخبلونكم خبالا. وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال، كما يقال أوجعته ضربا أي بالضرب وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي تمنوا ضرّكم وشركم وإثمكم وهلاككم. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ قراءة العامة بالتاء لتأنيث البغضاء. ومعنى الآية قد ظهرت امارة العداوة مِنْ أَفْواهِهِمْ بالشتيمة والوقيعة في المسلمين. وقيل: باطلاع المشركين على أسرار المؤمنين. وقيل: هو مثل قوله: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ «4» .
__________
(1) كلمات غير مقروءة، والظاهر ما أثبتناه.
(2) لسان العرب: 6/ 284.
(3) التوبة: 47.
(4) محمّد: 30.(3/134)
وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من العداوة والخيانة أَكْبَرُ أعظم، قد بينا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ عن الأزهر بن راشد قال: كان أنس بن مالك يحدّث أصحابه، فإذا حدّثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن يفسّره لهم، فحدثهم ذات يوم وقال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا» [109] «1» .
فأتوا الحسن فأخبروه بذلك، فقال: إنّما «2»
قوله: «لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا»
، فإنه يقول: لا تنقشوا في خواتيمكم محمدا. وأما
قوله: «لا تستضيئوا بنور «3» المشركين»
، فإنّه يقول لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم. وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ الآية.
وقال عياض الأشعري: وفد أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فقال: إن عندنا كاتبا حافظا نصرانيا من حاله كذا وكذا. فقال: ما لك قاتلك الله؟ أما سمعت قول الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ الآية، وقوله لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «4» ؟ هلا اتخذت حنيفيّا! قال: قلت: له دينه ولي ديني، ولي كتابته، لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلّهم الله ولا أدنيهم إذ قصاهم الله «5» .
ها أَنْتُمْ أُولاءِ، ... ها تنبيه، وأَنْتُمْ كناية للمخاطبين من الذكور، أُولاءِ اسم الجمع المشار إليه تُحِبُّونَهُمْ خبر عنهم. ومعنى الآية: أنتم أيها المؤمنون تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من المصاهرة والمحالفة والرضاع والقرابة والجوار، وَلا يُحِبُّونَكُمْ هم لما بينكم من مخالفة الدين. هذا قول أكثر المفسرين. وقال المفضل: معنى يُحِبُّونَهُمْ تريدون لهم الإسلام، وهو خير الأشياء، ولا تبخلون عليهم بدعائهم إلى الجنة، وَلا يُحِبُّونَكُمْ هم لأنهم يريدونكم على الكفر وهو الهلاك. أبو العالية ومقاتل: هم المنافقون يحبهم المؤمنون بما أظهروا من الإيمان ولا يعلمون ما في قلوبهم.
قتادة: في هذه الآية والله إنّ المؤمن ليحب المنافق ويلوي إليه ويرحمه، ولو أنّ المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه «6» .
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ يعني بالكتب كلها ولا يؤمنون هم بكتابكم، ف إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 99.
(2) كذا في المخطوط، والظاهر أنّها: أمّا.
(3) مرّت في أوّل الحديث بلفظ: بنار.
(4) المائدة: 51.
(5) راجع تفسير القرطبي: 4/ 179.
(6) تفسير الطبري: 4/ 87. [.....](3/135)
وكان بعضهم مع بعض عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ يعني أطراف الأصابع، واحدتها أنملة وأنملة. بضم الميم وفتحها. مِنَ الْغَيْظِ والحنق لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم. وهذا من مجاز الأمثال وإن لم يكن ثم عضّ، قال الشاعر:
إذا رأوني أطال الله غيظهم ... عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم «1»
وقال أبو طالب:
وقد صالحوا قوما علينا أشحّة ... يعضّون غيضا خلفنا بالأنامل
قال الله تعالى: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، إن قيل: كيف لا يموتون والله تعالى إذا قال لشيء كن فيكون؟
فالجواب: أن المراد ابقوا بغيضكم إلى الممات فإن مناكم عن الاسعاف محجوبة.
وقال محمد بن جرير: خرج هذا الكلام مخرج الأمر وهو دعاء أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه يدعو عليهم بالهلاك كمدا ممّا بهم من الغيظ، قل يا محمد: اهلكوا بغيظكم «2» : إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في القلوب من خير وشر. روى عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال: ذكر أصحاب الأهواء فقال والذي نفسي بيده لئن تمتلئ داري قردة وخنازير أحب إليّ من أن يجاورني رجل منهم «3» . يعني صاحب هوى، ولقد دخلوا في هذه الآية: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ الآية.
إِنْ تَمْسَسْكُمْ، قرأ السلمي بالياء. الباقون بالتاء. يعني: إن تصبكم أيها المؤمنون حَسَنَةٌ بظفركم على عدوكم وغنيمة تنالونها منهم وتتابع من الناس في الدخول في دينكم وخفض في معاشكم تَسُؤْهُمْ: تحزنهم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ مساءة بإخفاق سريّة لكم، أو إصابة عدوّ فيكم أو اختلاف يكون منكم «4» ، أو حدث ونكبة يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم وَتَتَّقُوا وتخافوا ربّكم لا يَضُرُّكُمْ: لا ينقصكم كَيْدُهُمْ شيئا.
واختلفت القراءة فيه فقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: لا يَضِرُكُمْ. بكسر الضاد [وراء] خفيفة. واختاره أبو حاتم، يقال: ضار يضير ضيرا مثل باع يبيع بيعا، ودليله في القرآن: لا ضَيْرَ «5» . وهو جزم على جواب الجزاء.
__________
(1) لسان العرب: 12/ 59.
(2) جامع البيان للطبري: 4/ 89.
(3) الطبقات الكبرى: 7/ 224.
(4) تفسير الطبري: 4/ 90.
(5) الشعراء: 50.(3/136)
وقرأ الضحاك بضم الضاد وجزم الراء خفيفة من (ضار يضور) ، وذكر الفرّاء عن الكسائي أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ذلك ولا يضورني. وقرأ الباقون: بضم [الضاد، والراء] «1» مشددة، واختاره. وهو من (ضرّ يضرّ ضرا) ، مثل (ردّ يرد ردّا) . وفي رائه وجهان:
أحدهما: أنه أراد الجزم وأصله لا يضرركم فأدغمت الراء في الراء، ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الأخيرة اتباعا لأقرب الحركات إليها وهي الضاد طلبا للمشاكلة كقولهم: مرّ يا هذا.
والوجه الثاني: أن يكون (لا) بمعنى ليس ويضمر الفاء فيه، تقديره: وإن تصبروا وتتّقوا فليس يضركم. قاله الفرّاء وأنشد:
فإن كان لا يرضيك حتى تردني ... إلى قطري لا إخالك راضيا «2»
إن الله بما تعملون قرأ الأعمش والحسن: بالتاء. الباقون بالياء مُحِيطٌ عالم.
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ. الآية. نظم الآية: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ولكن الله تعالى ينصركم عليهم كما نصركم بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، وإن أنتم لم تصبروا على أمري ولم تتقوا نهيي، فإنه نازل بكم ما نزل بكم يوم أحد حيث خالفتم أمر الرسول ولم تصبروا، فاذكروا ذلك اليوم أو غدا بينكم تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ واختلفوا في هذا اليوم الذي عنى الله تعالى بقوله:
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ فقال الحسن: هو يوم بدر. وقال مقاتل: هو الأحزاب. وقال سائر المفسرين: هو أحد، وهو أثبت. يدل عليه قوله في عقبه: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وهذا إنما كان يوم أحد.
قال مجاهد والكلبي والواقدي: غدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منزل عائشة فمشى على رجليه إلى أحد، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال: «تأخر» .
وذلك أن المشركين نزلوا بأحد. على ما ذكر محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما. يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول.
ولم يدعه قط قبلها. واستشاره، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلّا أصاب منّا، ولا دخلها علينا إلّا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، فإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
__________
(1) في المخطوط: الراء والضاد.
(2) التبيان في تفسير القرآن: 2/ 575.(3/137)
فأعجب رسول الله بهذا الرأي.
وقال بعض أصحابه: يا رسول الله أخرج بنا إلى هذه الأكلب لا يرون إنا جبنّا عنهم وضعفنا. فأتى النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة فو الذي بعثك بالحق لأدخلنّ الجنة. فقال: «بما؟» . فقال: بأني أشهد أن لا إله إلّا الله، وأني لا أفر من الزحف، قال: «صدقت» . فقتل يومئذ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد رأيت في منامي بقرا فأوّلتها خيرا، ورأيت في ذباب «1» سيفي ثلما فأوّلتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا المدينة علينا قاتلناهم فيها» [110] «2» .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة [فيقاتل] «3» في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن كان ذا سهم يوم بدر، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد: اخرج بنا إلى أعدائنا.
فلم يزالوا برسول الله من حبهم للقاء القوم حتى دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلبس لامته فلما رأوه لبس السلاح ندموا وقالوا: بئسما صنعنا نشير على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والوحي يأتيه؟ فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما رأيت. فقال صلّى الله عليه وسلّم: « [إنه ليس لنبي] «4» أن يلبس [لامته] «5» أن يضعها حتى يقاتل» [111] «6» .
وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس، فراح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد يوم الجمعة بعد ما صلّى بأصحابه الجمعة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم خرج إليهم فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكان من أمر حرب أحد ما كان، فذلك قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ
، قرأ يحيى بن ثاب: (تبوي) المؤمنين خفيفة غير مهموزة من (أبوى يبوي) مثل (أروى يروي) . وقرأ الباقون: مهموزة مشددة يقال: بوأت تبوئة، وأبويتهم إبواء، إذا أوطنتهم، وتبوّءوا إذا تواطنوا، قال الله تعالى أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً «7» ، وقال وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
__________
(1) في بعض المصادر: ذؤابة سيفي. راجع البداية والنهاية: 4/ 13 الهامش.
(2) تفسير الطبري: 4/ 94. 95.
(3) في مصوّرة المخطوط: فيقال.
(4) من مجمع الزوائد، وفي مصوّرة المخطوط علامة سقط لكن لم يشر إليه في الهامش.
(5) من مجمع الزوائد، وفي المخطوط: لامتها.
(6) مجمع الزوائد: 6/ 107.
(7) يونس: 87. [.....](3/138)
والتشديد أفصح وأشهر، وتصديقه قوله تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ «1» ، وقال لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «2» .
وقرأ ابن مسعود: تبوئ للمؤمنين.
مَقاعِدَ لِلْقِتالِ، أي مواطن وأماكن، قال الله تعالى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «3» ، وقال: أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ «4» . وقرأ أشهب: (مقاعد للقتال) . وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا: تجبنا وتضعفا وتتخلّفا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم بنو أسامة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر، وذلك
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى أحد في ألف رجل، وقيل: تسعمائة وتسعين رجلا، وقال الزجاج: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أحد وقت القتال ثلاثة آلاف، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أحد وقد وعد أصحابه الفتح إن صبروا، فلما بلغوا الشوط انخزل عبد الله بن أبيّ الخزرجي ثلث الناس فرجع في ثلاثمائة، وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال: أنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم. فقال عبد الله بن أبي: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ. وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا، ومضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرهم الله عظيم نعمته بعصمته فقال: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ناصرهما وحافظهما.
وقرأ ابن مسعود: (والله وليهم) لأنّ الطائفتين جمع، كقوله هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «5» . وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وقال جابر بن عبد الله: ما يسرنا أنالهم نهمّ بالذي هممنا، وقد أخبرنا الله أنه ولينا.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ قال الشعبي: كانت بدر بئر رجل يقال له بدر فسميت باسم صاحبها. قال الواقدي: ذكرت قول [الشعبي] «6» لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا: فلأي شيء سميت الصفراء؟ ولأي شيء سميت الجار؟ هذا ليس بشيء، إنما هو اسم الموضع. قال: وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال: سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون هو ماؤنا ومنزلنا، وما ملكه قط أحد غيرنا، وما هو وهؤلاء من بلاد جهينة، إنما هو من بلاد غفارة «7» .
__________
(1) يونس: 93.
(2) العنكبوت: 58.
(3) القمر: 55.
(4) الجن: 9.
(5) الحجّ: 19.
(6) في المخطوط: الشافعي.
(7) تفسير الطبري: 4/ 99.(3/139)
التقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمشركون بها، وكان أول قتال قاتل فيه نبي الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال الضحاك: بدر ماء بمنى على طريق مكة بين مكة والمدينة.
وقد مدحت القول في غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسراياه وجيزا مجملا فإنّه باب يعظم نفعه وبالله التوفيق.
ذكر مغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
جميع ما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه ستّ وعشرون غزوة، فأول غزوة غزاها غزوة ودّان، وهي غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط إلى ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى بطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر الكبرى التي قتل الله فيها صناديد قريش، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر ماء لبني سليم، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم غزوة ذي أمر وهي غزوة غطفان إلى نجد، ثم غزوة نجران: موضع بالحجاز فوق الفرع، ثم غزوة أحد ثم غزوة الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نجد، ثم غزوة بدر الأخيرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة بني قردة، ثم غزوة بني المصطلق من بني خزاعة لقي فيها، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة الفتح: فتح مكة، ثم غزوة حنين لقي فيها، ثم غزوة الطائف حاصر فيها، ثم غزوة تبوك.
قاتل منها في تسع غزوات: غزوة بدر الكبرى، وهو يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وأحد في شوال سنة ثلاث، والخندق، وبني قريظة في شوال سنة أربع، وبني المصطلق، وبني لحيان في شعبان سنة خمس، وخيبر سنة ست، والفتح في رمضان سنة ثمان، وحنين في شوال سنة ثمان. فأوّل غزوة غزاها بنفسه وقاتل فيها بدر وآخرها تبوك.
ذكر سراياه صلّى الله عليه وسلّم
روي عن مقسم قال: كانت السرايا ستّا وثلاثين، وهي غزوة عبيدة بن الحارث إلى حنا من أسفل ثنية المرة وهو ما بالحجارة «1» ، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب إلى ساحل البحر من ناحية الفائض. وبعض الناس يقدم غزوة حمزة على غزوة عبيدة. وغزوة سعد بن أبي وقاص إلى الخرار «2» من أرض الحجاز، ثم غزوة عبد الله بن جحش إلى نخلة، وغزوة زيد بن حارثة القردة ماء من مياه نجد، وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيع لقوا فيها، وغزوة منذر بن عمرو بئر معونة لقوا فيها، وغزوة أبي عبيدة الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق، وغزوة عمر بن
__________
(1) كذا في المخطوط.
(2) الخرار: آبار عن يسار الحجّة قريب من خم. الطبقات الكبرى: 2/ 5.(3/140)
الخطاب تربة من أرض بني عامر، وغزوة علي بن أبي طالب اليمن، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلب ليث الكديد لقوا فيها الملوح، وغزوة علي بن أبي طالب إلى أبي عبد الله بن سعد من أهل فدك، وغزوة ابن أبي العوجاء السلمي أرض بني سليم أصيب بها هو وأصحابه جميعا، وغزوة عكاشة بن محصن العمرة، وغزوة أبي سلمة بن عبد الأسد قطن ماء من مياه بني أسد من ناحية نجد لقوا فيها فقتل فيها مسعود بن عروة، وغزوة محمد بن مسلمة أخي بني حارثة إلى القرطاء موضع من هوازن، وغزوة بشير بن سعد بن كعب بن مرة لفدك، وغزوة بشير بن سعد أيضا إلى حيان بلد من أرض خيبر، وغزوة زيد بن حارثة الجموم من أرض بني سليم، وغزوة زيد أيضا جذام من أرض حسمي لقوا فيها، وغزوة زيد أيضا إلى طرف من ناحية نخل من طريق العراق، وغزوة زيد أيضا وادي القرى لقي بني فزارة، وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين إحداهما التي أصاب فيها بشرا «1» اليهودي، وغزوة عبد الله بن عتيك إلى حنين فأصاب بها أبا رافع بن أبي الحقيق.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث محمد بن مسلمة وأصحابه فيها من أحد وبدر إلى كعب بن الأشرف فقتلوه، وبعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وهو بنخلة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليغزوه فقتله، وغزوة الأمراء: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام فأصيبوا بها، وغزوة كعب بن عمرو الغفاري ذات الطلاح من أرض الشام فأصيب بها هو وأصحابه جميعا، وغزوة عيينة بن حذيفة بن بدر الفزاري العنبر من بني تميم، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلب ليث أرض بني مرة فأصاب بها مرداس بن نهيك وحليفا لهم من جهينة، قتله أسامة بن زيد، وهو الذي
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأسامة فيه: «من لك؟ من لك لا إله إلّا الله؟» [112] .
وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بلي «2» وعذرة وغزوة، [أبي قتادة] «3» وأصحابه إلى بطن إضم قبل الفتح لقوا فيها، وغزوة الخيط إلى سيف البحر وعليهم أبو عبيدة الجراح وغزوة عبد الرحمن بن عوف.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ: جمع ذليل مثل عزيز وأعزة ولبيب وألبّة. وأراد هاهنا قلّة العدد، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ واختلفوا في هذه الآية: فقال قتادة: [ ... ] «4» يوم بدر أمدهم الله بألف، ثم صاروا ثلاثة
__________
(1) كذا في المخطوط، والظاهر أنّه (أسير) .
(2) بلي: قبيلة ينسبون إلى أبي بلي، وهو جدّ عمر بن شاس. الأنساب (السمعاني) : 1/ 396.
(3) كلمة غير مقروءة، وما أثبتناه من المغازي: 2/ 796.
(4) كلمة غير مقروءة، وما أثبتناه من المغازي: 2/ 796.(3/141)
آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف. يدل عليه قوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ «1» ، الآية، وقوله: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا إلى قوله مُسَوِّمِينَ، فصبر المؤمنون يوم بدر، واتّقوا الله فأمدّهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وعدهم، فهذا كله يوم بدر. الحسن: فهؤلاء الخمسة آلاف رد للمؤمنين إلى يوم القيامة. وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلّا يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عددا ومددا.
وقال عمر بن أبي إسحاق: لما كان يوم أحد انجلى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبقي سعد بن مالك يرمي، وفتى شاب ينبل له فلمّا فني النبل أتاه به فنثره فقال: ارم أبا إسحاق، ارم أبا إسحاق. كرتين. فلما انجلت المعركة سئل عن الرجل فلم يعرف «2» .
وقال الشعبي: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمدّ المشركين، فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إلى قوله مُسَوِّمِينَ، فلما بلغ الكرز الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدّهم أمدّهم الله أيضا بخمسة آلاف، وكانوا قد أمدوا بألف.
وقال آخرون: إنما وعد الله تعالى المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته فاتقوا محارمه أن يمدّهم في حروبهم كلها فلم يصبروا ولم يتقوا إلّا في يوم الأحزاب فأمدهم الله تعالى حتى حاصروا قريظة.
قال عبد الله بن أوفى: كنا محاصري بني قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم فلم يفتح علينا فرجعنا، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغسل، فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبرئيل (عليه السلام) فقال: «يا محمد، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها؟» . فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثمّ نادى فينا فقمنا كالّين متعبين لا نعبأ بالسير شيئا حتى أتينا بني قريظة والنضير، فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة، ففتح الله لنا فتحا يسيرا وانقلبنا بنعمة الله وفضل.
وقال قوم: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله عز وجل المدد إن صبروا، فلم يصبروا فلم يمدوا ولا بملك واحد [و] لو أمدّوا لما هزموا. وهو قول عكرمة والضحاك. وكان هذا يوم أحد حين انصرف أبو سفيان وأصحابه وذلك
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يخاف أن يدخل المشركون المدينة، فبعث علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فقال: «اخرج على آثار القوم فانظر ما يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد أجبنوا الخيل وركبوا وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثم لأناجزنهم» .
__________
(1) الأنفال: 9. [.....]
(2) الدر المنثور: 2/ 70.(3/142)
قال علي (رضي الله عنه) : «فخرجت في آثارهم أنظر ما يصنعون، فإذا هم قد أجبنوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أي ذلك كان فأخفه حتى تأتيني، فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم لما بي من الفرح وانصرفوا إلى مكة وانصرفنا إلى المدينة، فأنزل الله تعالى في ذلك أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ» «1» يعني أن انصرفوا إليكم ودخلوا المدينة.
وفي قراءة أبي (ألا يكفيكم أن يمدكم ربكم) ، أي يعطيكم ويعينكم.
قال المفضل: [كل] «2» ما كان على جهة القوة والإعانة، قيل فيه: أمده يمده إمدادا، وكل ما كان على جهة الزيادة قيل: مدّه يمدّه مدّا، ومنه قوله: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ «3» .
وقال بعضهم: المد في الشر، والإمداد في الخير. يدل عليه قوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «4» وقوله وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا «5» .
وقال في الخير أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ «6» وقال: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ. وقال وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «7» .
وقال: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ «8» . وقال: وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ «9» ، وقال: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «10» ، مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ «11» مُنْزَلِينَ. قرأ أبو حيوة: بكسر الزاي، مخفّفا، يعني منزلين النصر. وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وعمر ابن ميمون وابن عامر مشددة مفتوحة الزاي على التكثير. وتصديقه قوله: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ «12» .
وقوله: مُسَوِّمِينَ. وقرأ الآخرون: بفتح الزاي خفيفة. ودليله قوله: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا «13» وقوله: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها «14» . وتفسير الإنزال: جعل الشيء من علو إلى سفل، ثم قال: بَلى وهو تصديق لقول الله تعالى وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
إِنْ تَصْبِرُوا لعدوّكم وَتَتَّقُوا معصية ربكم.
__________
(1) تاريخ الطبري: 2/ 207.
(2) في المخطوط: على.
(3) لقمان: 27.
(4) البقرة: 15.
(5) مريم: 79.
(6) الأنفال: 9.
(7) الإسراء: 6.
(8) المؤمنون: 55.
(9) الطور: 22.
(10) نوح: 12.
(11) الأنفال: 9.
(12) الأنعام: 111.
(13) الفرقان: 21. [.....]
(14) التوبة: 26.(3/143)
وَيَأْتُوكُمْ من المشركين، مِنْ فَوْرِهِمْ هذا «1» قال عكرمة والحسن وقتادة والربيع والسدي وابن زيد: من وجههم هذا، وهو رواية عطية عن ابن عباس. مجاهد والضّحاك وزاذان: من غضبهم هذا، وكانوا قد غضبوا يوم أحد ليوم بدر ممّا لقوا، وأصل الفور: القصد إلى الشيء والأخذ فيه بحدّه، وهو من قولهم: فارت القدر تفور فورا وفورانا إذا غلت وَفارَ التَّنُّورُ «2» ، قال الشاعر:
تفور علينا قدرهم فيديمها ... ويفثأها عنا إذا حميها غلا
بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب: بكسر الواو، واختاره أبو حاتم، وقرأ الباقون: بالفتح، واختاره أبو عبيد، فمن كسر الواو أراد أنّهم سوّموا خيلهم، ومن فتح أراد به أنفسهم، والسّومة: العلامة التي يعلّم بها الفارس نفسه في الحرب، واختلفوا في هذه السّمة الموصوفة بها الملائكة في هذه الآية ما هي،
فقال عمير بن إسحاق: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه يوم بدر: «تسوّموا، فإن الملائكة قد تسوّمت «3» بالصوف الأحمر في قلانسهم ومغافرهم» .
الضحاك وقتادة: [بالعهن] «4» في نواصيها وأذنها. مجاهد:
كانت مجزوزة أذناب خيلهم وأعرافها ونواصيها [معلّمة] ، الربيع: كانوا على خيل بلق،
عليّ وابن عباس رضي الله عنهم: كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم
، هشام بن عروة الكلبي: عمائم صفر مرخاة على أكتافهم.
وقال عبد الله بن الزبير: إن الزبير كانت عليه ملاءة صفراء وعمامة صفراء يوم بدر، فنزلت الملائكة يوم بدر مسوّمين بعمائم صفر «5» .
وروى الزبير بن المنذر عن جدّه أبي أسيد وكان بدريّا قال: لو كان بصري فرّج عنه، ثم ذهبتم معي إلى بدر لأريتكم الشعب التي خرجت منه الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم «6» ، وقال عكرمة: كانت عليهم سيماء القتال، السديّ: سيماء المؤمنين.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ يعني: هذا الوعد والمدد إِلَّا بُشْرى لتستبشروا به. وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ ولتسكن قلوبكم إليه، فلا تجزع من كثرة عدوّكم وقلّة عددكم.
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لأن العزّ والحكم له وهو: الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ نظيرها في
__________
(1) سورة آل عمران: 125.
(2) سورة هود: 40، سورة المؤمنون: 27.
(3) المصنف: 8/ 346، تفسير القرطبي: 4/ 196.
(4) العهن: الصوف المصبوغ ألوانا.
(5) كنز العمال: 10/ 45.
(6) تفسير الطبري: 4/ 109.(3/144)
الأنفال، ثم قال: واستعينوا بالله وتوكلوا عليه لِيَقْطَعَ طَرَفاً. نظم الآية: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ... لِيَقْطَعَ طَرَفاً، أي: ليهلك طائفة مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا نظيره قوله: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا «1» أي: أهلك، وفي الأنفال: وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ «2» ، وفي الحجر: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ «3» ، السديّ: معناه ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقتل من سادتهم وقادتهم يوم بدر سبعين، وأسر منهم سبعين.
أَوْ يَكْبِتَهُمْ بالخيبة فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لم ينالوا شيئا ممّا كانوا يرجون من الظفر بكم.
وقال الكلبي: أَوْ يَكْبِتَهُمْ: أو يهزمهم بأن يصرعهم لوجوههم. المؤرّخ: يخزيهم. النضر بن شميل: يغيظهم، المبرّد: يظفر عليهم، السديّ: يلعنهم، أبو عبيدة: يهلكهم، قالوا: وأهل النظر [يرون] «4» التاء منقلبة عن الدال، لأن الأصل فيه يكبدهم، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ، يقال: قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، ويقول العرب للعدوّ: أسود الكبد، قال الأعشى:
فما أجشمت من إتيان قوم ... هم الأعداء والأكباد سود «5»
كأنّ الأكباد لمّا احترقت بشدّة العداوة اسودّت، والتاء والدال يتعاقبان، كما يقال: هرت الثوب وهرده، إذا خرقه، يدل على صحة هذا التأويل قراءة لاحق بن حميد: أو يكبدهم، بالدّال.
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية،
فقال عبد الله بن مسعود: أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعوا على المدبرين عنه من أصحابه يوم أحد، وكان عثمان منهم، فنهاه الله عزّ وجلّ عن ذلك وتاب عليهم، فأنزل هذه الآية
، وقال عكرمة وقتادة: أدمى رجل من هذيل يقال له عبد الله بن قمية وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان حتفه أن سلّط الله عليه تيسا فنطحه حتى قتله.
وشجّ عتبة بن أبي وقاص رأسه، وكسر رباعيته فدعا عليه، وقال: «اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافرا» قال: وما حال عليه الحول حتى مات كافرا، فأنزل الله هذه الآية «6» .
وقال الكلبي والربيع: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وقد شجّ في وجهه وأصيبت رباعيته، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يلعن المشركين ويدعو عليهم، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه
__________
(1) سورة الأنعام: 45.
(2) سورة الأنفال: 7.
(3) سورة الحجر: 66.
(4) زيادة عن المسير: 2/ 27.
(5) زاد المسير: 2/ 27، وتاج العروس: 8/ 229.
(6) تفسير الطبري: 4/ 117.(3/145)
الآية، لعلمه فيهم أن كثيرا منهم سيؤمنون
، يدلّ عليه ما
روى أبو بكر بن عياش، عن حميد، عن أنس قال: لمّا كان يوم أحد شجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في فوق حاجبه وكسرت رباعيته وجرح في وجهه، فجعل يمسح الدم في وجهه وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربّهم» «1» ، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
، وقال سعيد بن المسيّب. والشعبي. ومحمد بن إسحاق بن يسار: لمّا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشتدّ غضب الله على من دمى وجه نبيّه» «2» . علت عالية من قريش على الجبل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: « [اللهم إنه] لا ينبغي لهم أن يعلونا» ، فأقبل عمر ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم، ونهض رسول الله إلى صخرة ليعلوها وقد كان ظاهر بين درعين فلم يستطع، فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوجب طلحة الجنة» «3» ، فوقفت هند والنسوة معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجدعنّ الآذان والأنوف، حتى أخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشيّا، وبقرت من كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع فلفظتها، ثم علت صخرة مشرفة فصرخت:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان من عتبة لي من صبر ... أبي وعمي وأخي وبكري
شفيت صدري وقضيت نذري ... شفيت وحشي من غليل صدري «4»
قالوا: وقال عبد الله بن الحسن: قال حمزة: اللهم إن لقينا هؤلاء غدا فإنّي أسألك أن يقتلوني ويبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني، فتقول لي يوم القيامة: فيم فعل بك هذا؟ فأقول:
فيك. فلمّا كان يوم أحد قتل فبقر بطنه وجدعت أذنه وأنفه، فقال رجل سمعه: أمّا هذا فقد أعطي في نفسه ما سأل في الدنيا، والله يعطيه ما سأل في الآخرة.
قالوا: فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون ما بأصحابهم من جدع الآذان والأنوف وقطع المذاكير، قالوا: لئن أدالنا الله عليهم لنفعلنّ بهم مثل ما فعلوا، ولنمثلنّ بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قطّ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال عطاء: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أحد أربعين يوما يدعو على أربعة من ملوك كندة:
مسرح، وأحمد، ولحي، وأخيهم العمردة، وعلى معن من هذيل، يقال لهم: لحيان، وعلى بطون من سليم وعلى ذكوان وعصبة والقارة، وكان يقول: «اللهم أشدد وطاءك على مضر
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 179. [.....]
(2) تاريخ الطبري: 2/ 201.
(3) تفسير الطبري: 4/ 182.
(4) عيون الأثر: 1/ 424، والبداية والنهاية: 4/ 42 مع تفاوت في عجز البيت الثاني.(3/146)
واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» «1» ، فأجاب الله دعاه وقحطوا حتى أكلوا أولادهم وأكلوا الكلاب والميتة والعظام المحرقة، فلمّا انقضت الأربعون نزلت هذه الآية.
وعن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم ألعن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أميّة» «2» ، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ «3» وأسلموا فحسن إسلامهم.
الزهري عن سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في صلاة الفجر حين رفع رأسه من الركوع: «ربّنا لك الحمد اللهم العن فلانا وفلانا» ، دعا على ناس من المنافقين فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية «4» .
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في بئر معونة وهم سبعون رجلا من قرّاء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أميرهم المنذر بن عمرو، وبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد، ليعلّموا الناس القرآن والعلم، فقتلهم جميعا.
عامر بن الطفيل: وكان فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق فلما قتل رفع بين السماء والأرض، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وجدا شديدا وحزن عليهم شهرا فنزلت لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
وهذه الآية وإن كانت لفظا للعموم، فالمراد منها الخصوص تقديرها: ليس لك من الأمر بهواك شيء. واللام في قوله: (لَكَ) بمعنى (إليّ) كقوله: إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ «5» وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «6» ونحوهما.
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ ... لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وهو وجه حسن.
وقال بعضهم: (أَوْ) بمعنى (حتى) يعني: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم أو يعذبهم.
ثم قال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلى أَضْعافاً مُضاعَفَةً.
قرأ أبو جعفر وشيبة: مضعّفة.
عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً «7» هو أن الرجل كأن يكون له على الرجل مال فإذا حل الأجل طلبه من
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 521.
(2) المصدر السابق: 2/ 93، والدر المنثور: 2/ 71.
(3) سورة آل عمران: 128.
(4) صحيح البخاري: 5/ 35، وسنن الدارمي: 1/ 374.
(5) سورة آل عمران: 193.
(6) سورة الأعراف: 43.
(7) سورة آل عمران: 130.(3/147)
صاحبه فيقول المطلوب أخّر عنّي فأزيدك على مالك فيفعلان ذلك فوعظهم الله تعالى.
فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ في أمر الربا فلا تأكلوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ثم خوفهم فقال: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وفيه دليل على أن النار مخلوقة ردّا على الجهمية، لأن المعدوم لا يكون معدا وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لكي ترحموا فلا تعذبوا وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الآية.
قال عطاء: إن المسلمين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله عزّ وجلّ منّا وكانوا إذا أذنبوا أصبحت كفارة ذنوبهم مكتوبة في عتبة بابهم: اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا، فسكت عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله تعالى وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سابقوا إلى الأعمال التي توجب المغفرة.
وحذف أهل المدينة والشام الواو منه.
واختلفوا في العلة الجالبة لهذه المغفرة:
فقال ابن عباس: سارعوا إلى الإسلام، أبو العالية وأبو روق: إلى الهجرة،
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إلى أداء الفرائض
، عثمان بن عفان: الإخلاص، أنس بن مالك: هي التكبيرة الأولى، سعيد بن جبير: إلى أداء الطاعة، يمان: إلى الصلاة الخمس، الضحاك: إلى الجهاد عكرمة: إلى التوبة، مقاتل: إلى الأعمال الصالحة، أبو بكر الوراق: إلى اتّباع الأوامر والانتهاء عن الزواجر، سهل بن عبد الله: إلى السنّة، بعضهم: إلى الجمع والجماعات.
وَجَنَّةٍ يعني إلى جنة عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي عرضها كعرض السماوات والأرض كقوله ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «1» أي كبعث نفس واحدة.
قال الشاعر:
حسبت بغام راحلتي عناقا ... وما هي ويب غيرك بالعناق «2»
يريد صوت عناق.
ودليل هذا التأويل قوله في سورة الحديد: كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «3» يعني لو بسطت ووصل بعضها إلى بعض إنما أخص العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الأغلب أكثر من عرضه يقول هذه صفة عرضها فكيف طولها. يدل عليه قول الزهري إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلّا الله كقوله مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها «4» فوصف البطانة بحسن ما يعلم من الزينة إذ معلوم أن الظواهر يكون أحسن وأنفس من البطائن.
__________
(1) سورة لقمان: 28.
(2) تفسير الطبري: 1/ 785، لسان العرب: 1/ 805.
(3) سورة الحديد: 21.
(4) سورة الرحمن: 54. [.....](3/148)
وقال أكثر أهل المعاني: لم يرد العرض الذي هو ضد الطول وإنما أراد سعتها وعظمها، كقول العرب: هو أعرض من الدهنا، أي أوسع.
وقال جرير:
لجّت أمامة في لومي وما علمت ... عرض السماوة روحاتي ولا بكري «1»
وأنشد الأصمعي:
يجبن بنا عرض الفلاة ... وما لنا عليهنّ إلّا وخدهن سقاء «2»
وقال آخر:
كأنّ بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفه حابل «3»
وعلى هذا التمثيل لا يريد أنها كالسماوات والأرض لا، وغير معناه كعرض السماوات السبع والأرضين السبع عند ظنكم، لأنهما لا بد زائلتان كقوله: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ «4» لأنهما لا بد زائلتان.
وقال يعلي بن مرة: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمص شيخا كبيرا قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتاب هرقل فناول الصحيفة رجلا عن يساره قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية، فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت إليّ تدعوني إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] فأين النار؟ فقال رسول الله: «سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار» [113] «5» .
وروى طارق بن شهاب: أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب وعنده أصحابه قالوا:
أرأيت قولكم وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فأين النار؟ فأحجم الناس، فقال عمر (رضي الله عنه) : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار، وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: إنما لمثلها في التوراة.
وسئل أنس بن مالك عن الجنة: أفي الأرض أم في السماء؟ فقال: أي أرض وأي سماء تسع الجنة؟ قيل: وأين هي؟ قال: فوق السماوات السبع تحت العرش.
وقال قتادة: كانوا يرون أن الجنة فوق السماوات السبع، وأن جهنم تحت الأرضين السبع.
__________
(1) تفسير الطبري: 1/ 216.
(2) لسان العرب: 14/ 392، تاج العروس: 10/ 382.
(3) تفسير القرطبي: 4/ 205.
(4) سورة هود: 107.
(5) تفسير الطبري: 4/ 122.(3/149)
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ثم وصفهم فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ يعني في العسر واليسر والشدة والرخاء، فأول خلق من أخلاقهم الموجدة هو الحب والسخاء، ولهذا
أخبرنا أحمد بن عبد الله، [ثنا زيد بن عبد العزيز أبو جابر ثنا جحدر ثنا بقية ثنا الأوزاعي عن الزهري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] «1»
: «الجنة دار الأسخياء» «2» .
وروى الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار» [114] «3» .
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ آية بينة على الواحد أراد مقام إبراهيم وحده، وقال: أثر قدميه في المقام آية بينة.
وقرأ الباقون: آياتٌ بالجمع أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر، وقد مضى ذكر مقام إبراهيم في سورة البقرة وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من أن يهاج فيه، لأنه حرم، وذلك بدعاء إبراهيم (عليه السلام) حيث قال: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً «4» وكان في الجاهلية من دخله ولجأ إليه آمن من الغارة والقتل ولم يزده الإسلام إلّا شدة.
وكتب أبو الخلد إلى ابن عباس: أن أول من لاذ بالحرم الحيتان الصغار والكبار هربا من الطوفان، وقيل: مَنْ دَخَلَهُ عام عمرة القضاء مع محمد صلّى الله عليه وسلّم كانَ آمِناً دليله قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «5» .
وقال أهل المعاني: صورة الآية خبر ومعناها أمر تقديرها: ومن دخلوه فأمنوه، كقوله:
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «6» أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. وقيل:
(وَمَنْ دَخَلَهُ) لقضاء النسك معظما له عارفا لحقه متقربا إلى الله عزّ وجلّ كانَ آمِناً يوم القيامة وهذا
كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار»
«7» [115] أي في نهار يوم القيامة.
يدل عليه ما روى جويبر عن الضحاك وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً يقول: من حجه ودخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.
__________
(1) زيادة عن الثقات لابن حبان: 8/ 35.
(2) مسند الشهاب: 1/ 102 والموضوعات لابن الجوزي: 2/ 185.
(3) سنن الترمذي: 3/ 231، ح 2027.
(4) سورة البقرة: 126.
(5) سورة الفتح: 27.
(6) سورة البقرة: 197.
(7) مسند الشهاب- ابن سلامة-: 1/ 252.(3/150)
وروى زياد بن أبي عياش عن يحيى بن جعدة في قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قال:
من النار.
وقال جعفر الصادق (رضي الله عنه) : مَنْ دَخَلَهُ على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كانَ آمِناً من عذابه.
وقال أبو النجم القرشي الصوفي: كنت أطوف بالبيت فقلت: يا سيدي، قلت: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من أي شيء؟ فسمعت من ورائي [قائلا] يقول: آمنا من النار، فالتفت فلم أر شيئا.
ويدل على صحة هذا التأويل ما
روى أبان بن عياش عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«من مات في أحد الحرمين بعثه الله عزّ وجلّ مع الآمنين» «1» [116] .
وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة» «2» [117] .
وروى شقيق بن سلمة عن ابن مسعود قال: وقف النبي صلّى الله عليه وسلّم على ثنية المقبرة وليس هما يومئذ مقبرة، وقال: «بعث الله من هذه البقعة من هذا الحرم كله سبعين ألفا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ... بِغَيْرِ حِسابٍ، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر» «3» .
وبه عن عبد الرحمن بن زيد العمى عن أبيه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار، تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام، وتقربت منه الجنة مسيرة مائة عام» «4» [118] .
وقال وهب بن منبه: مكتوب في التوراة: إن الله يبعث يوم القيامة سبعمائة ألف ملك من الملائكة المقربين بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام فيقول لهم: اذهبوا إلى البيت الحرام فزموه بهذه السلاسل ثم قودوه إلى المحشر فيأتونه فيزمونه بسبعمائة ألف سلسلة من ذهب ثم يمدونه وملك ينادي: يا كعبة الله سيري فتقول: لست بسائرة حتى أعطي سؤلي. فينادي ملك من جو السماء: سلي تعط. فتقول الكعبة: يا رب شفّعني في جيرتي الذين دفنوا حولي من المؤمنين. فيقول الله: قد أعطيتك سؤلك. قال: فيحشر موتى مكة من قبورهم بيض الوجوه كلهم محرمين، فيجتمعون حول الكعبة يلبّون ثم يقول الملائكة: سيري يا كعبة الله، فتقول:
لست بسائرة حتى أعطي سؤلي، فينادي ملك من جو السماء: سلي تعط، فتقول الكعبة: يا رب
__________
(1) السنن الكبرى: 5/ 245.
(2) كشف الخفاء: 1/ 351. [.....]
(3) كنز العمال: 12/ 262، ح 34960.
(4) كنز العمال: 12/ 210، ح 34704.(3/151)
عبادك المؤمنين الذين وفدوا إليّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ شعثا غبرا، تركوا الأهلين والأولاد والأحباب، وخرجوا شوقا إليّ زائرين مسلمين طائعين، حتى قضوا مناسكهم كما أمرتهم، فأسألك أن تؤمنهم من الفزع الأكبر وتشفّعني فيهم وتجمعهم حولي، فينادي الملك: إن منهم من ارتكب الذنوب بعدك وأصرّ على الذنوب الكبائر حتى وجبت له النار، فتقول الكعبة: إنما أسألك الشفاعة لأهل الذنوب العظام. فيقول الله: قد شفّعتك فيهم وأعطيتك سؤلك. فينادي منادي من جو السماء: ألا من زار الكعبة فليعتزل من بين الناس. فيعتزلون، فيجمعهم الله حول البيت الحرام بيض الوجوه آمنين من النار يطوفون ويلبون، ثم ينادى ملك من جو السماء: ألا يا كعبة الله سيري. فتقول الكعبة: لبيك لبيك والخير بيديك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ثم [يمدّونها] إلى المحشر «1» .
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
قال عكرمة: لما نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «2» قالت اليهود: فنحن مسلمون فأمروا أن يحجوا إن كانوا مسلمين، واللام في قوله لله لام الإيجاب والإلزام، أي قد فرض وأوجب على الناس حجّ البيت. قرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائي: حِجُّ، بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة.
وقرأ ابن أبي إسحاق جميع ما في القرآن بالكسر، وهي لغة أهل نجد.
وقرأ الباقون: بالفتح كل القرآن، وهي لغة أهل الحجاز.
واختيار أبي عبيد، وأبي حاتم، فهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد.
وقال الحسن الجعفي الفتح [المصدر] والكسر اسم الفعل، ثم قال: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا اعلم أن شرائط وجوب الحج تسعة أشياء هي: البلوغ والعقل والإسلام والحرية
لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى ينتبه» «3» [119] .
ولقوله صلى الله عليه وسلّم: «أيّما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه حجة أخرى، وأيّما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى» [120] «4» .
وأراد بالهجرة هاهنا: الإسلام وتخلية الطريق، وهي أن يكون الطريق آمنا مسلوكا، لا مانع فيه من عدو ونحوه، فإن كان غير مسلوك لم يجب الحج.
__________
(1) إعانة الطالبين: 2/ 313- 314.
(2) سورة آل عمران: 85.
(3) مسند أحمد: 6/ 100 بتفاوت.
(4) المعجم الأوسط: 3/ 140، نصب الراية: 3/ 75.(3/152)
والدليل عليه: أنه لو كان محرما فحصره العدو، فله أن يحل منه، فإذا جاز له الخروج منه بالحصر فبان بعض «1» الدخول فيه، والقصد إليه مع وجود الحصر أولى وأحرى، وإمكان المسير وهو أن يكون في الوقت سعة ممكنة فيه الحج، فإذا وجد شرائط الحج وهو [....] «2» وقد بلغ الحاج إلى [الكرقة] «3» مثلا، فلا يجب عليه، لأنه جعل شرائطه في وقت تعذر فعله فيه، فهو كالصبي الذي يبلغ في أثناء نهار الصيام، فلا يجب عليه صوم ذلك اليوم، وزاد كاف وراحلة مبلغة وقوة بدنية واختلف أقاويل الفقهاء في تفصيل هذه الشرائط الثلاثة.
فقال الشافعي (رضي الله عنه) : الاستطاعة وجهان: أن يكون مستطيعا بدنه واجدا من ماله ما يبلغه الحج، والثاني: أن يكون معضوبا «4» في بدنه لا يثبت على مركبه، وهو قادر على من يطعه إذا أمره أن يحج عنه بأجرة وغير أجرة، وأما المستطيع بالمال: فقد لزمه فرض الحج بالسنّة، لحديث الخثعمية، فأما المستطيع بنفسه: فهو القوي الذي لا يلحقه مشقة غير محتملة في الكون على الراحلة، فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج، فإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما يسقط فرض الحج عنه، فإن كان قادرا على المشي مطبقا له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في طريقه بصنعة مثل الخرز والحجامة ونحوهما، فالمستحب له أن يحج ماشيا، رجلا كان أو امرأة.
قال الشافعي: والرجل أقل عذرا من المرأة، لأنه أقوى وهذا على طريق الاستحباب لا على طريق الإيجاب، فأما إن قدر على الزاد بمسألة الناس في الطريق كرهت له أن يحج، لأنه يصير كلّا على الناس، وهذا الذي ذكرت من أن وجود الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج، وهو قول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس ومن التابعين الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق، دليلهم ما
روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما السبيل إلى الحج؟ قال: «الزاد والراحلة» [121] «5» .
ومثله روى ابن مسعود وابن عباس وعائشة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك.
روى الحرث عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ملك زادا وراحلة تبلغانه إلى بيت الله فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، فإن الله تعالى يقول: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «6» [122] .
__________
(1) هكذا ظاهرا في المخطوط.
(2) كلمة غير مقروءة.
(3) هكذا في الأصل.
(4) المعضوب: الزمن الذي لا حراك به.
(5) الدر المنثور: 2/ 56.
(6) سنن الترمذي: 2/ 154.(3/153)
قال ابن عمر: قام رجل فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: «الزاد والراحلة» قال:
فما الحاج؟ قال: « [الشعث التفل] » «1» قال: فما أفضل الحج؟ قال: «العج «2» والثج» «3» [123] .
وقال مالك: إذا قدر على المشي ووجد الزاد والراحلة لزمه الحج بلا خلاف، وإن لم يجد الزاد والراحلة وقدر على المشي نظر، فإن كان مالكا للزاد فعليه فرض الحج لكل حال، وإن لم يكن مالكا للزاد ولكنه يقدر على كسب حاجته منه في الطريق اختلف هذا باختلاف حال الرجل، فإن كان من أهل المروات وممّن لا يكسب بنفسه لم يجب عليه، وإن كان ممن يكسب كفايته بتجارة أو صناعة لزمه فرض الحج، وهكذا إذا كان عادته مسألة الناس لزمه فرض الحج، فأوجب مالك على المطبق للمشي الحج إذا لم يكن له زاد وراحلة، وهذا قول عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة.
وقال الضحاك: إن كان شابا صحيحا ليس له مال، فعليه أن يؤاجر نفسه بأكله أو عقبه حتى يقضي حجته، فقال: له قائل ما كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت. فقال: لو أن لبعضهم ميراثا بمكة أكان تاركه بل كان ينطلق إليه ولو حبوا، كذلك يجب عليه الحج، واحتج هؤلاء بقوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا «4» أي مشاة.
قالوا: ولأن الحج من عبادات الأبدان من فرائض الأعيان، فوجب أن لا يكون من فرض وجوبها الزاد والراحلة كالصلاة والصيام، فإذا [تقرر] أن وجود الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج على قول أكثر أهل العلم، فوجب أن يبيّن كيفية اعتبار الراحلة والنفقة، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس.
وأما الراحلة: فهي ما لا يلحقه مشقة شديدة في الركوب عليها، وأما النفقة: فإن كان ذا أهل وعيال يجب عليه نفقتهم، فلا يلزمه الحج حتى يكون لهم نفقتهم مدة غيبته لذهابه ورجوعه، لأن هذا الإنفاق فرض على الفور والحج فرض على التراخي، وكان تقديم إنفاق العيال أولى وأهم.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت»
«5» [124] فإذا لم يكن له أهل وعيال فلا بد من نفقته لذهابه، وهل يعتبر فيه الرجوع أم لا؟ فيه قولان للفقهاء:
__________
(1) التفل: الذي قد ترك استعمال الطيب.
(2) العج: العجيج بالتلبية، والثج: نحر البدن. [.....]
(3) المصنف- الكوفي-: 4/ 535.
(4) سورة الحج: 27.
(5) مسند أحمد: 2/ 160.(3/154)
قال بعضهم: لا يعتبر، لأنه ليس عليه كثير مشقة في تركه القيام ببلده، لأنه لا أهل له فيه ولا عيال له، فكل البلاد له وطن.
وقال الآخرون: يعتبر، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، لأنه قال في الإملاء: لا يجب عليه الحج حتى يكون له نفقته ذاهبا وجائيا. فأطلق ولم يفرّق، وهذا أولى بالصواب، لأن الإنسان يستوحش بفراق وطنه كما يستوحش بفراق مسكنه، ألا ترى أن البكر إذا زنا جلد وغرّب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن، فإن كان له عقار يستغله أو ثياب أو أثاث ونحوها، لزمه فرض الحج وبيع العقار ورقاب الأموال وصرفها في الحج فأما المسكن والخادم.
قال الشافعي: في الأم: فإذا كان له مسكن وخادم له نفقة أهله بقدر غيبته لزمه الحج.
وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلا عن الخادم والمسكن، لأنه قدّمه على نفقة أهله، فكأنه قال: بعد هذا كله.
وقال أصحابه: يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويشتري مسكنا وخادما لأهله، فأما إذا كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام، ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن ربحها قدر كفايته، فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا؟
قال أبو العباس بن شريح: لا يلزمه ذلك وتبقى البضاعة على ما هي عليه ولا يحج من أصلها، لأن الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته.
وقال الآخرون: بل عليه أن يحج من أصل البضاعة، وهو الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور، لأنه لا خلاف أنه لو كان له عقار يكفيه غلته لزمه بيع أصل العقار في الحج، وكذلك البضاعة، وجملته أن فرض الحج يتعلق بما يتعلق به فرض زكاة الفطر، فما وجب بيعه في زكاة الفطر وجب بيعه في الحج، فهذا القول في أحد وجهي الاستطاعة، فأما الوجه الآخر: فهو أن يكون مغصوبا في بدنه لا يقدر أن يثبت على مركب بحال، أو يكون فضو الخلقة ابتداء، أو يكون مريضا مزمنا شديدا لا يرجى برؤه، أو يكون شيخا كبيرا ضعيفا ولكن يكون قادرا على من يطيعه إذا أمره بالحج عنه، فهذا أيضا مستطيع استطاعة ما. وهو على وجهين:
أحدهما: أن يكون قادرا على مال يستأجر عليه من يحج، فإنه يلزمه فرض الحج، وهذا قول علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)
روى عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج: جهّز رجلا يحج عنك.
وإليه ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وعبد الله بن المبارك وأحمد بن المبارك وإسحاق.
والثاني: أن يكون قادرا على من يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه، فهذا أيضا يلزمه الحج عند الشافعي وابن حنبل وابن راهوية.(3/155)
وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه الحج ببذل الطاعة بحال.
وقال مالك: إذا كان مغصوبا سقط عنه فرض الحج أصلا، سواء كان قادرا على من يحج بالمال أو بغير المال، أو كان عاجزا فلا يلزمه فرض الحج، ولو وجب عليه الحج ثم عضب وزمن سقط عنه فرض الحج، ولا يجوز أن يحج عنه في حال حياته بحال بل إن أوصى أن يحج عنه حج بعد موته عنه من الثلث وكان تطوعا، واحتج بقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «1» فأخبر أنه ليس له إلّا ما سعى فمن قال له ما سعى غيره، فقد خالف ظاهر الآية ويقول عزّ وجلّ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «2» وهذا غير مستطيع، لأن الحج هو القصد إلى البيت بنفسه ومن طريق الاعتبار هو أنه غير متمكن من الحج بنفسه، فوجب أن لا يلزمه الحج عن نفسه، كما لو كان مغصوبا لا مال له، ولأن كل عبادة لا يدخلها النيابة مع القدرة عليها، فوجب أن لا يدخلها النيابة مع العجز عنها كالصلاة وعكسه الزكاة، ودليل الشافعي وأصحابه ما
روى الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة، فهل يجزي أن أحج عنه؟ فقال: «نعم» ، فقالت: فهل ينفعه ذلك؟ فقال (عليه السلام) : «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يجزي؟» قالت: نعم، قال: «فدين له! أحق» «3» [125] .
فأوجب النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه الحج بطاعة ابنته إياه وبذلها نفسها له بأن تحج عنه، فإذا وجب ذلك بطاعة البنت له كان بأن يجب عليه بقدرته على المال الذي يستأجر به أولى، فأما إن بذل له المال دون الطاعة، والصحيح أن لا يلزمه قبوله والحج به عن بنفسه ولا يصير ببذل المال له مستطيعا، وأما من به مرض يرجى زواله كالبرسام والحمى الشديدة وغيرهما فلا يجوز له أن يحج عنه، لأنه لم ييأس عن الحج بنفسه فلم يحج له، كالصحيح وعكسه المغصوب.
وقال أبو حنيفة: يجوز له أن يحج عن نفسه ولو حج عنه وبرأ سقط عنه فرض الحج والله أعلم.
وَمَنْ كَفَرَ.
قال الحسن وابن عباس وعطاء والضحاك: جحد فرض الحج.
مجاهد: هو ما أن حج لم يره برا وإن قعد لم يره مأثما.
وروى سفيان عن منصور عنه وَمَنْ كَفَرَ بالله واليوم الآخر، يدل عليه ما
روى ابن عمر
__________
(1) سورة النجم: 39.
(2) سورة آل عمران: 97.
(3) صحيح ابن خزيمة: 4/ 346.(3/156)
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في قوله: وَمَنْ كَفَرَ قال: «من كفر بالله واليوم الآخر» «1» .
وقال سعيد بن المسيب: نزلت في اليهود حيث قالت: الحج إلى [ ... ] «2» واجب.
الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الأديان كلهم فخطبهم، وقال: «إن الله عزّ وجلّ كتب عليكم الحج فحجّوا» فآمنت إليه أهل ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل، وقالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه، فأنزل الله تعالى هذه الآية «3» .
عطاء بن السائب: (وَمَنْ كَفَرَ) بالبيت.
ابن زيد: (وَمَنْ كَفَرَ) بهذه الآيات التي ذكرها الله في قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ.
قال السدي: أما مَنْ كَفَرَ فهو من وجد ما يحج عنه ثم لم يحج حتى مات فهو كفره به.
فصل في إيجاب الحج
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة مالكم وحجّوا بيت ربكم تدخلوا جنة ربكم» «4» [126] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «حجّوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة» «5» [127] .
وقال ابن مسعود: حجّوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلّا نفقت «6» .
وروى عبد الرحمن بن أبي سابط عن أبي أمامة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا» «7»
[128] .
وحدثنا موسى بن جعفر عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من مات ولم يحج لم يقبل الله منه يوم القيامة عملا ... » [129] .
شعبة عن قتادة عن الحسين قال: قال عمر (رضي الله عنه) : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية.
__________
(1) الدر المنثور: 2/ 57.
(2) كلمة غير مقروءة.
(3) تفسير الطبري: 4/ 29.
(4) صحيح ابن خزيمة: 4/ 12 بتفاوت.
(5) كشف الخفاء: 1/ 350.
(6) كشف الخفاء: 1/ 350.
(7) سنن الدارمي: 2/ 29.(3/157)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ إلى تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يصرفون عن دين الله مَنْ آمَنَ.
وقرأ الحسن: تَصِدُّونَ، بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان، صدّ وأصدّ مثل صل اللحم وأصل، وخمّ وأخم.
ودليل قراءة العامة قوله تعالى: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى «1» وقوله: وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «2» ونظائرهما.
تَبْغُونَها تطلبونها عِوَجاً زيغا وميلا، والكلام حال على الفعل، مجازه: لم تصدون عن سبيل الله باغين لها عوجا.
قال أبو عبيدة: العوج بالكسر في الدين والقول والعمل، والعوج بالفتح في الجدار والحائط وكل شخص قائم وَأَنْتُمْ شُهَداءُ الآن في التوراة مكتوب: إن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام، وإن فيه نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
قال زيد بن أسلم: مرّ شاس ابن قيس اليهودي. وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الطعن في المسلمين شديد الحسد لهم. على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة فقال: لقد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شابا من اليهود كان معه قال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم
__________
(1) سورة سبأ: 32. [.....]
(2) سورة الفتح: 25.(3/158)
يوم بعاث وما كان قيله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج. ففعل، فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن قبطي أحد بني حارثة من الأوس، وحيان بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددتها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعا وقالا: قد جعلنا السلاح موعدكم الظاهرة وهي حرة، وخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها على بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال:
«يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألّف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم إليه كفارا الله الله» [130] فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيدهم من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين مطيعين. فأنزل الله في شأن شاس بن قيس «1» .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني الأوس والخزرج إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني شاسا وأصحابه يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ.
قال جابر بن عبد الله: ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله علينا فأومى إلينا بيده فكففنا وأصلح الله ما بيننا فما كان من شخص أحبّ إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما رأيت قط يوما أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم، ثم قال على وجه التعجب وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ يعني ولم تكفرون وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ من القرآن وَفِيكُمْ رَسُولُهُ محمد صلّى الله عليه وسلّم.
قال قتادة: في هذه الآية علمان بيّنان: نبي الله وكتاب الله، فأمّا نبي الله فقد مضى وأمّا كتاب الله فأبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أي يمتنع بالله ويتمسك بدينه وطاعته فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ طريق واضح.
وقال ابن جريج: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ) أي يؤمن بالله، وأصل العصم والعصمة المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصم.
قال الفرزدق:
أنا ابن العاصمين بني تميم ... إذا ما أعظم الحدثان نابا «2»
والممتنع معتصم. فقال: اعتصمت الشيء واعتصمت به وهو الأفصح.
__________
(1) فتح القدير: 1/ 368.
(2) تفسير الطبري: 4/ 37، تفسير القرطبي: 4/ 157.(3/159)
قال الشاعر:
يظل من خوفه الملاح معتصما ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد «1»
وقال آخر:
إذا أنت جازيت الإخاء بمثله ... وآسيتني ثم اعتصمت حباليا «2»
وقال حميد بن ثور يصف رجلا حمل امرأة بذنبه:
وما كاد لما أن علته يقلها ... بنهضته حتى أكلان واعتصما
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ.
قال مقاتل بن حيان: كان بين الأوس والخزرج في الجاهلية وصال حتى هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فأصلح بينهم، فافتخر بعد ذلك منهم رجلان: ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج، فقال الأوسي: منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة، ومنّا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين، ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمة له ورضى الله بحكمه في بني قريظة، وقال الخزرجي: منّا أربعة أحكموا القرآن: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الكلام بينهما فغضبا، فقال الخزرجي: أما والله لو تأخر الإسلام قليلا وقدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم لقتلنا ساداتكم، واستعبدنا آبائكم ونكحنا نسائكم بغير مهر.
فقال الأوسي: قد كان الإسلام متأخرا زمانا طويلا فهلّا فعلتم ذلك، فقد ضربناكم حتى أدخلناكم الديار، وأنشدا الأشعار وتفاخرا وتأذيا، فجاء الأوس إلى الأوسي والخزرج إلى الخزرجي ومعهم سلاح، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فركب حمارا وأتاهم فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ الآيات، فقرأها عليهم فاصطلحوا.
وقال عطاء: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صعد المنبر وقال: «يا معشر المسلمين ما لي أوذى في أهلي» . يعني الطعن في قصة الإفك، وقال: «ما علمت على أهلي إلّا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت منه إلّا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلّا معي» .
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله وأكفيك أمره وأنصرك عليه، إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكنه احتملته الحمية فقال لسعد
__________
(1) لسان العرب: 3/ 418 والبيت للنابغة.
(2) تفسير الطبري: 4/ 37.(3/160)
ابن معاذ: كذبت لعمر الله. فقال سعد: والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ودعوا بالسلاح، فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخفضهم حتى سكنوا، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «1» .
عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حَقَّ تُقاتِهِ أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر» [131] «2» .
وقال أبو عثمان: أن لا يعصى طرفة عين.
مجاهد: أن يجاهدوا حَقَّ جِهادِهِ.
ولا تأخذكم في الله لومة لائم وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم.
الحسن: هو أن تعطيه فيما تعبده.
قال الزجاج: أي اتقوا فيما يحق عليكم أن تتقوه واسمعوا وأطيعوا.
قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله ومن يقوى على هذا وشق عليهم فأنزل الله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «3» فنسخت هذه الآية.
قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ إلّا هذا.
وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
قال طاوس: معناه اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي مؤمنون.
وقيل: مخلصون مفوضون أموركم إلى الله عزّ وجلّ.
وقال المفضل: المحسنون الظن بالله.
وروى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرّت على أهل الأرض معيشتهم فكيف بمن هو طعامه» «4» .
وعن أنس بن مالك قال: لا يتقى الله عبد حَقَّ تُقاتِهِ حتى يخزن من لسانه وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً أصل الحبل السبب الذي يوصل إلى البغية والحاجة، ولذلك سمّي الأمان حبلا، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف.
__________
(1) مسند أحمد: 6/ 196.
(2) المصنف- الكوفي-: 8/ 163.
(3) سورة التغابن: 16.
(4) مسند أحمد: 1/ 338.(3/161)
وقال الأعشى بن ثعلبة:
وإذا تجوزها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالها «1»
واختلفوا في الحبل المعني بهذه الآية:
فقال ابن عباس: تمسكوا بدين الله.
وروى الشعبي عن ابن مسعود أنه قال في قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً قال الجماعة.
وقال ابن مسعود: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير ممّا تحبون في الفرقة.
وقال مجاهد وعطاء: بالعهد.
قتادة والسدي والضحاك: هو القرآن، يدل عليه ما
روى عن الحرث أنه قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث، فأتيت عليا كرم الله وجهه فقلت: ألا ترى أن الناس قد وقعوا في الأحاديث؟ فقال: وقد فعلوا؟ فقلت: نعم، فقال: أما أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنها ستكون فتنة» قال: قلت: فما الخروج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته إلّا أن قالوا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً «2» من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خذها إليك يا أعور» [132] «3» .
وروى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول الم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة» [133] «4» .
__________
(1) تفسير الطبري: 4/ 42، تفسير القرطبي: 4/ 158.
(2) سورة الجن: 1.
(3) الدر المنثور: 6/ 337.
(4) تفسير القرطبي: 1/ 5.(3/162)
وروى سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان قال: دخلنا على زيد بن أرقم فقلنا له: لقد صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصليت خلفه؟ قال: نعم، وإنه خطبنا فقال: «إني تارك فيكم كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة» [134] «1» .
وروى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله يقول: «يا أيها الناس إني قد تركت فيكم خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحد هما أكبر من الآخر كتاب الله جل جلاله من السماء وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض» [135] «2» .
فقال مقاتل بن حيان: (بِحَبْلِ اللَّهِ) أي بأمره وطاعته.
أبو العالية: بإخلاص التوحيد لله عزّ وجلّ. ابن زيد: بالإسلام.
وَلا تَفَرَّقُوا كما تفرقت اليهود والنصارى.
وروى الأوزاعي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن امتي ستفترق على اثنى وسبعين فرقة كلها في النار إلّا واحدة» فقيل يا رسول الله وما هذه الواحدة؟ قال فقبض يده، وقال: «الجماعة» [136] ثم قرأ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا «3» .
وروى أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد: نحن حبل الله الذي قال الله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.
أخبرني محمد بن كعب القرظي عن أبي سعيد: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله رضى لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا: رضى لكم أن تعبدوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وأن تعتصموا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لمن ولّاه الله أمركم، وكره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» «4» [137] .
وعن عبد الله بن بارق الحنفي عن سماك- يعني الحنفي- قال: قلت لابن عباس: قوم يظلموننا ويعتدون علينا في صدقاتنا ألا تمنعهم؟ فقال: لا يا حنفي أعطهم صدقتهم وإن أتاك أهدل الشفتين منتفش المنخرين- يعني زنجيا- فأعطه، فنعم القلوص قلوص يأمن بها المرؤوس عروسه ووطنه- يعني امرأته- وقربة اللبن يا حنفي الجماعة الجماعة، إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها أما سمعت قول الله: جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.
__________
(1) المصنف- الكوفي-: 7/ 176. [.....]
(2) مسند أحمد: 5/ 182. بتفاوت.
(3) تفسير الطبري: 4/ 44.
(4) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 285.(3/163)
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً.
قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار قال: كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب سمير وحاطب، وذلك أن سميرا هو سمير بن زيد ابن مالك أحد بني عمرو بن عوف، قيل: حليفا لملك بن عجلان، [والآخر من] «1» الخزرج يقال له: حاطب بن أبحر من مزينة، فوقعت بين القبيلتين الحرب، فزعم العلماء بأيام العرب أن تلك الحرب والعداوة تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة، ولم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم، واتصلت تلك العداوة إلى أن أطفأها الله بالإسلام وألّف بينهم برسوله صلّى الله عليه وسلّم وكان سبب ألفتهم وارتفاع وحشتهم أن سويد بن صامت أخا بني عمرو بن عوف قدم مكة حاجا أو معتمرا وكان سويد إنما تسميه قومه الكامل لجلادته وشعره ونسبه وشرفه وحكمته، فقدم سويد مكة وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث وأمر بالدعوة إلى الله عزّ وجلّ، فتصدّى له حين سمع به، فدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الله عزّ وجلّ وإلى الإسلام.
فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما الذي معك؟» قال: مجلة لقمان، يعني حكمته، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعرضها عليّ» فعرضها عليه فقال: «إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل، هذا قرآن أنزله الله عليّ نورا وهدى» [138] فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعده عنه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتله الخزرج قبل يوم بعاث وكان قومه يقولون: قتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الجيش أنس بن رافع ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم أياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج، فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاهم فجلس إليهم فقال:
«هل لكم إلى خير ممّا جئتم له؟» قالوا: وما ذلك؟ قال: «أنا رسول الله بعثني الله إلى العباد أدعوهم إلى [الله أن يعبدوا الله و] لا يشركوا بالله شيئا وأنزل عليّ الكتاب» [139] ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.
فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا: أي قوم هذا والله خير ممّا جئتم به، فأخذ أبو الجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت أياس وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين بني الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الموسم الذي لقى فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة إذ لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، وهم ستة نفر أسعد بن زرارة، وعوف بن عفراء، ورافع بن ملك، وقطبة بن عارف، وعقبة ابن عامر، وجابر بن عبد الله.
__________
(1) أثبتناه للسياق.(3/164)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أنتم؟» قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أمن موالي اليهود؟» قالوا: نعم، قال: «أفلا تجلسون حتى أكلمكم؟» [140] .
قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، قال: وكان ممّا صنع الله لهم به في الإسلام أن يهودا كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل أوثان وشرك، وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيّنا الآن مبعوث قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولئك النفر ودعاهم إلى الله، فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله إنه للنبي الذي تدعوكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم لك وستقدم عليهم فتدعوهم إلى حربهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز عليك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا. فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشاهم فيهم تبق لهم دار من دور الأنصار إلّا وفيها ذكر من رسول الله حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار إثنا عشر رجلا وهم أسعد بن زرارة، وعوف ومعوّذ ابنا عفراء ورافع بن مالك بن العجلاني الخزرجي وذكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة وعباس بن عبادة وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو فهؤلاء خزرجيون، وأبو الهيثم بن التيهان واسمه ملك وعويمر بن ساعدة من الأوس، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بيعة النساء على أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يزنوا إلى آخر الآية ثم قال: «إن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم شيئا من ذلك [فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم] «1» .
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «السخي الجهول أحبّ إلى الله من العالم البخيل» «2» [141] .
عبد السلام بن عبد الله عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «السماح شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنة، والبخل شجرة في النار أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى النار» «3» [142] .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 138]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أي الجامعين الغيظ عند امتلاء أنفسهم منه، والكافين غضبهم عن
__________
(1) تفسير الطبري: 4/ 47، تاريخ الطبري: 2/ 86، وما بين المعكوفتين أثبتناه من المصدر.
(2) كنز العمال: 6/ 392، ح 16210.
(3) روضة الواعظين: 385.(3/165)
إمضائه يردّون غيظهم وحزنهم إلى أجوافهم ويصبرون فلا يظهرون، وأصل الكظم: حبس الشيء عن امتلائه، يقال: كظمت القربة إذا ملأتها، وما يقال لمجاري الماء: كظائم، لامتلائها بالماء وأخذ بها كظامة، ومنه قيل: أخذت بكظمه، يعني بمجاري نفسه، ومنه كظم الإبل وهو حبسها جررها في أجوافها ولا تجتر، وإنما يفعل ذلك من الفزع والجهل.
قال أعشى باهلة يصف رجلا نحّارا للإبل وهي تفزع منه:
قد تكظم البزل «1» منه حين تبصره ... حتى تقطع في أجوافها الجرر «2»
ومنه قيل: رجل كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غضبا وغما وحزنا. قال الله تعالى:
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ «3» وقال: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ «4» وقال: إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ «5» وقال: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ «6» .
وقال عبد المطلب بن هاشم:
فحضضت قومي فاحتبست قتالهم ... والقوم من خوف المنايا كظم «7»
وفي الحديث: «ما من جرعة أحمد عقبانا من جرعة غيظ مكظومة» [143] «8» .
وروى سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كظم الغيظ وهو يقدر على إنفاذه دعاه الله يوم القيامة على رؤس الخلائق حتى يخيّره من أي الحور يشاء» [144] «9» .
أنشدنا أبو القاسم محمد بن حبيب قال: أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال:
أنشدنا ابن أبي الزنجي ببغداد قال: أنشدنا العرجي:
وإذا غضبت فكن وقورا كاظما ... للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفا تصبر ساعة ... يرضى بها عنك الإله وترفع «10»
أي يرفع قدرك.
__________
(1) البزل: جمع بازل وهي البعير الذي دخل في التاسعة وفطر نابه.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 206.
(3) سورة يوسف: 84.
(4) سورة النحل: 58.
(5) سورة القلم: 48.
(6) سورة غافر: 18.
(7) تفسير القرطبي: 9/ 249. [.....]
(8) لسان العرب: 1/ 617.
(9) سنن الترمذي: 3/ 251، ح 2090.
(10) تفسير القرطبي: 4/ 208.(3/166)
وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ.
قال الرباحي والكلبي: عن المملوكين، وقال زيد بن أسلم ومقاتل: عمّن ظلمهم وأساء إليهم،
وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عند ذلك: «إن هؤلاء في أمتي قليل إلّا من عصم الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت» «1» [145] .
وعن أبي هريرة أن أبا بكر (رضي الله عنه) كان مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في مجلس، فجاء رجل فوقع في أبي بكر وهو ساكت والنبي صلّى الله عليه وسلّم يبتسم، ثم ردّ أبو بكر (رضي الله عنه) عنه بعض الذي قال، فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقام فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله شتمني وأنت تبتسم ثم رددت عليه بعض ما قال فغضبت وقمت، فقال: «إنك حين كنت ساكتا كان معك ملك يرد عنك فلما تكلمت وقع الشيطان فلم أكن لأقعد في مقعد يقعده الشيطان،. ثمّ قال.: يا أبا بكر ثلاث كلّهن حق: أنه ليس عبد يظلم بمظلمة فيعفوا عنها إلّا أعز الله نصره، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد به كثرة إلّا زاده الله قلة وليس عبد يفتح باب عطية أو صلة إلّا زاده الله بها كثرة» [146] «2» .
وقال عروة بن الزبير:
لن يبلغ المجد أقوام وإن كرموا ... حتى يذلوا، وإن عزّوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مشرقة ... لا صفح ذل ولكن صفح أحلام «3»
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
قال مقاتل: يعني إن هذه الأشياء إحسان ومن فعل ذلك فهو محسن وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
قال الحسن: الإحسان أن يعمّ ولا يخص كالريح والشمس والمطر.
سفيان الثوري: الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، فإن الإحسان إلى المحسن [مزاجرة] «4» كلمة السوق خذ وهات.
السقطي: الإحسان أن يحسن وقت الإمكان، فليس في كل وقت يمكنك الإحسان.
أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبو العباس عبد الله بن محمد الجماني:
ليس في كل ساعة وأوان ... تتهيأ صنائع الإحسان
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 207.
(2) مسند أحمد: 2/ 436.
(3) تفسير الطبري: 4/ 127.
(4) هكذا في الأصل.(3/167)
فإذا أمكنت فبادر إليها ... حذرا من تعذر الإمكان «1»
ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت قصورا مشرفة على الجنة فقلت يا جبرئيل لمن هذه؟ قال: ل الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» [147] «2» .
إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية.
قال ابن عباس: قال المؤمنون يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، كان أحدهم إذا ذنب ذنبا أصبحت كفارة ذنبهم مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك وأذنك، افعل كذا، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بخير من ذلك» فقرأ عليهم هذه الآيات «3» .
وقال عطاء: نزلت هذه الآية في نبهان التمار وكنيته أبو مقبل أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فهل لك فيه؟ قالت: نعم، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبّلها، فقالت له: اتق الله، فتركها وندم على ذلك فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية.
وقال مقاتل والكلبي: آخا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف، فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله، فاشترى لهم اللحم ذات يوم، فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها فدخلت المرأة بيتا فتبعها فاتقته بيدها، فقبّل يدها ثم ندم وانصرف، فقالت له: والله ما حفظت غيبة أخيك ولا نلت حاجتك، فخرج الأنصاري ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله.
فقالت: لا أكثر الله في الاخوان مثله ووصفت له الحال، والأنصاري يسيح في الجبال تائبا مستغفرا، وطلبه الثقفي حتى وجده، فأتى به أبا بكر (رضي الله عنه) رجاء أن يجدا راحة عنده فخرجا، وقال الأنصاري: هلكت، قال: وما أهلكك؟ فذكر له القصة، فقال أبو بكر:
ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم، ثم لقى عمر (رضي الله عنه) فقال: مثل ذلك، فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له مثل مقالتهما، فأنزل الله تعالى وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً
هي صفة لاسم متروك تقديره: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً يعني قبيحة خارجة عمّا أذن الله فيه، وأصل الفحش القبيح والخروج عن الحد، ولذلك قيل للمفرط في الطول أنه فاحش الطول، والكلام القبيح غير [القصد] فالكلام فاحش والمتكلم به مفحش.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 209، سير أعلام النبلاء: 13/ 200.
(2) كنز العمال: 3/ 375.
(3) تفسير الطبري: 4/ 127.(3/168)
قال السدي: يعني بالفاحشة هاهنا الزّنا، يدل عليه ما روى حماد بن ثابت عن جابر وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قال: زنى القوم وربّ الكعبة، أو ظلموا أنفسهم بالمعصية.
وقال مقاتل والكلبي: وهو ما دون الزنا من قبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل.
الأصم: فعلوا فاحشة الكبائر أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالصغائر، وقيل: فَعَلُوا فاحِشَةً فعلا وظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ قولا.
ذَكَرُوا اللَّهَ قال الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله عزّ وجلّ، مقاتل والواقدي:
تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم عنه، مقاتل بن حيان: ذَكَرُوا اللَّهَ باللسان عند الذنوب فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ أي وهل يغفر الذنوب إلّا الله وما يغفر الذنوب إلّا الله فلذلك رفع. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا واختلفوا في معنى الإصرار:
فقال أكثر المفسرين: معناه لم يقيموا ولم يدوموا ولم يثبتوا عليه، ولكنهم تابوا وأقرّوا واستغفروا.
قتادة: إيّاكم والإصرار، فإنما هلك المصرون الماضون قدما قدما في معاصي الله، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله، ولا يتوبون من ذنب أصابوه، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك.
وقال الحسن: إتيان العبد ذنبا عمدا إصرارا، السدي: الإصرار السكوت وترك الاستغفار،
وفي الخبر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» «1» [148] .
وروى عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس كبيرة بكبيرة مع الاستغفار وليس صغيرة بصغيرة مع الإصرار»
«2» [149] وأصل الإصرار الثبات على الشيء.
قال الحطيئة: يصف الخيل:
عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا ... غلالتها بالمحصدات أصرّت «3»
أي ثبتت على عدوّها، نظم الآية: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ... وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ... ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ.
قال ابن عباس والحسن ومقاتل وابن يسار: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنها معصية.
__________
(1) مسند أبي يعلى: 1/ 124.
(2) مسند الشهاب: 2/ 204.
(3) تفسير القرطبي: 4/ 211.(3/169)
الضحاك: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن الله يملك مغفرة ذنوبهم.
السدي: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم قد أذنبوا. وقيل: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن الإصرار ضار، فإن ترك الإصرار خير من التمادي، كما قيل:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه ... إن الجحود الذنب ذنبان «1»
وقال الحسين بن الفضل: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن لهم ربّا يغفر الذنوب، وإنما اقتبس هذا من
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أذنب ذنبا وعلم أن له ربّا يغفر الذنوب غفر له وإن لم يستغفر» «2» [150] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله عزّ وجلّ: من علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أبالي» «3» [151] .
وقال عبيد بن عمير: في بعض الكتب المنزلة: يا بن آدم إنك ما دعوتني وما رجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي.
وروى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مرّ رجل ممّن كان قبلكم في بني إسرائيل بجمجمة فنظر إليها فحدث نفسه بشيء ثم قال: أنت أنت وأنا أنا، أنت العواد بالمغفرة وأنا العواد بالذنوب ثم خرّ لله ساجدا، فقيل له ارفع رأسك فأنا العواد بالمغفرة وأنت العواد بالذنوب فرفع رأسه فغفر له» «4» [152] .
وقيل: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم إن استغفروا غفر لهم وإن التوبة تمحق الحوبة.
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي إلى الْعامِلِينَ ثواب المطيعين.
يقال: أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) أن يا موسى ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، يا موسى كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي.
وقال شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب.
وقال ثابت البناني: بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الآية إلى آخرها.
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ، قال ابن زيد: أمثال. المفضّل: أمم، والسنّة الأمّة.
قال الشاعر:
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 213. [.....]
(2) تفسير القرطبي: 4/ 212. بتفاوت.
(3) المصنف- الكوفي-: 7/ 90.
(4) تاريخ بغداد: 9/ 94، كنز العمال: 4/ 225، ح 10276.(3/170)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
ما عاين الناس من فضل كفضلكم ... ولا رأوا مثلكم في سالف السنن «1»
وقال بعضهم: معناه أهل السنن، وقال عطاء: شرائع، الكلبي: قد مضت لكل أمة سنّة ومنهاج إذا ابتغوها رضي الله عنهم، مجاهد: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ بالهلاك فيمن كذب قبلكم، والسنّة في اللغة: المثال المتبع والإمام المؤتم به، فقال: سنّ فلان سنّة حسنة أو سنّة سيئة إذا عمل عملا يقتدى به من خير أو شر.
قال لبيد:
من معشر سنّت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنّة وإمامها «2»
قال سليمان بن قبة:
وإن الألى بالطف من آل هاشم ... تأسوا فسنوا للكرام التآسيا «3»
ومعنى الآية: قد مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية المكذبة الكافرة سنن بإمهالي واستدراجي إياهم حتى بلغ الكتاب فيهم أجلي على الذي أجلته لأدلة أنبيائي وإهلاكهم.
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ آخر أمرهم الْمُكَذِّبِينَ منهم، وهذا في يوم أحد. يقول: فإذا أمهلهم واستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت في نصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأوليائه وهلاك أعدائه، هكذا قال ابن إسحاق هذا الذي ذكرت.
هذا القرآن بَيانٌ لِلنَّاسِ عامة وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ من الجهالة لِلْمُتَّقِينَ خاصّة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 139 الى 145]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 216. بتفاوت.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 216.
(3) تفسير الطبري: 4/ 134، لسان العرب: 14/ 35.(3/171)
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا الآية، هذا تعزية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أحد، وحثّ منه إياهم على قتال عدوهم، ونهى عن العجز والفشل فقال:
وَلا تَهِنُوا أي ولا تضعفوا ولا تخيبوا يا أصحاب محمد على جهاد أعدائكم بما قاتلوكم يوم أحد من القتل والقرح وَلا تَحْزَنُوا على ظهور أعدائكم وعلى ما أصابكم من المصيبة والهزيمة، وكان قد قتل يومئذ خمسة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبة، ومن الأنصار سبعون رجلا.
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي لكم تكون العاقبة والنصر والظفر.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني إذ كنتم، ولأنكم مؤمنون.
قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشعب فبينا هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلوا عليهم الجبل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تعل علينا اللهم لا قوة لنا إلّا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر» «1» [153] فأنزل الله تعالى هذه الآية، فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل، فرموا خيل المشركين حتى هزموهم وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ «2» .
وقال الكلبي: نزلت هذه الآية بعد يوم أحد، حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بطلب القوم وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يخرج إلّا من شهد معنا بالأمس» «3» واشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، ودليله قوله عزّ وجلّ: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ «4» الآية.
وقيل: (وَلا تَهِنُوا) لما نالكم من الهزيمة (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من الغنيمة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بقضاء الله ووعده.
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ الآية.
قال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كئيبا حزينا جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها وأبيها مقتولين وهي تلدم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أهكذا يفعل برسولك؟» «5» [154] فأنزل الله تعالى إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ جرح يوم أحد فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يوم بدر.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 217.
(2) فتح الباري: 7/ 268.
(3) تفسير القرطبي: 4/ 277.
(4) سورة النساء: 104.
(5) أسباب نزول الآيات: 83.(3/172)
وقرأ محمد بن السميقع: قَرَحٌ فتح القاف والراء على المصدر.
وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي وخلف: بضم القاف حيث كان، وهي قراءة ابن مسعود.
وقرأ الباقون: بفتح القاف، وهي قراءة عائشة واختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، قالا: لأنهما لغة تهامة والحجاز، لغتان مثل الجهد والوجد والوجد.
وقال بعضهم: القرح بالفتح الجراحات واحدتها قرحة، والقرح بالضم وجع الجراحة.
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ فيوما عليهم ويوما لهم وذلك أنّ الله عزّ وجلّ أدل المسلمين من المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين وأدال المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا منهم خمسة وسبعين.
قال أنس بن مالك: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعليه نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسحها وهي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن
، ونظير هذه الآية قوله: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ «1» يوم أحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يوم بدر، يعني المثلى والأسرى.
عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما كان يوم أحد صعد أبو سفيان الجبل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليس لهم أن يعلونا» [155] قال: فمكث أبو سفيان ساعة ثم قال: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة اين ابن الخطاب؟ فقال عمر (رضي الله عنه) : هذا رسول الله وهذا أبو بكر وها أنا عمر. فقال أبو سفيان: يوما بيوم وأن الأيام دول والحرب سجال.
فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
فقال: إنكم لتزعمون ذلك فقد خبنا إذا وخسرناهم.
قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون قتلاكم مثلى ولم يكن ذلك على رأي سراتنا ثم ركبته حمية الجاهلية، فقال: أما إنه إذا كان ذلك لم نكرهه.
قال الثعلبي: أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو الحسن الكارزي قال: أنشدنا محمد بن القاسم الجمحي:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفي كل حادثة يؤتمر
يهينون من حقروا فقره ... وإن كان فيهم تقي أو تبر
__________
(1) سورة آل عمران: 165.(3/173)
فيوما علينا ويوما لنا ... ويوم نساء ويوما نسر «1»
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني وإنما كانت هذه المداولة لِيَعْلَمَ اللَّهُ ليرى الله الذين كفروا منكم ممّن نافقوا فيهزأ بعضهم من بعض. وقيل: معناه وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بأفعالهم موجودة كما علمها منهم قبل أن يكلّفهم وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ يكرم أقواما بالشهادة، وذلك أن المسلمين قالوا: أرنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونلتمس الشهادة. فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ الله منهم شهداء وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني يطهّرهم من ذنوبهم وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ يفنيهم ويهلكهم وينقصهم ثم عزّاهم فقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ... (وَيَعْلَمَ) نصب على الظرف، وقيل: بإضمار أن الخفيفة.
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ وذلك أنهم تمنوا أن يكون لهم يوم كيوم بدر فأراهم الله تعالى يوم أحد فذلك قوله: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أي أسبابه وآثاره وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية.
قال أهل التفسير وأصحاب المغازي: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل الشعب في سبعمائة رجل وأمر عبد الله بن جبير. أحد بني عمر. وعمر بن عوف. وهو أخو خوات بن جبير. على الرماة وهم خمسون رجلا.
فقال: «أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنّا بالنبل لا نؤتا من خلفنا وإن كان لنا أو علينا، ولا تبرحوا مكانا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم» فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار وكانت هند تقول:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
الدر في المخانق ... والمسك في المفارق
إن تقبلوا نعانق ... ونفرّق النمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق «2»
وكان أبو عامر عبد عمرو بن الصيفي أول من لقيهم بالأحابيش وعبيد أهل مكة، فقاتلهم قتالا شديدا حتى حميت الحرب.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني» فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري وكان رجلا شجاعا يحتال عند الحرب، فلما أخذ السيف اعتمّ بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول:
__________
(1) ورد متفرقا في: تفسير الطبري: 20/ 64، تفسير القرطبي: 13/ 266، فقه القرآن للراوندي: 1/ 352.
(2) الطبقات الكبرى: 2/ 40، تاج العروس: 6/ 418. [.....](3/174)
أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل
ألّا أقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها لمشية يبغضها الله إلّا في هذا الموضع» ثم حمل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه على المشركين فهزموهم [156] «1» .
وقتل علي بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة وهو يحمل لواء قريش، فأنزل الله نصره على المؤمنين.
قال الزبير بن العوّام: فرأيت هندا وصواحبها هاربات مصعدات في الجبل باديات خدادهن ما دون أخدهن شيء، فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب. واختلفوا، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال بعضهم: ما بقي من الأمر شيء، ثم انطلقوا عامتهم ولحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأوا ظهورهم خالية، صاح في خيل المشركين ثم حمل على أصحاب النبي من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمية الحارثي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه فأثقله، وتفرّق عنه أصحابه، فأقبل عبد الله بن قمية يريد قتل رسول الله فذب مصعب بن عمير. وهو صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر، ويوم أحد وكان اسم رايته العقاب. عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قتل مصعب دونه، قتله ابن قمية فرجع وهو يظن أنه قتل رسول الله، فقال: إني قتلت محمدا وصاح صارخ: ألا أن محمدا قد قتل، ويقال: إن ذلك الصارخ إبليس لعنه الله فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوا الناس ويقول: «إليّ عباد الله إليّ عباد الله» [157] فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه وأصيبت يد طلحة بن عبد الله فيبست، وقى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانها فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت إن نجوت، فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منّا فقال: «دعوه» حتى إذا دنا منه، وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله فيقول:
عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها.
قال رسول الله: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» [158] فلما كان يوم أحد ودنا منه تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول: قتلني محمد، واحتمله أصحابه فقالوا: ليس عليك
__________
(1) تاريخ الطبري: 2/ 195.(3/175)
شيء، فقال: بلى، لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال لي: أقتلك إن شاء الله، فلو بزق عليّ بعد هذه المقالة لقتلني. فما لبث إلّا يوما حتى مات بموضع يقال له صرف «1» .
فقال حسان بن ثابت في ذلك:
لقد ورث الضلالة عن أبيه ... أبي حين بارزه الرسول
أتيت إليه تحمل رم عظم ... وتوعده وأنت به جهول
يقول فكيف يحيى الله هذا ... وهذا العظم عار ومستحيل «2»
[وقد قتلت بنو النجار منكم ... أمية إذا يغوث: يا عقيل
وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا ... أبا جهل لأمهما الهبول
وأفلت حارث لما شغلنا ... بأسر القوم، أسرته فليل] «3»
وقال حسان بن ثابت أيضا:
ألا من مبلغ عني أبيّا ... فقد ألقيت في جوف السعير
تمنى بالضلالة من بعيد ... وقول الكفر يرجع في غرور
فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ ... كريم الأصل ليس بذي فجور
له فضل على الأحياء طرّا ... إذا نابت ملمّات الأمور «4»
قالوا: وفشا في الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا والقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول.
فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك وسمي أنس: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن ربّ
__________
(1) تفسير الطبري: 4/ 150.
(2) السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 602، السيرة النبوية- ابن كثير-: 3/ 69، ولم يرد البيت الأخير في المصادر.
(3) أثبتناه من المصادر، وما في الأصل هكذا:
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
يحيا بأمر الله ليس كما تقول ... فالى حلفه بالله إني
سأقتله فكان هو القتيل ... فابكوا يا بني خلف جميعا
رجالا كلهم رجس ضلول ... وقد قتلت بنو النجار
منكم أمية إذ يغوث [يا عقيل] ... وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا
أبا جهل لأمهما الهبول
(4) السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 602، السيرة النبوية لابن كثير: 3/ 69.(3/176)
محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء يعني المسلمين، وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل، ثم إن رسول الله انطلق إلى الصخرة وهو يدعوا الناس، فأول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كعب بن مالك فقال: عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله، فأشار إليّ أن اسكت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي على الفرار فقالوا: يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فأنزل الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ومحمد هو المستغرق بجميع المحامد، لأن الحمد لا يستوجبه إلّا الكامل، والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه إلّا المستولي على الأمد في الكمال، وأكرم الله عزّ وجلّ نبيّه وصفيّه باسمين مشتقين من اسمه تعالى: محمد وأحمد، وفيه يقول حسان بن ثابت:
ألم تر أن الله أرسل عبده ببرهانه ... والله أعلى وأمجد
قد شق له من اسمه ليجله ... فذو العيش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة من الدين ... والأوثان في الأرض تعبد
فأرسله ضوءا منيرا وهاديا ... يلوح كما لاح الصقيل المهنّد «1»
روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألم تروا كيف صرف الله عني لعن قريش وشتمهم يسبون مذمّما وأنا محمد» [159] «2» .
وروى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سمّيتم الولد محمدا فأكرموه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجها فما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلّا خيرا لهم وما من مائدة وضعت فحضرها من اسمه أحمد أو محمد إلّا قدّس في كل يوم ذلك المنزل مرتين» «3» [160] .
وعن حميد الطويل قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الرجل: إنما أدعوا ذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي» «4» [161] .
وروى محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجمعوا بين
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 2/ 403.
(2) مسند أحمد: 2/ 340.
(3) تفسير مجمع البيان: 2/ 407.
(4) مسند أحمد: 2/ 248.(3/177)
اسمي وكنيتي أنا أبو القاسم الله يعطي وأنا أقسم» «1» ثم رخص في ذلك لعلي وابنه» [162] .
وروى ليث عن محمد بن بشير عن محمد بن الحنفية عن علي (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ولد لك غلام نحلته اسمي وكنيتي» «2» [163] .
أَفَإِنْ ماتَ على فراشه أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ رجعتم إلى دينكم الأول الكفر وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فيرتد عن دينه فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بارتداده وإنما يضر نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ المؤمنين.
روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي، وأن رسول الله والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربّه، كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات قال: فأقبل أبو بكر (رضي الله عنه) حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلّم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت عائشة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجّى ببردة خيبر، فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبّله ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتبها الله عزّ وجلّ عليك فقد ذقتها ثم لم تصبك بعدها موتة أبدا، ثم ردّ الثوب على وجهه ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: على رسلك يا عمر فأنصت قال: فأبى إلّا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. فقال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى تلاها أبو بكر يومئذ، قال: فأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم.
قال أبو هريرة: قال عمر: والله ما هو إلّا أن سمعت أن أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله قد مات.
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني وما ينبغي لنفس أن تموت.
وقال الأخفش: اللام في قوله: (لِنَفْسٍ) مقتولة تقديره: ما كانت نفس لتموت (إلّا بإذن الله) بعلم الله، وقيل: بأمره.
__________
(1) صحيح ابن حبان: 13/ 134، كنز العمال: 16/ 428، ح 45264.
(2) الطبقات الكبرى: 5/ 92، تاريخ دمشق: 54/ 327.(3/178)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
كِتاباً مُؤَجَّلًا يعني أنّ لكل نفس أجلا هو بالغه ورزقا مستوفيه، لا يقدر أحد على تقديمه وتأخيره.
قال مقاتل: من اللوح المحفوظ، ونصب الكتاب على المصدر يعني: كتب الله كتابا مؤجلا، كقوله: رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ «1» وصُنْعَ اللَّهِ وكِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وقيل: هو إغراء أي: آمنوا بالقدر المقدور.
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها يعني ومن يرد بطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاء لعمله، ونظيرها قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ «2» الآية.
وقال أهل المعاني: الآية مجملة ومعناها: نؤته من نشاء ما قدرناه له، دليله قوله عزّ وجلّ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ «3» نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد طلبا للغنيمة.
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها يعني الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أي الموحدين المطيعين. والقراءة بالنون لقوله تعالى: نُؤْتِهِ مِنْها.
قرأ الأعمش: وسيجزي بالياء، يعني الله سبحانه.
وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» «4» [164] .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 146 الى 155]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
__________
(1) سورة الإسراء: 28.
(2) سورة الشورى: 20.
(3) سورة الإسراء: 18. [.....]
(4) صحيح ابن حبان: 2/ 113.(3/179)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ. قرأ الحسن وأبو جعفر: (كاين) مقصورا بغير همزة ولا تشديد حيث وقع.
وقرأ مجاهد وابن كثير وشيبة: (وكأين) مهموزا ممدودا مخففا على وزن فاعل، وهو اختيار أبي عبيد، اعتبارا بقول أبي بن كعب لزر بن حبيش: (كاين) بعد سورة الأحزاب. فقال:
كذا آية.
وقرأ ابن محيصن: (كأي) ممدودا بغير نون.
وقرأ الباقون: (وَكَأَيِّنْ) مشدودا بوزن كعيّن، وهي لغة قريش واختيار أبي حاتم، وكلها لغات معروفة بمعنى واحد.
وأنشد المفضل:
وكائن ترى في الحي من ذي صداقة ... وغيران يدعو ويله من حذاريا «1»
وقال في التشديد:
كأين من أناس لم يزالوا ... أخوهم فوقهم وهم كرام «2»
وجمع الآخر بين اللغتين، فقال:
كأين أبدنا من عدوّ يغزنا ... وكأين أجرنا من ضعيف وخائف «3»
ومعناه كم، وهي كاف التشبيه ضمت إلى أي الاستفهام، ولم يقع التنوين صورة في الخط إلّا في هذا الحرف خاصة.
__________
(1) معجم البلدان: 4/ 373 ونسبه لجرير.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 228.
(3) تفسير القرطبي: 4/ 229.(3/180)
قتل. قرأ قتادة وابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب (قتل) : وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي حاتم.
وقرأ الآخرون: (قاتَلَ) ، وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد، فمن قرأ (قاتَلَ) فلقوله:
فَما وَهَنُوا ويستحيل وصفهم بأنهم لم يهنوا بعد ما قتلوا، ولقول سعيد بن جبير: ما سمعنا أن نبيا قط قتل في القتال.
وقال أبو عبيد: إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه، وإذا حمد من قتل خاصة لم يدخل فيه غيرهم، فقاتل أعم.
ومن قرأ (قتل) فله ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون القتل واقعا على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قراءة (قتل) فيكون في الآية إضمار معناه ومعه رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ كما يقال: قتل الأمير معه جيش عظيم، أي ومعه، ويقول: خرجت معي تجارة، أي ومعي.
والوجه الثاني: أن يكون القتل نال النبي ومعه من الربيين، ويكون وجه الكلام: قتل بعض من كان معه، تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني فلان، وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله: فَما وَهَنُوا راجعا إلى الباقين الذين لم يقتلوا.
والوجه الثالث: أن يكون القتل للربيين لا غير.
رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، قرأ ابن مسعود وأبو رجاء والحسن وعكرمة: (رُبِّيُّونَ) بضم الراء، وهي لغة بني تميم.
الباقون: بالكسر، وهي اللغة الفاشية [العالية] .
والربيون جمع الربّية وهي الفرقة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع.
السدي: جموع كثير.
قال حسان:
وإذا معشر تجافوا عن الحق ... حملنا عليهم ربيا «1»
ابن مسعود: الربيون الألوف، الضحاك: الربية الواحدة ألف، الكلبي: الربية الواحدة عشر ألف، الحسن: فقها علما صبرا، ابن زيد: هم الأتباع، والرابيون: هم الولاة، والربيون:
الرعية، وقال بعضهم: هم الذين يعبدون الرب، والعرب تنسب الشيء إلى الشيء فيغير حركته
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 230، الدر المنثور: 2/ 82.(3/181)
كما يقول بصريّ منسوب إلى بصرة، فكذلك رِبِّيُّونَ منسوب إلى الربّ، وقال بعضهم: مطيعون منيبون إلى الله فَما وَهَنُوا.
قرأه العامة: بفتح الهاء، وقرأ قعنب أبو السماك العدوي: بكسر الهاء، فمن فتحه فهو من وهن يهن وهنا، مثل وعد يعد وعدا، قاله المبرد وأنشد:
إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو جلد وبطش أيد
عزّت ولم تكسر وإن هي بددت ... قالوهن والتكسير للمتبدد «1»
ومن كسر فهو من وهن يهن، مثل ورم يرم قاله أبو حاتم.
فقال الكسائي: هو من وهن يوهن وهنا، مثل وجل يوجل وجلا.
قال الشاعر:
طلب المعاش مفرق بين الأحبة والوطن ... ومصير جلد الرجال إلى الضّراعة والوهن «2»
ومعنى الآية: ف ما ضَعُفُوا عن الجهاد لما نالهم من ألم الجراح، وقيل: الأصحاب وما عجزوا لقتل نبيّهم.
قال قتادة والربيع: يعني ما ارتدّوا عن بصيرتهم ودينهم، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بالله، السدي: وما ذلّوا، عطاء: وما تضرّعوا، مقاتل: وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم، أبو العالية: وما جبنوا، المفضل والقتيبي: وما خشعوا، ومنه أخذ المسكين لذله وخضوعه وهو مفعيل منه، مثل معطير من العطر ومنديل من الندل، وهو دفعه من واحد إلى آخر، وأصل الندل السوق، ولكنهم صبروا على أمر ربّهم وطاعة نبيّهم وجهاد عدوهم.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَما كانَ قَوْلَهُمْ.
قرأ الحسن وابن أبي إسحاق: (قَوْلُهُمْ) بالرفع على اسم كان وخبره في قوله: أَنْ قالُوا.
وقرأ الباقون: بالنصب على خبر كان والاسم في أن، قالوا تقديره: وما كان قولهم إلّا قولهم كقوله: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ «3» وما كانَ حُجَّتَهُمْ «4» ونحوهما، ومعنى الآية: وَما كانَ قَوْلَهُمْ عند قتل نبيّهم إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا يعني خطايانا الكبار، وأصله مجاوزة الحد وَثَبِّتْ أَقْدامَنا كيلا تزول وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد فَآتاهُمُ اللَّهُ، وقرأ الجحدري: فأثابهم الله من
__________
(1) تفسير الطبري: 1/ 568، شرح نهج البلاغة: 17/ 7.
(2) تاريخ مدينة دمشق: 49/ 133.
(3) سورة الأعراف: 82.
(4) سورة الجاثية: 25.(3/182)
الثواب، ثَوابَ الدُّنْيا النصرة والغنيمة وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ الأجر والجنة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود والنصارى،
فقال علي (رضي الله عنه) : يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم
، يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ يرجعوكم إلى أول أمركم الشرك بالله تعالى فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ فتنقلبوا مغبونين ثم قال بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم وحافظكم على دينكم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. سَنُلْقِي.
قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنّهم ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، قتلناهم حتى لم يبق منهم إلّا الشريد وتركناهم رجعوا. فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عمّا همّوا به.
وستأتي هذه القصة بتمامها إن شاء الله وما نزّل الله تعالى فيها.
سَنُلْقِي قرأ أيوب السختياني: سيلقي بالياء يعني الله عزّ وجلّ لقوله: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ، قرأ الباقون: بالنون على التعظيم أي سنقذف، فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الخوف وثقل عينه، أبو جعفر وابن عامر والكسائي ويعقوب، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وخففها الآخرون.
بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ هو (ما) المصدر، تقديره باشراكهم بالله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً حجة وبيانا وعذرا وبرهانا، ثم أخبر عن مصيرهم فقال: وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ مقام الكافرين.
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ،
قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، وقد أصابهم ما أصابهم بأحد، فقال ناس من أصحابه: من أين أصابنا وقد وعدنا بالنصر، فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ الذي وعد بالنصر والظفر، وهو قوله: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا الآية، وقول رسول الله للرماة: «لا تبرحوا مكانكم فإنا لا نزل غالبين ما ثبتم»
«1» [165] ، والصدق يتعدى إلى مفعولين كالمنع والغصب ونحوهما، إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ وذلك
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل حنين وهو جبل عن يساره، وأقام عليه الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم: «احموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا» «2» [166] .
وأقبلوا المشركون وأخذوا في القتال، فجعل الرماة يرشفون بالنبل والمسلمون يضربونهم
__________
(1) تفسير الطبري: 4/ 149. بتفاوت.
(2) مسند أحمد: 1/ 287.(3/183)
بالسيف حتى ولوا هاربين وانكشفوا منهزمين، فذلك قوله: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ أي تقتلونهم قتلا ذريعا سريعا شديدا.
قال الشاعر:
حسسناهم بالسيف حسّا فأصبحت ... بقيتهم قد شردوا وتبددوا «1»
وقال أبو عبيدة: الحس الاستيصال بالقتل، يقال: جراد محسوس إذا قتله البرد، وسنة حسوس إذا أتت على كل شيء.
قال روبة:
إذا شكونا سنة حسوسا ... تأكل بعد الأخضر اليبيسا «2»
حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ، قال بعض أهل المعاني: يعني إلى أن فشلتم، جعلوا (حَتَّى) غاية بمعنى إلى، وحينئذ لا جواب له.
وقال الآخرون: هو بمعنى فلما وفي الكلام تقديم وتأخير قالوا: وفي قوله: وَتَنازَعْتُمْ مقحمة زائدة، ونظم الآية: حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم وفشلتم أي جبنتم وضعفتم، ومعنى التنازع الاختلاف، وأصله من نزع القوم الشيء بعضهم من بعض،
وكان اختلافهم أن الرماة تكلموا حين هزم المشركون وقالوا: انهزم القوم فما مقامنا، وقال بعضهم: لا تجاوزوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة وانطلق الباقون ينهبون، فلما نظر خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل إلى ذلك، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريح فصارت دبورا بعد ما كانت صبا، وانتفضت صفوف المسلمين، فاختلطوا وجعلوا يقتتلون على غير شعار، فقتل بعضهم بعضا وما يشعرون من الدهش، ونادى إبليس ألا إن محمدا قد قتل، وكان ذلك سبب هزيمة المؤمنين.
مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ يا معشر المؤمنين ما تحبون هو الظفر والغنيمة مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يعني الذين تركوا المركز فاقبلوا إلى النهب وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يعني الذين ثبتوا مع ابن جبير حتى قتلوا.
وقال عبد الله بن مسعود: ما شعرت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد فنزلت هذه الآية ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي ردّكم عنهم بالهزيمة لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، قاله أكثر المفسرين، ونظيره: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ «3» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 235.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 235، لسان العرب: 2/ 44.
(3) سورة البقرة: 52. [.....](3/184)
وقال الكلبي: يعني تجاوز عنكم فلم يؤاخذكم بذنبكم.
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ يعني ولقد عفونا عنكم إذ تصعدون هاربين.
قرأه العامة: (تُصْعِدُونَ) بضم التاء وكسر العين.
وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن والحسن وقتادة بفتح التاء.
وقرأ ابن محيصن وشبل: إذ يصعدون ويلوون بالياء، يعني المؤمنين. ثم رجع إلى الخطاب فقال وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ على البلوى.
قال أبو حاتم: يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره، والإصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدّرج، قال المبرد: أصعد إذا أبعد في الذهاب.
قال الأعشى:
إلّا أيهذا السائلي أين أصعدت ... فإنّ لها من بطن يثرب موعدا «1»
وقال الفراء: الإصعاد الابتداء في كل سفر والانحدار والرجوع منه يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك، إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر وانحدرنا إذا رجعنا.
وأنشد أبو عبيدة:
لقد كنت تبكين على الإصعاد ... فاليوم سرحت وصاح الحادي «2»
ودليل قراءة العامة
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للمنهزمين: «لقد ذهبتم فيها عريضة» «3» [167] .
وقرأ أبي بن كعب: إذ تصعدون في الوادي، ودليل فتح التاء والعين ما روى أنهم صعدوا في الجبل هاربين وكلتا القراءتين صواب، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد. وقال المفضل: صعد وأصعد وصعّد بمعنى واحد.
ولا يلوون على أحد يعني ولا يعرجون ولا يقيمون على أحد منكم، لا يلتفت بعض إلى بعض هربا.
وقرأ الحسن: ولا يلون بواو واحدة اتباعا للخط، كقولك: استحببت واستحبت على أحد.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 239.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 239.
(3) تفسير القرطبي: 4/ 194.(3/185)
قال الكلبي: يعني على محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي في آخركم ومن ورائكم إليّ عباد الله فأنا رسول الله من بكّر فله الجنة، يقال: جاء فلان في آخر الناس وآخرة الناس وأقرى الناس وأخراة الناس وأخريات الناس، فجاز لكم جعل الإنابة بمعنى العقاب وأصلها في الحسنات كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» .
قال الشاعر:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا»
يعني بالسود: القيود والسياط وكذلك معنى الآية، جعل مكان الثواب الذي كنتم ترمون غمّا بغمّ.
قال الحسن: يعني بغم المشركين يوم بدر.
وقال آخرون: الباء بمعنى على، أي غمّا على غمّ، وقيل: غَمًّا بِغَمٍّ، فالغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والغم الثاني ما نالهم من القتل والهزيمة، وقيل: الغم الأول انحراف خالد ابن الوليد عليهم بخيل من المشركين، والغم الثاني حين أشرف عليهم أبو سفيان، وذلك
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه فأراد أن يرميه فقال: «أنا رسول الله» [168] ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفرح النبي حين رأى في أصحابه من يمتنع، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب، ثم أشرف عليهم، فلما نظر المسلمون إليهم، همّهم ذلك وظنّوا أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم، فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض» [169] ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم فنزلوا سريعا «3» .
لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الفتح والغنيمة وَلا ما أَصابَكُمْ (ما) في موضع خفض أي: ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة حين أنساكم ذلك هذا الغم، وهمّكم ما أنتم فيه غما قد أصابكم قبل.
فقال الفضل: (لا) صلة معناه: لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم في خلافكم إياه، وترككم المركز كقوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «4» .
__________
(1) سورة الإنشقاق: 24.
(2) الصحاح: 1/ 305، لسان العرب: 2/ 232.
(3) تاريخ الطبري: 2/ 201- 202.
(4) سورة الحديد: 29.(3/186)
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ،
روى عبد الله بن الزبير بن العوام عن أبيه قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين اشتد علينا الخوف أرسل الله علينا النوم، والله لا نسمع قول مصعب بن عمير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلّا كالحلم يقول: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا
، فأنزل الله تعالى ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ يا معشر المؤمنين وأهل اليقين، أَمَنَةً يعني أمنا، وهي مصدر كالعظمة والغلبة، وقرأ ابن محيصن: أَمْنَةً بسكون الميم.
نُعاساً بدل من الأمنة يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، قرأ ابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (تغشي) بالتاء ردا إلى الأمنة، وقرأ الباقون: بالياء ردا إلى النعاس، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال أبو عبيد: لأن النعاس يلي الفعل، فالتذكير أولى به ممّا بعد منّه.
قال ابن عباس: آمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم بعد فرق، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام، ونظيره في سورة الأنفال في قصة بدر.
روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلّا وهو يميد تحت جحفته من النعاس.
قال أبو طلحة: وكنت ممّن ألقي عليه النعاس يومئذ، وكان السيف يسقط من يدي فآخذه، ثم يسقط السوط من يدي من النوم فآخذه.
وَطائِفَةٌ يعني المنافقين، وهب بن قشير وأصحابه، وهو رفع على الابتداء وخبرها في قوله: يَظُنُّونَ ... قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي حملتهم على الهمّ، يقال: أمر مهم، ومنه قول العرب: همّك ما أهمّك.
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي لا ينصر محمدا، وقيل: ظنوا أن محمدا قد قتل ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي كظن أهل الجاهلية والشرك يَقُولُونَ هَلْ لَنا أي ما لنا، لفظ استفهام ومعناه هل مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ يعني النصر قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ.
قرأ أبو عمرو ويعقوب: (كُلُّهُ) على الرفع بالابتداء وخبره في قوله: لِلَّهِ وصار هذا الابتداء والجملة خبرا لإنّ، كما يقول: إن عبد الله وجهه حسن، فيكون عبد الله مبتدأ ووجهه ابتداء ثانيا وحسن خبره، وجملة الكلام خبر للابتداء الأول.
وقرأ الباقون: (كُلَّهُ) بالنصب على البدل، وقيل: على النعت.
وروى مجاهد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يعني به التكذيب بالقدر، وذلك أنّهم يظنوا في القدر، فقال الله عزّ وجلّ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يعني القدر خيره وشرّه من الله وهو قولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا(3/187)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
هاهُنا
وذلك أنّ المنافقين قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولمّا قتل رؤساؤنا، فقال الله: قل لهم: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ لخرج.
وقال ابن أبي حيوة: (لَبُرِّزَ) بضم الباء وتشديد الراء على الفعل المجهول.
الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ، قرأ قتادة: القتال إِلى مَضاجِعِهِمْ مصارعهم، وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ليختبر الله ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ يخرج ويطهّر ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في القلوب من خير أو شر إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا انهزموا مِنْكُمْ يا معشر المؤمنين يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين والمشركين إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ.
قال المفضل: حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلّة وهي الخطيئة.
وقال القتيبي: طلب زلتهم، كما يقال: استعجلت عليها، أي طلبت عجلته، واستعجلته طلبت عمله، وقيل: أزل واستزل بمعنى واحد.
وقال الكلبي: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ حينما كسبوا، أي بشؤم ذنوبهم، قال المفسرون:
بتركهم المراكز، وقال الحسن: ما كَسَبُوا قبولهم من إبليس وما وسوس إليهم من الهزيمة.
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
وروى إبراهيم بن إسحاق الزهري، أن جعفر بن عون حدثهم أن زائدة حدثهم عن كليب ابن وائل قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان أكان شهد بدرا؟ قال: لا، قال: أكان شهد بيعة الرضوان؟ قال: لا، قال: أفكان من الذين تولّوا يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ؟ قال: نعم، فقيل له: إن هذا يرى أنك قد عبته، فقال: عليّ به، أمّا بدر فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ضرب له بسهمه، وأما بيعة الرضوان فقد بايع [له] «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير من يد عثمان، وأما الذين تولوا يوم التقى الجمعان [فإن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] فاذهب فاجهد عليّ جهدك «2» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 168]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 7/ 490 وما بين المعكوفتين بياض في المخطوط استدركناه منه.(3/188)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ في النفاق، وقيل: في النسب إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ ساروا وسافروا فيها لتجارة أو غيرها أَوْ كانُوا غُزًّى غزاة فقتلوا، والغزي جمع منقوص لا يتغير لفظها في رفع وخفض ونصب، وأحدها غاز مثل قائم وقوم، وصائم وصوم، وشاهد وشهد وقائل وقول، ومن الناقص مثل هاب وهبي وعاف وعفي.
لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً يعني قولهم وظنهم حزنا فِي قُلُوبِهِمْ والحسرة الاغتمام على فائت كان تقدر بلوغه.
قال الشاعر:
فوا حسرتي لم أقض منهما لبانتي ... ولم أتمتع بالجوار وبالقرب «1»
ثم أخبر أن الموت والحياة إلى الله لا يتقدمان لسفر ولا يتأخران لحضر فقال: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
قرأ ابن كثير وطلحة والأعمش والحسن وشبل وحمزة والكسائي وخلف: (يعملون) بالياء، الباقون: بالتاء.
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ.
قرأ نافع وأكثر أهل الكوفة ما كان من هذا الباب: بكسر الميم، وقرأ الآخرون: بالضم، فمن ضمّه فهو من قال: يموت كقولك من كان يكون كنت، ومن قال يقول قلت، ومن كسر فهو من مات يمات متّ كقولك من خاف يخاف خفت ومن هاب يهاب هبت.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 247.(3/189)
لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ في العاقبة وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الغنائم.
قرأه العامة: (تجمعون) بالتاء لقوله: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ ... أَوْ مُتُّمْ، وقرأ حفص: بالياء على الخبر عن الغالبين، يعني خير ممّا يجمع الناس من الأموال.
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ ... أَوْ مُتُّمْ ... لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ في العاقبة فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي فبرحمة من الله (ما) صلة كقوله عزّ وجلّ: فَبِما نَقْضِهِمْ «1» وعَمَّا قَلِيلٍ «2» وجُنْدٌ ما هُنالِكَ «3» .
وقال بعضهم: يحتمل لأن تكون (ما) استفهاما للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم أي سهّلت لهم أخلاقك وكثر احتمالك، ولم يسرع إليهم فيما كان منهم يوم أحد.
يقال: لآن له يلين لينا وليانا إذا رقّ له وحسن خلقه.
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا يعني جافيا سيء الخلق قاسي القلب قليل الاحتمال، يقال: فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ، والأنثى فظة، والجمع فظاظ.
وأنشد المفضل:
وليس بفظ في الأداني والاولى ... يؤمون جدواه ولكنه سهل «4»
وقال آخر:
أموت من الضر في منزلي ... وغيري يموت من الكظة
ودنيا تجود على الجاهلين ... وهي على ذي النهى فظة «5»
غَلِيظَ الْقَلْبِ، قال الكلبي: فَظًّا في القول غَلِيظَ الْقَلْبِ في الفعل.
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لنفروا وتفرقوا عنك يقال: فضضتهم وانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا.
قال أبو النجم يصف إبلا:
مستعجلات القبض غير جرد ... ينفض عنهنّ الحصى بالصّمد «6»
وأصل الفض الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك، قال أهل الإشارة في هذه الآية:
منه العطاء ومنه الثناء.
__________
(1) سورة المائدة: 13.
(2) سورة المؤمنون: 40.
(3) سورة ص: 11.
(4) تفسير القرطبي: 4/ 249. [.....]
(5) تفسير القرطبي: 4/ 248، والكظة: البطنة.
(6) تفسير القرطبي: 4/ 249.(3/190)
فَاعْفُ عَنْهُمْ تجاوز عنهم ما أتوا يوم أحد وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ حتي أشفعك فيهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي استخرج آراءهم فأعلم ما عندهم، وهو مأخوذ من قول العرب:
وشرت الدابة وشورته، إذا استخرجت جريه وأعلمت خبره وتفنن لما يظهر من حالها مستورا، وللموضع الذي يشور فيه أيضا يتولد، وقد يكون أيضا من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشار ومشتار إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه.
وقال عدي بن زيد:
في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ماذي مشار «1»
واختلف العلماء في المعنى الذي لأجله أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه وتتابع الوحي عليه ووجوب طاعته على أمته بما أحبوا وكرهوا.
فقال بعضهم: هو خاص في المعنى وإن كان عاما في بعض اللفظ، ومعنى الآية:
وشاورهم فيما يسر عندك فيه من الله عهد، ويدل عليه قراءة ابن عباس: وشاورهم في بعض الأمر.
قال الكلبي: يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكان الحرب عند الغزو.
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شقّ عليهم، فأمر الله النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يشاورهم في الأمر الذي يريده، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم وأطيب لأنفسهم، وإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم وأن القوم إذا عزموا وأرادوا بذلك وجه الله تعالى عزم الله لهم على الأرشد.
قال الشافعي (رضي الله عنه) : ونظير هذا
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البكر تستأمر في نفسها» «2»
[170] إنما أمرنا استئذآنها لاستطابة نفسها وإنها لو كرهت كان للأب أن يزوجها.
وكمشاورة إبراهيم (عليه السلام) ابنه حين أمر بذبحه.
وقال الحسن: قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستنّ به من بعده، ودليل هذا التأويل ما
روى أبو حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما شقي عبد قط بمشورة وما سعد باستغناء برأي»
«3» [171] ، يقول الله عزّ وجلّ:
__________
(1) كتاب العين: 6/ 280.
(2) مسند أحمد: 1/ 219.
(3) مسند الشهاب: 2/ 6.(3/191)
وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فبالله وكتابه ورسوله غنى عن المشورة، ولكن الله عزّ وجلّ أراد أن تكون بيّنة فلا يبرم أمر الدين والدنيا حتى تشاوروا، وقد أثنى الله على [أهل] المشاورة فقال: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ «1» .
روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم ولم يكن أمركم شورى بينكم فبطن الأرض خير من ظهرها» «2» [172] .
أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني عمي:
إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه
وإن ناب أمر عليك التوى ... فشاور لبيبا ولا تعصه
ونص الحديث إلى أهله ... فإن الوثيقة في نصه
إذا المرء أضمر خوف الإله ... تبين ذلك في شخصه «3»
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن المنذر الضرير، قال أبو سلمة المؤدب:
شاور صديقك في الخفي المشكل ... واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذلك نبيّه ... في قوله شاورهم وتوكل «4»
فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لا على مشاورتهم.
وقرأ جعفر الصادق (رضي الله عنه) وجابر بن زيد: (فَإِذا عَزَمْتُ) بضم التاء أي عزمت لك ووفقتك وأنشدتك فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
، والتوكل التفعل من الوكالة يقال: وكّلت الأمر إلى فلان فتوكل أي ضمنه وقام به، فمعنى قوله: (توكل) أي قم بأمر الله وثق به واستعنه.
فصل في التوكل
اختلفت عبارات العلماء في معنى التوكل وحقيقة المتوكل:
فقال سهل بن عبد الله رحمة الله عليه: أول مقام التوكل، أن يكون العبد بين يدي الله
__________
(1) سورة الشورى: 38.
(2) سنن الترمذي: 3/ 361، ح 2368.
(3) ورد أبياتا متناثرة في مصادر عدّة، راجع: تفسير القرطبي: 4/ 251، كشف الخفاء: 1/ 341، ترجمة 1091، نهج السعادة: 7/ 282.
(4) تفسير القرطبي: 4/ 250.(3/192)
كالميت بين يدي الغاسل، يقلّبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير، والمتوكل لا يسأل ولا يرد ولا يحبس.
أبو تراب النخشبي: التوكل الطمأنينة إلى الله عزّ وجلّ. بشر الحافي: الرضا، وعن ذي النون وقد قال له رجل: يا أبا الفيض ما التوكّل؟ قال: خلع الأرباب وقطع الأسباب. فقال:
زدني فيه حالة أخرى. فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية.
وقال إبراهيم الحواص: حقيقة التوكل إسقاط الخوف والرجاء ممّا سوى الله، ابن الفرجي: ردّ العيش لما يوم واحد وإسقاط غم غد، وعن علي الروذباري قال: مراعاة التوكل ثلاث درجات:
الأولى منها: إذا أعطى شكر وإذا منع صبر.
والثانية: المنع والإعطاء واحد.
والثالثة: المنع مع الشكر أحب إليه، لعلمه باختيار الله ذلك له.
وروى عن إبراهيم الخواص أنه قال: كنت في طريق مكة، فرأيت شخصا حسنا فقلت:
أجني أم إنسي؟ فقال: بل جنيّ. فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى مكة. قلت: بلا زاد؟ قال: نعم، فينا أيضا من يسافر على التوكل. فقلت له: ما التوكل؟ قال: الأخذ من الله.
ذو النون أيضا: هو انقطاع المطامع.
سهل أيضا: معرفة معطي أرزاق المخلوقين ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون السماء عنده كالصفر والأرض عنده كالحديد، لا ينزل من السماء مطر ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أن الله لا ينسى ما ضمن له من رزقه بين هذين.
وعن بعضهم: هو أن لا يعصي الله من أجل رزقه.
وقال آخر: حسبك من التوكل أن لا تطلب لنفسك ناصرا غير الله ولا لرزقك خازنا غيره ولا لعملك شاهدا غيره.
الجنيد (رحمه الله) : التوكل أن تقبل بالكلية على ربّك، وتعرض ممّن دونه.
النوري: هو أن يفني تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلا ومدبرا، قال الله عزّ وجلّ:
وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا «1» وقيل: هو اكتفاء العبد الذليل بالربّ الجليل، كاكتفاء الخليل بالخليل حين لم ينظر إلى عناية جبرئيل.
وقيل: هو السكون عن الحركات اعتمادا على خالق الأرض والسماوات.
__________
(1) سورة النساء: 81.(3/193)
وقيل لبهلول المجنون: متى يكون العبد متوكلا؟ قال: إذا كان النفس غريبا بين الخلق، والقلب قريبا إلى الحق.
وعن محمد بن عمران قال: قيل لحاتم الأصم: على ما بنيت أمرك هذا من التوكل؟ قال:
أربع خلال: علمت أن رزقي ليس يأكله غيري فلست أشغل به، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني بعين الله في كل حال فأنا مستحي منه.
وعن أبي موسى [الوبيلي] «1» قال: سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل فقال لي: لو أدخلت يدك في فم التنين حتى تبلغ الرسغ، لم تخف مع الله شيئا.
قال أبو موسى: [ذهبت] إلى أبي يزيد البسطامي: أسأله عن التوكل، فدخلت بسطام ودفعت عليه الباب فقال لي: يا أبا موسى ما كان لك في جواب عبد الرحمن من القناعة حتى تجيء وتسألني؟ فقلت: افتح الباب، فقال: لو زرتني لفتحت لك الباب، [وإذا] جاء الجواب من الباب فانصرف: لو أن الحيّة المطوقة بالعرش همّت بك لم تخف مع الله شيئا.
قال أبو موسى: فانصرفت حتى جئت إلى دبيل «2» فأقمت بها سنة، ثم اعتقدت الزيارة فخرجت إلى أبي يزيد فقال: زرتني مرحبا بالزائرين [لا] أخرجك، قال: فأقمت عنده شهرا لا يقع لي شيء إلّا أخبرني قبل أن أسأله فقلت له: يا أبا يزيد أخرج وأريد فائدة منك أخرج بها من عندك.
قال لي: اعلم أن فائدة المخلوقين ليست بفائدة، حدثتني أمّي أنها كانت حاملة بي وكانت إذا قدمت لها القصعة من حلال امتدت يدها وأكلت، وإذا قدمت من حرام جفت فلم تأكل، اجعلها فائدة وانصرف. فجعلتها فائدة وانصرفت.
وروى طاوس اليماني (رحمه الله) قال: رأيت أعرابيا قد جاء براحلة له فأبركها وعقلها، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إن هذه الراحلة وما عليها في ضمانك حتى أخرج إليها.
فخرج الأعرابي وقد أخذت الراحلة وما عليها، فرفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إنه ما سرق مني شيء وما سرق إلّا منك. فقال طاوس: فنحن كذلك مع الأعرابي إذا رأينا رجلا من رأس أبي قبيس يقود الراحلة بيده اليسرى ويمينه مقطوعة معلقة في عنقه، حتى جاء إلى الأعرابي وقال له: هاك راحلتك وما عليها. فقيل له: وما حالك؟ فقال: استقبلني فارس على فرس أشهب في رأس أبي قبيس فقال: يا سارق مدّ يدك فمددتها فوضعها على حجر ثم أخذ آخر فقطعها به وعلقها في عنقي وقال: انزل فرد الراحلة وما عليها إلى الأعرابي.
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) مدينة بأرمينية.(3/194)
وعن أبي تميم الحبشاني قال: سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا» «1» [173] .
روى محمد بن كعب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله عزّ وجلّ ومن سرّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق ممّا في يديه» «2» [174] .
وكان عمر (رضي الله عنه) يتمثل بهذين البيتين:
هوّن عليك فإن الأمور ... بأمر الإله مقاديرها
نفس ليأتيك مصروفها ... ولا عادك عنك مقدورها «3»
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ يعينكم الله من عدوكم فَلا غالِبَ لَكُمْ في يوم بدر وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ يترككم ولا ينصركم، والخذلان: القعود عن النصرة والاستسلام للهلكة والمكروه، ويقال للبقرة والظبية إذا تركت ولدها وتخلفت عنها: خذلت فهو خذول.
قال طرفة:
خذول تراعي ربربا بخميلة ... تناول أطراف البرير وترتدي «4»
وأنشد:
نظرت إليك بعين جارية ... خذلت صواحبها على طفل «5»
وقرأ أبو عبيد بن عمير: (وَإِنْ يُخْذِلْكُمْ) بضم الياء وكسر الذال، أي نجعلكم مخذولين ونحملكم على الخذلان والتخاذل كما فعلتم بأحد.
فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ الآية.
روى عكرمة ومقسم عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: أخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وروى جويبر بن الضحاك عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما وقع في يده غنائم هوازن يوم حنين غلّه رجل بإبرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
__________
(1) مسند أحمد: 1/ 30.
(2) مسند الشهاب: 1/ 234. [.....]
(3) كنز العمال: 16/ 157، ح 44194، بتفاوت.
(4) تفسير القرطبي: 4/ 254.
(5) تفسير القرطبي: 4/ 254.(3/195)
وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز، وطلبوا الغنيمة وقالوا:
نخشى أن يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: من أخذ شيئا فهو له، وأن لا يقسّم الغنائم كما لم يقسّم يوم بدر، فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟» قالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بل ظننتم أن نغل ولا نقسم» «1» [175] فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى بعضهم عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث طلائع فغنمت، فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يقسم للطلائع، فلما قدمت الطلائع قالوا: قسم الفيء ولم يقسم لنا، فنزلت هذه الآية.
قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على النبي (عليه السلام) وقد غلّ طوائف من أصحابه.
وفي بعض التفاسير: أن الأقوياء ألحّوا عليه يسألونه عن المغنم، فأنزل الله عزّ وجلّ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ فيعطي قوما ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسوية ولا يحرم أحدا.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: هذا في الوحي يقول: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ويكتم شيئا من وحي الله عزّ وجلّ رغبة أو رهبة أو مداهنة، وذلك أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وسب آلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
فأما التفسير فقرأ السلمي ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وعاصم: (يَغَلُّ) بفتح الياء وفتح الغين، وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيدة.
وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الغين وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي حاتم، فمعناه أن يخون، والمراد به الأمة.
وقال بعض أهل المعاني: اللام فيه منقولة، معناه: ما كان النبي ليغل، وما كان الله عزّ وجلّ أن يتخذ من ولد، أي ما كان الله ليتخذ من ولد.
وقال بعضهم: هذا من ألطف التعريض لها بأن [برأ ساحة] النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغلول، دلّ على أن الغلول في غيره، ونظيره قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «2» وهذا معنى قول السدي.
وقال المفضل: معناه ما كان يظن به ذلك ولا يشبهه ولا يليق به، فاحتج أهل هذه القراءة بقول ابن عباس: كيف لا يكون له أن يغل وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأنبياء يقتل
__________
(1) عون المعبود: 11/ 5.
(2) سورة سبأ: 24.(3/196)
ومن قرأ بضم الياء فله وجهان:
أحدهما: أن يكون من الغلول، أي ما كان النبي أن يغل، أي أن يخان، يعني أن تخونه أمّته.
والوجه الآخر: أن يكون من الإغلال، معناه ما كان لنبي أن يخون أو ينسب إلى الخيانة أو يوجد خائنا أو يدخل في جملة الخائنين، فيكون أغل وغلل بمعنى واحد، كقوله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ «1» وقوله: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «2» .
وقال المبرد: تقول العرب: أكفرت الرجل بمعنى جعلته كافرا ونسبته إلى الكفر وحملته عليه ووجدته كافرا ولحقته بالكافرين.
وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ، قال الكلبي: يمثل له ذلك الشيء في النار ثم يقال له: انزل فخذه، فينزل فيحمله على ظهره، فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم كلفه أن ينزل إليه فيخرجه فيفعل ذلك.
وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما خطيبا فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره وقال: «لا ألقينّ أحدكم يجيء على رقبته يوم القيامة بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألقينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول: يا رسول الله أغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألقينّ أحدكم بصامت يقول: يا رسول الله اغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألقينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة «3» يقول: يا رسول الله أغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألقينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخنق يقول: يا رسول الله أغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك» »
[176] .
وحدث سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل يقال له كركرة فمات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هو في النار» فوجدوا عليه عباءة قد غلّها «5» .
وحدث الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من الأزد يقال له أبو اللبيبة «6» على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي له، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) سورة الأنعام: 33.
(2) سورة الطارق: 17.
(3) الحمحمة: صوت الفرس دون الصهيل.
(4) صحيح البخاري: 4/ 37، تفسير الطبري: 4/ 211، ومصنف ابن أبي شيبة: 7/ 711.
(5) تاريخ دمشق: 4/ 279.
(6) في تفسير الطبري: 4/ 212 (ابن التبية) ، وفي السنن الكبرى: 4/ 158 (أبو اللبتية) .(3/197)
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال العامل يبعث فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي إليّ، أفلا يجلس في بيت أبيه أو أمّه وينظر ما يهدى إليه، والذي نفس محمد بيده لا يبعث أحد منكم فيأخذ منه شيئا إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة له خوار أو شاة يثغر- ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه فقال-: اللهم قد بلغت» «1» [177] .
وعن زيد بن خالد: أن رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم توفي يوم خيبر فذكروا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صلّوا على صاحبكم» فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: «إن صاحبكم غلّ في سبيل الله» ففتشنا متاعه لذلك، فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين «2» .
وعن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر فلم يغنم ذهبا ولا ورقا إلّا الثياب والمتاع قال: فتوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحو وادي القرى وقد أهدي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقال له مدعم فبينا مدعم يحطّ رجل رسول الله إذ جاءه سهم فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا» . فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «شراك من نار أو شراكان من نار» «3» [178] .
وعن عبيد الله بن عمير قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيجمعه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنّا أصبنا من الغنيمة فقال: «أسمعت قد نادى ثلاثا؟» قال: نعم، قال: «فما منعك أن تجيء به» فاعتذر إليه، فقال: «كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك» «4» .
وعن صالح بن محمد بن مائدة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد غلّ فسئل سالم عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا وجدتم الرجل قد غلّ فاحرقوا متاعه واضربوه» قال: فوجدنا في متاعه مصحفا، فسأل رجل سالما عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه «5» .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد حرقوا متاع الغال وضربوه وفي بعض الروايات ومنعوه سهمه.
وعن صالح بن محمد قال: غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر
__________
(1) مسند أحمد: 5/ 424، تفسير الطبري: 4/ 213.
(2) مسند أحمد: 4/ 114.
(3) تفسير الطبري: 4/ 213. [.....]
(4) سنن أبي داود: 1/ 615، ح 3712، صحيح ابن حبان: 11/ 197.
(5) الدر المنثور: 3/ 92.(3/198)
وعمر بن عبد العزيز فغلّ رجل متاعا، فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ولم يعطه سهمه أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ بترك الغلول كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ فغلّ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. هُمْ دَرَجاتٌ يعني ذو درجات عِنْدَ اللَّهِ.
وقال ابن عباس: يعني أن من اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ ومن باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ مختلف المنازل عند الله تعالى، فلمن اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ الكرامة والثواب العظيم، ولمن باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ المهانة والعذاب الأليم.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
قال بعضهم: لفظ الآية عام ومعناها خاص، إذ ليس حي من أحياء العرب إلّا وقد قلّدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس فيهم نسب إلّا بني تغلب، فإن الله طهّره منهم لما فيهم من دنس النصرانية إذ ثبتوا عليها، وبيان هذا التأويل قوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ «1» .
وقال الآخرون: (هو) أراد به المؤمنين كلهم، ومعنى قوله: مِنْ أَنْفُسِهِمْ بالإيمان والشفقة لا بالنسب كما يقول القائل: أنت نفسي، يدل عليه قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «2» الآية.
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ وقد كانوا من قبل بعثه، وهو رفع على الغاية لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. أَوَلَمَّا أوحين أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها ببدر، وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين قُلْتُمْ أَنَّى هذا من أين لنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا والوحي ينزل علينا وهم مشركون.
وروى عبيدة السلماني عن علي قال: جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أن يقدموا فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك للناس فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا، لا بل نأخذ فداءهم فنتقوى بها على قتال عدونا، منّا عدتهم فليس في ذلك ما نكره، قال: فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى يوم بدر «3»
، فمعنى قوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ على هذا التأويل أي: بأخذكم الفداء واختياركم القتل.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَما أَصابَكُمْ يا معشر المؤمنين يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ بأحد
__________
(1) سورة الجمعة: 2.
(2) سورة التوبة: 128.
(3) انظر: تفسير الطبري: 4/ 222.(3/199)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
من القتل والجرح والهزيمة والمصيبة فَبِإِذْنِ اللَّهِ بقضائه وقدره وعلمه وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليميّز، وقيل: ليرى، وقيل: لتعلموا أنتم أن الله عزّ وجلّ قد علم ما فيهم وأنتم لم تكونوا تعلمون ذلك وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأجل دين الله وطاعته أَوِ ادْفَعُوا عن أهلكم وبلدتكم وحريمكم.
وقال السدي والفراء وأبو عون الأنصاري: أي كثروا سواد المسلمين، ورابطوا إن لم تقاتلوا، كون ذلك دفعا وقمعا للعدو قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ وهم عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا عن أحد وكانوا ثلاثمائة، قال الله: هُمْ لِلْكُفْرِ أي إلى الكفر يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أي في الإيمان يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وذلك أنهم كانوا ينكرون الإيمان ويضمرون الكفر، فبيّن الله عزّ وجلّ نفاقهم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ. الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ في النسب لا في الدين، وهم بهذا واحد وَقَعَدُوا يعني وقعد هؤلاء القاعدون عن الجهاد لَوْ أَطاعُونا وانصرفوا عن محمد وقعدوا في بيوتهم ما قُتِلُوا قُلْ لهم يا محمد فَادْرَؤُا فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إن الحذر لا يغني عن القدر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 178]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً الآية.
قال بعضهم: نزلت هذه الآية في شهداء بدر، وكانوا أربعة عشر رجلا، ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، وقال آخرون: نزلت في شهداء أحد، وكانوا سبعين رجلا، أربعة من المهاجرين، حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار.
وروى ابن الزبير وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما أصيب(3/200)
إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تزور أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلمّا وجدوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم، ورأوا ما أعد الله تعالى لهم من الكرامة.
قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا، كي يرغبوا في الجهاد ولا ينكلوا عنه، فقال الله تعالى: أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم، ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً إلى قوله أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» [179] «1» .
قال قتادة والربيع: ذكر لنا أنّ رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يا ليتنا نعلم ما فعل بإخواننا الذين قتلوا يوم أحد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مسروق: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية فقال: جعل الله عزّ وجلّ أرواح شهداء أحد في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، قال: فأطلع الله تعالى عليهم اطلاعة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: ربّنا ألسنا نسرح في الجنة في أيّها شئنا، ثم اطلع عليهم الثانية فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟
فقالوا: ربّنا أليس فوق ما أعطيتنا شيئا إلّا أن نحب أن تعيدنا أحياء، ونرجع إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى فيك قال: لا. فقالوا: فتقرئ نبيّنا منّا السلام وتخبره بأن قد رضينا ورضي عنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال جابر بن عبد الله: قتل أبي يوم أحد وترك عليّ بنات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألّا أبشرك يا جابر» قلت: بلى يا نبي الله قال: «إنّ أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله وكلمه كلاما فقال: يا عبد الله سلني ما شئت قال: أسألك أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانيا، فقال: يا عبد الله إني قضيت أن لا أعيد خليقة إلى الدنيا. قال: يا ربّ فمن يبلّغ قومي ما أنا فيه من الكرامة. قال الله تعالى: أنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية» «2» [180] .
حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا ولها الدنيا وما فيها إلّا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى» «3» [181] .
وقال بعضهم: نزلت في شهداء بئر معونة، وكان سبب ذلك على ما
روى محمد بن
__________
(1) مسند أحمد: 1/ 266، سنن أبي داود: 1/ 566، ح 2520.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 268.
(3) مسند أحمد: 3/ 126.(3/201)
إسحاق بن يسار عن أبيه عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، وعبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنّة- وكان سيد بني عامر بن صعصعة- على رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة وأهدى إليه هدية، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقبلها وقال: «يا أبا براء أنا لا أقبل هدية مشرك فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك» [182] ثم عرض عليه، وأخبره بما له فيها وما وعد الله المؤمنين من الثواب، وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد وقال: يا محمد إن أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني أخشى عليهم أهل نجد» فقال أبو براء: أنا لهم جار. أي هم في جواري- فابعثهم ليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين، فيهم الحارث بن الضمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهير مولى أبي بكر، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد، فساروا حتى نزلوا بين معونة- وهي أرض بين أرض بني عامر- وحرة بني سليم، فلما نزلوها قال بعضهم لبعض: أيّكم يبلغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل هذا الماء؟ فقال حرام بن ملحان: أنا، فخرج بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبي عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء، فلما أتاهم حرام بن ملحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال حرام: يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم وإني أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر فزت وربّ الكعبة. ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا: لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا. فاستصرخ قبائل من بني سليم عصبة ورعيل وذكوان فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوهم في رجالهم، فلما رأوهم أخذوا السيوف ثم قاتلوهم حتى قتلوا من آخرهم إلّا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق، فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق «1» .
وكان في سرح القوم عمرو بن أميّة الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف، فلم ينبههما على مصاف أصحابهما إلّا الطير يحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذا الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا إليه فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو بن أميّة: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني
__________
(1) بطوله في عيون الأثر: 2/ 17.(3/202)
لا أرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمّه، فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فقال رسول الله:
«هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها متخوفا» [183] فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسببه وجواره، وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة.
وروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة: أن عامر بن الطفيل كان يقول: من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه، قالوا: هو عامر بن فهيرة «1» .
قالوا وقال حسان بن ثابت يحرض أبي براء على عامر بن الطفيل:
فتى أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
نهكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد «2»
وقال كعب بن مالك في ذلك.
لقد طارت شعاعا كل وجه ... خفارة ما أجار أبو براء
بني أم البنين أما سمعتم ... دعاء المستغيث مع النساء
وتنويه الصريخ بلى ولكن ... عرفتم أنه صدّق اللقاء «3»
فلما بلغ ربيعة من البراء قول حسان وقول كعب بن مالك، حمل على عامر بن الطفيل وطعنه فخر عن فرسه فقال: هذا عمل أبي براء، إن متّ فدمي لعمي ولأتبعنّ به وإن أعش فسأرى فيه الرأي. وقال إسحاق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك قال: أنزل الله تعالى في شهداء بئر معونة قرآنا بلّغوا قومنا عنا إنا قد لقينا ربّنا فرضي عنّا ورضينا عنه، ثم نسخت ورفعت بعد ما قرأناها زمانا وأنزل الله عزّ وجلّ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً الآية.
وقال بعضهم: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرورا تحسروا على الشهداء وقالوا: نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فأنزل الله عزّ وجلّ تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم وَلا تَحْسَبَنَّ ولا تظنن وروى هشام عن أهل الشام: (يحسبن)
__________
(1) بطوله في تاريخ الطبري: 2/ 221.
(2) تاريخ الطبري: 2/ 221.
(3) تاريخ الطبري: 2/ 221.(3/203)
بالياء. وقرأ الحسن وابن عامر: (الذين قتّلوا) مشددا، (أَمْواتاً) كموت من لم يقتل في سبيل الله، ونصب أَمْواتاً على المفعول الثاني، لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين، فإذا قلت: حسبت زيدا، لا يكون كلاما تاما حتى تقول: قائما أو قاعدا بَلْ أَحْياءٌ تقديره: بل هم أحياء.
وقرأ ابن أبي عبلة: أحياءً نصبا أي أحسبهم أحياء عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وقال بعضهم: يعني أحياء في الدنيا حقيقة «1» ، وقيل: [في العالم] وقيل: بالثناء والذكر، كما قيل:
موت التقي حياة لا فناء لها ... قد مات قوم وهم في الناس أحياء «2»
وقيل: ممّا هم أحياء.
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ويأكلون ويتنعمون كالأحياء، وقيل: إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة ويشتركون في فضل كل مجاهد يكون في الدنيا إلى يوم القيامة، لأنهم سلوا أمر الجهاد، فيرجع أجر من يقتدي بهم إليهم، نظيره قوله: كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً «3» الآية، وقيل: لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة، كأرواح الأحياء من المؤمنين الذين باتوا على الوضوء. وقيل: لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض.
يقال: أربعة لا تبلى أجسادهم: الأنبياء والعلماء والشهداء وحملة القرآن.
وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة: أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريين ثم السلميين، كانا قد خرّب السيل قبرهما وكانا في قبر واحد وهما من شهداء أحد، وكان قبرهما ممّا يلي السيل، فحفر عنهما ليغيّروا عن مكانهما فوجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكان قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين يوم أحد وبين يوم حفر عنهما ستة وأربعون سنة. وقيل: سمّوا أحياء لأنهم لا يغسّلون كما لا يغسل الأحياء.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «زمّلوهم في كلومهم ودمائهم، اللون لون الدم والريح ريح المسك» «4» [184] .
وقال عبيد بن عمر: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين انصرف يوم أحد مرّ على مصعب بن عمير
__________
(1) وهذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء والجبائي والرماني، راجع تفسير مجمع البيان: 1/ 437.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 269. [.....]
(3) سورة المائدة: 32.
(4) السير الكبير: 1/ 232، ح 294.(3/204)
وهو مقتول فوقف عليه ودعا ثم قرأ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا «1» الآية، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن رسول الله يشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم وسلّموا عليهم، فو الذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردّوا عليه، يُرْزَقُونَ من ثمار الجنة وتحفها» «2» [185] .
فَرِحِينَ نصب على الحال والقطع من قوله يُرْزَقُونَ.
وقرأ ابن السميقع: (فارحين) بالألف، وهما لغتان كالفره والفاره والحذر والحاذر والطمع والطامع والبخل والباخل.
بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من ثوابه وَيَسْتَبْشِرُونَ يفرحون، وأصله من البشرة، لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في بشرة وجهه بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على منهاجهم من الإيمان والجهاد، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا لحقوا بهم فصاروا من كرائم الله عزّ وجلّ إلى مثل ما صاروا هم إليهم، فهم لذلك مستبشرون.
وقال السدي: يؤتى الشهيد بكتاب فيه من تقدم عليه من إخوانه وأهله فيقال: تقدم فلان عليك يوم كذا وتقدم فلان يوم كذا، فيستبشر حين يقدم عليه كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا.
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني بأن لا خوف عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ يعني وبأن الله في محل الخفض على قوله: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ.
وقرأ الكسائي والفرّاء والمفضل ومحمد بن عيسى: (وَإِنَّ اللَّهَ) بكسر الألف على الاستثناء، ودليلهم قراءة ابن مسعود والله (لا يضيع أجر المؤمنين) .
قال الكلبي باسناده: إن العبد إذا لقى العدو في سبيل الله، فتح له باب من السماء وأطلعت عليه زوجتاه من الحور العين، فإذا أقبل على العدو يقاتلهم قالتا: اللهم وفقه وسدّده، وإذا أدبر عن العدو قالتا: اللهم أعف وتجاوز، فإذا قتل يباهي الله عزّ وجلّ به الملائكة فيقول لهم: انظروا إلى عبدي بذل نفسه ودمه ابتغاء مرضاتي، فتقول الملائكة: يا ربّ أفلا تذهب فتنصره على من يريد قتله؟ فيقول لهم: خلّوا عن عبدي، فقد سهر ونصب في طلب مرضاتي، أحبّ لقائي وأحببت لقاءه. فينزل إليه زوجتاه من الحور العين، ويأمر الله الملائكة أن يأتوه من آفاق الأرض، فيحبونه ويبشرونه بالجنة والكرامة من الله تعالى، فإذا فعلوا ذلك بعث الله إليهم:
__________
(1) سورة الأحزاب: 32.
(2) كنز العمال: 10/ 381، ح 29892.(3/205)
أن خلّوا بين عبدي وبين زوجته حتى يستريح، فتقول زوجتاه: لقد كنا إليك بالأشواق، ويقول لهما مثل ذلك.
وعن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: بينما علي بن أبي طالب يخطب الناس ويحثهم على الجهاد إذ قام إليه شاب وقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله؟
قال: كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ناقته العضباء ونحن منقلبون من غزوة، فسألته عمّا سألتني عنه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله تعالى لهم براءة من النار، فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله تعالى بهم الملائكة، فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحية من سلخها، يوكل عزّ وجلّ بكل رجل منهم أربعين ألف ملك يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ولا يعمل حسنة إلّا ضعفت له، وكتب له كل يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله عزّ وجلّ ألف سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، اليوم مثل عمر الدنيا، فإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم، فإذا برزوا لعدوّهم وأشرعت الأسنّة وفوّقت السهام وتقدم الرجل إلى الرجل حفّتهم الملائكة بأجنحتها ويدعون الله لهم بالنصرة والتثبت، ونادى مناد: الجنة تحت ظلال السيوف، فتكون الضربة والطعنة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف، وإذا زال الشهيد عن فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله تعالى إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة، وإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض: مرحبا بالروح الطيب التي أخرجت من البدن الطيب أبشر فإن لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ويقول الله تعالى: أنا خليفته في أهله، من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني، ويجعل الله روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث تشاء تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بالعرش، ويعطى الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس، سلوك كل غرفة ما بين صنعاء والشام يملأ نورها ما بين الخافقين، في كل غرفة سبعون بابا، على كل باب سبعون مصراعا من ذهب، وعلى كل باب سبعون غرفة مسبلة، وفي كل غرفة سبعون خيمة، في كل خيمة سبعون سريرا من ذهب قوائمها الدر والزبرجد، مزمولة بقضبان الزمرد، على كل سرير أربعون فراشا، غلظ كل فراش أربعون ذراعا، على كل فراش زوجة من الحور العين عُرُباً أَتْراباً» «1» .
فقال الشاب: يا أمير المؤمنين أخبرني عن العروبة؟ قال: «هي الغنجة الرضية المرضية الشهية، لها ألف وصيف وسبعون ألف وصيفة، صفر الحلي بيض الوجوه، عليهن تيجان اللؤلؤ،
__________
(1) سورة الواقعة: 37.(3/206)
على رقابهم المناديل، بأيديهم الأكواب والأباريق، وإذا كان يوم القيامة يخرج من قبره شاهرا سيفه تشخب أوداجه دما، اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك، يخطو في عرصة القيامة.
فو الذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم، ممّا يرون من بهائهم، حتى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها، ويشفع الرجل منهم في سبعين ألف من أهل بيته وجيرته، حتى أن الجارين يتخاصمان أيهما أقرب جوارا فيقعدون معي ومع إبراهيم على مائدة الخلد، فينظرون إلى الله في كل يوم بكرة وعشية» «1» .
وروى مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي: رجل كانت له صحبة قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يكفّر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوّج من الحور العين، ويؤمن الفزع الأكبر وعذاب القبر، ويحلّى بحلية الإيمان» «2»
[186] .
ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض غزواته فأتاه رجل أسود فقال: يا رسول الله إني أسود قبيح الوجه منتن الريح لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل فأين أنا؟ قال: «في الجنة» قال: فحمل عليهم فقاتل حتى قتل، قال: فجاء رسول الله (عليه السلام) حتى وقف على رأسه فقال: «لقد بيّض الله وجهك وطيّب ريحك وأكثر مالك» ثم قال:
«لقد رأيت زوجتيه من الحور العين في الجنة تنازعانه جبة له من صوف، ليدخلا بينه وبين جبته» «3» [187] .
أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يجد الشهيد من القتل في سبيل الله إلّا كما يجد أحدكم مسّ القرصة» «4» [188] .
وفي غير هذا الحديث: «عضة نملة أشد على الشهيد من مس السلاح» «5» [189] .
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله عبادا يصونهم عن القتل والزلازل والأسقام، يطيل أعمارهم في حسن العمل، ويحسن أرزاقهم ويحييهم في عافية ويقبض أرواحهم في عافية على الفرش، ويعطيهم منازل الشهداء» «6» [190] .
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآية، وذلك
أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا عن
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 2/ 444.
(2) المصنف- الكوفي-: 4/ 585.
(3) البداية والنهاية- ابن كثير-: 4/ 218. بتفاوت.
(4) مسند أحمد: 2/ 297.
(5) كنز العمال: 4/ 405.
(6) كنز العمال: 4/ 426. بتفاوت.(3/207)
المسلمين من أحد فبلغوا الروحاء، ندموا على انصرافهم وتلاوموا وقالوا: لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتى لم يبق منهم إلّا الشريد، تركتموهم ارجعوا فاستأصلوهم، فبلغ ذلك الخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأراد أن يذهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان، فقال: «ألا عصابة تشدد لأمر الله تطلب عدوها فإنها أنكأ للعدو وأبعد للسمع» فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجروح والقروح الذي أصابهم يوم أحد، ونادى منادي رسول الله: ألا لا يخرجن فيها أحد إلّا من حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال لي: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهم، ولست بالذي أؤثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتخلف على أخواتك، فتخلفته عليهن، فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج معه، وإنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرعبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم فينصرفوا، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا، حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثلاثة أميال.
وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت لعبد الله بن الزبير: يا ابن أختي أما والله إن أباك وجدّك يعني أبا بكر والزبير لمن الذين قال الله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ.
وروى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب: أن رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من بني عبد الأشهل كان شهد أحدا، قال: شهدت أحدا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذّن مؤذّن رسول الله بالخروج في طلب العدو قلنا: لا تفوتنا غزة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فو الله ما لنا دابة نركبها وما منّا إلّا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكنت أيسر جرحا من أخي وكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد، فمرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معبد الخزاعي بحمراء الأسد، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لقى أبا سفيان ومن معه بالروحاء، قد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: قد أصبنا جلّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرّن على بقيتهم فلنفرغن منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟
قال: محمد قد خرج في أصحابه بطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال:(3/208)
فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنأتي على بقيتهم. قال: فإني والله أنهاك عن ذلك فقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا.
قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا خرق معاذيل
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لمّا سمعوا برئيس غير مخذول
فقلت: وي لابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل
إني نذير لأهل السير ضاحية ... ولكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وحش قنابله ... وليس يوصف ما أثبت بالقيل
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومرّ به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟
قالوا: نريد المدينة نريد الميرة.
قال: فهل أنتم مبلّغون محمدا عني برسالة أرسلكم بها وأحمّل لكم إبلكم هذه زبيبا بسوق عكاظ إذا وافيتمونا؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه إنا قد أجمعنا إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. وانصرف أبو سفيان إلى مكة ومرّ الركب برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان.
فقال رسول الله وأصحابه: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الثالثة إلى المدينة وقد ظفر في وجهه بمعاوية بن المغيرة بن العاص وأبي غرة الجمحي
، هذا قول أكثر المفسرين.
وقال مجاهد وعكرمة: نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان قال يوم أحد حين أراد أن ينصرف: يا محمد موعدنا بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذلك بيننا وبينك إن شاء الله» [191] فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية من الظهران، ثم ألقى الله عزّ وجلّ الرعب في قلبه قبل الرجوع، فلقى نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان: يا نعيم إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى، وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلّا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلك جرأة، ولأن يكون الخلف من جهتهم أحبّ إليّ من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنّا في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يدي سهيل بن عمرو يضمنها.(3/209)
قال: فجاء سهيل فقال له نعيم: يا أبا يزيد أتضمن لي هذه الفرائض فانطلق إلى محمد واثبطه. قال: نعم، فخرج نعيم حتى قدم المدينة فوجد الناس يتجهزون بميعاد أبو سفيان، فقال:
أين تريدون؟ فقالوا: واعدنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها.
قال: بئس الرأي رأيتم، أتوكم في دياركم وقراكم فلم يفلت منكم إلّا شريد، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم، والله لا يفلت منكم أحد. فكره أصحاب رسول الله الخروج، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي» [192] فأما الجبان فرجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه حتى وافوا بدر الصغرى، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون: قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. يريدون أن يرعبوا المسلمين، فيقول المؤمنون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، حتى لقوا بدر. وهو ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام. فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببدر ينتظر أبا سفيان، وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة، فسماهم أهل مكة جيش السويق وقالوا: إنما خرجتم تشربون السويق، فلم يلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أحدا من المشركين ببدر، ووافوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوها وأصابوا الدرهم والدرهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين «1» . فذلك قوله تعالى:
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.
ومحل (الَّذِينَ) خفض على صفة المؤمنين تقديره وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ المستجيبين لله والرسول ومعنى الاستجابة: الاجابة والطاعة، نظيره قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي»
فليطيعوا لي مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ أي نالهم الجراح والكلوم، وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بطاعة رسول الله وإجابته إلى الغزو وَاتَّقَوْا معصيته وطاعته أَجْرٌ عَظِيمٌ ثواب كثير الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ومحل (الَّذِينَ) خفض أيضا مردود على الذين الأول، وأراد (بالناس) نعيم ابن مسعود في قول مجاهد ومقاتل وعكرمة والواقدي، وهو على هذا التأويل من العام الذي أريد به الخاص، نظيره قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ «3» يعني محمدا وحده، وقوله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «4» يريد الرجال وحده.
وقال ابن إسحاق وجماعة: يريد ب (الناس) الركب من عبد القيس وقد مضت قصتهم.
وقال السدي: لما تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه للمسير إلى ميعاد أبي سفيان، أتاهم
__________
(1) راجع: تفسير الطبري: 4/ 235- 236، وتاريخ الطبري: 2/ 212.
(2) سورة البقرة: 186.
(3) سورة النساء: 54. [.....]
(4) سورة غافر: 57.(3/210)
المنافقون وقالوا: نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم فعصيتمونا، وقد أتوكم في داركم وقاتلوكم وظفروا، فإن أتيتموهم في ديارهم لا يرجع أحد منكم. فقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وقيل: (الناس) ساروا الناس في هذه الآية هم المنافقون.
وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة، فسألهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أبي سفيان فقالوا: قد جمعوا لكم جموعا كثيرة فاجتنبوهم. فقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فأنزل الله تعالى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني أولئك القوم من بني هذيل إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان وأصحابه قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فخافوهم واحذروهم، فإنه لا طاقة لكم بهم فَزادَهُمْ ذلك إِيماناً يعني تصديقا ويقينا وقوة وجرأة.
ذكر بعض ما ورد في الأخبار في زيادة الإيمان ونقصانه
روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قلنا يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص؟ قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار» «1» [193] .
عطاء: إنما مجادلة أحدكم في الحق، فيكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربّهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار. قال: فيقولون: ربّنا إخواننا كانوا يصلّون معنا ويصومون معنا ويحجّون معنا فأدخلتهم النار. قال: فيقول: اذهبوا فأخرجوا من قد عرفتم منهم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى كعبيه، فيخرجونهم فيقولون: ربّنا قد أخرجنا من أمرتنا. قال: ثم يقول لهم: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم كان في قلبه وزن نصف دينار، حتى يقول فمن كان في قلبه ذرة «2» .
وعن سهل بن حنيف قال: سمعت أبا سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قميص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره» قالوا: فماذا أولت يا رسول الله؟ قال:
«الدين» «3» [194] .
وعن هذيل بن شرحبيل عن عمر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض أو بإيمان هذه الأمة لربح به» «4» [195] .
__________
(1) بحار الأنوار: 66/ 209.
(2) مسند أحمد: 3/ 94.
(3) مسند أحمد: 5/ 374، صحيح البخاري: 8/ 75.
(4) كنز العمال: 12/ 493، بنقص يسير.(3/211)
وعن ابن سابط قال: كان عبد الله بن رواحة يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول: تعالوا نؤمن ساعة تعالوا نزدد إيماننا، تعالوا نذكر الله تعالى، [تعالوا نذكره بطاعته لعله يذكرنا بمغفرته] «1» .
وعن عبد الله بن عمرو بن هند قال: قال علي كرم الله وجهه: إن الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت بياضا، حتى يبيضّ القلب كله، وإن النفاق يبدأ نقطة سوداء في القلب، وكلما ازداد النفاق ازدادت سوادا، حتى يسوّد القلب كله، والذي نفسي بيده لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض القلب ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود القلب.
وعن عمير بن حبيب بن خماشة قال: الإيمان يزيد وينقص. فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟
قال: إذا ذكرنا ربّنا وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيقنا فذلك نقصانه.
وعن محمد بن طلحة عن زبيد عن زر قال: كان عمر ممّا يأخذ الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: قم بنا نزدد إيمانا.
وعن محمد بن فضيل عن أبيه عن سماك عن إبراهيم عن علقمة أنه كان يقول لأصحابه:
امشوا بنا نزدد إيمانا.
وعن الحرث بن عمير عن أبي الدرداء قال: الإيمان يزيد وينقص.
وعن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: الإيمان يزداد وينقص.
الحرث بن الحصين عن أبي الدرداء قال: الإيمان يزداد وينقص.
أبو حذيفة: إن عمر بن عبد العزيز قال: الإيمان يزيد وينقص.
سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما نقصت أمانة عبد قط إلّا نقص من إيمانه.
وعن عثمان بن سعد الدارمي قال: سألت محمد بن كثير العبدي عن الإيمان فقال: هو قول وعمل يزيد وينقص، قلت: أكان سفيان يقوله؟ قال: نعم بلا شك.
وقال: سألت أبا حذيفة موسى بن مسعود عن الإيمان قال: هو قول وعمل يزيد وينقص، قلت: أكان سفيان يقوله؟ قال: نعم.
قال: وسألت عارم بن الفضل عن الإيمان، فقال: هو قول وعمل يزيد وينقص، قلت:
أكان حماد بن يزيد يقوله؟ قال: نعم.
__________
(1) المصنف لابن أبي شيبة: 7/ 227 وما بين معكوفتين منه.(3/212)
قال: وسألت أبا الوليد الطيالسي عن الإيمان، فقال: قول وعمل ونية، قلت: أيزداد وينقص؟ قال: نعم.
قال: وسألت سليمان بن حرب عن الإيمان، فقال: مثل ذلك.
قال: وسمعت مسلم بن إبراهيم يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
قال: وسألت علي بن عبد الله المديني عن الإيمان، قال: قول وعمل ونية، قلت: أينقص ويزداد؟ قال: نعم يزداد وينقص حتى لا يبقى منه شيء.
قال: وسألت عمر بن عون الواسطي عن الإيمان فقال: مثل ذلك. قال: وسمعت يحيى بن يحيى يقول: الإيمان قول وعمل والناس يتفاضلون في الإيمان. قال: وسألت أحمد بن يونس عن الإيمان. قال: هو عمل يزيد وينقص.
قال: وسألت عبد الله بن محمد [الطفيل] وكان متّقيا عن الإيمان فقال: هو قول وعمل يزيد وينقص، فأروه عني.
قال: وسألت أبا بويه الجيلي عن الإيمان فقال: قول وعمل يزيد وينقص.
قال: وسمعت محبوب بن موسى الأنطاكي يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ومن كره الاستثناء فقد أخطأ السنّة. قلت: أكان أبو إسحاق الفراري يقوله؟ قال: كان أبو إسحاق يخرج من المصيصة «1» من لا يقول الإيمان يزيد وينقص.
قال: وسمعت محبوب بن موسى يقول: سمعت يوسف بن أسباط يقول: الإيمان يزيد وينقص.
قال: وسمعت الحسين بن عمر السجستاني يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
قال الحسن: وكان وكيع بن الجراح وعمر بن عمارة وابن أبي برزة وزهير بن نعيم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
قوله تعالى وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي كافينا وثقتنا، والنون والألف مخفوضتان بالإضافة كقولك: حسب زيد درهم، لان حسب اسم وإن كان في مذهب الفعل ألا ترى ضمة الثانية.
قال الشاعر:
فتملأ بيتنا إقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وريّ «2»
__________
(1) المصيصة: بلد بالشام، لا تشدد.
(2) الصحاح: 5/ 2138، تاج العروس: 5/ 392.(3/213)
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي الموكول إليه الأمور، فعيل بمعنى مفعول.
قال الواقدي: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي المانع. نظيره قوله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا «1» أي مانعا، وقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا «2» .
عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كان آخر ما تكلم به رسول الله إبراهيم (عليه السلام) حين ألقي في النار: حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» «3» [196] .
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين رجلين فقال المقضي عليه:
حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يحمد على الكيس ويلوم على العجز، وإذا غلبك أمر فقل:
حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» «4» [197] .
فَانْقَلَبُوا فانصرفوا ورجعوا، نظيره قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ «5» أي رجعوا.
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بعافية لم يلقوا بها عدوا وبراء جراحهم وَفَضْلٍ بربح وتجارة، وهو ما أصابوا من السوق فربحوا لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لم يصبهم قتل ولا جرح ولا ينالهم سوء ولا أذى ولا مكروه وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في طاعة الله وطاعة رسوله، وذلك أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا؟ فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضى عنهم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يعني ذلك الذي قال لكم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، من فعل الشيطان ألقى في أفواههم يرهبوهم ويجبنوا عنهم يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أي يخوفكم بأوليائه، أي أولياء إبليس حتى يخوّف المؤمنين بالكافرين.
وقال السدي: يعظم أولياءه في صدورهم ليخافوهم، نظيره قوله عزّ وجلّ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً «6» أي ببأس، وقوله: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ «7» وتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ «8» أي بيوم الجمع
__________
(1) سورة الإسراء: 86.
(2) سورة الإسراء: 65.
(3) السنن الكبرى: 6/ 154، والجامع الصغير: 1/ 6.
(4) المعجم الكبير: 18/ 54، كنز العمال: 3/ 86.
(5) سورة يوسف: 62.
(6) سورة الكهف: 2. [.....]
(7) سورة غافر: 15.
(8) سورة الشورى: 7.(3/214)
يخوف الناس أولياءه، كقول القائل: ويعطى الدراهم ويكسي الثياب، بمعنى هو يعطي الناس الدراهم ويكسي الناس الثياب. يدل عليه قراءة ابن مسعود: (يخوف الناس أولياءه) .
وروى يحيى بن اليمان عن طلحة عن عطاء أنه كان يقرأ إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ.
وروى محمد بن مسلم بن أبي وضاح قال: حدثنا علي بن خزيمة قال: في قراءة أبي بن كعب: يخوفكم بأوليائه.
فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ في ترك أمري إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين بوعدي فإني المتكفل لكم بالنصر والظفر وَلا يَحْزُنْكَ.
قرأ نافع: (يَحْزُنُكَ) بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك جميع ما في القرآن من هذا الفعل، إلّا التي في الأنبياء لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «1» فإنه بفتح الياء وضم الزاي، وضده أبو جعفر، وقرأ ابن محيصن كلها بضم الياء وكسر الزاي.
الباقون كلها بالفتح وضم الزاي، وهما اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وهما لغتان، حزن يحزن وأحزن يحزن إلّا أن اللغة العالية الفصيحة: حزن يحزن وأحزنته قال الشاعر:
مضى صحبي وأحزنني الديار «2»
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ.
قرأه العامة: هكذا، وقرأ طلحة بن مصرف: يسرعون.
قال الضحاك: هم كفار قريش، وقال غيره: هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار.
إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بمسارعتهم في الكفر ومظاهرتهم أهله يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ نصيبا في ثواب الآخرة، فلذلك خذلهم حتى سارعوا في الكفر وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وفي هذه الآية ردّ على القدرية.
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ استبدلوا الكفر بالإيمان لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً فإنهم يضرون أنفسهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.
قراءة حمزة وأبي بحتريه: بالتاء.
الباقون: بالياء، فمن قرأ بالياء ف (الَّذِينَ) في محل الرفع على الفاعل تقديره: ولا يحسبن الكفار أن إملاءنا خير لهم.
__________
(1) سورة الأنبياء: 103.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 285.(3/215)
ومن قرأ بالتاء، قال الفراء: هو على التكرير في المعنى، ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا ولا تحسبن إنما نملي، لأنك إذا أعلمت الحسبان في الذين لم يجز أن يقع على إنما، وهو كقوله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً «1» يعني هل ينظرون إلّا أن تأتيهم بغتة، وقيل: موضع إنما نصب على البدل من الذين.
كقول الشاعر:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما «2»
فرفع (هلك) على البدل، من الأول، والإملاء الإمهال والتأخير والإطالة في العمر والإنسان في الأجل، ومنه قوله تعالى: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا «3» أي حينا طويلا ويقال: عشت طويلا، أي تمليت حينا، وأصله من الملاوة والملا وهما الدهر.
قال الشاعر:
وقد أراني للغوالي مصيدا ... ملاوة كأن فوقي جلدا «4»
والملوان: الليل والنهار.
قال تميم بن مقبل:
ألا يا ديار الحي ... بالسبعان أمل عليها بالبلى «5»
ثم قال أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ نمهلهم لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ نزلت هذه الآية في مشركي قريش.
قال مقاتل: قال عطاء: في قريظة والنضير.
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه أن رجلا قال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله» ، قال: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله» «6» [198] .
وقال ابن مسعود: ما من نفس برّة ولا فاجرة إلّا والموت لها، فأما الفاجرة فمستريح ومستراح منه، وقرأ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ الآية، وأما البرّة فقرأ نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ.
__________
(1) سورة محمد: 18.
(2) تفسير القرطبي: 3/ 44، البداية والنهاية: 8/ 35.
(3) سورة مريم: 46.
(4) لسان العرب: 3/ 125.
(5) لسان العرب: 8/ 150.
(6) مسند أحمد: 5/ 40.(3/216)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 179 الى 186]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ، اختلفوا في نزولها:
فقال الكلبي: قالت قريش: يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار، والله عليه غضبان وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا من يؤمن بك ومن لا يؤمن بك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال السدي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عرضت عليّ أمّتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم (عليه السلام) وأعلمت من يؤمن بي ومن لا يؤمن» فبلغ ذلك المنافقين واستهزؤا وقالوا:
زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر به ممّن لم يخلق بعد، ونحن معه ولا يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام على المنبر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال [القوم] «1» حملوني وطعنوا في حلمي، لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلّا أنبأتكم» [199] .
فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: «حذافة» ، فقام عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: يا رسول الله رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيّا فاعف عنّا عفا الله عنك.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ... ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟» ثم نزل عن المنبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية «2» .
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) أسباب النزول للواحدي: 88، باختلاف، ومصنف بن أبي شيبة: 8/ 698، وتفسير الطبري: 7/ 110.(3/217)
فقالت أم حذافة له: ويحك ما أردت إلّا أن تعرضني لرسول الله. فقال: كان الناس قد آذوني فيك فأحببت أن أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن كانوا صدقوا رضيت وسكت، وإن كذبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفّوا عني.
وقال أبو العالية: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمنين والمنافقين، فأنزل الله عزّ وجلّ ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ واختلفوا في حكم الآية ونظمها:
فقال بعضهم: الخطاب للكفار والمنافقين من الكفر والنفاق حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين.
وقال آخرون: الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم، ومعنى الآية: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق، حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وعلى هذا القول هو من خطاب التلوين، رجع من الخبر إلى الخطاب كقوله: وَجَرَيْنَ بِهِمْ «1» .
وكقول الشاعر:
يا لهف نفسي كان جلدة خالد ... وبياض وجهك للتراب الأعفر «2»
وهذا قول أكثر أهل المعاني، واللام في قوله: لِيَذَرَ لام الجحد، وهي في تأويل كي، ولذلك نصب ما بعدها حتى يميّز.
قرأ الحسن وقتادة وأهل الكوفة: بضم الياء والتشديد وكذلك التي في الأنفال، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
الباقون: بفتح الياء مخففا.
يقال: بان الشيء يميّزه ميزا وميّزه تميّزا، إذا فرّقه وامتاز وانماز هو بنفسه.
قال أبو معاذ يقال: مزت الشيء أميزه ميزا إذا فرقت بين شيئين، فإذا كانت أشياء قلت:
ميّزتها تمييزا، ومثله إذا جعلت الشيء الواحد شيئين، قلت: فرّقت بينهما، ومنه فرق الشعر، فإن جعلت أشياء قلت: فرقه وفرقها تفريقا، ومعنى الآية: حتى يميّز المنافق من المخلص فيميّز الله المؤمنين يوم أحد من المنافقين، حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قتادة: حتى يميّز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد، ونظيرها في سورة الأنفال. ابن
__________
(1) سورة يونس: 22.
(2) تفسير الطبري: 1/ 101. [.....](3/218)
كيسان ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الإقرار حتى نفرض عليهم الجهاد والفرائض التي فيها تخليصهم، ليميّز بها بين من يثبت على إيمانه مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ.
الضحاك: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ في أصلاب الرجال وأرحام النساء، يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرّق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين.
وقال بعضهم: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ وهو المذنب، مِنَ الطَّيِّبِ وهو المؤمن، يعني حتى يحط الأوزار من المؤمن ما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لأنه لا يعلم الغيب أحد غيره وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي يختار مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ بالغيب فيطلعه على بعض علم الغيب، نظيره قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «1» .
وقال السدي: وما كان الله ليطلع محمدا صلّى الله عليه وسلّم على الغيب ولكن الله اجتباه فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
وروى الفضل بن موسى عن رجل قد سمّاه قال: كان عند الحجاج منجم فأخذ الحجاج حصيات لم يعدّهن وقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب فأصاب المنجم، ثم اعتقله الحجاج، فأخذ حصيات لم يعدّهن فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب وحسب ثم أخطأ ثم حسب أيضا فأخطأ، فقال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها في يدك؟ قال: فما الفرق بينهما؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب فحسبت وأصبت، وإن هذا لم يعرف عددها فصار غيبا ولا يعلم الغيب إلّا الله.
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ.
من قرأ بالياء جعل هو [ابتداء] وجعل الاسم مضمرا وجعل الخير خيرا بحسبان تقديره:
ولا تحسبن الباخلون البخل خيرا لهم، فاكتفا بذكر (يَبْخَلُونَ) من البخل كما تقول في الكلام: قد قدم زيد فسررت به، وأنت تريد سررت بقدومه.
قال الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف «2»
أي جرى إلى السفه ونظير هذا قوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ»
هو
__________
(1) سورة الجن: 26- 27.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 290.
(3) سورة الأنفال: 32.(3/219)
ابتداء والحق خبر كان، وقوله: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ «1» .
ومن قرأ بالتاء فعلى التكرير والبدل، كما ذكرنا في آية الإملاء «2» ، قال الله تعالى: بَلْ هُوَ يعني البخل شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
قال المبرد: السين في قوله: سَيُطَوَّقُونَ سين الوعيد وتأويلها: سوف يطوقون، واختلفوا في معنى الآية:
فقال قوم: معناها فجعل ما بخل به وما يمنعه من الزكاة حيّة تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه، تقول: أنا مالك، فلا يزال كذلك حتى يساق إلى النار ويغل، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي [وائل] وابن مالك وابن فرعة والشعبي والسدي، ويدل عليه ما
روى أبو وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلّا جعل له شجاع في عنقه يوم القيامة» [200] ثم قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصداق من كتاب الله تعالى سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «3» .
وعن رجل من بني قيس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه يسأله من فضل الله إيّاه فيبخل به عنه إلّا أخرج الله له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه» [201] ثم تلا وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ «4» الآية.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عبد يكون له مال فيمنعه من حقه ويضعه في غير حقه إلّا مثله الله شجاعا أقرع منتن الريح لا يمر بأحد إلّا استعاذ منه حتى دنا من صاحبه، فإذا دنا من صاحبه أعوذ بالله منك، قال: لم تستعيذ مني وأنا مالك الذي كنت تبخل به في الدنيا فيطوقه في عنقه فلا يزال في عنقه حتى يدخله الله جهنّم»
وتصديق ذلك في القرآن سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «5» [202] .
فقال إبراهيم النخعي: معناه يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقا من نار.
مجاهد: يكلفون يوم القيامة أن يأتوا ممّا بخلوا به في الدنيا من أموالهم يوم القيامة.
المؤرّخ: يلزمون أعمالهم مثل ما يلزم الطوق بالعنق، يقال: طوق فلان عمله مثل طوق الحمامة.
__________
(1) سورة سبأ: 6.
(2) سبق في تفسير قوله تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.
(3) مسند أحمد: 2/ 98. والسنن الكبرى: 4/ 89.
(4) تفسير الطبري: 4/ 254، تفسير ابن كثير: 1/ 442.
(5) تفسير الطبري: 7/ 237، تفسير ابن كثير: 2/ 133، (بتفاوت) .(3/220)
عن يسار بن سعد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مانع الزكاة يوم القيامة في النار» «1» [203] .
هشام بن عروة عن أبيه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تخالط الصدقة مالا إلّا أهلكته» «2» [204] .
عن عكرمة عن جبير بن مهاجر عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما حبس قوم الزكاة إلّا حبس الله عنهم القطر» «3» [205] .
وعن الحسن البصري قال: كان أعرابي صاحب ماشية، وكان قليل الصدقة فتصدق بعريض من غنمه، فرأى فيما يرى النائم كأنما وثبت عليه غنمه كلها فجعل العريض يحامي عنه، فلما انتبه قال: والله لئن استطعت لأجعلن أتباعك كثيرا. قال: وكان بعد ذلك يقسم.
قال الثعلبي: أنشدنا أبو القاسم الحسين بن محمد قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن عبد الله قال: أنشدنا العلائي قال: أنشدني المهدي بن سابق:
يا مانع المال كم تضمن به ... أتطمع بالله في الخلود معه
هل حمل المال ميت معه ... أما تراه لغيره جمعه «4»
ابن سعيد عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونبوته، وأراد بالبخل كتمان العلم الذي أتاهم الله، يدل عليه قوله تعالى في سورة النساء:
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «5» الآية، ومعنى قوله:
سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ أي يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى: يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «6» ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم، نظيره قوله: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها «7» .
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالياء، الباقون: بالتاء.
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ.
__________
(1) المعجم الصغير: 2/ 58، مجمع الزوائد: 3/ 64، كنز العمال: 6/ 306.
(2) كتاب المسند للشافعي: 99، السنن الكبرى: 4/ 159.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10/ 208، السنن الكبرى: 9/ 231، (ولا منع) بدل (ما حبس) .
(4) روضة الواعظين: 385، نهج السعادة: 8/ 246.
(5) سورة النساء: 37.
(6) سورة الأنعام: 31. [.....]
(7) سورة مريم: 40.(3/221)
قال الحسن ومجاهد: لما نزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» قال اليهود:
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ يستقرض منّا وَنَحْنُ أَغْنِياءُ، [والقائل فنحاص بن عازوراء] «2» عن ابن عباس.
وروى الحسن: أن قائل هذه المقالة حيي بن أخطب «3» .
قال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق: كتب النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فدخل أبو بكر (رضي الله عنه) ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم، ومعه حبر آخر يقال له:
أشيع، فقال أبو بكر (رضي الله عنه) لفنحاص: اتق الله وأسلم إنك لتعلم أن محمدا قد جاءكم بالحق من عند الله يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «4» فأمن وصدّق واقرض اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب.
قال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أن ربّنا يستقرضنا أموالنا ولا يستقرض إلّا الفقير من الغني، فإن كان ما تقول حقا فإن الله إذا لفقير ونحن أغنياء، ولو كان غنيا ما أعطاناه ربّي، فغضب أبو بكر (رضي الله عنه) وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله.
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا محمد أنظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: «ما الذي حملك على ما صنعت؟» [206] فقال يا رسول الله: إن عدوّ الله قد قال قولا عظيما، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص، فأنزل الله عزّ وجلّ ردا على فنحاص وتصديقا لأبي بكر (رضي الله عنه) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا من الإفك والفرية على الله عزّ وجلّ فنجازيه به «5» .
وقال مقاتل وابن عبيد: سيحفظ عليهم، الكلبي: سنوجب عليهم في الآخرة جزاء ما قالوا في الدنيا، الواقدي: سيؤمن الحفظة من الكتاب، نظيره قوله: وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ «6» .
قرأ حمزة والأعمش والأعرج: بياء مضمومة.
__________
(1) سورة البقرة: 245.
(2) راجع زاد المسير: 2/ 65.
(3) تفسير الطبري: 4/ 259.
(4) سورة الأعراف: 157.
(5) أسباب النزول: 89.
(6) سورة الأنبياء: 94.(3/222)
وقتلهم برفع اللام ويقول بالياء، اعتبارا بقراءة عبد الله ويقال ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي النار، والنار اسم جامع للملتهبة منها وغير الملتهبة، والحريق اسم للملتهبة منها، وهو بمعنى المحرق كما يقال: عذاب أليم وضرب وجيع.
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فيعذب بغير ذنبه الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا الآية.
قال الكلبي: نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وزيد بن تابوه وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا وأنزل علينا كتابا، فإن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فإن جئتنا به صدقناك «1» ، فأنزل الله عزّ وجلّ الَّذِينَ قالُوا يعني وسمع الله قول الذين قالوا
، ومحل (الَّذِينَ) خفض ردّا على الذين الأول إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أي أمرنا وأوصانا في كتبه على ألسنة رسله.
أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ أي لا نصدق رسولا يزعم أنه جاء من عند الله حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ فيكون ذلك دلالة على صدقه، والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله عزّ وجلّ من زكاة وصدقة وعمل صالح، وهو فعلان من القربة مثل الرفعان من الرّفع [والغنيان] من الغنى، ويكون اسما ومصدرا فمثال الاسم: السلطان والبرهان، ومثال المصدر: العدوان والخسران.
وكان عيسى بن عمر يقرأ: قُرُبان فبضم الراء والقاف كما يقال في جمع ظلمة: ظلمات، وفي جمع حجرة: حجرات.
قال المفسرون: كانت القرابين والغنائم تحل لبني إسرائيل، فكانوا إذا قرّبوا قربانا وغنموا غنيمة فإن تقبل منهم ذلك جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف، فتأكل ذلك القربان وتلك الغنيمة وتحرقهما، فيكون ذلك علامة القبول، وإذا لم يقبل بقي على حاله.
وقال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطائب اللحم فيضعونها في وسط البيت والسقف مكشوف، فيقوم النبي في البيت ويناجي ربّه، وبنو إسرائيل خارجون حول البيت، فتنزل نار فتأخذ ذلك القربان فيخر النبي ساجدا فيوحي الله عزّ وجلّ إليه بما شاء.
قال السدي: إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة: من جاءكم من أحد يزعم أنه رسول فلا تصدقوه حتى يأتيكم بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان، قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم قُلْ يا محمد قَدْ جاءَكُمْ يا معشر اليهود رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ من القربان فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ يعني زكريا
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 89 وتفسير القرطبي: 4/ 295.(3/223)
ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء، وأراد بذلك أسلافهم، فخاطبهم بذلك لأنهم رضوا بفعل أسلافهم، ومعنى الآية تكذيبهم يا محمد إياك مع علمهم بصدقك، كقتل آبائهم الأنبياء مع الإتيان بالقربان والمعجزات، ثم قال معزيا نبيه صلّى الله عليه وسلّم فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وبالزبر أي الكتب المزبورة يعني المكتوبة أصلها من زبرت أي كتبت، واحدها زبور مثل رسول ورسل، وكل كتاب فهو زبور.
قال امرؤ القيس:
لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبور في عسيب يماني «1»
وقال بعضهم: هو الكتاب الحسن حكاه المفضل وأنشد.
عرفت الديار كخط الدويّ ... يحبره الكاتب الحميري «2»
وقرأ ابن عامر: وبالزبر بزيادة باء، وكذلك هو في مصاحفهم.
وقال عكرمة ومقاتل والواقدي: يعني بالزبر أحاديث من كان قبلهم، نظيرها في سورة الحج والملائكة.
وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ الواضح المضيء كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ.
قرأه العامة: بالإضافة، وقرأ الأعمش: (ذائقةٌ) بالتنوين، (الموتَ) نصبا، وقال: لأنها لم تذق بعد.
وقال أمية بن الصلت:
من لم يمت عبطة يمت هدما ... للموت كأس والمرء ذائقها «3»
أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما خلق الله عزّ وجلّ آدم (عليه السلام) اشتكت الأرض إلى ربّها لما أخذ منها، فواعدها أن يرد منها ما أخذ منها، فما من أحد إلّا يدفن في الثرى التي خلق منها» [207] «4» .
وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ توفون جزاء أعمالكم يَوْمَ الْقِيامَةِ إن خيرا فخير وإن شرا فشر فَمَنْ زُحْزِحَ نجا وأزيل عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ ظفر بما يرجوا ونجا ممّا يخاف وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يعني منفعة ومتعة، كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى، قاله أكثر المفسرين.
__________
(1) لسان العرب: 8/ 199.
(2) كتاب العين: 8/ 94.
(3) لسان العرب: 6/ 188.
(4) لم نجده بهذا النص في المصادر الكثيرة المتوفرة لدينا، وورد بنحوه في تفسير الطبري: 29/ 266، وتفسير القرطبي: 19/ 137.(3/224)
وقال عبد الرحمن بن سابط: كزاد الراعي، الحسن: كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل له.
قتادة: هي متاع متروكة توشك أن تضمحل بأهلها، فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم، والغرور الباطل، ونظيرها في سورة الحديد.
عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله، ويأتي الناس ما يحب أن يؤتى إليه» «1» [208] .
أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها فاقرءوا إن شئتم فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» «2» .
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ الآية.
قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريج: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وفنحاص، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) إلى فنحاص بن عازورا سيد بني قينقاع يستمده وكتب إليه كتابه، وقال لأبي بكر: «لا تفتت عليّ بشيء حتى يرجع» ، فجاءه أبو بكر (رضي الله عنه) وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال: قد أحتاج ربّكم إلى أن يمده، فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا تفتت بشيء حتى يرجع» ، فكفّ ونزلت هذه الآية «3» .
وقال الزهري: نزلت في كعب بن الأشرف وذلك أنه كان يهجوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويسب المؤمنين ويحرض المشركين على النبي وأصحابه في شعره وينسب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من لي بابن الأشرف» .
فقال محمد بن سلمة الأنصاري: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: «فافعل إن قدرت على ذلك» فرجع محمد بن سلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلّا ما تعلق نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعاه فقال: «لم تركت الطعام والشراب؟» قال: يا رسول الله قد قلت قولا ولا أدري هل أفي به أم لا؟
قال: «إنما عليك الجهد» فقال: يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول، قال: «قولوا ما
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 302.
(2) تفسير الطبري: 4/ 265، تفسير القرطبي: 4/ 302. [.....]
(3) الدر المنثور: 2/ 106.(3/225)
بدا لكم فأنتم في حل من ذلك» فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلاحة بن وقش.
وهو ابو نائلة وكان أخا كعب من الرضاعة. وعباد بن بشر بن وقش والحرث بن أوس بن معاذ وأبو عبس بن جبر فمشى معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بقيع الغرقد ثم وجّههم وقال: «انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم» «1» [209] .
ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك في ليلة مقمرة، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فقدّموا أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة فتناشدا الشعر وكان أبو نائلة يقول الشعر ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك بحاجة أريد ذكرها لك فأكتم عليّ. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل بلاء، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة، وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس.
فقال كعب: أنا ابن الأشرف أما والله لقد أخبرتك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا.
فقال أبو نائلة: إن معي أصحابا أردنا أن تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك ونحسن في ذلك. قال: ترهنوني أبناءكم؟ قال: إنّا نستحي أن يعير أبناؤنا. فقال: هذا رهينة وسق وهذا رهينة وسقين.
قال: أترهنونني نساءكم؟ قالوا: أنت أجمل الناس ولا نأمنك، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك، ولكنّا نرهنك الحلقة- يعني السلاح- ولقد علمت حاجتنا اليوم إلى السلاح.
فقال: نعم ائتوني بسلاحكم، فأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها، فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب في ملحفته، وأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إنك رجل محارب وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة.
قال: إن هؤلاء لو وجدوني نائما ما أيقظوني وإنه أبو نائلة أخي.
قالت: فكلمهم من فوق الحصن. فأبى عليها إلّا أن ينزل إليهم، فتحدث معهم ساعة ثم قالوا: يا بن الأشرف هل لك أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه. قال: إن شئتم فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شمّ يده فقال: ما رأيت كالليلة طيب عروس قط. قال: إنه طيب أم فلان، يعني امرأته ثم مشى ساعة ثم عاد بمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة فعاد لمثلها، ثم أخذ بفودي رأسه حتى استمكن ثم قال: اضربوا عدو الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا «2» .
__________
(1) انظر فتح الباري: 7/ 260، مجمع الزوائد: 6/ 196.
(2) تاريخ الطبري: 2/ 179.(3/226)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
قال محمد بن سلمة: فذكرت معولا في سيفي، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلّا أوقدت عليه نارا. قال: فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، ووقع عدو الله وقد أصيب الحرث بن أوس في رأسه بجرح أصابه بعض أسيافنا. قال: فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحرث ونزفه، الدم فوقفنا ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه، فجئنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه، وتفل على جرح صاحبنا ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت اليهود لوقعتنا بعدو الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» فوثب محيصة بن مسعود على سنينة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله، وكان حويصة بن مسعود إذ ذلك لم يسلم، وكان أسنّ من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه وهو يقول: أي عدو الله قتلته، أما والله لربّ شحم في بطنك من ماله. فقال محيصة: والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك قال: فو الله إن كان لأول إسلام حويصة، وفقال: لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال:
نعم. قال: والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب فأسلم حويصة «1» ، فأنزل الله في شأن كعب بن الأشرف لَتُبْلَوُنَّ لتخبرن
واللام للتأكيد، وفيه معنى القسم، والنون تأكيد القسم.
فِي أَمْوالِكُمْ بالحوادث والعاهات والخسران والنقصان.
وَأَنْفُسِكُمْ بالأمراض، وقيل بمصائب الأقارب والعشائر.
قال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم وباعوا رباعهم وعذبوهم.
قال الحسن: هو ما فرض عليهم في أموالهم وأنفسهم من الحقوق، كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة.
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني اليهود والنصارى وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني مشركي العرب، أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من حق الأمور وجدّ الأمور وخيرها، قال عطاء: من حقيقة الإيمان.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 187 الى 195]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191)
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
__________
(1) بطوله في تاريخ الطبري: 2/ 179- 181.(3/227)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم لتبيّننه للناس ولا يكتمونه. قرأ عاصم وأبو عمر وأهل مكة: بالياء فيهما واختاره أبو عبيد.
الباقون: بالتاء واختاره أبو حاتم، فمن قرأ بالتاء فعلى إضمار القول، أي قال: ليبيننه، ودليله قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ «1» ومن قرأ بالياء فلقوله: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ طرحوه وضيعوه وتركوا العمل به.
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني المأكل فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ.
قال قتادة: هذا لميثاق الله أخذ على أهل مكة ممّن علم شيئا فليعلّمه، وإيّاكم وكتمان العلم فإنه هلكة.
وقال محمد بن كعب: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه ولا لجاهل أن يسكت على جهله، قال الله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية، وقال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «2» .
ثابت بن البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة أنه قال: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ.
أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كتم علما عن أهله ألجم يوم القيامة لجاما من نار» » .
وعن الحسن بن عمارة قال: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألقيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني؟ فقال: أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أحدثك. فقال: حدثني. فقلت: حدثني الحكم ابن عيينة عن نجم الجزار قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول: «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا» قال: فحدثني بأربعين حديثا «4» .
__________
(1) آل عمران: 181.
(2) سورة النحل: 43.
(3) كنز العمال: 10/ 191.
(4) تفسير مجمع البيان: 2/ 467.(3/228)
لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ... يحسبن بالياء، قرأه حميد بن كثير وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وأبو عمرو، وغيرهم بالتاء، فمن قرأه بالياء فمعناه: ولا يحسبن الفارحون منجيا لهم من العذاب، ومن قرأ بالتاء فمعناه: ولا تَحْسَبَنَّ يا محمد الفارحين بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ، وخبره في الباء.
وقوله: لا تَحْسَبَنَّ بالتاء، وفتح الباء إعادة تأكيد.
وقرأ الضحاك وعيسى: (لا تَحْسَبُنَّ) بالتاء وضم الباء، أراد محمدا وأصحابه.
وقرأ محمد وابن كثير وأبو عمرو ويحيى بن يعمر: بالياء وضم الباء خبرا عن الفارحين، أي فلا تحسبن أنفسهم، واختلفوا فيه فيمن نزلت هذه الآية.
روى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: يا رسول الله لو خرجت إلى الغزو لغزونا معك، فإذا خرج (عليه السلام) خلفوا عنه وفرحوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ، فإذا قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن رافع بن خديج: أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان وهو يومئذ أمير المدينة فقال مروان لرافع: في أي شيء أنزلت هذه الآية: لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا؟ فقال رافع: أنزلت في أناس من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر تخلفوا عنهم، فأنكر مروان وقال: ما هذا؟ فجزع رافع من ذلك وقال لزيد بن ثابت: أنشدك الله هل تعلم ما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال زيد: نعم، فخرجا من عند مروان، فقال زيد لرافع وهو يمزح معه: أما تحمد في ما شهدت لك وقال رافع: وأي شيء هذا؟ أحمدك على أن تشهد بالحق؟ قال زيد: نعم قد حمد الله على الحق أهله.
وقال عكرمة: نزلت في فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار، يفرحون بإضلالهم الناس، وبنسبة الناس إياهم إلى العلم، وقولهم إنهم علماء وليسوا بأهل علم لم يحملوهم على هدى ولا خير.
الضحاك والسدي: هم يهود أهل المدينة كتبوا إلى يهود اليمن والشام وأطراف الأرض:
أن محمدا ليس برسول فاثبتوا على دينكم. فاجتمعت كلمتهم على الكفر بمحمد والقرآن ففرحوا بذلك وقالوا: الحمد لله الذي جمع كلمتنا فنحن على دين إبراهيم ونحن أهل العلم الأول، وليسوا كذلك.
مجاهد: هم اليهود فرحوا بإعجاب الناس تبديلهم الكتاب، وجهدهم إياه عليه.
سعيد بن جبير: هم اليهود فرحوا بما أعطى الله إبراهيم وهم براء من ذلك.(3/229)
وروى ابن أبي مليكة عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أنّ مروان بن الحكم قال لمولاه: يا أبا رافع اذهب إلى ابن عباس وقل له: إن كان كل امرئ منا يفرح بما أوتي وأحب أن يحمد لما لم يفعل معذبا لنغدين جميعا. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية، إنما دعاء رسول الله اليهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وأروه أنهم أخبروه بما قد سألهم عنه، فاستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بكتمانهم إياه ذلك، فنزلت هذه الآية.
قتادة ومقاتل: أتت يهود خيبر النبي الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نحن نعرفك ونصدقك وإنّا على رأيكم ونحن لكم ردأ، وليس ذلك في قلوبهم، فلما خرجوا من عنده قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟
قال: عرفناه وصدقناه، فقال لهم المسلمون: أحسنتم هكذا فافعلوا، فحمدوهم ودعوا لهم فأنزل الله لهم هذه الآية.
وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال: نزلت في ناس من اليهود جهّزوا جيشا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنفقوا عليهم، وقرأها إبراهيم (بما أوتوا) ممدودا أي أعطوا.
وقرأ سعيد بن جبير أوتوا أي أعطوا.
قال الله فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ.
عن عطاء بن أبي رباح قال: دخلت مع ابن عمر إلى عائشة رضي الله عنها فقال ابن عمر:
أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله؟ فبكت فأطالت ثم قالت: كل أمر رسول الله عجب، أتاني في ليلتي فدخل معي في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال: يا عائشة هل لك أن تأذني لي في عبادة ربّي عزّ وجلّ؟ فقلت: والله يا رسول الله إني لأحبّ قربك وأحبّ هواك قد أذنت لك، فقام عليه الصلاة والسلام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حجره، ثم رفع يده فجعل يبكي حتى رأيت الدموع قد بلت الأرض، فأتاه بلال بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ؟ فقال: «يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا» ثم قال:
«وما لي لا أبكي وقد أنزل الله تعالى في هذه الليلة عليّ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
الآية. ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» «1» [210] .
وعن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما عن أبيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قام من الليل يسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله فَقِنا عَذابَ النَّارِ.
__________
(1) الدر المنثور: 2/ 111.(3/230)
عمرو بن موسى عن قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أشدّ آية في القرآن على الجن إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [211] الآية.
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: ما جاءكم به موسى من الآيات؟ فقالوا: عصاه ويده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟
قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ادع لنا ربّك يجعل لنا الصفا ذهبا، فأنزل الله تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية ثم وصفهم فقال:
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً.
قال علي وابن عباس والنخعي وقتادة: هذا في الصلاة يصلي قائما، فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنبه، يسر من الله وتخفيف.
وقال سائر المفسرين: أراد به ذكر الله تعالى، ووصفهم بالمداومة عليه، إذ الإنسان قلما يخلوا من معنى هذه الحالات الثلاثة، نظيره قوله في سورة النساء.
عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أراد أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله» «1» [212] .
ويروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ذكر الله تعالى علم الإيمان وبرء من النفاق وحصن من الشيطان وحرز من النيران» «2» [213] .
وقال الله تعالى لموسى (عليه السلام) : يا موسى اجعلني منك على بال ولا تنس ذكري على كل حال، وليكن همّك ذكري فإنّ الطريق إليّ.
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إنّ لها صانعا قادرا ومدبرا حكيما.
روى حماد عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أسري به إلى السماء السابعة فإذا ريح ودخان وأصوات قال: فقلت: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذه الشياطين يحرقون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب.
وكان ابن عور يقول: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية، كما يحدث الماء الزرع والنبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة. وحكى أن سفيان الثوري صلّى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء فلما رأى الكواكب غشي عليه. وكان سفيان يبول الدم من طول حزنه وفكره.
__________
(1) مصنف ابن ابي شيبة: 7/ 72.
(2) ذكره قطب الدين الرواندي في لب اللباب كما في مستدرك الوسائل: 5/ 285 ح 5868.(3/231)
زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بينما رجل مستلقي على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أن لي ربّا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له» «1» [214] .
وقال أبو الأحوص: بلغني أن عابدا يعبد في بني إسرائيل ثلاثين سنة. وكان الرجل منهم إذا تعبّد ثلاثين سنة أظلته غمامة. ولم ير شيئا، فشكى ذلك إلى والده. فقال له: يا بني فكّر هل أذنبت ذنبا منذ أخذت في عبادتك؟ قال: لا، ولا أعلمني هممت به منذ ثلاثين سنة. قال: يا بني بقيت واحدة إن نجوت منها رجوت أن يظلك؟ قال: وما هي؟ قال: هل رفعت طرفك إلى السماء ثم رددته بغير فكرة؟ قال: كثير. قال: من هاهنا أتيت. ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ذهب به إلى لفظ الخلق ولو ردّه إلى السماوات والأرض، لقال: هذه باطلا عبثا هزلا، بل خلقته لأمر عظيم.
وانتصاب (الباطل) من وجهين: أحدهما: بنزع الخافض، أي للباطل وبالباطل، والآخر:
على المفعول الثاني.
سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أهنته.
وقال المفضل: أهلكته، وأنشد:
أخزى الإله من الصليب عبيده ... واللابسين قلانس الرهبان «2»
وقيل: فضحته، نظيره قوله: وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي «3» . واتخذ القائلون بالوعيد هذه الآية جنّة، فقالوا: قد أخبر الله سبحانه أنه لا يخزي النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ثم قال: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فوجب أن كل من دخل النار فليس بمؤمن وأنه لا يخرج منها.
واختلف أهل التأويل في هذه الآية:
فروى قتادة عن أنس في قوله تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قال: إنك من تخلد في النار.
وروى الثوري عن رجل عن ابن المسيب في قوله: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فقال: هذه خاصة لمن لا يخرج منها.
وروى أبو هلال الرّاجي عن قتادة في قوله: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ إنك من تخلد في النار، ولا نقول كما قال أهل حروراء، حدثنا بذلك أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يخرج قوم من النار» «4» [215] .
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/ 314.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 316.
(3) سورة هود: 78. [.....]
(4) تفسير القرطبي: 9/ 102، بتفاوت يسير.(3/232)
وقال بعضهم: (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) من خلد فيها ومن لم يخلد فقد أخزيته بالعذاب والهلاك والهوان. قال عمرو بن دينار: قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهيت إليه أنا وعطاء فقلت له: (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ، قال: وما إخزاؤه حين أحرقه بالنار إن دون ذلك لخزيا.
وقال أهل المعاني: الخزي يحتمل الحياء، يقال: خزي يخزي، خزاية إذا استحيا.
قال ذو الرمّة:
خزاية أدركته عند جوليه ... من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب «1»
وقال القطامي في الثور والكلاب:
حرجا وكر كرور صاحب نجدة ... خزي الحرائر أن يكون جبانا «2»
أي يستحي، فخزي المؤمنين الحياء، وخزي الكافرين الذل والخلود في النار.
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم يُنادِي لِلْإِيمانِ أي إلى الإيمان، كقوله: لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «3» .
وقيل: اللام بمعنى أجل.
قال قتادة: أخبركم الله عزّ وجلّ عن مؤمني الإنس كيف قالوا وعن مؤمني الجن كيف قالوا، فأما مؤمنوا الجن فقالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ «4» وأما مؤمنوا الإنس فقالوا رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ ... فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي في جملة الأبرار رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ على ألسنة رسلك كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «5» .
وقرأ الأعمش: (رسلك) بالتخفيف.
وَلا تُخْزِنا لا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنّا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ يعني قيل: ما وجه قولهم: (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) وقد علموا وزعموا أن الله لا يخلف الميعاد، والجواب عنه: إن لفظه الدعاء، ومعناه الخبر تقديره: (واغفر لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) ولا تُخْزِنا، وتؤتينا ما وعدتنا على ألسن رسلك من الفضل
__________
(1) لسان العرب: 14/ 227.
(2) غريب الحديث: 4/ 36، ولسان العرب: 14/ 227.
(3) سورة الأنعام: 28.
(4) سورة الجن: 1- 2.
(5) سورة يوسف: 81.(3/233)
والرحمة والثواب والنعمة، وقيل معناه: واجعلنا ممّن تؤتيهم ما وعدت على ألسنة رسلك ويستحقون ثوابك، لأنهم ما تيقنوا استحقاقهم لهذه الكرامة، فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها، ولو كان القوم قد شهدوا بذلك لأنفسهم، لكانوا قد زكّوها وليس ذلك من صفة الأبرار.
وقال بعضهم: إنما سألوا ربّهم تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء وإعزاز الدين، لأنها حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قالوا: قد علمنا أنك لا تخلف وعدك من النصر والظفر على الكفار، ولكن لا صبر لنا على حكمك، فعجّل خزيهم وانصرنا عليهم.
ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجز وعده، ومن أوعد على عمل عقابا فهو فيه بالخيار» «1» [216] .
عن الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: سألني عمرو بن عبيد: أيخلف الله وعده؟ قلت: لا. قال: فيخلف الله وعيده؟ قلت: نعم. قال: ولم؟ قلت: لأن في خلفه الوعد علامة ندم وفي خلفه الوعيد إظهار الكرم، ثم أنشأ يقول:
ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ... ولا أختبي من خشية المتهدد
إني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي «2»
عن سعيد المقبري عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ عشر آيات من آخر آل عمران كل ليلة.
وعن يزيد بن أبي حبيب: أن عثمان بن عفان (رضي الله عنه) قال: من قرأ في ليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ/ إلى آخرها كتبت له بمنزلة قيام ليلة.
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ.
روى أبو بكر الهذلي عن الحسن قال: ما زالوا يقولون: ربّنا ربّنا حتى استجاب لهم ربّهم.
وروى عن الصادق أنه قال: من حزّ به أمر فقال خمس مرات: ربنا أنجاه الله ممّا يخاف وأعطاه ما أراد. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: اقرؤا إن شئتم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً إلى قوله تعالى الْمِيعادَ.
فأما نزول الآية:
فقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء بشيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
__________
(1) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 91، ومسند أبي يعلى: 9/ 66.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 318، الصحاح: 1/ 46.(3/234)
قال: وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا
أَنِّي أي بأني أو لأني، نصب بنزع الخافض.
وقرأ عيسى بن عمر: (إني) بكسر الألف، كأنه أضمر القول أو جعل الاستجابة قولا.
لا أُضِيعُ لا أحبط ولا أبطل عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أيها المؤمنون مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.
قال الكلبي: يعني من الدين والنصرة والموالاة، وقيل: حكم جميعكم في الثواب واحد، وقيل: كلكم من آدم وحواء.
الضحاك: رجالكم بشكل نسائكم في الطاعة ونساؤكم بشكل رجالكم في الطاعة، نظيرها قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «1» .
فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي في طاعتي، وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة وآذوهم وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا.
قرأ محارب بن دثار: (وقَتَلوا) بفتح القاف وَقاتَلُوا.
وعن يزيد بن حازم قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقرأ: (وقتلوا وقتلوا) يعني أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين ثم قتلهم المشركون.
وقرأ أبو رجاء والحسن وطلحة: (وقاتلوا وقتّلوا) مشددا.
قال الحسن: يعني إنهم قطّعوا في المعركة.
وقرأ عاصم وأبو عبيد وأهل المدينة: (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) يريد أنهم قاتلوا ثم قتلوا.
وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (وقتلوا وقاتلوا) ولها وجهان:
أحدهما وقاتل من بقي منهم، تقول العرب: قتلنا بني تميم، وإنما قتلوا بعضهم. والوجه الآخر:
بإضمار (قد) أي وقتلوا وقد قاتلوا.
قال الشاعر:
تصابى وأمسى علاه الكبر «2»
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
قال الكسائي: نصب (ثَواباً) على القطع، وقال المبرد: مصدر ومعناه: لآتينهم ثوابا.
__________
(1) سورة التوبة: 71.
(2) تفسير القرطبي: 4/ 319.(3/235)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ.
عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يدعوا يوم القيامة بالجنة ويأتي بزخرفها وزينتها فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيل الله وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وجاهدوا في سبيلي ادخلوا الجنة، فيدخلونها بغير حساب ولا عذاب، فتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربّنا نسبح الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا، فيقول الله عزّ وجلّ: هؤلاء عبادي الذين أُوذُوا فِي سَبِيلِي، فيدخل عليهم الملائكة يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» «1» [217] .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 200]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ نزلت في مشركي العرب، وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما يرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت هذه الآية.
وقال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال، فأنزل الله لا يَغُرَّنَّكَ.
وقرأ يعقوب: (يغرنْك) وأخواتها ساكنة النون.
وأنشد:
لا يغرنك عشاء ساكن ... قد يوافي بالمنيات السحر «2»
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا: ضربهم وتصرفهم في البلاد للتجارات والبياعات وأنواع المكاسب والمطالب، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره، لأنه لم يغيّر لذلك.
قال قتادة في هذه الآية: والله ما غرّوا نبي الله ولا وكّل إليهم شيئا من أمر الله تعالى حتى قبضه الله على ذلك، نظيره قوله تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ «3» ، ثم قال: مَتاعٌ قَلِيلٌ أي هو متاع قليل بلغة فانية ومتعة زائلة، لأن كل ما هو فان فهو قليل.
__________
(1) تفسير الطبري: 4/ 286.
(2) راجع تفسير القرطبي: 4/ 319.
(3) سورة غافر: 4.(3/236)
الأعمش عن عمارة عن يزيد بن معاوية النخعي قال: إن الدنيا جعلت قليلا فما بقي منه إلّا القليل من قليل.
روى سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن المستورد الفهري قال:
سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع» «1» [218] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما الدنيا فيما مضى إلّا كمثل ثوب شق باثنين وبقي خيط إلّا وكان ذلك الخيط قد انقطع» «2» [219] .
ثُمَّ مَأْواهُمْ مصيرهم جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ. لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ.
قرأ أبو جعفر: بتشديد النون، الباقون: بتخفيفه.
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا.
قرأ الحسن والنخعي: (نُزْلًا) بتخفيف الزاي استثقالا لضمتين، وثقّله الآخرون، والنزل الوظيفة المقدرة لوقت.
قال الكلبي: جزاء وثوابا من عند الله، وهو نصب على التفسير، كما يقال: هو لك صدقه وهو لك هبة، قاله الفراء.
وقيل: هو نصب على المصدر، أي انزلوا نزلا، وقيل: جعل ذلك نزلا.
وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ من متاع الكفار.
الحسن عن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على حصير مزمول بالشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، ودخل عليه عمر وناس من أصحابه فانحرف النبي صلّى الله عليه وسلّم انحرافة فرأى عمر (رضي الله عنه) أثر الشريط في جنبه فبكى، فقال له: «ما يبكيك يا عمر؟» فقال عمر: وما لي لا أبكي وكسرى قيصر يعيشان فيما يعيشان فيها من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى.
فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمر ألم ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» قال: بلى. قال:
«هو كذلك» «3» [220] .
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الآية، اختلفوا في نزولها:
__________
(1) مسند أحمد: 4/ 229. [.....]
(2) الجامع الصغير: 2/ 534 ح 8166، كنز العمال: 3/ 231 ح 6301.
(3) مسند أحمد: 2/ 140.(3/237)
فقال جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس وقتادة: نزلت في النجاشي ملك الحبشة. واسمه أضحمة وهو بالعربية عطية. وذلك أنه لما مات نعاه جبرئيل لرسول الله في اليوم الذي مات فيه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم» .
قالوا: ومن هو؟ قال: «النجاشي» ، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي، وصلّى عليه ركعتين وكبّر أربع تكبيرات واستغفر له، وقال لأصحابه: «استغفروا له» [221] .
فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .
عطاء: نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، وأثني وثلاثين من أرض الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم.
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يعني القرآن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ يعني التوراة والإنجيل خاشِعِينَ لِلَّهِ خاضعين متواضعين، وهو نصب على الحال والقطع لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني لا يحرّفون كتبهم ولا يكتمون صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأجل المأكلة والرئاسة، كما فعلت رؤساء اليهود أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا.
قال الحسن: (اصْبِرُوا) على دينكم فلا تدعوه لشدة ولا رخاء ولا سرّاء ولا ضرّاء، قتادة:
(اصْبِرُوا) على طاعة الله، الضحاك ومقاتل بن سليمان: (اصْبِرُوا) على أمر الله عزّ وجلّ، مقاتل ابن حيان: (اصْبِرُوا) على فرائض الله، زيد بن أسلم: على الجهاد، الكلبي: على البلاء.
قالت الحكماء: الصبر ثلاثة أشياء: ترك الشكوى، وصدق الرضا، وقبول القضاء. وقيل:
الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنّة.
وَصابِرُوا يعني الكفار، قاله أكثر المفسرين.
قال عطاء والقرظي: (وَصابِرُوا) الوعد الذي وعدكم، وَرابِطُوا يعني المشركين، وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم، ثم قيل ذلك لكل مقيم في ثغر يدفع عمّن وراءه وإن لم يكن له مركب، قال الله تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ «2» .
__________
(1) أسباب النزول الواحدي: 93 ومسند أحمد: 2/ 269.
(2) سورة الأنفال: 60.(3/238)
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا حامد [الخازرنجي] يقول:
المرابطة اعتقال المبارزين في الحرب، وأصل الربط الشد، ومنه قيل للخيل: الرباط، ويقال:
فلان رابط الجأش، أي قوي القلب.
قال لبيد:
رابط الجأش على كل وجل «1»
قال عبيد: داوموا واثبتوا.
عن سمط بن عبد الله البجلي عن سلمان الفارسي: أنهم كانوا في جند المسلمين، فأصابهم ضرّ وحصر فقال سلمان لصاحب الخيل: ألا أحدّثك حديثا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيكون لك عونا على الجند، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رابط يوما أو ليلة في سبيل الله كان عدل صيام شهر وصلاته الذي لا يفطر ولا ينصرف من صلاة إلّا لحاجة، ومن مات مرابطا في سبيل الله أجرى الله له أجرة حتى يقضي بين أهل الجنة وأهل النار» «2» [222] .
الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رابط يوما في سبيل الله جعل الله عزّ وجلّ بينه وبين النار سبعة خنادق، كل خندق منها كسبع سماوات وسبع أرضين» «3» [223] .
وفيه قول آخر وهو ما روى مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن صالح قال: قال لي سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا؟ قال: قلت: لا. قال: إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم غزو يرابط فيه، ولكنّه انتظار الصلاة خلف الصلاة. ودليل هذا التأويل ما
روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغ الوضوء عند المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط» «4» [224] .
وقال أصحاب اللسان في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا عند صيام النفس على احتمال الكرب وَصابِرُوا على مقابلة العناء والتعب وَرابِطُوا في دار أعدائي بلا هرب.
وَاتَّقُوا اللَّهَ بهمومكم من الالتفات إلى السبب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ غدا بلقائي على بساط الطرب.
__________
(1) الصحاح: 2/ 482.
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 4/ 590. وكنز العمال: 4/ 2327 باختلاف.
(3) تحفة الاحوذي: 5/ 207، مجمع الزوائد: 5/ 289.
(4) تفسير الطبري: 4/ 293، والسنن الكبرى: 2/ 62، وتفسير القرطبي: 4/ 323.(3/239)
السري السقطي: اصْبِرُوا على الدنيا، رجاء السلامة (وَصابِرُوا) عند القتال بالبينات والاستقامة (وَرابِطُوا) هو النفس اللوامة (وَاتَّقُوا) ما يعقب لكم الندامة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) غدا على بساط الكرامة. وقيل: (اصْبِرُوا) على بلائي (وَصابِرُوا) على نعمائي (وَرابِطُوا) في دار أعدائي (وَاتَّقُوا) محبة من سواي (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) غدا بلقائي. وقيل: (اصْبِرُوا) على الدنيا (وَصابِرُوا) على البأساء والضراء (وَرابِطُوا) في دار الأعداء (وَاتَّقُوا) إله الأرض والسماء (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) في دار البقاء.(3/240)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
سورة النساء
مدنية، وهي ستة عشر ألف وثلاثين حرفا، وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعين كلمة ومائة، وست وسبعين آية
عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة النساء فكأنما تصدق على كل مؤمن ورث ميراثا، وأعطى من الأجر كمن اشترى محررا وبرىء من الشرك وكان في مشيئة الله من الذين يتجاوز عنهم» «1» [225] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها يعني حواء، ونظيرها في سورة الأعراف والزّمر وَبَثَّ نشر وأظهر مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ تسألون به، وخففه أهل الكوفة على حذف إحدى التائين تخفيفا كقوله: وَلا تَعاوَنُوا «2» ونحوها، وَالْأَرْحامَ.
قراءة العامة: نصب أي واتقوا الأرحام إن تقطعوها.
__________
(1) مجمع البيان: 3/ 5.
(2) سورة المائدة: 2.(3/241)
وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وقتادة والأعمش وحمزة: بالخفض على معنى وبالأرحام، كما يقال: سألتك بالله والرحمن، ونشدتك بالله والرحمن، والقراءة الأولى أصح وأفصح، لأن العرب لا يكلأ بنسق بظاهر على المعنى، إلّا أن يعيدوا الخافض فيقولون:
مررت به وبزيد، أو ينصبون.
كقول الشاعر:
يا قوم مالي وأبي ذويب»
إلّا أنه جائز مع قوله، وقد ورد في الشعر.
قال الشاعر:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... اذهب فمالك والأيام من عجب «2»
وأنشد الفراء لبعض الأنصار:
نعلق في مثل السواري سيوفنا ... وما بينها والكعب غوط نفانف «3»
وقرأ عبد الله بن يزيد المقبري: (والأرحامُ) رفعا على الابتداء، كأنه نوى تمام الكلام عند قوله تَسائَلُونَ بِهِ ثم ابتدأ كما يقال: زيد ينبغي أن يكرم، ويحتمل أن يكون إغراء، لأن العرب من يرفع المغري.
وأنشد الفراء:
أين قوما منهم عمير ... وأشباه عمير ومنهم السفاح
لجديرون باللقاء إذا قال ... أخو النجدة السلاح السلاح «4»
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً أي حافظا، قيل: بمعنى فاعل وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ الآية.
قال مقاتل والكلبي: نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال، فمنعه عمه فترافع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال:
أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ويطع ربّه هكذا فإنه يحل داره» يعني جنته، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ثبت الأجر وبقي الوزر» [226] .
__________
(1) تفسير الطبري: 22/ 136.
(2) شرح الرضي على الكافية: 2/ 336، تفسير القرطبي: 10/ 14.
(3) تفسير الطبري: 4/ 300، والقرطبي: 5/ 3. وفيه (مهوى) بدل (غوط) .
(4) تفسير الطبري: 3/ 208، تفسير القرطبي: 5/ 6. [.....](3/242)
فقالوا: يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر؟ وهو بقي في سبيل الله.
فقال: «يثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده، وآتوا خطاب لأولياء اليتيم والأوصياء» «1» [227] .
وقوله تعالى: الْيَتامى فلا يتم بعد البلوغ، ولكنه من باب الاستعارة، كقوله: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ «2» ولا سحرة مع السجود، ولكن سمّوا بما كانوا عليه قبل السجود، وقوله:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ أي من كانوا يتامى إِذا بَلَغُوا وآنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً، نظيره: وَابْتَلُوا الْيَتامى «3» ، وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ يعني لا تستبدلوا مالهم الحرام عليكم بأموالكم الحلال لكم، نظيره قوله: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ «4» واختلفوا في معنى هذا التأويل وكيفيته:
فقال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي والضحاك: كان أولياء اليتامى وأوصيائهم يأخذون الجيد والرفيع من مال اليتامى، ويجعلون مكانه الرديء والخسيس، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم، فذلك تبدلهم فنهاهم الله تعالى عنها.
عطاء: لا تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر صغير.
ابن زيد: كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث.
وقال ابن زيد: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) لا يورثوهن شيئا فنصيبه من الميراث طيب وهذا الذي أخذه خبيث. مجاهد وباذان: لا تعجل الرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال.
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي مع أموالكم، كقوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «5» .
وأنشد المفضل سلمة بن الخرشب الأنصاري:
يسدون أبواب القباب بضمر ... إلى عنن مستوثقات نقاب الأواصر «6»
أي مع عنن.
إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً أي إثما عظيما، وفيه ثلاث لغات:
__________
(1) القرطبي: 5/ 8. وأسباب النزول: 94، بتفاوت بالألفاظ.
(2) سورة الأعراف: 120.
(3) سورة النساء: 6.
(4) سورة المائدة: 100.
(5) سورة آل عمران: 52، وسورة الصف: 14.
(6) تفسير القرطبي: 5/ 10، لسان العرب: 4/ 23.(3/243)
قرأه العامة: حُوباً بالضم، وهي لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل الحجاز، يدل عليه ما
روى أبو عبيد عن عباد بن عباد عن واصل مولى ابن عيينة قال: قلت لابن سيرين كيف يقرأ هذا الحرف: إِنَّهُ كانَ حُوباً أو حَوْبا؟ فقال: إن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن طلاق أم أيوب حوب» «1» [228] .
وقرأ الحسن: (حَوْبا) بفتح الحاء وهي لغة تميم.
[وقال مقاتل: لغة الحبش] «2» .
وقرأ أبي بن كعب: (حابا) على المصدر، مثل القال، ويجوز أن يكون اسما مثل الراد والنار، ويقال للذنب حوب وحاب وللأذناب، كذلك يكون مصدرا واسما، فقال: حاب يحوب حوبا وحوبا وحباية إذا أثم.
قال أبو معاذ: نزلنا منزلا قريبا من مدينة، فرمى رجل غطاية صغيرة [فقيل له] : يا حاج لا تقتلها فتصيب حوبا إنها لا تؤذي، ومنه قيل للقاتل حائب، حكاه الفراء عن بني أسد.
وقال أمية بن الأسكن الليثي وكان ابنه قد هاجر بغير إذنه:
وإن مهاجرين تكنفاه ... غداتئذ لقد خطئا وحابا «3»
وقال آخر:
عض على شبدعه الأريب ... فظل لا يلحي ولا يحوب «4»
وقال آخر:
وابن ابنها منا ومنكم وبعلها ... خزيمة والأرحام وعثاء حوبها «5»
أي شديد إثمها.
وقال آخر:
فلا تبكوا عليّ ولا تحنوا ... بقول الإثم إن الإثم حوب «6»
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى الآية، اختلف المفسرون في تنزيلها وتأويلها:
__________
(1) المعجم الكبير: 25/ 136.
(2) زيادة عن تفسير القرطبي: 5/ 10.
(3) تفسير الطبري: 4/ 306.
(4) الفائق للزمخشري: 2/ 180.
(5) لسان العرب: 2/ 202.
(6) تاريخ دمشق: 63/ 173.(3/244)
فقال بعضهم: معناها وإن خفتم ألّا تعدلوا يا معشر أولياء اليتامى فيهن، إذا تزوجتم بهن فانكحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلهن الله لكم.
وروى الزهري عن عروة عن عائشة قال: قلت لها ما قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فقالت: يا ابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها فنهي أن تنكحوهن إلّا أن تقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء.
قال الحسن: كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له تزويجها فيقول لها: لا أدخل في رباعي أحدا كراهة أن يدخل غريب فيشاركه في مالهنّ، فربما يتزوجهن لأجل مالهن ومن لا يعجبنه ثم نسى صحبتهن ويتربص بهن أن يمتن فيرثهن، فعاب الله عزّ وجلّ ذلك وأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
عكرمة: كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدما لما يلزمه من مؤن نسائه، مال على مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم: أمسكوا عن النساء ولا تزيدوا على أربع حتى لا يخرجكم إلى أخذ أموال اليتامى، وهذه رواية طاوس عن ابن عباس، ومعنى رواية عطية عنه.
وقال بعضهم: كانوا يتحرجون ويتحوبون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء ولا يتعددون فيهن ويتزوجون ما شاءوا، فربما عدلوا وربما لم يعدلوا، فلما سألوا عن حال مال اليتامى أنزل الله وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ الآية، وأنزل أيضا هذه الآية وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى يقول: كما خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى وهمّكم ذلك، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن ولا تتزوجوا أكثر ممّا يمكنكم امساكهنّ والقيام بحقهن، لأن النساء كاليتيم في الضعف والعجز، فما لكم تراقبون الله عزّ وجلّ في شيء وتعصونه في مثله، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي، ورواية الوالبي عن ابن عباس.
وقال الحسن أيضا: تحرجوا من نكاح اليتامى كما تحرجوا من أموالهم، فأنزل الله هذه الآية، ورخص فيهن وقصر بهن على عدد، فعليكم العدل فيهن، فإن خفتم يا معشر الأولياء في اليتامى التي أنتم ولاتهن ألّا تقسطوا، فأنكحوهن ولا تزيدوا على أربع، لتعدلوا، فإن خفتم ألّا تعدلوا فيهن فواحدة.
قال ابن عباس: قصر الرجال على أربع من النساء من أجل اليتامى.
مجاهد: معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى فأموالهم إيمانا وتصديقا، فكذلك تحرجوا عن الزنا، فانكحوا النساء الحلال نكاحا طيبا، ثم بيّن لهم عددا محصورا وكانوا يتزوجون ما شاءوا من غير عدد، فأنزل الله وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أي أن لا تعدلوا.(3/245)
وقرأها إبراهيم النخعي: (تَقسطوا) بفتح التاء وهو من العدل أيضا.
قال الزجاج: قسط واقسط واحد، إلّا أن الأفصح اقسط إذا عدل، وقسط إذا جار، وإن حملت قراءة إبراهيم على الجور وجعلت لا لغوا صحّ الكلام، واليتامى جمع لذكران الأيتام.
فَانْكِحُوا ما.
قرأ إبراهيم بن أبي عيلة: (مَن) لأن ما لما لا يعقل ومن لما يعقل، ومن قرأ (ما) فله وجهان:
أحدهما: أن ردّه إلى الفعل دون العين تقديره: فانكحوا النكاح الذي يحل لكم من النساء، وهذا كما تقول: خذ من رفيقي ما أردت والإخوان، تجعل (ما) بمعنى (من) ، والعرب يعقب ما من ومن ما.
قال الله تعالى وَالسَّماءِ وَما بَناها «1» وأخواتها، وقال: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ «2» الآية.
وحكى أبو عمرو بن العلاء: أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا: (سبحان ما يسبّح له الرعد) ، وقال الله: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ «3» .
طابَ حل لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.
وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش (طاب) : بالإمالة وفي مصحف أبيّ: (طيب) بالياء، وهذا دليل الإمالة.
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ معدولات عن اثنين وثلاث وأربع، فلذلك لا يصرفن، وفيها لغات موحد ومثنى ومثلث ومربع، وأحاد وثناء وثلاث ورباع، وأحد وثنى وثلث وربع، مثل عمر وزفر.
وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية، ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلّا بيتا جاء عن الكميت:
فلم يستريثوك حتى رميت ... فوق الرجال خصالا عشارا «4»
يعني طعنت عشرة.
__________
(1) سورة الشمس: 5.
(2) سورة النور: 45. [.....]
(3) سورة الشعراء: 23.
(4) تفسير الطبري: 4/ 316.(3/246)
قالوا: وهاهنا بمعنى [لو للتحقيق] «1» كقوله إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى «2» وقوله أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «3» وهذا إجماع الأمة، وخصائص النبي صلّى الله عليه وسلّم غير مشتركة.
الكلبي عن خميصة بنت الشمردل: أن قيس بن الحرث حدثها أنه كان تحته ثمان نسوة حرائر، قال: فلما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله قد أنزل الله عليك تحريم تزوج الحرائر إلّا أربع حرائر وأن تحتي ثمان نسوة، قال: «فطلّق أربعا وأمسك أربعا» [229] . قال: فرجعت إلى منزلي فجعلت أقول للمرأة التي ما تلد مني يا فلانة أدبري وللمرأة التي قد ولدت يا فلانة أقبلي، فيقول للتي طلق أنشدك الله والمحبة قال: فطلقت أربعا وأمسكت أربعا «4» .
فَإِنْ خِفْتُمْ خشيتم، وقيل: علمتم أَلَّا تَعْدِلُوا بين الأربع فَواحِدَةً.
قرأ العامة: بنصب.
وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر: (فَواحِدَةٌ) بالرفع، أي فليكفيكم واحدة، أي واحدة كافية، كقوله عزّ وجلّ: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ «5» .
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني الجواري والسراري، لأنه لا يلزمكم فيهن من الحقوق والذي يلزمكم في الحرمة، ولا قسمة عليكم فيهن ولا وقت عليكم في عددهن، وذكر الإيمان بيان تقديره أَوْ ما مَلَكَتْ.
وقال بعض أهل المعاني: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي ما ينفذ فيه أقسامكم جعله من يمين الحلف لا يمين الجارحة، واحتج
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم» «6» [230] .
ذلِكَ أَدْنى أقرب أَلَّا تَعُولُوا.
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا قال: «ألّا تجوروا» «7» [231] .
__________
(1) كذا الظاهر.
(2) سورة سبأ: 46.
(3) سورة فاطر: 1.
(4) باختصار في سنن ابن ماجة: 1/ 628 ح 1952.
(5) سورة البقرة: 282.
(6) السنن الكبرى: 10/ 33، كنز العمال: 16/ 711.
(7) فتح القدير: 1/ 424.(3/247)
وروى هشام بن عروة عن عائشة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أن لا تميلوا
، وأكثر المفسرين على هذا.
قال مقاتل: هو لغة جرهم، يقال: ميزان عائل، أي مائل. وكتب عثمان بن عفان (رضي الله عنه) إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه: أني لست بميزان لا أعول.
وأنشد عكرمة لأبي طالب:
بميزان صدق لا يغل شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل «1»
وقال مجاهد: ذلك أدنى ألّا تضلوا. وقال الفراء والأصم: أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم، وأصل العول المجاوزة، ومنه عول الفرائض. وقال الشافعي: أن لا تكثر عيالكم. وما قال هذا أحد غيره «2» . وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عياله.
قال أبو حاتم: كان [الشافعي] أعلم بلغة العرب منّا ولعله لغة.
قال الثعلبي: قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب: سألت أبا عمرو الدوري عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع فقال: هي لغة حمير.
وأنشد:
وإنّ الموت يأخذ كل حيّ ... بلا شك وإن أمشى وعالا «3»
أي كثرت ماشيته وعياله.
قال أبو عمرو بن العلاء: لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحنا.
وقرأ طلحة بن مصرف: ألّا تعيلوا، وهو قوة قول الشافعي. وقرأ بعضهم: ألّا تعيلوا من العيلة أي لا تفتقروا.
قال الشاعر:
ولا يدري الفقير متى غناه ... ولا يدري الغني متى يعيل «4»
وقرأ طاوس: لا تعيلوا من العلة.
روى بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» «5» [232] .
__________
(1) لسان العرب: 11/ 489، الصحاح الجوهري: 5/ 1777.
(2) عنه تفسير القرطبي: 5/ 22 وذكر ذهاب الدارقطني وجابر بن يزيد إلى هذا الرأي.
(3) تفسير القرطبي: 5/ 22.
(4) تفسير القرطبي: 8/ 106.
(5) سنن أبي داود: 1/ 473، كنز العمال: 16/ 341. [.....](3/248)
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً.
قال الكلبي وجماعة من العلماء: هذا خطاب للأولياء، وذلك أن ولي المرأة كان إذا زوّجها غريبا حملوها إليه على بعير ولا يعطونها من مهرها شيء، فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيرا، وإن كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئا غير ذلك البعير»
، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة «2» ، يريدون أنه يأخذ مهرها إبلا فيضمها إلى إبله فينتفجها أي يعظمها ويكثرها.
قال بعض النساء في زوجها:
لا تأخذ الحلوان من بناتها «3»
تقول: لا يفعل ما يفعله غيره، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك وأمرهم بأن يدفعوا الحق إلى أهله.
قال الحضرمي: كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته لا مهر بينهما، فنهوا عن ذلك وأمرهم بتسميته وأمروا المهر عند العقد.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا شغار في الإسلام» «4» [233] .
وقال آخرون: الخطاب للأزواج أمروا بإيفاء نسائهن مهورهنّ التي هي أثمان فروجهنّ، وهذا أصح وأوضح بظاهر الآية وأشبه، لأن الله تعالى خاطب الناكحين فيما قبله، وهذا أصل خطابهم. والصدقات المهور واحدها صدقة بفتح الصاد وضم الدال على لفظ الجمع، وهي لغة أهل الحجاز وتميم. يقول صدقة بضم الصاد وجزم الدال، فإذا جمعوا قالوا: صدقات بضم الصاد وسكون الدال، وصدقات بضم الصاد والدال مثل ظلمة وظلمات، وظلمات نظيرها المثلات، لغة تميم مثلة ومثلات ومثلات بفتح الميم وضم الثاء واحدتها مثلة على لفظ الجمع لغة الحجاز.
نِحْلَةً قال قتادة: فريضة واجبة، ابن جريح وابن زيد: فريضة مسمّاة. قال أبو عبيد:
ولا تكون النحلة مسماة معلومة، الكلبي: عطية وهبة، أبو عبيدة: عن طيب نفس، الزجاج:
تدينا، وفيه لغتان: نحلة ونحلة، وأصلها من العطاء وهي نصب على التفسير وقيل على المصدر.
روى مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج» «5» [234] .
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 23.
(2) النافجة: المعظمة لمال أبيها، قاله في الصحاح: 1/ 345.
(3) تفسير القرطبي: 5/ 24.
(4) صحيح مسلم: 4/ 139، ومسند أحمد: 4/ 441.
(5) مسند أحمد: 4/ 144، مسند أبي يعلى: 2/ 291.(3/249)
وعن يوسف بن محمد بن عبد الحميد بن زياد بن صهيب عن أبيه عن جده صهيب قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أدان بدين وهو مجمع أن لا يفي به لقى الله عزّ وجلّ سارقا، ومن أصدق امرأة صداقا وهو مجمع على أن لا يوفيها لقى الله عزّ وجلّ زانيا» «1» [235] .
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً يعني فإن طابت نفوسهنّ بشيء من ذلك فوهبن منكم فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها، فخرجت النفس مفسرة، ولذلك وحدّ النفس، كما يقال:
ضاق به ذرعا وقرّ به عينا، قال الله تعالى: وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً «2» .
وقال بعض نحاة الكوفة: لفظها واحد ومعناها جمع، والعرب تفعل ذلك كثيرا.
قال الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب «3»
وقال آخر:
في حلقكم عظم وقد شجينا «4»
وقال بعض نحاة البصرة:
إذا ما دنا الليل المضي بذي الهوى «5»
والهوى مصدر، والمصادر لا تجمع فَكُلُوهُ أي خذوه واقبلوه هَنِيئاً مَرِيئاً قال الحضرمي: إن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء ممّا ساق إلى امرأته، فقال الله:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً من غير إكراه ولا خديعة فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً أي سائغا طيبا، وهو مأخوذ من هنّات البعير إذا عالجته بالقطران من الجرب، معناه فكلوه هنيئا شافيا معافيا، هنأني الطعام يهنيني بفتح النون في الماضي وكسره في الغابر يهنيني يهناني على الضد وهي قليلة، والمصدر منهما هنؤ يقال: هنأني ومرأني بغير ألف فيها، فإذا أفردوا قالوا: أمرأني بالألف وقيل الهنيء الطيب المتاع الذي لا ينغصه شيء، والمريء المحمود العاقبة التام الهظم الذي لا يضر ولا يؤذي، يقول: لا تخافون في الدنيا مطالبة ولا في الآخرة تبعة، يدل عليه ما
روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سأل عن هذه الآية فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً قال: «إذا جادت لزوجها بالعطية غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة» «6» [236] .
__________
(1) المعجم الكبير: 8/ 35، كنز العمال: 16/ 322 ح 44724.
(2) سورة العنكبوت: 33.
(3) تفسير الطبري: 4/ 325.
(4) تفسير الطبري: 4/ 325.
(5) البداية والنهاية: 10/ 225.
(6) تفسير القرطبي: 5/ 27.(3/250)
روى إبراهيم بن عيسى عن علي بن علي عن أبي حمزة قال: (هَنِيئاً) لا إثم فيه (مَرِيئاً) لأداء فيه في الآخرة.
وروى شعبة عن علي قال: إذا ابتلى أحدكم شيئا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم يشتر به عسلا، فليشربه بماء السماء فيجمع الله له الهنيء المريء والشفاء والماء المبارك.
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً الآية.
اختلفوا في هؤلاء السفهاء من هم؟
فقال قوم: هم النساء.
قال الحضرمي: عمد رجل فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
مجاهد: نهى الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم وبين سفهاء من كن أزواجا أو كن أو بنات أو أمهات.
جويبر عن الضحاك: النساء من أسفه السفهاء، يدل على صحة هذا التأويل ما
روى علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إنما خلقت النار للسفهاء.
يقولها ثلاثا. ألا وإن السفهاء النساء إلّا امرأة أطاعت قيّمها» «1» [237] .
أبان عن ابن عياش عن أنس بن مالك قال: جاءت امرأة سوداء جريئة المنطق ذات ملح إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله قل فينا خيرا مرة واحدة، فإنه بلغني أنك تقول فينا كل شرّ. قال: «أي شيء قلت لكنّ؟» قالت: سمّيتنا السفهاء في كتابه وسمّيتنا النواقص.
فقال: «وكفى نقصانا أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيهنّ، أما يكفي إحداكنّ إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله، وإذا وضعت كانت كالمتشحط بدمه في سبيل الله، وإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل، وإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل، وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن بالعشير» [238] . قالت السوداء: يا له فضلا لولا ما تبعه من الشرط «2» .
وروى عاصم عن مورق قال: مرّت امرأة بعبد الله بن عمر لها شارة وهيبة فقال لها ابن عمر: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ. وقال معاوية بن قرة: عوّدوا نساءكم فإنهن سفيهات، إن أطعت المرأة أهلكتك.
__________
(1) لم نجد هذا الحديث بهذا النص.
(2) مجمع البيان: 3/ 18.(3/251)
وقال آخرون: هم الأولاد، وهي رواية عطية عن ابن عباس.
قال الزهري وأبو مالك وابن يقول: لا تعط ولدك السفيه مالك الذي هو قوامك بعد الله فيفسده، وقال بعضهم: هم النساء والصبيان. قال الحسن: هي امرأتك السفيهة وابنك السفيه.
قتادة: أمر الله بهذا المال أن يخزن فيحسن خزائنه ولا تملكه المرأة السفيهة ولا الغلام السفيه فيبذره، قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «1» .
عبيد عن الضحاك: ولا تعطوا نساءكم وأبناءكم أموالكم فيكونوا عليكم أربابا.
ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذي خوّلك الله تعالى وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم.
الكلبي: إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد، فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله ليفسده.
وقال السدي: لا تعط المرأة مالها حتى تتزوج وإن قرأت التوراة والإنجيل والقرآن، ولا تعط الغلام ماله حتى يحتلم.
وقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو مال اليتيم يكون عندك، يقول: لا تؤته إياه، وأنفق عليه حتى يبلغ، فإن قيل على هذا القول: كيف أضاف المال إلى الأولياء فقال: (أَمْوالَكُمُ) وهي أموال السفهاء؟ قيل: إنما أضاف إليهم لأنها الجنس الذي جعله الله أموالا للناس كقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ «2» وقوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «3» ردّها إلى الجنس، أي الجنس الذي هو جنسكم.
وقال محمد بن جرير: إنما أضيفت إلى الولاة لأنهم قوامها ومدبروها، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحق للحجر بتضييعه ماله وإفساده وسوء تدبيره.
روى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه، ورجل أعطى سفيها ماله وقد قال الله وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ أي الجهال بموضع الحق.
أَمْوالَكُمُ الَّتِي.
__________
(1) سورة البقرة: 188. [.....]
(2) سورة التوبة: 128.
(3) سورة البقرة: 54.(3/252)
قرأ الحسن والنخعي: اللاتي، وهما بمعنى واحد.
وأنشد:
من اللواتي والتي واللاتي ... زعمن أني كبرت لذاتي «1»
فجمع بين ثلاث لغات.
قال الفراء: العرب تقول في جمع النساء: اللاتي، أكثر مما تقولون: التي، ويقولون في جمع الأموال وسائر الأشياء: التي، أكثر ممّا يقولون: اللاتي، وهما جائزان.
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً قرأ ابن عمر (قَواما) بالواو وفتح القاف كالدوام، وقرأ عيسى بن عمر (قِواما) بكسر القاف على الفعل، لأن الأصل الواو.
وقال الكسائي: هما لغتان ومعناهما واحد، وكان أبو حاتم يفرّق بينهما فيقول: القوام بالكسر الملاك، والقوام بالفتح امتداد القامة.
وقرأ الأعرج ونافع: (قيّما) بكسر القاف.
الباقون: (قياما) وأصله قواما فانقلب الواو ياء، لانكسار ما قبلها، مثل صيام ونيام، وهن جميعا ملاك الأمر وما يقول به الإنسان، يقال: فلان قوام أهل بيته، وأراد هاهنا قوام عيشكم الذي تعيشون به.
وقال الضحاك: به يقام الحج والجهاد وأعمال البر، وهي فكاك الرقاب من النار.
وقال بعضهم: أموالكم التي تقومون بها قياما.
وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي أطعموهم وَاكْسُوهُمْ لمن يجب عليكم رزقه ويلزمكم نفقته، والرزق من الله عزّ وجلّ عطية غير محدودة، ومن الناس الإجراء الموظف بوقت محدود، يقال:
رزق فلان عياله كذا وكذا، أي أجرى عليهم، وإنما قال: فِيها، ولم يقل: منها، لأنه أراد أن يجعل لهم فيها رزقا، كأنه أوجب عليهم ذلك. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً عدة جميلة.
وقال عطاء: (قَوْلًا مَعْرُوفاً) إذا ربحت أعطيتك كذا وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظا.
الضحاك: ردوا عليهم ردا جميلا.
وقيل: هو الدعاء.
قال ابن زيد: إن كان ليس من ولدك ولا ممّن يجب عليك نفقته فقل له قَوْلًا مَعْرُوفاً، قل له عافانا الله وإيّاك بارك الله فيك.
__________
(1) لسان العرب: 15/ 239.(3/253)
وقال المفضل: قولا لينا تطيب به أنفسهم، وكلما سكنت إليه النفس أحبته من قول أو عمل فهو معروف، وما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر وَابْتَلُوا الْيَتامى الآية،
نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفى وترك ابنه ثابتا وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله، فأنزل الله تعالى وَابْتَلُوا الْيَتامى
أي اختبروهم في عقولهم وأبدانهم وحفظهم أموالهم حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أي مبلغ الرجال والنساء فَإِنْ آنَسْتُمْ أبصرتم، قال الله: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً «1» .
قال الشاعر:
آنست نبأة وأفزعها القناص ... عصرا وقد دنا الإمساء «2»
في مصحف عبد الله: فإن أحستم بمعنى أحسستم، فحذف إحدى السينين كقولهم:
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ «3» .
قال الشاعر:
خلا إن العتاق من المطايا ... أحسن به فهنّ إليه شوس «4»
مِنْهُمْ رُشْداً. قرأه العامة: بضم الراء وجزم الشين. وقرأ السلمي وعيسى: بفتح الراء والشين، وهما لغتان.
قال المفسرون: يعني عقلا وصلاحا وحفظا للمال وعلما بما يصلحه.
قال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي: إن الرجل يأخذ بلحيته وما بلغ رشده فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا، حتى يؤنس منه رشده.
قال الضحاك: لا يعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله.
ذكر حكم الآية:
اعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن اليتيم الصغير وجواز دفع ماله إليه بشيئين: البلوغ والرشد، بعد أن أمر الأولياء بالابتلاء.
ومعنى الابتلاء على ما ذكره جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو من أحد أمرين: إما أن
__________
(1) سورة القصص: 29.
(2) غريب الحديث لابن قتيبة: 1/ 22، لسان العرب: 1/ 164.
(3) سورة الواقعة: 65.
(4) التبيان: 7/ 205، تاج العروس: 4/ 128 ونسبه إلى أبي زبيد.(3/254)
يكون غلاما أو جارية، فإن كان غلاما ردّ النظر في نفقة الدار إليه شهرا أو إعطائه شيئا نزرا يتصرف فيه ليعرف كيف تدبيره وتصرفه فيه، وإن كان جارية ردّ إليها ما يرد إلى ربّة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه، وفي الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته واستيفاء الغزل وجودته، فإن رشدا وإلّا بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما «1» ، فأما البلوغ فإنه يكون بأحد خمسة أسباب، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء واثنان يختص بهما النساء، والتي يشترك فيها الرجال والنساء: فالاحتلام وهو إنزال المني، فمتى أنزل واحد منهما فقد بلغ، سواء كان من جماع أو احتلام أو غيرهما، والدليل عليه قوله: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا «2»
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «خذ من كل حالم دينارا أو عد له من المعافر» «3» [239] .
واختلف العلماء فيه، فقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: إذا استكمل الصبي خمس عشرة سنة أو أنبت حكمنا ببلوغه.
وقال أبو حنيفة: إن كانت جارية فبلوغها سبع عشرة سنة، وعنه في الغلام روايتان:
أحدهما: تسع عشرة سنة، وهي الأشهر وعليها النظر.
وروى اللؤلؤي عنه: ثمان عشرة سنة. وقال مالك وداود: لا يبلغ بالسن ثم اختلفا، فقال داود: لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة، وقال مالك: بلوغه بأن يغلظ صوته أو تنشق أرنبته.
والدليل على أن جدّ البلوغ بالسن خمس عشرة سنة
حديث عبد الله بن عمر قال: عرضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني فلم يرني بلغت أي، وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني الله في المقاتلة.
والإنبات وهو أن ينبت: في الغلام أو الجارية الشعر الخشن حول الفرج.
وللشافعي في الإنبات قولان:
أحدهما: أنه بلوغ، والثاني: دلالة البلوغ.
وقال أبو حنيفة: لا يتعلق بالإنبات حكم، وليس هو ببلوغ ولا دلالة عليه.
والدليل على أن البلوغ بالإنبات متعلق بما
روى عطية القرظي عن سعد بن معاذ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حكّمه في بني قريظة قال: فمكثت أكشف عنهم فكل من أنبت قتلته، ومن لم ينبت جعلته في الذرّية.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 35.
(2) سورة النور: 59.
(3) سنن أبي داود: 1/ 354 ح 1576.(3/255)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» «1» [240] .
قال عطية: فكنت ممّن لم ينبت فجعلني في الذرّية.
وأما ما يختص به النساء: فالحيض والحبل، يدل عليه ما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يقبل صلاة حائض إلّا بخمار»
«2» [241] فجعلها مكلفة بالحيض، وهذا القول في حدّ البلوغ.
فأما الرشد: فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال الشافعي: هو أن يكون صالحا في دينه مصلحا في ماله، والصلاح في الدين أن يكون متجنبا للفواحش التي يفسق بها، وتسقط عدالته كالزنا واللواط والقذف وشرب الخمر ونحوها.
وإصلاح المال: أن لا يضيّعه ولا يبذّره ولا يغبن في التصرف غبنا فاحشا، فالرشد شيئان:
جواز الشهادة وإصلاح، المال وهذا قول الحسن وربيعة ومالك.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إذا بلغ عاقلا مصلحا لماله، زال الحجر عنه بكل حال، سواء كان فاسدا في دينه أو صالحا فيه. فاعتبروا صلاح المال ولم يعتبروا صلاح الدين.
ثم اختلفوا فيه إذا بلغ عاقلا مفسدا لماله:
فقال أبو يوسف ومحمد: لا يزول الحجر عنه ويكون تصرفه باطلا إلّا النكاح والعتق، ويبقى تحت الحجر أبدا إلى أن يظهر رشده.
وقال أبو حنيفة: إذا بلغ عاقلا زال الحجر عنه، فإن كان مفسدا لماله منع من تسليم ماله إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها يسلّم المال إليه بكل حال، سواء كان مفسدا له أو غير مفسد. وقيل: إنّ في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسدا ينفذ تصرفه على الإطلاق، وإنما منع من تسليم المال إليه احتياطا لماله، فقال: وجه تحديده بخمس وعشرين سنة أنه قد يحبل منه لاثني عشرة سنة ثم يولد له لستة أشهر ثم يحمل لولده باثني عشر سنة ثم يولد له لستة أشهر فيصير جدا.
قال: وأستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدّا، وإذا حصل البلوغ والرشد دفع المال إليه سواء تزوج أو لم يتزوج.
وقال مالك: إن كان صاحب المال جارية وتبلغ رشيدة، فالحجر باق عليها، وتمنع من مالها حتى تتزوج، وإذا تزوجت يسلّم مالها، إليها ولا يجوز لها أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها حتى تكبر وتجرّب ثم حينئذ يبعد تصرفها بغير إذنه، واطلاق في الغلام. والذي يدل على
__________
(1) زاد المسير: 6/ 194، والفائق للزمخشري: 2/ 52.
(2) مسند أحمد: 4/ 150، سنن أبي داود: 1/ 152، ح 641.(3/256)
فساد هذا المذهب ما
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب يوم العيد ثم نزل فذهب إلى النساء فوعظهن فقال: «تصدقن ولو من حليكنّ» «1» [242] فكنّ تتصدقنّ فجعلت المرأة تلقي حرصها وسخائها
، فأمرهنّ عليه السلام بالصدقة وقبلها منهنّ، ولم يفصل بين متزوجة وغير متزوجة ولا بين من تصدقت بإذن زوجها أو بغير إذنه، فهذا القول في الحجر على الصغير، وبيان حكم قوله:
وَابْتَلُوا الْيَتامى، فأما قوله: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الآية.
حكم الكلام في الحجر على السفيه
فاختلف العلماء فيه:
فقال أبو حنيفة ونفر: لا حجر على حر بالغ عاقل بوجه، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا. وهو مذهب النخعي، واحتجوا في ذلك بما
روى قتادة عن أنس: أن حيان بن منقذ كان يخدع في البيع فأتى أهله النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إن حيان بن منقذ يعقد وفي عقده ضعف فأحجر عليه.
فاستدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «لا تبع» فقال: لا أصبر عن البيع، فقال له: «إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا» «2» [243] .
فلما سأله القوم الحجر عليه على ما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل، ثبت أنه لا يجوز.
قال الشافعي: إن كان مفسدا لماله ودينه أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه، وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لماله فعلى وجهين:
أحدهما: يحجر عليه، وهو اختيار أبي العباس بن شريح.
والثاني: لا يحجر عليه، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، والأظهر من مذهب الشافعي، وهو الذي ذكرناه من الحجر على السفيه، قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبد الله بن جعفر، ومن التابعين شريح وبه قال من الفقهاء: مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وادّعى أصحابنا الإجماع في هذه المسألة، ما
روى هشام بن عروة عن أبيه: أنّ عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم، فغبن فيها فأراد عليّ أن يحجر عليه، فأتى ابن جعفر إلى الزبير فقال: إني اشتريت وأن عليا يريد أن يأتي حبر المؤمنين فيسأله أن يحجر عليّ.
__________
(1) صحيح مسلم: 2/ 80 ومسند أحمد: 6/ 262.
(2) تفسير القرطبي: 5/ 27. [.....](3/257)
فقال الزبير: أنا شريكك في البيع، فقال: عليّ عثمان.
وقال علي: إن ابن جعفر اشترى كذا وكذا أحجر عليه.
وقال الزبير: أنا شريكه في البيع، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير.
فثبت من هذه القصة إجماع الصحابة على جواز الحجر، لأن عبد الله بن جعفر خاف من الحجر، والزبير احتال له فيما يمنعه منه، وعليّ سأل ذلك عثمان، وعثمان اعتذر إليه في الامتناع منه.
وَلا تَأْكُلُوها يا معشر الأوصياء والأولياء بغير حقها إِسْرافاً والإسراف مجاوزة الحد والإفراط والخطأ ووضع الشيء في غير موضعه، يقال: مررت بكم فسرقتكم، أي فسهوت عنكم وأخطأتكم.
قال جرير:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم منّ ولا سرف «1»
أي خطأ، يعني أنهم يصيبون مواضع العطاء وَبِداراً مبادرة أَنْ يَكْبَرُوا أن في محل النصب يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذرا أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم، ثم بيّن ما يحل لهم من مالهم، فقال عز من قائل: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا عن مال اليتيم فَلْيَسْتَعْفِفْ عن مال اليتيم، فلا يجوز له قليلا ولا كثيرا، والعفة الامتناع ممّا لا يحل ولا يجد فعله، قال الله تعالى:
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً «2» .
وَمَنْ كانَ فَقِيراً محتاجا إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ واختلف العلماء فيه:
فقال بعضهم: المعروف القرض، نظيره قوله: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ «3» يعني القرض، ومعنى الآية: تستقرض من مال اليتيم فإذا أيسر قضاه، فإن لم يقدر على قضائه فلا شيء عليه.
وقال به سعيد بن جبير وعبيدة السلماني وأبي العالية، وأكثر الروايات عن ابن عباس.
قال مجاهد: ليستسلف منه فيتجر فيه فإذا أيسر أدى، ودليل هذا التأويل ما روى إسرابيل وسفيان عن إسحاق عن حارثة بن مصرف قال: قال عمر بن الخطاب: ألا إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت فإن افتقرت أكلت بالمعروف وإن أيسرت قضيت.
__________
(1) تفسير الطبري: 4/ 337.
(2) سورة النور: 33.
(3) سورة النساء: 114.(3/258)
وقال الشعبي: لا تأكله إلّا أن تضطر إليه كما تضطر إلى الميتة.
وقال آخرون: (بِالْمَعْرُوفِ) هو أن يأكله من غير إسراف ولا قضاء عليه فيما يأكل، ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف:
فقال عطاء وعكرمة والسدي: يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف في الأكل، ولا يكتسي منه.
وقال النخعي: لا يلبس الحلل ولا الكتان، ولكن ما سدّ الجوعة ووارى العورة.
وقال بعضهم: هو أن يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه، فأما الذهب والفضة فلا، فإن أكله فلا بد من أن يرده، وهذا قول الحسن وجماعة.
قال قتادة: كان اليتيم يكون له الحائط من النخل فيقوم وليّه على صلاحه وسقيه فيصيب من ثمرته ويكون له الماشية، فيقوم وليه على صلاحها وعلاجها فيصيب من جزازها وعوارضها، فأما رقاب المال وأصولها فليس له أن يستهلكها.
وقال الضحاك: المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم وليس له أن يأكل من ماله شيئا.
وروى بكر بن عبد الله بن الأشج عن القاسم بن محمد قال: حضرت ابن عباس، فجاءه رجل فقال: يا ابن عباس إن لي أيتاما ولهم ماشية، فهل عليّ جناح في رسلها وما يحل لي منها؟
فقال: إن كنت ترد نادتها وتبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها «1» وتفرط لها يوم وردها، فاشرب من فضل ألبانها عنهم غير مضر بأولادها ولا تنهكها في الحلب.
قال بعضهم: المعروف هو أن يأخذ من جميع ماله، إذا كان يلي ذلك بقدر قيامه [وخدمته] وعمله وأجرته، وإن أتى على جميع المال ولا قضاء عليه، وهذا طعمة من الله تعالى له وبه.
قالت به عائشة وجماعة من العلماء، وقال محمد بن كعب القرظي مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ: عن مال اليتيم ولا تأكل منه شيئا وأجره على الله وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ يتقرم بتقرم البهيمة، وينزل نفسه بمنزلة الأجير فيما لا بد له منه والتقرم: الالتقاط من نبات الأرض وبقلها، ودليل هذا التأويل ما
روى ابن أبي نجيح عن المحسن العوفي عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن في حجري يتيما أفأضربه؟ فقال:
«ممّا كنت ضاربا منه ولدك» [244] قال: يا رسول الله أفآكل من ماله؟ قال: «بالمعروف غير متأثل من ماله ولا واقيا مالك بماله» » [245] .
__________
(1) هنأ الإبل: طلاها بالهناء وهو ضرب من القطران، ولاط الحوض: طلاها بالطين وأصلحه.
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 5/ 161.(3/259)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
وأصل المعروف ما تيسر على الإنسان فطابت نفسه به، قال الله تعالى: مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ «1» .
فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ هذا أدب من الله تعالى، ليعلم أن الولي قد أدى الأمانة وينقطع عنه الظنّة وتزول عنه الخصومة وليس بفريضة وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً محاسبا ومجازيا وشاهدا.
[سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 14]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ الآية، وذلك
أن أوس بن ثابت الأنصاري توفى وترك امرأة يقال لها: أم كحة وثلاث بنات له منها، فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصيّاه. واختلف في اسميهما فقال الكلبي وقتادة: عرفطة، وقال غيره: سويد وعرفجة. فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا. وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، وإنما كانوا يورثون الرجال الكبار، فكانوا يقولون: لا نعطي إلّا من قاتل على ظهر الخيل
__________
(1) سورة البقرة: 241.(3/260)
وجاز القسمة. قال: فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في مسجد الفضيح فقالت: يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات وترك عليّ بنات له ثلاثا وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن، وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة، فلم يعطياني ولا بناته من المال شيئا وهنّ في حجري، ولا يطعمن ولا يسقين ولا يرفع لهن رأس. فدعاهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلأ ولا ينكأ عدوا.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انصرفوا حتى أنظر ماذا يحدث الله لي فيهن» «1» [246] فانصرفوا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
لِلرِّجالِ يعني الذكور من أولاد الميت وأقربائه نَصِيبٌ وحظ وسهم مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ من الميراث، والإناث لهن حصّة من الميراث.
مِمَّا قَلَّ مِنْهُ المال أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً حظا معلوما واجبا، نظيرها فيما قال:
لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً «2» وهو نصب لخروجه مخرج المصدر كقول القائل: لك عليّ حق حقا واجبا، وعندي درهم هبة مقبوضة، قاله الفراء.
وقال أبو عبيدة: هو نصب على الخروج، الكسائي: على القطع، الأخفش: جعل ذلك نصيبا فأثبت لهم في الميراث حقا، ولم يبيّن كم هو.
-
فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سويد وعرفجة: «لا تفرّقا من مال أوس بن ثابت شيئا، فإن الله تعالى جعل لبناته نصيبا ممّا ترك ولم يبين كم هو، حتى ننظر ما ينزل الله عزّ وجلّ فيهن» ، فأنزل الله عزّ وجلّ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلى قوله ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فلما نزلت أرسل رسول الله إلى سويد وعرفجة: «أن ادفعا إلى أم كحة الثمن ممّا ترك وإلى بناته الثلثين، ولكما باقي المال» «3» .
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ يعني قسمة المواريث أُولُوا الْقُرْبى الذين لا يرثون وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي فارضوهم من المال قبل القسمة، واختلف العلماء في حكم هذه الآية:
فقال قوم: هي منسوخة. وقال سعيد بن المسيب والضحاك وأبو مالك: كانت هذه قبل آية المواريث، فلما نزلت آية الميراث جعلت الميراث لأهلها الوصية ونسخت هذه الآية، وجعلت لذوي القربى الذين يحزنون ولا يرثون اليتامى والمساكين، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس.
وقال آخرون: هي محكمة، وهو قول الأشعري والنخعي والشعبي والزهري ورواية عكرمة ومقسم عن ابن عباس. وقال مجاهد: واجبة على أهل الميراث ما طابت بها أنفسهم.
__________
(1) أسباب النزول: 96.
(2) سورة النساء: 118.
(3) تفسير القرطبي: 5/ 47.(3/261)
قتادة عن الحسن: ليست بمنسوخة ولكن الناس شحوا وبخلوا.
وروى عبد الرزاق عن معمّر عن هشام بن عروة: أن أباه أعطاه من ميراث مصعب حين قسم ماله، قاله الحسن.
وقال التابعون: كانوا يعطون التابوت والأواني وباقي المتاع والثياب، والشيء الذي يستحي من قسمته، فإن كان بعض الورثة طفلا، فاختلفوا:
فقال ابن عباس والسدي وغير هما: إذا حضر القسمة هؤلاء، فإن كان الميّت أوصى لهم بشيء أنفدت لهم وصيته، وإن كانت الورثة كبارا رضخوا لهم، وإن كانت صغارا اعتذروا إليهم، فيقول الولي والوصي: إني لا أملك هذا إنما هو لهؤلاء الضعفاء الصغار الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق، ولو كان لي من الميراث شيء لأعطيتكم، وإن يكبروا فسيعرفون حقكم، وإن ماتوا فورثناهم أعطيناكم حقكم، وهذا هو القول المعروف.
وقال سعيد بن جبير: هذه الآية ممّا يتهاون به الناس، هما وليان: وليّ يرث وهو الذي يعطي ويكسي، ووليّ لا يرث وهو الذي يقال له قول المعروف.
وقال بعضهم: ذلك حق واجب في أموال الصغار والكبار، فإن كانوا كبارا تولوا إعطاءهم، وإن كانوا صغارا تولى إعطاء ذلك وليّهم.
روى محمد بن سيرين: أن عبيدة السلماني قسّم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت فصنع طعاما لأهل هذه الآية، وقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي.
روى قتادة عن يحيى بن يعمر قال: تلك آيات محكمات مدنيات تركهن الناس، هذه الآية وآية الاستئذان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «1» وقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى «2» .
وقال بعضهم: هذا على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب، وهو أول الأقاويل بالصواب.
وقال ابن زيد وغيره: هذا في الوصية لا في الميراث، كان الرجل إذا أوصى قال: فلان ماله أمر أن يوصي بثلث ماله لمن سمّى الله في هذه الآية.
وروى ابن أبي مليكة عن أسماء بنت عبد الرحمن وأبي بكر والقاسم بن محمد بن أبي بكر: أخبرا أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسّم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حيّة،
__________
(1) سورة النور: 58.
(2) سورة الحجرات: 13.(3/262)
قالا: فلم يترك في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلّا أعطاهم من مال أبيه، وتلا هذه الآية وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ.
قال القاسم: فذكرت ذلك لابن عباس فقال: ما أصاب، ليس ذلك له إنما ذلك في الوصية.
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا الآية.
قال أكثر المفسرين: هذا في الرجل يحضره الموت فيقول من بحضرته عند وصيته: أنظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئا، فقدّم لنفسك أعتق وتصدق وأعط فلانا كذا وفلانا كذا حتى يأتي على عامّة ماله ويستغرقه ولا يبقي لورثته شيئا، فنهاهم الله عزّ وجلّ من ذلك وأمر هم أن يأمروه أن يبقي لولده ولا يزيد في وصيته على الثلث ولا يجحف بورثته، كما لو كان هذا الميت هو الموصي، لسرّه أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالة مع ضعفهم، ويجرهم إلى التصرّف والحيلة.
وقال مقسم الحضرمي: الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته: اتق الله وأمسك عليك مالك فليس أحد أحق بمالك من أولادك، وينهاه عن الوصية لأقربائه ولليتامى والفقراء، ولو كان هذا هو الموصي لسرّه أن يوصي لهم.
وقال الكلبي: هذا الخطاب لولاة اليتامى يقول: من كان في حجره يتيم فليحسن إليه، فليقل وليفعل خيرا وليأت إليه ما يحب أن يفعل بذريته من بعده. وهي رواية عطية عن ابن عباس.
وقال الشعري: كنّا بالقسطنطينيّة أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محبرين وابن الديلمي وهاني بن مكتوم، وجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان، فضقت ذرعا لما سمعت فقلت لابن الديلمي: يا أبا بشير عليّ ودّي أنه لا يولد لي ولد أبدا قال: فضرب بيده على منكبي وقال: يا ابن أخي لا تفعل فإنه ليست من قسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل إلّا وهي خارجة شئنا أو أبينا، ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجّاك الله منه، وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله فيك؟ قلت: بلى فتلا هذه الآية، وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً والسديد العدل والصواب من القول إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية.
قال مقاتل بن حيان: نزلت في رجل من غطفان يقال له مرثد بن زيد، ولّي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله فأنزل الله عزّ وجلّ فيه إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً حراما بغير حق إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً أخبر عن ماله وأخبر عن حاله، والعرب تقول للشيء الذي يؤدى إلى الشيء: هذا كذا لما يؤدى إليه، مثل قولهم: هذا الموت، أي يؤدي إليه.(3/263)
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: في الشارب من أواني الذهب والفضة «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» «1» [247] .
وقال (عليه السلام) : «البحر نار في نار»
«2» [248] أي عاقبتها كذلك، وذكر البطون تأكيدا كما يقال: نظرت بعيني وقلت بلساني وأخذت بيدي ومشيت برجلي وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وقودا.
قرأه العامة بفتح الياء، أي يدخلون، تصديقها إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ، وقوله: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى «3» .
وقرأ أبو رجاء والحسن وابن عامر وعاصم وأبو جعفر: بضم الياء، أي يدخلون النار ويحرقون نظيره، قوله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ «4» وقوله: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً «5» .
وقرأ حميد بن قيس: (وسيصلّون) بضم الياء وتشديد اللام، من التصلية، لكثرة الفعل، أي مرّة بعد مرّة، دليله قوله: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ «6» وكل صواب، يقال: صليت الشيء إذا شويته.
وفي الحديث: أتى بشاة مصلية، فاصليته ألقيته في النار، وصليته مرّة بعد مرّة
، وصليت بكسر اللام دخلت النار وتصلّيت استدفأت بالنار. قال الشاعر:
وقد تصليت حرّ حربهم ... كما تصلّى المقرور من قرس «7» .
وقال السدي: يبعث آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة، ولهب النار ودخانه يخرج من فيه وأذنيه وأنفه وعينيه، يعرفه كل من رآه يأكل مال اليتيم.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل إحداهما عالية على منخريه وأخرى على بطنه، وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها، ثم يخرج من أسافلهم، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» «8» [249] .
يُوصِيكُمُ اللَّهُ.
__________
(1) تفسير القرطبي: 16/ 112، تفسير ابن كثير: 1/ 212.
(2) تفسير القرطبي: 18/ 211.
(3) سورة الليل: 15. [.....]
(4) سورة المدثر: 26.
(5) سورة النساء: 30.
(6) سورة الحاقة: 31.
(7) تفسير القرطبي: 5/ 54.
(8) تفسير الطبري: 4/ 263، (بتفاوت) .(3/264)
فصل في بسط الآية
اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالرجولية والقوة، وكانوا يورثون الرجال دون النساء والأطفال، فأبطل الله عزّ وجلّ ذلك بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ وكانت الوراثة أيضا في الجاهلية، وبدأ الإسلام بالمحالفة قال الله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ يعني الحلفاء فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ وأعطوهم حظهم من الميراث، ثم صارت بعد الهجرة، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا «1» فنسخ هذا كله وصارت الوراثة على وجهين: بالسبب والنسب، فأما السبب فهو النكاح والولاء، وهذا علم عريض لذلك.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالفرائض فإنها نصف العلم وهو أول علم ينزع من أمتي» «2» [250] .
ولا يمكن معرفة ذلك إلّا بمعرفة الورثة والسهام، وقد أفردت فيه قولا وجيزا جامعا كما يليق بشرط الكتاب والله الموفق للصواب.
اعلم أن الميت إذا مات يبدأ أولا بالتجهيز ثم بقضاء ديونه ثم بإنفاذ وصاياه، فما فضل يقسّم بين الورثة، والورثة على ثلاثة أقسام:
منهم من يرث بالفرض، ومنهم من يرث بالتعصيب، ومنهم من يرث بهما جميعا، فصاحب الفرض: من له سهم معلوم ونصيب مقدّر، مثل البنات والأخوات والأمهات والجدّات والأزواج والزوجات، وصاحب التعصيب: من يأخذ جميع المال عند عدم أصحاب الفروض، أو يأخذ الفاضل منهم ويكون محروما إذا لم يفضل من أصحاب السهام شيء، مثل الأخ والعم ونحوهما، والذي يرث بالوجهين: هو الأب مع البنت وبنت الابن، يأخذ نصيبه المقدر وهو السدس، ثم يأخذ ما فضل منهما وجملة الورثة سبعة عشر، عشرة من الرجال: الابن وابن الابن وإن سفل والأب وأب الأب وإن علا والأخ وابن الأخ والعم وابن العم والزوج ومولى العتاق، ومن النساء سبع: البنت وبنت الابن والأم والجدّة والأخت والزوجة ومولاة العتاق، والذين لا يسقطهم من الميراث أحد الستة، الأبوان والولدان والزوجان.
والعلة في ذلك: أنه ليست بينهم وبين الميت واسطة، والذين لا يرثون بحال ستة: العبد والمدبّر والمكاتب وأم الولد وقاتل العمد وأهل الملتين، والسهام المحدودة في كتاب الله عزّ وجلّ ستة: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس.
__________
(1) سورة الأنفال: 72.
(2) فتح الباري: 12/ 4، كنز العمال: 11/ 3 بتفاوت يسير.(3/265)
والنصف فرض خمسة: بنت الصلب، وبنت الابن إذا لم يكن بنت الصلب، والأخت للأب والأم، والأخت للأب إذا لم يكن الأخت للأب والأم، والزوج إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن.
والربع فرض اثنين: الزوج إذا كان للميت ولد أو ولد ابن، والزوجة والزوجات إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن.
والثمن فرض واحد: الزوجة والزوجات إذا كان للميت ولد أو ولد ابن.
والثلثان فرض كل اثنين فصاعدا ممّن فرضه النصف.
والثلث فرض ثلاثة: الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان من الأخوة والأخوات إلّا في مسألتين: أحد هما زوج وأبوان، والأخرى امرأة وأبوان، فإن للأم فيهما ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج، وهو في الحقيقة سدس جميع المال، والزوجة وهو ربع جميع المال، وفرض الاثنين من ولد الأم ذكورهم وإناثهم سواء، وفرض الجدّ مع الأخوة والأخوات إذا كانت المقاسمة خيرا له من الثلث.
والسدس فرض سبعة: بنت الابن مع بنت الصلب، والأخت للأب مع الأخت للأب والأم، والواحد من ولد الأم، والأم إذا كان للبنت ولدا، وولد ابن أو اثنان من الأخوة والأخوات، وفرض الجدة والجدات وفرض الأب مع الولد وولد الابن [....] «1» مع الابن وابن الابن، وأما العصبات فأقربهم البنون ثم بنوهم ثم بنو بنيهم وإن سفلوا [ ... ] «2» أخواتهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، ثم الأب وله ثلاثة أحوال: حال ينفرد بالتعصيب، وهو مع عدم الولد وولد الابن، وحال ينفرد بالفرض، وهو مع الابن أو ابن الابن، وحال يجمع له الفرض والتعصيب، وهو مع البنت وابنة الابن، ثم الجد إن لم يكن له أخوة، وإن كان له أخوة قاسمهم، ثم الأخوة والأخوات للأب والأم، ثم الأخوة والأخوات للأب يقسمون المال بينهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، والواحدة منهن عصبة مع البنات، وسائر العصبات ينفرد ذكورهم بالتعصيب، دون الإناث، ثم بنو الأخوة للأب والأم، ثم بنو الأخوة للأب، ثم الأعمام للأب والأم، ثم الأعمام للأب، ثم بنو الأعمام للأب والأم، ثم بنو الأعمام للأب، ثم بنو الأعمام للأب والأم، ثم بنو الأعمام للأب، ثم أعمام الأب كذلك، ثم أعمام الجد، على هذا الترتيب لا يرث بنو أب أعلى وبنو أب أقرب منهم موجود، ثم مولى العتق، ثم عصبته على هذا الترتيب، فهذه جملة من هذا العلم.
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) بياض في الأصل.(3/266)
رجعنا إلى تفسير الآية، اختلف المفسرون في سبب نزولها:
فأخبر محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر (رضي الله عنه) وهما يتمشيان، فأغشي عليّ فدعا بماء فتوضأ ثم صبّه عليّ فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أمضي في مالي؟ كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت فيّ آية المواريث.
وقال عطاء: استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أحد وترك امرأة وابنتين وأخا، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد، وإن سعدا قتل يوم أحد معك شهيدا، وإن عمّهما أخذ مالهما ولا ينكحان إلّا ولهما مال، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك» [251] فأقامت حينا ثم عادت وشكت وبكت، فنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلى آخرها.
فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمّهما وقال: «أعط بنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك» «1» [252]
، فهذا أول ميراث قسّم في الإسلام.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في أم كحة وقد مضت القصة.
وقال السدي: نزلت في عبد الرحمن أخي حسان الشاعر، وذلك أنه مات وترك امرأة وخمس أخوات، فجاء الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئا، فشكت ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله آية المواريث.
وقال ابن عباس: كانت المواريث للأولاد وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله ذلك، وأنزل آية المواريث، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لم يرض بملك مقرب ونبي مرسل حتى تولى قسم التركات وأعطى كل ذي حق حقه ألا فلا وصية للوارث»
«2» [253] وقوله تعالى:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ أي يعهد إليكم ويفرض عليكم فِي أَوْلادِكُمْ أي في أمر أولادكم إذا متم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً يعني المتروكات فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فصاعدا يعني البنات فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ و (فوق) صلة، كقوله عزّ وجلّ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ «3» .
وَإِنْ كانَتْ يعني البنت واحِدَةً.
قرأه العامة: نصب على خبر كان، ورفعهما أهل المدينة على معنى: إن وقعت واحدة، وحينئذ لا خبر له.
__________
(1) سنن الترمذي: 3/ 280، ارواء الغليل: 6/ 121- 122.
(2) مجمع البيان: 3/ 29، ولم يرد فيه ذيل الرواية.
(3) سورة الأنفال: 12.(3/267)
فَلَهَا النِّصْفُ ثم قال: وَلِأَبَوَيْهِ يعني لأبوي الميت، كناية عن غير المذكور لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ أو ولدان، والأب هاهنا صاحب فرض فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ قرأ أهل الكوفة: (فَلِأِمِّهِ) بكسر الهمزة، وقرأ الباقون:
بالضم على الأصل.
فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ اثنين كانا أو أكثر ذكرانا أو إناثا فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ هذا قول عامة الفقهاء، وكان ابن عباس لا يحجب الأم عن الثلث إلى السدس بأقل من ثلاثة أخوة، وكان يقول في أبوين وأخوين: للأم الثلث وما بقي فللأب، اتبع ظاهر اللفظ.
وروى: أن ابن عباس دخل على عثمان فقال: لم صار الأخوان يردان الأم إلى السدس، وإنما قال الله عزّ وجلّ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة؟ فقال عثمان: هل أستطيع نقض أمر قد كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار. وقول ابن عباس في هذا غير مأخوذ به، وأما الآية فإن العرب توقع اسم الجمع على التثنية، لأن الجمع ضمّ شيء إلى شيء، فأقل الجموع اثنان وأقصاها لا غاية له، قال الله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «1» .
وتقول العرب: ضربت من زيد وعمرو، رؤوسهما فأوجعت من إخوتك ظهورهما.
وأنشد الأخفش:
لما أتتنا المرأتان بالخبر ... أن الأمر فينا قد شهر «2»
قال الثعلبي: وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح الزيدي:
ويحيى بالسلام غني قوم ... ويبخل بالسلام على الفقير
أليس الموت بينهما سواء ... إذا ماتوا وصاروا في القبور «3»
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم: (يوصى) بفتح الصاد، الباقون: بالكسر وكذلك الآخر.
واختلفت الرواية فيهما عن عاصم، والكسر اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّه جرى ذكر الميت قبل هذا، قال الأخفش: وتصديق الكسر يوصين ويواصون.
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً.
__________
(1) سورة التحريم: 4.
(2) تفسير القرطبي: 5/ 73. [.....]
(3) تفسير القرطبي: 5/ 73، و 14/ 106.(3/268)
قال مجاهد: في الدنيا، وقرأ بعضهم: (أيهما أقرب لكم نفعا) أي رفع بالابتداء، ولم يعمل فيه ال (ما) قبله، لأنه استفهام و (أقرب) خبره و (نفعا) نصب على التمييز، كأنه يقول: لا يدرون أي الوارثين والموروثين أسرع موتا فيرثه صاحبه، فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه.
وقال ابن عباس: أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله عزّ وجلّ يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده في درجته ليقرّ بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله والديه إلى درجته ليقرّ بذلك عينيهما.
قال الحسن: لا تدرون بأيّهم أنتم أسعد في الدين والدنيا.
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ يعني وللزوجات الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ نظم الآية: وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة، وهو نصب على المصدر، وقيل: على الحال، وقيل: على خبر ما لم يسمّ فاعله، تقديرها: وإن كان رجل يورث ماله كلالة.
وقرأ الحسن وعيسى: (يُوَرِثُ) بكسر الراء [جعلا] فعلا له.
واختلفوا في الكلالة:
فقال الضحاك والسدي: هو الموروث. سعيد بن جبير: هم الورثة. النضر بن شميل: هو المال. واختلفوا أيضا في معناه وحكمه:
فروى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن الكلالة، فقرأ آخر سورة النساء، فردّ عليه السائل فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لست بزائدك حتى أزاد» «1» [254] .
وروى شعبة عن عاصم الأحوال قال: سمعت الشعبي يقول: إن أبا بكر (رضي الله عنه) قال في الكلالة: أقضي فيها قضاء وأن كان صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن الشيطان ومني، والله بريء منه: هو ما دون الوالد والولد، يقول: كل وارث دونهما كلالة قال: فلما كان عمر (رضي الله عنه) بعده قال: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر: هو ما خلا الوالد والولد.
وقال طاوس: هو ما دون الولد. والحكم: هو ما دون الأب. عطية: هم الأخوة للأم.
عبيد بن عمير: هم الأخوة للأب. وقيل: هم الأخوة والأخوات.
__________
(1) تأويل مختلف الحديث: 185، (بتفاوت) .(3/269)
قال جابر بن عبد الله: قلت يا رسول الله إنما يرثان أختان لي فكيف بالميراث؟ فنزلت:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.
وقال الأخفش: كل من لم يرثه أب أو أم فهو كلالة.
وقال أهل اللغة: هو من نكلله النسب إذا أحاط به كالإكليل.
قال امرؤ القيس:
أصاح ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبّي مكلل «1»
فسمّوا كلالة، لأنهم أحاطوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم، وأحاطتهم به أنهم ينسبون معه.
قال الفرزدق:
ورثتم قناة الملك غير كلالة ... عن ابني مناف عبد شمس وهاشم «2»
وقال بعضهم:
وإن أبا المرؤ أحمى وله ... ومولى الكلالة لا يغضب
وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ولم يقل: (ولهما) وقد مضى ذكر الرجل والمرأة على عادت العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما كانا في الحكم سواء، ربّما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعا، يقول: من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما كلها جائز، قال الله عزّ وجلّ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ ونظائرها، وأراد بهذا الأخ والأخت من الأمر، يدل عليه قراءة سعد بن أبي وقاص: وله أخ أو أخت من الأم فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ بينهم بالسوية ذكورهم وإناثهم سواء مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ.
قال علي (عليه السلام) : إنكم تقرؤون الوصيّة قبل الدين وبدأ رسول الله بالدين قبل الوصية.
وهذا قول عامة الفقهاء، ومعنى الآية الجمع لا الترتيب غَيْرَ مُضَارٍّ مدخل الضرر على الورثة.
قال الحسن: هو أن توصي بدين ليس عليه وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ.
وقرأ الأعمش: (غير مضار وصية من الله) على الإضافة.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
__________
(1) غريب الحديث: 3/ 105، لسان العرب: 7/ 252.
(2) الصحاح: 5/ 1811، لسان العرب: 11/ 592.(3/270)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
قال قتادة: إن الله عزّ وجلّ كره الضرار في الحياة وعند الموت ونهى عنه وقدر فيه، ولا يصلح مضارة في حياة ولا موت.
وفي الخبر من قطع ميراثه في الجنة
«1» تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إلى قوله:
[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 21]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ يعني الزنا، وفي مصحف عبد الله الفاحشة مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ يعني من المسلمين فَإِنْ شَهِدُوا عليها بالزنا فَأَمْسِكُوهُنَّ فأحبسوهن فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وإنما كان هذا قبل نزول الحدود، كانت المرأة في أول الإسلام لو أذنبت حبست في البيت حتى تموت وإن كان لها زوج كان مهرها له، حتى نزلت قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما «2» .
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» «3» [255] .
فنسخت تلك الآية بعض هذه الآية، وهو الإمساك في البيوت وبقي بعضها محكما وهو الاستشهاد وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يعني الرجل والمرأة، المذكر والمؤنث إذا اجتمعا قلب المذكر على المؤنث، والهاء راجعة إلى الفاحشة.
قال المفسرون: فهما البكران يزنيان فَآذُوهُما قال عطاء وقتادة والسدي: يعني عيّروهما
__________
(1) انظر: كشف الخفاء: 2/ 310.
(2) سورة النور: 2.
(3) مسند أحمد: 3/ 476 وصحيح مسلم: 5/ 115 مع تقديم وتأخير.(3/271)
وعنفوهما باللسان: أما خفت الله أما استحيت الله حين أتيت الزنا، وأشباهه. مجاهد: سبّوهما واشتموهما. ابن عباس: هو باللسان واليد كأن [يوذي] بالتعيير والضرب بالنعال.
فَإِنْ تابا من الفاحشة وَأَصْلَحا العمل فيما بعد فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ولا تؤذوهما، وإنما كان قبل نزول الحدود، فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية والإمساك من الآية الأولى بالرجم للبنت والجلد والنفي للبكر، والجلد في القرآن والنفي والرجم في السنة.
روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني: إنما أخبراه أن رجلين اختصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله.
وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله أقض بيننا بكتاب الله وائذن لي في أن أتكلم؟
فقال: «تكلم» . فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا- قال مالك: والعسيف الأجير- فزنا بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت منه مائة شاة وبجارية، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك، وجلد ابنك مائة وتغريبه عاما» «1» [256] .
وأمر أنيس الأسلمي أن يأتي امرأة الرجل فان اعترفت رجمها، فاعترفت فرجمها.
روى الزهري عن أبي سلمة عن عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) غرّب في الزنا ولم تزل تلك السنّة حتى غرّب مروان في إمارته.
وروى الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله: أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاعترف عنده بالزنا: فأعرض عنه ثم اعترف فاعترض حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنك مجنون؟» قال: لا، قال: «أحصنت؟» قال: نعم، فأمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجم بالمصلّي، فلما أذاقته الحجارة فرّ، وأدرك فرجمه حتى مات» .
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه خيرا ولم يصل عليه.
سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله طهّرني، قال: «ويحك إرجع فاستغفر الله وتب إليه» قال: فرجع غير بعيد وقال مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ممّ أطهرك؟» قال: من الزنا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك مجنون؟» وأخبر أنه ليس به جنون، فقال: «أشرب خمرا» ، فقام رجل فاستشمه فلم يجد منه ريح خمر.
__________
(1) مسند الطيالسي: 128، السنن الكبرى: 3/ 477.
(2) السنن الكبرى: 1/ 635.(3/272)
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أزنيت أنت؟» قال: نعم فأمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجم، وجاء النبي فقال:
«استغفروا لماعز بن مالك» ، فقالوا: أيغفر الله لماعز بن مالك؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد تاب ماعز توبة لو قسّمت بين أمة لوسعتها» «1» [257] .
وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: لقد خشيت أن يطول الناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنا، إذا أحصن وقامت البينة أو الحمل أو الاعتراف، وقد قرأتها: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، ألا وقد رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده.
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ قال الحسن: يعني التوبة التي يقبلها الله، فتكون على بمعنى عند، أقامه مقام صفة.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: (على) هاهنا بمعنى (من) يقول: إنما التوبة من الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ، اختلفوا في معنى الجهالة:
فقال مجاهد والضحاك: هي العمد.
وقال الكلبي: لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل عقوبته.
وقال سائر المفسرين: يعني المعاصي كلها، فكل من عصى ربّه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
قتادة: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأوا أنّ كل شيء عصي به ربّه فهو جهالة، عمدا كان أو غيره.
وقال الزجاج: معنى قوله: بِجَهالَةٍ اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، نظيرها في الأنعام مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ «2» ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ معناه قبل أن يحبطون السوء بحسناته فيحبطها.
قال السدي والكلبي: القريب ما دام في صحته قبل المرض والموت.
عكرمة وابن زيد: ما قبل الموت فهو قريب.
أبو مجلن والضحاك: قبل معاينة ملك الموت.
أبو موسى الأشعري: هو أن يتوب قبل موته بفواق ناقة.
__________
(1) كنز العمال: 13/ 592- 593، شرح مسند أبي حنيفة: 252.
(2) سورة الأنعام: 54.(3/273)
زيد بن أسلم عن عبد الرحمن [السلماني] قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم» [258] .
قال الثاني: وأنا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم» [259] .
قال الثالث: وأنا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة» [260] .
فقال الرابع: وأنا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه» «1» [261] .
خالد بن [سعدان] عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه» ثم قال: «إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه» ثم قال:
«إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه» ثم قال: «إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه» ثم قال: «إن الساعة لكثير، من تاب قبل موته قبل أن يغرغر بها تاب الله عليه» «2» [262] .
المسيب بن شريك عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما هبط إبليس قال وعزتك وعظمتك لا أفارق ابن آدم حتى يفارق روحه جسده فقال الله عزّ وجلّ:
وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر» «3» [263] .
وعن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الشيطان قال وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الربّ تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروا لي» «4» [264] .
قال الثعلبي: وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول:
سمعت محمد بن عبد الجبار يقول: يقال للتائب المخلص في توبته ولو بمقدار ساعة من النهار أو بمقدار نفس واحد قبل موته: ما أسرع ما جئت.
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني المعاصي حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 425، تفسير ابن كثير: 1/ 474.
(2) كنز العمال: 4/ 223، ح 10265.
(3) تفسير القرطبي: 5/ 93، باختلاف يسير. [.....]
(4) العهود المحمدية، الشعراني: 274.(3/274)
ووقع في النزع قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فحينئذ لا يقبل من كافر إيمانه ولا من عاص توبته وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ موضع (الَّذِينَ) خفض يعني ولا الذين يتوبون وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً
أي هيّئنا، والاسم منه العتاد.
قال عدي بن الرقاع:
تأتيه أسلاب الأعزة عنوة ... قسرا ويجمع للحروب عتادها «1»
وقال للفرس المعد للحرب: عتّد وعتد.
وقال الشاعر الجعفي:
حملوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدوا بها عتد وأي «2»
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً أي على كره منهن.
قال المفسرون: كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا مات رجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من جنسه فيلقي ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق، إلّا بالصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها، ولم يعطها منه شيئا، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج فطوّل عليها وضارها، لتفتدي نفسها بما ورثت من الميت، أو تموت هي فيرثها، وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها، فكانوا يفعلون ذلك حتى توفى أبو قيس بن صلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية، فقام ابن له من غيرها يقال له: (حصن) .
وقال مقاتل بن حيان: اسمه قيس بن أبي قيس، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارّها بذلك لتفتدي بمالها، وكذلك كانوا يفعلون إذا ورث أحدهم نكاحها، فإن كانت جميلة موسرة دخل بها، وإن لم تكن جميلة طوّل عليها لتفتدي منه، فأتت كبيشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله إن أبا قيس توفى وورث نكاحي ابنه وقد أضرّني حصن وطوّل عليّ فلا هو ينفق علي ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله» [265] قالت: فانصرفت وسمعت بذلك النساء في المدينة، فأتين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في مسجد الفضيح فقلن: يا رسول الله ما نحن إلّا كهيئة كبشة غير أننا لم ينكحنا الأبناء وينكحنا بنو العم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ الآية «3» .
__________
(1) الاسلاب: ما يسلب من الحرب، والبيت في تفسير مجمع البيان: 3/ 42.
(2) تفسير الطبري: 7/ 396، تفسير القرطبي: 7/ 57.
(3) أسباب النزول: 98.(3/275)
وقرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب: بضم الكاف هاهنا وفي التوبة.
والباقون: بالفتح.
قال الكسائي: هما لغتان. وقال الفراء: الكره والإكراه، والكره المشقة، فما أكره عليه فهو كره بالفتح، وما كان من قبل نفسه وهو كره بضم الكاف.
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ كفعل أهل الجاهلية «1» .
وعن الضحاك: نزلت هذه الآية في الرجل تكون في حجره اليتيمة، فيكره أن يزوجها لأجل مالها، فتكون تحته العجوز ونفسه تشوق إلى الشابة، فيكره فراق العجوز بتوقع وفاتها ليرثها مالها وهو معتزل لفراشها.
وقال ابن عباس: هذا في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيطوّل عليها ويضارّها لتفتدي بالمهر أو يردّ إليه ما ساق إليها من المهر، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك، ثم قال:
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فحينئذ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم وعضلهن، لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ، واختلفوا في الفاحشة:
فقال بعضهم: هي الزنا. قال الحسن: إن زنت حلّ لزوجها أن يسألها الخلع. قال عطاء:
كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود.
وقال ابن مسعود والضحاك وقتادة: هي النشوز «2» .
جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس فقال: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» «3» [266] .
وقوله مُبَيِّنَةٍ بفتح الياء قاله ابن عباس وعاصم وابن كثير، الباقون: بالكسر.
وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
قال الحسن: رجع إلى أول الكلام يعني وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
__________
(1) وهو منع تزويجها كما تقدم.
(2) تفسير القرطبي: 94- 95.
(3) تفسير الطبري: 4/ 412، تفسير القرطبي: 5/ 172.(3/276)
وقال بعضهم: هو أن يصنع بها كما يصنع له.
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وهو ولد صالح أو يعطفه الله عليها بعد ذلك، كذا قاله المفسرون.
مكحول الأزدي قال: سمعت ابن عمر يقول: إن الرجل يستخير الله فيختار له، فيسخط على ربّه عزّ وجلّ، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له.
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ما لم يكن من قبلها نشوز ولا إتيان فاحشة وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً وهو المال الكثير، وقد مرّ تفسيره فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي من القنطار شيئا أَتَأْخُذُونَهُ استفهام نهي وتوبيخ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً انتصابها من وجهين: أحدهما بنزع الخافض، والثاني بالإضمار، تقديره: تصيبون في أخذه بهتانا وإثما مبينا، ثم قال: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ على معنى الاستعظام، كقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ «1» وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ.
قال المفسرون: أراد المجامعة، ولكن الله كريم يكني بما شاء عمّا شاء، وأصل الإفضاء الوصول إلى شيء من غير واسطة.
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً.
قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة والسدي: هو قولهم عند العقد: زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
مجاهد: هو كلمة النكاح التي يستحل بها الفروج وهي كقوله: نكحته.
الشعبي وعكرمة والربيع: هو قوله: أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
فصل فيما ورد من الأخبار في الرخص في مغالاة المهر
لقوله: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً
عن عطاء الخراساني: قال خطب عمر إلى علي ابنته أم كلثوم وهي من فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنها صغيرة، فقال عمر: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلّا نسبي وصهري» «2» فلذلك رغبت فيها [267] .
فقال علي (رضي الله عنه) : إني مرسلها إليك حتى تنظر إلى صغرها فأرسلها إليه، فجاءته
__________
(1) سورة البقرة: 28.
(2) فتح القدير: 2/ 502.(3/277)
فقالت: إن أبي يقول لك هل رضيت النحلة. فقال: رضيتها. قال: فأنكحه ابنته وصدقها عمر أربعين ألف درهم «1» .
وعن ابن سيرين: إن الحسن (رضي الله عنه) تزوج بامرأة، فبعث إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم.
وروى مرشد بن عبد الله البرني عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير النكاح أيسره»
وقال صلّى الله عليه وسلّم لرجل: «أترضى أن أزوجك فلانة؟» [268] قال: نعم، قال للمرأة:
«أترضين أن أزوجك فلانا؟» [269] قالت: نعم، فزوج أحدهما بصاحبه، فدخل عليها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا، وكان ممّن شهد الحديبية وله سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد زوّجني بفلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا، وأني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهمها ذلك فباعته بمائة ألف «2» .
وعن ضمرة بن حبيب أن أم حبيبة كانت بأرض الحبشة مع جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) وأن رسول الله زوّجها فأصدق عنه النجاشي أربعمائة دينار.
وبه عن ابن سيرين عن ابن عباس أنه تزوج سليمة السلمية على عشرة آلاف درهم.
حماد بن سلمة عن ابن بشر أن عروة البارقي تزوج بنت هاني بن قبيصة على ألف درهم.
وعن غيلان بن جرير أن مطرفا تزوج امرأة على عشرة ألف أواق.
فصل فيمن كره ذلك، والكلام في أقل المهر
عن ابن سيرين قال: حدثنا أبو العجفا السلمي، قال: سمعت عمر وهو يخطب الناس فحمد الله واثنى عليه وقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أصدق امرأة من نسائه ولا امرأة من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، ألا وإن أحدكم ليغلي بصدقة امرأة حتى يبقي لها عداوة في نفسه، فيقول: كانت لك حلق القربة أو عرق القربة.
عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يمن المرأة تيسير صداقها وتيسر رحمها» «3» [270] .
__________
(1) وفي هذه القصة نظر وتأمّل.
(2) سنن أبي داود: 1/ 470، وصحيح ابن حبان: 9/ 281.
(3) المستدرك: 2/ 181، ارواء الغليل: 6/ 350.(3/278)
قال عروة: وأنا أقول من عندي من أول شؤمها أن يكثر صداقها.
سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: كان صداقنا مذ كان فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرة أواق وهو أربعة دراهم.
ثابت البناني عن أنس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى على عبد الرحمن أثر صفرة وقال: «ما هذا؟» فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بارك الله لك أولم ولو بشاة» «1» [271] .
يقال: هي خمسة دراهم.
وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل عندك من شيء تصدقها إياه؟» قال: ما عندي إلّا إزاري هذا.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئا» فقال: ما أجد شيئا.
فقال: «التمس ولو خاتما من حديد» ، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل معك من القرآن شيء؟» قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، لسور سمّاها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«زوجتك بما معك من القرآن» «2» [272] .
وعن عبد الله بن عامر عن أبيه: أن رجلا تزوج امرأة على نعلين فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أرضيت مالك بهاتين النعلين؟» [273] قال: نعم فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلّم «3» .
وعن أبي حدرد الأسلمي قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم أستعينه في مهر امرأة فقال: «كم تصدقها؟» قلت: مائتي درهم. فقال: «لو كنتم تغرفون من بطحان ما زدتم» «4» [274] .
مسلم بن رومان عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أعطى في صداق ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل» «5» [275] .
وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوج بامرأة على عشرة دراهم.
أحمد بن حنبل عن الحسن بن عبد العزيز قال: كتب إلينا ضمره عن إبراهيم بن عبد الله الكناني أن سعيد بن المسيب زوج ابنته على درهمين.
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 227.
(2) مسند أحمد: 5/ 336، أحكام القرآن: 3/ 480. [.....]
(3) مسند أحمد: 3/ 445، سنن الترمذي: 2/ 290 ح 1120.
(4) المعجم الكبير: 22/ 352.
(5) سنن أبي داود: 1/ 468، فتح الباري: 9/ 173.(3/279)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
وكيع عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي شيبة عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من استحل بدرهم فقد استحل»
«1» [276] قال وكيع: في النكاح.
وعن عبد الله بن يزيد مولى الأسود أن رجلا تسرّ جارية له فكرهها، فقال له رجل: هبها لي، فوهبها له فذكر ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: إن الهبة لم تجز لأحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولو أصدقها سوطا لحلت.
المغيرة عن إبراهيم قال: السنة في الصداق الرطل من الورق، كانوا يكرهون أن يكون مهر الحرائر مثل مهور البغايا بالدرهم والدرهمان، ويحبون أن يكون عشرين درهما.
[سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 28]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ نزلت في حصن بن أبي قيس تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه، وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج بامرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب، وفي منصور بن مازن تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة، وفي [أبي مكيل] العدوي تزوج امرأة أبيه.
__________
(1) السنن الكبرى: 7/ 238، مصنف ابن أبي شيبة: 3/ 317.(3/280)
وقال الأشعث بن يسار: توفى أبو قيس وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه، فقالت: إني أعدك ولدا وأنت من صالح قومك، ولكني آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أستأمره، فأتته فأخبرته، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعي إلى بيتك» [277] فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ «1» .
(ما) بمعنى من، وقيل: ولا تنكحوا النكاح يعني ما نَكَحَ (آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) اسم الجنس ليدخل فيه الحرائر والإماء، أما الحرائر فتحرم بالعقد، والإماء بالوطء.
إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ قال المفضّل: يعني بعد ما سلف فدعوه واجتنبوه.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: معناه كما قد سلف إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً يورث بغض الله، والمقت أشد البغض وَساءَ سَبِيلًا «2» وبئس ذلك طريقا. كانت العرب يقولون لولد الرجل من امرأة أبيه مقيت ومقي، وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن عمرو بن أمية.
السدي عن عدي بن ثابت عن البراء قال: لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تريد؟ فقال:
أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رجل تزوج بامرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه أو أقتله.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ هي جمع أم، والأم في الأصل أمهه على وزن فعلة، مثل قبرة وحمرة فسقطت الهاء في [التوحيد وعادت] في الجمع كقولهم: شاه ومياه.
قال الشاعر:
أمهتي خندف والروس أبي «3»
وقيل: أصل الأم أمة، وأنشدوا:
تقبلتها عن أمة لك طالما ... تثوب إليها في النوائب أجمعا «4»
فيكون الجمع حينئذ أمهات. ومثاله في الكلام عمّة وعمّات.
وقال الراعي:
كانت نجائب منذر ومحرق ... أماتهن وطرقهن فحيلا «5»
فحرم الله تعالى في هذه الآية نكاح أربع عشرة امرأة: سبعا بنسب وسبعا بسبب، فأما
__________
(1) أسباب النزول: 55.
(2) كلمة غير مقروءة.
(3) تفسير القرطبي: 5/ 107.
(4) تفسير القرطبي: 5/ 107، ولسان العرب: 12/ 30.
(5) لسان العرب: 11/ 516.(3/281)
النسب قوله: أُمَّهاتُكُمْ فهي أمهات النسبة وَبَناتُكُمْ جمع البنت وَأَخَواتُكُمْ جمع الأخت وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ جمع العمّة والخالة وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ.
وأما السبب فقوله: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وهي أمهات الحرمة كقوله تعالى:
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ «1» ثم قال: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً «2» . وقرأ عبد الله:
(واللاي) بغير تاء كقوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ «3» .
قال الشاعر:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البرئ المغفلا»
عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما حرمته الولادة حرمه الرضاع» «5» [278] .
ومالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر عن عميرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «6» [279] .
الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي كرم الله وجهه قال:
قلت يا رسول الله ما لك تنوق في قريش وتدعنا قال: «وعندك أحد؟» قلت: نعم بنت حمزة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة» «7» [280] .
وهب بن كيسان عن عروة عن عائشة: أن أبا القعيس- وهو أفلح- استأذن على عائشة بعد آية الحجاب، فأبت أن تأذن له فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ائذني له فإنّه عمك» فقالت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، قال: «إنه عمك فليلج عليك» «8» .
وإنما يحرم الرضاع بشرطين إثنين أحدهما: أن يكون خمس رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي ممّا يقرأ من القرآن.
وروى عبد الله بن الحرث عن أم الفضل: أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الرضاع فقال: «لا تحرم الاملاجة ولا الأملاجتان» «9» [281] .
__________
(1) سورة الأحزاب: 6.
(2) سورة التحريم: 53.
(3) سورة الطلاق: 4.
(4) تفسير القرطبي: 5/ 109، لسان العرب: 15/ 445.
(5) السنن الكبرى: 3/ 295. [.....]
(6) تفسير القرطبي: 5/ 108، أحكام القرآن: 2/ 157.
(7) صحيح مسلم: 4/ 164، وسنن النسائي: 3/ 297.
(8) مسند أحمد: 6/ 194، صحيح البخاري: 6/ 160.
(9) سنن الدارقطني: 4/ 101 و 106.(3/282)
قال قتادة: المصة والمصتان.
والشرط الثاني: أن يكون من الحولين، وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم، وكان أبو حنيفة يرى ذلك بعد الحولين ستة أشهر.
ومالك: بعد الحولين شهرا، والدليل على أن ما بعد الحولين من الرضاع بقوله:
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ «1» وليس بعد الكمال والتمام شيء،
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا رضاع بعد الحولين، وإنما الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم» «2» [282] .
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أم المرأة حرام دخل بها أو لم يدخل، وهو قول أكثر الفقهاء، وعليه الحكم والفتيا، وقد شدد أهل العراق فيها حتى قالوا: لو وطأها أو قبّلها أو لامسها بالشهوة حرمت عليه ابنتها. وعندنا إنما يحرم بالنكاح الصحيح، والحرام لا يحرم الحلال، وكان ابن عباس يقرأ (وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن) ويحلف بالله ما نزل إلّا هكذا ويقول: هي بمنزلة الربائب، فلما كانت الربائب لا يحرمن بالعقد على أمهاتهن دون الوطء، كذلك أمهات النساء لا يحرمن بالعقد على بناتهن دون الوطء، وهو
قول علي وزيد وجابر وابن عمر وابن الزبير قالوا: نكاح أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن حلال
، والقول الأول هو الأصح.
قال ابن جريح: قلت لعطاء: الرجل ينكح المرأة ثم يراها ولا يجامعها حتى يطلقها، أيحل له أمّها؟ قال: لا، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل. فقلت له: كان ابن عباس يقرأ:
(وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن) قال: لا.
وروى عمرو بن المسيب عن أبيه عن جدّه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم ولم يدخل، بها ثم طلقها فإن شاء تزوج بالبنت» .
وَرَبائِبُكُمُ جمع الربيبة وهي ابنت المرأة، قيل لها: ربيبة، لتربيته إياها، فعيلة بمعنى مفعولة اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ أي في ضمانكم وتربيتكم، يقال: فلان في حجر فلان إذا كان يلي تربيته، ويقال: امرأة طيبة الحجر إذا لم تربّ ولدا إلّا طيب الولد.
قال الكميت:
الكرمات [نسبة] في قريش ... [وسواهم] والطيبات الحجورا
ومنه قيل للحظر حجر، والأصل فيه الناحية، يقال: فلان يأكل في حجره ويريض حجره.
__________
(1) سورة البقرة: 233.
(2) مسند أحمد: 1/ 432، وسنن الدارقطني: 4/ 101 بتفاوت في الألفاظ.(3/283)
مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أي جامعتموهن فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم.
روى الزهري عن عروة: أن زينب بنت أبي سلمة وأمها أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت: يا رسول الله انكح أختي قالت: فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو تحبين ذلك؟» قلت: نعم ليست لك بمخلية وأحب من يشاركني في خير أختي.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ ذلك لا يحلّ لي» . فقلت: والله يا رسول الله إنّا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درّة بنت أبي سلمة فقال: «بنت أم سلمة؟» فقلت: نعم، قال: «والله إنها لو تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لبنت أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن» «1» [283] .
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ يعني أزواج أبنائكم، والذكر حليل، وجمعه أحلّه وأحلّاء، مثل عزيز وأعزة وأعزّاء، وإنما سمّي بذلك لأن كل واحد منهما حلال لصاحبه، يقال: حلّ وهو حليل، مثل صحّ وهو صحيح، وقيل: سمّي بذلك لأن كل واحد منهما يحلّ حيث يحلّ صاحبه من الحلول وهو النزول، وقيل: لأن كلّ واحد منهما يحل إزار صاحبه، من الحل وهو ضد العقد.
قال الشاعر:
يدافع قوما على مجدهم ... دفاع الحليلة عنها الحليلا
يدافعه يومها تارة ... ويمكنه رجلها أن يشولا
الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ دون من تبنيتموهم.
قال عطاء: نزلت في محمد صلّى الله عليه وسلّم حين نكح امرأة زيد بن حارثة.
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ حرّتين كانتا بالعقد أو أمتين بالوطء إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ.
قال عطاء والسدي: يعني إلّا ما كان من يعقوب (عليه السلام) ، فإنه جمع بين ليا أم يهوذا وراجيل أم يوسف وكانتا أختين.
إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ الآية.
قال عمرو بن مرّة: قال رجل لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين يسأل عن هذه الآية وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ فلم يقل فيها شيئا، فقال سعيد: كان لا يعلمها.
وقال مجاهد: لو أعلم من يفسّر في هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل، قوله تعالى:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ.
__________
(1) مسند الشاميين: 4/ 208، السنن الكبرى: 3/ 290.(3/284)
قال المفسرون: هذه السابعة من النساء اللواتي حرّمن بالسبب.
قرأه العامة: (وَالْمُحْصَناتُ) بفتح الصاد، يعني في زوال الأزواج أحصنهنّ أزواجهن.
قال أبو سعيد الخدري: نزلت في نساء كنّ يهاجرن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولهنّ أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين، ثم يقدم أزواجهن مهاجرين، فنهى المسلمين عن نكاحهنّ ثم استثنى فقال: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني السبايا اللاتي سبين ولهم أزواج في دار الحرب، فحلال لمالكهن وطأهن بعد الاستبراء.
فقال أبو سعيد الخدري: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين جيشا إلى أوطاس، فلقوا العدو فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين، فكرهوا وطأهنّ وتأثموا من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقرأ علقمة: (وَالْمُحْصِناتُ) بكسر الصاد، ودليله قول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وعبيدة وأبي العالية والسدي، قالوا: والمحصنات في هذه الآية والعفائف ومعناها: والعفائف من النساء عليكم حرام إلّا ما ملكت إيمانكم منهن بنكاح أو ملك يمين وثمن، وقيل: معناه الحرائر.
قال الباقر ويمان: معناه وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ عليكم حرام ما فوق الأربع، إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فإنه لا عدد عليكم فيهن.
وقال ابن جريج: سألنا عطاء عنها فقال: معنى قوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أن تكون لك أمة عند عبد لك قد أحصنها بنكاح وتنزعها منه إن شئت.
كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ نصب على المصدر، أي كتب الله عليكم كتابا، وقيل: نصب على الإغراء، أي الزموا واتقوا كتاب الله عليكم.
وقرأ ابن السميقع: كتب الله عليكم أي أوجب، وهذه أربعة عشر امرأة، محرمات بالكتاب.
فأما الستّة: فقد حرّمت امرأتين، وهو ما
روى هشام عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها» «1» [284] .
وَأُحِلَّ لَكُمْ قرأ أبو جعفر وأهل الكوفة: (وَأَحَلَّ لَكُمْ) بضم الألف.
الباقون: بالنصب، وهي قراءة علي وابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، فمن رفع فلقوله: حُرِّمَتْ، ومن نصب، فللقرب من ذكر الله في قوله: كِتابَ اللَّهِ.
__________
(1) صحيح مسلم: 4/ 136، وتأويل مختلف الحديث: 181.(3/285)
ما وَراءَ ما سوى ذلِكُمْ الذي ذكرت من المحرمات أَنْ تَبْتَغُوا بدل من (ما) فمن رفع أحلّ ف (إن) عنده في محل الرفع، ومن نصب ف (إن) عنده في محل النصب.
قال الكسائي والفراء: موضعه نصب في القراءتين بنزع الخافض، يعني: لأن تبتغوا وتطلبوا.
بِأَمْوالِكُمْ أما بنكاح وصداق أو بملك وثمن مُحْصِنِينَ متعففين غَيْرَ مُسافِحِينَ زانين، وأصله من سفح المذي والمني فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ اختلف في معنى الآية: فقال مجاهد والحسن: يعني ممّا انتفعتم وتلذذتم للجماع من النساء بالنكاح الصحيح.
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن، فإذا جامعها مرّة واحدة فقد وجب لها المهر كاملا.
وقال آخرون: هو نكاح المتعة، ثم اختلف في الآية أمحكمة هي أم منسوخة؟
فقال ابن عباس: هي محكمة ورخّص في المتعة، وهي أن ينكح الرجل المرأة بولي وشاهدين إلى أجل معلوم، فإذا انقضى الأجل فليس له عليها سبيل، وهي منه بريئة، وعليها أن تستبري ما في رحمها وليس بينهما ميراث.
قال حبيب بن أبي ثابت: أعطاني ابن عباس مصحفا فقال: هذا على قراءة أبي، فرأيت في المصحف (فما استمتعم به منهن إلى أجل مسمى) .
وروى داود عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن المتعة فقال: أما تقرأ سورة النساء؟
قلت: بلى، قال: فما تقرأ: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى) ؟ قلت: لا أقرأها هكذا.
قال ابن عباس: والله لهكذا أنزلها الله، ثلاث مرّات.
وروى عيسى بن عمر عن طلحة بن مصرف أنه قرأ: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى) .
وروى عمرو بن مرّة عن سعيد بن جبير: أنه قرأها: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى) .
وروى شعبة عن الحكم قال: سألته عن هذه الآية: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أمنسوخة هي؟ قال: لا. قال الحكم: قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنا إلّا شقي.
أبو رجاء العطاردي عن عمران بن الحصين قال: نزلت هذه الآية (المتعة) في كتاب الله، لم تنزل آية بعدها تنسخها، فأمرنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتمتعنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينهنا عنه، وقال رجل بعد برأيه ما شاء!(3/286)
قال الثعلبي: قلت ولم يرخص في نكاح المتعة إلّا عمران بن الحصين وعبد الله بن عباس وبعض أصحابه وطائفة من أهل البيت «1» ، وفي قول ابن عباس.
يقول الشاعر:
أقول للرّكب إذ طال الثواء بنا ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف ناعمة ... تكون مثواك حتى مرجع الناس «2»
وسائر العلماء والفقهاء والصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة ومتعة النساء حرام.
وروى الربيع بن بسرة الجهني عن أبيه قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عمرته فشكونا إليه العزبة، فقال: «يا أيها الناس استمتعوا من هذه النساء» ثم صحبت غاديا على رسول الله فإذا هو يقول: «يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء إلّا أن الله حرّم ذلك إلى يوم القيامة» «3» [285] .
وقال خصيف: سألت الحسن عن نكاح المتعة، فقال: إنما كان ثلاثة أيام على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم نهى الله عزّ وجلّ عنه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال الكلبي: كان هذا في بدء الإسلام، أحلّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاثة أيام ثم حرّمها، وذلك أنه كان إذا تم الأجل الذي بينهما أعطاها أجرها الذي كان شرط لها، ثم قال: زيديني في الأيام فأزيدك في الأجر، فإن شاءت فعلت ذلك، فإذا تم الأجل الذي بينهما أعطاها الأجر وفارقها، ثم نسخت بآية الطلاق والعدة والممات.
وروى الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيهما أن عليا قال لابن عباس: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الأهلية.
وروى الفضل بن دكين عن البراء بن عبد الله القاص عن أبي نضرة عن ابن عباس أن عمر (رضي الله عنه) نهى عن المتعة التي تذكر في سورة النساء فقال: إنما أحل الله ذلك على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والنساء يومئذ قليل، ثم حرّم عليهم بعد أن نهى عنها.
وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها لا أجد رجلا ينكحها إلّا رجمته بالحجارة.
__________
(1) قال أبو عمر: أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلهم يرون المتعة حلالا (تفسير القرطبي: 5/ 133) .
(2) تفسير القرطبي: 5/ 133، الدر المنثور: 2/ 141.
(3) مسند أحمد: 3/ 406.(3/287)
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث» «1» [286] .
وقال ابن أبي مليكة: سألت عائشة عن المتعة فقالت: بيني وبينهم كتاب الله وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ «2» .
وعن عائشة: والله ما نجد في كتاب الله إلّا النكاح والاستسراء. وقال ابن عمر: المتعة سفاح.
عطاء: المتعة حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير.
قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن جبير يقول: سمعت أبا علي الحسين بن أحمد الخياط يقول: سمعت أبا نعيم بن عبد الملك بن محمد بن عدي يقول: سمعت [ ... ] «3» يقول:
الشافعي يقول: لا أعلم في الإسلام شيئا أحل ثم حرّم ثم أحل ثم حرّم غير المتعة.
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً أي مهورهن، سمّي المهر أجرا، لأنه ثمن البضع وأجر الاستمتاع ألا تراه يتأكد بالخلوة والدخول.
واختلفوا في حدّه، فأكثره لا غاية له، وأما أقلّه فقال أبو حنيفة: لا مهر دون عشرة دراهم أو قيمتها من الذهب، لأن الله عزّ وجلّ قال: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ولا يطلق اسم المال على أقل من هذا القدر.
وعند الشافعي: لا حدّ له، فأجاز الشيء الطفيف حتى القبضة من الطعام، وكذلك كل عمل أوجب أجرا قليلا كان أو كثيرا، والسورة من كتاب الله عزّ وجلّ أو آية لقوله: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
وعن سلمة بن وردان قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من أصحابه، فقال: «يا فلان هل تزوجت؟» قال: لا، وليس عندي ما أتزوج، قال: «أليس معك قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «4» ؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن» قال: «أليس معك إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ «5» ؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن» قال: «أليس معك قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «6» ؟» قال:
بلى، قال: «ربع القرآن» ، قال: «أليس معك إِذا زُلْزِلَتِ «7» ؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن»
__________
(1) مسند أبي يعلي: 11/ 504، وفتح الباري: 9/ 138.
(2) سورة المؤمنون: 5- 6.
(3) كلمة غير مقروءة. [.....]
(4) سورة الإخلاص: 1.
(5) سورة النصر: 1.
(6) سورة الكافرون: 1.
(7) سورة الزلزال: 1.(3/288)
قال: «أليس معك آية الكرسي؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن» ، قال: «تزوج تزوج تزوج» «1» [287] .
وقد ذكرت حجج الفريقين فيما قيل.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ يعني فيما تفتدي به المرأة نفسها، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا فضلا وسعة.
المسيب بن شريك عن عمران بن جرير عن النزال بن سبرة عن ابن عباس قال: من ملك ثلاثمائة درهم فقد وجب عليه الحج وحرّم عليه نكاح الإماء.
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الحرائر، وقرأ الكسائي: (الْمُحْصِناتِ) بكسر الصاد، كل القرآن إلّا في أول هذه السورة، الباقون: بالفتح.
الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إلى قوله بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ سادتهن ف آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مهورهن بِالْمَعْرُوفِ من غير ضمار مُحْصَناتٍ عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ زانيات وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أحباب يزنون بهن في السر.
فَإِذا أُحْصِنَّ قرأ أهل الكوفة: بفتح الألف، على معنى حفظن فروجهن، وقرأ الآخرون: بالضم، على معنى أنهنّ أحصنّ بأزواجهنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ يعني الزنا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ الحرائر إذا زنين مِنَ الْعَذابِ يعني الحدّ، نظيره: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ «2» وهو خمسون جلدة وتغريب نصف سنة على الصحيح من مذهب الشافعي، ويحتاج أن يغرّب الزاني إلى موضع يقصر إليه الصلاة، وللسيد إقامة الحدّ بالزنا على عبده وأمته.
سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يغيرها، فإن عادت فليجلدها ولا يغيرها، فإن عادت فليجلدها ولا يغيرها، فإن عادت الرابعة فليبعها ولو بضفير أو حبل» «3» [288] .
ذلِكَ يعني نكاح الإماء عند عدم الطول لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ يعني الإثم والضرر بغلبة الشهوة وَأَنْ تَصْبِرُوا عن نكاح الإماء متعففين خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
عن يونس بن مرداس وكان خادما لأنس قال: كنت بين أنس وأبي هريرة، فقال أنس:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أحبّ أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر» .
__________
(1) مسند أحمد: 3/ 221، تفسير القرطبي: 5/ 135.
(2) سورة النور: 8.
(3) شرح مسلم: 11/ 211، ومصنف بن أبي شيبة: 8/ 369.(3/289)
فقال أبو هريرة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحرائر صلاح البيت والإماء فساد البيت» «1» [289] .
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أي أن يبيّن، (اللام) بمعنى أن، والعرب تعاقب بين لام كي وبين أن فتضع إحداهما مكان الأخرى كقوله: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ «2» وقوله: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «3» ، ثم قال في موضع آخر: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «4» ، وقال: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «5» ، ثم قال في موضع آخر: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «6» .
وقال الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل «7»
يريد أن أنسى، ومعنى الآية: يريد الله أن يبيّن شرائع دينكم ومصالح أمركم.
الحسن: يعلمكم ما تأتون وما تذرون. عطاء: يبيّن لكم ما يقربكم منه. الكلبي: ليبيّن لكم أن الصبر من نكاح الإماء خير لكم.
وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ شرايع الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ في تحريم الأمهات والبنات والأخوات، كما ذكر في الآيتين. هكذا حرّمها على من كان قبلكم من الأمم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبيّن لكم، قاله الكلبي.
وقال محمد بن جرير: يعني يرجع بكم من معصيته التي كنتم عليها قبل هذا إلى طاعته التي أمركم بها في هذه الآية وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما يصلح عباده من أمر دينهم ودنياهم حَكِيمٌ في تدبيره فيهم وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ إن وقع تقصير منكم في أمره وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا عن الحق مَيْلًا عَظِيماً بإتيانكم ما حرّم عليكم، واختلفوا في الموصوفين باتباع الشهوات من هم:
فقال السدي: هم اليهود والنصارى.
وقال بعضهم: هم اليهود، وذلك أنهم ينكحون بنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرّمهما الله قالوا: إنكم تحلّون بنات الخالة والعمّة، والخالة والعمّة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت كما تنكحون بنات الخالة والعمّة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
__________
(1) وسنن ابن ماجة: 1/ 598.
(2) سورة الشورى: 15.
(3) سورة الأنعام: 73.
(4) سورة غافر: 66.
(5) سورة الصف: 8.
(6) سورة التوبة: 32.
(7) تفسير القرطبي: 5/ 148، لسان العرب: 3/ 188. [.....](3/290)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
مجاهد: هم الزناة، يريدون أن تميلوا عن الحق فتكونوا مثلهم تزنون كما يزنون.
ابن زيد: هم جميع أهل الكتاب في دينهم.
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ في نكاح الأمة، إذا لم تجدوا طول الجرة وفي كل أحكام الشرع وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً في كل شيء.
طاوس والكلبي وأكثر المفسرين: يعني في أمر الجماع لا يصبر على النساء ولا يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء.
قال سعيد بن المسيب: ما آيس الشيطان من بني آدم إلّا أتاه من قبل النساء، وقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينيّ وأنا أعشى بالأخرى، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء.
مالك بن شرحبيل قال: قال عبادة بن الصامت: ألا ترونني لا أقوم إلّا رفدا ولا آكل إلّا ما لوق لي وقد مات صاحبي منذ زمان، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحكيه عليّ أنه لا سمع له ولا بصر.
قال الحسن: هو أن خلقه من ماء مهين بيانه قول الله: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ «1» .
ابن كيسان: (خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) يستميله هواه وشهوته ويستطيشه خوفه وحزنه.
قال ابن عباس: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «2» ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ»
، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ «4» إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «5» ، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ «6» ، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «7» وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
«8» ، ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ «9»
[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 36]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)
__________
(1) سورة الروم: 54.
(2) سورة النساء: 26.
(3) سورة النساء: 27.
(4) سورة النساء: 28.
(5) سورة النساء: 31.
(6) سورة النساء: 48.
(7) سورة النساء: 40.
(8) سورة النساء: 110.
(9) سورة النساء: 147.(3/291)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بالحرام يعني الربا والقمار والقطع والغصب والسرقة والخيانة.
وقال ابن عباس: هو الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول: إن رضيت أخذته وإلّا رددته ورددت معه درهما، ثم قال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً يعني لكن إذا كانت تجارة استثناء منقطع، لأن التجارة ليست بباطل.
قرأ أهل الكوفة: (تِجارَةً) بالنصب وهو اختيار أبي عبيد.
وقرأ الباقون: بالرفع وهو اختيار أبي حاتم، فمن نصب فعلى خبر كان تقديره: إلّا أن تكون الأموال تجارة.
كقول الشاعر:
إذا كان طاعنا بينهم وعناقا «1»
ومن رفع فعلى معنى الا أن تقع تجارة وحينئذ لا خبر له. كقول الشاعر:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب «2»
ثم وصف التجارة فقال: عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ يرضى كل واحد منهما بما في يديه.
قال أكثر المفسرين: هو أن يخبر كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد عقد المبيع حتى يتفرقا من مجلسهما الذي تعاقدا فيه،
كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» «3» [290] .
__________
(1) تفسير الطبري: 3/ 179.
(2) لسان العرب: 1/ 509.
(3) مسند أحمد: 4/ 402.(3/292)
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «البيع عن تراضي بالخيار بعد الصفقة ولا يحلّ لمسلم أن يغش مسلما «1» »
[291] .
وروى حكيم بن حزام عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، فإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما» «2» [292] .
وابتاع عمر بن جرير فرسا ثم خير صاحبه بعد البيع، ثم قال: سمعت أبا هريرة يقول: هذا البيع عن تراض.
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يعني إخوانكم، أي لا يقتل بعضكم بعضا.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبي عن جدّي عن علي بن الحسين الهلالي قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول: سأل الفضل بن عياض عن قوله:
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قال: لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظ نفسه فكأنه قتلها.
إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً.
عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله عام ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت ذلك له فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟» [293] .
قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قول الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فتيمّمت ثم صليت، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يقل شيئا «3» .
وعن الحسن: أن الحرث بن عبد الله خلا بالنفر من أصحابه وقال: إن هؤلاء ولغوا في دمائهم فلا يحولنّ بين أحدكم وبين الجنة ملء كف من دم مسلم أهراقه، فأني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن رجلا ممّن كان قبلكم خرجت به قرحة بيده فأخذ حزة فحزّها بيده حتى قطعها فما رقأ دمها حتى مات فقال ربّكم تعالى: بادرني ابن آدم بنفسه فقتلها فقد حرمت عليه الجنة» «4» [294] .
سماك عن جابر بن سمرة: أن رجلا ذبح نفسه فلم يصل عليه النبي صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) تفسير الطبري: 5/ 45، تفسير ابن كثير: 1/ 491.
(2) صحيح البخاري: 3/ 18، مسند أحمد: 3/ 402. [.....]
(3) مسند أحمد: 4/ 203، المستدرك: 1/ 177.
(4) صحيح مسلم: 1/ 75.(3/293)
حماد بن زيد عن عاصم الأسدي: ذكر بأن مسروقا بن الأجدع أتى صفين فوقف بين الصفين ثم قال: يا أيها الناس أنصتوا، ثم قال: أرأيتم لو أنّ مناديا ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال: إن الله ينهاكم عمّا أنتم فيه، أكنتم مطيعيه؟ قالوا: نعم. قال: فو الله لنزل بذلك جبرئيل على محمد فما زال يأتي من هذا ثم تلا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ الآية ثم انساب في الناس فذهب «1» .
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الذي ذكرت من المحرمات عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ندخله في الآخرة نارا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هيّنا إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية.
اختلفوا في الكبائر التي جعل الله اجتنابها تكفيرا للصغائر.
فروى عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: «أن تزني بحليلة جارك «2» »
[295] هذا الحديث من قول الله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ «3» الآية.
صالح بن حيان عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضول الماء بعد الري» «4» .
الشعبي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكبائر الإشراك بالله، واليمين الغموس، وعقوق الوالدين، وقتل النفس الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وقول الزور. أو قال. شهادة الزور» «5» [296] .
سفيان عن سعد بن إبراهيم عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو قال: من الكبائر أن يشتم الرجل والديه. قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمّه فيسب أمّه.
أبو الطفيل عن ابن مسعود قال: الكبائر أربع: الإشراك بالله، والأياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله.
عكرمة عن عمار قال: حدثنا طيسلة بن علي النهدي قال: سألت ابن عمر عن الكبائر، فقال: هي تسع قلت ما هن؟ قال: الإشراك بالله تعالى، وقتل المؤمن متعمدا، وعقوق الوالدين
__________
(1) بطوله في الطبقات الكبرى: 6/ 78.
(2) صحيح البخاري: 7/ 75، ومسند أحمد: 1/ 380.
(3) سورة الفرقان: 68.
(4) تفسير ابن كثير: 1/ 497.
(5) سنن الترمذي: 4/ 303، ح 5009.(3/294)
المسلمين، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامى، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، والسحر، واستحلال الميتة قبلكم أحياء وأمواتا.
وقال جعفر الصادق: الكبائر ثلاث: تركك ملتك، وتبديلك سنّتك، وقتالك أهل صفقتك.
وقال فرقد المسيحي: قرأت في التوراة: أمهات الخطايا ثلاث وهي: أول ذنب عصى الله به الكبر، وكان ذلك لإبليس عليه اللعنة، والحرص، وكان ذلك لآدم (عليه السلام) ، والحسد، وكان لقابيل حين قتل هابيل.
عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الكبائر أولهنّ:
الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبر والفرار من الزحف ورمي المحصنة والانقلاب على الأعراب بعد الهجرة فهذه سبع» «1» [297] .
سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن رجلا سأله عن الكبائر السبع، قال: هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع إلّا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار.
علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس قال: الكبائر عشرون: الشرك بالله عزّ وجلّ، وعقوق الوالدين، وقتل المؤمن، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، واليأس من روح الله، والسحر، والزنا والربا، والسرقة، وأكل مال اليتيم، وترك الصلاة، ومنع الزكاة، وشهادة الزور، وقتل الولد خشية أن يأكل معك، والحسد، والكبر، والبهتان، والحرص، والحيف في الوصية، وتحقير المسلمين.
السدي عن ابن مالك قال: ذكروا الكبائر عند عبد الله فقال عبد الله: افتحوا سورة النساء، وكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثون آية فهو كبيرة، ثم قال: مصداق ذلك إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية.
وقال ابن سيرين: ذكر عند ابن عباس الكبائر فقال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، حتى الطرفة وهي النظرة.
سعيد بن جبير عنه: كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة، فمن عمل شيئا منها فليستغفر، فإن الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلّا راجعا عن الإسلام أو جاحد فريضة أو مكذبا بقدر.
علي بن أبي طلحة عنه: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب.
سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار وأوعد عليه النار فهي كبيرة.
الحسن: الموجبات للحدود.
__________
(1) زاد المسير: 2/ 114.(3/295)
الضحاك: ما وعد الله تعالى عليه حدّا في الدنيا وعذابا في الآخرة.
الحسين بن الفضل: ما سمّاه الله في كتابه القرآن كبيرا أو عظيما، نحو قوله: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً «1» ، إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً «2» ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «3» ، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ «4» ، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ «5» ، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً «6» .
مالك بن معول: الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل الشّينة.
وكيع: كل ذنب أصرّ عليه العبد فهو كبيرة، وليس من الكبائر ما تاب منه العبد واستغفر منه.
أحمد بن عاصم الأنطاكي: الكبائر ذنوب العمد، والسيئات الخطأ، والنسيان، والإكراه، وحديث النفس، المرفوعة من هذه الأمة.
سفيان الثوري: الكبائر ما فيه المظالم بينك وبين العباد، والصغائر ما بينك وبين الله تعالى، لأن الله كريم يغفره، واحتجّ
بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ينادي يوم القيامة مناد من بطنان العرش يا أمّة محمد إن الله عزّ وجلّ يقول: أمّا ما كان لي قبلكم فقد وهبتها لكم وبقي التبعات، فتواهبوا وادخلوا الجنة برحمتي» «7» [298] .
المحاربي: الكبائر ذنوب المذنبين المستحلين مثل ذنب إبليس، والصغائر ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم.
السدي: الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبار والسيئات مقدماتها، وتبعاتها ما يجتمع فيه الصالح والفاسق، مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «العينان تزنيان واليدان تزنيان ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» «8» [299] .
وقال قوم: الكبيرة ما قبح في العقل والطبع مثل القتل والظلم والزنا والكذب ونحوها، والصغيرة ما نهى الله عنه شرعا وسمعا.
وقال: كل ذنب يتجاوز عنه بفضله يوم القيامة فهو صغيرة، وكل ذنب عذّب عليها بعدله فهو كبيرة. وقيل: الكبائر الذنوب الباطنة والسيئات الذنوب الظاهرة.
وقال بعضهم: الصغائر ما يستحقرونه العباد والكبائر ما يستعظمونه فيخافون واقعته.
__________
(1) سورة النساء: 2.
(2) سورة الإسراء: 31.
(3) سورة لقمان: 13.
(4) سورة يوسف: 28.
(5) سورة النور: 16.
(6) سورة الأحزاب: 53. [.....]
(7) عدة الداعي: 136.
(8) مسند أبي يعلي: 11/ 309.(3/296)
وقال أنس بن مالك: إنكم تعملون أعمالا هي أدق من الشعر في أعينكم كنّا نعدّها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكبائر.
وقال بعضهم: الكبائر الشرك وما يؤدّي إليه، وما دون الشرك فهو من السيئات، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» .
فصل في تفصيل أقاويل أهل التأويل في عدد الكبائر مجموعة من الكتاب والسنة مقرونة بالدليل والحجة
أحدها: الإشراك بالله لقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ «2» .
الثاني: الأياس من روح الله لقوله: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ «3» الآية.
والثالث: القنوط من رحمة الله لقوله: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ «4» .
والرابع: الأمن من مكر الله لقوله: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» .
والخامس: عقوق الوالدين لقوله: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «6» .
والسادس: قتل النفس التي حرّم الله لقوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «7» .
والسابع: قذف المحصنة لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ «8» الآية.
والثامن: الفرار من الزحف لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً «9» الآية.
التاسع: أكل الربا لقوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا «10» الآية.
والعاشر: السحر لقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ «11» الآية.
والحادي عشر: الزنا: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً «12» .
والثاني عشر: اليمين الكاذبة لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا «13» .
__________
(1) سورة النساء: 48.
(2) سورة المائدة: 72.
(3) سورة يوسف: 87.
(4) سورة الحجر: 62.
(5) سورة الأعراف: 99.
(6) سورة الإسراء: 23.
(7) سورة النساء: 93.
(8) سورة النور: 23.
(9) سورة الأنفال: 15.
(10) سورة البقرة: 275.
(11) سورة البقرة: 102.
(12) سورة الفرقان: 68. [.....]
(13) سورة آل عمران: 77.(3/297)
والثالث عشر: منع الزكاة لقوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ «1» الآيتين.
والرابع عشر: الغلول لقوله: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ «2» .
والخامس عشر: شهادة الزور لقوله: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ «3» الآية.
والسادس عشر: الميسر وهو القمار لقوله: الْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ «4» .
والسابع عشر: شرب الخمر لقوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ «5» الآية.
والثامن عشر: ترك الصلاة متعمدا لقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ «6» الآية.
والتاسع عشر: قطيعة الرحم لقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ «7» وقوله:
وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ «8» .
والعشرون: الحيف من الوصية لقوله: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً «9» الآية.
والحادي والعشرون: أكل مال اليتيم لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «10» الآية.
والثاني والعشرون: التعرب بعد الهجرة لقوله: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً «11» .
والثالث والعشرون: استحلال الحرم لقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ «12» ، وقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ «13» .
والرابع والعشرون: الارتداد لقوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ «14» الآية.
والخامس والعشرون: نقض العهد لقوله: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ «15» .
فذلك قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ.
وقرأ ابن مسعود: كبر ما تنهون عنه، على الواحد، وفيه معنى مع نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ
__________
(1) سورة التوبة: 34.
(2) سورة آل عمران: 161.
(3) سورة البقرة: 283.
(4) سورة المائدة: 90.
(5) سورة المائدة: 90.
(6) سورة البقرة: 238.
(7) سورة النساء: 1.
(8) سورة محمد: 22.
(9) سورة البقرة: 182.
(10) سورة النساء: 10.
(11) سورة آل عمران: 144.
(12) سورة المائدة: 2.
(13) سورة الحج: 25. [.....]
(14) سورة محمد: 25.
(15) سورة الرعد: 25.(3/298)
من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان ومن الحج إلى الحج، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «الصلاة الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنب الكبائر» «1» [300] .
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً وهي الجنة.
وقرأ عاصم وأهل المدينة: (مَدْخلا) بفتح الميم وهو موضع الدخول.
وقرأ الباقون: بالضم على المصدر، معنى الإدخال.
وروي عن أبي هريرة وعن أبي سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس على المنبر ثم قال: «والذي نفسي بيده» ثلاث مرات ثم سكت فأقبل كل رجل منّا يبكي حزنا ليمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال:
«ما من عبد يأتي بالصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر إلّا فتحت له أبواب الجنة يوم القيامة حتى أنها لتصطفق» [301] ثم تلا إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ «2» الآية.
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ الآية.
يقال: جاءت وافدة النساء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله أليس الله ربّ الرجال والنساء وأنت رسول الله إليهم جميعا، فما بالنا يذكر الله الرجال ولا يذكر النساء؟ نخشى أن لا يكون فينا خير ولا لله فينا حاجة؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ «3» الآية، وقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ «4» .
وقيل: لمّا جعل الله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ في الميراث، قالت النساء: نحن أحوج إلى أن يكون لنا سهمان وللرجال سهم، لأنا ضعفاء وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش منّا، فنزّل الله هذه الآية.
وقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزوا الرجال ولا نغزوا، وإنما لنا نصف الميراث، فليتنا رجال فنغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة والسدي: لما نزل قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، قال الرجال: إنا لنرجو أن يفضل علينا النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء. وقالت النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا، فأنزل الله لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا من الثواب والعقاب وَلِلنِّساءِ كذلك، قاله قتادة، وقال أيضا: هو أن الرجل يجزي بالحسنة عشرة والمرأة تجزي بها عشرا.
__________
(1) مسند ابن الجعد: 84، مسند ابن يعلى: 39 (بتفاوت يسير) .
(2) المستدرك: 2/ 240، صحيح ابن خزيمة: 1/ 163.
(3) سورة الأحزاب: 35.
(4) سورة النحل: 97.(3/299)
وقال ابن عباس: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا من الميراث، وللنساء نصيب منه لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة والأحراز، فنهى الله تعالى عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد.
قال الضحاك: لا يحل لمسلم أن يتمنى مال أحد، ألم يسمع الذين قالوا: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ «1» إلى أن قال وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ «2» حين خسف بداره وأمواله يقولون: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا «3» .
وقال الكلبي: لا يتمنى الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ولا دابته، ولكن ليقل:
اللهم ارزقني مثله، وهو كذلك في التوراة، وذلك قوله في القرآن: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ «4» .
قرأ ابن كثير وخلف والكسائي: (وسلوا الله) وسل وفسل بغير همزة فنقل حركة الهمزة إلى السين.
الباقون: بالهمزة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلوا الله من فضله فإنه يحبّ أن يسأل وأن من أفضل العبادة انتظار الفرج» » .
أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لم يسأل الله عزّ وجلّ من فضله غضب عليه» «6» [302] .
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: سلوا ربّكم حتى الشبع من لم ييسّره الله لم يتيسّر.
وقال سفيان بن عيينة: لم يأمر بالمسألة إلّا ليعطي.
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ أي ولكل واحد من الرجال والنساء موالي، أي عصبة يرثونه مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ من ميراثهم له، والوالدون والأقربون على هذا التأويل هم الموروثون، وقيل: معناه ولكل جعلنا موالي، أي قرابة من الذين تركهم، ثم فسّر الموالي فقال: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي هم الوالدان والأقربون خبر مبتدأ محذوف فالمعنى: من تركة الوالدان والأقربون، وعلى هذا القول هم الوارثون وَالَّذِينَ عَقَدَتْ في محل الرفع بالابتداء، والمعاقدة هي المعاهدة بين اثنين.
__________
(1) سورة القصص: 79.
(2) سورة القصص: 82.
(3) سورة القصص: 82.
(4) سورة النساء: 32.
(5) سنن الترمذي: 5/ 225، ح 3642.
(6) تفسير الطبري: 5/ 68، تفسير القرطبي: 5/ 164.(3/300)
وقرأ أهل الكوفة: عَقَدَتْ خفيفة بغير ألف أراد عقدت لهم أَيْمانُكُمْ وقرأت أم سعد بنت سعد بن الربيع: (عقّدت) بالتشديد يعني وثقته وأكدته، والأيمان جمع يمين من اليد والقسم، وذلك أنهم كانوا يضربون صفقة البيعة بأيمانهم، فيأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد ويتحالفون عليه، فلذلك ذكر الأيمان.
قتادة وغيره: أراد بالذين عاقدت إيمانكم الحلفاء، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك وهدمي هدمك وثاري ثارك وحربي وحربك وسلمي وسلمك وترثني وارثك وتطلب لي وأطلب لك وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، وعاقد أبو بكر مولى له فورثه لذلك قوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي وأعطوهم حظهم من الميراث، ثم نسخ ذلك بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «1» .
وقال إبراهيم ومجاهد: أراد فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من النصر والعقل والرفد، ولا ميراث، وعلى هذا القول تكون الآية غير منسوخة لقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2» ،
ولقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أوفوا للحلفاء بعهودهم التي عقدت أيمانكم» [303] .
ولقوله (عليه السلام) في خطبته يوم فتح مكة: «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلّا شدة ولا تحدثوا حلفا في الإسلام» «3» [304] .
وروى عبد الرحمن بن عوف، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «شهدت حلف المطيبين وأنا غلام مع عمومتي، فما أحب أن لي حمر النعم وإنّي أنكثه»
«4» [305] ، وقال ابن عباس وابن زيد: نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار حين أتوا إلى المدينة، وكانوا يتوارثون تلك المؤاخاة، ثم نسخ الله ذلك بالفرائض.
وقال سعيد بن المسيّب: نزلت في الذين كانوا يتبنّون أبناء غير هم في الجاهلية، ومنهم زيد مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمروا في الإسلام [أن] يوصوا إليهم عند الموت بوصية، وردّ الميراث إلى ذوي الرحم، وأبى الله أن يجعله يجعل للمدّعى ميراثا ممّن ادّعاهم وتبنّاهم، ولكن جعل الله لهم نصيبا في الوصية، فذلك قوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وقال أبو روق: نزل قوله: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ. الآية.
__________
(1) سورة الأنفال: 75.
(2) سورة المائدة: 1. [.....]
(3) مسند أحمد: 5/ 61، سنن الترمذي: 3/ 73، ح 1634.
(4) مسند أحمد: 1/ 190.(3/301)
في أبي بكر الصديق، وابنه عبد الرحمن، وكان كافرا، أن لا ينفعه ولا يورثه شيئا من ماله، فلمّا أسلم عبد الرحمن أمر أن يؤتى نصيبه من المال.
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ. الآية.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية في سعيد بن الربيع بن عمرو. وكان من النقباء. وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير. وهما من الأنصار. وذلك أنها نشزت فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: أفرشته كريمتي ولطمها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لتقتصّ من زوجها» ، فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليرجعوا، هذا جبرئيل» ، وأنزلت هذه الآية، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أردنا أمرا وأراد الله أمرا، فالذي أراد الله خير» «1» [306] ، ورفع القصاص.
وقال الكلبي: نزلت في أسعد بن الربيع وامرأته بنت محمد بن مسلم،
وذكر نحوها أبو روق: نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي، وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وذلك أنّها نشزت عليه فلطمها، فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم تستعدي، فأنزل الله تعالى هذه الآية الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي مسلّطون على تأديب النساء بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس، فلو شجّ رجل امرأته، أو جرحها لم يكن عليه قود، وكان عليه العقل إلّا التي يقتلها فيقتل بها
، قاله الزهري وجماعة من العلماء، وقال بعضهم: ليس بين الزوج والمرأة قصاص إلّا في النفس والجرح.
والقوّامون: البالغون في القيام عليهن بتعليمهنّ وتأديبهنّ وإصلاح أمرهنّ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ قيل: بزيادة العقل، وقيل: بزيادة الدّين واليقين، وقيل: بقوة العبادة، وقيل: بالشهادة، قال الله: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ، قال القرظي: بالتصرّف والتجارات، وقيل: بالجهاد، قال الله: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «2» ، وقال للنساء: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ «3» ، الربيع: الجمعة والجماعات، قال الحسن: بالإنفاق عليهنّ، قال الله تعالى:
وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ.
وقال بعضهم: يمكن للرجل أن ينكح أربع نسوة، ولا يحلّ للمرأة غير زوج واحد، وقيل:
هو إنّ الطلاق إلى الرجال وليس إليهنّ منه شيء، وقيل: بالدّية، وقيل: بالنبوّة، وقيل: الخلافة والإمارة،
إسماعيل بن عياش [.......] «4» عن بعض أشياخه رفعه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المرأة مسكينة ما لم يكن لها زوج» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 168 بتفاوت.
(2) سورة التوبة: 41.
(3) سورة الأحزاب: 33.
(4) كلمة غير مقروءة.(3/302)
فقيل: يا رسول الله، وإن كان لها مال؟ قال: «وإن كان لها مال، الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ» [307] .
سعيد [عن أبي سعيد المقبري] «1» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها، ثم تلا صلّى الله عليه وسلّم: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «2» [308] .
فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ مطيعات حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ يعني لغيب أزواجهنّ إذا غابوا، وقيل: سرّهم بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بحفظ الله لهنّ، وقرأ أبو جعفر بفتح الهاء، ومعناه: بحفظ من الله في الطاعة، وهذا
كقوله عليه السلام: «احفظ الله يحفظك»
«3» ، و (ما) على القراءتين [مصدريّة] «4» ، كقوله: بِما غَفَرَ لِي رَبِّي «5» ، أي يغفر لي ربّي.
وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ عصيانهن، وأصله من الحركة فَعِظُوهُنَّ، فإن نزعن عن ذلك وإلّا وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ، وقيل: ولّوهنّ ظهوركم في المضاجع، فإن نزعن وإلّا وَاضْرِبُوهُنَّ ضربا غير مبرح ولا شائن.
ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «علّق السوط حيث يراه أهل البيت» «6» [309] .
هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها.
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي لا [تطلبوا] عليهنّ بالذنوب، قال ابن عينه: لا تكلفوهن الحبّ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما أي خلافا بين الزوجين، فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها يتوسطون، إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يعني الزوجين وقيل:
الحكمين، يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما بالصلاح والألفة، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً.
وعن عبيدة السلماني قال: جاء رجل وامرأة عليا (عليه السلام) ، مع كل واحد منهما قيام من النّاس، فقال عليّ: «ما شأن هذين؟» . قالوا: وقع بينهما شقاق. قال عليّ:
__________
(1) زيادة عن تفسير الطبري: 5/ 86، والمخطوط ممسوح.
(2) كنز العمال: 16/ 282 ح 44477.
(3) مسند أحمد: 1/ 293.
(4) في المخطوط: مصدر.
(5) سورة يس: 27.
(6) كنز العمال: 16/ 371 ح 44946.(3/303)
فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها. قال: فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، فقال عليّ للحكمين: «هل تدريان ما عليكما؟ إنّ عليكما إن رأيتما أن يجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن يفرّقا فرقتما» ، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي، فقال الرجل: أمّا الفرقة فلا، قال عليّ: «كذبت والله، لا تنقلب منّي حتى تقرّ بما أقرّت به» «1» .
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وحّدوا الله وأطيعوه، قالت الحكماء: العبودية ترك العصيان، وملازمة الذلّ والانكسار، وقيل: العبودية أربعة أشياء: الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرّضا بالموجود، والصبر على المفقود.
وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً برّا بهما وعطفا عليهما. وقرأ ابن جني:
(إحسانٌ) بالرفع، أي وجب الإحسان بهما، وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ
عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قسوة قلبه، فقال: «إن أردت أن يلين قلبك فاطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم وأطعمه» «2» [310] .
وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى: قرأ العامة بالخفض عطفا على الكلام الأول، وقرأ ابن أبي عبلة:
وَالْجارَ وما يليه نصبا. والْجارِ ذِي الْقُرْبى ذو القرابة وَالْجارِ الْجُنُبِ البعيد الذي بينك وبينه قرابة، وقال الضحاك: هو الغريب من قوم آخرين، وقرأ الأعمش والفضل: (وَالْجارِ الْجَنْبِ) بفتح الجيم وسكون النون، وهما لغتان: رجل جنب وجنب وجانب وأجنب وأجنبيّ، إذا لم يكن قريبا، وجمعها أجانب، وقال الّاعشى:
أتيت حريثا زائرا عن جنابة ... فكان حريث في عطائي جامدا «3»
أي عن غربة من غير قربة، ومنه يقال: اجتنب فلان فلانا، إذا بعد منه، ومنه قيل للمجنب: جنب لاعتزاله الصّلاة، وبعده من المسجد حتى يغتسل، وقال نوف البكالي: الْجارِ الْجُنُبِ هو الكافر، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ يعني الرفيق في السفر،
قال ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر وعكرمة وقتادة، عن سعيد بن معروف بن رافع، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «التمسوا الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق» «4» [311] .
وقال بعضهم: الْجارِ الْجُنُبِ هو الجار اللاصق داره بدارك، فهو إلى جنبك،
وقال علي وعبد الله وابن أبي ليلى والنخعي: هو المرأة تكون معه إلى جنبه.
ابن زيد وابن جريح: هو
__________
(1) تفسير الطبري: 5/ 101.
(2) الجامع الصغير: 1/ 407. [.....]
(3) تفسير الطبري: 5/ 113.
(4) كنز العمال: 15/ 388 ح 41495.(3/304)
الذي يلزمك ويصحبك رجاء برّك ورفدك. وقال ابن عباس: إنّي لأستحي أن يطأ الرجل بساطي ثلاث مرات لا يرى عليه أثر من برّي. وقال المهلّب: إذا غدا عليكم الرجل وراح، فكفى به مسألة وتذكرة بنفسه.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ خير الأصحاب عند الله عز وجلّ خيرهم لصاحبه، خير الجيران عند الله خيرهم لجاره» «1» [312] .
عثمان بن عطا، عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس بمؤمن من لا يؤمن جاره بوائقه، فأيّما رجل أغلق أبوابه دون جاره، فخافه على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن» . قالوا: يا رسول الله، وما حق الجار؟ قال: «إن دعاك أجبته، وإن أصابته فاقة عدت عليه، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خير هنأته، وإن مرض عدته، وإن أصابه مصيبة عزّيته، وإن توفي شهدت جنازته، ولا تستعل عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلّا بإذنه، ولا تؤذه بقتار «2» قدرك إلّا أن يغرف له منها، وإن ابتعت فاكهة فأهد له منها، وإن لم تفعل فأدخلها سرّا، ولا يخرج ولدك منها فيغيظ ولده» .
ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «الجيران ثلاثة: فمنهم من له ثلاثة حقوق، ومنهم من له حقّان، ومنهم من له حق واحد فأما صاحب الثلاثة الحقوق: فالمسلم الجار ذو الرحم، له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم، وأمّا صاحب الحقّين: فالمسلم الجار له حق الإسلام وحق الجار، وأمّا صاحب الحق الواحد، فالمشرك الجار، له حق الجوار، وإن كان مشركا» «3» [313] .
أبو هشام القطان، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من آذى جاره فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن حارب جاره فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب الله عزّ وجلّ» «4» [314] .
وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني المماليك،
عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دفع إلى أبي ذرّ غلاما، فقال: «يا أبا ذرّ أطعمه مما تأكل واكسه مما تلبس» ، قال: لم يكن له سوى ثوب واحد فجعله نصفين، فراح إلى نبي الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «ما شأن ثوبك هذا؟» ، فقال: إن الفتى الذي دفعته إليّ أمرتني أن أطعمه مما آكل واكسوه مما ألبس، وإنه لم يكن معي إلّا هذا الثوب فناصفته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أشير عليك بأن تعتقه» ، ثم قال رسول الله: «ما فعل فتاك؟» قال: ليس لي فتى فقد أعتقته، قال: «آجرك الله يا أبا ذرّ» «5» [315] .
__________
(1) الجامع الصغير: 1/ 617 ح 3998.
(2) القتار: رائحة القدر. النهاية في غريب الحديث والأثر 4: 12. قتر.
(3) كنز العمال: 9/ 185 ح 25613 بتفاوت، وتفسير القرطبي: 5/ 184.
(4) كنز العمال: 9/ 56 ح 24927.
(5) مجمع الزوائد: 4/ 237 بتفاوت.(3/305)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
الأعمش عن عتيق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الغنم بركة، والإبل عزّ لأهلها، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، والعبد أخوك فإن عجز فأعنه» «1» .
وعن عليّ (رضي الله عنه) قال: «كان آخر كلام رسول إله صلّى الله عليه وسلّم الصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم» «2» [316] .
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً.
[سورة النساء (4) : الآيات 37 الى 42]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
الَّذِينَ في محل النصب ردّا على مَنْ وقيل: (المختال الفخور) ، يَبْخَلُونَ البخل في كلام العرب: منع الرجل سائله ما لديه من فضل عنه، وفي الشرع: منع الواجب، وفيه أربع لغات: البخل- بفتح الباء والخاء- وهي قراءة أنس بن مالك وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحمزة والكسائي وخلف والمفضل ولغة الأنصار. والبخل- بفتح الباء وسكون الخاء- وهي قراءة قتادة وعبد الله بن سراقة، وأيّوب السجستاني، والبخل- بضم الباء والخاء- وهي قراءة عيسى بن عمرو. والبخل- بضم الباء وجزم الخاء- وهي قراءة الباقين، واختيار أبي عبيد وأبي مسلم لأنها اللغة العالية، وفي الحديد مثله. وكلّها لغات، ونظيره في الكلام: (أرض جرز، وجرز، وجرز) .
واختلف العلماء في نزول الآية ومعناها، فقال أكثرهم: نزلت في اليهود كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلم، ولم يبيّنوها للنّاس، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في التوراة. يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، قال هذا في العلم ليس للدنيا منه شيء.
قال ابن عباس وابن زيد: نزلت في كردم بن زيد وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع ويحيى بن يعمر وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت، كانوا يأتون رجالا من الأنصار
__________
(1) كنز العمال: 12/ 325 ح 35228 بتفاوت يسير.
(2) كنز العمال: 8/ 6 ح 21625.(3/306)
ويخالطونهم وينصحونهم، فيقولون لهم لا تنفقوا أموالكم فإنّا نخشى عليكم الفقر، ولا ندري ما يكون، فأنزل الله عزّ وجلّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إلى قوله: مِنْ فَضْلِهِ يعني المال.
وقال يمان: يعني يبخلون بالصدقة.
الفضل بن فضالة، عن أبي رجاء قال: خرج علينا عمران بن حصين في مطرف من خزّ لم نره عليه قبل ولا بعد، فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمة، أحبّ أن يرى أثر نعمته عليه» «1» [317] .
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ إلى الأخير، محل الذين نصب عطفا على قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وإن شئت جعلته في موضع الخفض عطفا على قوله: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ نزلت في اليهود، وقال السدي: في المنافقين، وقيل: في مشركي مكة المتفقين على عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً صاحبا وخليلا، وهو فعيل من الاقتران، قال عدي بن زيد:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي «2»
فَساءَ قَرِيناً فبئس الشيطان قرينا، وقد نصب على التمييز، وقيل: على الحال، وقيل:
على القطع بإلقاء الألف واللام منه، كما نقول: نعم رجلا، عبد الله، تقديره: نعم الرجل عبد الله، فلمّا حذف الألف واللام نصب، كقوله بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا «3» ، وساءَ مَثَلًا «4» ، وساءَتْ مُرْتَفَقاً «5» ، وساءَتْ مُسْتَقَرًّا»
، وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «7» ، وكَبُرَ مَقْتاً «8» ، قال المفسرون: فَساءَ قَرِيناً أي يقول: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ «9» .
وَماذا عَلَيْهِمْ وما الذي عليهم لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ إلى آخر الآية، وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ؟ فإنّ الله لا يظلم- أي لا يبخس- ولا ينقص أحدا من خلقه من ثواب عمله شيئا مثقال ذرّة مثلا، بل يجازيه بها ويثيبه عليها وهذا مثل يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، فكيف بأكثر منها؟ والمراد من الكلام: لا يظلم قليلا، لأن الظلم مثقال ذرّة لا ينتفع به الظالم، ولا يبين ضرره في المظلوم. وقيل: [ ... ] «10» ، ودليله من التأويل قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً «11» في الدنيا.
__________
(1) المعجم الكبير: 18/ 135.
(2) تفسير الطبري: 5/ 123.
(3) سورة الكهف: 50.
(4) سورة الأعراف: 177.
(5) سورة الكهف: 29. [.....]
(6) سورة الفرقان: 66.
(7) سورة النساء: 69.
(8) سورة غافر: 35، سورة الصف: 2.
(9) سورة الزخرف: 38.
(10) سواد في مصوّرة المخطوط.
(11) سورة يونس: 44.(3/307)
واختلفوا في الذرّة، فقال ابن عباس: هي النملة الحميراء الصغيرة، لا تكاد تبين في رأي العين. وقال يزيد بن هارون: وزعموا أنّ الذرة ليس لها وزن، ويحكى أنّ رجلا وضع خبزا حتى علاه الذرّة يستره، فلم يزد على وزن الخبز شيئا. ودليل هذا التأويل ما روى بشير بن عمرو عن عبد الله أنّه قرأ: (إنّ الله لا يظلم مثقال نملة) .
يزيد بن الأصم عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: مِثْقالَ ذَرَّةٍ، قال: أدخل ابن عباس يده في إناء ثم رفعها، ثم نفخ فيها، ثم قال: كلّ واحدة من هؤلاء ذرّة، وقال بعضهم: أجزاء الهباء في الكوّة كلّ جزء منها ذرّة. وقيل: هي الخردلة.
وفي الجملة هي عبارة عن أقلّ الأشياء وأصغرها،
روى أنس أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأمّا الكافر، فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، لم يكن له حسنة» «1» [318] .
قتادة: كان بعض أهل العلم يقول: لئن يفضل حسناتي على سيئاتي وزن ذرّة أحبّ إليّ من أن يكون لي الدنيا جميعا.
عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خلص المؤمنون من النار يوم القيامة، وأمنوا فما مجادلة أحدكم صاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشدّ من مجادلة المؤمنين لربّهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار» ، قال: «يقولون: ربّنا إخواننا كانوا يصلّون معنا، ويصومون معنا، ويحجّون معنا، فأدخلتهم النار؟ فيقول الله عزّ وجلّ: اذهبوا وأخرجوا من عرفتم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبه، فيخرجونهم فيقولون: ربّنا أخرجنا من أمرتنا، ثم يقول تعالى: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار، حتى يقول: من كان في قلبه مثقال ذرّة» «2» [319] .
وقال أبو سعيد: فمن لم يصدق بهذا فليقرأ هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ....
قال: «فيقولون: ربّنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير» . قال: «ثم يقول الله عزّ وجلّ: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفعت المؤمنون «3» ، وبقي أرحم الراحمين» ، قال: «فيقبض قبضة من النار. أو قال: «قبضتين» . ممن لم يعملوا له عزّ وجلّ خيرا قط، قد احترقوا حتى صاروا حمما، قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له ماء الحياة فيصبّ عليهم
__________
(1) مسند أبي داود الطيالسي: 269.
(2) مسند أحمد: 3/ 94، سنن ابن ماجة: 1/ 23.
(3) في المصدر: وشفع الأنبياء وشفع المؤمنون.(3/308)
فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فيخرجون وأجسادهم «1» مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم: (عتقاء الله عزّ وجلّ) ، فيقال لهم: ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم عندي أفضل من هذا» .
قال: «فيقولون: ربّنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين!» . قال: «فيقول: ان لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: ربّنا وما أفضل من ذلك؟» قال: «فيقول: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا» «2» .
وقال آخرون: هذا في الخبر عن ابن [ ... ] «3» عن عبد الله بن مسعود قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين، ثم نادى مناد من عند الله: ألا من كان يطلب مظلمة إلى أخيه فليأخذ. قال: فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه، فيأخذ منه، وإن كان صغيرا، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ... وَلا يَتَساءَلُونَ «4» ، فيؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأشهاد: الأولين والآخرين، هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق، فليأت إلى جنبه ثمّ يقال له: آت هؤلاء حقوقهم. فيقول: من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرّة من حسنة، قالت لملائكة: ربّنا أنت أعلم بذلك منهم، أعطينا كلّ ذي حق حقه وبقي له مثقال ذرّة من حسنة، فيقول للملائكة: ضاعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل منّي الجنّة، ومصداق ذلك في كتاب الله إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً.
وإن كان العبد شقيّا، فتقول الملائكة: إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته، وبقي طالبون كثير، فيقول عزّ وجلّ: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكّوا له صكا إلى النار.
فمعنى الآية على هذا التأويل: لا يَظْلِمُ، مِثْقالَ ذَرَّةٍ للخصم على الخصم، بل يثيبه عليها ويضاعفها له، وذلك قوله وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها قراءة العامة حَسَنَةً بالنصب على معنى:
وإن يكن زنة الذرّة. وقرأها أهل الحجاز رفعا، بمعنى أن يقع أو يوجد حسنة، وقال المبرّد:
معناه وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً باقية يضاعفها.
وقرأ الحسن: (نضاعفها) - بالنون- الباقون: بالياء، وهو الصحيح لقوله: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ وقرأ أبو رجاء وأهل المدينة يضعّفها. الباقون: يضعفها وهما لغتان معناهما التكثير. وقال
__________
(1) في المصدر: من أجسادهم.
(2) مسند أحمد: 3/ 94.
(3) كلمة غير مقروءة.
(4) سورة المؤمنون: 101.(3/309)
أبو عبيده: يُضاعِفْها معناه يجعلها أضعافا كثيرة، ويضعّفها بالتشديد يجعلها ضعفين.
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده، قال الكسائي: في (لدن) أربع لغات لدن، ولدى ولد ولدن. ولمّا أضافوها إلى أنفسهم شدّدوا النون.
أَجْراً عَظِيماً وهو الجنّة.
عن أبي عثمان قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إنّ الله عزّ وجلّ يعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة، قال أبو هريرة: لا بل سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله يعطيه ألفي ألف حسنة» «1» ، ثم تلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، إلى أَجْراً عَظِيماً [320] .
وقال: «إذا قال الله: أجرا عظيما، فمن بعد يدري قدره؟» .
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يعني فكيف يصنعون إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد حق منها، يشهد عليهم بما عملوا، وَجِئْنا بِكَ يا محمد عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً؟ نظيره في البقرة «2» والنحل «3» والحج «4» .
عاصم عن زر عن عبد الله قال: قال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ» . فقرأت «5» سورة النساء، حتى إذا بلغت، فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ دمعت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال: «حسبنا» «6» [321] .
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ قرأ أهل المدينة والشام بفتح التاء وتشديد السين، على معنى: تتسوّى فأدغمت التاء بالسين، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما بفتح التاء وتخفيف السين، على حذف تاء تفعل، كقوله: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ «7» ، وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين على المجهول، قالوا: سوّيت بهم الأرض وصاروا هم والأرض شيئا واحدا، وقال قتادة وعبيدة: يعني لو تحركت الأرض فساروا فيها، وعادوا إليها كما خرجوا منها، ثم تسوى عليهم حتى تعلوهم، ابن كيسان: ودّوا أنهم لم يبعثوا طرّا، وإنما نقلوا من التراب وكانت الأرض مستوية بهم. الكلبي: يقول الله عزّ وجلّ للبهائم والوحش والطير والسباع: كنّ ترابا فتسوّى بها الأرض، فعند ذلك يتمنى الكافرون لو كانوا ترابا يمشي
__________
(1) كنز العمال: 6/ 352 ح 16019 بتفاوت. [.....]
(2) هو قوله تعالى: (ويكون الرسول عليكم شهيدا) الآية: 142.
(3) هو قوله تعالى: (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) الآية: 89.
(4) هو قوله تعالى: (ليكون الرسول شهيدا عليكم) الآية: 78.
(5) في المصدر: فاستفتحت.
(6) السنن الكبرى: 5/ 28.
(7) سورة هود: 105.(3/310)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
عليهم أهل الجمع، بيانه قوله عزّ وجلّ: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
«1» .
قال الثعلبي: وحكي أستاذنا أبو القاسم الحسين أنّه سمع من تأول هذه الآية: يعدل بهم ما على الأرض من شيء فدية، بيانه: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ «2» الآية.
وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً؟: قال عطاء: ودّوا لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وإنّهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا نعته، وقال آخرون: بل هو كلام مستأنف، يعني ويكتمون الله حديثا لأنّ ما عملوا لا يخفى على الله عزّ وجلّ، ولا يقدرون على كتمانه، الكلبي وجماعة: لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً لأنّ خزنة جهنم تشهد عليهم.
سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: أشياء تختلف عليّ في القرآن، أهو شك فيه؟ قال: لا، ولكن اختلاف في آيات الاختلاف عليك من ذلك، فقال: اسمع، الله عزّ وجلّ يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «3» ، وقال: لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فقد كتموا، فقال ابن عباس: أمّا قولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا يوم القيامة أنّ الله يغفر لأهل الإسلام قالوا: تعالوا فلنشهد فجحد المشركون، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ رجاء أن يغفر لهم فيختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً. الحسن: إنّها مواطن، ففي موطن لا يتكلمون ولا يسمع الّا همسا، وفي مواطن يتكلمون ويكذبون، ويقولون: ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، وفي موطن يعترفون على أنفسهم، وهو قوله عزّ وجلّ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ «4» ، وفي موضع آخر يسألون الرحمة، وإنّ آخر تلك المواطن أنّ أفواههم تختم، وجوارحهم تتكلم، وهو قوله تعالى وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً.
[سورة النساء (4) : الآيات 43 الى 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
__________
(1) سورة النبأ: 40.
(2) سورة المعارج: 11.
(3) سورة الأنعام: 23.
(4) سورة الملك: 11.(3/311)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانوا يشربون الخمرة، ويشهدون الصلاة وهم نشاوى، فلا يدرون كم يصلّون، ولا يدرون ما يقولون في صلواتهم، فأنزل الله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى نشاوى من الخمر، جمع سكران، وقرأ النخعي: (جنبا) وهما لغتان.
حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وتقرؤون في صلاتكم، وكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصّلاة، حتى نزل تحريم الخمر في سورة المائدة. سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، قال: لم يعن سكر الخمر، إنّما يعني سكر النوم.
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا نعس أحدكم وهو في الصّلاة، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنّه إذا صلّى وهو ينعس، لعلّه يذهب فيستغفر فيسبّ نفسه» «1» [322] .
هشام بن عروة أيضا عن أبيه عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا نعس الرجل وهو يصلّي، فلينصرف فلعلّه يدعو على نفسه وهو لا يدري» «2» [323] .
همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول، فليضطجع» «3» [324] .
وروي عن عبيدة السلماني في هذه الآية أنّه قال: هو الحاقن، دليله
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يصلينّ أحد كم وهو يدافع الأخبثين «4» » «5» [325] .
__________
(1) مسند أحمد: 6/ 56.
(2) السنن الكبرى: 1/ 97.
(3) كنز العمال: 7/ 789 ح 21420.
(4) في جميع المصادر: يدافع بولا وطوفا. [.....]
(5) كنز العمال: 8/ 179 ح 22464.(3/312)
وَلا جُنُباً نصب على الحال، يعني ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب، وقرأ إبراهيم النخعي: (جُنْباً) بسكون النون، يقال: رجل جنب، ورجلان وامرأتان جنب، ورجال ونساء جنب، والفعل منه أجنب. يجنب، وأصل الجنابة البعد، فقيل له: جنب لأنّه يجتنب حتى يتطهر، ثم استثنى فقال: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ واختلفوا في معناها،
فقال: بعضهم: الّا إن يكونوا مسافرين ولا يجدون الماء فيتيمّموا، وهذا قول عليّ وابن عباس وابن جبير وابن زيد ومجاهد والحكم والحسن بن مسلم وابن كثير.
وقال الآخرون: معناه إلّا مجتازين فيه للخروج منه مثل أن ينام في المسجد، فيجنب، أو يكون الماء فيه، أو يكون طريقه عليه، فرخص له أن يمرّ عليه ولا يقيم، وعلى هذا القول تكون الصلاة بمعنى المصلّى والمسجد كقوله صَلَواتٌ «1» اي موضع الصلوات، وهذا قول عبد الله وابن المسيّب وابن يسار والضحاك والحسن وعكرمة وإبراهيم وعطاء الخراساني والنخعي والزيدي، يدلّ عليه ما روى الليث عن يزيد بن أبي حبيب أنّ رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فيصيبهم الجنابة، ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرّا للماء إلّا في المسجد، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وأصل العبور: القطع يقال: عبر الطريق والنهر إذا قطعهما وجال فيهما «2» .
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى جمع مريض.
إسماعيل عن أبيه عن الحسين عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إنّ مسجدي حرام على كلّ حائض من النساء، وعلى كلّ جنب من الرجال إلّا على محمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام» «3» [326] .
وأراد به مرضا يضرّه مساس الماء كالجدري والجروح والقروح، أو كسر قد وضع عليه الجبائر، فإنّه رخّص له في التيمّم، هذا قول جماعة من الفقهاء، إلّا ما ذهب [إليه] »
عطاء والحسن أنه لا يتيمّم مع وجود الماء، واحتّجا بقوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا «5» ، وهذا واجد الماء.
وهذا غلط، لما
روى عطاء عن جابر قال: خرجنا في سفر وأصاب رجلا معنا حجر فشجّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلمّا قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبر بذلك، فقال:
__________
(1) سورة البقرة: 157.
(2) كذا في المخطوط.
(3) السنن الكبرى: 7/ 65.
(4) في المخطوط: عليه.
(5) سورة النساء: 43.(3/313)
«قتلوه قتلهم الله، هلّا سألوا إذا لم يعلموا، فإنّما شفاء العىّ السّؤال، إنّما كان يكفيه أن يتيمّم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» «1» [327] .
أَوْ عَلى سَفَرٍ طويلا كان أو قصيرا، فله التيمّم عند عدم الماء، فإذا لم يكن مرض ولا سفر لكنه عدم الماء في موضع لا يعدم فيه الماء [عادة] «2» ، مثل أن يكون في مصر فانقطع الماء عنه رأسا، أو في قرية فانقطع ماؤها، ففيه ثلاث مذاهب: ذهب الشافعي ومحمد بن الحسن إلى أنّ عليه التيمم والصّلاة ويعيد الصّلاة، وذهب مالك والأوزاعي وأبو يوسف إلى إنّه يتيمّم ويصلّي ولا إعادة عليه، وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يتيمّم ولا يصلّي، ولكنّه يصبر حتى يجد الماء ويتوضأ ويصلّي.
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ قرأ الزّهري: (من الغيط) ، والغيط والغوط والغائط كلّها بمعنى واحد، وهي الخبت المطمئن من الأرض، وقال مجاهد: هو الوادي، الحسن: الغور من الأودية، وتصوّب «3» . المؤرّخ: قرارة من الأرض يحفها الكرم ويسترها، وجمعها غيطان، والفعل منه (غاط يغوط) ، مثل (عاد يعود) . وتغوّط يتغوّط، إذا أتى الغائط، وكانوا يتبرّزون هناك فكنّى عن الحديث بالغائط مثل العذرة والحدث، وهو هاهنا كناية عن حاجة البطن.
أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرأ حمزة والكسائي وخلف: (لمستم) . بغير ألف هاهنا، وفي المائدة «4» - وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالألف فيهما وهو اختيار أبي حاتم.
واختلف المفسّرون في معنى اللمس والملامسة، فقال قوم: المجامعة، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وقال سعيد بن جبير: ذكروا اللمس فقال ناس من الموالي:
ليس بالجماع، وقال ناس من العرب: هو الجماع، فأتيت ابن عباس فذكرت له، فقال: من أيّ الفريقين كنت؟ قلت: من الموالي. قال: غلب فريق الموالي، إنّ اللمس والمسّ والمباشرة الجماع، لكنّ الله يكنّى عمّا يشاء بما يشاء، وعلى هذا القول إنّما كنّى عن اللمس بالجماع لأنّ اللمس يوصل إليه، كما يقال للسّحاب: سماء، وللمطر: سماء وللكلأ سماء لأنّ بالسحاب يوصل إلى المطر، وبالمطر يوصل إلى الكلأ، قال الشاعر:
إذا سقط السّماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا «5»
وقال الآخرون: هو التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع، وهو قول ابن مسعود
__________
(1) سنن أبي داود: 1/ 85.
(2) كلمة غير مقروءة، والظاهر ما أثبتناه.
(3) كذا في المخطوط.
(4) هي قوله تعالى: (أو لامستم النساء) سورة المائدة: 6.
(5) الصحاح: 6/ 2382.(3/314)
وابن عمر وأبي عبيدة ومنصور وعبيدة والشعبي والنخعي وحماد والحكم.
واختلف العلماء في حكم الآية على خمسة مذاهب، فقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد تعلّق نقض الطهارة به، وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة.
وقال الأوزاعي: إن كان للمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه، فأجراه مجرى مسّ الفرج.
وقال مالك والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه: إذا كان اللمس للشهوة نقض، وإن كان لغير شهوة لم ينقض، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كانت ملامسة فاحشة نقضت وإلّا لم تنقض، والملامسة الفاحشة: ما تحدث الإفساد.
وذهبت طائفة إلى إنّ الملامسة لا تنقض الطهارة بحال، وبه قال من الصحابة ابن عباس، ومن التابعين الحسن البصري، وإليه ذهب محمد بن الحسين.
وعن الثوري روايتان: إحداهما هذا «1» ، والثانية مثل (قول مالك بدليل الشافعي من الآية) «2» أنّ الملامسة باليد ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه نهى عن بيع الملامسة، واللمس أكثر ما يستعمل في لمس اليد، وأنشد الشافعي:
لمست «3» بكفي كفّه طلب «4» الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفّه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأنفقت «5» ما عندي «6»
روى الزهري عن سالم عن أبيه قال: جسها بيده من الملامسة، ويدل عليه ما
روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ أنّ رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل ينال من امرأة لا تحل له ما يناله من امرأته إلّا الجماع، فقال: «يتوضّأ وضوءا حسنا»
«7» [328] ، فثبت أنّ اللمس ينقض الوضوء.
احتج من لم يوجب الوضوء بالملامسة نفسها، بما
روى مالك عن أبي النضر عن أبي
__________
(1) أي القول المارّ.
(2) كذا في المخطوط.
(3) في المصدر: أخذت. [.....]
(4) في المصدر: أبتغي.
(5) في المصدر: فبدّدت.
(6) الأنساب للسمعاني: 1/ 236، والبداية والنهاية: 10/ 166.
(7) المستدرك على الصحيحين 1: 35.(3/315)
سلمة عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجليّ، فإذا قام بسطتها والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.
وروى عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة قالت: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي وأنا لمعترضة بين يديه اعتراض الجارية «1» حتى إذا أراد أن يوتر مسّني برجله.
وروي الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة قالت: فقدت النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، فجعلت أطلبه بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد يقول: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من غضبك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» «2» .
وفي بعض الاخبار: فلما فرغ من صلاته قال لي: «يا عائشة أتاك شيطانك؟» «3» [329] ، قالوا: فلمسته عائشة وهو في الصلاة فمضى فيها.
ولأجل هذه الأخبار خصّ من ذكرنا مسّ الشهوة بنقض الوضوء.
روى أبو روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقبّل بعض أزواجه ثم يصلّي ولا يتوضأ.
وأمّا الغسل وكيفية الملامسة على مذهب الشافعي فهو على ثلاثة أوجه: لمس ينقض الوضوء قولا واحدا، ولمس لا ينقض الوضوء، ولمس مختلف فيه، فالذي ينقض الوضوء ملامسة الرجل المرأة الشابة [ ... ] متعمدا حية كانت أو ميتة، والذي لا ينقضه ملامسة الشعر والسنّ والظفر، والذي اختلف فيه هو أن يلمس فتاة صغيرة، أو امرأة كبيرة، أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحلّ له نكاحها، [وفيه] «4» قولان: أحد هما ينقض الوضوء لأنه لمس متعمد [....] ، والثاني لا ينقض لأنّه لا تدخل للشهوة فيهن، يدلّ عليه ما
روي عن أبي قتادة السلمي الانصاري أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها. وهذا حكم الملامسة إذا لم يكن «5» حائل، فأمّا إن كانت من دون حائل فإنها تنقض الطهارة سواء كان الحائل صفيقا أو رقيقا
، هذا قول الجمهور.
وقال مالك: ينقضها إن كان رقيقا ولا ينقضها إن كان صفيقا، وقال الليث وربيعة: ينقضها
__________
(1) في مسند أحمد بن حنبل 6: 260: الخبازة، وهو الأوفق.
(2) مسند أحمد: 1/ 96، وسنن ابن ماجة: 2/ 1263.
(3) المستدرك: 1/ 228 والسنن الكبرى: 2/ 116.
(4) في المخطوط: فيها.
(5) كذا في المخطوط، والظاهر أنه: إذا كان مع الحائل.(3/316)
سواء كان صفيقا أو رقيقا، والدليل على أنّها لا تنقض الوضوء إذا كانت من دون حائل ظاهر الآية أَوْ لامَسْتُمُ فإذا لمسها مع الحائل فما لمسها وإنّما لمس الحائل، وعليه إنّه لو حلف ألّا يلمسها ولمسها من وراء حائل لم يحنث.
فهذا كلّه حكم اللامس، وأما الملموس فهل ينتقض به طهره أم لا؟ فعلى قولين للشافعي:
أحدهما: أنّه ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ.
والثاني:
لا ينتقض لخبر عائشة: «فوقعت يدي على أخمص قدمي رسول الله صلّى الله عليه وسلم»
والله أعلم.
قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا اعلم أنّ التيمّم من خصائص هذه الأمة لما
روى ربّعي بن خمّاش، عن حذيفة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «فضّلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، جعلت الأرض لنا مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» «1» [330] .
وأما بدء التيمّم
فأخبر مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأبواء «2» ، حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي وكنت استعرتها من أسماء، فصلّ، فأخبرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر بالتماسه فالتمس، فلم يوجد، فأناخ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فباتوا ليلتهم تلك، وأقاموا على النجاسة وليسوا على ماء وليس عندهم ماء، فأتى الناس أبا بكر، فقالوا: ألا ترى إلى عائشة حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على غير ماء؟ فجاء أبو بكر، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضع رأسه على فخذي قد نام فعاتبني، وقال: ما شاء الله! وقال: قبّحها الله من قلادة حبست الناس على غير ماء وقد حضرت الصلاة، ثم طعن بيده على خاصرتي فما منعني من التحريك «3» إلّا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان واضعا رأسه على فخذي، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله عزّ وجلّ آية التيمّم.
قالت: فبعثت البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر جزاكم الله خيرا، فو الله ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلّا جعل لك وللمسلمين فيه خير.
فأباح الله تعالى التيمّم لخمس شرائط:
أحدها: دخول وقت الصلاة، فلا يجوز التيمّم إلّا بعد دخول وقت الصّلاة، وقد يجمع
__________
(1) كنز العمال: 11/ 409 ح 31912.
(2) في صحيح البخاري 4: 195 (في بعض أسفاره) ، وكذا في سنن النسائي 1: 163.
(3) كذا في المخطوط، وفي سنن النسائي 1: 164 (التحرك) .(3/317)
بالتيمم بين صلاتي فرض، هذا قول عليّ وابن عباس وابن حمزة ومذهب مالك والشافعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل، قالوا: لأنها طهارة ضرورة، فقسناها على المستحاضة،
ولأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فأينما أدركتكم الصّلاة فتيمّموا وصلّوا» [331] .
وروى أبو إسحاق عن الحريث عن عليّ رضي الله عنه قال: «تيمّموا لكلّ صلاة» «1» [332] .
وروي ابن المهدي عن عاصم الأحول عن عمرو بن قيس «2» قال: بل تتيمم لكلّ صلاة وإن لم تحدث.
وذهبت طائفة إلى أنّ التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ويصلّي من الحدث الأكبر إلى الحدث لمسا من الفرائض والنوافل، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن والثوري وأبي عبيدة واحتجوا
بقول النبي صلّى الله عليه وسلم «الصّعيد الطيّب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج» «3» [333] .
والشرط الثاني من الشرائط المبيحة للتيمم: طلب الماء، وكيفيّة الطلب أن يطلبه في رحله فإن لم يجد طلب من أصحابه، فإن لم يجد عندهم طلب يمينا وشمالا ووراء وأمام، فإن كان هناك تلّ صعد ونظر، فإن رأى إنسانا قادما فليتعرّف منه، فإن تيمم قبل الطلب لم يصح عند أكثر الفقهاء.
وقال أبو حنيفة: طلب الماء ليس بشرط في جواز التيمم بل مستحب، فان تيمم قبله أجزأه، لأنه لو كان شرطا فيه لكان شرطا في النافلة لعدم الماء، ولما كان التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضا للفريضة دونه، دليلها قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، ولا يقال: لم يجز إلّا لمن طلب الماء، والدليل عليه أنّه لو وكّل وكيلا ليشتري له شيئا فان لم يجد فخيّره فاشترى الشيء الثاني قبل طلبه الأول ضمن.
والشرط الثالث: إعوازه بعد طلبه، فأمّا إذا كان بينه وبين الماء حائل من لص أو عدو أو سبع أو جمل صائل أو نار ونحوها فهو عادم للماء، وكذلك إن كان عليه ضرر في إتيانه مثل أن يخاف على رحله إن غاب عنه، وكذلك إن كان الماء في بئر ولم يمكنه الوصول إليه.
والشرط الرابع: العذر من مرض أو سفر لقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ.
والمرض على ثلاثة أضرب: مرض لا يضرّ استعمال الماء معه، فلا يجوز التيمم معه،
__________
(1) تفسير الطبري: 5/ 160 وفيه التيمم.
(2) كلمة غير مقروءة، والظاهر ما أثبتناه. [.....]
(3) سنن الدارقطني: 1/ 196 بتفاوت يسير.(3/318)
وضرب يخاف معه من استعمال الماء التلف فيجوز معه التيمم، وكذلك إن كان على قرحه دم يخاف إن غسله التلف تيمّم، وأعاد إذا قدر على غسل الدم، وضرب يخاف باستعماله الماء الزيادة في العلّة بطء البرء، والمتعيّن فيه أوجه:
الأول: أنه يجوز التيمم، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: أنه لا يجوز فإن كانت الجراحة في بعض جسده دون بعض، غسل ما لا ضرر عليه وتيمّم، ولا يجزيه أحد هما دون الآخر، وقال أبو حنيفة: إذا كان أكثر بدنه لزمه الوضوء واستعمال الماء، ولم يجزه معه التيمم ولا دونه، وإن كان أكثر بدنه جريحا يسقط عنه فرض الوضوء والغسل ويجزيه التيمم في الجميع.
قال: (ولا يجوز الجمع بين استعمال الماء في بعض الأعضاء والتيمم في بعضها) ، وكذلك لو وجد الجنب أو المحدث من الماء ما لا يسع المحدث لوضوئه، ولا الجنب لأغساله، وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: أنه يسقط فرض استعماله الماء ويكفيه التيمم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والمزني.
والقول الثاني: يلزمه استعمال القدر الذي وجده، والتيمم كما حدّثته «1» ، وإن كان جنبا غسل به أي أعضائه شاء ثم تيمّم على الوجه واليدين، وإن كان محدثا غسل وجهه ثم يديه على الترتيب ثم تيمّم لما لم يغسل من أعضاء الوضوء، حتى لو غسل جميع أعضاء وضوئه وبقيت لمعة من رجله لم يصبها ماء فإنه يتيمّم لها.
وإن انكسر بعض أعضائه فجبرها، فإنه لا يعدو في الجبائر موضع الكسر، ولا يضعها إلّا على وضوء كالخفين، فان وضعها على الطهارة فله أن يمسح على الجبيرة ما دام العذر باقيا ثم هل يلزمه إعادة الصلوات التي صلّاها بالمسح على الجبائر أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: عليه الإعادة.
والثاني: لا إعادة عليه، وهو اختيار المزني، والدليل عليه ما
روى زيد بن علي عن أبيه عن جده أن حزما انكسر إحدى زنديه فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يمسح على الجبائر
، قال الشافعي: إن صح حديث عليّ قلت به، وهذا مما أستخير الله فيه. وإن وضعها على غير الطهارة وعدا بها إلى غير موضع الكسر ينظر فإن لم يخش تلف يديه أو عضو من أعضائه نزعها، وإن خاف على ذلك لم ينزعها، ولكنه يغسل ما يقدر عليه، ويعيد الصلاة إذا قدر على نزعها.
وأمّا السفر فهو أقل ما يقع عليه اسم سفر، طالت أو قصرت لأنّ الله تعالى لم يفرّق
__________
(1) كذا في المخطوط.(3/319)
بينهما، دليله ما
أخبر الشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر: إنّه أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمدينة تيمّم فمسح وجهه ويديه وصلّى العصر، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة، فلم يعد الصلاة، والجرف قريب من المدينة.
والشرط الخامس: النية المكنونة.
وقوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً عنى: اقصدوا ترابا طيبا، واختلف العلماء في الممسوح به في التيمم على أربعة مذاهب:
قال أبو حنيفة: يجوز التيمم بالأرض ومما كان من جنسها، وإن لم يعلق بيده منها شيء، فأجاز بالكحل والزرنيخ والنورة من الجصّ والحجر المسحوق، بل وحتّى الغبار، وحتى فيما لو ضرب يده على صخرة ملساء فمسح أجزاه، فأمّا إن تيمّم بسحالة الذهب والفضة والصفر والرصاص والنحاس لم يجزه، لأنّه ليس من جنس الأرض.
قال مالك: يجوز بالأرض وبكلّ ما اتّصل فيها، فأجاز التيمم بأجناس الأرض والشجر، فقال: لو ضرب يده على غيره ثم مسح بها أجزأه.
وقال الأوزاعي والثوري: يجوز بالأرض وبكلّ ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها حتى قالا: لو ضرب يديه على الجمد والثلج أجزاه، واحتجوا بما
روى عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة، حتى دخلنا على أبي جهيم الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو جهيم: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نحو بئر الجمل فلقيه رجل فسلّم عليه فلم يرد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردّ عليه.
وذهب الشافعي إلى أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار تعلّق باليد وهو الاختيار لهذا لأن الله عزّ وجلّ قال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فالصعيد اسم التراب، والطيب اسم لما ينبت، فأمّا ما لا ينبت من الأرض فليس بطيّب، والدليل عليه قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ،
ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا»
[334] ، فخصّ التراب ذلك، والله أعلم.
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً وقد مضى الكلام في الممسوح به، فأما قدر الممسوح وكيفية التيمم، فاختلف الناس فيه على خمسة مذاهب:
فقال الزهري: تمسح على الوجه واليدين إلى الآباط والمناكب، واحتجّ بما
روى عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس عن عمار بن ياسر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان في سفر ومعه عائشة فضلّ عقدها، فاحتبسوا في طلبه يوما، قال: فنزلت آية التيمم، فضربوا بأيديهم إلى الأرض، ثم رفعوا(3/320)
أيديهم، ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ثم بطون أيديهم إلى الآباط.
وقال ابن سيرين: ثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربة لليدين، وضربة للمرفقين، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله، ومن التابعين الحسن البصري والشعبي، ومن الفقهاء أبو حنيفة وحنبل ومالك والليث، رضي الله عنهم، واحتجوا بما
روى الأعرج عن أبي الصّمة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تيمّم فمسح وجهه وذراعيه.
وروى أبو أمامة وابن عمر أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «التيمّم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» «1» [335] .
وروى ربيع بن سبرة عن أبيه عن جده عن أسلع قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ارجل بنا يا أسلع» . فقلت: أنا جنب. فسكت، إلى مكة فنزلت آية التيمّم، فقال: «يكفيك هذا» [336] .
فضرب بكفّيه الأرض ثم نفضهما ثم مسح ذراعيه ظاهر هما وباطنهما.
وقال عليّ- كرم الله وجهه-: «هو ضربتان: ضربة للوجه وضربة للكفين» «2» [337] .
وذهبت طائفة إلى أنه ضربة واحدة للوجه والكفين، وهو قول سعيد بن المسيّب، والأوزاعي وأحمد وإسحاق، واحتجوا بقول الله تعالى: وَأَيْدِيكُمْ «3» ، قالوا واليد على الإطلاق يتناول الكفّ إلى الكوع، بدليل أنّ السارق تقطع يده إلى الكوع، وقد قال الله تعالى:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «4» ، فاحتجوا بما
روى سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمار بن ياسر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في التيمم: «ضربة للوجه والكفين، والتيمّم من الجنابة كالتيمّم من الحدث» [338] .
فإذا عدم الجنب الماء تيمّم كما يتيمّم المحدث بلا خلاف فيه إلّا ما روي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود أنهما قالا: لا يحقّ للجنب التيمّم، ولكنه يصبر إلى أن يجد الماء فيغتسل، وقال مفسّرا قوله عزّ وجلّ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أراد اللمس باليد دون الجماع.
وروى الأعمش عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أزي أنّ رجلا سأل عمر عن جنب لا يجد الماء، فقال: لا يصلّي حتى يجد الماء، فقال عمار بن ياسر: أما تذكر حين بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا وأنت وأجنبت فتمعكت في التراب، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له، فقال: «قد كان يكفيك أن تفعل كذا وكذا» «5» [339] . وضرب بيده على الأرض فمسح
__________
(1) المستدرك: 1/ 179.
(2) السنن الكبرى: 1/ 212.
(3) سورة النساء: 43.
(4) سورة المائدة: 38.
(5) قريب منه في السنن الكبرى 1: 6.(3/321)
وجهه وبدنه «1» ؟ فقال: اتّق الله يا عمار، فقال: إن شئت لم أذكره أبدا.
وروى عمار بن ياسر عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن أزي، قال: كنت عند عمر رضي الله عنه، فسأله إعرابي فقال: إنّا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء، فقال: أمّا أنا فلو كنت لم أصلّ، فقال عمار بن ياسر: أما تذكر يا أمير المؤمنين أني كنت أنا وأنت في الإبل؟
فقال: بلى. قال: فأنت أجنبت فتمعكت في التراب فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له فضحك، وقال: «كان يجزيك هكذا» » . وبسط عمّار كفيه، ووضعهما على الأرض ثم نفض إحداهما بالأخرى فمسح بهما وجهه، ووصل الكفين بشيء من الذراعين يسير، فقال عمر: اتّق الله يا عمار. فقال: يا أمير المؤمنين لو شئت لم اتفوّه به أبدا، قال: لا بل نولّيك [ما تولّيت] «3» .
وروى الأعمش عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، الرجل جنب فلا يجد الماء أيصلّي؟ فقال: لا. فقال: أما تذكر قول عمار لعمر: بعثنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أنا وأنت فأجنبت فتمعّكت في التراب، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له، فقال: «كان يكفيه هكذا» [340] .
وضرب بيديه الأرض فمسح وجهه ويديه؟ فقال: لم أر عمر قنع بذلك، قال: فما يصنع بهذه الآية فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً؟ فقال: أما إنّا لو رخّصنا لهم في هذا لكان أحدهم إذا وجد برد الماء تيمّم بالصعيد «4» ، قال الأعمش: فقلت لشقيق فلم يكن هذا إلّا حبا له
، قال: يدلّ علي أن صلاة الجنب بالتيمّم جايز، ما
روى ابن عوف عن أبي رجاء، قال:
سمعت عمران بن حصين يقول: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلا معتزلا لم يصلّ في القوم، فقال:
«يا فلان، ما منعك أن تصلّي مع القوم؟» . فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، قال:
«عليك بالصعيد فإنّه يكفيك» «5» [341] .
وروى مسلم عن أبي رجاء عن عمران بن حصين قال: صلّيت خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان رجل جنب، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتيمّم ويصلّي، فلمّا وجد الماء أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يغتسل ولم يأمره أن يعيد.
عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين» «6» [342] .
__________
(1) صحيح مسلم: 1/ 193.
(2) المصنف لعبد الرزاق: 1/ 238.
(3) كنز العمال: 9/ 588 ح 27546.
(4) مسند أحمد: 4/ 265.
(5) مسند أحمد: 4/ 434.
(6) مسند أحمد: 5/ 155.(3/322)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني يهود المدينة،
وقال ابن عباس: نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب ومالك بن دخشم، كانا إذا تكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لويا لسانيهما وعاباه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ مختصر تقديره: ويشترون الضّلالة بالهدى وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا يا معشر المؤمنين، وقرأ الحسن تُضِلّوا، السَّبِيلَ أي عن السبيل.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ منكم، فلا تستنصحوهم فإنهم أعداؤكم، ويجوز أن يكون أَعْلَمُ بمعنى عليم [كقوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ «1» عَلَيْهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً. مِنَ الَّذِينَ هادُوا، فإنّ شئت جعلتها متصلة بقوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ... مِنَ الَّذِينَ هادُوا، وإن شئت جعلتها منقطعة عنها مستأنفة، ويكون المعنى: من الذين هادوا من يحرّفون، كقوله: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «2» اي من له مقام معلوم، وقال ذو الرمّة:
فظلوا ومنهم دمعه سابق له ... وآخر يذري دمعة العين بالمهل «3»
يريد: ومنهم من دمعه.
يُحَرِّفُونَ يغيّرون، الْكَلِمَ
وقال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : «الكلام عن مواضعه، يعني صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وآية الرجم»
، وقال ابن عباس: كان اليهود يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويسألونه عن الأمر فيخبرهم، ويرى أنّهم يأخذون بقوله، فإذا انصرفوا من عنده حرّفوا كلامه.
وَيَقُولُونَ سَمِعْنا قولك وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أي غير مقبول منك، وقيل: هو مثل قولهم: اسمع لا سمعت.
وَراعِنا: وارعنا، وقد مضت القصة في سورة البقرة، لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً قدحا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا مكان راعنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ أصوب وأعدل، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ خاصة باليهود، آمِنُوا بِما نَزَّلْنا يعني القرآن، مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ
قال ابن عباس: كلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رؤساء من أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد، فقال لهم: «يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا، فو الله إنّكم تعلمون أنّ الذي جئتكم به لحقّ» «4» [343] ، فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد وأنكروا وأصرّوا على الكفر، فأنزل الله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ.
__________
(1) بياض في مصوّرة المخطوط، وما أثبتناه من تفسير القرطبي: 5/ 242. [.....]
(2) سورة الصافات: 164.
(3) تفسير الطبري: 5/ 164.
(4) صحيح البخاري: 4/ 260 بتفاوت.(3/323)
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها
قراءة العامة بكسر الميم، وقرأ أبو رجاء بضمّها، وهما لغتان، قال ابن عباس: يجعلها كخفّ البعير أو كحافر الدابة. قتادة والضحاك:
نعميها، ذكر الوجه والمراد به العين فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي نحوّل وجوهها إلى ظهورها، ونجعل أبصارها من جهة أقفائها، وهذه رواية عطية عن ابن عباس. الفرّاء: الوجوه منابت للشعر كوجوه القردة، لأنّ منابت شعور الآدميين في أدبار وجوههم. القتيبي: نمحو آثارها وملامحها من عين وحاجب وأنف وفم، فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي كالأقفاء.
فإن قيل: كيف جاز أن يهدّدهم بطمس وجوههم إن لم يؤمنوا، ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك؟
فالجواب أن نقول: جعل بعضهم هذا الوعيد باقيا منتظرا، فقال: لا بد من طمس وجوه اليهود أي بالمسخ قبل الساعة، وهذا قول المبرّد، وقال بعضهم: كان هذا وعيدا بشرط، فلمّا أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه رفع الباقين،
وقيل: لمّا أنزلت هذه الآية، أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي.
وقال النخعي: قرأ عمر هذه الآية على كعب الأحبار، فقال كعب: يا ربّ أسلمت، يا ربّ أسلمت مخافة أن يشمله وعيد هذه الآية.
وقال سعيد بن جبير: الطمس أن يرتدّوا كفارا فلا يهتدوا أبدا. الحسن ومجاهد: من قبل أن نعمي قوما عن الصراط وعن بصائر الهدى، فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها حتى يعودوا إلى حيث جاءوا منه بدءا، وهو الشام. وأصل الطمس: المحو والإفساد والتحويل، ومنه يقال: رسم طاسم، وطامس أي دارس، والريح تطمس الأثر أي تمحوه وتعفوه.
أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ فنجعلهم قردة وخنازير وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية،
قال الكلبي: نزلت في المشركين: وحشي بن حرب وأصحابه، وقال: إنّه لما قتل حمزة، وكان قد جعل له على قتله أن يعتق، ولم يوف له بذلك فلمّا قدم مكة ندم على صنيعه هو أصحابه، فكتبوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّا قد ندمنا على الذي صنعنا وإنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلّا أنّا سمعناك تقول وأنت بمكة: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ «1» ، وقد دعونا مع الله إلها آخر، وقتلنا النفس التي حرّم الله، وزنينا، ولولا هذه الآية لا تبعناك، فنزلت إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ الآيتين- فبعث بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى وحشي وأصحابه، فلمّا قرءوها كتبوا إليه: هذا شرط شديد نخاف ألّا نعمل عملا صالحا فلا نكون من [أهل] هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فبعث بها إليهم فقرؤوها، فبعثوا إليه: إنا نخاف ألّا
__________
(1) سورة الفرقان: 68.(3/324)
نكون من أهل مشيئته، فنزلت: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... «1» ، فبعث بها إليهم فلما قرءوها دخل هو أصحابه في الإسلام، ورجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقبل منهم، ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لوحشي: «أخبرني كيف قتلت حمزة؟» ، فلما أخبره قال: «ويحك غيّب وجهك عنّي» «2» [344] ، فلحق وحشي بالشام فكان بها إلى أن مات.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في اليهود إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فمشيئته لأهل التوحيد. أبو مجلز، عن ابن عمر: نزلت في المؤمنين، وذلك
أنّه لمّا نزلت يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ- الآية- قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل، فقال: والشرك بالله؟ فسكت ثم قام إليه مرّتين أو ثلاثا، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية
، فأثبتت هذه في الزمر وهذه في النساء.
المسيب بن شريك، عن مطرف بن الشخير قال: قال ابن عمر: كنّا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا أنّه من أهل النار، حتى نزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، فأمسكنا عن الشهادات.
عن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: « [لا تزال] المغفرة تحل بالعبد ما لم يرفع «3» الحجاب» . قيل: يا رسول الله، وما [وقوع] «4» الحجاب؟ قال: «الإشراك بالله» [345] ثم قرأ:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «5» الآية.
مسروق عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنّة ولم يضرّه معه خطيئة، كما لو لقيه وهو يشرك به شيئا دخل النار ولم تنفعه حسنة» «6»
[346] .
وعن عليّ (رضي الله عنه) عنه قال: «ما في القرآن أرجى إليّ من هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «7» [347] .
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ الآية،
قال الكلبي: نزلت في رجال من اليهود، أتوا بأطفالهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم عدي بن عمرو والنعمان ابن أوفى وصهيب بن زيد، فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: «لا» ، فقالوا:
__________
(1) سورة الزمر: 23.
(2) المعجم الأوسط: 2/ 222، والبداية والنهاية: 4/ 21.
(3) في المخطوط: يقع وما أثبتناه من المصدر.
(4) غير موجودة في المصدر.
(5) الحديث في حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا: 65 ح 56.
(6) كنز العمال: 1/ 81 ح 328.
(7) سنن الترمذي: 4/ 314 وفيه أحب بدل أرجى.(3/325)
والله ما نحن إلّا كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفّر عنّا بالليل، وما عملناه بالليل كفّر عنا بالنهار، فكفّرهم الله تعالى، وأنزلت هذه الآية.
الحسن والضحاك وقتادة وسفيان والسّديّ: نزلت في اليهود والنصارى ممن قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «1» وقالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «2» .
مجاهد وعكرمة: هو أنّهم كانوا يقدّمون أطفالهم في الصّلاة يزعمون أنهم لا ذنب لهم، فتلك التزكية. عطية عن ابن عباس: هو أنّ اليهود قالوا: إنّ آباءنا وأبناءنا توفوا، فهم سيشفعون لنا ويزكوننا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال عبد الله: هو تزكية بعضهم لبعض، وعن طارق ابن شهاب قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن الرجل ليغدو من بيته ومعه دينه، فيلقى الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرّا ولا نفعا، فيقول: والله إنّك لذيت لذيت، فلعله لا يخلو منه شيء، فيرجع إلى بيته وما معه من دينه شيء، ثم قرأ عبد الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ.
بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي أي يطهّر من الذنوب مَنْ يَشاءُ [ ... ] «3» لذلك وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا وهو ما يكون في شق النواة، وقيل: هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ فيكون فعيلا بمعنى مفعول قال الشاعر:
يجمع الجيش ذا الألوف فيغزو ... ثم لا يرزأ العدوّ فتيلا «4»
انْظُرْ يا محمد كَيْفَ يَفْتَرُونَ يحيكون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في تفسيرهم كتابه وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ قرأ السلميّ: (ألم تره) في كلّ القرآن، وهي لغة قوم لا يكتفون من الجزم بحذف الحرف حتى يسكنوا حركته، كقول الشاعر:
من يهده الله يهتد لا مضل له ... ومن أضل فما يهديه من هادي
يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ اختلفوا فيهما، فقال عكرمة: هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله. أبو عبيدة: هما كلّ معبود من حجر أو مدر أو صورة أو شيطان، يدل عليه قوله: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ «5» ، وقوله: الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها «6» .
عطية عن ابن عباس: الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام الذين يكونون بين
__________
(1) سورة المائدة: 18.
(2) سورة البقرة: 111.
(3) بياض في مصوّرة المخطوط. [.....]
(4) الدر المنثور: 2/ 171 وفيه: الأعادي بدل العدو، تفسير مجمع البيان: 3/ 103.
(5) سورة النحل: 36.
(6) سورة الزمر: 17.(3/326)
أيديهم يفترون عنها الكذب ليضلوا النّاس، وقيل: الجبت: الأوثان، والطاغوت: شياطين الأصنام، لكل صنم شيطان يفسّر عنها فيغترّ بها النّاس. أبو عمرو الشّعبي ومجاهد: الجبت:
السحر، والطاغوت: الشيطان. زيد بن أرقم: الجبت: الساحر، ويقال له: الجبس، قلبت سينه تاء، والطاغوت: الشيطان، يدلّ عليه قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ «1» .
قال محمد بن سيرين ومكحول: الجبت: الكاهن، والطّاغوت: الساحر، وهو رواية الوالبي عن ابن عباس. سعيد بن جبير وأبو العالية، الجبت: شاعر بلسان الحبشة، والطّاغوت:
الكاهن. عكرمة: كان أبو هريرة كاهنا في الجاهلية ممن أقرّ إليه ناس ممّن أسلم، فنزلت هذه الآية. الضحاك والكلبي ومقاتل: الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف ودليله قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ «2» .
حكى أبو القاسم الحسين، عن بعضهم أنّ الجبت إبليس، والطاغوت أولياؤه،
عن قطر بن قيصيه، عن مخارق عن أبيه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطرق والطيرة والعيافة من الجبت «3» ، والجبت كلّ ما حرّم الله، والطّاغوت هو ما يطغي الإنسان» «4» [348] .
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا قال المفسّرون: خرج كعب ابن الأشرف في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة: إنّكم أهل كتاب، ومحمد صاحب كتاب ونحن أمية، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، وإن أردت أن نخرج معك، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما، ففعل ذلك، فذلك قوله: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ثم قال كعب لأهل مكة:
ليجيء منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فلنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنّ على قتال محمد ففعلوا ذلك، فلمّا فرغوا قال أبو سفيان: إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أمّيون لا نعلم فأيّنا أهدى طريقا وأقرب الى الحق؟ أنحن أم محمد؟
فقال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحاج الكرماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفكّ العاني ونصل الرحم ونعمّر بيت ربّنا ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث. فقال
__________
(1) سورة البقرة: 257.
(2) سورة النساء: 60.
(3) مسند أحمد: 3/ 477، والمصنف لعبد الرزاق: 10/ 403، والسنن الكبرى: 6/ 324، وتفسير القرطبي: 5/ 249. والعيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها، والطرق: الخط بخط في الأرض، وقيل:
هو الخط في الرمل، وقيل: الضرب بالحصى.
(4) تفسير القرطبي: 5/ 249.(3/327)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
كعب: أنتم والله أهدى سبيلا ممّا عليه محمد، فأنزل الله الآية إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ «1» : يعني كعبا وأصحابه، يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ يعني الصنمين يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أبي سفيان وأصحابه: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا محمد وأصحابه سَبِيلًا أي دينا.
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ يعني ألهم، والميم صلة نَصِيبٌ حظ مِنَ الْمُلْكِ وهذا على وجه الإنكار، يعني ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم من الملك فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ محمدا وأصحابه نَقِيراً من حسدهم وبخلهم وبغضهم. رفع قوله (يُؤْتُونَ) [.....] «2» .
وفي قراءة عبد الله: فإذا لا يؤتوا الناس بالنصب [.....] «3» .
واختلفوا في النقير، فقال ابن عباس: هو النقطة في ظهر النواة، ومنها: [.....] «4»
مجاهد: حبّة النواة التي وسطها «5» .
الضحّاك: يعني النواة الأبيض الذي يكون وسطها. أبو العالية: هو نقر الرجل الشيء بطرف إصبعه، كما ينقر الدرهم وقال: سألت ابن عباس عنه فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعها وقال: هذا هو النقير «6» .
[سورة النساء (4) : الآيات 54 الى 63]
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 104.
(2) كلمات غير مقروءة في المخطوط.
(3) كلمات غير مقروءة في المخطوط.
(4) كلمات غير مقروءة في المخطوط.
(5) راجع زاد المسير: 2/ 140، ولسان العرب: 5/ 228.
(6) راجع تفسير القرطبي: 5/ 250.(3/328)
أَمْ يَحْسُدُونَ يعني اليهود النَّاسَ: قال قتادة: يعني العرب حسدوهم على النبوّة وبما أكرمهم الله تعالى به محمد صلّى الله عليه وسلّم.
عن محمد بن كعب القرظي قال: سمعت عليا (عليه السلام) على المنبر في قوله أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال: هو رسول الله وأبو بكر وعمر (عليهم السلام) .
وقال آخرون: المراد بالناس هنا يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حسدوه على ما أحل الله له من النساء وذلك ما
روى علي بن علي عن أبي حمزة الثمالي في قوله أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني بالناس في هذه الآية نبيّ الله، قالت اليهود: انظروا إلى هذا النبي، والله ما يشبع من طعام، لا والله ماله همّ إلّا النساء، لو كان نبي لشغله أمر النبوة عن النساء، فحسدوه على كثرة نسائه وعيّروه بذلك فقالوا: لو كان نبيّا ما رغب في كثرة النساء، فأكذبهم الله تعالى فقال: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، يعني بالحكمة النبوّة.
وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فأخبرهم بما كان لداود وسليمان من النساء، فوبّخهم لذلك، فأقرت اليهود لنبي الله (عليه السلام) أنّه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، ثلاثمائة مهرية وسبعمائة سرية، وعند داود مائة امرأة. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألف امرأة عند رجل، ومائة امرأة عند رجل أكثر أو تسع نسوة؟ وكان يومئذ تسع نسوة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسكتوا «1» .
قال الله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، يعني عبد الله بن سلام وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أعرض عنه فلم يؤمن به وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً وقودا.
قال السدي: [الآيتان] راجعتان الى إبراهيم (عليه السلام) وذلك أنه زرع ذات سنة وزرع الناس، فهلكت زروع الناس وزكا زرع إبراهيم، واحتاج الناس إليه، وكانوا يأتون إبراهيم (عليه السلام) يسألونه، فقال لهم: من آمن بالله أعطيته، ومن أبى منعته، فمن آمن به أتاه الزرع ومن أبى لم يعطه «2» .
عن عمرو بن ميمون الأودي قال: لمّا تعجل موسى (عليه السلام) إلى ربّه عزّ وجل، مرّ
__________
(1) تفسير أبي حمزة الثمالي: 144، والدر المنثور: 2/ 173. [.....]
(2) المصدر السابق.(3/329)
برجل غبطه لقربه من العرش، فسأل عنه، فقال: يا ربّ من هذا؟ فقيل له: لن يخبرك اسمه، وسيخبرك بعمله، كان لا يمشي بالنميمة، ولا يحسد الناس عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وكان لا يعقّ والديه.
أبو زياد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» «1» [349] .
وعن يوسف بن الحسين الرازي قال: سمعت ذا النون يقول: الحسود لا يسود.
الأصمعي قال: قال سفيان لمغني: إنّ الله يقول: «الحاسد عدوّ نعمتي غير راض بقسمتي بين عبادي» .
قال الثعلبي: وأنشدت لمنصور الفقيه في معناه:
ألا قل لمن كان لي حاسدا ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله ... إذا أنت لم ترض لي ما ذهب
جزاؤك منه الزيادات لي ... وأن لا تنال الذي تطلب «2»
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً ندخلهم نارا، وقرأ حميد بن قيس: نصليهم بفتح النون: أي نسوّيهم، وقيل: معناه نصليهم. فنصب نارا على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار.
كُلَّما نَضِجَتْ (جُلُودُهُمْ) بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها غير الجلود المحترقة. قال ابن عبّاس: يبدّلون جلودا بيضا كأصناف القراطيس. نافع عن ابن عمر قال: قرأ رجل عند عمر كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها قال عمر: أعدها، فأعادها، قال معاذ بن جبل: عندي تفسيرها:
بدّلت في ساعة مائة مرّة؟، قال عمر: هكذا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول.
هشام عن الحسن في قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها قال:
تأكلهم كل يوم سبعين ألف مرّة كلّما أكلتهم فأنضجتهم قيل لهم: عودوا فيعودون كما كانوا.
المسيّب عن الأعمش عن مجاهد قال: ما بين جلده ولحمه ودمه دود فأجلدت كجلدة حمر الوحش.
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا وضرسه مثل أحد» «3» [350] .
__________
(1) سنن ابن ماجة: 2/ 1408 ح 4210.
(2) روضة الواعظين للفتال النيشابوري: 424.
(3) كنز العمال: 14/ 529، والدر المنثور: 2/ 174.(3/330)
فإن قيل: كيف جاز أن يعذّب جلد لم يعصه قلنا: إنّ المعاصي والألم واقع على نفس.
الإنسان لا الجلد، لأن الجلود إنما تألم بالأرواح، والدليل على من يقصد تعذيب الأبدان لا يعذّب [الجلود] قوله: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ «1» ، لم يقل ليذوق العذاب.
وقيل: معناه: يبدّل جلودا هي تلك الجلود المحترقة، وذلك أنّ غير على ضربين: غير تضاد، وغير تناف، وغير تبديل، فغير تضاد مثل قولك: للصّائغ صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره فيكسره ويصوغ لك خاتما، فالخاتم المصوغ هو الأول ولكن الصياغة تغيّرت والفضّة واحد.
وهذا كعهدك بأخ لك صحيحا ثم تراه بعد ذلك سقيما مدنفا فتقول: فكيف أنت؟ فيقول:
أنا على غير ما عهدت، فهو هو، ولكن حاله تغيّرت، ونظير هذا قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ «2» وهي تلك الأرض بعينها إلّا أنها قد بدّلت جبالها وآكامها وأنهارها وأشجارها، وأنشد:
فما النّاس بالنّاس الذين عهدتهم ... ولا الدّار بالدّار التي كنت أعرف
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا نصير محمد بن محمد بن مزاحم يقول: سمعت مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي يقول: سمعت جابر بن زيد يقول:
سمعت وكيع بن الجراح يقول: سمعت إسرائيل يقول: سمعت الشعبي يقول: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألا ترى ما صنعت عائشة ذمّت دهرها وذلك [أنها] أنشدت بيتي لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتلذّذون مجانة ومذلّة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب «3»
فقالت: رحم الله لبيد وكيف لو أدرك زماننا هذا.
فقال له ابن عباس: لئن ذمّت [عائشة] دهرها لقد ذمت عاد دهرها، وذلك إنه وجد في خزانة عاد بعد ما هلكت سهم كأطول ما يكون من رماحا عليه مكتوب:
وليس لي أحناطي «4» بذي اللوى ... لوى الرمل من قبل النفوس «5» معاد
بلاد بها كنا ونحن من أهلها ... إذ الناس ناس «6» والبلاد بلاد «7»
__________
(1) سورة النساء: 56.
(2) سورة إبراهيم: 48.
(3) تفسير الطبري: 9/ 140، وتفسير القرطبي: 5/ 255، ولسان العرب: 9/ 84.
(4) كذا في المخطوط وفي المعجم: ألا هل إلى أبيات شمخ بذي اللوى.
(5) في المعجم: الممات.
(6) في المعجم: إذ الأهل أهل.
(7) معجم البلدان للحموي: 3/ 362.(3/331)
البلاد باقية كما هي إلّا أن أحوالها وأحوال أهلها تنكرت وتغيرت «1» .
وقالت الحكماء: كما إن الجلد يلي قبل البعث فأنشئ كذلك تبدل [ورجع] .
وقال: [السدّيّ] : إنما تبدل الجلود جلودا غيرها من لحم الكافر، يعيد الجلد لحما ويخرج من اللحم جلدا آخر لم يبدّل بجلد لم يعمل خطيئة.
وقيل: أراد بالجلود سرابيلهم من قطران سمّيت بها للزومها جلودهم على [المجاورة] كما يقال للشيء [الخاص] بالإنسان هو جلدة ما بين [عضمه] ووجهه فكلما احترقت السرابيل عذّب.
قال الشاعر:
كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها ... فويل لتيم من سرابيلها الخضر «2»
فكنّى عن جلودهم بالسرابيل.
قال عبد العزيز بن يحيى: إن الله تعالى أبدل أهل النار جلودا لا تألم ويكون [رماده] عذاب عليهم فكلّما أحرق جلدهم أبدلهم الله تعالى جلدا غيره.
يكون هذا عذابا عليهم كما قال: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ «3» فتكون السرابيل تؤلمهم ولا يألم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إلى قوله ظِلًّا ظَلِيلًا.
كثيف لا يسخنه الشمس.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها.
نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة، فلما دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة يوم الفتح، أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المفتاح، فقيل: إنّه مع عثمان، فطلب منه علي (رضي الله عنه) فأجاب: لو علمت إنه رسول الله لم أمنعه المفتاح، فلوى عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) يده، فأخذ منه المفتاح وفتح الباب، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلّى فيه ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح وجمع له بين السقاية والسدانة فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا أن يردّ المفتاح إلى عثمان، فأوعز إليه ففعل ذلك علي (رضي الله عنه) .
فقال له عثمان: يا علي [كرهت] «4» وآذيت ثم جئت ترفق، فقال له: بما أنزل الله تعالى في شأنك؟ وقرأ عليه هذه الآية.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 255.
(2) لسان العرب: 11/ 738 وتفسير القرطبي: 5/ 254.
(3) سورة إبراهيم: 50. [.....]
(4) هكذا في الأصل.(3/332)
فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله، وأسلم، فجاء جبرائيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه مادام هذا البيت أول لبنة من لبناته قائمة فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان وهو اليوم في أيديهم.
وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا أي نعم الشيء أي يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.
اختلفوا فيهم، فقال عكرمة: أولي الأمر منكم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ويدلّ عليه ما
روى مالك بن أنس عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر «1» إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض أما في السماء جبرئيل وميكائيل، وفي الأرض أبو بكر وعمر» ! «2» [351] وهما عندي بمنزلة الرأس من الجسد! ومثلهما في الدنيا بالرأفة فمثل أبي بكر كمثل ابراهيم وعيسى، قال إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي «3» .
وقال عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «4» الآية.
ومثل عمر كمثل موسى ونوح قال موسى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ «5» .
وقال نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «6» .
وقال أبو بكر [الورّاق] : هم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (عليهم السلام) ، ويدلّ عليه ما
روى [هشيم] عن ابن بشير عن أبي [الزبير عن] جابر بن عبد الله قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخلافة بعدي في أمتي في أربع في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي» [352] .
وروي سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لما بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد، جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه فقال: هؤلاء ولاة الأمر من بعدي.
__________
(1) المستدرك: 3/ 75.
(2) الجامع الصغير: 1/ 373 ح 2438 وفيه: من أهل السماء، بدل: في السماء، ومن أهل الأرض، بدل:
في الأرض.
(3) سورة إبراهيم: 36.
(4) سورة المائدة: 118.
(5) سورة يونس: 88.
(6) سورة نوح: 26.(3/333)
عطاء: هم المهاجرون والأنصار والتابعون بالإحسان، دليل قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الآية.
بكر بن عبد الله المزني: هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدلّ عليه
قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» [353] «1» .
وعن الحسن: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل أصحابي في الناس مثل الملح في الطعام فلما ذهب فسد الطعام» [354] «2» .
جابر بن عبد الله والحسن والضحاك ومجاهد والمبارك بن فضالة وإسماعيل بن أبي خالد:
هم الفقهاء والعلماء أهل الدين والفضل الذين يعلّمون الناس معالم دينهم ويأمرونكم بالمعروف وينهونكم عن المنكر، وأوجب الله طاعتهم على العباد.
هذه رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو دليل هذا التأويل.
قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ الآية.
فقال أبو الأسود الدؤلي: ليس شيء أعزّ من العلم الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك.
ابن كيسان: أولو العقل والرأي الذين [يهتمّون] بأمور الناس.
قال ابن عباس: أساس الدين بني على العقل وفرضت الفرائض على العقل، وربّنا يعرف بالعقل ويتوسل إليه بالعقل، والعاقل أقرب إلى ربه من جميع المجتهدين بغير عقل، ولمثقال ذرّة من [بر] العاقل أفضل من جهاد الجاهل ألف عام «3» .
وعن إسماعيل بن عبد الملك قال: قال: [الثوري] أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء:
إذا رأيت عاقلا فكن له خادما.
ميمون بن مهران ومقاتل والسدي [والشعبي] : أمراء السرايا.
[سعيد بن جبير] عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد في سرية إلى حي من أحياء العرب وكان معه عمار بن ياسر فسار خالد حتى إذا دنا من القوم عرّس لكي ينصحهم فأتاهم [النذير] وهربوا غير رجل كان قد أسلم فأمر أصحابه تهيّأوا للمسير فثم انطلق حتى اتى عسكر خالد فدخل على عمار فقال: يا أبا اليقظان إني مسلم وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا وأقمت كلامي ونافعي ذلك أو أهرب كما هرب قومي.
__________
(1) كشف الخفاء: 1/ 132.
(2) الجامع الصغير: 2/ 533 ح 816 بتفاوت يسير، وكنز العمال: 11/ 531 ح 32476.
(3) راجع روضة الواعظين: 4.(3/334)
فقال: أقم فإنّ ذلك نافعك، فانصرف الرجل إلى أهله وأمرهم بالمقام، فأصبح خالد وقام على القوم فلم يجد غير ذلك الرجل فأخذه وأخذ ماله فأتاه عمار فقال: خلّ سبيل الرجل فإنه مسلم وقد كنت آمنته وأمرته بالمقام.
فقال خالد: إنك تجير عليّ وأنا الأمير، فقال: نعم. أجير عليك وأنا الأمير، وكان في ذلك منهما كلام، فانصرفوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه خبر الرجل فآمنه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأجاز أمان عمار ونهاه بعد ذلك على أمير بغير إذنه.
قال: فاستبّ عمار وخالد أمام النبي صلّى الله عليه وسلّم فأغلظ عمار لخالد وغضب خالد وقال: يا رسول الله اتدع هذا العبد يسبني فو الله لولا أنت ما سبّني عمار.
وكان عمار مولى لهاشم بن المغيرة.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا خالد كف عن عمار فإنه من يسبّ عمارا يسبّه الله ومن يبغض عمارا يبغضه الله» «1» [355] ، فقام عمار وتبعه خالد فأخذ بثوبه وسأله أن يرضى عنه فرضي عنه.
وأنزل الله هذه الآية وأمر بطاعة أولي الأمر.
وقال أبو هريرة وابن زيد: هم الأمراء والسلاطين لما أمروا بأداء الأمانة في الرعيّة، لقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [أمرت الرعية] بحسن الطاعة لهم.
وقال عليّ كرم الله وجهه: «حق على الإمام أن يحكم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك حق على الرعية أن يسمعوا له ويطيعوا ويجيبوا إذا دعوا» [356] .
قال الشافعي (رضي الله عنه) : إن من كان حول مكة من العرب لم يكن يعرف أمارة وكانت تأنف أن يعطي بعضها بعضا طاعة الأمارة، فلما دانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطاعة لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمروا أن يطيعوا أولي الأمر «2» .
وقال عكرمة: أمهات الأولاد أحرار بالقرآن.
قيل له: أي القرآن قال: اعتقهن عمر بن الخطاب. ألم تسمع قول الله تعالى وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وأن عمر من أولي الأمر! وأنه قال: أعتقها ولدها وإن كان سقطا.
عبد الرحمن بن الأعرج وهمام بن منبه وأبو صالح كلهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني» «3» [357] .
__________
(1) أسباب نزول الآيات: 106.
(2) الرسالة للشافعي: 80، رقم 261.
(3) رياض الصالحين: 338، ومسند الشاميين: 4/ 272، بزيادة نهاية الحديث في المصدر الثاني.(3/335)
وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء فإذا مات نبي قام نبي وانه ليس بعدي نبي» [358] .
فقال رجل: فما يكون بعدك؟ قال يكون خلفاء [ويكثر] .
قالوا: وكيف نصنع؟ قال: « [أدوا] بيعة الأول فالأول، وأدّوا إليهم مالهم فإن الله سائلهم عن الذي لكم» «1» [359] .
علقمة بن وائل عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجل يسأله: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعوننا حقّنا ويسألوننا حقّهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اسمعوا وأطيعوا فإنّ عليهم ما حمّلوا وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ» «2» [360] .
وعن أبي إمامة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: في حجة الوداع: «وهو على [الجدعاء] يعني ناقته فدعا في الركاب يتطاول» [361] .
قال: ليسمع الناس فقال: ألا تسمعون؟ - يطول بها صوته- فقال قائل من طوائف الناس:
ما تعهد إلينا يا رسول الله؟ فقال: «اعبدوا ربكم وصلّوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة أموالكم وأطيعوا أولي الأمر تدخلوا جنة ربكم» «3» [362] .
مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معاذ أطع كل أمير وصل خلف كل إمام ولا تسبّنّ أحدا من أصحابي» [363] .
هشام عن أبي صالح عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سيليكم بعدي ولاة فيليكم البر ببرّه والفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كلّ ما وافق الحقّ وصلّوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم» «4» [364] .
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ اختلفتم فِي شَيْءٍ من أمر دينكم اختلاف الآراء فيتعاطى كلّ واحد ما يرى خلاف رأي صاحبه وأصله من النزع كان المتنازعين يتحازبان ويتحالفان، ومنه قال:
مناوأة: منازعة.
قال الأعشى:
نازعتم قضب الريحان متكئا ... وقهوة مرّة راووقها خضل «5»
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ يعني إلى كتاب الله وَالرَّسُولِ ما دام حيّا، فإذا مات فإلى سنّته، وقوله:
__________
(1) صحيح ابن حبّان: 10/ 419. [.....]
(2) نظرات في الكتب الخالدة: 95.
(3) كنز العمال: 5/ 294، بتفاوت يسير.
(4) المعجم الأوسط: 6/ 237.
(5) تفسير القرطبي: 5/ 261، والراووق: المصفّاة.(3/336)
ذلِكَ خَيْرٌ أي ذلك الردّ خير لكم وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا جزاء وعاقبة، والتأويل ما يؤول للأمر.
أبو المليح الهذلي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعملوا بالقرآن، أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا به ولا تكفروا بشيء منه، وما اشتبه عليكم، فردّوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي كيما يخبروكم، وآمنوا به وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنّه شافع مشفّع وكامل مصدّق وله بكلّ حرف نور يوم القيامة» «1» [365] .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا الآية.
قال الحسن: انطلق رجل يحاكم آخر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: الآخر لا بل انطلق إلى وثن بيت فلان [فأنزل] الله هذه الآية.
قال الشعبي: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي:
أحاكمك إلى محمّد، وقال المنافق: لا، فجعل اليهودي يدعو إلى المسلمين لأنّه علم أنهم لا يقبلون الرشوة ولا يجورون في الحكم، وجعل المنافق يدعو إلى اليهود لأنّه علم أنّهم يقبلون الرشوة ويميلون في الحكم فاختلفا. ثم اتّفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في رجل من المنافقين يقال له بسر، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال: انطلق بنا إلى محمّد وقال المنافق بل إلى كعب بن الأشرف، وهو الذي سماه الله الطاغوت، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلّا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلمّا رأى المنافق ذلك أتى معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاختصما إليه، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق، وقال: انطلق بنا إلى عمر (رضي الله عنه) فأقبلا إلى عمر، فقال اليهودي: اختصمت أنا وهذا إلى محمّد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليكم وأنه تعلق بي فجئت معه فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم.
فقال لهما: رويد كما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف ثم خرج إليهما فضرب به المنافق حتى برد وقال. هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهرب اليهودي ونزلت هذه الآية.
وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق.
وقال السدي: كان ناس من اليهود أسلموا وأبى بعضهم وكانت قريضة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريضة رجلا من بني النضير قتل به وأخذ ديته مائة وسق تمر وإذا
__________
(1) تفسير الثعالبي: 1/ 177، والمستدرك: 1/ 568.(3/337)
قتل رجل من بني النضير رجلا من قريضة لم يقتل به وأعطى ديته ستّين وسقا من تمر وكانت النضير وهم حلفاء الأوس أكثر وأشرف من قريضة وهم حلفاء الخزرج.
فلما جاء الله بالإسلام وهاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة. قتل رجل من بني النضير رجلا من قريضة فاختصموا في ذلك.
فقالت بنو النضير: قد كنا وأنتم اصطلحنا في الجاهلية على أن نقتل منكم ولا تقتلون منا، وعلى أن ديتكم ستون وسقا والوسق ستون صاعا وديتنا مائة وسق فنحن نعطيكم ذلك.
وقالت الخزرج: هذا شيء كنتم قلتموه «1» في الجاهلية لأنكم كثرتم وقللنا، فقهرتمونا ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد وليس لكم علينا فضل، وقالت بنو النضير: لا بل نحن على ما كنا.
فقال المنافقون منهم: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي ومالك بن خزيمة، وقال المسلمون من الفريقين: لا بل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم بينهم.
فقال: أعظموا اللقمة- يعني الرشوة- فقالوا: لك عشرة أوسق قال: لا. بل مائة وسق ديتي فاني أخاف إن نصرت النضيري قتلتني قريظة أو أنصر قريظة قتلتني النضير، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى «2» وقوله وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «3» الآية فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم كاهن [اسلم] إلى الإسلام فأتى وانصرف فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لابنيه: «أدركا أباكما فإنّه إن جاوز عقبة كذا لم يسلم أبدا» [366] فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم مناديا ينادي ذلك الكاهن أسلم قد أسلم «4» ، فذلك قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ يعني الصنم
، وقيل:
الكاهن، وقيل: كعب بن الأشرف، وقيل: حيي بن أخطب.
وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ إلى قوله: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً إعراضا فكل الفعل بمصدره كقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً وقوله: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ يعني فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني عقوبة صدودهم، هذا وعيد وتهديد وتم الكلام. ثم ابتدأ الخبر عن فعلهم يعني يتحاكمون إلى الطاغوت وهم يكفرون بالله ومعنى قوله ثُمَّ جاؤُكَ أي يحيوك.
__________
(1) في المصدر: فعلتموه.
(2) سورة البقرة: 178.
(3) سورة المائدة: 45.
(4) أسباب النزول للواحدي: 109.(3/338)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
وقيل: أراد بالمصيبة قتل صاحبهم وذلك أنّ عمر (رضي الله عنه) لما قتل المنافق جاءوا قومه يطلبون الدية ويحلفون «إِنْ أَرَدْنا» ما أردنا بكون إن بمعنى إذ وبمعنى ما، أي ما أردنا بالترافع إلى عمر. إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً.
قال الكلبي: إِلَّا إِحْساناً في القول وَتَوْفِيقاً صوابا.
ابن كيسان: حقا وعدلا نظيرها وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ في الملأ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً وقيل: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ باللسان ولا تعاقبهم، وقيل: توعّدهم بالقتل إن لم يتوبوا من الشرك أعرض عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ يعني في الملأ. وَقُلْ لَهُمْ ... قَوْلًا بَلِيغاً في السر والملأ، وقيل: هذا منسوخ بآية القتال.
[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 73]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً.
روى الصادق عن علي (عليهما السلام) قال: قدم علينا امرؤ عند ما دفنّا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر النبي عليه الصلاة والسلام وحثا على رأسه من ترابه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ووعيت من الله فوعينا عنك وكان فيما أنزل الله عليك وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً
فقد ظلمت نفسي فجئتك لتسغفر لي فنودي من القبر أنه قد غفر لك «1» .
__________
(1) كنز العمال: 2/ 386، ح 4322، وتفسير القرطبي: 5/ 265.(3/339)
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ الآية.
نزلت في الزبير بن العوام وخصمه، واختلف في اسمه، فقال الصالحي: ثعلبة بن الحاطب، وقال الآخرون: حاطب بن أبي بلتعة وذلك
أنهما اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شراج من الخزة كانا يستقيان به النخل فقال صلّى الله عليه وسلّم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الرجل، فقال: يا رسول الله أكان ابن عمتك؟ فتغيّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسل يا زبير ثم احبس الماء حتى ترجع الجدد فاستوف حقك ثم أرسل إلى جارك.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشار إلى الزبير بالسقي له ولخصمه فلما احفظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استوعب الزبير حقه في صريح الحكم. ثم خرجا فمرّا على المقداد، فقال: لمن كان القضاء بالسقاية؟ فقال: قضى لابن عمته، ولوى شدقه.
ففطن به يهودي كان مع المقداد، فقال: قاتل الله فلولا يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه كانوا أقضى منهم، وأيم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة واحدة في حياة موسى (عليه السلام) فدعانا موسى إلى التوبة منه، وقال: فاقتلوا أنفسكم ففعلنا مع ذلك فقتلنا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا.
فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما والله إن الله ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت، فأنزل الله تعالى في شأن حاطب ابن أبي بلتعة، وليّه شدقه فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ الآية.
وقال مجاهد والشعبي: نزلت في قصة بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر (رضي الله عنه) وقد مضت القصة.
قوله فَلا يعني ليس الأمر كما يزعمون انهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ويصدون عنك ثم استأنف القسم فقال وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ويجوز أن يكون لأصله كقولهم وهم ممن يُحَكِّمُوكَ أي يجعلوك حكما فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي اختلف واختلط من أمورهم والتبس عليهم حكمه، ومنه الشجر لاختلاف أعضائه وقل يعطي الهودج شجار لتداخل بعضها في بعض.
قال الشاعر:
نفسي فداؤك والرماح شواهر ... والقوم في ضنك للقاء قيام «1»
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً أي ضيقا وشكا مِمَّا قَضَيْتَ ومنه قيل للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه حرج وحرجة وجمعها حراج.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي: 5/ 269.(3/340)
وقال الضحاك: أي إثما يأتون بإنكارهم لما قضيت «1» وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي يخضعوا وينقادوا إليك انقيادا وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا فرضنا وأوجبنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ما أمرنا بني إسرائيل. أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما أمرناهم بالخروج من مصر ما فَعَلُوهُ أرجع الهاء إلى فعل القتل والخروج لأن الفعل وإن اختلفت أجناسه فمعناه واحد إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهذه الآية نزلت في قول ثابت بن قيس وكان هو من القليل الذي استثنى الله عز وجل ورفع القليل على ضمير الفاعل بأنهم فعلوه وقلّ على التكرار تقديره: ما فعلوه، تم الكلام. ثم قال: إلّا أنه فعله قليل منهم. كقول عمر بن معدي كرب:
فكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان «2»
وقرأ أبي بن كعب وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق وابن عامر (قليلا) بالنصب، وكذا هو في مصاحف أهل الشام على [النصب] وقيل: فيه إضمار تقديره إلّا أن يكون قليلا منهم.
قال الحسن ومقاتل: لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار وابن مسعود وناس صحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم القليل: والله لو أمرنا لفعلنا، فالحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» «3» [367] .
قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً تحقيقا وتصديقا لإيمانهم.
وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ثوابا.
وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
نزلت هذه الآية في ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان شديد الحب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم، وقد تغير لونه [ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن] «4» وقلّ لحمه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا ثوبان ما غيّر لونك؟» «5» [368] ؟
فقال: يا رسول الله ما بي مرض، ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك، وتوجّست وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك، لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني وإن ادخلت الجنة، كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبدا.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي: 5/ 269.
(2) المغني: 4/ 300.
(3) كنز العمّال: 12/ 182، ح 34573. [.....]
(4) زيادة عن أسباب النزول للواحدي: 110.
(5) زاد المسير: 2/ 150 وتفسير القرطبي: 5/ 271.(3/341)
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين» «1» [369] .
وقال قتادة ومسروق بن الأجدع: أنّ أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم قالوا: ما ينبغي لنا أن نفارقك فإنا لا نراك إلّا في الدنيا فأما في الآخرة فإنك ترفع فوقنا بفضلك فلا نراك، فأنزل الله تعالى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في الفرائض وَالرَّسُولَ في السنن فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وهم أفاضل أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالشُّهَداءِ وهم الذين استشهدوا في سبيل الله وَالصَّالِحِينَ من صلحاء أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
قال عكرمة: النبيون: محمّد، والصديقون: أبو بكر الصديق، والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، والصالحون سائر أصحابه. وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً يعني دوما في الجنة كما يقول: نعم الرفقا هم.
والعرب تضع الولي في معنى الجمع كثيرا، كقوله: نحن منكم قبلا أي اطيادا، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الأدبار ويقولون يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ.
وقوله رَفِيقاً نصب على خبر ذلِكَ الْفَضْلُ [احسان] مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً يعني بالآخرة وثوابها.
وقيل: بمن أطاع رسول الله وأحبه، وفي هذه الآية دلالة على خلافة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم، وهم النبيون فجعل الروضة الأعلى للنبيين فلم يجز أن يتقدمهم فيها أحد وثنى بذكر الصديقين فلا يجوز ان يتقدمهم أحد غير النبيين ولأن يكون من النبي صديق سرهم، وقد أجمع المسلمون على تسمية أبي بكر صديقا كما أجمعوا على تسمية محمد رسول الله ولم يجز أن يكونوا غالطين في تسميتهم محمد الرسول كذلك لا يجوز أن يكونون غالطين في تسمية أبي بكر صديقا فإذا صح انه صديق وأنه ثاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يجز أن يتقدّمه بعده أحد والله أعلم، وفي قوله الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ دليل على أنّهم لم ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم بل نالوها بفضل الله خلافا، لما قالت المعتزلة ان العبد إنما ينال ذلك بفعله فلما احسن الله على عباده بما آتاهم من فضله فكان لا يجوز أن يثني على نفسه بما لم يفعله، فثبت ذلك على بطلان قولهم ثم علّمهم مباشرة الحروب، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ من عدوكم أي عدتكم وآلاتكم من
__________
(1) صحيح البخاري: 1/ 9، وسنن ابن ماجة: 1/ 26، والسنن الكبرى: 6/ 534، بتفاوت، ويوجد بتمامه في تفسير مجمع البيان: 3/ 126.(3/342)
السلاح وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ والحذر والحذر واحد، كالمثل والمثل، والعدل والعدل، والشبه والشبه، فَانْفِرُوا أي اخرجوا ثُباتٍ أي سرايا متفرقين كسرية بعد سرية وجماعة بعد جماعة، والثبات الجماعات في تفرقه واحدها ثبة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي مجتمعين كلّكم مع سلّم واستدل أهل القدر بهذه الآية.
بقوله خُذُوا حِذْرَكُمْ قالوا: لولا أن الحذر يمنع عنهم مكايد الأعداء ما كان لأمره بالحذر إياهم معنى.
فيقال لهم: الائتمار لأمر الله والانتهاء عن نهيه واجب عليهم لأنهم به يسلمون من معصية الله عز وجل لأن المعصية تزل، فائتمروا وانتهوا عمّا نهوا عنه.
وليس في هذه الآية دليل على أن حذرهم ينفع من القدر شيئا، وهذا
كقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «اعقلها وتوكّل» «1» [370] .
والمراد به طمأنينة النفس لا أن ذلك يدفع القدر، كذلك في أخذ الحذر فهو الدليل على ذلك، أن الله تعالى أثنى على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله حاكيا عنهم لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا وأمر بذلك رسوله صلّى الله عليه وسلّم كان يصيبهم غير ما قضى عليهم ما كان هذا مني.
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ. قال بعضهم: نزلت هذه الآية في المؤمنين لأن الله خاطبهم بقوله وَإِنَّ مِنْكُمْ وقد فرق الله بين المؤمنين والمنافقين بقوله ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ.
وقال: أكثر أهل التفسير: إنّها نزلت في المنافقين وإنما جمع منهم في الخطاب من جهة الجنس والسبب ومن جهة الإيمان من لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي ليثاقلن ويتخلفنّ عن الجهاد والغزو.
وقيل: معناه ليصدّقن غيره، وهو عبد الله بن أبيّ المنافق وإنما دخلت (اللام) في (من) لمكان (من) كما تقول: إنّ فيها لأخاك فاللام في ليبطئن لام القسم وهي صلة لمن على اعتماد شبه باليمين كما يقال هذا الذي ليقومن وأرى رجلا ليفعلن.
فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي قتل وهزيمة قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ عهد إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أي حاضرا في تلك الغزاة فيصيبني مثل ما أصابهم، يقول الله كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أي معرفة.
وقال معقل بن حيان: معناه كأن ليس من أهل دينكم وان نظم الآية وقوله كَأَنْ لَمْ تَكُنْ متصل بقوله فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أي فتح وغنيمة لَيَقُولَنَّ هذا المنافق قول نادم حاسد: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ في تلك الغزاة فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً أي آخذ نصيبا وافرا من الغنيمة.
__________
(1) سنن الترمذي: ح 2522 كتاب صفة القيامة باب: اعقلها وتوكّل.(3/343)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
وقوله (فَأَفُوزَ) نصب على نحو التمني بالفاء، وفي [التمني] «1» معنى يسرني أن افعل ما فعل كأنه متشوق لذلك النصيب، كما يقول: وددت ان أقوم فمنعني أناس ثم نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن أحد.
[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 78]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي انهم يختارون الحياة الدنيا على الآخرة ومعنى يَشْرُونَ يشترون، يقال شريت الشيء أي اشتريت، وحينئذ يكون حكم الآية:
آمنوا ثم قاتلوا، لأنه لا يجوز ان يكون الكافر مأمورا بشيء مقدم على الإيمان.
وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في المؤمنين المخلفين ومعناه (فليقاتل في سبيل الله الّذين يبتغون الحياة الدّنيا بالآخرة) .
ثم قال: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أو من يستشهد أو يعذب أو يظفر فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ في كلا الوجهين أَجْراً عَظِيماً يعني الجنة ثم خصّ المؤمنين على السعي في تخليص المستضعفين مثل وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ أي تجاهدون فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في طاعة الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ في موضع الخفض.
قال الكلبي: عن أبي صالح عن ابن عباس ومعناه عن المستضعفين وكانوا بمكة يلقون من المشركين أذى كثيرا وكانوا يدعون ويَقُولُونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعني مكة الظَّالِمِ أَهْلُها أي التي من صفتها إن أهلها ظالمون مشركون وإنّما خفض الظالم لأنه نعت الأهل فلما عاد الأهل إلى القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها كقوله: مررت بالرجل الواسعة داره، ومررت برجل حسنة عينه.
__________
(1) كذا الظاهر من المخطوط.(3/344)
وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً يمنعنا من المشركين فأجاب الله دعاءهم.
فلما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة جعل الله لهم النبي وليا فاستعمل عليها عتّاب بن أسيد.
فجعله الله لهم نصيرا وكان ينصف للضعيف من الشديد فنصرهم الله به وأعانهم وكانوا أعز بها من الظلمة قبل ذلك.
وفي هذه الآية دليل على إبطال قول من زعم أنّ العبد لا يستفيد بالدعاء معنى لأن الله تعالى حكى عنهم إنّهم دعوه وأجابهم وآتاهم ما سألوه ولولا أنّه أجابهم إلى دعائهم لما كان لذكر دعائهم معنى، والله اعلم.
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي طاعته وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ أي في طاعة الشيطان فَقاتِلُوا أيها المؤمنين أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أي حزبه وجنده إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ ومكره وصنيعه ومكر من اتّبعه كانَ ضَعِيفاً كما خذلهم يوم بدر. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ.
قال الكلبي: نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجهني وسعد بن أبي وقاص الزهري وكانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة فيشكون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون يا رسول الله ائذن لنا في قتال هؤلاء فإنّهم آذونا فيقول لهم: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [عنهم] «1» فإني لم أومر بقتالهم» «2» [371] .
فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين وأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمسير إلى بدر فلما عرفوا إنه القتال كرهه بعضهم وشق عليهم فأنزل الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ
بمكة عن القتال وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ بالمدينة أي فرض إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ يعني مشركي مكة كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ أي أكبر خَشْيَةً.
وقيل: وأَشَدَّ خَشْيَةً كقوله آية «3» وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لم فرضت علينا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني الموت ألا تركتنا إلى أن نموت بآجالنا.
واختلفوا في قوله تعالى إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ فقال قوم: نزلت في المنافقين لأن قوله لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ أي لم فرضت، لا يليق بالمؤمنين، وكذلك الخشية من غير الله.
__________
(1) زيادة في المصدر.
(2) أسباب نزول الآيات: 111.
(3) سورة الصافّات: 147.(3/345)
وقال بعضهم: بل نزلت في قوم من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم، وأهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان منهم الكامل الذي لا يخرجه إيمانه من غلبة الطبع عليه. ومنهم من ينقص عن تلك الحالة فينفّر نفسه عمّا يؤمر به فيما يلحقه فيه الشدة.
وقيل: نزلت في قوم كانوا مؤمنين فلما فرض عليهم الجهاد نافقوا عن الجهاد من الجبن، وتخلفوا عن الجهاد.
ويدلّ عليه إن الله لا يتعبد الكافر والمنافق بالشرائع بل يتعبدهم أولا بالإيمان ثم بالشرائع فلما نافقوا نبّه الله على أحوالهم.
وقد قال الله مخبرا عن المنافقين بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا.
قُلْ يا محمّد لهم مَتاعُ الدُّنْيا أي منفعتها والاستمتاع بها قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ يعني وثواب الآخرة خَيْرٌ أفضل لِمَنِ اتَّقى الشرك بالله ونبوة الرسول وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا.
قال ابن عباس وعلي بن الحكم: الفتيل الشق الذي في بطن النواة.
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ أي ينزل بكم الْمَوْتُ نزلت في قول المنافقين لما أصيب أهل أحد، لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا فردّ الله عليهم بقوله: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.
قتادة: في قصور محصنة، عكرمة: مجصّصة مشيّدة مزيّنة، القتيبي: مطولة.
الضحاك عن ابن عباس البروج: الحصون والآطام والقلاع.
وفي هذه الآية ردّ على أهل القدر، وذلك أنّ الله حكى عن الكفار أنهم قالوا: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا «1» وقال: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً ردّ على الفريقين بقوله: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ فعرّفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من زوال الروح، ومفارقتها الأجسام.
فإن كان ذلك بالقتل، وإلّا فبالموت. خلافا لما قالت المعتزلة من أن هذا المقتول لو لم يقتله هذا القاتل لعاش، فوافق قولهم هذا الكفار، فردّ الله عليهم جميعا إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ الآية.
نزلت في المنافقين واليهود، وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا، ومزارعنا، منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه، فأنزل الله تعالى وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يعني اليهود والمنافقين، أي خصب [وريف] «2» ورخص في السعر يَقُولُوا هذِهِ
__________
(1) سورة آل عمران: 156.
(2) كذا في المخطوط.(3/346)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعني الجدب وغلاء السعر وقحط المطر يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي من قوم محمد وأصحابه.
وقال بعضهم: معناه إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يعني الظفر والغنيمة، يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ف إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعني بالقتل والهزيمة، يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، نزلت الذي حملتنا عليه يا محمد قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي الحسنة والسيئة كلها من عند الله.
ثم عيّرهم بالجهل.
فقال: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ يعني المنافقين واليهود لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أي ليسوا يفقهون قولا إلّا التكذيب بالنعمة.
قال الفراء: قوله فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ كذبوا في الكلام، حتى توهّموا إن اللام متصلة بها، وإنهما حرف واحد، ففصلوا اللام في هؤلاء في بعض المصاحف، ووصلوها في بعضها والاتصال بالقراءة، ولا يجوز الوقوف على اللام لأنّها لام خافضة.
[سورة النساء (4) : الآيات 79 الى 84]
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي من خير ونعمة فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أي بلية وأمر تكرهه فَمِنْ نَفْسِكَ أي، من عندك وأنا الذي قدرتهما عليك، الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به غيره، نظيره.
قوله وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من خدش بعود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» «1» [372] .
__________
(1) كنز العمّال: 3/ 341، ح 6849، بتقديم وتأخير في العبارات، وبتمامه في تفسير مجمع البيان: 3/ 138.(3/347)
وروى الهروي عن سفيان بن سعيد عمن سمع الضحاك بن مزاحم يقول: ما حفظ الرجل القرآن ثم نسيه إلّا بذنب، ثم قرأ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال: فنسيان القرآن أعظم المصائب.
وقال بعضهم: هذه الآية متصلة بما قبله، وتقديره: فما لهؤلاء القوم لم يكونوا يفقهون حديثا حتى يقولوا: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ؟ وتعلق أهل القدر بهذه الآية وقالوا: نفى الله السيئة عن نفسه بقوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ونسبها إلى العبد، فيقال لهم: إن ما حكى الله تعالى لنبيه من قول المنافقين، إنهم قالوا إذا أصابتهم حسنة، هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ف إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، لم يرد به حسنات الكسب، ولا سيئاته، لأن الذي منك فعل غيرك بك لا فعلك، ولذلك نسب إلى غيرك.
كما قال إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ «1» ... وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ «2» وكل هذه سبب من الأسباب لا من الكسب ألا ترى إنه نسبها إلى غيرك، ولم يذكر بذلك ثوابا ولا عقابا، فلما ذكر حسنات العمل والكسب وسيئاتهما نسبهما إليك وذكر فيها الثواب والعقاب.
كقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها «3» وكان ما حكى الله عن المنافقين من قولهم في الحسنات والسيئات لم يكن حسنات الكسب ولا سيئاته، ثم عطف عليه قوله ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ إلى نفسك فلم يكن بقوله فَمِنْ نَفْسِكَ مثبتا لما قد نفاه، ولا نافيا لما قد أثبته، لأن ذلك لا يجوز على الحكيم جل جلاله، لكن من السبب الذي استحق هذه المصيبة، وكان ذلك من كسبه، ومنه قوله وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فجعل هذه المصيبة جزاء للفعل فإذا أوقع الجزاء لم يوقعه إلّا على ما نسبه إلى العباد، كقوله جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «4» وقوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ليس فيه دليل على إنه لا يريد السيئة ولا يفعلها ولكن ما كان جزاء، فنسبته إلى العبد على [طريق] الجزاء.
وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ يا محمد رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على إنك رسول صادق.
وقيل فيك وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن الحسنة والسيئة كلها من الله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وذلك
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «من أطاعني فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ومن أحبّني [أحبّه الله] «5» » «6» [373] ، فقال بعض المنافقين: ما يريد هذا الرجل إلّا أن نتّخذه ربا، كما في
__________
(1) سورة آل عمران: 120.
(2) الأعراف: 131.
(3) سورة الأنعام: 160. [.....]
(4) سورة التوبة: 82.
(5) في المصدر: فقد أحبّ الله.
(6) زاد المسير لابن الجوزي: 2/ 158.(3/348)
حديث النصارى لعيسى، فأنزل الله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فيما أمر به فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى عنه فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي حافظا ورقيبا.
وقال القتيبي: محاسبا، فنسخ الله تعالى هذه الآية الشريفة، وأمره بقتال من خالف الله ورسوله وَيَقُولُونَ طاعَةٌ يعني المنافقين وذلك إنهم كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إنّا آمنّا بك فمرنا من أمرك طاعة، وهم يكفرون به في السر، وقوله (طاعَةٌ) مرفوعة على معنى منّا طاعة وأمرك طاعة وكذلك قوله (لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ)
مرفوعة أي قولوا، سمعا وطاعة، وكذلك قوله فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ وليست مرتفعة إليهم بل مني مرتفعة على الوجه الذي ذكرت.
فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أي خرجوا بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي زوّر وموّه وقيل هنا.
فقال قتادة والكلبي: بَيَّتَ أي غيّر وبدّل الذي عهد إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ويكون السبب معنى التبديل.
قال الشاعر:
بيّت قولي عبد المليك ... قاتله الله عبدا كفورا «1»
وقال القتيبي وأبو عبيدة: (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي قالوا وقدروا ليلا غير الذي أعطوك نهارا، وكل شيء قدّر بليل من شر فهو تبييت.
قال عبيدة بن الهمام:
أتوني فلم أرض ما بيّتوا «2» ... وكانوا أتوني بشيء نكر
لأنكح أيّمهم منذرا ... وهل ينكح العبد حر بحر «3»
وقال النمر بن تولب:
هبت لتعذلني بليل أسمعي ... سفها تبيتك الملامة فاهجعي
وقال أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش: يقول العرب للشيء إذا قدر قد بيّت، يشبهونه تقدير بيوت [الشعر] .
وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أي ما يغيرون ويزورون ويقدرون.
الضحاك عن ابن عباس: يعني ما تسرّون من النفاق فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يا محمد فلا تعاقبهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي كفيلا، وثقة، وناصرا بالانتقام لك منهم، فنسخ الله
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 289، وتفسير الطبري: 5/ 368، وفيه: قاتلك الله عبدا كنودا.
(2) تفسير الطبري: 5/ 243.
(3) تفسير القرطبي: 5/ 289، ولسان العرب: 5/ 234.(3/349)
تعالى قوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ «1» بالسيف وَالْمُنافِقِينَ بالكلام الغليظ.
فإن قيل: ما وجه الحكمة في [أعدائه] ذكر مهلهم. ثم قال (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) فصرف الخطاب من [جلهم] إلى بعضهم.
يقال: إذ إنما عبر عن حال من علم الله وبقي على كفره ونفاقه، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فإنه صفح عن ذكرهم، وقد قيل: إنه غير عن حال من أحوالهم قد تستّر في أمره، فأما من سمع وسكت فإنه لم يذكرهم، وفي قوله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ دليل على إبطال قول من زعم أنّ السنّة تعرض على الكتاب لم يعمل بها وذلك إن كل ما نص الله عز وجل، عليه فإنّما صار فرضا بالكتاب، فإذا عدم النص من الكتاب، وورد به السنّة فوجب إتباعها، ومن خالفها فقد خالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن خالف رسول الله فقد خالف الله، لأن في طاعة الرسول طاعة الله، فمن زعم أنه لم يقبل خبره إلّا بعد أن يعرض على كتاب الله، فقد أبطل كلّ حكم ورد عنه ما لم ينصّ عليه الكتاب.
وأما قوله وَيَقُولُونَ طاعَةٌ ففيه دليل على أنّ من لم يعتقد الطاعة فليس بمطيع على الحقيقة، وذلك أن الله تعالى لمّا تحقّق طاعتهم فيما أظهروه، فقال: ويقولون ذلك لأنّه لو كان للطاعة حقيقة إلّا بالاعتقاد لحكم لهم بها [فثبت] أنه لا يكون المطيع مطيعا، إلّا باعتقاد الطاعة مع وجودها.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يعني أفلا يتفكّرون في القرآن، فيرون بعضه يشبه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، وإن أحدا من الخلائق لم يكن يقدر عليه فسيعلمون بذلك إنه من عند الله إذ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً أي تفاوتا وتناقضا كثيرا هذا قول ابن عباس.
وقال بعضهم: وَلَوْ كانَ هو مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ أي في الإخبار عما غاب عنهم.
ما كان وما يكون اخْتِلافاً كَثِيراً، يعني تفاوتا بينا. إذا الغيب لا يعلمه إلّا الله فيعلم بذلك أنه كلام الله وأنّ محمدا رسول الله صادق، وفي هذه الآية دليل على أنّ القرآن غير مخلوق إذ هو معرى عن الأخلاق من كل الجهات ولو كان مخلوقا لكان لا يخلو من اختلاف وتفاوت.
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ الآية، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث السرايا فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقون إلى الاستفسار عن حال السرايا فيفشون ويحدّثون به قبل أن يحدّث به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله وَإِذا جاءَهُمْ يعني المنافقين، أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ
__________
(1) سورة التوبة: 73.(3/350)
[كظفر المسلمين وقتل عدوّهم] «1» أَوِ الْخَوْفِ كالهزيمة والقتل. أَذاعُوا بِهِ أي أشاعوه وأفشوه وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ أي وإن لم يحدّثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يحدّث به ويفشيه، وأولي الأمر أهل الرأي من الصحابة، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ.
الكلبي عن أبي صالح وابن عباس، وعلي بن الحكم عن الضحاك: يَسْتَنْبِطُونَهُ أي يتّبعونه.
وقال عكرمة: يحرصون عليه ويسألون عنه، وقال ابن عبيدة والقتيبي: يخرجونه، ويقال:
استنبط استنبطه الماء إذا أخرجه.
[جويبر] عن الضحاك عن ابن عباس في قوله وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ إنّ المنافقين كانوا إذا أمروا بالقتال لم يطيعوا الله فيما أمرهم به، وإن نهاهم عن محارمه لم ينتهوا عنها، وإن أفضى الرسول إليهم سرا أذاعوا به إلى العدوّ ليلا بتكتّم، فأنزل الله تعالى ردّا عليهم وَلَوْ رَدُّوهُ يعني أمورهم في الحلال والحرام (إِلَى الرَّسُولِ) في التصديق به والقبول (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) يعني حملة الفقه والحكمة لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يعني الذين يفحصون عن العلم. ثم قال وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا أي معناه لاتّبعتم الشيطان كلّكم.
قال الضحاك: هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، يأمرهم بأمر من أمور الشيطان.
قال ابن عباس: فضل الله الإسلام ورحمته القرآن (لا تّبعتم الشيطان إلّا قليل) يعني بالقليل الذي امتحن الله قلوبهم يعني على هذا القول يكون قوله إِلَّا قَلِيلًا مستثنى من قوله لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ.
وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير معناه: لعلمه الذين يستنبطونه إلّا قليلا.
وقال بعضهم: معناه: إذا أذاعوا به قليلا لم يذع ولم يفش، وهكذا قال الكلبي: واختار الفرّاء أيضا هذا القول. وقال: لأنّ علم الله فاعتبر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة قد تكون في بعضهم دون بعض لذلك أستحسن الاستثناء من الإذاعة، وفي هذه الآية دليل ممن يحبون القول بالاجتهاد عند عدم النص.
قال الله تعالى وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فالعلم محيط بالاستنباط، ليس تلاوة.
__________
(1) زيادة عن تفسير القرطبي لتقويم النص: 5/ 291.(3/351)
وإذا كان إدراكه بالاستنباط، فقد دل بذلك على أن من العلم ما يدرك بالتلاوة والرواية وهو النص.
ومنه ما يدرك منه ومن المعنى، وحقيقة الاعتبار والاستنباط من القياس للحكم بالمعاني المودعة في النصوص غير الحكم بالنصوص فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وذلك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما التقى هو وأبو سفيان بن حرب يوم أحد وكان من هربهم ما كان، ورجع أبو سفيان إلى مكة فواعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد قال الناس: اخرجوا إلى العدو.
فكرهوا ذلك كراهة شديدة أو بعضهم، فأنزل الله تعالى فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي لا تدع جهاد العدو وإنصاف المستضعفين من المؤمنين ولو وحدك.
وقيل: معناه لا تلزم فعل غيرك ولا تؤخذ به ولم يرد بالتكليف الأمر لأنه يقتضي على هذا القول ألا يكون غيره مأمورا بالقتال.
والفاء في قوله (فَقاتِلْ) جواب عن قوله وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً فقاتل وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ على القتال أي حثّهم على الجهاد ورغّبهم فيه،
فتثاقلوا عنه ولم يخرجوا معه إلى القتال، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سبعين راكبا حتى أتى موسم بدر، فكفّ بهم الله تعالى بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان ولم يكن له أن يوافق، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.
وذلك قوله عَسَى اللَّهُ أي لعل الله أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قتال المشركين وصولتهم حين ولّيتم وهي من الله واجب، حيث كان، وقد جاء في كلام العرب بمعنى اليقين.
قال ابن مقبل:
ظنّي أنهم كعسى «1» ، وهم بنتوفة «2» ... يتنازعون جوائز الأمثال
وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً أي أشد صولة وأعظم سلطانا وأقدر على ما يريد وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أو عقوبة.
فإن قيل: إذا كان من قولكم: إن عسى من الله واجب فقد قال الله عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ونحن نراهم في بأس وشدة، فأين ذلك الوعد؟ فيقال لهم: قد قيل: إن المراد به الكفرة الذين كفّ بأسهم في بدر الصغرى، والحديبية بقوله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ الآية، فإن كان ظاهرها العموم فالمراد منها الخصوص.
__________
(1) هكذا في الأصل وفي تفسير القرطبي: 5/ 294 والمصدر.
(2) وهي القفز من الأرض، راجع لسان العرب: 5/ 327 والبيت فيه.(3/352)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
وقيل: أراد به المدة التي أمر الله فيها القتال لزوال الكفر بقوله وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فعند ذلك يكف بأس الذين كفروا، وهو الوقت. حتى ينزل فيه [المهدي] فيكون حكما قسطا ويظهر الإسلام عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
وقيل: إن ذلك في القوم قذف الله في قلوبهم الرعب وأخرجهم من ديارهم وأموالهم بغير قتال من المؤمنين لهم وهذا بأس قد كفّه الله عن المؤمنين.
وقد قيل: إنه أراد به اليهود والنصارى وهم يعطون الجزية وتركوا المحاربة، وقد كف بأسهم عن المؤمنين إذا صاروا يؤدّون الجزية صاغرين.
[سورة النساء (4) : الآيات 85 الى 91]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89)
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً أي يحسن القول في الناس ويسعى في إصلاح ذات البين يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ أي حظ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً فيسيء القول في الناس ويمشي بينهم بالنميمة والغيبة. يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها.
قال ابن عباس وقتادة: الكفل الوزر والإثم، وقال الفراء وأبو عبيدة: الحظ والنصيب، مأخوذ من قولهم: اكتفلت البعير إذا [أدرت] على سنامه أو موضع من ظهره كساء وركبت عليه.
وقيل له: اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كلّه وإنما شغل شيئا من الظهر.
وقال مجاهد: شَفاعَةً حَسَنَةً وشَفاعَةً سَيِّئَةً شفاعة الناس وهم البعض.
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً مقتدرا.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: مُقِيتاً أي مقتدرا مجازيا بالحسنة حسنة يقال: أقات أي اقتدر.(3/353)
قال الشاعر:
وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتا «1»
وأنشد النضر بن [شميل] :
ولا تجزع وكن ذا حفيظه ... فأني عليّ ما ثناه لمقيت «2»
المبرد: قتّ الشيء أقوته وأقيته أي كففته أمر قوته، ومجاهد: شاهدا، وقال قتادة:
حافظا، والمقيت للشيء الحافظ له.
وقال الشاعر، في غير هذا المعنى:
ليت شعري وأشعرن إذا ما ... قربوها منشورة ودعيت
إليّ الفضل أم عليّ إذا حوسبت ... إنّي على الحساب مقيت «3»
أي موقوف عليه وقال الفرّاء: المقيت المقتدر أن يعطي كل رجل قوته.
وجاء في الحديث: وكفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت «4» ويقيت
، ثم نزل في قوم بخلوا برد السلام وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها على المسلمين أي زيدوا عليها كقول القائل:
السلام عليكم فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله ونحوها، ومن قال لأخيه المسلم: السلام عليكم كتب له بها عشر حسنات، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله كتبت له عشرون حسنة، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة، وكذلك لمن ردّ من الأجر.
قال ابن عباس: ومن يسلم عشر مرات فله من الأجر عتق رقبة وكذلك لمن ردّ السلام عشر مرات أَوْ رُدُّوها بمثلها على أهل الكتاب وأهل الشرك فإن كان من أهل دينه فليزد عليه بأحسن منها، وإن كان من غير أهل دينه فليقل وعليكم لا يزيد على ذلك.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» «5» [374] .
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً من رد السلام مثله أو بأحسن منه حَسِيباً أي حاسبا مجازيا.
وقال مجاهد: حافظا. أبو عبيدة: كافيا مقتدرا، يقال حسبي كذا أي كفاني.
__________
(1) لسان العرب: 2/ 76، تفسير الطبري: 5/ 256.
(2) كذا في المخطوط ولم نجده.
(3) تفسير الطبري: 5/ 257.
(4) تفسير القرطبي: 5/ 296، وسنن أبي داود: 1/ 381. [.....]
(5) مسند أحمد: 3/ 99.(3/354)
وأعلم إن بكل موضع وجد ذكر كان موصولا بالله فإن ذلك صلح للماضي، والخبر هو المستدل، فإذا كان لغير الله فإنه يكون على خلاف هذا المعنى.
ثم نزل في الذين أنكروا البعث اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه، واللام في قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ لام القسم ومعناه، والله الذي لا إله إلّا هو أعلم منكم في الموت وفي أحيائكم إلى يوم القيامة.
وسمّيت القيامة قيامة، لأن الناس يقومون من قبورهم. قال الله تعالى يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً «1» وقيل: سميت قيامة لقيامهم إلى الحساب. قال الله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «2» وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً أي قولا ووعدا فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الآية.
نزلت هذه الآية في ناس من قريش، قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فأسلموا فأقاموا بها ثم ندموا على ذلك وأرادوا الرجعة، فقال بعضهم لبعض: كيف نخرج؟ قالوا: نخرج كهيئة البدو فإن فطن بنا قلنا: خرجنا نتنزّه، وإن غفل عنّا مضينا، فخرجوا بهيئة المتنزهين، حتى باعدوا من المدينة. ثم كتبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّا على الذي فارقناك عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله، ولكنا [اجتوينا] المدينة، واشتقنا إلى أرضنا. ثم إنّهم خرجوا في تجارة لهم، على الشام، فبلغ ذلك المسلمين، فقال بعضهم: ما يمنعنا أن نخرج إلى هؤلاء الذين رغبوا عن ديننا، وتركوا هجرتنا، وظاهروا على عدوّنا، فنقتلهم ونأخذ مالهم! وقالت طائفة منهم: كيف تقتلون قوما على دينكم، إن لم يذروا ديارهم، وكان هذا بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو ساكت لا ينهى واحدا من الفريقين، حتى نزلت هذه الآية والآيات بعدها، فبين الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلّم شأنهم.
وقال زيد بن ثابت: نزلت في ناس رجعوا يوم أحد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم فرقتين فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا نقتلهم، فنزلت فيهم هذه الآية وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي النار خبث الفضة» «3» يعني المدينة.
وقال قتادة: ذكرهما أنهما كانا رجلين من قريش بمكة تكلّما بالإسلام ولم يهاجروا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، لقيهما ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقبلين إلى مكة فقال بعضهم: إنّ دماءهما وأموالهما حلال، وقال بعضهم: لا، [جلّ ذلك منا] فأنزل الله تعالى فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ الآية.
__________
(1) سورة المعارج: 43.
(2) سورة المطفّفين: 6.
(3) مسند أحمد: 5/ 184، وفي بعض المصادر: خبث الحديد.(3/355)
وقال عكرمة: هم ناس ممن قد صبوا ليأخذوا أموالا من أموال المشركين فانطلقوا بها إلى اليمامة فاختلف المسلمون فيهم فنزلت فيهم هذه الآية.
وقال مجاهد: هم قوم خرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ثمّ ارتدّوا بعد ذلك واستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليأتوا بضائع لهم يتاجرون فيها، فخاف المسلمون منهم فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون، فبيّن الله تعالى نفاقهم.
وقال الضحاك: هم قوم أظهروا الإسلام بمكة فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يهاجروا فاختلف المسلمون فيهم، فنزلت هذه الآية (فَما لَكُمْ) يا معشر المؤمنين (فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) أي صرتم في المنافقين فئتين فمحلّ ومحرّم، ونصب فِئَتَيْنِ على خبر صار، وقال بعضهم: نصب على إلّا. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أي أهلكهم، ولكنهم تركوهم بكفرهم وضلالتهم بأعمالهم غير الزاكية يقال: أركست الشيء ركسته أي نكسته ورددته، وفي قراءة عبد الله: وإني والله أنكسهم «1» ، وقال ابن رواحة:
أركسوا في فتنة مظلمة ... كسواد الليل يتلوها فتن «2»
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا أي ترشدوا إلى الهدى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وقيل: معناه: أيقولون أنّ هؤلاء يهتدون والله قد أضلّهم وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي دينا وطريقا إلى الهدى وَدُّوا أي تمنّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً شركاء في ذلك مثلهم كفارا، ثمّ أمرهم بالبراءة منهم فقال فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الثانية معكم.
قال عكرمة: هي هجرة أخرى وبيعة اخرى، والهجرة على ثلاثة أوجه: أما هجرة المؤمنين أوّل الإسلام فمضى في قوله لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ «3» وقوله وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ، وأما هجرة [المؤمنين] فهي الخروج في سبيل الله مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صابرا محتسبا. قال الله حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
، وأما هجرة المؤمنين فهي أن يهجروا ما نهى الله عنه كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوحيد والهجرة فَخُذُوهُمْ يقول اسروهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يعني في الحل والحرم وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً يعني ما ينافي العون والنصرة، وقوله لَوْ تُدْهِنُ لم يرد به جوابا التمني لأن جواب التمني بالفاء منصوب بما أراد به الفسق على من نزل وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ وودّوا لو
__________
(1) في تفسير القرطبي: وفي قراءة عبد الله وأبي (والله ركسهم) ، أي بغير الألف.
(2) تفسير القرطبي: 5/ 307.
(3) سورة الحشر: 8.(3/356)
تكونون سواء مثل قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ «1» أي ودّوا لو تدهن وودّوا لو تكفرون، ومثله وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ «2» أي ودّوا لو تغفلون وودّوا لو تميلون، ثم استثنى طائفة منهم فقال إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ أي يتصلون بقوم وينتسبون إليهم يقال: اتصل أي انتسب،
وفي قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه»
«3» أي من ادعى بدعوى الجاهلية.
قال الأعشى:
إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم «4»
أي إذا انتسب.
ويقال: يَصِلُونَ من الوصول أي يلحقون إليهم إلى قوم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عهد وهم [الأسلميون] وذلك
إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وادع هلال بن عويمر الأسلمي عند خروجه إلى مكة على أن لا يعنيه ولا يعين عليه حتى أتى ويرى، ومن وصل إلى هلال من قومه أو غيرهم ولجأ إليه فلهم من الجوار مثل الذي لهلال.
الضحاك عن ابن عباس: أراد بالقوم الذين بينهم وبينكم ميثاق. بني بكر بن زيد مناة وكانوا في الصلح والهدنة وقوله أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي ضاقت صدورهم عن قتالكم، وهم بنو مدلج جاءوا المؤمنين أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ يعني من آمن منهم، ويجوز أن يكون معناه إنهم لا يقاتلوكم ولا يقاتلون قومهم فعلم المؤمنون لا عليكم ولا عليهم ولا لكم.
وقال بعضهم: وبمعنى الواو. كأنه يقول: إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقت صدورهم عن قتالكم، والقتال معكم، وهم قوم هلال الأسلميون وبني بكر بن زيد [مناة] وقوله أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي قد حصرت، كقول العرب أي ذهب [نظره] يريدون قد ذهب.
قال الفراء: سمع الكسائي بعضهم يقول: أصبحت فنظرت إلى ذات [البساتين] .
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ يعني سلط الله المشركين على المؤمنين عقوبة ونقمة.
فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ عند القتال، ويقال يوم فتح مكة فهم يقاتلوكم مع قومهم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي المسالمة والمصالحة فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أي حجة في قتالهم، وعلى دينهم فأمر الله رسوله بالكف عن هؤلاء سَتَجِدُونَ آخَرِينَ غيرهم.
__________
(1) سورة القلم: 9.
(2) سورة النساء: 102.
(3) مسند أحمد: 5/ 136.
(4) لسان العرب: 11/ 727.(3/357)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: هم أسد وغطفان [قدموا] المدينة، وكانوا قد تكلموا بالإسلام، وأقروا بالتوحيد دينا وهم غير مسلمون.
وكان الرجل منهم يقول له قومه: بماذا أسلمت؟ فيقول: هذا الرد بهذا العقرب والخنفساء «1» .
وإذا لقوا محمدا وأصحابه قالوا: إنا على دينكم، يريدون بذلك الأمن في الفريقين جميعا، فذلك قوله يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ ولا تعرضوا لهم وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ولا تعرضوا لهم يرضونكم ويرضونهم.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: التوحيد، الذين كانوا بهذه الصفة كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها يعني إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه ودعوا عليه.
ثم بيّن لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أمرهم فقال فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ أي فإن لم يكفّوا عن قتالكم ويعتزلوكم حتى تسيروا [......] «2» وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي المقاد والصلح وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ أي أهل هذه الهدنة جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي عهدا وحجة بيّنة في قتالهم.
[سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 96]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
__________
(1) في تفسير الطبري (5/ 273) : فيقرب إلى العود والحجر وإلى العقرب والخنفساء، فيقول المشركون لذلك المتكلم بالإسلام: قل هذا ربي، للخنفساء والعقرب.
(2) كلمة غير مقروءة.(3/358)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً الآية
نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك إنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة قبل أن يهاجر رسول الله إلى المدينة وأسلم معه، ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله، وأن يبلغ أهل مكة إسلامه، فخرج هاربا من مكة إلى المدينة، ثم قدمها فكان أطما من آطامها فتحصن فيه، فجزعت لذلك امه جزعا شديدا، حين بلغها إسلامه، وخروجه إلى المدينة، فقالت: لابنها الحرث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه، والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتوني به، فخرج في طلبه وخرج معهم الحرث ابن زيد بن أبي أنيسة من الكعبة إلى المدينة، فأتوا بالمدينة، فاتوا عياشا وهو في الأطم «يعني الجبل» فقالا له: انزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك، وقد حلفت أن لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى ترجع إليها. ذلك عهد الله علينا ان لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكروا له خرج إليهم ثم حلفوا بالله، فنزل إليهم فأخرجوه من المدينة، ثم أوثقوه بنسع فجلده كل رجل منهم مائة جلدة، ثم قدموا به على أمه وهي أسماء بنت مخرمة، فلما دخل قالت: والله لا أفكك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به.
ثم تركوه متروكا موثقا في الشمس ما شاء الله ثم أعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحرث بن زيد، فقال له: يا عياش هذا الذي كنت عليه، فو الله لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كانت ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقاله، وقال: والله لا ألقاك خاليا أبدا إلّا قتلتك، ثم أن حارثا بعد ذلك أسلم وهاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وكان عياش يومئذ حاضرا، ولم يشعر بإسلامه فبينا عياش حاضر إذ لقي الحرث بن زيد ولما رآه حمل عليه فقتله فقال الناس:
أي شيء [صنعت] إنه قد أسلم، فرجع عياش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله قد كان أمري وأمر الحرث ما قد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته «1» ، فنزل عليه قوله تعالى ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أي لا ينبغي لمؤمن أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً
وليس معنى قوله وَما كانَ على النفي وإنما هو على التحريم والنهي كقوله ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «2» .
ولو كان ذلك على النفي لما وجدت مؤمنا قتل مؤمنا قط لأنّ ما نفى الله لم يجز وجوده.
كقوله تعالى ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «3» ولا يقدر العباد على إنبات شجرها البتة.
وقوله تعالى إِلَّا خَطَأً عندنا ليس من الأول للمعنى.
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً البتة إلّا أن المؤمن قد يخطئ في القتل وكفّارة خطأه ما ذكر بعده.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 114. [.....]
(2) سورة الأحزاب: 53.
(3) سورة النمل: 60.(3/359)
قال أبو عبيدة: العرب تستثني الشيء من الشيء فليس منه على اختصار وضمير، أي ليس مؤمنا على حال، إلّا أن يقتل مخطئا فإن قتله مؤمنا فعليه، كذا وكذا، ومثله قوله الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ «1» واللمم ليس من الكبائر ومعناه إلّا أن يلم بالفواحش والكبائر أي يقرب منها.
ومثله قول جرير:
من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ ... على الأرض إلّا ذيل برد مرجّل «2»
فكأنه قال: لم يطأ على الأرض إلّا أن يطأ ذيل البرد فليس هو من الأرض.
وقال أبو خراش الهذلي:
أمست سقام خلاء لا أنيس به ... إلّا السباع ومرّ الريح بالغرف «3»
الغرف متجر يعمل فيها الغرابيل، وسقام واد لهذيل وكان أبو عمر الهذلي يرتع ذلك ومثله قول الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس «4»
يقول: إلّا أن يكون بها اليعافير والعيس.
وقال بعضهم: إلّا هاهنا معنى لكن فكأنه قال وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ولا عمدا إلّا بحال. لكن إن قتله خطأ فكذا وكذا وهذا كقوله لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً «5» معناه لكن تجارة عن تراض منكم.
وقوله وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعليه تحرير أي إعتاق رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.
قال المفسرون: المؤمنة المصلية المدركة التي حصّلت الإيمان، فإذا لم تكن المؤمنة جبرها الصغيرة المولود فما فوقه ممن ليس بها زمانة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ أي كاملة إلى أهل القتيل الذين يرثهم ويرثونه إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية.
فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ الآية على القاتل ولا دية لأهل القتيل، لأنهم كفار محاربون ومالهم في المسلمين وليس بينهم وبين الله عهد، ولا ذمّة وذلك ان الرجل كان يسلم ولا يسلم من تبعه غيره وقومه حرب للمسلمين فيصيبه الرجل.
__________
(1) سورة النجم: 32.
(2) تفسير مجمع البيان: 3/ 155 وفيه: ربط، بدل: ذيل، وتفسير القرطبي: 5/ 312، وفيه: مرط مرحل، بدل: برد مرجّل.
(3) الصحاح: 4/ 1409 وتفسير القرطبي: 5/ 312.
(4) لسان العرب: 15/ 312.
(5) سورة النساء: 29.(3/360)
وروى حمّاد عن عطاء بن السائب عن ابن عباس قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومه وهم مشركون، فيمرّ بهم جيش من جيش النبي صلّى الله عليه وسلّم [فيقتل فيمن يقتل فيعتق قاتله رقبة ولا دية له] «1» فنزلت هذه الآية فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وليست له دية، وكان الحرث بن زيد قتل مؤمنا من قوم كانوا حربا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان فيه تحرير رقبة ولم يكن فيه دية ولكنّه لم يكن بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين قومه عهد ثم قال وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عهد فأصبتم رجلا منهم فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ على الفاعل فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ لا تفرق بين صيامه تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وجعل الله ذلك توبة لقاتل الخطأ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بمن قتله خطئا حَكِيماً فيمن حكم عليه.
والدية في الخطأ، مائة من الإبل، عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقّة، وعشرون جذعة، ويكلف العاقلة غير إبله وجعل دونها، وإن لم يكن في بلده إبل كلّف إبل أقرب البلدان إليه، فإن أعوزت الإبل فقيمتها بالدنانير أو بالدراهم كما قوّمها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وكان قد كلف الأعرابي الذهب والورق لأنه لم يجد الإبل ويؤخذ ذلك من القروي لإعواز الإبل «2» .
فقال الشافعي في القديم: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق إثنا عشر ألف درهم.
وأما [أسنان] المغلظة في شبه العمد والعمد إذا ردّ إلى الدية ليربطون خلفه، [......] «3» حقّه، وثلاثون جذعة «4» .
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية
نزلت في معين بن ضبابة الكناني، وذلك إنه وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلا في بني النجار وكان مسلما فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر له ذلك فأرسل معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من بني فهر، فقال له: ائت بني النجار؟ وأقرأهم السلام وقل لهم: إن رسول الله يأمركم ان علمتم قاتل هشام بن ضبابة فيقتص منه وإن لم تعلموا له قاتلا أن تدفعوا له ديته فأبلغهم الفهري ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: سمعا وطاعة لله ولرسوله والله ما نعلم له قاتلا ولكن نؤدي ديته قال: فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب غرّه الشيطان قال: فوسوس إليه، فقال: أي شيء صنعت تقبل دية أخاك فيكون عليك سبّة أقتل الذي معك فيكون نفسا مكان نفس ومعك الدية.
__________
(1) زيادة عن تفسير الطبري: 5/ 281.
(2) مختصر المزني: 244.
(3) كلمة غير مقروءة.
(4) كتاب الأم للشافعي: 6/ 121.(3/361)
قال: فغفل معين الفهري فرماه بصخرة فشدخ رأسه، ثم ركب بعيرا منها وساق بقيّتها راجعا إلى مكة كافرا، فجعل يقول في شعره:
قتلت به فهرا وحملت عقله ... سراة بني النجار، أرباب فارع
وأدركت ثاري واضطجعت موسّدا ... وكنت إلى الأوثان، أوّل راجع «1»
قول فيه وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها بكفره، وارتداده عن الإسلام.
حكم هذه الآية
فقالت الخوارج والمعتزلة: إنّها نزلت في المؤمن إذا قتل مؤمنا وهذا الوعيد لاحق به.
وقالت المرجئة: إنّها نزلت في كافر قتل مؤمنا، فأما المؤمن إذا قتل مؤمنا فإنه لا يدخل النار.
وقالت طائفة من أصحاب الحديث، إنها نزلت في مؤمن قتل مؤمنا وواعد عليه ما لبث إلّا أن يتوب أو يستغفر.
وقالت طائفة منهم: كل مؤمن قتل مؤمنا فهو خالد في النار غير مؤيد ويخرج منها بشفاعة وجزاء وزعموا انه لا توبة لمن قتل مؤمنا متعمدا.
وعندنا أن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا فإنه لا يكفر بفعله ولا يخرج عن الإيمان، إلّا إذا فعل ذلك على جهة الاستحلال والديانة.
فأما إذا لم يفعله على جهة الاستحلال والديانة فإنّ ديته قتيلا ممن قتله وذلك كفارة له، فإن كان تائبا من ذلك ولم يكن منقادا ممن قيل كانت التوبة لهذا كفارة له.
وإن خرج من الدنيا بلا توبة ولا [قود] «2» فأمره إلى الله إن شاء غفر له وأرضى خصمه بما شاء، وإن شاء عذبه على فعله ثم يخرجه بعد ذلك إلى الجنة التي وعدها إن شاء الله لا يخلف وعدا وترك المجازاة بالوعيد يكون تفضلا، وترك المجازاة بالوعد يكون خلفا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
والدليل على أن المؤمن لا يصير بقتله المؤمن كافرا ولا خارجا من الإيمان أنّ الله تعالى حين ذكر إيجاب القصاص سمّى القاتل مؤمنا بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى «3» .
__________
(1) لسان العرب: 8/ 251، وفيه الأصنام بدل الأوثان، زاد المسير: 2/ 173.
(2) كذا في المخطوط.
(3) سورة البقرة: 178. [.....](3/362)
والقصاص لا يكون إلّا في قتل العمد فسمّاهم مؤمنين وآخى بينهم كقوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ «1» فلم يرد به إلّا أخوة الإيمان، والكافر لا يكون أخا للمؤمن.
ثم قال ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ وذلك لا يلحق الكفار ثم أوجب على المعتدين بعد ذلك عذابا أليما بقوله فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ «2» .
ولم يرد مع مثلها الغضب، ولا التخليد في النار ولا يسمى هذا العذاب نارا، والعذاب قد يكون نارا وقد يكون غيرها في الدنيا، ألا ترى إلى قوله يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ «3» يعني القتل والأسر، والدليل عليه قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «4» مخاطبا المقاتلين فخاطب به المصلين ولو كان القتل يخرجهم من الإيمان، لجاز مخاطبتهم به لذلك قال الله وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا واقتتال الطائفتين كان على العمد أو على الخطأ، والدليل عليه أيضا ما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه كان يبلّغ أصحابه على أن لا يشركوا بِاللَّهِ شَيْئاً ولا يقتلوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وعلى ما في القرآن ممن فعل من ذلك شيئا، فكان عليه أجرا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، ومن كفر بالله فأمره إلى الله عز وجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ولو كان القاتل خارجا عن الإسلام.
لم يكن لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم معنى،
وروي أنّ مؤمنا قتل مؤمنا متعمّدا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يأمر القاتل بالإيمان من فعله ولو كان [كافرا] أو خارجا عن الإيمان. لأمره أولا بالإيمان.
وقال: لطالب الدم أتعفو؟ قال: لا ثم قال أتأخذ الدية؟ قال: لا، فأمره بقتله ثم أعاد عليه مرتين أو ثلاثة حتى قبل الدية ولم يحكم على القاتل بالكفر
، ولو كان ذلك كفرا لبينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن بكفر كان قد حرم بها أهله عليه، ولم يجز على الرسول الإغفال عنه لأنه الناصح، الشفيق، المبعوث بالتأديب والتعليم.
وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه قال: «ثلاثة من أهل الإسلام. الكفّ عمّن قال: لا إله إلّا الله لا نكفره بذنب [ولا نخرجه من الإسلام بعمل] ، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن تقوم الساعة، والإيمان بالأقدار» «5» .
ودليل آخر على إن القاتل لا يصير كافرا بالقتل وهو أن الكفر من الجحود وأيضا الشرك اضافة، والقاتل لم يجحد ولم قبول الفرائض ولا أضاف إلى الله شركاء، ولو جاز أن يكون كافرا من لم يأت بالكفر فجاز أن يكون مؤمنا من لم يأت بالإيمان [......] «6» .
__________
(1) سورة البقرة: 178.
(2) سورة البقرة: 178.
(3) سورة التوبة: 14.
(4) سورة المائدة: 6.
(5) كنز العمال: 15/ 811 ح 43226، والجامع الصغير: 1/ 527 بتفاوت.
(6) كلمة غير مقروءة.(3/363)
وقد تكلفت الخوارج والمعتزلة بهذه الآية.
وقيل: إن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا يدخل في النار مؤبدا لأنّ الله تعالى قال: خالِداً فِيها.
يقال لهم: إن هذه الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا متعمدا.
وقد ذكرنا القصة فيه وسياق الآية وروايات المفسرين [لها] على أنّا لو سلّمنا إنّها نزلت في مؤمن قتل مؤمنا متعمدا، فإنا نقول لهم: لم قلتم إن الخلود هو التأبيد، خبرونا عن قول الله وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ فما معنى الخلد هاهنا في النار، يقولون: إنه المراد به التأبيد في الدنيا.
والدنيا تزول وتفنى.
ومثله قوله أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «1» وكذلك قوله يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ «2» إنما يعني في الدنيا أفتقولون إنّه أراد به التأبيد؟
فإن قالوا: لا ولا بد منه، فيقال لهم: قد ثبت أن معنى الخلود هو معنى التأبيد، فكذلك يقول العرب: لأودعنّ فلانا في السجن، أفتقولون إنه أراد به التأبيد والسجن ينقطع ويفنى؟
وكذلك المسجون يدخل ويخرج منه فإن قالوا: إن الله لما قال: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ دلّ على كفره لأن الله لا يغضب إلّا على من كان كافرا أو خارجا من الإيمان.
قلنا: إن هذه الآية لا توجب عليه الغضب لأن معناه فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ان يغضب عليه ويلعنه، وما ذكر الله من شيء وجعله جزاء لشيء فليس يكون ذلك واجبا كقوله إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «3» وكم محارب لله ولرسوله لم يحلّ به شيء من هذه المعاني. إلى أن فارق الدنيا. وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «4» .
ولم يقل: أجزي بكل سيئة بسيئة مثلها.
ولو كان المعنيان في ذلك سواء لم يكن إذا لقوله وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «5» معنى، فكذلك هاهنا.
ولو كان ذلك على معنى الوجوب.
__________
(1) سورة الأنبياء: 34.
(2) سورة الهمزة: 3.
(3) سورة المائدة: 33.
(4) سورة الشورى: 40.
(5) سورة المائدة: 15.(3/364)
كان لقوله وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ووجدنا في لغة العرب.
إنه إذا قال القائل: جزاؤه كذا ثم لم يجازه لم يكن كاذبا، وإذا قال: أجزيه، ولم يفعل كان كاذبا، فعلم أن منهما فرضا واضحا يدل على صحة هذا التأويل.
ما روى العلاء بن المسيب عن عاصم بن أبي النجود عن ابن عباس.
قوله فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «1» أي في جزائه إن شاء عذبه وان شاء غفر له.
وروى شعبة عن يسار عن أبي صالح قال: فَهُوَ جَزاؤُهُ إن جازاه فهو جزاؤه.
روى الحجاج بن الأسود عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: في قوله تعالى: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ قال: جزاؤه إن جازاه
[قال: فليس] قوله وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ من الأفعال الماضية.
ومتى قلتم أن المراد منه: فجزاؤه ذلك أن جازاه كان من الأفعال المستقبلة؟ يقال لهم: قد يرد الخطاب بصفة الماضي والمراد المستقبل.
وهو قوله وَنُفِخَ فِي الصُّورِ «2» . وَحَشَرْناهُمْ «3» وَقالَ قَرِينُهُ «4» كل ذلك يكون مستقبلا، وقد يرد بلفظ المستقبل، والمراد به الماضي كقوله وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ «5» .
بمعنى إلّا ان آمنوا، ومثله كثير، وقد قيل في تأويل هذه الآية: إن هذا الوعيد وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً مستحلا لقتله، وأما قوله: من زعم أنه لا توبة له فأنه خارج من الكتاب والسنّة.
وذلك يغفر الله لهم الذنوب.
وأمر بالتوبة منها فقال وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً «6» ونحوه من الآيات. ولم يفصل بين ذنب وذنب، وإذا كان الله قابل التوبة من الكفر فقبول التوبة من القتل أولى.
قال الله وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ «7» إلى قوله وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً «8» وقال إخوة يوسف اقْتُلُوا يُوسُفَ «9» ثم قال وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ «10» يعني بالتوبة
وسئل النبي صلّى الله عليه وسلّم: أمن كل ذنب يقبل التوبة؟ فقال: نعم، فإن قيل: فلم يقولون في الاخبار التي وردت أنّ القاتل لا توبة له؟ قيل: تأويلها إن صح الخبر بها على أنه إذا لم يرتكب ذنبا ولم يستغفر الله منه
ويدل على هذا ما
حدّث:
__________
(1) سورة النساء: 93.
(2) سورة الكهف: 99.
(3) سورة الكهف: 47. [.....]
(4) سورة ق: 23.
(5) سورة البروج: 8.
(6) سورة النور: 31.
(7) سورة الفرقان: 68.
(8) سورة البقرة: 62.
(9) سورة يوسف: 9.
(10) سورة يوسف: 9.(3/365)
خالد بن دهقان عن أبي زكريا قال: سمعت أم [الدرداء] تقول: سمعت أبا الدرداء يقول:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفر إلّا من مات مشركا أو قتل مؤمنا متعمدا» «1» [375] .
قال خالد بن دهقان: فقال هاني بن كلثوم: سمعت محمود بن ربيع يحدّث عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل مؤمنا ثم اغتبط «2» بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» «3» [376] .
قال خالد: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: اغتبط بقتله، قال: هم الذين يقتتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى ولا يستغفر الله منه أبدا.
سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لا أعلم للقاتل توبة إلّا أن يستغفر الله.
وروى أبو الأشهب عن سليمان بن علي الكلبي عن الحسن أنه قرأ هذه الآية مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ «4» إلى قوله جَمِيعاً. هات يا أبا سعيد، أي علينا كما كانت على بني إسرائيل.
فقال: إي والله الذي لا إله إلّا هو ما جعل دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا، فإن قيل:
فما تقولون فيما روى سفيان عن المغيرة بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «5» قال: ما [نسخها] شيء.
وروى الحجاج عن ابن جريج عن القاسم بن أبي [بزة] أنه سأل سعيد: هل لمن قتل مؤمنا من توبة؟ فقال: لا، فنزلت عليه الآية وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ «6» إلى قوله إِلَّا مَنْ تابَ.
قال سعيد: فقرأها عليّ ابن عباس [كما قرأتها] «7» عليّ فقال: هذه مكّية نسختها أي مدنية التي في سورة النساء.
وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت قال: لما نزلت هذه الآية التي
__________
(1) كنز العمال: 15/ 20 ح 39889.
(2) في المصدر: فاغتبط.
(3) مسند الشاميين: 2/ 266.
(4) سورة المائدة: 32.
(5) سورة النساء: 93.
(6) سورة الفرقان: 68.
(7) كذا في المخطوط. [.....](3/366)
في الفرقان وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله إِلَّا مَنْ تابَ «1» عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت في سورة النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ الآية فنسخت الغليظة اللينة يقال: إن الغليظة نزلت بعد اللينة بستة أشهر.
نقول ومن الله التوفيق: إن قول المفسرين واختلافهم في الآيتين أيهما أنزلت قبل، وقوله:
إن واحدة منها ناسخة والأخرى منسوخة فلا فائدة منه إذ ليس سليما سبيل الناسخ والمنسوخ، لأن النسخ لا يقع في الأخبار، وإنما يقع في الأحكام والآيتان جميعا [خبر أنّ] .
فإن تكن الآية التي أنزلت في النساء أولا فإنها مجملة لم يستوف حكمها بالنص.
وفسر حكمها في الآية التي في الفرقان.
وإن كانت هي في الفرقان نزلت متقدمة. ثم أنزلت التي في النساء فإنه استغنى بتفسير ما في القرآن عن إعادة تفسيرها في النساء والله أعلم.
وأما قول من زعم أن من وافى القيامة وهو مرتكب الكبائر. وهو مؤمن لم يضره ذلك فإنه [رادّ] لكتاب الله تعالى لأن الله تعالى قال إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» ، فلم يطلق المغفرة لما دون الشرك بل ردّه إلى المشيئة ليعلم إن منه ما يكون مغفورا أي ما يكون صاحبه معذورا ثمّ يخرج من النار فلا يؤبد فيها، ويؤيد ذلك. قضية الشفاعة وغيرها.
فدلت هذه الدلائل على بطلان قول الوعيدية والمرجئة، وصحة قولنا، فهذا حكم الآية.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف بن سعد [بن ذبيان] يقال له: مرداس بن نهيك وكان من أهل فدك وكان مسلما لم يسلم من قومه غيره، فسمعوا بسرية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تريدهم وكان على السرية يومئذ رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين.
فلما رأى الخيل خاف أن تكون من غير أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فألجأ غنمه إلى عاقول في الجبل وصعد هو إلى الجبل، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبّرون، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكبّر فنزل وهو يقول: لا إله إلّا الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد بن حارثة فقتله وأخذوا غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه الخبر فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وجدا شديدا.
__________
(1) سورة الفرقان: 70.
(2) سورة النساء: 48.(3/367)
وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قتلتموه إرادة ما معه» [377] ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية على اسامة بن زيد فقال: يا رسول الله استغفر لي وقال: «فكيف بلا إله إلّا الله» قالها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات «1» .
قال أسامة: فما رآني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلّا يومئذ ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استغفر لي بعد، ثلاث مرات. فقال: أعتق رقبة.
وبمثله قال قتادة،
وروى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس. قال: مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه غنم فسلّم عليهم فقالوا: ما سلّم عليكم إلّا متعوّذا، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وروى المبارك عن الحسن أنّ أناسا من المسلمين لقوا أناسا من المشركين فحملوا عليهم فهزموهم قال: فشدّ رجل منهم وتبعه رجل وأراد متاعه فلما غشيه بالسيف. قال: إني مسلم إنّي مسلم وكذّبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه.
قال: وكان والله قليلا نزرا.
قال: فرفع ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أقتلته بعد ما زعم أنه مسلم!، فقال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «فهلّا شققت عن قلبه؟» «2» .
قال: لم يا رسول الله؟ قال: «لتنظر صادقا كان أو كاذبا» قال أو كنت أعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إنما ينبئ عنه لسانه» [378] قال: فما لبث القاتل أن مات ودفن فأصبح. وقد وضع إلى جنب قبره، ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثا فلما رأى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الأرض لا تقبله أخذوا رجله وألقوه في بعض تلك الشعاب، قال: فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية.
قال الحسن: أما ذاك ما كان أن تكون الأرض [تحبس] من هو شر منه ولكن وعظا لقوم أن لا يعودوا إلى مثل فعله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي إذا سرتم في الأرض مجاهدين فَتَبَيَّنُوا يعني المؤمن من الكافر، ومن قرأ بالتاء والثاء أي قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر
__________
(1) شرح مسلم للنووي: 2/ 101.
(2) مستدرك الصحيحين: 3/ 116.(3/368)
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً لأن تحية المؤمن السلام بها يتعارفون وبها يحيي بعضهم بعضا.
قال: ابن سيرين: إنما قال: (إِلَيْكُمُ) لأنه سلّم عليهم رجل فقتلوه ومن قرأ السّلام فمعناه المقادة يعني يطلبون بذلك الغنم والغنيمة وسلب وعرض الدنيا منافعها ومتاعها، ويقال: العرض ما سوى الدراهم والدنانير فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يعني ثوابا كثيرا لمن ترك قتل المؤمن كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ تأمنون في قومكم من المؤمنين بلا إله إلّا الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها، فنهاهم أن يخيفوا أحدا بأمر كانوا يأمنون بمثله وهم في قومهم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالهجرة فَتَبَيَّنُوا أن تقتلوا مؤمنا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الخير والشر خَبِيراً.
روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، قال: حرّم الله على المؤمن أن يقول لمن عهد أن لا إله إلّا الله: لست مؤمنا، كما حرّم عليهم الميتة فهو آمن على ماله ودمه فلا يردّوا عليه قوله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) .
زعم ابن [سيرين] هو القول بهذه الآية.
وقالوا لما قال الله وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً منعهم من قبلهم بعد اظهارهم الإسلام ولم يكن ذلك إلّا قولهم فلولا أن الإيمان هو القول، وذلك أن القوم لما شكّوا في حال أصله كان هذا القول منه تعوذا؟ فقتلوه والله تعالى لم يجعل إلى عبده غير الحكم بالظاهر.
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله» «1» [379]
وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط» . ألا ترى أنّ المنافقين كانوا يقولون هذا القول. ثم لم يكن ذلك ايمانا منهم.
وقد تبين من معنى هذه الآية
ان النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «هلا شققت عن قلبه»
«2» [380] فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره، وأنّ حقيقة التصديق بالقول، ولكن ليس للعبد حكم إلّا على ما سمعه منه فقط، وفي هذه الآية ردّ على أهل القدر وهو أنّ الله تعالى أخبر أنه منّ على المؤمنين من بين جميع الخلق. ممن خصّهم بالتوفيق فصاروا مخصوصين بالإيمان وأنّ الله لو خلق الخلق كلّهم للإيمان. كما زعمت القدرية فما معنى اختصاصهم بالمنة من بين الخلق كلّهم، وبالفصل بينهم وبين من قال إنّ المتنعم في الإيمان بالله إذ كانوا مساوين لغيرهم في جميع المعاني فأقروا ولم يعاندوا كما عائد غيرهم منع مساواتهم لهم في جميع المعاني.
__________
(1) مسند أحمد: 1/ 11.
(2) كنز العمّال: 10/ 389 ح 29928.(3/369)
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لما ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين عن غيرهم في الجهاد أتى عبد الله بن أم مكتوم وعبد الله بن جحش الأسدي. وليس الأزدي. وهما عميان فقال: يا رسول الله ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين فأمر بالجهاد وحالنا على ما ترى ونحن نلبي الجهاد فهل لنا من رخصة فنزل غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ في البصر فهم من الذين جاهدوا مع المجاهدين لزمانتهم.
وروى مجاهد عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لما نزلت هذه الآية لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال ابن أم مكتوم:
اللهم أنزل عذري، فنزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فوضعت بينهم وكان بعد ذلك يغزو ويقول ادفعوا إليّ اللواء ويقول: أقيموني بين الصفين فإني لا [أستطيع] أن أفرّ.
معمر عن ابن شهاب عن زيد بن ثابت قال: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفخذه على فخذي وقد أملى عليّ لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فعرض ابن أم مكتوم قال: فبقيت فخذ رسول الله على فخذي حتى كادت تتحطّم ونزلت عليه غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وبقية الآية لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عن الغزو أو الجهاد، الذين هم غير أولي الضرر وهم أولي الزمانة والضعف في الدين والبصر، والضرر مصدر، يقال: رجل ضرير من الضرر.
وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أولي. الضرر.
وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي ليس المؤمنين القاعدون عن الجهاد من غير هم والمؤمنون المجاهدون غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، لأن الضرر أقعدهم عنه والضرر رفع على نعت القاعدين، ونصب على الاستثناء فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً أي فضيلة وَكُلًّا يعني المجاهد والقاعد وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ومن يجاهد [الجنّة، وزاد] «1» من فضل المجاهدين فقال وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قال: كان يقال:
الإسلام درجة، والهجرة في سبيل الله درجة، والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة.
وقال ابن [محيريز] في هذه الآية: هي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدد [حضر الفرس الجواد المضمر] «2» سبعين خريفا.
__________
(1) زيادة لتقويم النصّ وعبارة المخطوط لا تقرأ.
(2) زيادة عن تفسير الطبري: 9/ 240 ح 12191.(3/370)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 103]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية. نزلت في ناس من أهل مكة دخلوا في الإسلام ولم يهاجروا، منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة. وقيس بن الوليد بن المغيرة وانهم أظهروا الإيمان وأسرّوا النفاق فلما كان يوم بدر خرجوا مع المشركين إلى حرب المسلمين فلما التقى الناس.
ورأوا قلة المؤمنين قالوا: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ، فقتلوا يوم بدر فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وهزموهم، فذكر الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي يقبض أرواحهم ملك الموت.
وقوله تَوَفَّاهُمُ إن نصبت جعلته ماضيا فيكون في موضع النصب وإن نصبت أمسى فيكون على مستقبل ومعنى تَتَوَفَّاهُمُ وأراد بالملائكة ملك الموت لأن الله تعالى قد يحمل الخطاب في موضع ويفسره في موضع فيكون الحكم للمفّسر فيرد عهد الله وقوله إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يحتمل أن يكون أراد به ملك الموت واحتمل أن يكون غيره لكنه لمّا فسّره في موضع آخر بقوله قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «1» علم أن المراد بقوله (تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) ملك الموت والله أعلم.
فإن قيل: فلم أخرجه بلفظ الجماعة؟ قيل: قد يرد الخطاب بلفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله عز وجل (إِنَّا نَحْنُ) ولا عليك إن الله واحد.
__________
(1) سورة السجدة: 11.(3/371)
ومثله في القرآن كثير وقوله (ظالمي) ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالشرك، والنفاق، ونصب ظالِمِي على الحال من (تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) في حال تحملهم أي شركهم قالُوا يعني الملائكة.
فِيمَ كُنْتُمْ أي في ماذا كنتم؟ سؤال تقريع وتوبيخ ويجوز أن يكون معناه: فيمن كنتم أفي المشركين أم في المسلمين؟
قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ أي مقهورين عاجزين فِي الْأَرْضِ يعني أرض مكة فأخرجونا معهم كارهين قالُوا يعني الملائكة أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ يعني أرض المدينة واسِعَةً أي آمنة فَتُهاجِرُوا فِيها فتضلّوا بها وتخرجوا من بين أظهر مكة.
وروى سليمان بن عمرو عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير في قوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها قال إذا عمل بالمعاصي في أرض فأخرج منها.
وروى سليمان بن عمرو عن عباد بن منصور بن الناجي عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب به الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم» «1» [381] .
فأكذبهم الله عز وجل وإنّما أنّهم كانوا مستطيعين الهجرة فقال فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ أي منزلهم جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً أي بئس المصير إلى جهنم.
ثم استثنى أهل مكة منهم فقال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ يعني المؤمنين المخلصين المقهورين بمكة لم يستطيعوا الهجرة ومنعوا من اللحوق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ويتجهزون للحوق به مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ والْمُسْتَضْعَفِينَ نصب على الاستثناء من مأواهم لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً لا يقدرون على حيلة ولا قوة ولا نفقة للخروج منها وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لا يعرفون طريقا إلى الخروج منها وقال: إنّما يعني طريق المدينة قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من الذين لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا وكنت غلاما صغيرا فَأُولئِكَ الذين هم بهذه الصفة عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ أي يتجاوز وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً وفي هذه الآية دليل على إمكان قول من قال إن الإيمان هو الاقرار فقط وذلك إن هؤلاء القوم كانوا قد أضمروا الإقرار فلم ينفعهم ذلك بعد أن لم تكن سرائرهم موافقه لأقوالهم وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً.
مجاهد: مُراغَماً كَثِيراً: أي متزحزحا على كره.
علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس، وعليّ بن الحكم عن الضحاك: المراغم: السهول من الأرض إلى الأرض.
__________
(1) تفسير مجمع البيان: 3/ 172، وتفسير القرطبي: 5/ 347.(3/372)
أما السعة فسعة من الرزق، وبه قال مقاتل بن حيان.
وقال أبو عبيدة: المراغم والمهاجر واحد، يقال: راغمت قومي وهاجرتهم وهو المضطرب، والمذهب في الأرض.
قال النابغة الجعدي:
كطود يلاذ بأركانه ... عزيز المراغم والمهرب «1»
وقال الشاعر:
إلى بلد غير داني المحل ... بعيد المراغم والمضطرب «2»
قال القيسي: فأصله أن الرجل كان إذا أسلم خرج من قومه مراغما أي مغاضبا لهم ومهاجرا أي مقاطعا عن دينهم، وقيل للمذهب مراغم وللمصير للنبي صلّى الله عليه وسلّم هجرة لأنها كانت هجرة الرجل قومه.
وقيل: إن أصله من الرغام وهو التراب أي راغمته أي هاجرته ولم أبال وإن رغم أنفه أي ألصق بالتراب.
فلما نزلت هذه الآيات سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير [وضيئا] يقال له: جندع «3» فقال: والله ما أنا ممن استثنى الله وإني لأجد حيلة وإن لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها، والله لا أبقى الليلة بمكة، أخرجوني، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به إلى التسنيم فأدركه الموت بها فصفق يمينه على شماله. ثم قال: هذه لك هذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات شهيدا فأتى خبره أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: لو وافى المدينة لكان مهاجرا، وقال المشركون وضحكوا منه ما أدرك هذا ما طلب، فأنزل الله تعالى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ قبل بلوغه إلى مهاجره فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ أي وجب ثوابه عَلَى اللَّهِ بإيجابه ذلك على نفسه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً كان منه في حال الشرك رَحِيماً بما كان منه في الإسلام.
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي هاجرتم فيها فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج وإثم أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ يعني من الأربع ركعات إلى ركعتين إِنْ خِفْتُمْ أي علمتم أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا في الصلاة إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً مجاهرا بعداوته وقال: [....]
عدوا بمعنى أعداء والله «4» أعلم.
__________
(1) تفسير الطبري: 5/ 322، وتفسير القرطبي: 5/ 348.
(2) لسان العرب: 12/ 247.
(3) في تفسير الطبري: 5/ 324: ضمرة.
(4) راجع تفسير القرطبي: 5/ 363. [.....](3/373)
قوله إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ.
تمام الكلام هاهنا.
ثم أصبح يقصر صلاة المسافر واو العطف فقال: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يريد فإن خفتم وهو حرف شرط وفي القرآن مثل هذا كثير أي خفي الخبر بتمامه ثم عطف عليه حرف منفصل عنه في الباطن وهو في الظاهر كالمتصل كقوله الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ «1» الآية.
هذا اعتراف امرأة العزيز ثم وصل بها حكاية أخرى عن يوسف وهو قوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ لأن بعد الاعتراف بالذنب لا معنى لقولها لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ.
وفي التفسير: أنّ يوسف لما قال هذه المقالة. قال له جبرئيل (عليه السلام) ولا حين هممت؟ وعندئذ قال يوسف وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي «2» ومثل قوله تعالى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ
وقال: ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ «3» افتتاح كلام آخر يريد به النفي لأنه لو كان متصلا بأول الكلام كان معناه [....] «4» .
قال: وحمل الآية على نحو ما أشرنا إليه من النظم يفيد زيادة معنى وهو وجوب القصر في السفر من غير خوف نص الآية لأنك متى ما فصلت قوله تعالى أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا متصلا بذكر قصر الصلاة لزمك أن تقول قصر الصلاة في السفر من غير خوف بالسنّة وأن السنّة ناسخة الكتاب، قيل: على زيادة معنى مع استقامة نظمها أولى من حملها على غيرها.
حكم الآية
اختلف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن بعدهم في إتمام الصلاة في السفر أربع ركعات ولكن أبيح له القصر تخفيفا عنه وإليه ذهب الشافعي، ورجّح الوجوب
طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كل ذلك قد فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعسفان في غزوة بني لحيان «5» .
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الآية.
روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر قالا: إن المشركين لما رأوا أن رسول
__________
(1) سورة يوسف: 51.
(2) تفسير الطبري: 13/ 4.
(3) سورة القصص: 68.
(4) كلام غير مقروء.
(5) راجع أحكام القرآن للجصّاص: 2/ 331.(3/374)
الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه [قاموا إلى] صلاة الظهر يصلّون جميعا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤمهم ندموا على تركهم إلّا كانوا كبرا عليهم فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحبّ إليهم من آبائهم وأبنائهم يعني صلاة العصر. وإذا رأيتموهم قد قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم.
فلما قاموا إلى الصلاة العصر نزل جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد إنها صلاة الخوف فإن الله يقول وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ مقيما يعني شهيدا معهم فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا إلى آخر الآية قال: فعلمه جبرئيل صلاة أخرى.
فلما قام النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الصلاة وقف أصحابه صفين ثم كبر فكبروا جميعا، ثم إن الصف الآخر استقبلوا العدو بوجوهم يحمون النبي وأصحابه، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالصف الذي معه ركعة وسجدتين ثم قاموا وكبروا وراءهم من غير أن يتكلموا إلى مصاف أصحابهم ونكص آخرون حتى قاموا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى بهم ركعة وسجدتين ثم تشهد وسلّم ثم قام الصف الذي خلفه فرجعوا إلى مصاف أصحابهم، وكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتان وأربع سجدات والقوم ركعة وسجدتين وصلّى كل إنسان منهم لنفسه ركعة وسجدتين.
كيفية صلاة الخوف
اختلف العلماء في كيفية صلاة الخوف.
فقال الشافعي: إذا صلّى في سفر صلاة الخوف من عدو غير مأمون، صلى الإمام بطائفة ركعة وطائفة فجاءه العدو فإذا فرغ العدو قام فلبث قائما وأطال وأتمم الطائفة للركعة التي بقيت عليها يقرأ بأم القرآن وسورة، ويخفف ويسلم وينصرف فيقف وجاءه العدو، ويأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها الإمام الركعة الثانية التي بقيت عليه فيقرأ فيها بعد إتيانهم بأم القرآن وسورة قصيرة ويثبت جالسا وتقوم الطائفة تتم لنفسها الركعة التي بقيت عليها بأم القرآن وسورة قصيرة ثم تجلس مع الإمام كل واحدة منهما مع إمامها ما أحدثت الأخرى منه.
واحتج بقول الله تعالى. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ الآية.
فاحتج أيضا
بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك يوم ذات الرقاع.
وروى معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ قال: هذا في الصلاة عند الخوف يقيم الإمام ويقوم معه طائفة منهم وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بإزاء العدو فيصلي الإمام بمن معه ركعة ثم يثبت قائما فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ثم ينصرفون حتى يأتوا بأصحابهم فيقفون موقفهم. ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ثم يجلس الإمام فينظرهم فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ويشهدون ثم يسلم بهم الإمام، فهكذا صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم ذات الرقاع.(3/375)
ويدل على صحة هذا التأويل أيضا حديث سهل بن أبي خيثمة في صلاة الخوف وكان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يقوم الإمام في صلاة الخوف ويقوم صف خلفه وصف موازي العدو فيصلي بهؤلاء ركعة. قال: فإذا صلّى بهم ركعة قاموا مكانهم والإمام قائم فيصلوا ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك وجاء أولئك فيصلي بهم ركعة. ثم قاموا مكانهم فصلّوا ركعة.
قال الشافعي: فإن كانت صلاة المغرب فإن صلّى ركعتين بالطائفة الاولى فيثبت قائما وأتموا لأنفسهم فحسن، وإن ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم [فجائز] ثم يأتي بالطائفة الأخرى فيصلي بها بقي عليه ثم يثبت جالسا حتى يقضي ما بقي عليها ثم يسلم بهم.
قال: وإن كانت صلاة حضر فلينتظر جالسا في الثانية أو قائما في الثالثة حتى يتم الطائفة التي معه. ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها كما وصفت الأخرى.
قال: وإن كان العدو قليلا من ناحية القبلة والمسلمون كثير يأمنوهم في مستوى لا يسترهم شيء إن حملوا عليهم زادهم صلّى بهم الإمام جميعا وركع وسجد بهم جميعا إلّا صف عليه أو بعض صف الوراء وإذا قاموا بعد السجدتين سجد الذين حرسوا.
وإذا ركع ركع بهم جميعا وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولئك إلّا صفا أو بعض صف يحرسونهم فيهم فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين يحرسونهم ثم يتشهد ويتشهدون ثم يسلم بهم جميعا معا وقال: وهو تأخر منهم يحرسونهم إلى الصف الثاني.
ويقدم الثاني فحرسوا فلا بأس، وهذا نحو صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم عسفان.
روى شبل عن محمّد بن يوسف عن مجاهد في قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ قال قوم: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان «1» فتوافقوا فصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاة الظهر أربعا ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على صفوفهم، وأثقالهم وأنزل الله تعالى فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فصلى العصر فصف أصحابه صفين. ثم كبر بهم جميعا ثم سجد الأولون سجدة فالآخرون ثم سجدوا حين قام النبي صلّى الله عليه وسلّم والصف الأقل ثم كبّر بهم وركعوا بهم جميعا فتقدم الصف الآخر وليتأخر الصف الأول فيها فصلوا جميعا كما فعلوا أول مرة وقصر صلاة العصر في ركعتين، وتشهد
، فهذا حديث جابر في صلاة الخوف.
عطاء عن جابر قال: صلينا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف وكان العدو بيننا وبين القبلة فأقيمت الصلاة فصففنا خلفه صفين. وكبّر وكبّرنا معه جميعا ثم ركع وركعنا معه ثم رفع رأسه فسجد فلما سجد هو والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو.
__________
(1) جبل بناحية مكّة على طريق المدينة.(3/376)
وكلما قضى رسول الله السجود هو والصف الذي يليه. قاموا بحذاء الصف المؤخّر بالسجود فسجدوا ثم تأخر الصف المقدم وتقدم الصف المؤخر ثم كبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم ركع وركعنا جميعا.
ثم رفع رأسه فاستوى قائما فسجد هو والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الاولى، فلما قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم السجود هو والصف الذي يليه سجد الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسلموا جميعا، كما نصنع وسلّم هؤلاء بأقرانهم.
قال الشافعي: ولو صلّى بالخلف [....] «1» .
فإذا صلّى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم يسلم جائز وهكذا صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ببطن المحل.
وروى يحيى بن أبي كبر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله أخبره إنه صلى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإحدى الطائفتين ركعتين وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فصلى رسول الله أربع ركعات وصلّى كل طائفة ركعتين.
قال المزني: وهذا يدل عندي بوجوب فريضة خلف من يصلي نافلة لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى بالطائفة الثانية فريضة لهم ونافلة له صلّى الله عليه وسلّم فهذا مذهب الشافعي في صلاة الخوف.
وقال أبو حنيفة: السنّة أن يفرّق الإمام المسلمين فرقتين، فيصلّي بفرقة ركعة، وفرقة فجاءه العدو ثمّ يتشهّد بالفرقة التي سلّمت فيصلي بركعة وهم في الصلاة فيقفون.
وجاءه العدو وجاءت الفرقة الأخرى فصلت مع الإمام الركعة الأخرى. ثم انصرفت وعادت الفرقة الاولى وصلت صلاتها فعادت إلى مواجهة العدو وانصرفت الفرقة الأخرى.
وأتمّت صلاتها، وذهب أبو حنيفة في هذا إلى حديث ابن عمر في صلاة الخوف.
وهو ما
روى ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يحدث انه صلاها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فصفّ وراءه طائفة وأقبلت طائفة على العدو، فركع [بهم] رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعة وسجدتين، [سجد] مثل نصف صلاة الصبح ثم انصرفوا وأقبلوا على العدو وصلت الطائفة الأخرى فصلوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ففعل مثل ذلك، ثم سلّم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقام كل رجل من الطائفتين فصلى لنفسه ركعة [وسجدتين] «2» .
قال نافع عن ابن عمر: فإن كان خوفا أشد من ذلك، فليصلوا قياما وركبانا حيث جهتهم وهذه صلاته بذي قردة.
__________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) مسند أحمد: 2/ 150.(3/377)
وروي عن أبي بكر بن أبي الجهم عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف بذي قرد فصف صفا يوازي العدو.
وقال: فصلى بالصف الذي معه ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلوا ركعة ثم سلّم فيهم جميعا ثم انصرف وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى ركعتين ولكل واحد من الفريقين ركعة.
حديث أبي هريرة في صلاة الخوف
وروى عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم انه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف؟ فقال أبو هريرة: نعم، فقال مروان: متى؟ قال: عام غزوة نجد، قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لصلاة العصر. وقامت معه طائفة وطائفة اخرى مما يلي العدو، وأظهرهم إلى القبلة فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكبّر الذين معه، والذين يقاتلون العدو جميعا. ثم ركع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعة واحدة وركع معه الطائفة التي تليه ثم سجد وسجدت الطائفة التي تليه. والآخرون قيام مما يلي القوم، وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقامت معه الطائفة الذين معه فذهبوا إلى العدو، فقاتلوهم فأقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو وركعوا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم كما هو.
ثم قاموا فركع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعة أخرى وركعوا معه وسجد، وسجدوا ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو. فركعوا، وسجدوا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعد كما هو فثم سلّم وسلموا جميعا، فصلى رسول الله ركعتين. ولكل رجل من الطائفتين ركعتان.
واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دون خلاف في هذا بين العلماء إلّا ما حكى عن أبي يوسف والمزني أنهما قالا: لا يصلي صلاة الخوف بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس هذا موضع الكلام طلبهما في هذا بالقدر الذي ذكرت في هذا الموضع ينفع إن شاء الله.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ نزلت هذه الآية في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا محاربا وبني أنمار [فهزمهم الله وأحرزوا الذراري والمال] فنزل رسول الله والمسلمون معه ولا يرون من العدو واحدا فوضع الناس أسلحتهم وأمتعتهم من ناحية [وخرج رسول الله] فمشى لحاجات وقد وضع سلاحه حتى قطع «1» الوادي، [والسنماء ترش] فحال الوادي بين رسول الله وبين أصحابه وجلس رسول الله وهوى بصخرة ليضربه غويرث بن الحرث المحاربي، ثم الحضرمي، فقال أصحابه:
يا غويرث. هذا محمد قد انقطع من أصحابه. قال: قتلني الله إن تركته ثم انحدر من الجبل ومعه
__________
(1) في المصادر: درأ.(3/378)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
السيف فلم يشعر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سلّه من غمده وقال:
يا محمد من يعصمك مني الآن؟ قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «الله» ثم دعا: اللهم اكفني غويرث بن الحرث بما شئت. ثم أهوى بالسيف على رسول الله ليضربه فانكبّ لوجهه من زلخة زلخها من بين كتفيه وبدر سيفه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخذه ثم قال: «من يعصمك الآن يا غويرث» قال:
لا أحد.
قال: اشهد أن لا إله إلّا الله وأني عبده ورسوله، فقال: لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليه، فأعطاه رسول الله سيفه فقال غويرث: للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنت خير مني. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«أجل أنا أحق بك منك ثم رجع غويرث إلى أصحابه» [382] . فقالوا: ويلك لقد رأيناك أهويت بالسيف قائما على رأسه ما منعك منه؟ قال: والله إني أهويت إليه بالسيف لكني لا أدري من زلخني من كتفي فخررت لوجهي وخر سيفي من بين يديّ فسبقني فأخذه وقال: يا غويرث من يمنعك مني الآن، فقلت: لا ثم قال: اشهد أن لا إله إلّا الله وإني رسول الله وأعطيك سيفك فقلت: لا، ولكني أعطيك موثقا أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا، فردّ السيف إليّ.
قال: وسكن الوادي فقطعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه وأخبرهم الخبر، وأقرأهم هذه الآية وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي لا ضرر إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ من عدوكم إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً يهانون فيه.
قال الزجاج: الجناح الإثم وأصله من جنحت إذا عدلت عن المكان وأخذت جانبا عن القصد ثمّ قال لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي لا تعدلون عن الحق إن وضعتم أسلحتكم، والأذى مقصور، يقال: أذى يأذي أذى، مثل فرع يفرع فرعا فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ يعني صلاة الخوف أي فرغتم منها فَاذْكُرُوا اللَّهَ يعني فصلوا لله قِياماً للصحيح وَقُعُوداً للسقيم وَعَلى جُنُوبِكُمْ للجرحى والمرضى لمن لا يستطيعون الجلوس، ويقال: معناه فاذكروا الله بتوحيده وتسبيحه وشكره على كل حال فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ يعني صلاة الخوف والمرض والقتال، ورجعتم إلى منازلكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أتموا الصلاة أربعا إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي واجبا مفروضا في الحضر والسفر، فركعتان في السفر وأربع في الحضر، وكتب الله عليهم ووقته أي جعل للأوقات ومنه قوله تعالى وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ووقتت مخففة.
[سورة النساء (4) : الآيات 104 الى 113]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)(3/379)
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ لا تضعفوا في طلب القوم. أبي سفيان وأصحابه يوم أحد وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران.
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ أي تتوجعون وتشتكون من الجراح فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ أي يتوجعون ويشتكون من الجراح كَما تَأْلَمُونَ وأنتم مع ذلك آمنون وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ الأجر والثواب والنصر الذي وعدكم الله وإظهار دينكم على سائر الأديان.
ما لا يَرْجُونَ وقيل: [تفسر] الآية: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ أي تخافون من عذاب الله ما لا يخافون. قال الفراء: لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلّا مع الجحد، كقول الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي لا يخافون أيام الله وكذلك قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أي لا تخافون لله عظمة، وهي لغة حجازية.
قال الشاعر:
لا ترتجي حين تلاقي الذائدا ... أسبعة لاقت معا أم واحدا «1»
وقال الهذلي: يصف [معتار] العسل ذا النوب وهي النحل.
ويروى في بيت نوب عوامل ... إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
وخالفها في بيت نوب عوامل «2» .
قال: ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك ولا خفتك وأنت تريد رجوتك «3» .
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ،
قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، يقال له طعمة بن أبرق أحد بني ظفر حي من سليم سرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، وكان الدقيق ينشر من خرق
__________
(1) تفسير الطبري: 5/ 358.
(2) تفسير الطبري: 5/ 358، وروي: عواسل.
(3) لسان العرب: 14/ 310.(3/380)
في الحراب، حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق، ثم خبأها عند رجل من اليهود، يقال له زيد ابن السمين، والتمست الدرع عند طعمة فلم يوجد عنده، وحلف لهم والله ما أخذها وماله بها من علم فقال أصحاب الدرع، بلى والله لقد أولج علينا فأحضرها وعلينا بأثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق منتشرا فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق. حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه وقال اليهودي: دفعها لي طعمة بن البرق، وشهد له ناس من اليهود على ذلك، فقالت بنو ظفر وهم قوم طعمة: أيطلبوا بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنكلمه في صاحبنا فنعذره ونجادل عنه وإن صاحبنا يرى معذورا فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكلموه في ذلك، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إنك إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح، وبرىء اليهودي فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي، فأنزل الله تعالى يعاتبه إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الآيات.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: إن طعمة سرق درعا من أنصاري وكان الدرع في جراب فيه نخالة فخرق الجراب حتى كان متناثر النخالة منه طول الطريق، فجاء به إلى دار زيد ابن السمين على أثر النخالة [فأخذه] وحمله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهم رسول الله أن يقطع يد زيد اليهودي فأنزل الله تعالى هذه الآية.
علي بن الضحاك: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، استودع درعا فجحده صاحبها فخوّنه رجال من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء قومه فعذروه وأتوا عليه فصدّقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعذرهم وردّ الذين قالوا فيه ما قالوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما تبين خيانته ارتد عن الإسلام ولحق بمكة، فأنزل الله تعالى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ «1» الآية.
وقال مقاتل: إن زيد السمين أودع درعا عند طعمة بن أبرق فجحده طعمة فلما جاء زيد يطلبه أغلق الباب، فأشرف على السطح، فألقى الدرع في دار جاره أبي هلال. ثم فتح الباب فلم يجدوا فيه فصعد السطح فقال: أرى درعا في دار أبي هلال، فلعله درعكم فنظروا وإذا هو ذلك فرفعوه. ثم جمع طعمة قومه وجاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشكوا وقالوا: إنهم قد فضحونا وسرقونا، فعاتبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله عز وجل إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي بالأمر والنهي والفصل لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ أي ما علمك الله وأوحى إليك وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً أي معينا
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ابن عباس قال: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مما هممت به من قطع يد زيد.
الكلبي: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ يا محمد من همك باليهودي أن تضربه.
مقاتل: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ من جدالك الذي جادلت عن طعمة إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.
__________
(1) سورة النساء: 110.(3/381)
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
يعني يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة ويرمي بها اليهودي إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً
يعني خائنا في الدرع أَثِيماً
في رميه اليهودي وقوله وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً. قد قيل فيه: إن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره، كقوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ «1» والنبي لا يشك ممّا أنزل الله، فإن قيل: قد أمر بالاستغفار [قلنا] هو لا يوجب وجود الذنب ولا يجب أن يستغفر كما أمر في سورة الفتح بالاستغفار من غير ذنب مقدم.
واعلم أن الاستغفار في جميع الأنبياء يعد وجوه منها ثلاثة أوجه: يكون لذنبه مقدم مثل النبوة ويكون لذنب أمته وقرابته ويكون لترك المباح قبل ورود الحضر، ومعناه بالسمع والطاعة لما أمرت به ونهيت عنه وحملت التوفيق عليه يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
أي يستترون ويستحيون من الناس وَلا يَسْتَخْفُونَ
أي يستترون ولا يستحيون مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ
يعني علمه.
إِذْ يُبَيِّتُونَ
. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: يعني يقولون، عن سفيان عن الأعمش عن أبي رزين: يولعون ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
يعني بأن اليهودي سرقه وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
يعني قد أحاط الله بأعمالهم الحسنة.
وتعلقت الجهمية والمعتزلة بهذه الآية، استدلوا منها على إن الله بكل مكان قالوا لمّا قال وَهُوَ مَعَهُمْ
ثبت إنه بكل مكان لأنه قد اثبت كونه معهم وقال لهم حق قوله وَهُوَ مَعَهُمْ
إنه يعلم ما يقولون ولا يخفى عليه فعلهم لأنه العالم بما يظهره الخلق وبما يستره، وليس في وله وهو معهم ما يوجب انه بكل مكان لأنه قال أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ «2» ولم يرد قوله انه في السماء يعني غير الذات لأن القول: أنّ زيدا في موضع كذا من غير أن يعتد بذكر فعل أو شيء من الأشياء لا يكون إلّا بالذات، وقال تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وقال:
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ «3» فأخبر أنه [يرفع] الأشياء من السماء ولا يجوز أن يكون معهم بذاته ثم يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، ولو كان قوله (وهو معهم إذ يقولون ما لا يرضى من القول) ثم أقبل على قوم طعمة وقال ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
أي يا هؤلاء للتنبيه جادَلْتُمْ
أي خاصمتم عن [أبي] طعمة «4» ، ومتى سافر أبي بن كعب عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
والمطلب به في اللغة بشدة [المخاصمة] وهو من الجدل وهو [شدّة الفتل وفيه: رجل مجدول الخلق، وفيه: الأجدل للصقر] «5» لأنّه من أشدّ الطيور قوّة.
__________
(1) سورة يونس: 94. [.....]
(2) سورة الملك: 16.
(3) سورة السجدة: 5.
(4) بشير من بني أبيرق.
(5) زيادة عن تفسير القرطبي: 5/ 378.(3/382)
فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ
أي عن طعمة يَوْمَ الْقِيامَةِ
لما أخذه الله بعذابه وأدخله النار أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
كفيلا.
ثم استأنف وقال وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يعني يسرق الدرع أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
برميه البريء في السرقة، يقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
أي شركا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
يعني بما دون الشرك ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
أي يتوب إلى الله يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً
متجاوزا رَحِيماً
به حين قبل توبته وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
يعني يمنه بالباطل فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
يقول فإنما يضر به نفسه ولا يؤخذ غير الإثم بإثم الإثم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً
بسارق الدرع حَكِيماً
حكم القطع على طعمة في السرقة وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
أي بيمينه الكاذبة، أَوْ إِثْماً
بسرقته الدرع، وبرميه اليهودي ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
أي يقذف بما جناه من مأمنه فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
والبهتان أي يبهت الرجل بما لم يفعل.
وقال الزجاج: البهتان الكذب الذي يتخير من [عظمه] . وَإِثْماً مُبِيناً
ذنبا بينا.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً)
عبد الله بن أبي بن سلول (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً)
يعني به عائشة أم المؤمنين حيث كذب عليها وكان من ذلك، وقوله (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ)
ولم يقل فيهما وقد ذكر الخطيئة ولم يقل كفرا، يجوز ان يكنى عن النفس والثلاثة والأكثر واحدها مؤنث بالتذكير، والتوحيد لأن الأنفس يقع عليها فعل واحد، فذلك جائز وإن شئت ضممت الخطيئة والإثم فجعلتها كالواحد، وإن شئت جعلت الهاء للإثم خاصة كما قال الله تعالى وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «1» جعله للتجارة ولو أتى بالتذكير فجعل كالفعل الواحد لجاز ثم قال لمحمد وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
بالنبوة وَرَحْمَتُهُ
نصرك بالوحي لَهَمَّتْ
يقول لقد همّت يعني أضمرت طائِفَةٌ
يعني جماعة مِنْهُمْ
يعني طعمة أَنْ يُضِلُّوكَ
أي يخطؤك وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
يقول وما يخطئون إلّا أنفسهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
وكان ضره على من شهد بغير حق وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
يعني القرآن والحكمة يعني القضاء بالوحي وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
قبل الوحي وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
من الله عليك عَظِيماً
بالنبوة.
هذا قول الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، ثم قال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ. عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
يعني به الإسلام والقرآن لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
يعني من ثقيف أَنْ يُضِلُّوكَ
وذلك
أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد قد جئناك نبايعك على أن لا حشر ولا بعث ولا نكسر أصناما بأيدينا على أن تمتّعنا بالعزّى سنة، فلم يجبهم إلى ذلك وعصمه الله بمنّه وأخبره بنعمته
__________
(1) سورة الجمعة: 11.(3/383)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
عليه انّه في حفظه وكلاءته فلا يخلص إليه أمر يكرهه
، فقال وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
يعني وفد ثقيف وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
يعني لا يستطيعون أن يزيلوا عنك النبوة وقد جعلك الله لها أهلا ثم قال وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
يعني الاحكام وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
من الشرائع وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ
أي منّ الله عَلَيْكَ
بالإيمان عَظِيماً.
[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 117]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117)
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس يعني قوم طعمة إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أي حثّ عليها أَوْ مَعْرُوفٍ يعينه بفرض أسباب أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ يعني بين طعمة واليهودي وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ القرض بمنح أو هدية ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلب رضاه فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً يعني جنة.
وعن ابن سيرين: معنى النجوى في الكلام المفرد به الجماعة، والإنسان سرا كان أو ظاهرا، ومعنى النجوى في لغة خاصة ومنه نجوت الجلد عن البعير وغيره أي ألقيته عنه.
قال الشاعر:
فقلت أنجوا منها نجا الجلد انه ... سيرضيكما منها سنام وغار به «1»
ويقال: نجوت فلانا إذا استنكهته.
قال الشاعر:
نجوت مجالدا فوجدت منه ... كريح الكلب مات حديث عهد «2»
ونجوت الوتر واستنجيته إذا أخلصه.
قال الشاعر:
فتبازت فتبازخت لها ... كجلسة الأعسر يستنجي الوتر
__________
(1) كتاب العين للفراهيدي: 6/ 187، تفسير مجمع البيان: 3/ 187.
(2) الصحاح: 6/ 2502.(3/384)
وأصله كله من النجوة فهو مرتفع من الأرض.
قال الشاعر:
كمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح «1»
فمعنى لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ يعني ما دوّن منهم من الكلام (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) يجوز ان يكون في موضع الخفض والنصب والرفع، فوجه الخفض على قولك: لا خير في كثير من نجواهم إلّا فيمن أمر بصدقة.
والنجوى هاهنا الرجال المتناجون كما قال: وَإِذْ هُمْ نَجْوى.
وقال قائلون: النجوى لمنة فيه فالمنصوب يعلا أن يجعل النجوى فعلا ويكون قوله إلّا استثناء من غير الجنس فيكون وجه النصب ظاهرا.
قال النابغة:
إلّا الأواري لأياً ما أبينها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد «2»
وقد يكون في موضع رفع فمن نصب على المعرفة.
وقال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى نزلت في طعمة بن الأبرق أيضا وذلك إنه لما نزل القرآن فيه وعلم قومه إنه ظالم وخاف هو على نفسه من القطع والفضيحة، هرب إلى مكة فأنزل الله فيه وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالف (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي التوحيد بحدوده وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يقول غير دين المؤمنين دين أهل مكة عبادة الأوثان نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى نكله وما أدخره إلى ما تولى في الدنيا وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً فلم ينته طعمة ولم يراجع وتعمد فأدلج على الرجل من بني سليم من أهل مكة فقال له الحجاج: كف أخلاط فنقب بيته فسقط عليه حجر من البيت فتسبب فيه فلم يستطع أن يدخل فقال رجّحني بمعنى أصبح فأخذ [يتفل] «3» ، فقال بعضهم: دعوه فإنه لجأ إليكم، فتركوه وأخرجوه من مكة فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام فرد فرارا منهم فسرق بعض بضاعتهم وهرب فطلبوه وأخذوه فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فصار قبره تلك الأحجار ويقال انه ركب البحر إلى جدّة فسرق من السفينة كيسا فيه
__________
(1) الصحاح: 1/ 396.
(2) لسان العرب: 3/ 126، والأواري جمع آري وهو مربط الدابة، واللاي: الجهد، والنؤي: حفرة.
(3) كذا في المخطوط.(3/385)
دنانير فأمسكوا به فأخذ وألقي في البحر، ويقال إنه نزل في حرة بني سليم وكان يعبد صنما لهم إلى إن مات، فأنزل الله فيه إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فنزل فيه وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «1» الآية.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ: نزلت هذه الآية في نفر من قريش، قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة ودخلوا في الإسلام، فأعطاهم رسول الله ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين ورجعوا إلى عبادة الأوثان، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يفارق الرسول، ويعاديه ويحاربه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى يعني من بعد ما وضح له إن محمد عبده ورسوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير طريق المسلمين نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نكله إلى الأصنام يوم القيامة، وهي لا تملك ضرا ولا نفعا ولا ينجيهم من عذاب الله وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ بعبادة الأصنام.
وَساءَتْ مَصِيراً يعني بئس المنزل حلوا به يوم القيامة.
الضحاك عن ابن عباس: قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ قال: إن شيخا من الاعراب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا نبي الله أني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلّا إني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته، وآمنت به ولم اتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له ولا توهمت طرفة عين، إني أعجز الله هربا وإني لنادم تائب مستغفر فما حالي عند الله؟ فأنزل الله عز وجل إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ والشرك ذنب لا يغفر لمن مات عليه وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً يعني فقد ذهب عن الطريق وحرم الخير كله.
واعلم أن في قوله تعالى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ دليل على قوة حجة الإجماع وفي قوله:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ دليل على فساد قول الخوارج حين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر وذلك قوله عز وجل قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ففرّق بين الشرك وسائر الذنوب وحتم على نفسه بأن لا يغفر الشرك.
لو كان الكبيرة كفرا لكان قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ مستوعبا فلما فرّق بين الشرك وسائر الذنوب بان فساد قولهم، وقد بيّن الله تعالى بأنه الشرك في آخر القصة وهو قوله إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وقد علم أن صاحب الكبيرة غير مستحل لها فلم يجز أن يكون حكمه حكم الكافر، وفيه دليل على فساد قول المعتزلة في المنزلة [بين الشرك والإيمان] إذ الله تعالى لم يجعل بين الشرك والإيمان منزلة ولم يجعل الذنوب ضدا للإيمان.
__________
(1) سورة المائدة: 38.(3/386)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
وكان فيه فساد قول من جعل الكبيرة الكفر، وفيه دليل على فساد قول المرجئة حين قالوا:
إن المؤمن لا يعذّب، وإن كان مرتكبا للذنوب. لأن الله أخرج المشرك من المشيئة وجعل الحكم فيه حتما، فلو لم يجز تعذيب المؤمن المذنب لأخرجه من باب الاستثناء وأطلق الحكم فيه كما [علّقه] في الشرك، وفيه دليل على فساد قول الوعيدية وقد ذكرناه من قبل.
ثم نزلت في أهل مكة إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً كقوله تعالى وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «1» أي اعبدوني أستجب، لكم يدلّ عليه قوله بعده إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
من دونه، أي من دون الله وكان في كل واحدة فيهن شيطان يتراءى للسدنة والكهنة يكلمهم فذلك قوله وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً «2» وكان المشركون يدعون أصنامهم باسمها وكان هذا قول مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين.
ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن عباس: إن يدعون من دونه إلّا أوثانا جمع الوثن فصيّر الواو همزة كقوله أقب ووقب.
وأصله وثن وقرئت أنثا على جمع الإناث كمثل مثال ومثل وثمار وثمر. قال الحسن وقتادة وأبو عبيدة: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً يعني أمواتا لا روح فيه خشبة وحجر ومدر ونحوها.
وذلك إن الموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث يقول من ذلك الأصنام متعجبين، ف إِنْ يَدْعُونَ وما تعبدون إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً والمريد المارد فقيل: بمعنى فاعل. نحو قدير وقادر وهو الشديد العاتي الخارج من الطاعة. يقال: مرد الرجل يمرد مرودا ومراده إذا عتى وخرج من الطاعة وأصل المريد من قول العرب: حدثنا ممرد أي مملس.
ويقال: شجرة مردا إذا يتناثر ورقها، ولذلك سمي من لم تنبت لحيته أمرد، أي أملس موضع اللحية.
فالمراد: الخارج من الطاعة المتملّص منها.
[سورة النساء (4) : الآيات 118 الى 126]
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
__________
(1) سورة غافر: 60.
(2) سورة النساء: 117.(3/387)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ يعني إبليس لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً يعني حظا معلوما فما أطاع فيه إبليس فهو مفروضة. قال الفراء ما جعل عليه سبيل، وهو كالمفروض، في بعض التفسير وكل ألف الله عز وجل وسائرهم لإبليس.
وأصل الفرض في اللغة القطع ومنه الفرضة في النهر وهي الثلمة تكون فيه «1» يقال معناها بالفراض والفرض، والفرض الجز الذي يكون في الشباك يشد فيه الخيط، والفريض في القوس الجز الذي يشد فيه الوتر، والفريضة في سائر ما افترض الله عز وجل. ما أمر به العباد وجعله أمرا حتما عليهم قاطعا وقوله وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً «2» يعني لهن قطعة من المال.
وقد فرضت للرجل أي جعلت له قطعة من المال.
قول الشاعر:
إذ أكلت سمكا وفرضا ... ذهبت طولا وذهبت عرضا «3»
فالفرض هاهنا التمر، وقد سمي التمر فرضا لأنه يؤخذ في فرائض الصدقة.
ثم قال إبليس وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [بمعنى هؤلاء] «4» وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أنّه لا جنة، ولا نار، ولا بعث.
وقال بعضهم: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أي ألقي في قلوبهم [الهيمنة] وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي يقطعونها ويشقونها وهي البحيرة وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ. قال ابن عباس عن الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير: يعني دين الله نظير قوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لدين الله.
وقال عكرمة وقوم من المفسرين: معناه: فلنغيرنّ خلق الله [بالخضاب] والوشم وقطع الآذان وفقء العيون.
__________
(1) راجع لسان العرب: 7/ 206. [.....]
(2) سورة البقرة: 237.
(3) الصحاح: 3/ 1097 لفظة: الفرض.
(4) كذا في المخطوط ولعله: ولأوهمنهم، كما في معاني القرآن للنحاس: 2/ 193.(3/388)
قال أهل المعاني: معنى قوله (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) إن الله خلق الانعام لتركبوها وتأكلوها فحرموها على أنفسهم، وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون فغيروا خلق الله وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا أي ربّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فيطيعوه فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً يَعِدُهُمْ إلا يلقون خيرا وَيُمَنِّيهِمْ الفقر ألّا ينفقون في خير ولا يصلون رحما، فقال يُمَنِّيهِمْ ان لا بعث ولا جنة ولا نار وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي باطلا أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ يعني مصيرهم جهنم وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أي منعا قال عوف:
بلغني من المؤمن بكيده من الشيطان بأكثر من مضر لو أبدلهم الله له لمات، وإن قيل خبرونا عن قول إبليس لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً «1» كيف علم ذلك؟
يقال: قد قيل في هذا أجوبة، منها: إن قالوا إنّ الله تبارك وتعالى كان خاطبه بقوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «2» فعلم إبليس انه ينال من ذرية آدم ما يتمناه.
ومنها: ان قالوا إنه لما وسوس لآدم نال منه ما نال، طمع في ولده ولم ينل من آدم جميع ما يتمناه من الغواية فكذلك طمع في بعض ولده وأيس من جميعهم.
ومنها ان قالوا ان إبليس قد عاين الجنة والنار وعلم ان الله خلقهما لأن يسكنهما من الناس والشيطان، فعلى هذا التأويل قال لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً «3» وإن قيل:
لخبرونا عن إضلال الشيطان هل إليه نجح فعله وإنفاذ أمره أم لا؟
يقال له: معنى إضلاله الدعاء إلى الضلالة والتزين له ولو كانت الضلالة إليه لأضل الخلق جميعا ولذلك منّ به أباهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت الغرف والمساكن خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي وهذا لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ.
قال قتادة والضحاك: إن المسلمين وأهل الكتاب تناظروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابكم، ونحن أولى بالله منكم، فقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا [يفي] على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله تعالى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ الآية.
وقال مجاهد: قالت قريش: لا نبعث ولا نحاسب.
وقال أهل الكتاب لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «4» فأنزل الله لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ.
__________
(1) سورة النساء: 118.
(2) سورة هود: 119.
(3) سورة النساء: 118.
(4) سورة البقرة: 80.(3/389)
واسم ليس مضمر المعنى لَيْسَ ثواب الله بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ لا ينفعه يمينه وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لمّا نزلت هذه الآية شقّت على المسلمين مشقّة شديدة، وقالوا: يا رسول الله وأيّنا لم يعمل سوءا غيرك وكيف الجزاء؟ فقال: «منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات، ومن يجازي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات، فويل لمن غلب إحداه عشراه.
وأما ما كان جزاءه في الآخرة فإنه يؤخر إلى يوم القيامة فيقابل بين حسناته وسيئاته، وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة، فيعطى كل ذي عمل فضله» «1» [383] .
وروى إسماعيل عن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير عن أبي بكر الصديق قال: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أية آية؟» فقال يقول الله لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال: ما علمنا جزينا فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«قد هلك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تغب ألست يصبك القرف» قال: بلى، قال: «فهو ما يجزون به» «2» [384] .
وعن عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية في سورة النساء مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا بكر ألا اقرئك آية نزلت عليّ؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال: «فاقرأنيها فلا أعلم أني وجدت انفصاما في ظهري حتى تمطّيت لها» فقال: «مالك يا أبا بكر» .
فقلت: بأبي أنت وأمّي، وأينا لم يعمل سوءا وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون ذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب» .
وأما الآخرون فتجمع ذنوبهم حتى يجزوا يوم القيامة «3» [385] .
وقال عطاء: لما نزلت لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. [قال أبو بكر: يا رسول الله ما أشدّ هذه الآية! قال: «يا أبا بكر إنّك تمرض، وإنّك تحزن، وإنك يصيبك أذى، فذاك بذاك» ، وقال عطاء] :
__________
(1) عون المعبود: 8/ 247.
(2) مسند أحمد: 1/ 11 بتفاوت.
(3) تفسير ابن كثير: 1/ 571 والدرّ المنثور: 2/ 226.(3/390)
قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر يا رسول الله، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما هي المصيبات في الدنيا» «1» [386] .
وروى عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قلت: إني لأعلم أي آية من كتاب الله نزلت ببعض مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ. قال: إن المؤمن يجازى بأسوإ عمله في الدنيا ثم ذكر أشياء منه المرض والنصب وكان آخرون يذكر نصبه إليك كله كل يجازي بعمله، يا عائشة ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا يعذب قالت: فقلت: أليس يقول الله تعالى فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال: ما ذلك [العرض] إنه من نوقش في العذاب عذب فقال بيده: على المصيبة كان ينكث.
وروى ابن ميثم بن يزيد عن عبد الله بن الأرقم قال عن أبي هريرة يقول: لما نزلت لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ بكينا وحزنّا وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية من شيء، قال: «أما المذنب فمن يده إنها لكم أنزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسدّدوا إلّا أنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلّا كفّر الله به خطيئة حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه» «2» [387] .
وقال الحسن: في قوله تعالى مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال: هو الكافر، لا يجزي الله المؤمن يوم القيامة، ولكن المؤمن يجزى بأحسن عمله ويتجاوز عن سيئاته. ثم قرأ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ «3» الآية، وقرأ أيضا، وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ «4» .
قال الثعلبي: وقلت: لولا السيئة لأتي [الجزاء] في الكفار. لقوله في سياق الآية وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ومن لم يكن له في القيامة نصير ولا ولي كان كافرا فإن الله عز وجل قد ضمن بنصرة المؤمنين في الدارين بقوله إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا «5» الآية.
ولكن الخطاب متى ورد مجملا وبيّن الرسول [ذلك على] لسانه إذ البيان إليه قال الله تعالى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ وأنزل إليهم ثم بين الله تعالى فضل المؤمنين على مخالفيهم فقال وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً الآية يعني تكون في ظهر النواة.
عن مسروق قال: لما نزلت هذه الآية لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
__________
(1) تفسير الطبري: 5/ 400 وما بين معكوفين منه.
(2) تفسير الدرّ المنثور: 2/ 227.
(3) سورة الزمر: 35.
(4) سورة سبأ: 17. [.....]
(5) سورة غافر: 51.(3/391)
قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء حتى نزلت وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ونزل فيهم أيضا وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً [قد علم ربّنا] مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: يعني أخلص لله عمله، وقيل: فوّض أمره إلى الله، وقيل: مفلح وَهُوَ مُحْسِنٌ أي موحد وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعني دين إبراهيم حَنِيفاً مسلما مخلصا.
قال ابن عباس: ومن دين إبراهيم الكعبة والصلاة ويطوفون بها وحولها والسعي بين الصفا والمروة ورمى الجمرات وحلق الرأس والموقفان، وسائر المناسك فمن صلّى نحو القبلة وأقرّ بهذه الصفة فقد اتبع ابراهيم (عليه السلام) وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، في قوله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا صفيا وخليلا من [قولهم] : أبا الضيفان يضيف من مرّ به من الناس، وكان منزله على ظهر الطريق، فأصاب الناس سنة وجهدوا عنها واجتمعوا على باب داره يطلبون الطعام، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى ذلك الخليل فسأله الميرة. قال خليله لغلمانه:
لو كان إبراهيم إنّما يريده لنفسه احتملنا ذلك له فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة، فرجع رسل إبراهيم إليه فمروا بالبطحاء يعني السهلة، فقالوا: لو انا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس إنا قد جئنا بميرة، إنا نستحي أن نمر بهم وإبلنا فارغة، قال: فملأوا تلك الغرائر سهلة ثم إبراهيم (عليه السلام) وساره نائمة، فأعلموا ذلك، واهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه، فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة، وقد ارتفع النهار، فقالت: سبحان الله ما جاء الغلمان فقالوا لها:
بلى قالت: فما جاءوا بشيء، قالوا: بلى، فقامت إلى تلك الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود حواري يكون فأمرت الخبازين فخبزوا وطعموا، قال: فلمّا استيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام، فقال:
يا سارة من أين هذا الطعام؟ قالت: من عند خليلك المصري؟
قال: هذا من عند خليلي الله، لا من عند خليلي المصري. قال: فيومئذ اتخذه الله خليلا مصافيا «1» .
وقال الزجاج: الخليل الذي ليس في محبته خلل فجائز أن يكون سمي خليل الله بانه الذي أحبه واصطفاه بالجنة تامة.
وجائز أن يسمّى خليل الله أي فقير إلى الله لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلّا إلى الله مخلصا في ذلك.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 122.(3/392)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
قال الله أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ لإن معنى الخليل في اللغة. قد قيل: هو الفقير.
قال زهير يمدح حرم بن سنان:
فإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
والخلة: الصداقة، والخلة: [الحاجة] ، فإذا جعلنا اشتقاق الخليل من الخلة فهو الإخلال الذي يلحق الإنسان فيما يحتاج إليه، وإن جعلنا من الخلة فهو أصل الصداقة ومعناهما جميعا واحد لأن كل واحد منهما يسد خلل صاحبه في المودة والحاجة إليه.
والخلل: كل فرجة يقع في شيء، والخلال الذي يتخلل به، وإنما سمي خلالا لأنه منع به الخلل من الأسنان، والخل: الطريق في الرمل، معناه إنه انفرجت فيه فرجة، فصارت طريقا في الأرض والخلّ الذي يؤكل إنما سمي خلا لأنه أخل منه طعم الحلاوة وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أي لبساطة عمله لجميع الأشياء.
[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في بنات أم كحه وميراثهن من أمّهن، وقد مضت هذه القصة في أول السورة.
معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: كان الرجل بالجاهلية يكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا، فإن كانت جميلة وهواها تزوجها وأكل مالها وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرّم الله تعالى ذلك ونهى عنه وأنزل هذه الآية.
مجاهد والضحاك وقتادة وإبراهيم: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان شيئا، وكانت المرأة تكون دميمة في الجاهلية، دميمة ولها مال فيكره وليّها أن يتزوجها من أجل دمامتها، ويكره أن يزوّجها غيره من أجل مالها، وكان وليّها لا يتزوجها ويحبسها عنده حتى تموت، ويرثها.(3/393)
سعيد بن جبير: كان وليّ اليتيمة إذا كانت ذات مال وجمال، رغب فيها ونكحها واستأثر بها، وإذا لم تكن ذات مال ولا جمال لم ينكحها ولم ينكّحها فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وعن عبد الله بن عبيدة قال: جاءت امرأة من الأنصار يقال لها خولة بنت حكيم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول إن أخي توفّي وترك بنات وليس عندهن من الحسن ما يرغب فيهن الرجال ولا يقسم لهن من ميراث أبيهنّ شيئا فنزلت فيها. وَيَسْتَفْتُونَكَ
أي يستخبرونك فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ يخبركم فِيهِنَّ وَما يُتْلى أي والذي يقرأ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أي في القرآن، وموضع ما رفع معناه قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ ويفتيكم أيضا فيهن، ويجوز أن يكون في موضع الخفض، فيكون معناه قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى بينكم، وهو بعيد لأن الظاهر لا يعطف على المضمر، وجه الرفع أبين لأن ما يتلى في الكتاب ويتلى بين ما سألوه عنه معنى، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ في كتابه يفتيكم فيهن وهو قوله وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ الآية وقوله فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ أي لا تعطونهن ما كُتِبَ لَهُنَّ يعني فرض لهن من الميراث وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي وترغبون عن نكاحهن لملكهن، وقيل: ترغبون في نكاحهن لمالهن وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ يعني الصغار من الصبيان وهو في موضع الخفض والمعنى: قل الله يفتيكم فيهن والمستضعفين وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ أي بالعدل وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً.
وروى شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب إنّ آخر آية كانت (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) وآخر سورة براءة وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً
نزلت في عمرة ويقال خويلة بنت محمد بن سلمة في زوجها رافع بن الرفيع ويقال رافع بن خديج تزوجها وهي شابة فلمّا أدبرت وعلاها يعني تزوج عليها امرأة شابة وآثر عليها وحفا ابنه محمد بن سلمة وأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشكت إليه، فنزلت فيها هذه الآية
هذا قول: الكلبي وجماعة المفسرين،
وقال سعيد بن جبير: كان رجل وله امرأة قد كبرت وكان له منها أولاد فأراد أن يطلقها، ويتزوج غيرها فقالت لا تطلقني ودعني أقوم على ولدي وأقسم لي في كل شهرين إن شئت أو أكثر وإن شئت فلا تقسم لي، فقال: إن كان يمنع ذلك فهو أحبّ إليّ، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر له ذلك، فقال: قد سمع الله ما تقول فإن شاء أجابك فأنزل الله عز وجل وَإِنِ (امْرَأَةٌ) خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً أي علمت من زوجها نشوزا يعني بغضا.
قال الكلبي: يعني ترك مجامعتها ومضاجعتها أو إعراضا عن مساكنتها، وعن مجالستها وعن محادثتها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني على الزوج والمرأة أَنْ يُصْلِحا أي يستصلحا بَيْنَهُما صُلْحاً أي في القسمة والنفقة وهو أن يقول لها: إنك امرأة دميمة وقد دخلت في العنّ وأريد أن أتزوج عليك امرأة شابّة جميلة، فيؤثرها في القسمة عليها لشبابها، فإن رضيت بهذا فأقيمي، وإن كرهت خلّيت سبيلك، فإن رضيت بذلك كانت هي المحسنة ولا يعسر عليّ ذلك،(3/394)
وإن لم ترض [أعطيت] حقّها، فالواجب على الزوج أن يوفّيها حقّها من المقام والنفقة أو يسرّحها بإحسان ولا يحبسها على الخسف «1» ، وإن يقام عليها وفّاها حقّها مع كراهيته صحبتها، فهو المحسن الذي مدحه الله وأخبره انه عالم بصنيعه ومجازيه على فعله ولا يجبر الرجل على وطء واحدة لأنه هو الزوج وهو حظه وإذا تركه لم يجبر عليه وليس هو كالمقام والنفقة.
وقوله وَالصُّلْحُ خَيْرٌ يعني إقامتها بعد تخييره إياها ومصالحتها على شيء معلوم في المقام والنفقة،
وهكذا فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع زوجته ومكثت معه وذلك أنها كانت امرأة كبيرة فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يسرحها فطلبت إليه أن لا يفعل وقالت: إنّي أحبّ أن أبعث في نسائك يوم القيامة، ألا فإنّ يومي وليلتي لعائشة «2» .
وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : في قوله وَالصُّلْحُ خَيْرٌ قال: المرأة تكون عند الرجل فتكون صغيرة أو كبيرة أو لا يحبّها زوجها، فيصطلحان على صلح.
وقال سعيد بن جبير: فهو أن يتراضيا على شيء معلوم في نفسه وماله.
قال الضحاك: الصلح أن ينقصها من حقها إذا تزوج أشبّ منها وأعجب إليه «3» .
وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية: فهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوّج عليها الشابة، فيقول للمرأة الكبيرة: أعطيك من زماني نصيبا على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار وترضى الأخرى بما اصطلحا عليه فإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما على القسمة.
وروى إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن سليمان بن يسار عن ابن عباس: في قوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ «4» . قال: المرأة الكبيرة الدميمة تكون عند الرجل يريد طلاقها والاستبدال بها [فصالحها] هذه على بعض حقها من القسمة والنفقة، فذلك جائز بعد ما رضيت، فإن أنكرت بعد الصلح، فذلك لها، ولها حقّها، أمسك أو طلق.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هي المرأة تكون عند الرجل وله امرأة غيرها أحبّ إليه منها فيؤثرها عليها، فأمر الله تعالى إذا كان ذلك أن يقول لها: يا هذه إن شئت أن تقيمي على ما ترين من هذه فآويك وأنفق عليك فأقيمي، وأن كرهت خليت سبيلك، فإن هي رضيت أن تقيم بعد ان خيّرها فلا جناح عليه وهو قوله (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) وهو التخيير.
__________
(1) تفسير الطبري: 5/ 417.
(2) إرواء الغليل: 7/ 147.
(3) راجع تفسير القرطبي: 5/ 404.
(4) سورة النساء: 128.(3/395)
وروى إسرائيل عن سماك بن حرب عن خلد بن عرعرة قال: سأل رجل عليا عن قوله عز وجل وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً الآية قال: تكون المرأة عند الرجل فتنبو عينه عنها من دمامة أو كبر فتفتدي منه تكره فرقته، وإن أعطته من ماله فهو حل له أو أعطته من أثاثها فهو حل له وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ يقول: شحت المرأة نصيبها من زوجها وشح الرجل نصيبه من الأخرى.
قال ابن عباس: والشح هو في الشيء يحرص عليه وَإِنْ تُحْسِنُوا يعني تصلحوا بينهما بالسوية وَتَتَّقُوا الجور والميل.
وقيل: هذا الخطاب للزوج يعني: وَإِنْ تُحْسِنُوا بالإقامة عليها، مع كراهتكم لصحبتهما وَتَتَّقُوا ظلمها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيخبركم بأعمالكم.
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ يقول: لن تقدروا ان تسوّوا بينهن في الحب وَلَوْ حَرَصْتُمْ على العدل فَلا تَمِيلُوا إلى الشابة الجميلة التي تحبّونها كُلَّ الْمَيْلِ في النفقة والقسمة والإقبال عليها (وتدّعوا الأخرى كَالْمُعَلَّقَةِ) أي كالمنوطة لا أيمّا ولا ذات متاع.
قتادة والكلبي: كَالْمُعَلَّقَةِ كالمحبوسة وهي في امرأة أبيّ بن كعب كأنها مسجونة.
وقال مجاهد: لن تستطيعوا العدل بينهن فلا يتعمدوا [ذلك] .
وذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: اللهم أما قلبي فلا أملك وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل.
وَإِنْ تُصْلِحُوا بالعدل في القسمة بينهن وَتَتَّقُوا الجور فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً بما قلت إلى التي تحبّها بقلبك بعد العدل في القسمة وَإِنْ يَتَفَرَّقا يعني عن المرأة بالطلاق يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ أي من النفقة يعني المرأة بزوج والزوج بامرأة. وَكانَ اللَّهُ واسِعاً لهما في النكاح حَكِيماً يمكن للزوج إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان.
حكم الآية
علم أن الله عز وجل الرأفة بالعباد وعلمه بأحوالهم فنبّههم على نحو وجب عليهم من حقوق النساء ونهاهم عن الميل في أفعالهم إذا لم يكن لهم سبيل إلى التسوية بينهن في المحبة ومتى جمع العبد من الفعل لمال عنه إلى واحدة بعينها دون غيرها كان ذلك جورا،
وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقسم ويقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك وليس أحكم [فيما لا يملك] » [388] «1» .
__________
(1) تفسير الطبري: 5/ 424 وفيه: فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.(3/396)
يعني به قلبه، وكان يطوف به على نسائه في مرضه حتى حلّلته [نساءه] «1» فأقام عند عائشة
، وعماد القسم الليل، لأنه يسكن فيه قال الله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ «2» فمتى كان عند الرجل حرائر مسلمات وذمّيات فهو في القسم سواء ويقسم للحرّة ليلتين، وللأمة ليلة إذا خلى المولى بينه وبينها في ليلتها ويومها، وللأمة أن تحلله من قسمها دون المولى لأنه حقها في خاصة نفسها ولا يجامع المرأة في غير يومها، ولا لرجل أن يدخل في الليل على التي لم يقسم لها، ولا بأس أن يدخل عليها بالنهار في حاجة ويعودها في مرضها في ليلة غيرها، فإن ثقلت فلا بأس أن يقيم حتى تخف أو تموت ثمّ يوفي من بقي من نسائه مثل ما بقي عندها، وإن أراد أن يقسم بين ليلتين ليلتين أو ثلاثا كان له ذلك «3» .
ذكر استدلال من استدل من هذه الآية على تكليف ما لا يطاق
قالوا: قال الله عز وجل وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فأمرهم الله عز وجل أن يعدلوا، وأخبر أنهم لا يستطيعون أن يعدلوا فقد أمرهم بما لا يستطيعون وكلفهم مالا يطيقون.
إن قال قائل: هل كلف الله الكفار ما لا يطيقون؟ قيل له: إن أردت أنه كلفهم ما لا يطيقون لعجز حائل وآفة مانعة، فلا، لأنه قد صحح أبدانهم وأكمل نطقهم وأوجدهم [في الأرض] «4» ودفع عنهم العلل والآفات، وإن أردت أنه كلّفهم ما لا يقدرون عليه بتركهم له واشتغالهم بضدّه، فقد كلفهم ذلك.
فإن قالوا: أفيقدر الكافر لا يتشاغل للكفر؟ قيل لهم: إن معنى لا يتشاغل بالكفر هو أن تؤمن فكأنكم قلتم: يقدر ان يؤمن وهو مقيم على كفره فقد قلنا إنه مادام مشغولا بكفر ليس بقادر على الإيمان على ما جوزت اللغة من أن الإنسان قادر على الفعل بمعنى أنه إن لم يفرط فأثر فيه- كما قالوا- فلان يقدر على رجل يعني يقدر عليه لو رامه وقصد إلى حمله، نضير قولهم: فلان يفهم أي إنه يفهم الشيء، إذا أورد عليه، وكذلك يقولون: الطعام مشبع، والماء مروي، ويعني في ذلك أن الطعام يشبع إذا أكل.
والماء يروي إذا شرب.
والذي يوضح ذلك ما يتداوله الناس بينهم من قول الرجل: قم معي في حال كذا،
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) سورة الأنعام: 13.
(3) راجع مختصر المزني: 185.
(4) كذا الظاهر.(3/397)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
والجواب: لا أقدر على المجيء معك لما أنا فيه من الشغل، وقد قال الله تعالى ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ «1» يعني القبول لاستثقالهم إيّاه، ومن المشتبه من [قال:] وهل يقدر الكافر على الإيمان؟ يقول: إن اراده كان قادرا عليه، فإذا قال له: فيقدر أن يريده؟ قال: إن كره الكفر، وإذا قيل له: هل يقدر على الكفر؟ قال: يقدر على ذلك إن أراد الإيمان، فكلّما كرّر عليه السؤال كرّر هذا الجواب.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لها مالكا.
[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 135]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني أهل التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة على الإسلام وَإِيَّاكُمْ يا أهل القرآن في كتابكم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي وحّدوا الله وأطيعوه ولا تشركوا به شيئا وَإِنْ تَكْفُرُوا بما أوصاكم الله به فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعنى فإن لله ملائكة هم أطوع له منكم وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا عن جميع خلقه غير محتاج إلى شيء ممّا في أيديهم.
وحقيقية الغنيّ عند أصحاب الصفات من له غنى.
والغنى هو القدرة على ما يريد، والغنيّ القادر على ما يريد، ثم ينظر فإن كان قادرا على [وصف] الحاجة عليه وسمناه بذلك، وإن كان الوصف بالحاجة عليه لم يصفه به، والفقر العجز عن ذلك وعدمه. وإلى هذا ذهب [المعتزلة] .
وقال الجبائي: إن معنى الوصف لله بأنه غني هو أنّه لا تصل إليه المنافع والمضار، ولا يجوز عليه اللذات والسرور والآلام، والأول أصوب بذلك في الشاهد والغائب، وإطلاق المسلمين بعضهم لبعض إنه غني وفقير، والله اعلم.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
__________
(1) سورة هود: 20.(3/398)
الضحاك عن ابن عباس: يعني دافعا مجيرا.
عكرمة عن ابن عباس: يعني شهيدا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فيميتكم يعني الكفار وَيَأْتِ بِآخَرِينَ يعنى بغيركم خيرا منكم وأطوع وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً أي مستطيعا على ذلك.
القادر والقدير عند أصحاب الصفات من له قدرة قائمة به بائن بها عن العاجز ثم يختلف القادرون بعد ذلك فمنهم من تكون قدرته حالّة في بعضه، ومنهم من تكون قدرته غير موصوفة بالحلول، والقدرة هي التي يكون بها الفعل من غير ان يموت بموته ولا يموت ويعود للعجز معها.
قالت المعتزلة: القادر هو الذي يجوز منه الفعل، والدليل على صحة ما قال أصحاب الصفات إن القادر رأيناه مخالفا للمعاجز فيما قدر عليه وقد بطل أن يخالفه من أجل إنه صفة لموصوف يخالف سائر الموصوفين بها أو يخالف من أجل إنه محدث به خلاف العاجز فلما يتعلق هذه الأقسام صح إنه إنما يخالفه لأن له قدرة ليست للعاجز فلذلك قلنا إن القديم جل جلاله قادر بقدرة دون أن يكون قادر بنفسه.
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.
يقول: من كان يريد بعمله الذي فرضه الله [بقدرته] عرضا من الدنيا ولا يريد به الله أثابه الله عليه ما أحب الله من عرض الدنيا أو دفع عنه فيها ما أحب الله، وليس له في الآخرة من ثواب لأنه عمل لغير الله، ومن أراد بعمله الذي افترضه الله عز وجل عليه في الدنيا ثواب الآخرة أثابه الله عليه من عرض الدنيا ما أحب الله ودفع عنه ما أحب الله وجزاه في الآخرة الجنة بعمله.
وروى سليمان بن عمرو عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نيّة المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته، وكل يعمل على نيته، وليس من مؤمن يعمل عملا إلّا صار في قلبه صورتان» «1» [389] .
فإن كانت الأولى لله فلا يهده الآخرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ الآية يعني كونوا قوامين بالشهادة ويعني بالقسط العدل.
قال ابن عباس: معناه: كونوا قوّامين بالعدل في الشهادة على من كانت وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ في الرحم فأقيموها عليهم لله تعالى، ولا تحابوا غنيا لغناه، ولا ترحموا
__________
(1) مجمع الزوائد: 1/ 61 وكنز العمّال: 3/ 419 ح 7237 باختلاف في المقطع الأخير.(3/399)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
فقيرا لفقره فذلك قوله تعالى إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما منكم فهو يتولى ذلك منهم فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا يعني أن تتركوا الحق وتتبرأوا.
قال الفراء: ويقال معناه: لا تتبعوا الذنوب لتعدلوا كما يقال: لا تتبعن هواك ليرضى عنك أي أنهاك عن هذا كيما يرضى ربّك.
ويقال: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى فرارا من إقامة الشهادة وَإِنْ تَلْوُوا باللسان فتحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق أَوْ تُعْرِضُوا عنها فتكتمونها ولا تقيمونها عند الحكام فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من إقامتها وكتمانها خَبِيراً ويقال: معناه: وَإِنْ تَلْوُوا أي تدافعوا في إقامة الشهادة، يقال:
لويت حقّه أي دافعته وبطلته.
وقال ابن عباس: هذه الآية في [القاضي] وليّه شدقه وإعراضه عن أحد الخصمين.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند نزول هذه الآية: «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فليقم شهادته على ما كانت، ومَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فلا يجحد حقّا هو عليه، وليؤدّه عفوا، ولا يلجئه إلى سلطان [ليأخذ] «1» بها حقه، وأما رجل خاصم إليّ فقضيت له إلى أخيه بحق ليس هو له عليه، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من جهنم» «2» [390] .
مسألة في اللغة
قال أهل المعاني: معنى القسط العدل، يقال أقسط الرجل يقسط إقساطا إذا عدل وقسط يقسط قسوطا إذ جار.
قال الله تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ «3» وقال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً.
ويقال: قسط البعير يقسط قسطا إذا يبست يده، ويد قسطا أي يابسة، فكان أقسط معناه أقام الشيء على حقيقته في العدل، وكان معنى قسط أي [خيار] أي يبس الشيء وأفسد جهته المستقيمة.
[سورة النساء (4) : الآيات 136 الى 141]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
__________
(1) المخطوط مشوش ولم نجده في المصادر وما أثبتناه استظهارا منا. [.....]
(2) المعجم الكبير: 23/ 382 باختصار.
(3) سورة الحجرات: 9.(3/400)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس بن كعب وسلام ابن اخت عبد الله بن سلام، وسلامة بن أخيه ويامين ابن يامين، فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب. أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك، وبموسى والتوراة، وعزيز ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«بل آمنوا بالله ورسوله محمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله» «1» [391] فقالوا: لا نفعل، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ يعني القرآن وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ يعني الكتب المتقدمة التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المتقدمة وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ إلى قوله ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً يعني خطأ خطأ بعيدا، فلما نزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول الله فإنّا نؤمن بالله ورسوله وبالقرآن وبكلّ رسول وكتاب كان قبل القرآن والملائكة واليوم الآخر لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كما فعلت اليهود والنصارى، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فدخلوا في الإسلام.
وقال الضحاك: هي في اليهود والنصارى، ومعنى الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمَنُوا بمحمد والقرآن.
وقيل: إنه ورد في اليهود خاصة، والمعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في وجه النهار آمَنُوا في آخر النهار، وذلك قوله تعالى وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ الآية.
وقال [أبو العالية] وجمع من المفسرين: هذه الآية خطاب للمؤمنين وتأويله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا أي أقيموا واثبتوا على الإيمان، وكقوله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) أي اثبت على ما أنت عليه وكقوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ «2»
__________
(1) الدرّ المنثور: 234.
(2) سورة المائدة: 9.(3/401)
ومعناه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم الذين هم في هذه القصة مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً، ويقال في الكلام للقائم: قم، وللقاعد: أقعد، والمراد منه الاستدامة.
ويقال: أنها خطاب للمنافقين الذين أصروا التكذيب ومعناها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الملأ آمَنُوا في الخلاء، وقال آخرون: المراد منه الكفار يعني: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللات والعزى والطاغوت آمِنُوا بِاللَّهِ، ومعناه: إن كان لا بد للإيمان يعني فالإيمان بالله تعالى ورسله والكتب أحق وأولى من الإيمان بما لا يضر ولا ينفع ولا ينفق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت، والله أعلم.
ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بموسى ثُمَّ كَفَرُوا بموسى ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا بعد عزير بالمسيح وكفرت النصارى بما جاء به موسى وآمنوا بعيسى بن مريم ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بمحمد وبما جاء به.
قتادة: هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثُمَّ كَفَرُوا وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت وكفرهم هو [تكذيبهم] إياه، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم وقال مجاهد: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أي ماتوا عليه لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ ما أقاموا على ذلك وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا سبيل هدى.
وقال ابن عباس: يدخل في هذه الآية كل منافق كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال نحو ذكر ما في هذه الآية من الكلام على أهل القدر.
يقال لأهل القدر: خبرونا عن الكفار هل هداهم الله عز وجل إلى الإسلام؟ فإن قالوا:
نعم. قيل كيف يجوز أن يقال إن الله هداهم وقد قال الله تعالى وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا؟ قيل:
ومعناه إنه لا يهديهم إلى طريق الجنة يقال لهم كيف يهديه إلى طريق الجنة وقد هداه عندك لأن من أصلك إن العبد إنما يدخل الجنة فمعناه أنه يدخل الجنّة لفعله ويدخل النار بفعله، وقد هداه إلى طريق الجنة بهدايته إلى الإسلام فكيف يصح هذا التأويل على أصلك؟
واعلم أنهم إذا ألزمهم الشيء، فقالوا في التأويل، فإذا فحصت عن تأويلهم بان لك فساد قولهم.
واعلم إن الله عز وجل قد بيّن لك إنه لا يهديهم سبيلا ليعلم العبد إنما يقال هدي بالله عز وجل ويحرم الهدى بإراده الله عز وجل ثم لا يكون لهم عاذر بنفي الهدى عنهم، ولا مزيلا للحجة بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ نبّئهم يا محمّد بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
قال الزجاج: بَشِّرِ أي اجعل في موضع بشارتك لهم العذاب الأليم، والعرب تقول:
تحيتك الضرب، وعتابك السيف، أي تضع الضرب موضع التحية [والسيف موضع العتاب] «1» .
__________
(1) زيادة منّا لتمام المعنى.(3/402)
وقال الشاعر:
وخيل قد دلفت «1» لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجمع «2»
ثم وصف المنافقين فقال الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أنصارا وبطانة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ يعني الرفد والمعونة والظهور على محمّد وأصحابه.
وقال الزجاج: العزة يعني المنعة والشدة والغلبة مأخوذ من قولهم: أرض عزاز أي صلبة لا يفيد عليها شيء ويقال: استعز على المريض اشتد وجعه، وقولهم يعز عليّ أي يشتد، وقولهم إذا عز الشيء لم يوجد فتأويله قد اشتد وجود وصف إن وجد فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي القدرة لله جميعا وهو سيد الأرباب. ثم قال وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ يا معشر المسلمين بمكة فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بمحمد وأصحابه والقرآن.
وذلك إن المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود فيستهزءون بالقرآن ويكذبون به ويحرفونه عن مواضعه فنهى الله تعالى المسلمين عن مجالستهم ومخالطتهم، والذي نزل في الكتاب قوله تعالى وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ «3» الآية.
الضحاك عن ابن عباس: ودخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة.
الكلبي عن أبي صالح: صح هذا القول بقوله عز وجل وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك والاستهزاء مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى أي ذكروهم وعظوهم بالقرآن لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الاستهزاء بمحمّد والقرآن إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إذا قعدتم عندهم فأنتم إذا مثلهم إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أي ينتظرون بكم الدوائر يعني المنافقين فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ يعني النصر والغنيمة قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ على دينكم فأعطونا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ يعني دولة وظهورا على المسلمين قالُوا يعني المنافقين أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ألم نخبركم بعزيمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ونطلعكم على سرّهم.
وقال أهل اللغة: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ويغلب عليكم قال: استحوذ أي غلب.
وفي الحديث كان عمر أحوذنا أي غالب أمرنا في الحق.
وقال العجّاج:
يحوذهن وله حوذي. ... [كما يحوذ الفئة] الكميّ «4» .
__________
(1) دلفت: زحفت.
(2) لسان العرب: 5/ 264.
(3) سورة الأنعام: 68.
(4) الحوذ: السير الشديد، والحوز: السير برفق، والبيت في تصحيفات المحدثين للعسكري: 206.(3/403)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
الكميّ. أي يغلب عليها ويجمعها، ويروى بالزاي فيهما.
وقال النحويون: اسْتَحْوَذَ خرج على الأصل «1» ، فمن قال: حاذ يحوذ لم يقل إلّا استحاذ يستحذ وإن كان أحوذ يحوذ كما قال بعضهم: أحوذت [وأطّيبت] بمعنى أحذت وأطبت. قال اسْتَحْوَذَ استخرجه على الأصل وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ونمنعكم منازلة المؤمنين فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني بين أهل الإيمان وأهل النفاق ثم يفصل بينهم وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.
عكرمة والضحاك عن ابن عباس يعني حجة.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يعني أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم سَبِيلًا يعني ظهورا عليهم.
وقال علي (رضي الله عنه) : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ في الآخرة
، وفي هذه الآية دليل على أن المنافق ليس بمؤمن وليس الإيمان هو الإقرار فقط، إذ لو كان الإيمان هو الإقرار لكانوا بذلك هم مؤمنين.
وفيه دليل أيضا على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن القوم كانوا كاتمين اعتقادهم فأظهر الله عز وجل رسوله على اعتقادهم وكان ذلك حجة له عليهم إذ علموا إنه لا يطلع على ضمائر القلوب إلا البارئ جل وعز.
[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 147]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
قد مرّ تفسيره.
وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي يجازيهم جزاء خداعهم، وذلك أنهم على الصراط يعطون نورا كما يعطي المؤمنين، فإذا مضوا على الصراط [يسلبهم ذلك النور] ويبقى المؤمنون ينظرون بنورهم فينادون المؤمنين انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فيناديهم الملائكة على الصراط ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً «2» وقد علموا أنهم لا يستطيعون الرجوع [فيشفق] المؤمنون حينئذ من نورهم أن
__________
(1) راجع لسان العرب: 3/ 487.
(2) سورة الحديد: 13.(3/404)
يطفئ «1» فيقولون: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «2» وَإِذا قامُوا
يعني [تهيّأوا] إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
يعني متثاقلين، يعني لا يريدون بها [وجه] الله فإن رآهم أحد صلّوا وإلّا انصرفوا ولم يصلّوا يُراؤُنَ النَّاسَ
يعني المؤمنين بالصلاة وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
ابن عباس والحسن: إنما قال ذلك لأنهم يصلونها رياء وسمعة ولو كانوا يريدون بذلك وجه الله عز وجل لكان ذلك كثيرا.
قتادة: إنما قلّ ذكر المنافقين لأن الله عز وجل لم يقبله وكما ذكر الله قليل وكلما قبل الله كثير مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ أي مترددين متحيرين بين الكفر والإيمان لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ليسوا من المؤمنين فيجب لهم ما يجب للمسلمين، فليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار فلا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.
[القاسم بن طهمان] عن قتادة: ما هم بمؤمنين مخلصين ولا بمشركين مصرحين بالشرك وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي طريقا إلى الهدى.
وذكر لنا ان نبي الله صلّى الله عليه وسلّم كان يضرب مثلا للمؤمن والمنافق والكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر أن هلمّ إليّ فإني أخشى عليك وناداه المؤمن هلمّ إلي فأن عندي الهدى وكفى له ما عنده، فما زال المنافق يتردد منهما حتّى أتى على أذى فعرفه فإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك.
وروى عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّما مثل المنافق مثل الشاة العائرة من الغنمين يبدي إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا يدري أيهما يتبع» «3» [392] .
ثم ذكر المؤمنين ونهاهم عن الإتيان بما أتى المنافقون.
فقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً ثم ذكر منازل المنافقين فقال: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ يعني في أسفل برج من النار، والدرك والدرك لغتان مثل الطعن والطعن والنهر والنهر واليبس واليبس.
قال عبد الله بن مسعود: الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ توابيت مقفلة في النار تطبق عليهم وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [عونا] .
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير: 1/ 59.
(2) سورة التحريم: 8.
(3) تفسير مجمع البيان: 3/ 222 بتفاوت. [.....](3/405)
عن عوف عن أبي المغيرة القواس عن عبد الله بن عمر قال: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون «1» .
قال الثعلبي: وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى فأما أصحاب المائدة فقوله عز وجل فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «2» ، وأما آل فرعون فقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «3» ، وأما المنافقون فقوله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «4» .
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من النفاق وَأَصْلَحُوا عملهم وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي وثقوا بالله وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ على دينهم. قال الفراء: مَعَ الْمُؤْمِنِينَ تفسيره من المؤمنين. قال القتيبي: حاد عن كلامهم غيظا عليهم فقال (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ، ولم يقل فأولئك هم المؤمنون وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً وهي الجنة وإنما حذفت الياء من: يؤتي في الخط كما حذف في اللفظ لأن الياء سقطت من اللفظ لسكونها وسكون اللام في الله وكذلك قوله يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ «5» حذفت الياء في [الخط] لهذه العلة وكذلك سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «6» يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ «7» قالوا: والياء هذه حذفت لالتقاء الساكنين.
وأما قوله ما كُنَّا نَبْغِ «8» حذفت لأن الكسرة دلت على الياء فحذفت لثقل الياء، وقد قيل حذفت الياء من المناد والدّاع لأنك تقول: داع ومناد حذفت اللام بها كما حذفت قبل دخول الألف واللام.
وأما قوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ «9» فحذفت الياء لأنها ما بين آية ورؤس الآية يجوز فيها الحذف ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ نعماه وَآمَنْتُمْ به وفي الآية تقديم، وتأخير، تقديرها ما يفعل الله بعذابكم ان آمنتم وشكرتم لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان بالله والله تعالى عرف خلقه بفضله على ان تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه. وتركه عقوبتهم على أفعالهم، لا ينقص من سلطانه وَكانَ اللَّهُ شاكِراً للقليل من أعمالكم عَلِيماً بإضعافها لكم إلى عشرة إلى سبعمائة ضعف.
قال أهل اللغة: أصل الشكر إظهار النعمة والتحدث بها. قال الله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «10» وذكر بعض أهل اللغة إن الشكر مأخوذ من قول العرب لغة شكور إذا كان يظهر
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 182.
(2) سورة المائدة: 115.
(3) سورة غافر: 46.
(4) سورة النساء: 145.
(5) سورة ق: 41.
(6) سورة العلق: 18.
(7) سورة القمر: 6.
(8) سورة الكهف: 64.
(9) سورة الفجر: 4.
(10) سورة الضحى: 11.(3/406)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
سمنها على القليل من العلف فكان الله تعالى سمّى نفسه شاكرا إلا أنه يرضى من عباده بالقليل من العبادة، بعد رتبة التوحيد.
وقال بعض المعتزلة: إن الوصف لله بأنه شكور وشاكر على جهة المجاز لأن الشكر في الحقيقة هو الاعتراف بنعم المنعم فلما كان القديم تعالى ذكره مجازيا للمطيعين على طاعتهم سمي مجازاته إياهم عليها شكرا على التوسعة، وليس الحمد عنده هو الشكر لأن الحمد ضد [الذم] والشكر ضد الكفر، فيقال له: إن لم يجز أن يكون الباري تعالى شاكرا على الحقيقة لما ذكرته لم يجز أن يكون مثيبا، لأن المثيب من كافى غيره على نعمة [قدمت] إليه ابتداء، [وإلّا لم يجزيه] أن يكون شاكرا في الحقيقة، والشكر من الله تعالى الثواب.
ومن العباد الطاعة وحقيقة مقابلة الطاعة بغيرها، فإذا قابلت أوامر الله بطاعتك فقد شكرته وإذا قابلك الله طاعتك بثوابه فقد شكرك عليها.
[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 152]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ يعني القول القبيح إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فقد اذن للمظلوم ان ينتصر بالدعاء على ظالمه وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لدعاء المظلوم عَلِيماً بعقاب الظالم، نظير قوله وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ «1» مجاهد: هذا في الضيف النازل إذا لم يضيف ومنع حقه أو أساءوا قراه فقد رخص الله له أن يذكر منه ما صنع به، وزعم أن ضيفا نزل بقوم فأساءوا قراه فاشتكاهم، فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكو.
والضيافة ثلاثة أيام وما فوق ذلك فهو صدقة.
وقوله (مَنْ ظُلِمَ) من في محل النصب لأنه استثناء ليس من الأول، وإن شئت جعلت من رفعا فيكون المعنى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فيكون من بدلا من معنى أحد والمعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلّا المظلوم، وقرئ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ بفتح الظاء واللام على معنى إن الظالم يجهر بالسوء من القول ظلما واعتداء، ويكون المعنى لكن الظلم الجهر بذلك ظلما ومحل من في مَنْ ظُلِمَ النصب لأنه استثناء من الأول، وفيه
__________
(1) سورة الشورى: 41.(3/407)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
وجه آخر: وهو أن يكون إِلَّا مَنْ ظُلِمَ على معنى لكن الظالم جهروا له بالسوء من القول وهو بعد استثناءه من الأول، وموضعه نصب وهو وجه حسن.
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً يعني حسنة فتعمل بها كتبت له عشر وإن همّ بها ولم يعمل بها كتبت له حسنة واحدة أَوْ تُخْفُوهُ وقيل الخير ما صفى المال ومعناه ان تبدوا الصدقة والمعروف أو تصدّقوا بسرّ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ عن ظلم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً يعني فإنّ الله عز وجل أولى أن يتجاوز عنكم يوم القيامة عن الذنوب العظام.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الآية نزلت في اليهود وذلك إنهم آمنوا بموسى وعزيز والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمّد والقرآن وذلك قوله وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي دينا من اليهودية والإسلام، قال الله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ كلهم وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يعني بين الرسل وهم المؤمنون، قالوا: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ كما علمهم الله، فقال قُولُوا آمَنَّا- إلى قوله- لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ... أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ بايمانهم بالله وكتبه ورسله وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً كما كان منهم في الشرك.
[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 159]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ الآية، وذلك
إن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا قالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت نبيا حقا فأتنا بكتاب من السماء فما أتى به موسى فأنزل الله عز وجل يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ يعني السبعين الذين خرج بهم موسى (عليه السلام) إلى الجبل فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً عيانا فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ ولم نستأصلهم وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً الآية.(3/408)
يعني الآيات التسع
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً قتادة:
كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس «1» ، وقيل: إيليا، وقيل: أريحا، وقيل: هي لهم قربة.
وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أي لا تظلموا باصطيادكم الحيتان فيها وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً يعني العهد الذي أخذ الله عليهم في الصيد فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي فبنقضهم ميثاقهم كقوله فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ «2» ، وعَمَّا قَلِيلٍ «3» وجُنْدٌ ما هُنالِكَ «4» أي فبرحمة وعن قليل، وبجند ما هنالك.
وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ تقدير الآية، فنقضهم ميثاقهم وكفرهم وقتالهم وقولهم طبع الله على قلوبهم ولعنهم فَلا يُؤْمِنُونَ بمعنى من ممن كذب الرسل إلّا من طبع الله على قلبه وإن من طبع الله على قلبه، فلا يؤمن أبدا، ثم قال تعالى إِلَّا قَلِيلًا يعني عبد الله بن سلام، وقيل معناه: فلا يؤمنون لا قليلا ولا كثيرا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً حين رموها بالزنا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّ عيسى (عليه السلام) استقبل رهطا من اليهود وقالوا: الفاجر بن الفاجرة والفاعل بن الفاعلة، فقذفوه وأمّه فلما سمع عيسى ذلك دعا عليهم، وقال: اللهم أنت ربي وأنا عبدك من روح نفخت ولم أتّهم من تلقاء نفسي «اللهم فالعن من سبّني وسبّ أمّي» «5» [393] فاستجاب الله دعاءه ومسخ الذين سبّوه وسبّوا أمّه خنازير، فلما رأى رأس اليهود ما جرى بأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته آنفا فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى فاجتمعوا عليه وجعلوا يسألونه فقال لهم: كفرتم وان الله يبغضكم، فغضبوا من مقالته غضبا شديدا وثاروا إليه ليقتلوه فبعث الله تعالى جبرئيل، وأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها فصعد به إلى السماء من تلك الروزنة فأمر يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له ططيانوس أن يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل ططيانوس الخوخة لم ير عيسى بداخلها فظنوا إنه يقاتله فيها وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى، فلما خرج ظن إنه عيسى فقتلوه وصلبوه.
مقاتل: إن اليهود وكّلوا بعيسى رقيب عليه يدور معه حيثما دار فصعد عيسى الجبل، فجاء
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 14.
(2) سورة آل عمران: 159.
(3) سورة ص: 11. [.....]
(4) سورة المؤمنون: 40.
(5) تفسير مجمع البيان: 3/ 232 بتفاوت.(3/409)
الملك فأخذ ضبعيه ورفعه إلى السماء فألقى الله تعالى على الرقيب شبه عيسى، فلما رأوه ظنوا انه عيسى فقتلوه وصلبوه، وكان يقول: أنا لست بعيسى، أنا فلان بن فلان، فلم يصدّقوه فقتلوه.
وقال السدّيّ: إنهم حبسوا عيسى مرّتين في بيت فدخل عليهم رجل منهم وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى ورفع عيسى إلى السماء من كوّة في البيت فدخلوا عليه وقتلوه بعيسى.
قتادة: ذكر لنا إن نبي الله عيسى بن مريم قال لأصحابه: أيّكم يقذف عليه شبهي فإنّه مقتول فقال رجل من القوم: أنا يا نبيّ الله فشبّه الرجل ومنع الله تعالى عيسى ورفعه إليه فلما رفعه الله إليه كساه الريش وألبسه النور وحطّ عنه لذة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة يدور حول العرش وكان إنسيا ملكيا سمائيا أرضيا.
وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة ثم رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وهو [أربع] وثلاثين سنة وكانت نبوته [ثلاثة سنين] .
قوله تعالى وَقَوْلِهِمْ يعني اليهود إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ فكذبهم الله تعالى وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ.
الكلبي: اختلافهم فيه فاليهود قالت: نحن قتلناه وصلبناه. وقالت طائفة من النصارى: بل نحن قتلناه، وقالت طائفة منهم: ما قَتَلُوهُ هؤلاء ولا هؤلاء بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [ونحن ننظر إليه] وقال الذين لمّا قتل ططيانوس: ألم تروا إنه قتل وصلب فهذا اختلافهم وشكهم.
قال محمد بن مروان: ويقال أنّ الله وضع في شبه من عيسى على وجه ططيانوس ولم يلق عليه شبه جسده وخلقه، فلما قتلوه نظروا إليه، فقالوا: إن الوجه وجه عيسى وإنّما هو ططيانوس، وقد قيل إن الذي شبّه لعيسى وصلب مكانه رجل إسرائيلي وكان يقال له إيشوع بن مدين.
قال السدي: اختلافهم فيه أنهم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى، قال الله تعالى ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أي ما قتلوا عيسى يقينا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ.
قال الفراء والقتيبي: والهاء في قوله إِلَيْهِ إلى العلم يعني: وما قتلوا العلم يقينا كما يقال قتلته علما وقتلته يقينا للرأي والحديث.
وقال المقنع الكندي:
كذلك نخبر عنها الغانيات ... [....] «1» فلكم يقينا
ويؤيد هذا التأويل ما روى معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: وَما
__________
(1) كلام غير مقروء.(3/410)
قَتَلُوهُ يَقِيناً يعني ما قتلوه ظنهم يقينا وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي قويا بالنقمة من اليهود فسلط عليه طغرى بن اطسيانوس «1» الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة حَكِيماً حكم عليهم [باللعنة والغضب] .
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال الأستاذ الإمام: معناه وما من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به وتلا قوله تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي وَما مِنَّا أحد إلّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ.
وقوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «2» المعنى: وما منكم أحد إلّا واردها. قال الشاعر:
لو قلت ما في قومها لم تيثم «3» ... يفضلها في حسب ومبسم «4»
المعنى: ما في قومها أحد يفضلها، ثمّ حذف.
عن قتادة والربيع بن انس وابو مالك وابن زيد: هما راجعتان إلى عيسى، المعنى فإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلّا آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام، وهو رواية سعيد بن جبير وعطية عن ابن عباس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة،
وروى قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الأنبياء إخوة لعلّات أمهاتهم شتّى ودينهم واحد وإني أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، ويوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فإذا رأيتموه وهو رجل مربوع فلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كان رأسه يقطره وان لم يصبه بلل بين ممصّرتين، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام وتكون السجدة واحدة لله تعالى ويهلك الله في زمانه الرجل الكذاب الدجال يقع الأمنة في الأرض في زمانه حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقرة، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان مع بعضهم بعضا ثم يلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه واقرأوا إن شئتم (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) عيسى بن مريم» «5»
[394] رددها أبو هريرة ثلاث مرات.
__________
(1) في تفسير القرطبي: (6/ 10) بطرس بن أستيسانوس الرومي، وبالهامش عن نسخة: نطوس بن استينانوس.
(2) سورة مريم: 71.
(3) بكسر التاء، لغة بعض العرب، فلمّا كسروا التاء قلبت الهمزة ياء.
(4) البيت في تفسير القرطبي: 5/ 243، ومعاني القرآن للنحاس: 101.
(5) مسند أحمد: 2/ 406 وصحيح ابن حبّان: 15/ 233 بتفاوت في الكل، وجامع البيان للطبري: 6/ 30.(3/411)
عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي: الهاء في قوله تعالى (بِهِ) راجعتين إلى عيسى ابن مريم إلى الكتابي الذي يؤمن والمعنى وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أحد إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بعيسى قَبْلَ مَوْتِهِ إذا عاين الملك فلا ينفعه حينئذ إيمانه، لأن كل من نزل عليه الموت يعاين نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه وهذه رواية أبي هريرة عن أبي عليّ عن ابن عباس قالوا: لا يبقى يهودي ولا صاحب كتاب حتى يؤمن بعيسى، وإن احترق أو غرق أو تردى أو سلط عليه حيتان أو أكله السبع أو أي ميتة كانت «1» .
قيل لابن عباس: أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهواء، فقال: أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال: يتلجلج بها لسانه.
يدل على صحة هذا التأويل، قراءة أبيّ: قبل موتهم.
الكلبي: خرجت من الكوفة حتى أتيت طابت وهي قرية دون واسط فنزلتها فإذا أنا بشهر بن حوشب فتذاكرنا هذه الآية. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ فقال شهر: خرج العطاء والحجاج يومئذ بواسط فأمر بالعطاء فوضع بين يديه فجعل يدعو الرجل فيدفع العطاء بما قال، فدعا باسمي وجئت على فرس لي عجفاء رثّة الهيئة وعليّ ثياب رثّة، فلما رآني الحجاج قال لي:
يا شهر مالي أرى ثيابك رثة وفرسك رثة، فقلت: أصلح الله الأمير أما ما ذكرت من فرسي فإني قد اشتريتها ولم آل نفسي خيرا، وأما ما تذكر من الثياب فحسب المؤمن من الثياب ما وارى عورته، فقال: لا ولكنك رجل تكره الخز وتعيب من يلبسه، فقلت: إني لا أكره ذلك ولا أعيب على من يلبسه، قال: فدعا بقطعة له خزّ فأعطانيها فصببتها عليه فلما أردت أن أخرج، قال لي:
هلم، فرجعت فقال: آية من كتاب الله تعالى ما قرأتها قط إلّا اختلج في نفسي منها شيء، قلت:
أصلح الله الأمير، ما هي؟ فقرأ هذه الآية وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فإني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب أعناقهم فما أسمعه يتكلّم بشيء، فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالت: يا عدوّ الله أتاك عيسى ابن مريم عبدا نبيا فكذبت به، فيقول: إني آمنت به إنه نبي عبد فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه، ويؤتى بالنصراني فيقولون له: يا عدو الله أتاك عيسى عبد نبي فقلت: إنه الله وابن الله، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه.
قال شهر: فنظر إليّ الحجاج وقال: من حدثك بهذا الحديث؟ فقلت: محمد بن الحنفية، قال: وكان متكئا فجلس ثم نكث بقضيبه في الأرض ساعة ثم رفع رأسه إليّ وقال: أخذتها من عين صافية أخذتها من معدنها «2» .
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 27.
(2) تفسير القرآن للصنعاني: 1/ 178.(3/412)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
قال الكلبي: فقلت: يا شهر ما الذي أردت أن تقول: حدثني محمد بن الحنفية وهو يكرهه ويكره ما جاء من قبلهم، قال: أردت أن أغيظه.
وقال بعضهم: الهاء في (بِهِ) راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلّم وفي (مَوْتِهِ) راجعة إلى الكتابي.
وهو رواية حماد بن حميد عن عكرمة قال: لا يموت اليهودي ولا النصراني حتى يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل الهاء في (بِهِ) راجعة إلى الله تعالى، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قبل أن يموت عند المعاينة ولا ينفعه إيمانه في وقت البأس وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عيسى عَلَيْهِمْ شَهِيداً بأنّه قد بلّغهم رسالة من ربه وأقرّ له بالعبودية على نفسه، نظير قوله وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ وهو نبي شاهد على أمّته، قال الله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ الآية، وقال تعالى وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً.
[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 166]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بالآيات وبهتانهم على مريم وقولهم: إنا قتلنا المسيح.
ونظم الآية فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا ... وَبِصَدِّهِمْ أي صرفهم أنفسهم وغيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دين الله صدا كبيرا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ مثل الاكل التي كانوا يصيبونها من عوامهم، وما كانوا يأخذونها في ايمان كتبهم التي كتبوها، وقالوا هذه من عند الله، وما كانوا يأخذون من الرشاء في الحكم، كقوله تعالى وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ «1» عاقبناهم بأن حرّمنا عليهم الطيبات وكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرم عليهم شيئا من الطيبات التي
__________
(1) سورة المائدة: 63.(3/413)
كانت حلالا لهم، يدلّ عليه قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «1» ووَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ «2» .
نكتة قال لهم: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ وقال لنا: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، وقال:
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً فلم يحرّم علينا شيئا بذنوبنا فكما أمننا من تحريم الطيبات التي ذكر في هذه الآية نرجو أن يؤمننا في الآخرة من العذاب الأليم وقال الله تعالى وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً لأنه جمع بينهما في الذكر.
نكتة اطلق في تحريم الطيبات اللفظ في العذاب، لأن التحريم شيء قد مضى له العذاب مستقبل، وقد علم ان منهم من يؤمن فيأمن من العذاب، فقال وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ثمّ استثنى مؤمني أهل الكتاب فقال: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ يعني ليس أهل الكتاب كلّهم كما ذكرنا لكن الراسخون التائبون المناجون، في العلم وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ.
واختلفوا في وجه انتصابه.
فقالت عائشة وأبان بن عثمان: هو غلط من الكاتب، ونظيره قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى «3» وقوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «4» وقال بعض النحويين: هو نصب على المدح والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد إذا تطاولت بمدح أو ذم خالفوا من اعراب أوله وأوسطه، نظيره قوله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ «5» وقيل: نصب على فعل، تقديره: اعني المقيمين، على معنى: أذكر النازلين وهم الطيبون.
وقال قوم: موضعه خفض، واختلفوا في وصفه، قال بعضهم: معناه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ومن الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، وقيل معناه: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وإلى الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، وقال بعضهم: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الكتاب وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ.
ثم اختلفوا فيهم من هم؟ فقيل: هم الملائكة، وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المؤمنون، وقيل: مؤمنوا أهل الكتاب وهم الراسخون.
قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية، نزلت في اليهود وذلك لما أنزل الله تعالى قوله
__________
(1) سورة الأنعام: 146.
(2) سورة النحل: 118.
(3) سورة المائدة: 69. [.....]
(4) سورة طه: 63.
(5) سورة البقرة: 177.(3/414)
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ «1» إلى قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً «2» .
لفضحهم وذكر عيوبهم وذنوبهم غضبوا وقالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وأنزل إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ جعله الله تعالى ثاني المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في موضعين من كتابه في أهل الميثاق بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «3» والثاني في الوحي، فقال: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ فإن قيل: ما الحكمة في تقديم نوح على سائر الأنبياء وفيهم من هو أفضل منه؟ يقال: لأنه كان أبو البشر قال الله تعالى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ وقيل: لأنه أول نبي من أنبياء الشريعة وأول داع ونذير عن الشرك.
وقيل: لأنه أول من عذب أمّته لردّهم دعوته وأهلك كل الأرض بدعائه عليهم لأنه كان أطول الأنبياء عمرا.
وقيل: إنه كبير الأنبياء، وجعل معجزته في نفسه لأنه عمّر ألف سنة ولم ينقص له سن ولم تنقص له قوة ولم يشب له شعر.
وقيل لأنه لم يبالغ أحد من الأنبياء في الدين ما بالغ نوح ولم يصبر على أذى قوم ما صبر نوح وكان يدعو قومه ليلا ونهارا إعلانا وإسرارا وكان يشتم ويضرب حتى يغمى عليه فإذا فاق دعا وبالغ وكان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه فيقول له: يا بني احذر هذا فإنه ساحر كذاب. قال الله تعالى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى «4» وقال من عتق عنه [......] «5» يوم القيامة بعد محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل لأن مقامه الشكر قال الله تعالى إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً «6» فكما [......] «7» القرآن فكذلك نوح (عليه السلام) صدر [......] «8» وقال أول من يدعى إلى الجنة الحمّادون لله على كل حال.
وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً قرأ يحيى بن وثاب، والأعمش وحمزة زُبُوراً بضم الزاي بمعنى جمع زبر وزبور كأنه قال: قد كتبنا صحفا من بعده أي مكتوبة، والباقون بفتح الزاي على أنه كتاب داود المسمى زبورا، وكان داود يبرز إلى البرّية فيدعو بالزبور وكان يقوم معه علماء بني إسرائيل فيقومون خلفه. ويقوم الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الناس، الأعظم فالأعظم في [فلاة] عظيمة ويقوم [الناس] لهذا الجن الأعظم
__________
(1) سورة النساء: 153.
(2) سورة النساء: 165.
(3) سورة الأحزاب: 7.
(4) سورة النجم: 52.
(5) كلمة غير مقروءة.
(6) سورة الإسراء: 3.
(7) كلمة غير مقروءة.
(8) كلمة غير مقروءة.(3/415)
فالأعظم وتجيء الدواب التي في الجبال، إذا سمعن صوت داود فيقمن بين يديه تعجبّا لما سمعن منه، وتجيء الطير حتى يظللن داود وسليمان والجن والإنس في كثرة لا يحصيهم إلّا الله عز وجل يرفرفن على رؤسهم ثم تجيء السباع حتى تخالط الدواب والوحش لما سمعن حتى من لم ير ذلك، فقيل له: ذاك انس الطاعة، وهذه وحشة المعصية.
وروى طلحة بن يحيى عن أبي بردة أبي موسى عن أبيه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقرآنك، لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود» «1» [395] قلت: أما والله يا رسول الله لو علمت إنّك تسمع قراءتي لحسّنت صوتي وزدته [تحبيرا] .
وكان عمر (رضي الله عنه) إذا رآه قال: ذكّرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده.
وعن أبي عثمان [النهدي] وكان قد أدرك الجاهلية، قال: ما سمعت [طنبورا ولا صنجا] ولا مزمارا أحسن من صوت أبي موسى وإن كان ليؤمّنا في صلاة الغداة لنودّ أنه يقرأ سورة البقرة من حسن صوته «2» «3» حيث نزع حرف الصفة فالمعنى: كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل.
وقيل معناه وقصصنا عليك رسلا نصب بعائد الذكر، وفي قراءة وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ بمكة في سورة الأنعام لأن هذه السورة مدنية أنزلت من بعد الأنعام وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ سمّى الله تعالى النبيين بهذين الاسمين، فقال: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ «4» ثم سمّى المرسلين خاصة بهذا الإسم، فقال (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ثم سمّى نبينا خاصة بهذين الاسمين، فقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ «5» لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيقول: ما أرسلت إلينا رسولا فنتبع وما أنزلت علينا كتابا. وقال في آية أخرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «6» .
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أحد أغير من الله تعالى» «7» [396] . ولذلك حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ «8» وما [أحسن] إليه المدح من الله تعالى ولذلك مدح نفسه جل
__________
(1) صحيح البخاري: 6/ 112، باب حسن الصوت بالقراءة، وصحيح مسلم 2/ 193.
(2) التغنّي بالقرآن: 26، وسير أعلام النبلاء: 3/ 392.
(3) كلمة غير مقروءة.
(4) سورة البقرة: 213. [.....]
(5) سورة الفتح: 908.
(6) سورة الإسراء: 15.
(7) مجمع الزوائد: 8/ 118.
(8) سورة الأنعام: 151.(3/416)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
جلاله وما أحد أحبّ إليه العذر من الله تعالى لذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ الآية. اعلم أن الله تعالى شهد على سبعة أشياء على التوحيد، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «1» والثاني على العدل وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ «2» وقال تعالى قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً «3» وقال: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ «4» وقال: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «5» والثالث على اعمال العباد فقال: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا «6» الآية وقال: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً «7» أي تفيضون فيه وقال: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ «8» ، والرابع على جميع الأشياء فقال أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «9» والخامس على كذب المنافقين قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ «10» ، والسادس على شريعة المصطفى فقال عز من قائل قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ «11» أي شهيد على القرآن لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الآية.
وقال ابن عباس: إن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد أخبرنا أولا عن صفتك ونعتك في كتابهم فزعموا إنهم لا يعرفونك، ودخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جماعة من اليهود فقال لهم: «إني والله أعلم أنكم تعرفون أني رسول الله» [397] .
فقالوا: نعلم، فأنزل الله تعالى إن كذبوك وجحدوك لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.
[سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 173]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
__________
(1) سورة آل عمران: 18.
(2) سورة الفتح: 28. 29.
(3) سورة العنكبوت: 52.
(4) سورة الأنعام: 19.
(5) سورة آل عمران: 81.
(6) سورة المجادلة: 6.
(7) سورة يونس: 61.
(8) سورة آل عمران: 98.
(9) سورة فصّلت: 53.
(10) سورة المنافقون: 1. [.....]
(11) سورة الأنعام: 19.(3/417)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا يعني اليهود الذين علم الله تعالى منهم إنهم لا يؤمنون لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً يعني دين الإسلام إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ يعني اليهودية خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إلى قوله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا الآية نزلت في النسطورية والماريعقوبية والملكانية والمرقوسية وهم نصارى نجران وذلك إن الماريعقوبية قالوا لعيسى: هو الله، وقالت النسطورية: هو ابن الله، وقالت المرقوسية: هو روح الله، فأنزل الله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني يا أهل الإنجيل وهم النصارى لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي لا تتشددوا في دينكم فتفتروا عليّ بالكذب، وأصل الغلو مجاوزة الحد في كل شيء، يقال: غلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها «1» يغلو بها غلوا وغلاء.
خالد المخزومي:
خمصانة فلق موشحها ... رؤد الشباب غلا بها عظم «2»
وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ لا تقولوا أن لله شركاء أو ابنا، ثم بين حال عيسى وصفته فقال إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وهو الممسوح المطهر من الذنوب والأدناس التي تكون في الناس كما يمسح للشيء من الأذى الذي يكون فيه فيطهر، عيسى ابن مريم لا ابن الله بل رسول الله [وعبده قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا] ردّ بهذا على اليهود والنصارى جميعا وَكَلِمَتُهُ يعني قوله: كُنْ، فكان بشرا من غير أب وذلك قوله تعالى كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ «3» الآية وقيل: هي بشارة الله مريم بعيسى ورسالته إليها على لسان جبرئيل وذلك قوله تعالى إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ وقال تعالى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ... أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ يعني أعلمها وأخبرها بها كما يقال: ألقيت إليك كلمة حسنة وَرُوحٌ مِنْهُ الآية.
قال بعضهم: معناه ونفخة منه وذلك أن جبرئيل نفخ في درع مريم فحملت بإذن الله، فقال: وَرُوحٌ مِنْهُ لأنه بأمره كان المسيح وربما لأنه ريح يخرج من الروح «4» ، قال ذو الرمة يصف شرر النار التي تسقط من القداحة:
__________
(1) لداته، اللدات جمع لدة: الترب، وهو الذي ولد معك وتربّى.
(2) لسان العرب: 15/ 132.
(3) سورة آل عمران: 59.
(4) هكذا في الأصل.(3/418)
فقلت له ارمها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدرا «1»
واجعل لها قوتا بقدر. يدل عليه قوله تعالى وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها الآية هذا معنى قول عذرتها.
وقال أبو عبيدة: إنّه كان إنسانا بإحياء الله عز وجل إياه، يدل عليه قول السدّي وَرُوحٌ مِنْهُ أي مخلوق من عنده، وقيل: معناه ورحمة من الله تعالى، عيسى رحمة لمن شهد وآمن به، يدل عليه قوله في المجادلة وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ «2» أي قوّاهم برحمة منه، فدلّ الروح بالوحي أوحى إلى مريم بالبشارة وأوحى إلى مريم بالمسيح وأوحى أنه ابن مريم يدلّ عليه [قوله تعالى:
بِرُوحٍ مِنْهُ] يعني بالوحي، وقال في حم المؤمن: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «3» .
وقال: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «4» أي وحينا، وقيل: اهدنا بروح جبرئيل فقال: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وألقى إليها أيضا روح منه وهو جبرائيل. يدل عليه قوله في النحل قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ «5» نظيره في الشعراء قال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «6» وقال وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ «7» وقال يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ «8» يعني جبرئيل، وقال فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
«9» الروح الوحي يعني من الإضافة إليه على التخصيص كقوله لآدم (عليه السلام) وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «10» .
قال الثعلبي: وسمعت الأستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول: كان لهارون الرشيد غلام نصراني متطبّب وكان أحسن خلق الله وجها وأكملهم أدبا وأجمعهم للخصال التي يتوسل بها إلى الملوك وكان الرشيد مولعا بأن يسلم وهو ممتنع وكان الرشيد يمنيه الأماني [فيأبى] فقال له ذات يوم:
ما لك لا تؤمن؟ قال: لأن في كتابكم حجة على من انتحله، قال وما هو؟ قال: قوله وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ أفغير هذا دين النصارى أن عيسى جزء منه، [فغمّ] قلب الرشيد لذلك فدعا العلماء والفقهاء فلم يكن منهم من يزيل تلك الشبهة حتى قيل: قدم حجاج خراسان وفيهم رجل يقال له علي بن الحسين بن واقد من أهل مرو إمام في أهل القرآن، فدعاه وجمع بينه وبين الغلام، فسأل الغلام فأعاد قوله، فاستعجم على علي بن الحسين الوقت جوابه فقال: يا أمير المؤمنين قد علم الله في سابق علمه أن مثل هذا [الحدث] يسألني في مجلسك، وإنه لم
__________
(1) لسان العرب: 2/ 460 وفيه: واجعله لها قتية، وكذا في تاج العروس.
(2) سورة المجادلة: 22.
(3) سورة غافر: 15.
(4) سورة الشورى: 52.
(5) سورة النحل: 102.
(6) سورة الشعراء: 193.
(7) سورة البقرة: 87.
(8) سورة النحل: 2.
(9) سورة مريم: 17. [.....]
(10) سورة الحجر: 29.(3/419)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
يخل كتابه من جوابي وليس يحضرني في الوقت لله عليّ أن لا أطعم حتى آتي الذي فيأمن حقها ان شاء الله، فدخل بيتا مظلما، وأغلق عليه بابه [وانشغل] في قراءة القرآن حتى بلغ سورة الجاثية وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ فصاح بأعلى صوته: افتحوا الباب فقد وجدت، ففتحوا، ودعا الغلام وقرأ عليه الآية بين يدي الرشيد، وقال: إن كان قوله (وَرُوحٌ مِنْهُ) توجبان عيسى بعض منه وجب أن يكون ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بعضا منه، فانقطع النصراني وأسلم وفرح الرشيد فرحا شديدا ووصل علي بن الحسين بصلة فاخرة فلما عاد إلى مرو صنف كتاب «النظائر في القرآن» وهو كتاب لا يوازيه في بابه كتاب.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ قال أبو عبيدة: معناه ولا تقولوا هم ثلاثة.
وقال الزجاج: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة، وذلك أنهم قالوا: أب وابن وروح القدس، انْتَهُوا عن كفركم خَيْراً لَكُمْ إلى قوله نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
وذلك
إن وفد نجران قالوا: يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟
قالوا: عيسى. قال: وأي شي أقول؟ قال: تقول أنه عبد الله ورسوله، فقال لهم: إنه ليس بعار لعيسى إن يكون عبدا لله. قالوا: بلى، فنزلت نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ الآية.
لم يأنف ولم يتعظّم ولم [يختتم] «1» وأصله الأنفة، والتجنب وأصله في اللغة من قولهم نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك.
قال الشاعر:
فباتوا فلولا ما تذكر عنهم ... من الحلف لم ينكف لعينيك تدمع
لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
هم حملة العرش لا يأبون ان يكونوا عبيدا لله، لأن من الكفار من اتخذ الملائكة آلهة فلذلك ذكرهم ثم أوعدهم فقال مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
المستكبر والمقر فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ في [التضعيف] ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا عن عبادته وَاسْتَكْبَرُوا عن السجود فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ثم قال (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) .
[سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 176]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
__________
(1) هكذا في الأصل.(3/420)
قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى قوله تعالى يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.
روى محمد بن المنكدر وابو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: مرضت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني هو وأبو بكر فلما غشياني فوجدني قد أغمي عليّ فتوضّأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم صبّ عليّ من وضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي سبع أخوات ولم يكن لي ولد ولا والد؟ قال: فلم يجبني شيئا ثمّ خرج وتركني ثم رجع إليّ وقال: «يا جابر إني لا أراك ميّتا من وجعك هذا وإن الله عز وجل، قد أنزل في أخواتك وجعل لهن الثلثين» «1» [398] ، وقرأ هذه الآية يَسْتَفْتُونَكَ إلى آخرها.
وكان جابر يقول: نزلت هذه الآية فيّ «2» .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في جابر وفي أخته أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن لي أختا فما لي [وما لها] .
فنزلت هذه الآية وابتدأ بالرجل، فيقال: إنه مات قبل أخته.
سعيد عن قتادة قال: قال بعضهم على الكلالة فقالوا يا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية يَسْتَفْتُونَكَ أي يستخبرونك ويسألونك (قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) .
قال الشعبي: اختلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في الكلالة وقال أبو بكر: هو ما عدا الولد، وقال عمر: هو ما عدا الوالد.
ثم قال عمر: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر.
وقال عمر (رضي الله عنه) : لأن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهنّ لكان أحب إلينا من الدنيا وما فيها، الكلالة والخلافة وأبواب الربا.
وقال محمد بن سيرين: نزلت هذه الآية والنبي صلّى الله عليه وسلّم في مسيره إلى حجة الوداع، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان [وإلى جنبه عمر] فبلغها النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى حذيفة وبلغها حذيفة إلى عمر وهو يسير خلف حذيفة، فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 55.
(2) سنن أبي داود: 2/ 4 ح 2887.(3/421)
حذيفة: والله إنك لأحمق أن ظننت أنّ إمارتك تحملني أن أحدّثك فيها ما لم أحدّثك يومئذ لما لقّانيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [والله، لا أزيدك عليها شيئا أبدا] فقال عمر: لم أرد هذا رحمك الله، ثم قال عمر: من كنت بيّنتها له فإنها لم تبين لي وما شهدك أفهمتها له فإني لم أفهمها «1» .
وقال طارق بن شهاب: أخذ عمر كتفا وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم قال: لأقضينّ في الكلالة قضاء تحدّث به النساء في خدورها فخرجت حينئذ حية من البيت فتفرّقوا، فقالوا: لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمّه.
وقال أبو الخير: سأل رجل عتبة عن الكلالة، فقال: ألا تعجبون من هذا، يسألني عن الكلالة [ما شغل] أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء مثل ما شغلت «2» بهم الكلالة «3» .
وخطب عمر الناس يوم الجمعة فقال: والله إني ما أدع بعدي شيئا هو أهم من الكلالة، قد سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن الناس فيّ وقال: تكفيك الآية التي في آخر سورة النساء «4» ، وقيل لها: آية الصيف لأنها نزلت في الصيف.
وقال أبو بكر (رضي الله عنه) في خطبته: ألا إن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء من شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد، والآية الثانية في الزوج والزوجة والأخوة منهم، والآية التي ختم بها سورة النساء من ذكر بعضهم.
__________
(1) المصنّف لعبد الرزّاق: 10/ 304 ح 19193 باختصار.
(2) في المصدر: أعضلت.
(3) تفسير الطبري: 6/ 60.
(4) تفسير الطبري: 6/ 58، وتفسير ابن كثير: 1/ 594.(3/422)
محتوى الجزء الثالث من كتاب تفسير الثعلبي
سورة آل عمران 5 فصل في الخيل «صفة خلقها» 26 فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 122 ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلّم 140 ذكر سراياه صلى الله عليه وسلّم 140 فصل في إيجاب الحج 157 فصل في التوكل 192 ذكر بعض ما ورد في الأخبار في زيادة الإيمان ونقصانه 211 سورة النساء 241 حكم الكلام في الحجر على السفيه 257 فصل في بسط الآية 265 فصل فيما ورد من الأخبار في الرخص في مغالاة المهر لقوله:
وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً 277 فصل فيمن كره ذلك، والكلام في أقل المهر 278 فصل في تفصيل أقاويل أهل التأويل في عدد الكبائر مجموعة من الكتاب والسنة مقرونة بالدليل والحجة 297 حكم هذه الآية 362 حكم الآية 374 كيفية صلاة الخوف 375 حديث أبي هريرة في صلاة الخوف 378 حكم الآية 396 ذكر استدلال من استدل من هذه الآية على تكليف ما لا يطاق 397 مسألة في اللغة 400
3347 (24 2800)(3/423)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
[الجزء الرابع]
سورة المائدة
مدينة، فيها من المنسوخ تسع آيات منها قوله:
لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ نسختها آية السيف «1» .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع قال: «يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها»
«2» [1] وهي إحدى عشر ألفا وتسعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا، وألفان وثمانمائة وأربع كلمات، ومائة وعشرون آية.
عن عبد الله بن عمر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم سورة المائدة وهو على راحلة فلم تستطع أن تحمله حتى نزل عنها.
أبو أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات» «3» [2] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
__________
(1) عن هامش المخطوط: (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ) (سورة الأنفال: 75) . مما جاوز الرحم من المعصية، أجرا من الله.
أنزلت آخر سورة كاملة «براءة» وآخر آية في سورة النساء (يَسْتَفْتُونَكَ) .
وقال السدّي: آخر ما نزل من القرآن تلك الآيات: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (سورة النساء: 176) (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) (سورة التوبة: 129) (اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (سورة البقرة: 281)
. (2) تفسير القرطبي: 6/ 31
. (3) تفسير مجمع البيان: 3/ 257، وفي المصدر: (ورفع له عشر درجات)
.(4/5)
يا أَيُّهَا يا نداء أي إشارة، ها تنبيه الَّذِينَ آمَنُوا «1» [نصب على البدل من: أيّها] «2» أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يعني بالعهود.
قال الزجّاج: العقود أو كل العهود. يقال: عاقدت فلانا وعاهدت فلانا، ومنه ذلك باستيثاق وأصله عقد الشيء بغيره. وهو وصله به كما يعقد الحبل بحبل إذا وصل شدّا قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا «3»
واختلفوا في هذه العقود ما هي، قال ابن جريح: هذا الخطاب خاص لأهل الكتاب وهم الذين آمنوا بالكتب المقدسة والرسل المتقدمين.
أوفوا بالعهود التي عهد بها بينكم في شأن محمد، وهو قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ «4» . وقوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «5» وقال الآخرون: فهو عالم.
قال قتادة: أراد به الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية دليله قوله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ «6» .
__________
(1) قال ابن الجوزي في زاد المسير: 2/ 230: اختلف فيه فقيل: إنّهم المؤمنون من أمّتنا وهذا قول الجمهور وقيل: إنّهم أهل الكتاب، قاله ابن جريج
. (2) هكذا في المخطوط
. (3) الصحاح: 1/ 331 [.....]
. (4) سورة آل عمران: 81
. (5) سورة آل عمران: 187
. (6) سورة النساء: 33
.(4/6)
ابن عباس: هي عهود الأيمان و [الفراق] ، غيره: هي العقود التي عقدها الناس بينهم، أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ اختلفوا فيها، فقال الحسن وقتادة والربيع والضحّاك والسدّي: هي الأنعام كلها وهي اسم للبقر والغنم والإبل، يدل عليه قوله تعالى وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً «1» ثم بيّن ما هي، فقال ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وأراد بها ما حرّم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام.
وقال الشعبي: بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ: الأجنّة التي توجد ميتة في بطن أمهاتها إذا ذبحت.
وروى عطية العوفي عن ابن عمر في قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ قال ما في بطونها، قلت: إن خرج ميتا آكله. قال: نعم هي بمنزلة رئتها وكبدها «2» .
وروى قابوس عن أبيه عن ابن عباس أن بقرة نحرت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنب الجنين وقال: هذا من بهيمة الأنعام التي أُحِلَّتْ لَكُمْ «3» .
وقال أبو سعيد الخدري: سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الجنين، فقال: «ذكاته ذكاة أمّه» «4» [3] .
قال الكلبي: بهيمة الأنعام وحشها، كالظباء وبقر الوحش مفردين، وإنما قيل لها بهيمة لأن كل حي لا يمّيز فهو بهيمة، سمّيت بذلك لأنها أبهمت عن أن تميّز.
إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يقول: عليكم في القرآن [لأنه حاكم] وهو قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ إلى قوله وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ وقوله وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ «5» .
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ قال الأخفش: هو نصب على الحال يعني أَوْفُوا بِالْعُقُودِ منسكين غير محلي الصيد وفيه [معنى النهي] «6» .
وقال الكسائي: هو حال من قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ... غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ كما يقول: أحل لكم الطعام غير معتدين فيه.
معناه أنّه أحلت لكم الأنعام كلها إلّا ما كان منها وحشيا فإنه صيد ولا يحل لكم إذا كنتم
__________
(1) سورة الأنعام: 142
. (2) تفسير الطبري: 6/ 68
. (3) تفسير الطبري: 6/ 68
. (4) مسند أحمد: 3/ 31
. (5) سورة الأنعام: 121
. (6) كلمة غير مقروءة والظاهر ما أثبتناه
.(4/7)