[الشورى: 42/ 20- 26] .
المعنى: من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة، نقويه ونغنيه، ونجزيه أحسن الجزاء، ومن كان يريد الحصول على شؤون الدنيا وطيباتها، وإهمال شؤون الآخرة، نعطه ما قضت به مشيئتنا، وليس له في الآخرة حظ. والمؤمن الصادق الواعي من يعمل للدنيا والآخرة، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: «احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» . وقوله تعالى: نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وعد منجز.
بل إن المشركين لهم أعوان من الشياطين، شرعوا لهم ما لم يشرعه الله، مثل تحريم بعض السوائم وتخصيصها للأصنام، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار ونحو ذلك من الضلالات.
ولولا القضاء الإلهي السابق بتأخير العذاب في هذه الأمة إلى يوم القيامة، لقضي بين المؤمنين والمشركين، وعجلت عقوبة المشركين، ولكن للظالمين المشركين العذاب المؤلم الشديد في الآخرة، كما قال الله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) [القمر: 54/ 46] . فقوله تعالى: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ استئناف كلام.
ثم ذكر الله تعالى وصف هذا الجزاء الأخروي، وهو أنك ترى بالعين المجردة(3/2335)
الكافرين المشركين خائفين مضطربين يوم القيامة، مما عملوا من السيئات في الدنيا، والجزاء واقع نازل بهم لا محالة، أما الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا صالح الأعمال منهم يتمتعون في روضات الجنان، لهم ما يشتهون عند ربهم، من ألوان النعم والملذات، وذلك هو الفضل الذي يفوق كل فضل في الدنيا. والروضات:
المواضع البهية النّضرة، وهي في الأغلب مرتفعة، وهي ممدوحة عند العرب. وكلمة عِنْدَ رَبِّهِمْ العندية للتشريف والمكانة، لا المكان المادي أي الجوار المحسوس.
وهذا الجزاء للمؤمنين حتمي الوقوع، وهذا الجزاء هو الذي يبشر الله به عباده المؤمنين الذين يعملون صالح الأعمال، أي إن تلك البشارة لمن قرن أو جمع بين الإيمان والعمل بما أمر الله، وترك ما نهى عنه.
ثم أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالترفع والسمو عن أعراض الدنيا، فيقول لقومه: لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا ولا مكافأة ولا نفعا ماديا، إلا أن تودوني لقرابة بيني وبينكم، فتكفوا عني أذاكم. قال ابن عباس وغيره: لم يكن في قريش بطن إلا ولرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه نسب أو صهر. فالآية على هذا هي استعطاف ودفع أذى سلامة منهم «1» .
قال قتادة: قال المشركون: لعل محمدا فيما يتعاطاه يطلب أجرا، فنزلت هذه الآية، ليحثهم على مودّته ومودّة أقربائه. والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به ابن عباس فيما
رواه البخاري وهو: «إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة»
لأن الآية مكية، ولم يكن بين علي وفاطمة زواج إلا بعد بدر، من السنة الثانية من الهجرة.
__________
(1)
قال مجاهد: إلا أن تصلوا رحمي باتباعي.
وقال علي بن الحسن بن علي: المعنى إلا أن تودّوني فتراعوني في قرابتي وتحفظوني فيهم.
جاء في حديث ذكره الثعلبي: «من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ومن مات على بغضهم، لم يشم رائحة الجنة» .(3/2336)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
ثم ذكر الله تعالى: ومن يعمل حسنة، نزد له فيها حسنا، أي أجرا وثوابا، وإن الله يغفر الكثير من السيئات، ويكثّر القليل من الحسنات، ويضاعف الثواب للمحسن.
بل أيقولون: افترى محمد على الله كذبا بادعاء النبوة ونزول القرآن، وهذا إفك مفترى، يرد الله عليه بأنك يا محمد لو افتريت على الله كذبا، لطبع على قلبك، فيمحو الله الباطل، ويثبّت أو يحق الحق بكلماته ويؤيده. إنه سبحانه عليم بما تكنه الصدور من حديث النفس ووساوس القلب.
وللترغيب في الصلاح: أن الله يقبل من عباده التوبة عن الذنوب، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون من خير أو شر. ويستجيب الله للذين آمنوا، وأطاعوا ربهم، ويزيدهم من فضله ونعمته على ما طلبوه منه، وأما الذين كفروا بالله وبنعمته فلهم عذاب شديد مؤلم.
قسمة الأرزاق
لا تغيب العناية والرعاية الإلهية عن المخلوقات طرفة عين، فالله تعالى يقسم الأرزاق بحسب علمه وحكمته، وبتصريف قدرته، فينزل الغيث وينشر رحمته، ويرسل الرياح فتسوق السحب إلى مواضع نزول القطر، ويبث الدواب البرية والبحرية والجوية في أنحاء السماوات والأرض، ويسيّر الفلك أو البواخر بمشيئته وتوفيقه، ويعلم المجادلين في آيات الله، علما بأن متاع الدنيا فان، والآخرة خير وأبقى، فلا يغتر أحد بالدنيا، وإنما يعمل بما يسعده في الآخرة، مفوّضا أمر النتائج لله عز وجل، وهذه سنة الله في مدده وعطائه، كما تصورها هذه الآيات الشريفة:
[سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 36]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)(3/2337)
[الشورى: 42/ 27- 36] .
نزلت آية وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ فيما
أخرجه الحاكم وصححه عن علي: في أصحاب الصّفّة، وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا، فتمنوا الدنيا والغنى، وقال خبّاب ابن الأرتّ: فينا نزلت هذه الآية- أي في أهل الصفة- وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع، فتمنيناها.
المعنى: لو وسّع الله الرزق على عباده، ومنحهم فوق حاجتهم، لحملهم ذلك على البغي والطغيان، وعصوا في الأرض، كما حدث من قارون وفرعون، ولكنه تعالى ينزّل الرزق لعباده بتقدير معين، على حسب مشيئته، وبمقتضى حكمته، إنه سبحانه خبير بأحوال عباده، بصير بما يصلحهم من توسيع الرزق وتضييقه.
هذا إعلام من الله تعالى: أنه لو جاء الرزق على اختيار البشر واقتراحهم، لكان سبب بغيهم وفسادهم، ولكنه عز وجل أعلم بالمصلحة في لكل إنسان، وله بعبيده خبرة وبصر بأخلاقهم ومصالحهم، فرب إنسان لا يصلح إلا بالفقر، وآخر بالغنى.
والغيث سبب الرزق، فينزل الله المطر بعد يأس الناس في وقت حاجتهم إليه، وينشر رحمته، أي المطر على الأراضي، وهو المتولي أمور أو شؤون عباده بالإحسان إليهم، وجلب النفع لهم، ودفع الشر عنهم، وهو المحمود على نعمه الكثيرة.(3/2338)
وكل ذلك يتم بمعيار دقيق من الإله الحكيم القدير، ومن دلائل عظمة الله وقدرته وسلطانه: خلق السماوات والأرض على هذا النحو البديع، وما نشر وفرّق في السماوات والأرض من الدواب المتحركة، ويشمل ذلك الملائكة والإنس والجن، وسائر أنواع الحيوان، والله تام القدرة على جمعهم في صعيد واحد، وحشرهم يوم القيامة.
وقد يحتجب الرزق بسبب المعاصي، وما أصابكم أيها الناس من المصائب، كالآلام والأسقام، والقحط والغرق، والصواعق والزلازل ونحوها، فإنما هي بسبب سيئات اقترفتموها، ومعاص ارتكبتموها، فهي عقوبات الذنوب وكفاراتها في الدنيا، ويعفو الله عن كثير من المعاصي، فلا يعاقب عليها.
جاء في الحديث الذي أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وغيرهما عن الحسن البصري: «لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو عنه أكثر» .
ولستم أنتم أيها المذنبون الكافرون بمعجزين الله حيثما كنتم، ولا تتمكنون من الإفلات من العقاب، فبنو آدم عجزة قاصرون ضعفاء، وهم في قبضة القدرة الإلهية، ولا يمكنهم الفرار من طلب ربهم.
ومن آيات قدرة الله وسلطانه: إجراء السفن السائرة في البحار كالجبال، سواء أكانت شراعية أم بخارية أم كهربائية أم ذرية، وإن يرد الله إيقاف السفن الجارية، يجعل الرياح ساكنة، والطاقة متعطلة، فتصبح السفن ثوابت رواكد على ظهر البحر، لا تسير ولا تتحرك، إن في أمر إجراء السفن في أعالي الموج والماء لدلالة عظيمة على قدرته تعالى، لمن كان كثير الصبر على الشدائد وعلى طاعة الله، كثير الشكر على النعمة. وإن يشأ الله يهلك أو يتلف السفن بالغرق بما كسب ركابها من البشر، أي(3/2339)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
بذنوب البشر، ويعف عن كثير من ذنوبهم، أو عن كثير منهم، فينجيهم من الغرق، ويعلم الله الذين ينازعون في آيات الله، ويكذبونها، ولا يتمكن أحد من الفرار أو المهرب أو النجاة من عذاب الله.
وما أروع ما عقب الله تعالى على هذه الآيات: وهو التحذير من الاغترار في الدنيا، فما أعطيتم من الغنى والسعة في الرزق والجاه والسلطان، فإنما هو متاع قليل في الدنيا، وما عند الله من ثواب الطاعة ونعيم الجنة خير من متاع الدنيا، وأبقى وأدوم، لأنه لا ينقطع ولا ينقص، أما متاع الدنيا: فهو ينقطع أو ينقص بسرعة، وبقاؤه لأهل الإيمان الصحيح بالله ورسوله، وعلى ربهم يعتمدون في كل شؤونهم.
قال علي رضي الله عنه: تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع، فنزلت الآية: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ..
جاء في الحديث أنه أنفق ثمانين ألفا.
صفات أهل الجنة
لم يترك القرآن الكريم شيئا إلا أوضحه وأعلنه، فذكر صفات أهل النار وأسباب استحقاقهم للعذاب، وذكر صفات أهل الجنة وما أهّلهم للنعيم والثواب، وهذه الصفات الطيبة: هي الإيمان بالله إلها واحدا، والتوكل عليه بعد اتخاذ الأسباب، واجتناب الكبائر من الذنوب والعفو عند المقدرة، وإطاعة الله وترك نواهيه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والتشاور في الأمور كلها، والشجاعة والقوة في استرداد الحقوق المغتصبة، وقد نصت الآيات الكريمة الآتية على هذه الصفات، لضرورة الاتصاف بها، قال الله تعالى:
[سورة الشورى (42) : الآيات 37 الى 43]
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)(3/2340)
[الشورى: 42/ 37- 43] .
نزلت آية وَإِذا ما غَضِبُوا في عمر حين شتم بمكة. وقيل: في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق ماله، وحين شتم فحلم.
وصف الله تعالى أهل الجنة بالإيمان بالله وبالتوكل على الله، وبالصفات السبع الآتية:
- إنهم هم الذين يتجنبون الوقوع في كبائر الذنوب التي أوعد الله عليها وعيدا شديدا، كالشرك والقتل العمد وعقوق الوالدين، ويتجنبون أيضا الفواحش: وهي كل ما استقبحه الشرع والعقل السليم، كالغيبة والكذب، والزنا والسرقة والمحاربة (قطع الطريق) .
- وهم عند الغضب يكظمون الغيظ، ويحلمون على الظالم، ويعفون عن إساءته، لأن الحلم سيد الأخلاق، والعفو والصفح سمة العظماء، وهذا حض على كسر الغضب، والتدرب على إطفائه، إذ هو جمرة من جهنم.
- وهم الذين يستجيبون إلى ما دعاهم إليه ربهم، ويطيعونه فيما أمر به من توحيد الله، ونبذ الشرك، وإطاعة الرسول فيما أمر به وزجر عنه، وهذا مدح لكل من آمن بالله تعالى وقبل شرعه.
نزلت هذه الآية في الأنصار، دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان، فاستجابوا وأقاموا الصلاة.(3/2341)
- ويؤدون الصلاة المفروضة في أوقاتها بنحو تام الأركان والشروط، وبخشوع لله وقلب صاف مرتبط بالله، والصلاة عماد الدين وأعظم العبادات.
- ويتشاورون فيما بينهم في الأمور الخاصة والعامة، كشؤون الحكم والولاية وإعلان الحرب، وتولية الولاة والقضاة والموظفين وغير ذلك من الشؤون العامة والخاصة.
- وينفقون في سبيل الله وطاعته بعض ما رزقهم الله من أموال وخيرات، لأن الإنفاق قوة للأمة، وعلاج للضعف، وسبيل لإعزاز الأمة، وتحقيق التكافل المطلوب بين الأغنياء والفقراء.
- وهم شجعان أشداء، فإذا تعرضوا للظلم والاعتداء، انتصروا ممن ظلمهم، واستردوا حقوقهم السليبة، وإذا قدروا عفوا، وهذا مدح لمن انتصر على البغي.
ورد الظلم مشروط بتحقيق المماثلة دون تجاوز، فيكون عقاب السيئة مماثلا لأصل الجناية، والمساواة مطلوبة بين الجريمة والعقوبة، ومن عفا عن الظالم المسيء، وأصلح بالود والعفو ما بينه وبين من عاداه، فثوابه على الله، إن الله يعاقب المبتدئين بالظلم، المتجاوزين حدودهم، وسمي جزاء السيئة سيئة، مع أن المجازاة من الله تعالى ليست سيئة، تسمية للشيء باسم ما يوجبه ويسببه.
ثم أكد الله تعالى على مشروعية دفع الظلم أو البغي، في الآية: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ اللام في (لمن) لام القسم، أي جواب قسم محذوف.
أي تالله إن المنتصر من الظالم بعد ظلمه له، لا سبيل عليه بمؤاخذة أو عقاب، لأن الانتصار بحق، كأن يشرع القصاص في الجنايات العمدية، أو تضمن جنايات الخطأ والإتلافات، ويجوز الشتم والسب معاملة بالمثل، دون اعتداء ولا تجاوز، وهذا في معنى آية أخرى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:(3/2342)
4/ 148] لكن من أتلف مال إنسان لا تجوز مقابلته بالإتلاف، وإنما يطلب الضمان أو التعويض عن الضرر.
نزلت هذه الآية: وَلَمَنِ انْتَصَرَ في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد شتمه بعض الأنصار، فرد عليه، ثم أمسك.
وإنما المؤاخذة والعقاب على الذين يبدءون الناس بالظلم، أو يتعدّون مبدأ المماثلة، ويتجاوزون الحد في الانتقام، ويجنون على النفوس والأموال بغير حق، ويتكبرون بظلم الناس وسلب الحقوق. ويضعون الأشياء في غير مواضعها، من القتل وأخذ المال وإيذاء اليد واللسان، وأولئك البادئون بالظلم أو المتجاوزون الحدود، لهم عذاب مؤلم شديد بسبب اعتدائهم، وهذا توعد بالعذاب في الآخرة.
والبغي بغير الحق في الآية: هو نوع من أنواع الظلم، خصه الله بالذكر تنبيها على شدته وسوء حال صاحبه.
ثم أكد الله تعالى الترغيب في العفو بالقسم في قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ أي تالله، إن من صبر على الأذى، وستر السيئة، وغفر خطأ من ظلمه، فذلك الصبر والعفو، لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة، التي يثاب عليها بالثواب الجزيل والثناء الجميل، لمنع الاسترسال وراء الغضب وحب الانتقام، فقوله تعالى: لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي محكمها ومتقنها والحميد العاقبة منها، وهذا دليل على قوة الإرادة وتماسك الشخصية.
سوء حال الكفار في الآخرة
لا شيء أصعب على النفس من الاصطدام أمام الواقع، والمفاجأة بنوع العقاب الذي كان يظن أنه مجرد تهديد ووعيد، وحينئذ تكون الأحوال شديدة وصعبة، فترى(3/2343)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
الكافرين في الآخرة يتمنون الرجوع إلى الدنيا، فيحتقر شأنهم، ولا يبالي بهم أحد من المؤمنين، ويقفون أمام النار ذليلين خائفين، ويلمسون الخسارة المحققة في الأنفس والأهل، ولا أمل لهم في النجاة، فلا يجدون أنصارا يخلصونهم من العذاب، ومن أضله الله بسبب ما اكتسب واختار من الإثم، فلا سبيل لنجاته. وهذه آيات كريمة تصور لنا هذا الموقف المخزي:
[سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 46]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
[الشورى: 42/ 44- 46] .
هذا تبيان حال الكفرة الذين اختاروا الكفر على الإيمان ومالوا إليه، فأضلهم الله تعالى، وتركهم يتيهون في وهاد الضلال، لفقد استعدادهم للإيمان، ومن يضله الله، فما له من أحد يتولى هدايته ونصره، أو إنقاذه إلى طريق الهدى والرشاد. وقوله تعالى:
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بيان أنه لا يقع شيء في الكون، من الهدى والضلال وغيرهما إلا بإرادة الله ومشيئته، حتى لا يوصف بالعجز. وليس في هذا القول إجبار على الضلال، وإنما بيان من علم الله أنه يختار الضلال، فيزيده الله ضلالا.
وأحوال هؤلاء الضالين الظالمين في الآخرة معقدة وشائكة وأهمها ستة:
- ترى: الرؤية هنا رؤية عين، أي تبصر أيها الإنسان المشركين الكافرين بالله، المكذبين بالبعث، حين نظروا إلى النار، وعاينوا العذاب، يتمنون الرجوع إلى الدنيا، من أي طريق. وهذه المقالة المعبرة عن بحثهم عن سبيل النجاة: تدل على سوء ما اطلعوا عليه. والمردّ: موضع الرد إلى الدنيا، قاصدين بذلك استدراك العمل والإيمان.(3/2344)
- وتبصرهم أيضا يعرضون على النار، وهم خائفون أذلاء، يسارقون النظر إليها من شدة الخوف، فقوله تعالى: مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أي قليل، والطرف هنا مصدر، أي يطرف طرفا خفيا.
- وقال أهل الإيمان يوم القيامة حين رأوا الكافرين على هذه الحال: إن أهل الخسارة الكبرى: هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، بدخول النار، والخلود فيها، خسروا أنفسهم بصيرورتهم معذبين في النار، وخسروا أهليهم لأنهم تسببوا في تعذيبهم.
- ألا إن الكافرين في عذاب دائم لا ينتهي، ولا يخرجون منه. وهذا إما من قول المؤمنين، حكاه الله تعالى، أو استئناف من قول الله تعالى، وإخبار لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بما يؤول إليه مصير الضالين المكذبين.
- وليس للظالمين أعوان وأنصار من غير الله، ينقذونهم مما هم فيه من العذاب.
ثم أكد الله تعالى اليأس من نجاتهم بقوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ والمعنى: ليس للكافرين أعوان وأنصار من غير الله، ينقذونهم مما هم فيه من العذاب، وهذا إنحاء على الأصنام والأوثان التي أظهر الكفار ولايتها، واعتقدوا ذلك دينا، والمراد: فما لهم يوالون هذه التي لا تضر ولا تنفع، ولكن من يضلل الله فماله من سبيل هدى ونجاة، أي من يحجب الله عنه توفيقه إلى الإيمان، بسبب علم الله السابق بما سيختاره ويقترفه من الآثام، فلا طريق له إلى النجاة والجنة. ولا غرابة في وقوع تلك الظواهر، لأنهم قوم ضالون منحرفون عن سبيل الإيمان والحق.
هذا وصف دقيق لسوء أحوال الظالمين الكافرين الذين اختاروا الشرك والوثنية:
قلق وحيرة، وحسرة وندامة، والتماس طريق النجاة باقتراح العودة إلى الدنيا، ويتملكهم الخوف والذعر الشديد، ويلحقهم الذل والهوان والتحقير، ويبحثون عن(3/2345)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
النصراء والأعوان لإنقاذهم من عذاب الله فلا يسعفهم أحد، إذ إنه ليس للأصنام المعبودة، ولا لبعض المتألهين، أي شفاعة أو مجال ينفعون به غيرهم، لأن الأمر كله بيد الله، وتخيب المساعي كلها في الإنقاذ، لأن عالم الآخرة عالم الحساب، والقضاء، وتنفيذ الأحكام، ولا يقبل من أحد العذر أو التأسف أو الندم، فقد كان مجال هذا في الدنيا، فهي دار التكليف والاختبار، أما الآخرة: فهي دار القرار النهائي، ومقر إصدار الأحكام الإلهية، وتنفيذها من غير اعتراض ولا أمل في نقض حكم أو تغيير قضاء.
الاستجابة لأمر الله تعالى
وجّه الله تعالى في قرآنه الناس جميعا إلى المبادرة للإيمان، والإجابة لما يحيي القلوب، ويضيء النفوس، وينقذ الإنسان من عواقب الهلاك، والشر، وأسلوب التوجيه متعدد، ومتنوع، بالترغيب مرة، والترهيب مرة أخرى، والإطماع بجنان الخلد، والتحذير من أهوال القيامة والحساب الشديد، وبيان تقلب النفس، تفرح عند الرحمة الإلهية، وتجحد النعمة عند التعرض لمصيبة، وإدراك أن ملك السماوات والأرض بيد الله وحده، يهب الذرية للإنسان بحسب مشيئته وعلمه وحكمته، وقد يمنعها عنه، مع أن الله قدير على كل شيء، وهذه الآيات تبين مدى إجابة الإنسان لدعوة الله:
[سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 50]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
«1» «2» «3»
__________
(1) أي أجيبوا.
(2) أي منجى ينجيكم. [.....]
(3) أي إنكار لذنوبكم يومئذ.(3/2346)
[الشورى: 42/ 47- 50] .
يأمرنا الله تعالى بالاستجابة لدعوة الله تعالى وشريعته، والمبادرة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، من قبل مجيء يوم يكون كلمح البصر، لا ملجأ ولا منجى لأحد فيه، ولا يردّ أحد بعده إلى عمل، إنه يوم القيامة، يحذرنا الله تعالى من أهواله ومفاجاته، حيث لا يفيد الإنسان شيء إلا العمل الصالح في الدنيا، ولا إنكار ما ينزل بالناس من عذاب. والنكير: مصدر بمعنى الإنكار، لا بمعنى المنكر اسم فاعل من فعل «نكر» ، لأن المعنى يصبح بعيدا، لأن (نكر) إنما معناه لم يميّز وظن الأمر على غير ما عهد. وهذا كقوله تعالى: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) [القيامة: 75/ 10- 12] .
فإن أعرض المشركون عن إجابة دعوة الله ورسوله، فما أرسلناك أيها الرسول موكلا بهم، رقيبا عليهم، تحفظ أعمالهم وتحصيها، حتى تحاسبهم عليها، فليس عليك إلا تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة، وإيصال الحجة.
إلا أن القوم المشركين عتاة أشداء مضطربون، إذا منحهم الله رحمة أو نعمة، وأمدهم بأمن وخير، ووفرة رزق، فرحوا بها واستبشروا، وإن أصابتهم سيئة كجدب أو نقمة، ومرض أو فقر، لاقترافهم المعاصي والذنوب، فإن الإنسان جحود للنعمة، متنكر للمعروف، فإن أصابته نعمة تكبر، وإن تعرّض لمحنة أو مصيبة يئس وأعرض. والكفور: المبالغ في كفران النّعم.
ثم أخبر الله تعالى عن أدلة قدرته، فهو مالك السماوات والأرض والمتصرف(3/2347)
فيهما بما يريد، وملكه محيط بالخلق، ومشيئته نافذة في جميع المخلوقات، وفي كل أمورهم، فإن الله تعالى وحده يخلق ما يشاء، ويمنع من يشاء، يهب من يشاء البنات فقط، ويرزق من يشاء البنين فقط، ويعطي من يشاء الصنفين معا ذكورا وإناثا، فالتزويج هنا بمعنى الجمع بين البنين والبنات، ويجعل من يشاء عقيما لا يولد له، لأن الملك ملكه، يتصرف في شؤون خلقه على وفق العلم الشامل، والحكمة الدقيقة، والمصلحة الحقيقية، فإنه سبحانه عليم بمن يستحق كل صنف من أصناف الأولاد، تامّ القدرة على منح ما يريد أو منع ما يشاء. فقوله تعالى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً معناه أن يجعل في بطن زوجا من الذرية ذكرا وأنثى. والعقيم: الذي لا يولد له.
وإنما بدأ الله تعالى بذكر الإناث تأنيسا بهن وتشريفا لهن، وحملا على العناية بهن، والإحسان إليهن،
قال النبي عليه الصلاة والسّلام- فيما أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأحمد: «من ابتلي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن كن له حجابا من النار» .
وقال واثلة بن الأسقع فيما حكاه الثعلبي عنه: «من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذّكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث» . وقال إسحاق بن بشر: نزلت هذه الآية في الأنبياء عليهم السّلام، ثم عمّمت، فلوط عليه السّلام أبو بنات، لم يولد له ذكر، وإبراهيم عليه السّلام عكسه، لم يولد له إلا الذكور، ومحمد عليه الصلاة والسّلام ولد له الصنفان، ويحيى بن زكريا عليهما السّلام عقيم.
وهذا التوزيع الإلهي في رزق الأولاد، كقسمة الأرزاق بين العباد، نابع من الحكمة الإلهية لخير الإنسان، أو لما يعلم له من أحوال تناسبه أو لمصالح بعيدة المدى.(3/2348)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
أنواع الوحي
الوحي الإلهي حقيقة واقعة لا ينكرها إلا كل جاحد منكر للدّين، وهو فضل من الله تعالى ونعمة، من أجل خير الإنسان ونفعه، وهو واحد وأمر مشترك بين جميع الأنبياء والرسل، ولولا الوحي لضل البشر وبقوا تائهين، تتحكم فيهم الأهواء والشهوات، وتستبد بهم المطامع والمصالح الذاتية، فكان من رحمة الله تعالى أن يجمع الناس على منهج واحد وصراط مستقيم، وذلك بالوحي المنزل على الرسل، سواء ما كان منه مكتوبا أو بالمعنى، وهذه آيات تدل على أنواع الوحي وأغراضه:
[سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
«1» «2» [الشورى: 42/ 51- 53] .
سبب نزول الآية الأولى: وَما كانَ لِبَشَرٍ
أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا، كما كلّمه موسى؟ فنزلت، وقال:
لم ينظر موسى إلى الله تعالى.
المعنى: لا يكون لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام، ولا ينبغي له، ولا يمكن فيه أن يكلمه الله تبارك وتعالى إلا بأن يوحي إليه بأحد أنواع الوحي: إما أن يكون وحيا مباشرا: وهو الإلهام والإلقاء في القلب يقظة أو في المنام، كرؤيا إبراهيم الخليل عليه السّلام ذبح ولده.
__________
(1) الوحي: إلقاء شيء في القلب، يتيقن أنه من عند الله.
(2) الروح يراد به هنا القرآن.(3/2349)
وإما بأن يكون بسماع كلام من وراء ستار أو حجاب، أي من خفاء عن المكلّم، لا يستطيع تحديده أو تصوره بذهنه، ومن غير واسطة، متيقنا أنه كلام الله من حيث لا يرى، كما كلم الله موسى عليه السّلام من وراء الشجرة المباركة، وكان موسى قد طلب رؤية الله بعد التكليم، فحجب عنها. وإما بأن يكون بوساطة إرسال رسول من الملائكة إما جبريل أو غيره، فيوحي ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحي إليه، وهذا دليل على أن الرسالة من أنواع التكليم.
ثم أوضح الله تعالى تشابه الوحي بين النبي محمد وبين من تقدمه من الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام، وهو أنه مثلما أوحينا إلى سائر الأنبياء. أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن الذي هو من أمر الله عز وجل، وهو بمثابة الروح حياة للأنفس وإنارتها بعد ظلامها وجهالتها، ومبدأ للحضارة والعلم والتقدم، والحد الفاصل بين عهدين:
عهد الأمية والجهالة والفوضى، وعهد العلم والمعرفة والنظام، فالروح في هذه الآية: هو القرآن الكريم وهدى الشريعة، سمّاه الله روحا، لأنه يحيي به البشر والعالم، كما يحيي الجسد بالروح، فهذا على جهة التشبيه. وقوله: مِنْ أَمْرِنا أي واحد من أمورنا أو كلامنا.
وإنزال القرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم دليل على مقدار النعمة، فأنت أيها النبي رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تكن قبل القرآن المنزل عليك تعرف ما القرآن، وما معنى الإيمان، ولا تفاصيل الشرائع، ولكن جعلنا هذا القرآن الذي أوحيناه إليك ضياء ونورا، نهدي به من نشاء هدايته، أي نرشد، لأنه النور الذي يهتدي به الناس في ظلمات الحياة، كما جاء في آية أخرى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) [الإسراء: 17/ 9] . والضمير في جعلناه: عائد على القرآن.(3/2350)
وإنك أيها الرسول لترشد الناس إلى طريق مستقيم، ومنهاج قويم، فقوله تعالى:
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني صراط شرع الله تعالى ورحمته، وطريق الله الذي له ملك السماوات والأرض، وربّهما المتصرف فيهما، والحاكم الذي لا معقّب لحكمه، والأمور كلها صائرة على الدوام إلى الله تعالى، وليس لأحد غيره، فيحكم بقضائه العدل. وهذا وعد للمتقين، ووعيد للظالمين، وتقريع لمن في ذهنه أن شيئا من الأمور إلى البشر. قال سهل بن أبي الجعد: احترق مصحف، فلم يبق منه إلا قوله تعالى:
أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.
لقد اقترنت جهود النبي صلّى الله عليه وسلّم بنور القرآن وهدايته، وكان هذا الرسول يدعو إلى الخير، ومناصرة الحق، ويستمسك بالقرآن المجيد، ويدعو إلى السداد والطمأنينة، والاعتدال والوسطية وإقامة المجتمع الفاضل، ولا يزال هذا النبي منصورا بأمر الله.
والمقصود هو الإرشاد إلى دين قويم، لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام الذي به ختمت النبوات، وانتهت به الرسالات.(3/2351)
حم (1)
تفسير سورة الزخرف
عربية القرآن وموقف قريش منه
لم يدع الحق سبحانه وتعالى عائقا أمام العرب لإيمانهم بالقرآن ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فجعل القرآن بلسانهم العربي، وأخبرهم بأنه من كلام الله تعالى ومن عنده، لا من عند محمد عليه السّلام، ولم يتركهم الله من دون إنذار أو تذكير، ولو كانوا مسرفين في الملذات والإنكار والتكذيب، عاكفين على الشرك، وحذرهم من تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما فعل الذين من قبلهم، وظلوا مستهزئين بنبيهم ومكذبين له، فأهلكهم الله تعالى ودمّرهم، فعليهم أن يعتبروا بما حدث لأمثالهم، وهذا ما تضمنته الآيات الآتية في مطلع سورة الزخرف المكية بالإجماع:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
«1» «2» [الزخرف: 43/ 1- 8] .
افتتحت السورة بالأحرف الهجائية: (حم) للتنبيه على خطر ما يأتي في هذه السورة، ولتحدي العرب بالإتيان افتراء بمثل أقصر سورة من القرآن ذات الموضوع الواحد، لأنه بلغتهم ومن أصول مادة كلامهم. لذا كان الغالب بعد هذه الأحرف
__________
(1) أي اللوح المحفوظ.
(2) أي صفتهم العجيبة التي تشبه المثل في الغرابة.(3/2352)
الكلام عن القرآن، وقد أقسم الله تعالى بالقرآن البيّن الواضح، الجلي المعاني، الذي أبان طريق الهدى والنور.
فكلمة (المبين) إما من (أبان) أي ظهر، فلا يحتاج إلى مفعول، وإما من (بان) وهذا يحتاج إلى مفعول تقديره: المبين الهدى والشرع ونحوه.
ومن أجل إفهام العرب وتدبر معانيه، جعلناه منزلا بلسان عربي فصيح واضح، لتتعقلوا آياته، فلا يعسر فهمها وإدراكها، والتعرف على أسرارها وإعجازها، وجعلناه بلسانكم لئلا يبقى لكم عذر، وهذا هو المقصود من قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فهو ترجّ بحسب معتقد البشر، فمن تدبّر الآيات يرجى منه أن يعقل ويفهم الكلام. وأم الكتاب: اللوح المحفوظ، فإنه أصل جميع الكتب السماوية، وفي هذا تشريف للقرآن وترفيع.
وإن هذا القرآن عند الله رفيع القدر، عالي الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك، ومحكم النظم، لا لبس فيه، ولا اختلاف أو تناقض، كما جاء في آية أخرى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 5/ 48] . وآية: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 4/ 82] .
وهل نترككم أيها العرب وغيركم من غير تذكير، ولا وعظ، ولا أمر ولا نهي، لأنكم مسرفون في الإنكار والتكذيب؟ أو أنهملكم ونبعد الذكر عنكم، ونمسك عن إنزال القرآن لكم، لأنكم تجاوزتم الحدود المعقولة في أعمالكم؟ وقوله تعالى:
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً صفحا: مصدر، مفعول مطلق لنضرب من غير لفظه، مثل: قعدت جلوسا.(3/2353)
ولا تعجب أيها الرسول من إعراض قومك عن رسالتك، فهذه سيرة الأولين الغابرين، فإنه لم يأتهم نبي ولا رسول إلا كانوا به يكذبون ويسخرون، كتكذيب قومك واستهزائهم بك. وقوله: كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ظاهرة العموم، والمراد به الخصوص، فيمن استهزءوا، وإلا فقد كان في الأولين: من لم يستهزئ. والآية وعيد لهم وتهديد بأن يصيبهم ما أصاب أشد منهم بطشا.
لقد أهلكنا قوما هم أشد قوة من هؤلاء القوم المكذبين لك أيها النبي، وقد سبق إيراد مواقفهم أكثر من مرة، وعرفت سنة الله فيهم. فعليهم أن ينظروا في مصائر المتقدمين، ليحذروا الوقوع في مثل مصائرهم. وكلمة مَثَلُ الْأَوَّلِينَ معناها: سنة أو سيرة أو عقوبة المتقدمين، والمعنى: سلف أمرهم وسنتهم، وصاروا عبرة للأمم.
والأولون: هم الأمم الماضية كقوم نوح، وعاد وثمود وغيرهم. والمراد: أننا جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين: أن يصيبهم مثل ما أصابهم، كما جاء في آية أخرى: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف: 43/ 56] .
هذه حملة مركزة على قريش وأمثالهم، حيث لا عذر لهم في ترك إجابة دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد وضحت أمامهم السّبل، وكثر تذكيرهم، وتجاوزوا الحدود في الإسراف والعصيان، وضربت لهم الأمثال، وجعلت أمامهم العبر والمواعظ، فلم يبق عندهم عذر في معارضة دعوة الإسلام، فليتهم بادروا إلى الإيمان بالله وحده، وترك الاستهزاء، وإذا لم يتعظوا وأصروا على الكفر والتكذيب، استحقوا إنزال العذاب وألوان الخزي والهوان، كما نزل بمن قبلهم من ألوان العقاب والإهلاك والتدمير بسبب كفرهم وتكذيبهم رسولهم، والعاقل: من اتعظ بغيرهم، وأقلع عن المعصية إذا شاهد عقوبة العصاة.(3/2354)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
من عجائب الصنع الإلهي
ما أحلم الله تعالى على عباده، وما أصبره على مخلوقاته، يخلقهم ويرزقهم وينعم عليهم، ومع ذلك يكفرون به، ويجحدون بوحدانيته، فيتنزل لمستواهم الفكري، ويقيم لهم الأدلة والبراهين الكثيرة على عظمة ذاته وقدرته، ومن أهمها إبداع مصنوعاته وعجائب مخلوقاته، وكثرة نعمه وآلائه، وإذا افتقر الإنسان أو أصيب بمصاب، لم يجد غير الله ملجأ، ولا سواه ملاذا، فيفرّج كربته، ويكشف أزمته أو محنته، وهذه ثمانية أدلة على وجود الله وتوحيده، مما يلمسه كل إنسان. ويحسّ به من مشاهدات الكون:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
«1» «2» «3» «4» [الزخرف: 43/ 9- 14] .
هذه أوصاف أفعال الله تعالى، وهي نعم منه سبحانه على البشر، تقوم بها الحجة القاطعة على كل كافر مشرك بالله تعالى، وهي هنا ثماني صفات:
1- 3- تالله لئن سألت أيها الرسول المشركين بالله: من الذي خلق السماوات والأرض؟ لأجابوا بأن الخالق لهما هو الله وحده لا شريك له، وأن الله هو القوي الغالب مما يدل على كمال قدرته، وأنه الواسع العلم، مما يرشد إلى تمام علمه، وهذا احتجاج على قريش، يدل على تناقضهم في أمرهم، وذلك أنهم يقرون أن
__________
(1) فأحيينا.
(2) أي السفن.
(3) أي مطيقين.
(4) راجعون.(3/2355)
الخالق الموجد لهم وللسماوات والأرض هو الله تعالى، وهم مع ذلك يعبدون أصناما، ويدّعون أنها آلهة لهم، وهي عاجزة عن كل شيء، وأما الله تعالى فهو الموصوف بالقدرة التامة على خلق جميع الممكنات، لتميزه بالقوة والعلم الكاملين.
4- والله تعالى هو الذي جعل لكم الأرض ممهدة كالفراش والبساط، صالحة للإقامة، والاستقرار عليها، ويتصرّف فيها بسهولة ويسر.
5- وخلق الله تعالى في الأرض والطرق والمسالك، ليتمكن الإنسان من الاهتداء بسلوكها إلى المقاصد والمنافع، والانتقال بين الأرجاء، للاتجار وطلب الرزق والسياحة ونحوها.
6- والله سبحانه هو الذي أنزل من السحاب المطر بقدر الحاجة، وبمقتضى المصلحة للزروع والثمار والشرب ومصلحة الإنسان، فأحيا به الأرض الميتة، وأخرج منها النبات، وكما أحيا الله الأرض بعد موتها، يحيي الأجساد يوم القيامة بعد موتها، ويبعث الناس من القبور. ومن حكمته تعالى وفضله: أنه لا ينزل المطر فوق الحاجة، لئلا يؤدي إلى الطوفان والغرق الشامل، وهدم المنازل، وتلف الزروع، ولا يقصر عن الحاجة حتى تتحقق الكفاية في النبات والزرع والناس. فكلمة (بقدر) أي بمقدار الكفاية.
7- والله تعالى خلق الأزواج، أي الأنواع أو الأصناف كلها من كل شيء، من الزروع، والثمار، والأشجار، والإنسان والحيوان وغير ذلك، مما نعلمه وما لا نعلمه.
8- والله هو الذي خلق وسائل الركوب والحمل من السفن والأنعام: وهي الإبل والبقر والغنم. وفي الأنعام فوائد أخرى من اللحوم والألبان والأوبار والأشعار والأصواف. والله تعالى صرح بكيفية الانتفاع بالسفن والأنعام: بأن(3/2356)
تستقروا على ظهورها، ثم تتذكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم، وتقولون بعد الركوب عليها: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي تنزه الله تعالى عن كل نقص وعجز، الذي ذلّل لنا هذا المركب، وما كنا مطيقين لتسخيره، لولا أن سخره الله لنا، وإنا لصائرون راجعون إليه بعد مماتنا، فيجازي كل نفس بما عملت من خير أو شر. وهذه الآية خاصة في ركوب الحيوان ويقال عند النزول منها: اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين. ويقال عند ركوب الفلك بما جاء في آية أخرى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: 11/ 41] . والسنة للراكب إذا ركب أن يقول: الحمد لله على نعمة الإسلام، أو على النعمة بمحمد عليه الصلاة والسّلام، أو على النعمة في كل حال.
وفي دعاء الركوب هذا: إقرار واضح بعجز الإنسان، وأمر بالإقرار بالبعث، وترداد القول به.
روى ابن أبي نجيح والنحاس عن مجاهد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أن الإنسان إذا ركب، ولم يقل ما في هذه الآية سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا جاء الشيطان فقال له: تغنّه، فإن كان يحسن تغنّى، وإلا قال له: تمنّه، فيتمنى الأباطيل، ويقطع زمنه بذلك.
من أباطيل الجاهلية وتناقضات المشركين
على الرغم من اعتراف المشركين بأن الله هو خالق السماوات والأرض، صدرت منهم عدة أباطيل ومتناقضات مع ذلك الاعتراف، منها نسبة الملائكة لله وأنها بنات الله، والزعم بأن عبادة الملائكة بمشيئة الله، وأن الملائكة إناث لا ذكور، وإذا نوقشوا في هذا لم يجدوا جوابا إلا أنهم يقلدون الآباء تقليدا أعمى، مثلما يقول المترفون في غابر الزمان، حتى ولو عارض ذلك العقل أو المنطق، أو رأوا أفضل(3/2357)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
وأرشد مما كان عند الأسلاف، وحيث أفلس المترفون من كل دليل أو حجة، وأصروا على التقليد الباطل، انتقم الله منهم فصاروا مضرب الأمثال، كما تحكي هذه الآيات الشريفات:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 25]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
«1» «2» «3» «4» [الزخرف: 43/ 15- 25] .
هذه ألوان من تناقضات المشركين وأباطيلهم، فإنهم على الرغم من إقرارهم بألوهية الله وأنه خالق الأرض والسماء، نسبوا له من عباده ولدا، فقالوا: الملائكة بنات الله، إن الإنسان جحود نعمة ربه، بيّن الجحود، والجحود من أبين الكذب، وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أتى بلفظ الجنس العام، والمراد: بعض الإنسان، وهو هؤلاء المشركون الجاعلون الملائكة بنات الله. وجحودهم بهذا السخف الخالي من الحجة، فالله هو خالق كل شيء، فكيف ينسب إليه شيء من مخلوقاته؟ وذلك
__________
(1) أي ولدا، لأن الولد جزء من أبيه.
(2) ممتلئ غيظا.
(3) يحدسون ويكذبون.
(4) أي طريقة ومذهب.(3/2358)
يتنافى مع كمال الله عز وجل وتنزيهه عن مشابهة الحوادث. وهم قد زعموا أن كل العباد ليس لله، بل بعضها لله، وبعضها للشركاء، فالآية لإنكار الشريك لله.
لذا أنكر الله تعالى على هؤلاء أشد الإنكار باتخاذ ولد لله، وكيف يصح أن يتخذ لنفسه من خلقه البنات أضعف الجنسين، ويختار لعباده الأفضل وهو الذكور؟ وهذا يعني أن الله تعالى جعل لنفسه المفضول من الصنفين، وللناس الفاضل منهما، مع أن الله تعالى هو الخالق لكل شيء.
ومما ينكر على المشركين أيضا: تشاؤمهم من الأنثى، فإذا بشّر أحدهم بها، أنف من ذلك واغتم، وامتلأ غيظا وكربا، وتغيّر وجهه، فكيف يأنفون من البنات، ثم ينسبونها إلى الله عز وجل؟! وأكد الله هذا الإنكار عليهم، في أنه كيف يجعل لله من الولد من صفته أن يتربى في حليّ الذهب والفضة والزينة والنعمة، وكان في الجدال عاجز البيان، عيي اللسان، لا يقدر على الجدال وإقامة الحجة؟ وهذا دليل على رقة المرأة وضعفها، وغلبة عاطفتها عليها.
ومن مفتريات المشركين: أنهم حكموا بأن الملائكة إناث، ترتيبا على قولهم السابق: الملائكة بنات الله، فأنكر الله عليهم ورد إفكهم وقولهم بأنه: هل حضروا خلق الله للملائكة حتى يشهدوا بأنهم إناث؟ ستكتب وتدوّن شهادتهم الباطلة الزور بذلك في صحف أعمالهم، لمجازاتهم على ذلك، وسؤالهم عنها يوم القيامة.
ومن افتراءات المشركين أنهم قالوا: لو أراد الله ما عبدنا هؤلاء الملائكة، أي إنهم نسبوا عبادة الملائكة لمشيئة الله، والواقع أن المشيئة الحاصلة لا تستلزم الأمر، والله لا يأمر إلا بالخير، فرد الله عليهم: ليس لهم أي دليل علمي على صحة قولهم وحجتهم، وما هم إلا يكذبون فيما قالوا ويتقولون، ويظنون ظنا باطلا. ثم أبطل(3/2359)
الله تعالى قولهم بالمطالبة بالدليل النقلي: هل أعطيناهم كتابا قبل القرآن ينطق بما يدّعون، ويتمسكون به ويحتجون به؟ ليس الأمر كذلك إطلاقا.
نزلت هذه الآية: بَلْ قالُوا كما ذكر مقاتل في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة من قريش، قالوا هذا القول.
ولا حجة لهم إلا تقليد الآباء والأجداد، فإنهم قالوا: لقد وجدنا آباءنا على هذه الطريقة والمذهب في عبادة الأصنام، وإنا سائرون على منهاجهم، ومتبعون آثارهم.
والتقليد الباطل أو الأعمى قديم، فمثل ما أرسلنا إليك أيها الرسول أرسلنا إلى من قبلك، فجوبهوا بمثل هذا، وقال المترفون المنعمون: وهم قادة القوم لرسولهم المرسل إليهم لتخويفهم من بأس الله وعذابه: إنا وجدنا آباءنا على هذه الملة أو الطريقة والدين، وإنا على مذهبهم سائرون، ولطريقتهم متبعون.
وعبر هنا بكلمة (مقتدون) لإفادة مجرد الاتباع، وفي الآية السابقة (مهتدون) لإفادة ادعاء الهداية. وهذا يدل على أن التقليد في العقيدة والعبادة ضلال.
وكان جواب الرسل لأقوامهم عن التقليد: أتتبعون آباءكم، ولو جئناكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ فأجابوهم معلنين كفرهم صراحة: لا نعمل برسالاتكم، ولا سمع ولا طاعة لكم، وإنا جاحدون منكرون ما أرسلتم به.
فلم يكن بعد الإصرار على الكفر إلا أن انتقم الله من الأمم المكذبة للرسل بأنواع العذاب، كقوم نوح وعاد وثمود، فانظر أيها المخاطب العاقل: كيف كان مصير المكذبين رسلهم، كيف بادوا وهلكوا، وآثارهم موجودة للعبرة والنظر.(3/2360)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)
إنكار النبوة وحقارة الدنيا
من افتراءات المشركين وتناقضاتهم في التقليد الأعمى وغيره: أنهم يقلدون في عبادة الأصنام، ولا يقلدون أبا العرب إبراهيم عليه السّلام في عقيدة التوحيد، وأنهم يطيعون الشيطان ويتلهون بمتاع الدنيا عن كلمة التوحيد، ويصفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنه ساحر كذاب، منكرين نبوته، ويدّعون أن الأحق بالنبوة: الزعيم الشريف، والثري الكبير، وصاحب النفوذ. ولكنهم في كل ذلك مخطئون، فإن معايير اختيار النبي ليست كمعايير الدنيا، فاصطفاء النبي يكون بالقيم الثابتة الأدبية والروحانية والمقومات العالية عند الإنسان، والدنيا ومتاعها حقير، فليست دليلا على السمو والتفوق، والآخرة خير وأولى، وصف الله تعالى هذه الأحوال في الآيات الآتية:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 35]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
«1» «2» «3» «4» [الزخرف: 43/ 26- 35] .
لقد تبرأ إبراهيم الخليل عليه السّلام من تقليد الآباء في الدين، فاذكر أيها الرسول لقومك قريش المقلّدين للآباء: لم لم يقلدوا أباهم إبراهيم الذي تبرأ مما يعبد أبوه
__________
(1) خلقني. [.....]
(2) مسخرا في العمل وقضاء الحوائج.
(3) مصاعد أو سلالم.
(4) زينة مزوقة.(3/2361)
(آزر) وقومه من الأصنام، ودعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، قائلا: لا أعبد إلا الذي فطرني، أي خلقني، فإنه تعالى سيرشدني إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
وكانوا يعرفون الله تعالى ويعظمونه، إلا أنهم كانوا يشركون معه أصنامهم، فكأن إبراهيم قال لهم: أنا لا أوافقكم إلا على عبادة الله الفاطر، أي الخالق.
وجعل إبراهيم عليه السّلام كلمة التوحيد: وهي عبادة الله وحده، ونبذ عبادة الأوثان هي الكلمة الباقية الدائمة في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى منهم، ورجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم كأهل مكة. والعقب: الذرية وأولاد الأولاد.
لكن هؤلاء القرشيين ممن بقيت الكلمة فيهم، متّعهم الله تعالى بطول العمر وسعة الرزق، هم وآباؤهم، فاغتروا بالمهلة وإطالة العمر وتوافر النعمة، إلى أن جاءهم الحق: وهو القرآن الكريم، والرسول الذي أبان الحق، وأوضح مبدأ التوحيد بالحجة الساطعة.
ثم تمادوا في ضلالهم، فأخبر الله تعالى على سبيل التوبيخ والتقريع بأنهم قالوا عن القرآن: هذا سحر، وأنهم كفروا به، وصفوا القرآن بالسحر لأنه يفرّق بين المرء وولده وزوجه، فيؤمن بعضهم ويبقى الآخر كافرا، فهو في زعمهم كالسحر، ولم يدروا أن المؤمن المفارق بالقرآن يفارق عن بصيرة في الدين، والمفارق بالسحر يفارق عن خلل في الدين.
ثم أخبر الله تعالى عن معيار الوثنيين في اختيار النبي، فقالوا: هلا أنزل هذا القرآن على رجل عظيم من أهل مكة أو الطائف، وهما الوليد بن المغيرة ريحانة قريش، ومسعود بن عروة الثقفي زعيم ثقيف، فكل منهما عظيم المال والجاه.
فرد الله تعالى عليهم بثلاثة أوجه: أولها: أيجوز لهم أن يقسموا رحمة ربك وهي النبوة، فيختاروا لها من يريدون؟ نحن الذين نقسم الأرزاق والحظوظ بين العباد في(3/2362)
الدنيا، ونرفع درجة بعضهم على بعض في القوة والضعف، والعلم والجهل، والغنى والفقر، ليتمكنوا من تسيير شؤون الحياة، فيسخّر بعضهم بعضا في العمل وقضاء الحوائج، بالاستخدام أو الاستئجار، وثانيها: ما أعده الله لعباده الصالحين في الآخرة هو خير مما يجمعونه من الأموال وسائر متاع الدنيا، قال قتادة والسدّي:
يعني الجنة، أي في الآخرة، والرحمة في الدنيا: بالهداية والإيمان خير من كل مال.
وهذا اللفظ تحقير للدنيا.
نزلت هذه الآية: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ ... أَهُمْ يَقْسِمُونَ كما روى ابن المنذر عن قتادة في الوليد بن المغيرة- وكان يسمى ريحانة قريش- لو كان ما يقوله محمد حقا، لنزل علي أو على أبي مسعود (عروة بن مسعود الثقفي) فقال الله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يعني النبوة، فيضعونها حيث شاؤوا؟
وثالث الأوجه: خشية أن يكون الناس كلهم على ملة الكفر، تأثرا بالدنيا، لأعطينا الكفار ثروات طائلة، وجعلنا سقوف بيوتهم ومصاعدهم وأبوابهم وأسرّتهم التي يتكئون عليها من فضة خالصة، ومن الذهب والزينة المزخرفة، ولكن ليس كل ذلك إلا شيئا يتمتع به تمتعا قليلا في الدنيا، لأنها زائلة قصيرة الأجل، والآخرة بألوان نعيمها مخصصة لأهل التقوى: الذين يتقون الشرك والمعاصي، ويؤمنون بالله وحده، ويعملون بطاعته، فإنها الباقية التي لا تفنى، وذات النعيم الدائم الذي لا يزول. فقوله تعالى: أُمَّةً واحِدَةً معناه في الكفر.
الإعراض عن شرع الله تعالى
إن من آفات الاغترار بالدنيا وحب المال: الإعراض عن شرع الله تعالى وعما ذكّر به الرحمن عباده، وهذا يستوجب العقاب على الكفر، ويجعل المعرضين عن ذكر(3/2363)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
الله موصوفين بالصمم والعمى، لكونهم في ضلال مبين. ولم يقدّر هؤلاء المغترون بالدنيا من عرب قريش منزلة القرآن الكريم الذي هو سبب لرفعة النبي وقومه. وتخليد سمعتهم، ولسوف يحاسبهم الله تعالى عن إهمال القرآن، وترك التوحيد وعبادة الله.
والدعوة إلى كلمة التوحيد ونبذ عبادة الأصنام ليست مختصة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، بل كل الأنبياء والرسل كانوا مجتمعين على إنكار الوثنية وعبادة الأصنام، وقد حذّر القرآن الكريم هؤلاء وأمثالهم من عاقبة الإعراض عن دينه، فقال الله تعالى:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
«1» «2» «3» [الزخرف: 43/ 36- 45] .
آية وَمَنْ يَعْشُ نزلت- كما أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي- في قريش قالوا: قيّضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه، فقيّضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله، فأتاه وهو في القوة، فقال أبو بكر: إلام تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزى، قال أبو بكر: وما اللات؟ قال: ربنا، قال: وما العزى؟
قال: بنات الله، قال أبو بكر: فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه، فقال طلحة لأصحابه: أجيبوا الرجل، فسكت القوم، فقال طلحة: قم يا أبا بكر، أشهد أن لا
__________
(1) يتغافل ويتعام، وذكر الرحمن: مصدر مضاف إلى الفاعل.
(2) أي إن الشياطين يصدون الغاشين عن طريق الهدى.
(3) أي تبين أنكم ظلمتم أنفسكم ولن ينفعكم أنكم في العذاب مشتركون.(3/2364)
إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فأنزل الله هذه الآية: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ.. الآية.
والمعنى: من يتغافل أو يتعام عن النظر في القرآن في القرآن والعمل به، ومن يعرض عن شرع الله تعالى، ويقلّ نظره في تذكير الرحمن الذي ذكّر به عباده، نيسر له شيطانا يلازمه ويغويه، فيكون له قرينا مصاحبا له على الدوام، أي إن هذا عقاب على الكفر بالطبع على القلب وعدم الفلاح، وهذا كما يقال: إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالتزيد في المعاصي، ويجازي على الحسنات بالتزيّد في الحسنات، وقد روي هذا المعنى مرفوعا، ونقيض له شيطانا: نهيّئ ونضم ونيسر له.
وإن الشياطين الذين يقيضهم الله تعالى لكل معرض عن ذكر الرحمن، ليمنعونهم بالوسواس عن سبيل الحق والرشاد، ويحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم مهتدون إلى الحق والصواب.
ثم يتبرأ الكافر في الآخرة من قرينه الشيطان، فإنه إذا وافى الله يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي وكل به، ويتمنى البعد عنه كما بين المشرق والمغرب، فبئس الصاحب الملازم للإنسان شيطانه.
ويقال للكافرين في الآخرة توبيخا: لن ينفعكم في هذا اليوم شيء، إذ تبين أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا، ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب، أي لن يفيدكم مواساة الآخرين في أنكم وهم متساوون في العذاب، إذ التأسي أو المواساة راحة لكل مصاب في الدنيا في الأغلب، فهي أي المواساة تخفف ألم المصابين.
ثم أخبر الله نبيه مواساة له أن دعوته لا تؤثر في قلوب قومه، بالاستفهام، فقال له: أتستطيع أيها الرسول إسماع الصمّ والعمي والغارقين في ضلال واضح؟ وهذه أوصاف ثلاثة بعد وصفهم بالعشا، أي التعامي عن القرآن.(3/2365)
واقتضى هذا الإعراض تهديدهم بالانتقام، فإذا أمتناك أيها الرسول قبل نزول العذاب بهم، فإننا منتقمون منهم في الدنيا أو في الآخرة، وإن أبصرناك الذي وعدناهم به من العذاب قبل موتك، فنحن قادرون عليه أيضا، ومتى شئنا عذبناهم.
فتمسك أيها الرسول بالقرآن الذي أوحينا لك به، فإنك على الطريق القويم، والمنهج السليم، الذي يوصلك إلى سعادة الدنيا، ونجاة الآخرة وعزها.
ومنزلة القرآن الكريم عظيمة جدا لك ولقومك، فإنه لشرف عظيم لك ولقريش وللعرب قاطبة، لنزوله بلغتهم العربية، وسوف تسألون عن هذا القرآن، كيف عملتم به؟ كما جاء في آية أخرى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء: 21/ 10] أي شرفكم وسمعتكم العالية.
ثم أفاد الله تعالى أن الدعوة إلى توحيد الله وترك الشرك أمر قديم فاسأل سلالات من أرسلنا قبلك من الرسل: هل أذن الله بعبادة الأوثان في ملة من الملل؟ فجميع الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام، ولم يجعل الله آلهة معبودة من دون الرحمن.
الاعتبار بقصة موسى عليه السّلام
أنكر الله تعالى في آيات سابقة على المشركين جعلهم الثروة أساس اختيار الأنبياء، وضرب لهم مثلا حسيا بفرعون الذي قال: إنني غني كثير المال والجاه، وكان جدال موسى عليه السّلام له مفحما، ومعجزاته مبطلة لكل إفك فرعون. وأظهر القرآن الكريم مدى تأثير سلطة فرعون على قومه، فإنه استخف عقولهم حينما دعاهم إلى تكذيب موسى عليه السّلام، فأطاعوه لضلالهم، فانتقم الله تعالى منهم أشد(3/2366)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)
الانتقام، بالإغراق في البحر، مما جعلهم مثلا قدوة للكفار، وعظة وعبرة لمن يأتي بعدهم. وهذا ما دوّنته آيات القرآن الكريم:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)
«1» «2» «3» [الزخرف: 43/ 46- 56] .
ساق الله تعالى قصة موسى مع فرعون عظة وسلوى لما حدث بين النبي وقومه، فلقد بعث الله تعالى إلى فرعون وقومه موسى مؤيدا بالمعجزات الدالة على صدقه:
وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الإسراء [الآية 101] وغيرها كالطوفان والجراد والقمّل والدم والضفادع والقحط، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه من الأشخاص والأصنام، وقال لهم: إني مرسل إليكم من الله رب العالمين: الإنس والجن.
فلما أتاهم موسى بتلك الآيات الدالة على صدقه، إذا فرعون وقومه يستهزئون ويضحكون ممن جاءهم بها. ويقصد بهذا إيناس النبي صلّى الله عليه وسلّم عن إعراض قومه.
__________
(1) أغضبونا بالإفراط في العصيان والعناد.
(2) قدوة لمن بعدهم من الكفار.
(3) عظة وعبرة لمن يأتي بعدهم.(3/2367)
وتوالت آيات التذكير لفرعون وقومه، فما يريهم الله تعالى من آية إلا هي أعظم من سابقتها في الحجية عليهم، والإدلال على صحة الدعوة إلى التوحيد. فلما لم يعدلوا عن ضلالهم، أخذهم الله أخذ قهر بإنزال العذاب عليهم، بسبب تكذيبهم بتلك الآيات، لكي يرجعوا عن كفرهم، ويؤمنوا بالله وحده لا شريك له، ويطيعوا موسى فيما أمر ونهى. وقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ترج بحسب معتقد البشر وظنهم. ويرجعون معناه: يتوبون ويقلعون عن معاصيهم.
وكانوا كلما جاءتهم آية وصفوها بالسحر، وقالوا لموسى عليه السّلام: يا أيها الساحر العالم- وكانوا يسمون العلماء سحرة- ادع لنا ربك لكشف العذاب عنا بما أخبرتنا به من عهده إليك، فإننا بعدئذ لمؤمنون بما جئت به. فدعا موسى ربه، فكشف عنهم العذاب، فلما رفع عنهم العذاب، نقضوا عهدهم، وعادوا لكفرهم.
وازداد فرعون في عتوه وطغيانه، ولجأ إلى التفاخر بالملك والسلطان والثراء، فقال: يا قوم، أليس لي ملك مصر العظيم، فلا ينازعني فيه أحد، والسلطة المطلقة لي، ونهر النيل وجداوله تجري من تحت قصري وأمامي في بساتيني، أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك؟! ثم بل أنا خير وأفضل بما لي من الملك والسلطة والغنى والجاه من موسى الضعيف الحقير، الذي لا يكاد يبين الكلام، لما في لسانه من لكنة أو عقدة، وهذا بحسب علمه الماضي، ولم يدر أن الله تعالى أزال عقدته. ثم قارن فرعون نفسه مع موسى مقارنة الغني المترف المتفاخر بماله، فقال: فهلا حلّي موسى بأساور الذهب إن كان عظيما، أو جاء معه وفد من الملائكة مقترنين متتابعين يحرسونه إن كان صادقا؟
فاستهان فرعون بعقول قومه ورعيته، ودعاهم إلى الضلالة، فاستجابوا له،(3/2368)
وأطاعوه فيما أمرهم به، وكذبوا موسى ورسالته فكانوا فاسقين، أي خارجين عن طاعة الله تعالى.
فلما أسخطوا الله، وأغضبوه بالتمادي في الضلال والعناد، انتقم الله منهم انتقاما شديدا، بالإغراق جميعا في البحر، وكان الإغراق مناسبا لتفاخرهم وتباهيهم واغترارهم. وإغضاب الله تعالى: هو أن تعمل الأعمال الخبيثة التي تظهر من أجلها أفعاله الدالة على إرادة السوء بمن شاء.
وبذلك جعلهم الله قدوة لمن عمل بعملهم من الكافرين، في استحقاق العذاب، وعبرة وعظة لمن يأتي بعدهم من الكفار. والسلف: هو الفارط من الأمم، المتقدم لهم، أي جعلناهم متقدمين للأمم الكافرة عظة ومثلا لهم، يعتبرون بهم، أو يقعون فيما وقعوا فيه.
الاعتبار بقصة عيسى عليه السّلام
ضرب الله تعالى الأمثال بالأقوام أحيانا، وبأشخاص الأنبياء وسيرتهم أحيانا أخرى، وذلك إما من أجل تبيان أصول العقيدة، أو للإفادة من منهج حياة الإنسان، في مسيرة الأجيال وعلى ممر الزمان، وكان خلق عيسى عليه السّلام من غير أب، مثار تعجب واستغراب، وهو في الواقع لا يختلف عن خلق آدم بلا أب ولا أم، كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ.. [آل عمران: 3/ 59] ، وكان عند جماعة سببا للمبالغة المفرطة.
أخرج الإمام أحمد والطبراني عن ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لقريش: إنه ليس أحد يعبد من دون الله، وفيه خير، فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبيا، وعبدا صالحا، وقد عبد من دون الله؟ فأنزل الله هذه الآية وما بعدها:(3/2369)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 66]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)
«1» «2» «3» «4» [الزخرف: 43/ 57- 66] .
المعنى: لقد انتهز مشركو مكة ولا سيما ابن الزّبعرى مسألة عيسى ابن مريم الذي عبد من دون الله تعالى، وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما أخبر عنه القرآن الكريم: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 21/ 98] وحاولوا أن يقولوا: كل معبود في النار، فأوضح القرآن العظيم أن المقصود الأصنام والأوثان، ولا تتناول الآية عيسى والعزير والملائكة، فهؤلاء كلهم عباد موحدون الله عز وجل. فتبدد ما قالت قريش، بعد أن ضجوا وضحكوا وجادلوا. وقال كفار قريش مجادلين بالباطل: آلهتنا ليست خيرا من عيسى، فإن كان كل معبود من غير الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى والعزير والملائكة، ولم يضربوا هذا المثل في عيسى إلا بقصد الجدل بالباطل، فإنهم قوم شديد والخصومة والجدل. وذلك أنه لما نزلت: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 21/ 98] جاء عبد الله بن الزّبعرى ونظراؤه، فقالوا: نحن نخصم محمدا، أآلهتنا خير أم عيسى؟
وعلموا أن الجواب أن يقال لهم: عيسى، أي ما مثّلوا لك هذا التمثيل إلا جدلا
__________
(1) أي يضجون ويضحكون.
(2) فلا تشكن فيها.
(3) أي أصول الدين العامة.
(4) أي تأتيهم فجأة.(3/2370)
منهم ومغالطة، ونسوا أن عيسى عليه السلام لم يعبد برضا منه ولا عن إرادة، وليس له في ذلك ذنب.
ثم أخبر الله تعالى: أن عيسى ما هو إلا عبد من عبيد الله، أكرمه الله، وأنعم عليه بالنبوة والرسالة، وجعله الله آية وعبرة لبني إسرائيل، فخلقه أسهل من خلق آدم، ومعجزاته كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله.
ولو يشاء الله أهلك أولئك الكفرة المجادلين، وجعل بدلا منهم ملائكة في الأرض يعمرونها، يخلفونهم فيها.
وإن نزول عيسى في آخر الزمان وخروجه أمارة على وقوع القيامة، لكونه من علاماتها، لأن الله تعالى ينزله من السماء قبيل الساعة، كما أن خروج الدجال قبله من أمارات الساعة، فلا تشكّوا أيها البشر في وقوعها، ولا تكذبوا بها، فإنها كائنة لا محالة، واتبعوا هدى الله فيما أمر به من التوحيد وإبطال الشرك.
ولا يصرفنكم الشيطان عن اتباع الحق، بوساوسه التي يلقيها في نفوسكم أيها البشر، إن الشيطان لكم عدو ظاهر العداوة، من عهد أبيكم آدم عليه السلام.
ولما جاء عيسى بالمعجزات الدالة على صدقه، وبالشرائع الإلهية، قال لبني إسرائيل: قد جئتكم بالشرائع الصالحة التي ترغّب في فعل الخير والجميل، وتكف عن الفعل القبيح، وجئتكم بأصول الدين العامة، من توحيد الله والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر، ولأوضح لكم بعض ما تختلفون فيه من أحكام التوراة، فاتقوا الله وخافوه بامتثال أوامره ونواهيه، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد الله وشرائعه وتكاليفه.
إن الله عز وجل هو ربي وربكم، وإلهي وإلهكم، فأخلصوا العبادة له، فإن تخصيص العبادة بالله هو الطريق القويم.(3/2371)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
فاختلفت فرق اليهود والنصارى الذين بعث الله إليهم عيسى، في شأنه، أهو ابن الله أو إله؟ وانقسموا فرقا وأحزابا، فالويل والهلاك والعذاب الشديد للذين ظلموا من هؤلاء المختلفين في طبيعة المسيح، أهي بشرية أم ناسوتية إلهية؟ وانحرفوا في تقريرها.
فهل ينتظر المشركون المكذبون للرسل إلا مجيء القيامة فجأة، وهم لا يشعرون بمجيئها لانشغالهم بشؤون الدنيا؟
أحوال المتقين والمجرمين يوم القيامة
وصف الله تعالى ألوان نعيم أهل الجنة، وأنواع عذاب أهل النار، أما المتقون:
فهم في وداد ومحبة، وطمأنينة في نعيم الجنة، وتمتع بأبهى المراتب وأصناف الترف، جزاء عملهم الصالح في الدنيا. وأما المجرمون: فهم في عذاب دائم، يتمنون الموت فلا يجدونه، بسبب كفرهم ومعاصيهم، وكراهيتهم للحق والعدل، ويفاجأون بأن الله تعالى أحصى عليهم كل ما بدر منهم من قول أو فعل، إقامة للحجة عليهم، وإثباتا لكل عمل صدر منهم، وهذا ما ذكرته الآيات الآتية:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 80]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
«1» «2»
__________
(1) يظهر عليهم أثر السرور والإكرام. [.....]
(2) نوع من الأواني كالأباريق التي لا مقابض لها(3/2372)
«1» «2» [الزخرف: 43/ 67- 80] .
نزلت آية الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ في أمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، كانا خليلين، فتواطا على إيذاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفعل عقبة ما اتفقا عليه، فنذر النبي قتله، فقتله يوم بدر صبرا (منصوبا للقتل) وقتل أمية في المعركة.
المعنى: الأصدقاء في الدنيا، المتحابون فيها، يعادي بعضهم بعضا يوم القيامة، ويتباغضون، لأن كل واحد يرى أن الضرر دخل عليه من قبل خليله، إلا المتقين الله بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، فإن صداقاتهم تستمر في الآخرة، ويرون أن النفع دخل من بعضهم على بعض. والأخلاء: الأصحاب.
ويقال للمتقين المتحابين في الله: لا تخافوا من عذاب الآخرة، ولا تغتروا بنعيم الدنيا، فإن نعيم الآخرة هو الباقي، والدنيا زائلة.
وهؤلاء المتقون: هم المؤمنون بآيات القرآن، المنقادون لأحكام الله وشرائعه، وأسلموا وجوههم لله وشرعه.
ويبشّرون بالجنة فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم ونساؤكم المؤمنات تكرمون، وتنعّمون، وتسعدون السعادة الكاملة.
وألوان نعيمهم: أن لهم مختلف أنواع المطاعم والمشارب، يقدم لهم ذلك بآنية من الذهب، وأكواب من الفضة. والكوب: الكوز الذي لا عروة ولا مقبض له. وفيها
__________
(1) لا يخفف عنهم بجعل العذاب متقطعا.
(2) آيسون من النجاة، حزينون من شدة البأس.(3/2373)
كل ما تشتهيه الأنفس من الألبسة والمسموعات، وكل ما تهواه النفوس، وتلذ به الأعين من اللذائذ والمشاهد المادية والمعنوية، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم فيها ماكثون على الدوام.
وسبب هذا الجزاء: أن تلك الجنة صارت لكم كالميراث، لما قدمتموه من العمل الصالح في الدنيا، وليس المعنى أن الأعمال أوجبت على الله إدخالهم الجنة، وإنما المعنى أن حظوظهم فيها على قدر أعمالهم، وأما دخول الجنة نفسه فبفضل الله ورحمته.
ولكم في الجنة غير الطعام والشراب فاكهة كثيرة الأنواع، تأكلون منها مهما شئتم، كلما قطفتم ثمرة تجدد لكم أخرى. هذا حال أهل الجنة وما يقال لهم.
ثم ذكر الله بعدئذ حال الكفرة من الخلود في النار، واليأس من الخروج منها، ليتبين الفرق وتتضح الأمور، فإن المجرمين (أي الكافرين) يخلدون في عذاب النار على الدوام، ولا يخفف عنهم العذاب فترة ليستريحوا منه، وهم مبعدون آيسون من الخير ومن النجاة، قائمون في جهنم إلى الأبد.
وذلك لأن الله تعالى لم يظلمهم، أي لم يعذبهم بغير ذنب، ولا يزيد في عذابهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم بما ارتكبوا من الذنوب، وبما عملوا من السيئات.
ونادى هؤلاء الظالمون: يا مالك (وهو خازن النار) ليمتنا الله مدة، حتى لا يتكرر عذابنا، فيقال لهم: إنكم ماكثون، أي مقيمون في العذاب، لا خروج لكم من النار. وجواب مالك هذا: إما بعد ألف سنة كما قال ابن عباس أو بعد ثمانين أو أربعين سنة. ونظير الآية كثير مثل: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر: 35/ 36] .
وسبب العقاب: لقد بيّنا لكم الحق، وأرسلنا إليكم الرسل، وكان أكثركم، أي(3/2374)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
كلكم كارهين للحق وأهله. بل إن مشركي مكة وأمثالهم دبروا كيدا للنبي صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة بمكة، ليقتلوه أو يحبسوه أو يطردوه، وأحكموا أمر الكيد والمؤامرة، ولكن الله أبرم حكما لهم بنصره وحمايته وبيّت لهم جزاء وعقابا شديدا. قال مقاتل: نزلت هذه الآية أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً في تدبيرهم في المكر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة.
بل أيظنون أنا لا نسمع سرهم وعلانيتهم، سواء ما يضمرونه من شر وكيد، أو ما يتناجون به علانية لحبك المؤامرة وتنفيذها؟ بلى، نحن نسمع ذلك ونعلم به تماما، والملائكة الحفظة أيضا يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل.
أخرج ابن جرير الطبري في نزول هذه الآية، عن محمد بن كعب القرظي قال:
بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، فقال واحد منهم: ترون الله يسمع كلامنا؟ فقال آخر: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، فأنزلت أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ.. الآية، أي إنها نزلت لأن كثيرا من العرب كانوا لا يعتقدون أن الله تعالى لا يسمع السرار.
نفي الولد والشريك عن الله تعالى
على الرغم من تهديد الكفار بعذاب النار، فإنهم بقوا على الشرك بنسبة الولد والشرك لله تعالى، فنفى الله تعالى ذلك نفيا باتا، وأوضح أنه المعبود بحق، وأنه الحكيم في صنعه، العليم بكل شيء، ومالك السماوات والأرض، وهو إله السماء وإله الأرض، وأن الآلهة المعبودة لا نفع ولا شفاعة لها، وأن المشركين متناقضون حين أقروا بأن خالق الكون هو الله تعالى، ثم عبدوا غيره، فهم قوم لا يؤمنون، وحسابهم آت لا ريب فيه، كما بيّنت الآيات الآتية:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 89]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)(3/2375)
«1» «2» «3» «4» [الزخرف: 43/ 81- 89] .
قل أيها النبي لقومك الذين أشركوا مع الله إلها آخر: إن وجد للرحمن ولد- كما يقولون- فأنا أول من يعبده على ذلك، ولكن ليس له شيء من ذلك جل وعلا. وهذا وارد على سبيل الافتراض أو لطيف الخطاب، نحو قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 34/ 24] .
وأكد الله نفي الولد عنه، فقد تنزه وتقدس عما يقولون، من الكذب بادعاء ولد له، فهو رب السماوات والأرض ومالكهما، ورب العرش المحيط بالكون، وهو منزه عما يصفه به المشركون كذبا، من نسبة الولد إليه. وخص الله السماوات والأرض والعرش، لأنها أعظم المخلوقات.
فاتركهم أيها النبي يخوضوا في جهلهم وباطلهم وضلالهم، ويلعبوا ويلهوا في دنياهم، حتى يلقوا يوم القيامة الذي يوعدون به. وهذا تهديد ووعيد، ثم يؤكد الله تنزيه نفسه عن الولد بجملة أمور، وهي ما يأتي:
- الله كائن في جميع الكون، فهو الإله المعبود في السماء، والإله المعبود في الأرض، فلا يستحق العبادة سواه، وهو الحكيم في تدبير خلقه، العليم بمصالحهم.
__________
(1) أي اتركهم يعبثوا في باطلهم.
(2) تفاعل من البركة، أي تزايدت بركاته.
(3) أي يصرفون.
(4) أي وقوله. وهو معطوف على الساعة، أي وعنده علم الساعة وعلم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم.(3/2376)
وهذه آية تحكم بعظمة الله وتخبر بألوهيته، والمراد بها: أنه تعالى هو المنافذ أمره في كل شيء.
- ولا نفع للأصنام، فقد تعاظم الله وزادت خيراته وبركاته، فهو مالك السماوات والأرض، وما بينهما من الفضاء والهواء، وجميع الموجودات من إنسان وحيوان، وهو خالق كل شيء، وهذا حصر لجميع الموجودات المحسوسة، والله هو المختص بعلم الساعة، أي بتحديد قيامها، ووقتها، وتعيينه وحصره. فهذا مما استأثر الله بعلمه، وإليه مرجع أو مصير الخلائق كلها، فيجازي كل إنسان بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فقوله: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ هم المعبودون.
- ولا تملك الأصنام ولا تقدر كأي معبود من دون الله الشفاعة بأحد، كما يزعم عبدتها من أنها تشفع لهم، لكن من آمن وشهد بالحق المنزل من عند الله، عن بصيرة ويقين، وبأن الله وحده لا شريك له، فإن شفاعته مقبولة عند الله بإذنه، وكان هؤلاء المشفعون على علم وبصيرة بما شهدوا به.
- وتالله لئن سألت هؤلاء المشركين بالله، العابدين معه غيره عمن خلقهم؟
لأجابوا بأنه هو الله، فهم يعترفون بأن الله خالق جميع الأشياء، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئا، ولا يقدر على شيء، فكيف يصرفون عن العبادة الحقة؟
وهي عبادة الله عز وجل إلى عبادة غيره، ومع وجود هذا الاعتراف، إنهم إذن في غاية التناقض، والجهل، والسفاهة، ومدعاة التعجب. لقد أظهر الله تعالى الحجة عليهم من أقوالهم وإقرارهم بأن الله تعالى هو خالقهم وموجدهم بعد العدم، فلأي جهة يصرفون؟! - والله تعالى عالم بالساعة، أي القيامة، وعالم بشكوى نبيه صلّى الله عليه وسلّم
وقوله: يا رب، إن هؤلاء القوم الذين أرسلتني إليهم قوم لا يؤمنون ولا يصدّقون بك، ولا برسالتي إليهم.(3/2377)
فأمره الله بالمسامحة إلى أجل، وقوله له: اصفح عن المشركين صفح المغاضب المعرض ترفعا، لا الموافق المجامل، وأعرض عما يقولون وعما يتهمونك به من السحر والكهانة، واصبر على دعوتهم إلى توحيد الله إلى أن يأتي أمر الله. وهذا يتضمن شيئين: وهما تهديد ووعيد من الله لهم، ووعد متضمن بنصر الإسلام والمسلمين عليهم عما قريب، وقد أنجز الله وعده، وأيد رسوله، وهزم أركان الشرك والمشركين، وطهر جزيرة العرب من لوثات الشرك وآثار المشركين.(3/2378)
حم (1)
تفسير سورة الدخان
ليلة إنزال القرآن وتهديد المشركين
أنزل الله تعالى في ابتداء تنزيله القرآن الكريم بعض السور والآيات في ليلة القدر المباركة، رحمة من الله بعباده، وعلما منه بما يصلحهم، والله سبحانه هو رب كل شيء من السماوات والأرض، وهو الإله الواحد الذي يحيي ويميت، رب الأولين والآخرين، فمن آمن بالقرآن نجا، ومن أعرض عنه هلك، لذا استحق المشركون التهديد بالعذاب، إما في الدنيا بالجوع الشديد والجدب، حتى إن الجائع يرى دخانا بينه وبين الناس، وإما قبيل يوم القيامة حيث يجيء دخان، يصيب المؤمن منه مثل الزكام، ويشوي رؤوس المنافقين والكافرين، وهذا مقرر في مطلع سورة الدخان المكية بالاتفاق:
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) يفصّل ويبيّن.
(2) أي محكم لا لبس فيه.
(3) انتظر.
(4) يحيط بهم من كل جانب.(3/2379)
[الدخان: 44/ 1- 16] .
ابتداء الله السورة بالأحرف الهجائية للتنبيه على خطر ما فيها، ولتحدي العرب الناطقين بلغة الضاد المتكونة من أمثال هذه الحروف بالإتيان بمثل القرآن أو بمثل بعضه. ثم أقسم الله تعالى بالقرآن الواضح البيّن الشامل لكل أمور الدين والدنيا والمبين هدى الله وشرعه، على أنه أنزل القرآن في ليلة كثيرة الخير، التي هي ليلة القدر، أي إنه تعالى ابتدأ إنزال القرآن في ليلة القدر من ليالي رمضان. وقال العلماء:
إن كتب الله تعالى كلها إنما أنزلت في رمضان، التوراة في أوله، والإنجيل في وسطه، والزبور في نحو ذلك، ونزل القرآن في آخر رمضان في ليلة القدر. ومعنى هذا النزول:
أن ابتداء نزوله كان في ليلة القدر. وإنه سبحانه كان وما يزال ينذر بهذا القرآن الناس من العذاب الأليم في الآخرة، إذا أشركوا بالله واقترفوا المعاصي.
وفي ليلة القدر يفصّل ويبين الأمر المحكم، ويتخلص عن غيره، فيكتب فيها ما يكون في السنة من الآجال والأرزاق، من خير وشر، وحياة وموت وغير ذلك. قال الحسن البصري ومجاهد وقتادة وغيرهم: في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والآجال والأرزاق وغير ذلك، ويكتب ذلك، ويكتب ذلك لهم إلى مثلها من العام المقبل.
أنزل الله القرآن أمرا جازما من عنده، متضمنا وحيه وشرعه، وأرسل الرسول محمدا والأنبياء عليهم الصلاة والسّلام إلى الناس لتلاوة آيات الله البينات، رحمة من عند الله وإنقاذا، لبيان ما ينفعهم وما يضرهم، إن الله هو التام السمع لكل صوت أو قول، الشامل العلم بكل صغيرة وكبيرة.
ودليل السمع والعلم وتنزيل القرآن رحمة: أن الله هو رب السماوات والأرض(3/2380)
وما بينهما من سائر المخلوقات، وخالقها ومالكها وما فيها، إن أردتم معرفة ذلك عن يقين تام، لا شك فيه.
ومن صفات الله بعد إثبات الرّبوبية: اتّصافه بالوحدانية، فهو الإله الواحد الذي لا إله غيره، وهو الذي يحيي الأشياء والمخلوقات، ويميتها، وهو أيضا ربّ الآباء الأوّلين والأجداد الأقدمين، وربّ الموجودين ومن يأتي بعدهم ومدبّر شؤونهم، والرّبوبية تستحقّ العبادة، فالله وحده دون غيره يستحقّ العبادة.
بل هؤلاء المشركون في شكّ من أمر البعث والتوحيد، يلعبون ويعبثون. وهذا إضراب عما قبله من الكلام، ينفي ما تقدّم، كأنه يقول: ليس هؤلاء ممن يؤمن، ولا ممن تنفعه وصية، بل هم شاكّون لاعبون في أقوالهم وأفعالهم.
فانتظر أيها المشرك يوم تأتي السماء إما بدخان حقيقي أو بما يشبه الدخان، والذي يشبهه: هو ما تعرّض له المشركون من شدة الجوع والقحط، حتى كان الرجل يرى من الجدب والجوع دخانا بينه وبين الناس، والآيات الآتية تقوي هذا التأويل،
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: إن قريشا لما استعصوا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط، حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله:
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ.. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، استسق لمضر، فإنها قد هلكت، فاستسقى، فسقوا، فنزلت.
وطلب الناس قائلين: يا ربّنا اكشف عنا عذابك، إنا مصدّقون بالله ورسوله، ولكنهم لم يكونوا صادقين، ومن أين لهم التّذكر والاتّعاظ والوفاء بالعهد بالإيمان بعدئذ، وكان قد جاءهم رسول مبيّن أدلة الإيمان، ثم أعرضوا عنه، وقالوا: إنما يعلّمه القرآن بشر غيره، إنه مجنون لا عقل له.(3/2381)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)
ورحمة من الله قال: إنا سنرفع عنكم العذاب زمانا قليلا، لكنكم راجعون إلى الشّرك، وقد رجعوا فعلا، وإنكم مؤجّلو العذاب الشديد والانتقام الأشد في يوم القيامة، إننا نعاقب هؤلاء الكفار حينئذ.
قال البخاري في تتمة الحديث السابق: فلما أصابتهم الرفاهية، عادوا إلى حالهم، فأنزل الله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى.. فانتقم الله منهم يوم بدر.
الاعتبار بقوم فرعون
كان القرشيون أشداء مستكبرين، وأباة أسيادا بين العرب، فلفت القرآن الكريم أنظارهم إلى أن الله تعالى أهلك من هو أشد منهم قوة وبأسا، ومنهم قوم فرعون، الذين أغرقهم الله مع مليكهم بسبب جحودهم وإجرامهم وتكذيبهم رسولهم، مما يوجب عليهم الاعتبار والاتعاظ، والإدراك بأن أموال الظالمين وثرواتهم آلت إلى من بعدهم، ونجى الله المؤمنين بحق برسالة موسى عليه السّلام، وأنزل التوراة على رسولهم موسى، ليعملوا بأحكامها وشرائعها، ويشكروا نعم الله التي أنعم بها عليهم، وجعلهم مناط ابتلاء أو اختبار، قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال:
[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) اختبرنا.
(2) ترموني بالحجارة أو تؤذوني.
(3) سر ليلا. [.....]
(4) أي ساكنا كما هو، مفتوحا.(3/2382)
«1» «2» [الدخان: 44/ 17- 33] .
أي تالله لقد اختبرنا قبل مشركي مكة قوم فرعون (قبط مصر) أرسل الله إليهم، رسولا كريما في نفسه، جامعا لخصال الخير أو المحامد والمنافع، وهو موسى عليه السّلام.
وقال موسى لفرعون وقومه: أرسلوا معي عباد الله، وهم بنو إسرائيل، وأطلقوهم من العذاب، فإني رسول مؤتمن على الرسالة، غير متهم.
ولا تتجبروا ولا تتكبروا عن اتباع آيات الله، والانقياد لطاعته ومتابعة رسله، فإني آتيكم ببرهان ساطع دال على صدق رسالتي كالعصا واليد والآيات التسع.
وإني أستعيذ بالله وألتجئ إليه، وأتوكل عليه، مما تتوعدوني به من القتل بالحجارة، أو الإيذاء بالشتم وغيره.
وإن لم تصدقوني في نبوتي وبما جئتكم به من آيات الله وشرائعه من عند الله، فاتركوني، ولا تتعرضوا لي بأذى، إلى أن يحكم الله بيننا.
فلما يئس موسى من إيمانهم، دعا ربه، ووصف قومه بأن هؤلاء قوم مكذبون رسلك، مشركون بك. فأمره الله تعالى بأن يخرج ليلا بعباد الله بني إسرائيل، لأن فرعون وقومه يتّبعونكم، واترك البحر الذي تمر فيه ساكنا مفتوحا كما هو، لا تضربه بعصاك، حتى يعود كما كان، ليدخله فرعون وجنوده، فإنهم قوم مغرقون في البحر، وهذا بشارة بنجاة موسى وقومه، وإهلاك عدوهم.
ولقد خلّف قوم فرعون وراءهم كل ثرواتهم، فكثيرا ما تركوا في مصر وراءهم، من بساتين خضراء، وحدائق غنّاء، وزروع نضرة، ومجالس حسنة مرفّهة، ونعم
__________
(1) ممهلين مؤخرين.
(2) اختبار ظاهر.(3/2383)
كانوا يتمتعون بها أو ناعمين بها. والفاكه: الطيب النفس. والنّعمة- بفتح النون-:
غضارة العيش، ولذاذة الحياة. والنّعمة بكسر النون: أعم من هذا، وقد تكون الأمراض والآلام والمصائب نعما، ولا يقال فيها نعمة.
كذلك، فكما فعلنا سابقا بالذين كذبوا رسلنا، نفعل بكل من عصانا، وأورثنا تلك البلاد والثروات للإسرائيليين الذي كانوا مستضعفين.
فما تأسّفت عليهم أوساط السماء والأرض، ولم يكونوا ممهلين، بسبب بغيهم وفسادهم، بل عجّلت عقوباتهم، لفرط كفرهم، وشدة عنادهم، ولم يكونوا ممهلين مؤخّرين لتوبة، لأنها غير منتظرة منهم. قوله تعالى: فَما بَكَتْ استعارة تتضمن تحقير أمرهم، وأنه لم يتغير شيء بهلاكهم «1» .
وكان في مقابل النقمة: وجود النعمة، فلقد خلّصنا شعب بني إسرائيل، من العذاب المشتمل على إهانة، بإهلاك عدوهم، ومما كانوا فيه من الاستعباد، حينما كانوا صلحاء غير مفسدين في الأرض، ونجاهم الله من فرعون الطاغية المسرف في ارتكاب المعاصي، المجاوز كل الحدود. واختار الله الإسرائيليين الصالحين على عالمي زمانهم، عن علم سابق من الله فيهم، وأنه سينفذ فيهم، وأعطاهم على يد رسولهم موسى المعجزات الظاهرة الدالة على قدرة الله، وآيات التوراة وغير ذلك مما فيه اختبار ظاهر، وامتحان واضح لمن اهتدى به، وللنظر فيما يعملون. فإذا بدّلوا بالإيمان الكفر، وبالصلاح الفساد كما في عصرنا الحاضر، غضب الله عليهم، ولعنهم، وجعل منهم القردة والخنازير، ويعود العقاب لهم كلما عادوا إلى البغي والفساد والاعتداء على حقوق الآخرين.
__________
(1) وقال جماعة: ترك البكاء: حقيقة، فإن الرجل المؤمن إذا مات، بكى عليه من الأرض موضع عباداته أربعين صباحا، وبكى عليه من السماء موضع صعود عمله.(3/2384)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34)
إنكار البعث والرد على المشركين
المشكلة الحقيقية في كفار قريش بعد وثنيتهم: أنهم كانوا منكري البعث، فلا حياة ولا وجود بعد الموت في زعمهم، ولا دليل على إمكان الإعادة، فتوالت الردود عليهم في القرآن الكريم، وتتابعت التنبيهات والتحذيرات، وألوان الوعيد والتهديد، ومن أخطرها: تحقق العذاب فيهم في نيران جهنم، وتناولهم أشد أنواع الشجر مرارة: وهو شجر الزقوم، فتغلي به بطونهم، تنهال على رؤوسهم حمم النار، فتصهرهم، ويتعرضون لكل ألوان الإهانة والذل فتتركهم أذلة مهانين منبوذين، قال الله تعالى واصفا المشكلة وأسبابها:
[سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 50]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38)
ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43)
طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الدخان: 44/ 34- 50] .
تشير هذه الآيات في مطلعها إلى قريش إشارة تحقير، فهؤلاء كفار مكة يقولون ما
__________
(1) أي بمبعوثين أحياء.
(2) ملك حميري في اليمن والشّحر وحضرموت.
(3) القوي الغالب.
(4) هي الشجرة الملعونة في قعر جهنم.
(5) عكر الزيت والقطران.
(6) جرّوه وسوقوه بعنف وشدة.
(7) وسط الجحيم.
(8) تشكون.(3/2385)
هي إلا الموتة الأولى التي نموتها في الدنيا، ولا حياة ولا بعث بعدها. وإن كنتم أيها المسلمون صادقين في ادعاء البعث، فأعيدوا إلينا آباءنا إلى الدنيا بعد قوتهم، لنسألهم عما رأوا في آخرتهم. وهذه حجة واهية، لأن البعث ليس الآن، وإنما في يوم القيامة.
فرد الله تعالى عليهم مهددا، ومنذرا، ومتوعدا بالعقاب:
أهم، أي كفار قريش من عدنان خير في القوة والمنعة، أم قوم تبّع الحميري من قحطان، الذين كانوا أقوى جندا وأعز مكانا؟ وكذلك الأمم السابقة كعاد وثمود ونحوهم، أهلكناهم جميعا لكفرهم وإجرامهم، فإهلاك من دونهم أيسر وأقرب. وتبّع المشار إليه في هذه الآية: رجل صالح من التبابعة، ذم الله تعالى قومه، ولم يذمّه ونهى العلماء عن سبّه.
والدليل على قدرة الله تعالى الشاملة والعظمى: خلق السماوات والأرض، فلم يخلق الله السماوات والأرض وما بينهما، عبثا ولعبا، وباطلا ولهوا، وإنما بإبداع لا نظير له. وما خلقهما الله إلا خلقا ملازما للحق ولإظهاره وهو الاستدلال على وجود الخالق ووحدانيته، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك، لقلة نظرهم، وضعف وعيهم، فمن أبدع ذلك، أليس قادرا على إمكانه إعادة الخلق؟! إن يوم القيامة الذي يفصل الله فيه بين الخلائق: هو موعد جمعهم، ووقت حسابهم وجزائهم جميعا، إنه يوم لا ينفع قريب قريبا، ولا ناصر منصورا، ولا يدفع عنه شيئا من العذاب أو الإغناء، فلا يفيد المؤمن الكافر، ولا ينتصرون من أحد، لكن من رحمه الله، فإنه ينتصر وينجو، فإن الله هو القوي الغالب القاهر الذي لا يفلت أحد معتد من عذابه.
وسيلقى المشركون منكرو البعث كلّ ألوان العذاب والمهانة، فإن طعامهم هو طعام الآثمين قولا وفعلا: وهو شجرة الزقوم الشديدة المرار، والذي لا يشبع.(3/2386)
والأثيم: مبالغة في الإثم، وهذه الشجرة: هي الشجرة الملعونة التي تنبت في قعر جهنم.
وهذا الطعام يشبه عكر الزيت والقطران ومذاب النحاس، لحرارته ورداءته، يغلي غليانا شديدا في بطون آكليه، كغلي الماء الشديد الحرارة، ويقال للملائكة خزنة النار: خذوا هذا الأثيم، فجرّوه وسوقوه إلى وسط النار، بعنف وشدة، ثم صبوا على رأسه الماء الشديد الحرارة، الذي هو أشد الماء الساخن، وقولوا له تهكما وتقريعا: ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم في زعمك في الدنيا، وإن هذا العذاب هو الذي كنتم تشكّون فيه، حين كنتم في الدنيا، وهو كما جاء في آية أخرى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور: 52/ 13] .
أخرج سعيد بن منصور عن أبي مالك قال: إن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزّبد، فيقول: تزقموا، فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد، فنزلت: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ
وأخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال: لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا جهل، فقال:
إن الله أمرني أن أقول لك: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [القيامة: 75/ 34- 35] فنزع يده، وقال: ما تستطيع لي ولا صاحبك من شيء، لقد علمت أني أمنع أهل البطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله الله يوم بدر، وأذلّه وعيّره بكلمته، ونزل فيه:
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.
حال المتقين في الآخرة
أوضح الله تعالى أحوال الكافرين وما يلقونه من أهوال الآخرة، ثم من أجل الموازنة، ذكر الله تعالى حال المتقين يوم القيامة، وما يحظون به من أنواع خمسة من(3/2387)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
النعيم، فلهم جنان الخلد، ويتدثرون بألبسة الحرير، على سرر متقابلين ويتزوجون بالحور العين، ويتفكهون بكل فاكهة آمنين، وحياتهم في الجنة خالدة أبدية، ووقوا عذاب الجحيم، وذلك بفضل الله أعظم الفوز، وأمكن معرفة ذلك يقينا بما دل عليه اللسان العربي الفصيح، الذي نزل به القرآن الكريم، ولم يبق إلا إنجاز الوعد. وهذا ما أخبرت به الآيات الآتية:
[سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
«1» «2» «3» [الدخان: 44/ 51- 59] .
هذه أنواع النعيم الخمسة للمتقين وهي:
- إن الذين اتقوا ربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، لهم مساكن ومقامات آمنة مأمونة من جميع المخاوف، طيبة المكان والنفس، لا غيرة فيه بينهم، في بساتين خضراء، وينابيع متفجرة بالماء. وهذا يقابل ما للكفار من شجرة الزقوم وشرب الحميم، كما في آيات سابقة.
- ملابسهم التي يلبسونها: من حرير رقيق، وخشن أو غليظ، ذي بريق ولمعان، وجمال فريد، متقابلين في جلساتهم للاستئناس، لا يستدبر بعضهم بعضا في المجالس.
- كذلك أي ومع هذا العطاء وإدخال الجنان يزوجهم، أي يقرنهم الله بالحور البيض، الواسعات الأعين مع عظم السواد، ولا يوجد عقود زواج بالحور، وإنما
__________
(1) السندس: رقيق الحرير، والإستبرق: خشنه.
(2) وصف لمجالس أهل الجنة، إقبال من غير إدبار. [.....]
(3) يطلبون الخدمة والتصرف.(3/2388)
المراد قرنهم بهم. وقد وصف الله الحور بأوصاف في آيات، منها: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) [الرحمن: 55/ 56- 58] فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) [الرحمن: 55/ 70- 72] .
- وهم يطلبون للخدمة والتصرف في الجنة ما شاؤوا من أنواع الثمار أو الفاكهة وهم آمنون من انقطاعها أو امتناعها، وإنما يحضرها الخدم كلما أرادوا، وهم أيضا آمنون من الأوجاع والأسقام، ومن الموت والعناء، ووساوس الشيطان. وهذا دليل على التمتع بأنواع اللذة المادية والمعنوية.
- ثم إن حياتهم في الجنة دائمة، لا يتعرضون في الآخرة للموت أبدا، ولا يذوقون طعم الموت فيها مطلقا، لكن الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا: قد عرفوها وانتهى أمرها، وحماهم الله تعالى من عذاب النار، ونجّاهم منه، والمراد أن الله تعالى نفى عنهم أمرين: ذوق الموت وعذاب النار.
وقدّر قوم معنى (إلا) ب (سوى) وهو صحيح خلافا لرأي الطبري، فإن الواضح المفهوم من الآية أنهم كما ذكر الزمخشري وابن عطية لا يذوقون الموت أبدا، إلا الموتة الأولى التي كانت قبل دخول الجنة.
أخرج السّجستاني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من اتقى الله دخل الجنة ينعّم فيها، ولا يبأس، ويحيا فيها، فلا يموت، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» .
وذلك كله: تفضل من الله تعالى عليهم، وإحسان إليهم، ذلك هو الفوز الأكبر الذي لا يعلوه فوز.
أخرج الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اعملوا وسدّدوا وقاربوا، واعلموا أن أحدا لن يدخله(3/2389)
عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ فقال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» .
وتوّجت خاتمة سورة الدخان بما يدل على وضوح هذه الأخبار، وإنجاز الوعود بها، بسبب كون القرآن الكريم بلسان عربي مبين، فإنما يسّرنا هذا القرآن بلسانك أيها النبي، أي بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأجلاها، والتي هي لغة قومك، وجعلناه، أي القرآن ميسرا للفهم، لكي يتذكروا ويتعظوا ويعملوا بما فيه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) [القمر: 54/ 22] .
وعلى الرغم من هذا الوضوح والتبيان، كفر بعضهم وخالف، فآنس الله تعالى رسوله، واعدا إياه بالنصر، ومتوعدا من كذّبه بالهلاك، في قوله تعالى: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ
(59) أي فانتظر أيها النبي ما وعدناك به من النصر عليهم، وإهلاكهم إن أصرّوا على الكفر، وماتوا وهم كافرون، فإنهم منتظرون ما يحل بك من السوء، وما ينزل بك من الموت وغيره.(3/2390)
حم (1)
تفسير سورة الجاثية
من آيات الله الدالة عليه
تكرر في القرآن الكريم إيراد الأدلة الدالة على وجود الله تعالى، ومن أدل الأدلة والبراهين: إبداع السماوات والأرضين، وخلق الإنسان والحيوان، واختلاف الليل والنهار وتعاقبهما، وإنزال المطر سبب الرزق، وتقليب الرياح في الجهات الأربع، فمن أراد أن يؤمن كفاه ذلك، ومن عاند واستكبر، فلا يجد بعد بيان الله وآياته وهو القرآن، ما يرشده إلى الإيمان بربه، وهذا ما نجده بيّنا في الآيات الآتية، في مطلع سورة الجاثية:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
«1» «2» «3» [الجاثية: 45/ 1- 6] .
افتتحت السورة (الجاثية) المكية بالاتفاق بالحروف المقطّعة، للتنبيه لما يأتي بعدها، ولتحدي العرب بالإتيان بمثل آيات القرآن، ثم أخبر الله تعالى: بأن هذا القرآن تنزيل قاطع من الله القوي الغالب الذي لا يقهر، المحكم للأشياء. فقوله تعالى:
الْعَزِيزِ معناه عام في شدة أخذه إذا انتقم، ودفاعه إذا حمى ونصر، وغير ذلك.
__________
(1) تنزيل: إما مبتدأ أو خبر مبتدأ مضمر.
(2) ينشر ويفرّق في الأرض. والدابة: كل حيوان يدبّ في الأرض أو البحر أو الجو، فيشمل الطير والسمك.
(3) تقليبها وتحويلها.(3/2391)
ومقتضيات العزة والحكمة: إن في خلق السماوات وخلق الأرض، لأدلة قاطعة على وجود الله، ووحدانيته، وقدرته الباهرة. وقد ذكر تعالى الأدلة أو الآيات التي في السماوات والأرض مجملة غير مفصلة، فكأنها إحالة على غوامض تثيرها الأفكار، ويخبر الشرع بكثير منها، والذي يستفيد من دلالات هذه الآيات: هم المؤمنون، الذين يعتمدون على العقل الصحيح، والتصديق الواقعي. وهذا دليل من الكون.
ثم ذكر الله تعالى دليلا من الأنفس، ففي خلقكم أيها البشر من غير وجود سابق، سواء من تراب، أو من طريق التزاوج، وما ينشر في الأرض والبحر والجو من الدواب المختلفة: آيات دالة على وجود الله وتوحيده، لقوم يوقنون، لهم نظر صحيح، يؤديهم إلى اليقين في معتقداتهم، والاطمئنان في قلوبهم.
وكذلك في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بالنور والظلام، وتفاوتهما في الطول والقصر، والحرارة والبرودة، والضياء والظلمة، وفيما أنزل الله من السحاب، من مطر يتسبب في رزق الأنفس وإحياء الأرض بالنبات والزرع، وفي تقليب الرياح وتغييرها من جهة إلى جهة، ومن حال إلى حال، جنوبا وشمالا، شرقا وغربا، برودة وحرا، ضررا ونفعا، لينا وشدة، في كل ذلك دلالات عظيمة على وجود الله سبحانه، ووحدانيته وقدرته التي ينتفع بها عادة أهل العقول الراجحة، ويتأمل بها ذوو الأفكار المتفحصون فيها وفي حقائقها. والرياح جمعا: هي المبشّرات بالخير، والريح بالمفرد: هي المنذرة بالعذاب.
والعبرة من كل ذلك أوجزها الله تعالى بقوله: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ أي هذه الدلائل المذكورة من الآيات الكونية والقرآنية، هي حجج الله وبراهينه وبيناته، نتلوها عليك أيها النبي، متضمنة الحق المبين، وهذا على حذف مضاف، أي نتلو شأنها وتفسيرها وشرح العبرة بها. وقوله تعالى نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ معناه بالصدق(3/2392)
والاعلام بحقائق الأمور في أنفسها، ليستفيد منها البشر قاطبة، فبأي بيان أو كلام يا أهل مكة وأمثالكم بعد بيان الله وكلامه، وتفصيل آياته، وهو القرآن الكريم، تؤمنون أو تصدقون؟! والتعبير بكلمة (تلك) إشارة إلى علو مرتبة الآيات، وفي هذا توبيخ وتقريع، وفيه قوة التهديد.
ويلاحظ أن أدلة إثبات وجود الله ووحدانيته، ذيلت فيها آي القرآن بعبارة لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ولِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ولِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لإفادة التلازم بين الإيمان الذي هو التصديق، واليقين الذي هو كمال الاقتناع، والعقل الذي هو إعمال الفكر الصحيح، وهذه كلّها ضروريات للمعرفة وتكوين العقيدة، لأنه في ضمن الإيمان العقل، واليقين، والتصديق. ويتوقف الاعتقاد على كل من العقل، وتيقن الشيء، ثم التصديق التام به الذي لا يخالطه أي شبهة أو شك، ولا يصح إيمان من دون هذه الأمور الثلاثة، التي ينبغي استعمال كل منها في موضعه، فيبتدئ المفكر من العقل أو القلب الواعي، ثم ينتقل بالدليل القطعي إلى اليقين، ثم يتحقق التصديق النهائي بالمعتقد الصحيح.
وعيد المكذبين بآيات الله
حينما لا تجدي الكلمة المخلصة، والموعظة البالغة، ويصرّ الإنسان على موقف الضلال والعناد، لا يبقى بعد ذلك إلا التهديد والوعيد بالجزاء الحاسم، وهكذا كانت توجيهات القرآن الكريم، مع المشركين المكيين وقت نزول الوحي، لم يترك القرآن وسيلة لتذكيرهم، وإقناعهم بالبراهين الحسية القاطعة على توحيد الله تعالى إلا سلكها معهم، ومع ذلك آثروا الشقاق والخلاف والمعارضة، والإبقاء على عقيدة الوثنية، وتكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبما أنزل عليه من الآيات البينات، فاستحقوا الوعيد(3/2393)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)
بجزاء النار، علما بأنه لم تنفعهم أصنامهم شيئا، ولا منعت عنهم الضرر، وهذا ما نصت عليه الآيات الآتية، لبيان أن القرآن وحده هو الهدى والمنقذ:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 11]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
«1» «2» «3» «4» [الجاثية: 45/ 7- 11] .
الهلاك والعذاب. والمصائب من الحزن والشدة، لكل كذاب بآيات الله، كثير الإثم والمعاصي، لأنه يسمع آيات الله تتلى على مسامعه، وفيها الدلالة الواضحة على وحدانية الله وقدرته، ويبقى مصرّا على كفره، ويتكبر ويتعاظم عن الإيمان بالآيات، معجبا بنفسه، وكأنه لم يسمع الآيات، فهو في عدم الالتفات إليها، والإصغاء لمغزاها، يشبه حال غير السامع، فأخبره أيها النبي وبشّره بعذاب شديد مؤلم. والتعبير عن الخبر المحزن بالبشارة تهكم واحتقار. وقوله تعالى: يُصِرُّ أي يثبت على عقيدته من الكفر.
وسبب نزول هذه الآية: ما كان يفعله أبو جهل والنضر بن الحارث وغيرهما، من إصرار على الكفر وعناد. وتعم الآية كل من دخل تحت الأوصاف المذكورة إلى يوم القيامة.
والسبب الثاني لتعذيب أحد هؤلاء: أنه إذا علم هذا الأفاك الكذوب من آيات
__________
(1) الويل: كلمة عذاب، والأفاك: الكذب.
(2) البشارة بشيء هي في الخير والمحابّ، فإذا قيدت بكلمة (العذاب) ونحوها أريد بها التهكم والاحتقار.
(3) أي أنصارا يتولون أمورهم.
(4) الرجز: أشد أنواع العذاب.(3/2394)
الله شيئا، أي أخبر بشيء منها، اتخذها مهزوءا بها، وموضعا للسخرية والتندر، أولئك الأفاكون، لهم عذاب مهين، أي مشتمل على المذلة والهوان والافتضاح.
وكلمة (أولئك) مشار بها إلى قوله لِكُلِّ أَفَّاكٍ لأنه اسم جنس، له الصفات المذكورة بعده.
وصفة ذلك العذاب: أن أمام أولئك الأفاكين جهنم يوم القيامة، أو أعقاب أفعالهم جهنم، ولا يدفع عنهم شيئا من العذاب ما كسبوا في الدنيا من الأولاد والأموال، كما قال الله تعالى في آية أخرى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمران: 3/ 10 و116] ولا ينفعهم أي نفع، ولا تفيدهم الأصنام التي اتخذوها آلهة، يعبدونها من دون الله، وأعوانا وأنصارا، يتوقعون منها النفع ودفع الضرر، ولهم عذاب شديد مؤلم في جهنم.
وقوله سبحانه مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ قال بعضهم: معناه: من أمامهم، والواقع لا داعي لهذا التأويل، فكلمة (وراء) في اللغة هي المفيدة لما يأتي خلف الإنسان، وما يأتي بعد الشيء في الزمان فهو وراءه، وجهنم وإحراقها للكفار: يأتي بعد كفرهم وأفعالهم. وقوله سبحانه: وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعني بذلك الأوثان.
والفرق بين قوله أولا: لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ثم قوله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أن الوصف الأول يدل على الإهانة مع العذاب، والوصف الثاني يدل على بلوغ العذاب أشده في كونه ضررا.
ثم وصف الله تعالى القرآن الكريم بأنه طريق النجاة المحققة، وأنه هاد إلى الحق، ومرشد إلى الصواب، وناقل الناس من الظلام إلى النور، والذين جحدوا بآيات ربهم في القرآن، سواء الآيات الكونية أو الشرعية، لهم أشد العذاب يوم القيامة. ووصف العذاب سابقا بوصف (أليم) و (مهين) و (عظيم) يؤدي إلى قوله تعالى: عَذابٌ مِنْ(3/2395)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
رِجْزٍ
أي عذاب من أشد أنواع العذاب وأكثرها إيلاما، لأن الرجز: أشد العذاب، وقوله تعالى: هذا هُدىً إشارة إلى القرآن، وأنه كامل في كونه هدى.
هذا التهديد والوعيد لكل أفاك أثيم، أي كذّاب كثير الآثام، مبالغ في اقترافها والإصرار عليها، يستدعي وقفة تبصر، وتأمل في المصير المشؤوم، سواء من الأفّاك نفسه، أو من كل سامع، ربما يتصف بهذه الصفات.
ويؤكد ذلك: أن الأفّاكين يتعرضون لخسارة محققة، فلا تفيدهم الأصنام التي عبدوها شيئا. ويجد المتأمل المتبصر القرآن أمامه هاديا إلى الخير، ومبعدا له عن الشر، وآخذا بيده نحو الطريق الأفضل، والسبيل الأقوم، فما على كل عاقل إلا أن يقبل على مائدة القرآن، ينهل منها ما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة.
من نعم الله تعالى
لا تفتأ تمر لحظة في حياة الإنسان المؤمن وغير المؤمن إلا والله ينعم عليه بنعم كثيرة، في نفسه وأفعاله وتحركاته، وأنشطته الاقتصادية والاجتماعية، وكلاءة هذه النعم ليقوم الدليل الدائم على وجود الله تعالى وفضله وتوحيده، وأنه الإله المعبود بحق، وفي ذلك مدعاة التأمل والتفكر، وضرورة التفويض لله تعالى في شأن عباده، والسمو عن التعصب ونظرة الحقد، ومعاملة الآخرين غير المؤمنين بالسماحة والعفو، والجزاء ينتظر الجميع: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، قال الله تعالى مقرّرا هذه الأصول:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
«1» «2»
__________
(1) ذلّل وهيّأ.
(2) السّفن.(3/2396)
«1» [الجاثية: 45/ 12- 15] .
هذه باقة مزدهرة من أفضال الله ونعمه العديدة وهي:
- أن الله تعالى هو الذي ذلّل لكم البحر لجريان السفن فيه بإذنه وتيسيره، وللاتّجار والتّكسّب بين الأقطار، وللصيد، ولاستخراج الدّر واللؤلؤ والمرجان وغيرها من أعماق البحار، وللسفر للحج والجهاد وغيرهما، وليكون ذلك موجبا للشكر على هذه النّعم بسبب هذا التسخير والتيسير، وتحقيق المنافع لبني آدم.
وهذه آية عبرة في جريان السفن في البحر، لأن الله تعالى سخّر هذا المخلوق العظيم لهذا المخلوق الضعيف. وقوله بِأَمْرِهِ أناب القدرة والإذن مناب أن يأمر البحر والناس بذلك. والابتغاء من فضل الله تعالى: هو بالتجارة في الأغلب.
وتسخير البحر بثلاثة أشياء: توفير الرياح المساعدة على سير السفن، أو التمكين من اختراع الطاقة الكهربائية والذّرية والفحم وغير ذلك، وقدرة تحمّل الماء لمئات الأطنان والآلاف، التي قد تزيد حمولة السفينة فيها على نصف مليون طن، وإبقاء الخشب والحديد طافيا على وجه الماء دون إغراق.
- وذلّل لكم أيضا جميع ما في السماوات من شمس وقمر، وكواكب ونجوم، ومجرّات ورياح، وملائكة وغيرها، وجميع ما في الأرض، من جبال وبحار وأنهار، ورياح وأمطار، ومنافع أخرى، فضلا منه ورحمة، إن في ذلك التسخير لدلالات واضحات على قدرة الله عزّ وجلّ وتوحيده وفضله، لقوم يتفكرون فيها، ويستدلّون بها على التوحيد.
__________
(1) جواب شرط مقدّر، تقديره: قل للذين آمنوا يغفروا، أو اندب المؤمنين للغفر.(3/2397)
وقوله: جَمِيعاً مِنْهُ قال ابن عباس: كل إنعام فهو من الله تعالى. لذا أمر الله بمحاسن الأخلاق، فقل أيها النّبي للمؤمنين أتباعك بأن يعفوا ويصفحوا عن مؤذيات المشركين الذين لا يتوقعون عذاب الله ونعيمه، لعدم إيمانهم بالبعث، ليجزي الله أولئك المؤمنين، بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة، التي منها الصبر على أذى الكافرين.
نزلت هذه الآية في صدر الإسلام، أمر الله تعالى المؤمنين فيها أن يتجاوزوا عن الكفار، وألا يعاقبوهم بذنب، بل يأخذون أنفسهم بالصبر عليهم والمصابرة لهم.
والآية تتضمن الغفران عموما.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أنزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: 2/ 245] . قال فنحاص اليهودي: احتاج ربّ محمد، تعالى الله عزّ وجلّ عن قوله، فأخذ عمر رضي الله عنه سيفه، ومرّ ليقتله، فردّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال له: إن ربّك يقول: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ..
وأيام الله معناه: أيام إنعامه ونصره ونعيمه في الجنة وغير ذلك. ويرجون: بمنزلة (يخافون) .
وقوله: لِيَجْزِيَ وعيد للكافرين.
ومضمون الآية: أن الله تعالى يجزي قوما بكسبهم، ويعاقبهم على ذنوبهم وإجرامهم، وأكّد ذلك بقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ... أي إن كل عمل صالح يعمل به الإنسان، وهو مما أمر الله تعالى به، أو نهى عنه، يعمل به لنفسه ومصلحته، ومن أساء العمل باجتراح السيئات والمنكرات، فعلى نفسه جنى، ثم تعودون أيها البشر إلى الله يوم القيامة، فتعرضون بأعمالكم عليه، فيجزيكم عليها خيرها وشرّها. ويلاحظ أنه تعالى عبّر عن مجيء العمل الصالح باللام، والإساءة بعلى.(3/2398)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)
وقوله: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ معناه: أنكم جميعا معشر الخلائق ترجعون إلى قضائه وحكمه. إن هذا البيان الإلهي أجمع بيان، وأوجزه، وأكثره عظة وعبرة، ومعذرة ونفعا، فجزاء العمل الصالح حقّ وعدل، وجزاء العمل السيئ حقّ وعدل أيضا، والميزان ميزان التمايز بالأعمال التي يفعلها الإنسان باختياره وإرادته، فيسأل عنها على النحو الصادر منه.
نعمة الشرائع
الشريعة الإلهية: هي النظام الأمثل للحياة البشرية في جميع أنحائها ومشتملاتها، تحقق الحاجة والمصلحة، وترعى الضعيف، وتنصف المظلوم، وتقيم العدل، وتضمن للقائم بها عز الدنيا، وسعادة الآخرة، وكان لبني إسرائيل شريعة في التوراة، لكنها اندثرت وضاعت، واختلفوا فيها بغيا وعدوانا، ثم ختمت الشرائع بشريعة خاتم النبيين، ليلزم بها جميع الناس، فهي عين البصيرة والحق، والهداية، والرحمة الشاملة، وليس من المعقول، ولا من مقتضى العدالة أن يتساوى المحسن والمسيء، والصالح والفاجر، والسعيد والشقي. وهذا ما أوضحته الآيات الكريمة:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 22]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) الفهم والقضاء والحكمة والسنة.
(2) تظالما بينهم.
(3) أي أنصار وأعوان. [.....]
(4) أي نصير المؤمنين.(3/2399)
«1» «2» [الجاثية: 45/ 16- 22] .
المعنى: تالله، لقد آتينا الإسرائيليين كتاب التوراة، والسنّة والفقه والقضاء، وما تكرر فيهم من الأنبياء عليهم السّلام كموسى وهارون، ورزقناهم من المستلذّات الحلال، لتتم النعمة ويحسن تعدادها، مثل المن والسلوى وطيبات الشام بعد، إذ هي الأرض المباركة، وفضلناهم على عالم زمانهم. وآتيناهم بينات من الأمر، أي الوحي الذي فصّلت به لهم الأمور، ولكنهم لم يشكروا هذه النعم الست، بل اختلفوا في أمر الدين وأخطئوا، فلم يكن اختلافهم اجتهادا في طلب الصواب، حتى يعذروا في الاختلاف، وإنما اختلفوا بغيا وظلما بينهم، بعد أن تبينوا الحقائق، فتوعدهم الله تعالى بوقف أمرهم على قضائه بينهم يوم القيامة، فإن الله سيفصل بينهم بحكمه العدل يوم القيامة، في شأن اختلافهم في أمر الدين، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويبين المحق من المبطل، وفي هذا تحذير للمسلمين أن يختلفوا كاختلاف بني إسرائيل.
وأعقب الله تعالى بعد شريعة موسى عليه السّلام شريعة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإياك أيها النبي من الاختلاف، واتبع شريعتك المنزلة عليك: وهي المشتملة على الفرائض والحدود والأمر والنهي، وهي من جملة أمر الله المشتمل على الأوامر والنواهي، ولا تتبع ما لا حجة فيه من أهواء الجهال المشركين، الذين لا يعلمون توحيد الله وشرائعه. والذين لا يعلمون: هم الكفار الذين كانوا يريدون صرف محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى إرادتهم.
__________
(1) اقترفوا وأصابوا.
(2) خلقا ملازما للحق وبمقتضى الحق.(3/2400)
إن هؤلاء الكفار المشركين الجهلة، لن يدفعوا عنك من الله شيئا أراده بك، إن اتبعت أهواءهم، وخالفت شريعتك.
ثم حقّر الله تعالى شأن الظالمين، مشيرا بذلك إلى كفّار قريش، فإنهم يتولى بعضهم بعضا، والمتقون: يتولاهم الله عز وجل، فخرجوا عن ولاية الله تعالى وعونه ونصره، وتبرأت منهم، ووكل الله تعالى بعضهم إلى بعض.
وهذا القرآن بصائر للناس، أي معتقدات وثيقة منوّرة للناس طريقهم، وهادية إلى الجنة كل من عمل بها، ورحمة من الله وعذابه في الدنيا والآخرة، لقوم يوقنون بصحة الشرع وتعظيم ما فيه.
بل ظن الذين اقترفوا الآثام والمعاصي في الدنيا، وكفروا بالله ورسله، وعبدوا غيره، أن نجعلهم كالذين صدّقوا بالله ورسله، وعملوا الأعمال الصالحة من إقامة الفرائض، واجتناب المحارم، بأن نسوي بينهم في الجزاء والثواب في الدنيا والآخرة، وأن محياهم ومماتهم سواء، فلا يستوي الفريقان حياة وموتا، ثوابا وعقابا، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة، وأولئك المشركون عاشوا على المعصية، إن زعموا ذلك، ساء الحكم حكمهم، وبئس القرار قرارهم.
نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقا، لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام.
والدليل على صحة مبدأ التفاوت في الآخرة وحكم الله بين المحسنين والمسيئين:
أن الله تعالى خلق أو أبدع السماوات والأرض بالحق المقتضي للعدل بين الناس،(3/2401)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
فلو لم يوجد البعث والحساب والجزاء، لما كان ذلك الخلق بالحق، بل كان بالباطل، ومن العدل: اختلاف الجزاء بين المحسن والمسيء، فتجزى كل نفس بما قدمت، من عمل صالح أو سيئ، وهم لا يظلمون شيئا بنقص ثواب أو زيادة عقاب.
الوثنية وإنكار البعث
للمشركين الوثنيين سيئات كثيرة، ومآخذ وعيوب عديدة، من أخطرها عبادة الأصنام، عملا بالهوى والشهوة، وإنكارهم البعث، وقولهم: ما يهلكنا إلا الدهر، أو الليل والنهار، وبعدهم عن الحق والخير، بسبب كفرهم وعنادهم، واعتمادهم على الأوهام والتخمينات، والتقليد الأعمى، فنبههم القرآن الكريم إلى أدلة قدرة الله وتوحيده، وإمكانه إحياء الناس مرة أخرى، وإلى حسابهم وجزائهم على ضلالهم، ومفاجأتهم بصحائفهم المدوّن فيها أعمالهم وعقائدهم، بالحق والعدل، دون زيادة أو نقص، لتكون شاهدة عليهم، وهذا بيان القرآن لأحوالهم:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 29]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
«1» «2» «3» «4» «5»
__________
(1) مجاز مرسل بإطلاق الرؤية وإرادة الإخبار من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب.
(2) خذله الله وزاد في ضلاله لعناده.
(3) هذه كلها استعارات، لأن الضالين لا ينفعهم ما يسمعون، ولا ما يرون.
(4) واضحات.
(5) باركة على الركب أو مجتمعة أو مستوفزة مستعدة للانطلاق.(3/2402)
[الجاثية: 45/ 23- 29] .
آسى الله تعالى أو آنس نبيه عن إعراض المشركين عن الإيمان، فطلب منه ألا يحفل بهم، ولا يهتم بأمرهم، فليس فيهم حيلة لبشر، لأن الله بسبب إمعانهم في الكفر أضلهم. ومعنى الآية: أخبرني عن حال هؤلاء المشركين الذين أطاعوا أهواءهم، واتخذوا دينهم ما يهوونه، فكأنهم جعلوا الهوى إلها يعبدونه من دون الله، فلا يهوى أحدهم شيئا إلا اتبعه، وخذلهم الله، عالما بضلالهم، لفساد استعدادهم وأحوالهم، وطبع الله تعالى على أسماعهم وقلوبهم، فلا يسمعون الوعظ، وجعل على أبصارهم غطاء، فلا يبصرون الهدى والحق، فمن الذي يرشدهم للصواب بعدئذ؟ أفلا تتذكرون وتتعظون أيها المشركون؟ والهوى: ما تريده النفس وتحبّه.
نزلت كما أخرج ابن المنذر وابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تعبد الحجر حينا من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه، طرحوا الأول، وعبدوا الآخر، فأنزل الله: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ. وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفرة، فهي متناولة جميع أهواء النفس الأمّارة بالسوء. وآية وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ.. قال مقاتل: نزلت في أبي جهل.
وهذه الآية لا حجة للجبرية فيها، لأن التكسب فيها منصوص عليه في قوله تعالى: اتَّخَذَ وفي قوله تعالى: عَلى عِلْمٍ أي على علم من هذا الضلال، فإن الحق هو الذي يترك ويعرض عنه، فهم معاندون مكابرون.
وقال المشركون الماديون، والدهريون المنكرون للبعث: ما في الوجود إلا هذه الحياة الدنيوية التي نحن فيها، وليست ثمّ آخرة ولا بعث، وما يهلكنا إلا طول الزمان(3/2403)
أو الدهر، ولا دليل لهم على هذه المقالة من نقل أو عقل، وما مستندهم إلا الظن والتخمين، من غير حجة أصلا، فهي ظنون منهم وتخرّصات، تفضي بهم إلى الإشراك بالله تعالى. والدهر والزمان بمعنى واحد عند العرب. أخرج ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، فأنزل الله: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ودليلهم على إنكار البعث ما قالوا: إذا تليت عليهم بعض آيات القرآن، واضحات الدلالة على قدرة الله على البعث والقيامة، قالوا: أحضروا آباءنا الذين ماتوا أحياء، إن كنتم أيها المؤمنون صادقين في إمكان البعث، لنسألهم عما رأوا، ويشهدوا لنا بصحة البعث.
فأجابهم الله تعالى: قل أيها النبي لهؤلاء المشركين منكري البعث: إن الله أحياكم في الدنيا، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يجمعكم جميعا يوم القيامة، جمعا لا شك فيه بعد إماتتكم، بلا ريب في نفسه وذاته، فإن الذي قدر على البداءة، قادر على الإعادة بطريق الأولى، ولكن أكثر الناس، وهم مشركو العرب ينكرون البعث، من غير تأمل ولا تدبر وإمعان فكر.
ودليل آخر على إمكان البعث: قدرة الله الخارقة، فالله مالك السماوات والأرض، والحاكم فيهما، والمتصرف بهما وحده في الدنيا والآخرة، ويوم تقوم القيامة، يخسر المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل، بدخول جهنم، يظهر خسرانهم في ذلك اليوم، لصيرورتهم إلى النار.
ومن أهوال القيامة: ترى كل أمة (جماعة عظيمة من الناس يجمعها معنى أو وصف شامل لها) جاثية على الركب، وهي هيئة المذنب الخائف، فهم لشدة الأمر، يجثون على الركب بين يدي الله عند الحساب، وكل أمة تدعى إلى كتابها المنزل(3/2404)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
على رسلهم، أو إلى صحف أعمالهم، وفي يوم القيامة: يجزيكم الله بما عملتم في الدنيا من خير وشر، تجازون فيها، من غير زيادة ولا نقص.
وهذه صحف الأعمال التي أمر الله الملائكة الحفظة بكتابتها، تشهد عليكم، وتذكر جميع أعمالكم، من غير زيادة ولا نقص، إن الله كان يأمر الحفظة أن تكتب أعمال الناس عليهم، وتثبّتها وتحفظها عليهم، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابلون الملائكة الذين هم في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة، أي إن الله عن طريق ملائكة يقيد كل ما عمل الناس، ويحدث تطابق ومراجعة بين ما دوّنته الحفظة، من اللوح المحفوظ، وبين ما يفعله العباد، ثم يمسكونه عندهم، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك، وهذا هو الاستنساخ المذكور في الآية (29) .
أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة
أخبر القرآن الكريم عن أحوال المؤمنين وجزائهم الحسن، وأحوال الكافرين وسوء عقابهم، للمقارنة أو الموازنة بين مصير الفريقين، فإن الأشياء تتبين بأضدادها، فيبين الأمر في نفس السامع، ومن أسباب عقاب الكفار: إنكار القيامة، واستبعادهم لها، وتوهم وجودها من غير تحقق ولا تيقن، واستهزاؤهم بها، واغترارهم بالدنيا، وترك استعدادهم للآخرة، بالإيمان والعمل الصالح، مع أن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة، لأنه يملك السماوات والأرض وما بينهما، وهو رب العالمين جميعا، وهو صاحب العزة والكبرياء، فلا يغالبه أحد، هذا ما وصف القرآن لنا:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 30 الى 37]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34)
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
«1»
__________
(1) الفوز: نيل البغية.(3/2405)
«1» «2» «3» [الجاثية: 45/ 30- 37] .
ذكر الله تعالى حال الفريقين من المؤمنين والكافرين، ليتبين الأمر للمخاطب في نفسه، ويعتبر من المقارنة بين الحالين، من طريق المقابلة وذكر الأضداد. فأما الذين صدقوا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال، بأداء الفرائض أو التكاليف، فيدخلهم ربهم الجنة، وذلك الإدخال محقق لنيل البغية والظفر بالمطلوب.
وأما الذين أنكروا وحدانية الله والبعث، فيقال لهم على سبيل التوبيخ: ألم تكن آياتي الكونية والقرآنية تتلى على مسامعكم، فاستكبرتم وأبيتم الإيمان بها، وكنتم قوما مجرمين في أفعالكم، بارتكاب الآثام والمعاصي.
وإذا قيل لهؤلاء الكفار: إن وعد الله بالبعث والحساب حق ثابت، والقيامة حتمية لا شك في وقوعها، فآمنوا بذلك، أجبتم: لا نعرف ما القيامة؟ إن نتوهم بوقوعها إلا توهما ضعيفا، ولسنا بمتحققين أن القيامة آتية، أي إن نظن بعد قبول خبركم إلا ظنا ضعيفا، ولا يعطينا يقينا.
وظهر لهم حال يوم القيامة وقبائح أعمالهم، وأحاط ونزل بهم جزاء أعمالهم
__________
(1) أي لا شك في نفسه وذاته.
(2) أحاط بهم ونزل.
(3) لا يطلب منهم العتبى بإرضاء ربهم بالتوبة والطاعة، لفوات الأوان.(3/2406)
بدخولهم النار، وعوقبوا بما هزئوا به في دار الدنيا: وهو العذاب والنكال. وقوله:
ما كانُوا على حذف مضاف، تقديره: جزاء ما كانوا، أي عقاب كونهم يستهزئون.
والنجاة ميئوس منها،. فيقال لهم: اليوم نعاملكم معاملة الناسي لكم، فنترككم في العذاب، كما تركتم العمل لهذا اليوم، وتجاهلتم ما نزل في القرآن، ومستقركم الذي تأوون إليه هو النار، وليس لكم من أنصار، ينصرونكم ويمنعون عنكم العذاب، وبعبارة أخرى: نترككم كما تركتم لقاء يومكم هنا، فلم تستعدوا ولم تتأهبوا له، فسميت العقوبة في هذه الآية باسم الذنب.
والمأوى: الموضع الذي يسكنه الإنسان، ويكون فيه عامة أوقاته.
وأسباب هذا العقاب: أنكم اتخذتم القرآن هزوا ولعبا، وخدعتكم الدنيا بزخارفها وزينتها، فاطمأننتم إليها، فاليوم لا يخرجون من النار، ولا يطلب منهم العتبى، بالرجوع إلى طاعة الله، واسترضائه، لأنه يوم لا تقبل فيه التوبة، ولا تنفع فيه المعذرة، لفوات الأوان، والله وحده هو القادر على البعث، فله الحمد الخالص على النعم الكثيرة لله خالق السماوات والأرض ومالكهما، ومالك ما فيهما من إنس وجن وحيوان، وأجسام وأرواح، وذوات وصفات.
ولله العظمة والجلال في أرجاء السماوات والأرض، وهو سبحانه القوي الغالب القاهر في سلطانه، فلا يغالبه أحد، الحكيم في أقواله وأفعاله. وهذا تحميد لله تعالى، وتحقيق لألوهيته، وإبطال لألوهية الأصنام، جاء في الحديث الثابت الذي
أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما، أسكنته ناري»
وفي لفظ (قصمته) .(3/2407)
الله تعالى هو الجدير بالعبادة، لأنه شامل الملك في السماوات والأرض، وكامل الذات والوجود والأوصاف، والمتنزه عن كل نقص، وله وحده الكبرياء والعظمة، الظاهر آثارهما في السموات والأرض، العزيز الذي لا يغلب، القادر الذي لا يعجز، الحكيم في كل ما قضى وقدر، فاحمدوه وحده أيها العباد، واعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأطيعوا كل ما أمر. هذه خاتمة سورة الجاثية وهي خاتمة رائعة، والقرآن كله ينطق بالحق والعدل.(3/2408)
حم (1)
تفسير سورة الأحقاف
إثبات وحدانية الله تعالى
إثبات توحيد الله والبعث: هما أساس الخلاف الحادّ مع المشركين، لذا عنيت آيات القرآن الكريم بالرد على مزاعم هؤلاء المشركين حول تعدد الآلهة، وألوهية الأصنام، ونفي البعث، ومحور الرد يعتمد على إثبات القدرة الإلهية، بخلق السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات، وسلب القدرة الخلاقة على الخلق عن الآلهة المزعومة، ونفي إمكان نفعها لعابديها في الدنيا والآخرة، بل تكون أعداء لعابديها، وهذا هو الكلام الفصل في الآيات الآتية في مطلع سورة الأحقاف المكية:
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)
«1» «2» [الأحقاف: 46/ 1- 6] .
__________
(1) أي بالواجب الحسن الذي قد حق أن يكون.
(2) أي بقية ثابتة من علم صحيح. والأثارة: مصدر كالشجاعة والسماحة: وهي البقية من الشيء وكأنها أثره. [.....](3/2409)
افتتحت السورة بالأحرف المقطعة للتنبيه على ما يأتي في السورة، ولتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن أو آية منه. وتقترن هذه الأحرف غالبا بالتحدث عن القرآن، لإثبات نزوله من عند الله وإعجازه. وتنزيل القرآن الكامل في كل شيء حاصل من الله عز وجل، القوي الغالب لكل من حادّه أو عارضة، المحكم المتقن، الحكيم في تدبيره وصنعه، وأقواله وأفعاله، يضع كل أمر في موضعه المناسب له.
ما أوجدنا أو أبدعنا السماوات العليا، والأراضي السفلى، إلا بما يتفق مع الواجب الحسن، الذي حق أن يكون، وإلى مدة معينة لا تزيد ولا تنقص، وهي يوم القيامة. والذين جحدوا وحدانية الله: معرضون عن الإنذار، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل، فهم لاهون عما يراد بهم.
ثم ردّ الله تعالى على عبدة الأوثان، آمرا نبيه أن يقول للمشركين الوثنيين:
أخبروني عما تدعون من غير الله كالأصنام وأهل القبور، بعد التأمل في الكون، وخلق السماوات والأرض وما بينهما، هل تمكّنوا من إبداع أو خلق شيء في الأرض؟ وهل لهم مشاركة في ملك السماوات والتصرف فيها؟ الواقع أنهم عجزة عجزا تاما عن خلق شيء، أحضروا لي دليلا مكتوبا قبل القرآن، مما نزل على الأنبياء كالتوراة والإنجيل، يدل على صحة عبادة الأصنام؟ أو هل لكم بقية من علم الأنبياء السابقين، أو أحد العلماء؟ يرشد إلى صحة هذا المنهج الذي سرتم عليه، ويقتضي عبادة الأصنام، إن كنتم صادقين في ادعائكم ألوهية الأصنام أو الأوثان؟
والمعنى: لا دليل لكم من النقل أو العقل على ذلك، وليس لكم كتاب منزل قبل القرآن، يتضمن عبادة صنم أو وثن.
وقوله تعالى مِنَ الْأَرْضِ من: للتبعيض، لأن كل ما على وجه الأرض من حيوان ونحوه فهو من الأرض.(3/2410)
ثم وبّخ الله تعالى عبدة الأصنام، مبينا أنه لا أحد أضل ممن هذه صفته، بعبادة الأصنام من دون الله، فإنه يدعو من لا يسمع إلى يوم القيامة، والأصنام غافلون عمن دعاهم، لا يسمعون ولا يعقلون، لكونهم جمادات. والمراد: أنه ليس للأصنام قدرة على شيء، ولا علم لديها بشيء، فهي جمادات، وعبادة الجماد: محض الضلال، فهم لا يتأملون ما هم عليه في دعاء من هذه صفته.
وعبر عن الأصنام بقوله: وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ كخطاب العقلاء، معاملة لها كالعقلاء، في مزاعم أصحابها وعبدتها.
ومما يؤكد نفي العلم الدال على عبادة الأصنام: أنه إذا جمع الناس الكفار، [والأصنام يوم القيامة في موقف الحساب، كانت الأصنام لهم أعداء، تظهر التبري منهم والإنكار عليهم، وتصبّ اللعنة عليهم، وتقول كما حكى القرآن الكريم عنهم:
تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص: 28/ 63] وكانت الأصنام جاحدين مكذبين بتلك العبادة. وكذلك تتبرأ الملائكة والمسيح عيسى ابن مريم وعزير والشياطين ممن عبدوهم يوم القيامة.
إن العقل الإنساني السوي، وعزة الإنسان وكرامته، يأبى كل ذلك الخضوع الإرادي لصنم أو وثن، لا يضر ولا ينفع، ولا يعقل ولا يسمع، ولا يفهم ولا يستجيب لشيء، ومع كل هذه الأدلة القاطعة والبراهين المحسوسة يظل البدائيون في بعض البلاد الإفريقية وغيرها عاكفين على أصنامهم في القرن العشرين، على الرغم من دراساتهم العلمية في الجامعات الأمريكية والأوربية، بعد عودتهم لبلادهم، كما هو مشاهد ومعروف.(3/2411)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
شبهات المشركين
حاول المشركون الدفاع عن أفكارهم ومعتقداتهم، بإلقاء الشبهات الفارغة حول القرآن الكريم، والوحي الإلهي والنبوة، فوصفوا القرآن بالسحر، وكذبوا بالنبوة، فزعموا أن محمدا افترى القرآن من عند نفسه، لا بوحي من ربه، وطالبوا بمعجزات مادية عجيبة للتحدي والإرباك، وبأن يخبرهم عن بعض الغيبيات، واستعلوا على فئة الضعفاء، وأنفوا من مجالستهم، وقالوا: لو كان هذا الدين خيرا ما سبقونا إليه، فأبطل القرآن دعاويهم، وأوضح مهمة القرآن من إنذار الظلمة وتبشير المحسنين، وبيان عاقبة المستقيمين من الخلود في الجنان، وإبعاد المخاوف والأحزان عنهم، قال الله تعالى واصفا ذلك:
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 14]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)
«1» «2» «3» «4» [الأحقاف: 46/ 7- 14] .
__________
(1) أي واضحات.
(2) تندفعون إليه وتأخذون فيه.
(3) مبتدعا ليس له مثيل.
(4) كذب قديم.(3/2412)
المعنى: إذا تليت آيات القرآن الواضحة على المشركين، وصفوا الحق الذي أتاهم وهو القرآن بأنه سحر واضح، وتمويه كاذب، أي إنهم كفروا وافتروا وكذّبوا.
بل إنهم يقولون: افترى محمد القرآن، واختلقه من عند نفسه، كذبا على الله، فقل أيها الرسول لهم: لو افتريته وكذبت على الله، على سبيل الافتراض، لعاقبني الله تعالى أشد العقاب، ولا تملكون أن تعملوا لي شيئا، أو تسعفوني وتنقذوني. والله أعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه، من تكذيبه، ووصفه بالسحر والكهانة، كفى بالله شاهدا صادقا يشهد لي: بأن القرآن من عند الله، وبتبليغه إياكم، ومع هذا فالله غفور لمن تاب وآمن، وصدق بالقرآن وعمل به، وهو رحيم به، حيث لا يعاقبه على ما سبق منه، وفي هذا جمع بين الوعيد والترهيب، والترغيب لهم في التوبة والإنابة.
وقل لهم أيها الرسول على اقتراح المعجزات: لست بأول رسول في العالم، ولا مبتدعا شيئا لا مثيل له، بل هناك رسل كثيرون قبلي، ولا أعلم ما يفعل بي ولا بكم في المستقبل، وإنما أتبع الوحي الذي أنزله الله علي في القرآن والسنة، ولا أبتدع شيئا من عندي، ولست إلا نذيرا لكم، أنذركم عقاب الله وأخوّفكم عذابه، وأوضح ما جاء من عند الله عز وجل.
ثم أكد الله خسارة المشركين، فقل أيها الرسول لهم: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله في الحقيقة، ثم كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل، العالمين بالتوراة على صحته وعلى ما قلت، فآمن هذا الشاهد: وهو عبد الله بن سلام الذي أسلم بعد الهجرة، ثم تكبرتم عن الإيمان به، فقد ظلمتم أنفسكم، والله لا يوفق الظالمين إلى الخير.
أخرج البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: في عبد الله بن سلام نزلت(3/2413)
هذه الآية، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ، ثم قال مشركو مكة حينما رأوا إيمان جماعة من الفقراء المستضعفين، كعمار وصهيب وابن مسعود: لو كان هذا الدين خيرا، ما سبقنا إليه هؤلاء، وحين لم يهتدوا بالقرآن ظهر عنادهم، وسيقولون بعدئذ: هذا كذب مأثور عن الأقدمين. نزلت كما أخرج الطبري عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعز، ونحن ونحن، فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. وقال قتادة أيضا: هي مقالة أشراف قريش، يريدون عمارا وصهيبا وبلالا ونحوهم ممن أسلم، وآمن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ومما يدل على أن القرآن حق وصدق، وأنه من عند الله: اعترافكم أيها المشركون بإنزال التوراة على موسى، الذي هو إمام وقدوة يقتدى به في الدين، وهو رحمة لمن آمن به، وهذا القرآن الموافق للتوراة في أصول الشرائع، مصدق لكتاب موسى ولغيره من الكتب المتقدمة، أنزله الله لينذر به النبي من عذاب الله الذين ظلموا أنفسهم، وهم مشركو مكة، ويبشّر به المؤمنين الذين أحسنوا عملا.
ثم ذكر الله تعالى حال المؤمنين، وجزاءهم الأخروي، فإن الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة على منهج الشريعة، لا يخافون من وقوع مكروه بهم في المستقبل، ولا يحزنون من فوات محبوب في الماضي. والخوف: هو الهمّ بما يستقبل، والحزن:
هو الهمّ بما مضى، وقد يستعمل فيما يستقبل استعارة، لأنه حزن لخوف أمر ما.
أولئك المؤمنون الموحدون المستقيمون على أمر الله: هم أهل الجنة ماكثون فيها على الدوام، مقابل ما قدموه من أعمال صالحة في الدنيا، أي إن الجزاء بسبب العمل الصالح في الدنيا، على منهج العدل والحق. وهذا دليل على أن الله تعالى جعل الأعمال أمارات على جزاء الإنسان، لا أنها توجب على الله تعالى شيئا، لكن لا يكون دخول الجنة إلا بفضل من الله وإحسان.(3/2414)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
الإيصاء ببرّ الوالدين
- 1- البارّ بوالديه
الوالدان: سبب وجود الولد، ولهما الفضل بتربيته ورعايته، صغيرا وكبيرا، لذا كانت الوصية من الله تعالى لعباده ببر الأبوين، والإحسان إليهما، وكان برّ الوالدين في الشريعة واجبا بآيات كثيرة في القرآن العظيم، وعقوقهما كبيرة من الكبائر،
روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» .
وألزم القرآن الكريم في آياته الأولاد برّ آبائهم وأمهاتهم، ونهى عن عقوقهم، وذكر الله تعالى حق الأمهات على الأبناء والبنات، وجعل الأم في أربع مراتب، والأب في مرتبة واحدة، كما في هذه الآيات:
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 16]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)
«1» «2» «3» [الأحقاف: 46/ 15- 16] .
نزلت هذه الآية- كما ذكر الطبري- في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم
__________
(1) فطامه وهو الرضاع المنتهي بالفطام.
(2) أي كمل عقله ورأيه وقوته، وأقله ثلاثون سنة.
(3) ألهمني ووفقني ورغبني.(3/2415)
هي تتناول من بعده. وقال السدّي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، والأولى أنها للعموم الشامل لهاتين الواقعتين وغيرهما.
والمعنى: وصينا الإنسان وأمرناه أن يحسن لوالديه، في الحياة وبعد الموت.
والتوصية: الأمر المقترن بالوعظ والإشعار بالعناية بالشيء المأمور به. والإحسان:
بالحنو عليهما والكلام اللطيف معهما، والإنفاق عليهما عند الحاجة، والبشاشة عند لقائهما. وذكرت الأم مرة في قوله تعالى: بِوالِدَيْهِ ثم ذكرت في مراتب ثلاث أخرى وهي حمل الأم ثم وضعها، ثم رضاعها الولد الذي عبر عنه بالفصال، وهذا يناسب ما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر، والربع للأب. وذلك حين
قال له رجل: «يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك» «1» .
والحمل والوضع بكره، أي بمشقة. حتى إذا بلغ الولد أشده، أي كمل عقله ورأيه، واشتد ساعده، وذلك: ستة وثلاثون، في أقوى الأقوال، وبلغ أربعين سنة، قال: رب ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علي، وعلى والديّ، من نعمة الهداية إلى الدين الحق والتوحيد، وغير ذلك من نعم الدنيا، كسلامة العقل والصحة، ووفرة العيش، وكمال الخلقة، وحنان الأبوين في الصغر، وألهمني ووفقني للعمل الصالح الذي ترضاه مني: وهو الصلوات، وأصلح لي في ذريتي بجعلهم أهل طاعة وخيرية، ومعنى الآية: أن هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل، وهذه وصية الله تعالى في كل الشرائع.
إني تبت من الذنوب، ورجعت إليك من العيوب، وإني من المنقادين لطاعتك، المخلصين لتوحيدك.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم، ولفظهما: «من أحق الناس بحسن صحابتي؟» .(3/2416)
وجزاء هؤلاء الصالحين: أن الله تعالى يتقبل من أولئك الموصوفين بالصفات المتقدمة أحسن أعمالهم، وهو ما قدّموه من صالح العمل، وعمل الخير في الدنيا، المتفق مع أمر الله تعالى، ويعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئاتهم وذنوبهم، فلا يعاقبهم عليها، لأنها تتلاشى بالحسنات، كما قال الله سبحانه: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 11/ 114] . وهم من جملة أصحاب الجنة، الذين سبقت لهم رحمة الله تعالى، وقد وعد الله أهل الإيمان بالقبول، وعدا صادقا منجزا.
وقوله تعالى: أُولئِكَ بالإشارة إلى البعيد، لبيان علو منزلتهم، وهو إشارة إلى الإنسان المذكور باعتبار الجنس، في قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ وجمعه باعتبار أفراد الإنسان، الذين تحقق فيهم ما ذكر من الأوصاف، بمعرفة حقوق الوالدين، والرجوع إلى الله بسؤال التوفيق للشكر، وذلك مشعر بأن هذه الأوصاف: هي أوصاف الإنسان الكامل. وقوله: أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي حسن ما عملوا، فيشمل الحسن والأحسن. وقوله: وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد لما قبله، أي وعدهم ذلك وعد الصادق في قوله وفعله، وتنفيذ وعده.
واستفيد من هذه الآية: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ومن آية لقمان: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لقمان: 31/ 14] أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن الرضاع يكون في حولين كاملين في آية: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة:
2/ 233] فإذا كان أكثر مدة الرضاع حولين كاملين، بقي للحمل من الثلاثين شهرا:
ستة أشهر. وكان علي رضي الله عنه أول من استدل بهاتين الآيتين، للدلالة على أقل مدة الحمل، وهي ستة أشهر.(3/2417)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
- 2- العاق لوالديه
الموازنة أو المقارنة بين الأضداد تظهر الفوارق، وتحمل الإنسان على تبين الاتجاه الأفضل، وترك التوجه الأدنى أو الأسوأ. فإذا كان البارّ بوالديه يتبوأ عند الله المنزلة العالية، ويرضى عنه، ويدخله جنته، فإن العاق لوالديه، في غضب الله وسخطه، وتعرضه لعذاب النار، وتحقق خسارته.
وقد أنزل الله تعالى آيات تفيد العموم في حال البارّ والعاقّ، ولم يصح كون آيات العقوق نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، بدليل قول عائشة رضي الله عنها: والله ما نزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي، وإني لأعرف فيمن نزلت هذه الآية:
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ وهذه هي الآيات الآتية في العاق لوالديه:
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 20]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
«1» «2» «3» «4» [الأحقاف: 46/ 17- 20] .
قال ابن عطية: الأصوب أن تكون هذه الآية في أهل هذه الصفات، ولم يقصد بها عبد الرحمن بن أبي بكر ولا غيره من المؤمنين، والدليل القاطع على ذلك قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ وكان عبد الرحمن
__________
(1) كلمة تفيد التضجر.
(2) أباطيلهم التي سطروها في الكتب.
(3) الهوان والذل.
(4) تخرجون عن طاعة الله.(3/2418)
رضي الله عنه من أفضل الصحابة ومن الأبطال، وممن له في الإسلام غناء، ويكفيه مقامه مع مروان يوم اليمامة وغيره.
والمعنى: والذي قال لأبويه حينما دعواه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر: أفّ لكما، أي أتضجر وأتبرم مما تقولانه، أتخبرانني أنني سأبعث من قبري بعد الموت لموعد الله؟ إن هذا البعث مستنكر، فقد مضت الأمم الكثيرة من قبلي، كعاد وثمود، ماتوا ولم يبعث منهم أحد. ووالده يسألان الله أن يوفقه للإيمان، ويقولان له:
ويلك آمن بالله وبالبعث، أي هلاكا لك، إن وعد الله حق لا خلف فيه، والمراد:
الحث على الإيمان، فيقول هذا الولد مكذبا لما قال والده: ما هذا الذي تقولانه من البعث إلا أباطيل السابقين التي سطروها في الكتب، والبعث باطل في زعمه.
فكان جزاء هذا القائل ما ذكر الله تعالى: أولئك القائلون هذه المقالة هم الذين وجب عليهم العذاب، واستحقوا غضب الله، في جملة الأمم الكافرة المتقدمة، فهم منضمون في ذلك إليهم، سواء كانوا من الجن، أو الإنس الذين كذبوا الرسل، وهم من جملة الخاسرين، الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. وقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يقتضي أن الجن يموتون كما يموت البشر قرنا بعد قرن.
ثم ذكر الله تعالى مراتب كل من فريقي الإحسان والإساءة، فلكل فريق منهم مراتب ومنازل عند الله يوم القيامة، أما المحسنون الأبرار: فهم في المراتب العليا، وأما المسيئون الأشرار: فهم في المراتب الدنيا. والله يوفي الفريقين جزاء أعمالهم من الخير والشر، ومن أجل ما عملوا منها، وليوفيهم جزاء أعمالهم بنحو تام، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وهم لا يظلمون شيئا بنقص ثواب، أو زيادة عقاب.
فقوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ يعني لكل من المحسنين والمسيئين منازل.
وأحوال العقاب وأهوال القيامة شديدة كئيبة، فاذكر أيها النبي لقومك حين(3/2419)
تعرض النار على الكفار، أي يعذبون فيها،. فهو عرض بالمباشرة، فيقال لهم تقريعا وتوبيخا: استوفيتم لذاتكم في الدنيا، وتمتعتم بها، باتباع الشهوات واللذات، وصرفتموها في معاصي الله سبحانه، دون مبالاة بالذنب، ففي هذا اليوم تجازون بالعذاب الشديد الذي فيه مذلة وهوان، بسبب تكبركم عن عبادة الله، والإيمان به وتوحيده بغير حق، وخروجكم من طاعة الله إلى دائرة الفسق والفجور، فقد آثرتم اللذة الفانية على الدائمة.
و (الطيبات) : الملاذ. و (عذاب الهون) العذاب الذي اقترن به هوان، وهو عذاب العصاة المواقعين ما قد نهوا عنه، وهذا واضح في الدنيا، فعذاب المحدود في معصية، كالحرابة ونحوها مقترن بالهوان، وعذاب المقتول في حرب ليس فيه هوان. والهون والهوان: بمعنى واحد.
وهذه الآية، وإن كانت في الكفار، فهي رادعة لأولي العقل (النّهى) من المؤمنين، عن الشهوات واستكمال الطيبات. ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه: «أتظنون أنّا لا نعرف طيب الطعام؟ ذلك لباب (خالص) البر (القمح) بصغار المعزى، ولكنا رأينا الله تعالى نعى على قوم أنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا» . ذكر هذا في كلامه مع الربيع بن زياد.
العبرة من قصة هود عليه السّلام
لقد أورد القرآن الكريم أخبار مجموعة من قصص الأنبياء للعبرة والعظة، على النحو الجماعي والفردي. ومن هذه القصص قصة هود مع قومه عاد، وعاد قبيلة عربية من إرم، كانوا يسكنون الأحقاف: واد باليمن فيه منازلهم بين عمان ومهرة، والغاية من هذه القصة تذكير أهل مكة وأمثالهم، بقوم هود وما حل بهم، وقد كانوا(3/2420)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
أشد منهم قوة وأكثر جمعا، وقد أبادهم الله بالريح الصرصر العاتية، فهل من عاقل متعظ؟ هذا ما ذكرته الآيات الآتية:
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [الأحقاف: 46/ 21- 28] .
أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بذكر قصة هود عليه السّلام مع قومه عاد، على جهة المثال لقريش وأشباهها. اذكر أيها النبي لقومك أخا عاد: وهو هود عليه السّلام، وهذه الأخوة هي أخوة القرابة، لأن هودا عليه السّلام كان من أشراف قبيلته عاد، وليست أخوة في الدين، وذلك حين أنذر، أي خوّف قومه في وادي الأحقاف بحضرموت، وأخبرهم أن الرسل قبله وبعده أنذروا مثل إنذاره، وهو ألا يعبدوا غير الله تعالى، ولا يشركوا به شيئا، فإني أخشى أن يحل بكم عذاب شديد عظيم الأهوال، والنذر: جمع نذير، اسم فاعل، أي منذر.
__________
(1) واد باليمن كما ذكرت.
(2) لتصرفنا عن عبادة الآلهة. [.....]
(3) سحابا عرض في أفق السماء.
(4) نزل بهم.
(5) بيّناها لهم.
(6) كذبهم.
(7) أي وافتراؤهم بجعل (ما) مصدرية، أو يفترونه بجعل (ما) بمعنى الذي.(3/2421)
فأجابوه بقولهم: لقد أتيتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة الله، فأتنا بما تعدنا من العذاب العظيم، إن كنت صادقا في قولك ووعيدك.
فرد هود عليه السّلام قائلا: إنما العلم بوقت نزول العذاب محصور بالله تعالى، لا عندي، وشأني مقصور على أن أبلغكم ما أرسلت به من ربكم من الإنذار والتحذير من العذاب، لا أن آتي به، فليس ذلك في مقدوري، ولكني أراكم قوما تجهلون المخاطر في المستقبل، إذا أصررتم على الكفر، ولم تهتدوا بما جئتكم به.
وجاءت أمارات العذاب، حيث رأوا سحابا متجها نحو أوديتهم، فقالوا: هذا سحاب ممطر، ففرحوا به واستبشروا، بعد أن امتنع عنهم المطر، فلم يكن مطر رحمة، وإنما مطر عذاب، وهذا هو العذاب الذي تعجلتم بطلبه، وهو ريح سموم فيها عذاب أليم، وهو المذكور في الآية السابقة حين قلتم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وضمير (رأوه) عائد على غير مذكور، دل عليه قوله: عارِضاً وهو الشيء المرئي الطالع عليهم، فصار في حكم المعلوم.
وتلك الريح تخرب وتهلك كل شيء مرت به، من نفوس وأموال، بإذن الله في ذلك، فأصبح قوم عاد جثثا هامدة، وبادوا عن آخرهم، ولم تبق لهم بقية، وأصبحوا لا يرى إلا آثار مساكنهم، وهذا الحكم كحكم كل من كذب رسلنا وخالف أمرنا، ومثل هذا الجزاء نجازي كل قوم أجرموا، فلم يؤمنوا بالله، والمقصود: تخويف أهل مكة وأمثالهم.
وقوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ ظاهره العموم، ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره.
ولقد مكنا قوم عاد والأمم السالفة في الدنيا، من الأموال والأولاد، وقوة الأبدان، وطول العمر، بمقدار لم نجعل لكم يا أهل مكة مثله ولا نحوه، فقد كانوا(3/2422)
أشد منكم قوة، وأكثر أموالا وأولادا، وأعز جانبا، وأمنع سلطانا. وإنهم أعرضوا عن هداية الله، على الرغم من منحهم السمع الجيد، والبصر السليم، والفؤاد الواعي، فما أفادهم كل ذلك شيئا، لعدم إعمال تلك الحواس في المفيد، لأنهم كانوا ينكرون آيات الله، وأحاط أو نزل بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء بقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا.
ومن الواجب على العقلاء الاتعاظ بهذا المصير، فلقد أهلكنا يا أهل مكة ما حولكم من البلاد، من القرى المكذبة بالرسل، مثل قرى ثمود، ومدائن لوط، ومدين في جوار الحجاز، وأهل سبأ باليمن، وبيّنا الآيات وأوضحناها، لكي يرجعوا عن كفرهم، فلم يرجعوا.
فهلا نصرتهم آلهتهم التي تقربوا بها إلى الله لتشفع لهم، ودفعت الهلاك عنهم، بل غابوا وذهبوا عنهم، ولم يحضروا لنصرتهم، وعند الحاجة إليهم، وسبب ذلك الضياع وانعدام نفع آلهتهم: هو إفكهم، أي كذبهم، وما كانوا يفترون، أي يكذبون ويختلقون. وفي هذا توبيخ لأهل مكة، وتنبيه إلى أن أصنامهم لا تنفعهم شيئا، فلو نفعت لأغنت من كان قبلهم.
وفادة الجن على النبي صلّى الله عليه وسلّم
الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم رسول لجميع العالمين من الإنس والجن، وقد بلّغ رسالته للفريقين، فكان فيهما من آمن، ومن كفر، فالمؤمن مثاب على إيمانه وعمله الصالح، والكافر معاقب على كفره وجحوده برسالة هذا النبي. أما طريقة التبليغ للإنس فمعروفة، وهي التبشير والإنذار، وإيضاح الدلالات الدالة على وجود الله وتوحيده ووجوب طاعته، بالحجة والإقناع، وأما طريقة تبليغ الجن فمجهولة لدينا، ولا(3/2423)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
يدركها العقل، وإنما نؤمن بما جاء في الخبر الصحيح، إما من القرآن الكريم وإما من السنة النبوية. وهذه آي تصف قصة الجن ووفادتهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
«1» «2» «3» «4» [الأحقاف: 46/ 29- 32] .
أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: إن الجن هبطوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، وكانوا تسعة، أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا الآية، إلى قوله: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
وهذا تأنيب للمشركين حيث إن الجن آمنوا، وهم كفروا.
والمعنى: اذكر أيها النبي لقومك حين وجهنا إليك نفرا من الجن، لاستماع القرآن والاهتداء به، فلما حضروا تلاوته، قالوا: أنصتوا، لكي يفهموا ويتدبروا، فلما انتهى النبي صلّى الله عليه وسلّم من تلاوة القرآن في صلاة الفجر، عادوا إلى قومهم، مخوفين إياهم من مخالفة القرآن، ومحذرين لهم من العذاب. وكان هذا الوفد: من جن نصيبين أو من نينوى بالموصل، بعد رجوع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الطائف لدعوتهم إلى الإسلام، وعددهم تسعة، وذلك في بطن نخلة: على بعد نحو ليلة من مكة، على طريق الطائف.
__________
(1) أي جماعة دون العشرة.
(2) انتهى أو فرغ من الشيء.
(3) يحمكم من عذاب مؤلم.
(4) أنصار يدفعون عنه العذاب.(3/2424)
وفي قولهم: أَنْصِتُوا تأدب مع العالم، وتعليم كيف يكون التعليم.
وأكدت سورة الجن على هذا، باستماعهم القرآن وإيمانهم به، ومطلعها: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) [الجن: 72/ 1- 2] .
وأدى وفد الجن هذا مهمة تبليغ القرآن ورسالته إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا، إننا سمعنا كتابا أنزله الله من بعد توراة موسى، مصدقا لما قبله من الكتب المنزلة على الرسل، يرشد إلى الدين الحق، وإلى طريق قويم نافع في العقيدة والعبادة والمعاملة والخبر.
وخصصوا موسى عليه السّلام بالذكر، لأحد أمرين: إما لأن هذه الطائفة من الجن كانت تتدين بدين اليهود، وإما لأنهم كانوا يعرفون أن موسى عليه السّلام قد ذكر محمدا صلّى الله عليه وسلّم وبشّر به.
وأضافت الجن قائلين: يا قومنا، أجيبوا داعي الله: وهو رسول الله خاتم النبيين، أو أجيبوا القرآن الداعي إلى توحيد الله وعبادته وطاعته، يغفر لكم بعض ذنوبكم التي هي من حقوق الله، ويحمكم ويمنعكم من عذاب موجع مؤلم، هو عذاب النار، والمؤمن يدخل الجنة، وتحميه الحفظة من النار.
وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله تعالى أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الثقلين: الجن والإنس، حيث دعاهم إلى الله تعالى، وقرأ عليهم سورة الرحمن التي فيها خطاب الفريقين، فكان النبي إذا قرأ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) [الرحمن: 55/ 13] قالوا: لا شيء من آلائك ربنا نكذّب، ربنا لك الحمد. ولما ولّت هذه الجماعة تفرقت على البلاد منذرة للجن، قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم.
وأتم الجن كلامهم لقومهم بعد الأمر بإجابة داعي الله، وبالتحذير من مخالفته،(3/2425)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
قالوا: ومن لا يجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محمدا إلى توحيد الله وطاعته، فلا يتمكن من الإفلات من الله، ولا يعجز الله أبدا، والمعجز: الذاهب في الأرض، لتعجيز طالبه، وليس له من غير الله أنصار ينصرونه ويمنعونه من عذاب الله، أولئك الذين لا يجيبون داعي الله في خطأ واضح، وانحراف ظاهر عن الحق، وهذا تهديد ووعيد، فجمع الجن في كلامهم على طريقة القرآن بين الترغيب والترهيب. ثم توالت وفود الجن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفدا وفدا.
إثبات عقيدة البعث والأمر بالصبر
أثبت الله تعالى بالأدلة القاطعة مسألة المعاد بعد الموت، لأن المشركين الوثنيين كانوا ينكرونها، وذلك في مناسبات مختلفة، ومنها في سورة الأحقاف التي تهدف إلى إثبات أصول العقيدة الثلاثة: وهي التوحيد، والنبوة، والبعث، وناسب هذه الأصول الأمر بالصبر في الدعوة إلى هذه الأصول، كما صبر الأنبياء والرسل الكرام في دعوتهم، لتعليمنا وعظتنا. وهذا ما ذكرته الآيات الآتية:
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 35]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
«1» «2» «3» [الأحقاف: 46/ 33- 35] .
الآية الأولى: أَوَلَمْ يَرَوْا خطاب لقريش، لأنهم قالوا: إن الأجساد لا يمكن أن
__________
(1) ولم يعجز عنه ولم يضعف.
(2) لا تتعجل إنزال العذاب بقومك.
(3) خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا بلاغ، فحذف المبتدأ للعلم به.(3/2426)
تبعث ولا تعاد، وهم مع ذلك معترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض، فأقيمت عليهم الحجة من أقوالهم.
والرؤية في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا رؤية القلب، أي أولم يتفكر القرشيون المنكرون للبعث، ويعلموا أن الذي خلق الكون من السماوات والأرض في ابتداء الخلق، ولم يعجز عن ذلك ولم يضعف عن الخلق، بل قال لها: كوني فكانت، بقادر على أن يحيي الموتى من قبورهم مرة أخرى؟! بلى (جواب بعد النفي المتقدم) أي بل إن الله قادر على ذلك كله، إنه سبحانه وتعالى قادر على أي شيء أراد خلقه، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وبعد لفت النظر هذا، جاء وعيد الكفار من قريش وسواهم، واذكر أيها الرسول لقومك يوم يعذّب الكافرون بالله في نار جهنم، ويعرضون مباشرة عليها، ويقال لهم توبيخا وتقريعا: أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه حقا وعدلا وواقعا لا شك فيه، وقد كنتم تكذبون به؟ فيجيبون: بلى وربنا، فذلك تصديق حيث لا ينفع. قال الحسن البصري: إنهم ليعذّبون في النار، وهم راضون بذلك لأنفسهم، فيعترفون أنه العدل، فيقول لهم المحاور من الملائكة عند ذلك: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي يقال لهم على سبيل الإهانة والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار، بسبب كفركم به في الدنيا وإنكاركم له.
والداعية الناجح: هو الذي لم يترك سبيلا للإصلاح والإرشاد إلا سلكه، وتدرّع بالصبر، ولم يغضب ولم يضجر، لذا أمر الله نبيه بأن يصبر على تكذيب قومه، قائلا:
فاصبر يا محمد على تكذيب قومك كصبر أولي الجد والعزيمة من الرسل، وأنت منهم، وهم أصحاب الشرائع الكبرى: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، ولا تستعجل يا محمد لهم العذاب، فإنه واقع بهم حتما.(3/2427)
ومفعول الاستعجال محذوف: وهو العذاب، معناه: لا تستعجل لهم عذابا، فإنهم إليه صائرون.
كأن الكافرين حين يشاهدون الوعيد المحقق بالعذاب، لم يمكثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من الساعات، لاحتقارهم ذلك، ولما يشاهدونه من الأهوال العظام، كما جاء في آية أخرى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) [المؤمنون: 23/ 112- 113] . وآية: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) [النازعات: 79/ 46] وهذا القرآن العظيم الذي يتم الوعظ به: تبليغ كاف، يقطع حجة الكافرين، والبلاغ: بمعنى التبليغ، فالقرآن بلاغ، كما قال تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) [إبراهيم: 14/ 52] . وقال سبحانه:
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) [الأنبياء: 21/ 106] .
ولا يهلك الله بعذابه إلا القوم الفسقة الخارجين عن الطاعة، المنغمسين في المعصية، وهذا من عدل الله تعالى ألا يعذّب أحدا إلا بذنب. وفي هذه الآية وعيد عظيم وإنذار بيّن، لأن الله تعالى جعل الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، وأمر بالطاعة ووعد عليها بالجنة، ونهى عن الكفر وأوعد عليه بالنار،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم والدارمي وأحمد: «لا يهلك على الله إلا هالك» .
قال الثعلبي: يقال إن قوله تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أرجى آية في كتاب الله تعالى للمؤمنين.(3/2428)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
تفسير سورة محمد عليه السّلام
الموازنة بين سلوك الكافرين والمؤمنين
كثيرا ما يعقد الحق سبحانه وتعالى موازنة أو مقارنة بين أحوال الكافرين وسلوكياتهم، وبين أحوال المؤمنين الذين يعملون الصالحات واختياراتهم، فيزيد الفريق الأول وهم الضالون ضلالا وحيرة، ويجعلهم مثلا وعبرة، ويزيد الفريق الثاني وهم المؤمنون صلاحا وتوفيقا، ويكفّر عنهم سيئاتهم، ويعصمهم من المعاصي، ويرشدهم إلى عمل الخير في الدنيا، ويورّثهم نعيم الجنة في الآخرة، وهذا لون بيّن من هذه المقارنة في الآيات الآتية في مطلع سورة محمد المدنية بالإجماع، علما بأن التشريع المكي ما كان قبل الهجرة، والتشريع المدني: ما كان بعد الهجرة:
[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)
«1» «2» «3» «4» «5» [محمد: 47/ 1- 3] .
قال ابن عباس ومجاهد: نزلت هذه الآيات في أهل مكة والأنصار، فقوله تعالى:
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) : هم أهل مكة نزلت فيهم. وقوله:
__________
(1) أعرضوا ومنعوا غيرهم.
(2) أحبطها وأبطلها. [.....]
(3) أصلح شأنهم أو حالهم أو أمرهم.
(4) الشيطان وكل ما يأمر به.
(5) الحق هنا هو الشرع ومحمد صلّى الله عليه وسلّم.(3/2429)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ هم الأنصار، أما أهل مكة فأخرجوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بلده، والأنصار أهل المدينة آووه، ثم هي بعد تعمّ كل من دخل تحت ألفاظها.
المعنى: الذين جحدوا توحيد الله وآياته، وعبدوا غيره، وصدّوا غيره عن الإسلام، بنهيهم عن الدخول فيه، وهم كفار قريش، أبطل الله ثواب أعمالهم وأحبطها وضيّعها، ولم يجعل لها ثوابا ولا جزاء في الآخرة، فقوله تعالى: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي أتلفها، ولم يجعل لها غاية خير، ولا نفعا. وهذا يشمل جميع أعمال الكفار البرّة في الجاهلية، من صلة الرحم ونحوه، والإنفاق الذي أنفقوه في سفرهم إلى بدر، ومثلها أعمال الكفار في كل زمان. وذلك كما في آية أخرى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) [الفرقان: 25/ 23] .
وأما الذين صدّقوا بالله ورسوله وبالقرآن، وعملوا صالح الأعمال، واعتقدوا بالحق المنزل من ربهم، فيكفّر الله عنهم سيئاتهم، ويصلح شأنهم وحالهم في الدنيا والآخرة، ويغفر لهم سيئاتهم، ويرشدهم إلى أعمال الخير في الدنيا، ويمنحهم نعيم الجنة في الآخرة. وهذا يشمل المهاجرين والأنصار وغيرهم من التابعين لهم بإحسان، والمؤمنين الذي يعملون الصالحات: وهي الفرائض والواجبات، وبقية أعمال البر.
وقوله: وَأَصْلَحَ بالَهُمْ معناه حالهم، أو أمرهم، أو شأنهم، وأصل معنى هذه اللفظة: أنها بمعنى الفكر، وموضع نظر الإنسان وهو القلب، فإذا صلح ذلك فقد صلحت حاله، فكأن اللفظة مشيرة إلى إصلاح عقيدتهم وغير ذلك تابع.
ثم أوضح الله تعالى أن سبب إضلال الكافرين، وإصلاح وإسعادهم: المؤمنين هو أفعال كل منهم، فالجزاء المتقدم للفريقين بسبب اتباع الكافرين الباطل، من الشرك بالله، والعمل بمعاصيه واختيارهم على الحق، وإصغائهم للشيطان وكل ما(3/2430)
يأمر به، وأما جزاء المؤمنين فبسبب اتباعهم الحق وهو الشرع وكل ما أمر الله باتباعه من التوحيد والإيمان، والعمل الصالح، واتباع ما جاء به النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ومثل ذلك البيان الرائع، يبين الله للناس أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة، ويظهر مآل أعمالهم، وما يصيرون إليه في معادهم، فالاتباع المذكور من الفريقين: هو سبب التفرقة بينهما، وجعل ذلك مضرب الأمثال، فكما اتّبعوا هذين السبيلين، وصار مصيرهم على هذا النحو، يجعل الله ذلك تبيانا لكل الناس، ومعرفة أمر كل فرقة، ليعتبروا ويحتاطوا للأمر.
إن تبيان جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين في الآخرة سلفا في الدنيا، أمر يتفق مع أصول التجريم والعقاب، فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، أو لا جزاء إلا بعد إنذار سابق، فإذا عرف الإنسان في الدنيا مصيره في الآخرة، هان الأمر، وظهر الحق والعدل، ولم يبق ما يسوّغ اللوم والعتاب، وامتنعت المفاجأة بعناصرها المعروفة، وحينئذ يكون المرء مأخوذا بذنبه أو بما كسبت يداه، ولا ظلم ولا محاباة ولا داعي للاعتراض أو الانتقاد، قال الله تعالى: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
(15) [القيامة: 75/ 12- 15] .
وقال سبحانه: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 52/ 21] .
أحكام القتال والأسرى
إذا نشبت الحرب بين المؤمنين وغيرهم، وجب على المؤمنين اتباع قواعد حربية معينة أثناء المعركة وبعد انتهائها، لأن الحرب ضرورة، وخاضعة للنظام، حتى لا تبيد البشرية، وتسود الفوضى، ويصعب تلافي الآثار والنتائج المترتبة عليها.
والإسلام حريص على السّلام والأمن. وانتشار دعوته، إنما هو بالحكمة والإقناع(3/2431)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
والموعظة الحسنة. وإذا أصرّ العدو على الحفاظ على دينه وأحواله، وجب إبرام المعاهدات التي تنظم العلاقات المختلفة، حتى لا يبغي أحد على أحد، ويطمئن كل طرف إلى وضعه، ومراعاة مصالحه، على قدم المساواة. وهذه آيات تدعو لتنظيم معارك القتال وتسوية آثارها، وتوجيه الطبائع البشرية وجهة صالحة:
[سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 9]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [محمد: 47/ 4- 9] .
آية وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال فيها قتادة- كما أخرج ابن أبي حاتم- نزلت يوم أحد، ورسول الله في الشّعب، وقد نشبت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون يومئذ: اعل هبل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون: الله أعلى وأجل، فقال المشركون: إن لنا العزّى، ولا عزّى لكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم.
والمعنى: إذا واجهتم أيها المسلمون الكفار في القتال، فاحصدوهم حصدا بالسيوف، واضربوا الرقاب ضربا. وهذا بمثابة قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 9/ 5] وهذا حكم في أثناء القتال الناشب إذا توافرت أسبابه أو دواعيه المشروعة، وهو قائم على مبدأ المعاملة بالمثل ومراعاة طبيعة القتال وأدواته
__________
(1) مصدر بمعنى الفعل، أي فاضربوا رقابهم، والمراد: اقتلوهم بأي وجه كان.
(2) أكثرتم القتل فيهم.
(3) الوثاق: الحبل كالرباط، والمراد: فأسروهم.
(4) فلن يحبطها أو يضيعها.
(5) مصدر منصوب بفعل مضمر، أي هلاكا لهم وخيبة.
(6) أبطلها.(3/2432)
وهي في الماضي: السلاح الأبيض. وهذه الآية محكمة غير منسوخة مبيّنة لآية فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. قال ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء: إن هذه الآية (آية سورة محمد هنا) محكمة مبيّنة لتلك (آية سورة براءة) .
ثم بيّن الله حكم الأسر وتوابعه وهو:
حتى إذا أكثرتم فيهم القتل، وتحققت الغلبة لكم عليهم، وانتهت الحرب بتحقيق النصر، فأسروهم وأحكموا القيد عليهم لئلا يفلتوا ويهربوا، ومصيرهم بعد الأسر:
إما المنّ عليهم بإطلاق سراحهم بعوض أو بغير عوض، وإما الفداء بمبادلتهم بالأسرى المسلمين أو بدفع الفداء: وهو المال الذي يفدي به الأسير نفسه من الأسر.
وذلك حتى تضع الحرب أوزارها أي أثقالها وآلاتها: وهذا مجاز عن انتهاء الحرب، أي حتى تنقضي الحرب، بتحقيق الغلبة والنصر.
والمن والفداء ثابت غير منسوخ، صرّح به هنا، ولم يصرح به في آية التوبة السابق ذكرها، وقد منّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ثمامة بن أثال، وفادى أسرى بدر، كما قال الحسن البصري.
وذلك هو الحكم في قتال الكفار، والله قادر على الانتصار من أعدائه، بالانتقام منهم، وإهلاكهم وتعذيبهم، بما شاء من أنواع العذاب كالخسف والرجفة، والغرق دون قتال منكم أيها المؤمنون، ولكن الله أمركم بحربهم ليختبر بعضكم ببعض.
والذين قتلوا في سبيل الله، أي استشهدوا، فلن يضيع الله تعالى أجرهم، ولا يبطل ولا يحبط أعمالهم كإحباط أعمال الكفار وهذا أحد أنواع ثواب الشهداء.
ومن فضل الله على الشهداء: أنه تعالى يوفقهم قبل موتهم للعمل بما يحبه ويرضاه، وسيهديهم إلى طريق الجنة، ويصلح شأنهم أو موضع نظرهم وفكرهم وهو القلب. ويرشدهم إلى طريق الجنة التي قد عرّفها وبيّنها لهم، وأعلمهم بها، أي(3/2433)
جعلهم يعرفون منازلهم منها.
أخرج البخاري من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «.. والذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا» .
ثم بشّرهم الله بالنصر بشرطه: وهو يا أيها المؤمنون بالله والقرآن والإسلام، إن تنصروا دين الله ورسوله، بجدّكم وإيمانكم، ينصركم الله بخلق القدرة لكم والجرأة وغير ذلك من المعارف.
والذين كفروا بالله ورسوله، فهلاكا وعثارا وخيبة لهم، وأبطل الله أعمالهم، فلا ثواب لهم، ولا خير يرتجى منها في الآخرة. وقوله: فَتَعْساً لَهُمْ مقابل تثبيت أقدام المؤمنين المنتصرين، الناصرين لدين الله ورسوله.
ذلك التعس أو الهلاك، وإضلال الأعمال أو إبطالها بسبب كراهيتهم القرآن، أي ما أنزل الله في قرآنه على نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، من التكاليف الإلهية، فهم لا يريدونه ولا يحبونه، فأبطل الله ثواب أعمالهم بذلك السبب. والمراد بالأعمال المحبطة أو الملغاة: أعمال الخير أو الحسنات حال الكفر، لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه، وإنما تفيدهم هذه الأعمال الخيرية في الدنيا. وإذا أسلم الكافر يضاف عمله الخيري إلى حسناته في الإسلام.
الاعتبار بآثار الماضين
رغّب القرآن الكريم في مناسبات مختلفة في النظر في آثار الأمم المتقدمة، والتأمل في أحوال أهل الإيمان وأهل الكفر، للعبرة والاتعاظ، بقصد إصلاح الأفراد والجماعات، حين يعلمون أن الله ناصر المؤمنين، وخاذل الكافرين، ثم يكافئ أهل الإيمان بجنان الخلد، لانحيازهم إلى الحق وإيمانهم به، ويعاقب أهل الضلال أو الكفر(3/2434)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
بنيران الجحيم، لاتباعهم أهواءهم في عبادة الأوثان، وهذه آيات تناسب الكلام على فريقي الناس عادة: مؤمنين وكفارا، قال الله تعالى:
[سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 14]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
«1» «2» «3» [محمد: 47/ 10- 14] .
أفلا يتأمل القرشيون المشركون بمصائر الأمم السابقة، فيسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان مصيرهم أو عاقبتهم، مثل أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم، ليعتبروا ويروا ما حلّ بهم، كيف دمّر الله عليهم ديارهم، واستأصلهم بالإهلاك، وأتلف ممتلكاتهم وأموالهم، بسبب تكذيبهم رسلهم، وما أداه إليه كفرهم، ولهؤلاء الكافرين المكذبين أمثال عاقبة من قبلهم من الكفرة في الدنيا، مثل هزيمتهم في بدر وفتح مكة، ولهم عقاب أشد في الآخرة.
وهذه الآية توقيف لقريش وتوبيخ، نزلت يوم أحد، ومنها انتزع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّه على أبي سفيان بن حرب حين
قال له: الله مولانا، ولا مولى لكم.
وسبب هذا العقاب بالتدمير والاستئصال للكافرين، ونجاة المؤمنين: أن الله ناصر عباده الذين آمنوا بالله تعالى، وأطاعوا رسوله، وأن الكافرين المكذبين لرسوله لا ناصر لهم، يدفع عنهم العذاب.
قال قتادة: نزلت يوم أحد، والنبي صلّى الله عليه وسلّم في
__________
(1) أي أهلكهم مع أموالهم.
(2) أي أمثال تلك العاقبة.
(3) أي ناصرهم.(3/2435)
الشّعب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم.
كما تقدم بيانه.
ثم بيّن الله تعالى أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة، فقال عن المؤمنين: إن الله يدخل عباده المؤمنين المصدقين بالله ورسوله، والعاملين الأعمال الصالحة جنات تجري الأنهار من تحت قصورها، تكريما لهم.
وأما الذين جحدوا بوجود الله وتوحيده، وكذبوا رسوله، فيتمتعون أو ينتفعون بمتاع الدنيا الحقير، ويأكلون منها كأكل الأنعام (الإبل والبقر والغنم) لا همّ لهم إلا ملء بطونهم، وإشباع شهواتهم، والنار مقر لهم أو مثوى، أي موضع الإقامة، والتشبيه بأكل الأنعام يراد به الأكل المجرد من الفكر والنظر، أي إن هذا التشبيه وقع فيما عدا الأكل على قلة الفكر وعدم النظر.
ثم هدّد الله مشركي مكة وتوعدهم بما حدث لأمثالهم، فكثير من أهل المدن والأمم السابقة ذات القوة والنفوذ، كانوا أشد بأسا وقوة، من أهل مكة الذين أخرجوك منها، فأهلكناهم، ولم يجدوا لهم ناصرا ولا معينا يدفع عنهم العذاب. فإذا أهلك الله تعالى عتاة الأمم الذين كذبوا الرسل. فسيفعل الأمر نفسه بأمثالهم. وإن امتنع عذاب الاستئصال في الدنيا إكراما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم نبي الرحمة، فإن عذاب الآخرة كائن لهم حتما.
وسبب التفرقة بين الفريقين في الجزاء هو:
هل من كان على بصيرة ويقين من أمر دينه، وبما جبل عليه من الفطرة السليمة بتوحيد الله، مثل من زيّن له سوء عمله، فرآه حسنا، وهو عبادة الأوثان، والإشراك بالله، واقتراف المعاصي، فإنهم اتبعوا أهواءهم في عبادة الأصنام،(3/2436)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
وانهمكوا في أنواع الضلالات، بلا شبهة توجب الشك، أو دليل صحيح من المنقول أو المعقول؟ والمعنى: لا يستوي الفريقان.
وهذا توقيف وتقرير على شيء متفق عليه، وهي معادلة بين هذين الفريقين. وقوله تعالى: عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ معناه على قضية واضحة، وعقيدة نيّرة بيّنة. قال قتادة:
الإشارة بهذه الآية إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، في أنه الذي على بيّنة من ربه، وإلى كفار قريش في أنهم الذين زيّن لهم سوء أعمالهم، وبقي اللفظ عاما لأهل هاتين الصفتين غابر الدهر.
وهذا دليل على خلود معاني القرآن وألفاظه إلى يوم القيامة.
مثل الجنة وموقف المنافقين من القرآن
يختلف المؤمنون والكافرون في الاهتداء والضلال، وفي الجزاء والمآل، فيكون للمؤمنين ألوان النعيم في الجنة، وللكافرين والمنافقين أصناف العذاب الدائم في جهنم، ويزيد الله المهتدين هدى ويوفقهم للعمل الصالح، ويتعرض الضالون يوم القيامة لعذاب شديد، والله سبحانه إله واحد لا شريك له، وهو المتفرد بالحساب، والعليم بتصرف العباد وسكونهم. وهذا ما عبرت عنه الآيات الآتية:
[سورة محمد (47) : الآيات 15 الى 19]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
«1» «2» «3»
__________
(1) غير متغير الرائحة لطول مكثه.
(2) شديد الحرارة والغليان. [.....]
(3) ختم على قلوبهم بسبب نفاقهم.(3/2437)
«1» «2» «3» [محمد: 47/ 15- 19] .
صفة الجنة الموعود بها للمتقين القائمين بأوامر الله وطاعته ما تسمعون فيها كذا وكذا، فيها أنهار جارية من ماء غير متغير الطعم والريح واللون لطول مكثه، بل إنه ماء عذب فرات متدفق نقي، من شربه لا يظمأ أبدا، وفيها أنهار من حليب طازج، لم يتغير طعمه بحموضة أو غيرها، وفيها أنهار من خمر لذيذة الطعم، طيبة الشرب، ليست مرة أو كريهة الرائحة، ولا تسكر ولا تصدّع الشارب أو تذهب عقله، وإنما هي لذيذة للشاربين، وفيها أنهار من عسل صاف غير مشوب بمادة أخرى، حسن اللون والطعم والريح، ولهم في الجنة مختلف الثمار والفواكه ذات الألوان البديعة، والروائح الذكية، والطعوم الشهية، أساكن هذه الجنان أو أهؤلاء كمن هو خالد في النار إلى الأبد؟ وسقوا بالإكراه من ماء حار شديد الغليان، فقطّع أمعاءهم وأحشاءهم؟! والمراد: أمثل أهل الجنة، بهذه الأوصاف، كمن هو خالد مقيم دائما في النار؟
فتكون الكاف في قوله تعالى: كَمَنْ مؤكدة للتشبيه. وفِيها أَنْهارٌ: في موضع الحال، على هذا التأويل.
ثم ذكر الله تعالى حال المنافقين، فقال:
ومن الكفار الخالدين في النار: منافقون يستمعون كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم في خطبه ومجالسه، فلا يدركون منه شيئا لعدم إيمانهم، فإذا خرجوا من عنده قال بعضهم لأهل العلم الواعين لما سمعوا، على طريقة الاستهزاء والاستخفاف: ماذا قال النبي
__________
(1) فجأة.
(2) علاماتها.
(3) تقلبكم لأشغالكم في الدنيا. ومثواكم: سكونكم إلى مضاجعكم ليلا.(3/2438)
آنفا؟ أي في الساعة المتقدمة لهذا الوقت؟ أي ماذا قال قبيل وقتنا؟ والمراد: أنا لم نلتفت إلى قوله، ولم نأبه لكلامه، أو لا معنى لقوله ولا نفع له ولا قدر.
روى مقاتل: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء: ماذا قال محمد آنفا؟ قال ابن عباس: وقد سئلت فيمن سئل.
فوصفهم الله بأنهم هم أولئك المنافقون الذين طبع الله على قلوبهم، بسبب نفاقهم، فلم يؤمنوا ولم يهتدوا إلى الحق، ولم ينفذ الخير إلى قلوبهم، واتبعوا شهواتهم وأهواء نفوسهم في الكفر والعناد، أي تركوا اتباع الحق. والطبع على قلوبهم إما حقيقة واقعية، وإما استعارة بتشبيه قلوبهم التي لم يتسرب إليها الخير بالآنية المختومة.
وعلى عكسهم المؤمنون الذين طلبوا الهداية إلى طريق الخير والإيمان، فوفقهم الله تعالى، وشرح صدورهم، فآمنوا بالله ورسوله، وعملوا بما أمروا به، وزادهم الله هدى بزيادة التفهيم والأدلة، وبالتوفيق للعمل الذي يرضاه، وأعانهم على التقوى، وأعطاهم إياها، أي جعلهم متقين له، والتقدير: تقواهم إياه.
ثم هدد الله المنافقين بما يجدونه في القيامة، وهو: هل ينتظر المنافقون والكافرون إلا مجيء القيامة التي تأتيهم فجأة، وهم غافلون عنها، وقد حدثت أماراتها وعلاماتها، منها بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة (القيامة) حيث لا ينفعهم ذلك، كما في آية أخرى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الفجر: 89/ 23] .
وقوله تعالى: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها إخبار مستأنف، فينبغي الاستعداد والخوف منها لمن حزم أمره ونظر لنفسه.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثت والساعة كهاتين» وأشار بإصبعيه.(3/2439)
وبعد هذه المقارنة بين المهتدين والضالين ومصير كل فريق، أمر الله تعالى رسوله بالثبات على منهاجه وعلى استغفار ربه، فإذا علمت أيها النبي حال الفريقين: المؤمن والكافر، من السعادة والشقاوة، وعلمت بمجيء القيامة ومعرفة أشراطها (علاماتها) فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد ومراقبة النفس، واعلم أنه لا إله إلا الله، ولا رب سواه، وداوم على الاستغفار من الذنوب الصادرة منك على خلاف الأولى، والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، أي بالدعاء لهم بالمغفرة عن المعاصي، والله يعلم أعمالكم، ومتقلبكم، أي تصرفكم يقظة في أشغالكم نهارا، وسكونكم ومستقركم ليلا في منامكم في مضاجعكم وإقامتكم في قبوركم. وإدراك هذه المعلومات سبيل لغرس رقابة الله في النفس، سرا وعلانية، وواجب على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات.
روى مسلم عن الأغر المازني قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنه ليغان على قلبي «1» حتى أستغفر الله في اليوم مائة مرة» .
حال المؤمنين والمنافقين في الدين
يختلف حال المؤمنين والمنافقين وموقفهم من الدين أو الأحكام العملية، كالجهاد والصلاة والزكاة ونحوها، أما المؤمنون فيجدّون في فهم دين الله تعالى وتنفيذه، ويحرصون على ظهوره وانتشاره في العالم، وأما المنافقون فيتكاسلون في تطبيق الدين ويحرصون على فساده وأهله. وكان المؤمنون يأنسون بالوحي، ويستوحشون إذا أبطأ، والله تعالى جعل للوحي أمدا معينا ووقتا محددا لا يتجاوزه، فمدح الله المؤمنين على حرصهم على انتشار الدين، وذمّ المنافقين على تقاعسهم في الدين وتبرمهم من أحكامه، وصف الله تعالى في هذه الآيات الآتية حال الفريقين.
__________
(1) أي يلبس على قلبي ويغطّى.(3/2440)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
[سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 23]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)
«1» «2» «3» [محمد: 47/ 20- 23] .
يتمنى المؤمنون المخلصون تشريع الجهاد، حرصا على ثوابه، ونيل درجات المجاهدين، وللدفاع عن أنفسهم وأموالهم، وإظهار عزتهم ورفعتهم، فيقولون: هلا أنزلت سورة يأمرنا فيها ربنا بقتال الأعداء، فإذا أنزلت سورة محكمة، أي دائمة المشروعية، لا يقع فيها نسخ، يأمر الله فيها بالقتال، وصيرورته فرضا على المسلمين، فرح بها المؤمنون، وشق على المنافقين، ورأيت الذين في قلوبهم شك ومرض «4» وهو النفاق، ينظرون إليك أيها النبي- بسبب الجبن والخوف من لقاء الأعداء- نظر المحتضر الذي شخص بصره إلى السماء عند الموت، أو المغمى عليه، خوفا من قتال الأعداء، فالويل أي الهلاك لهم. وفي هذا تهديد للمنافقين، ووعيد بقرب هلاكهم، وافتضاح شأنهم.
فلعلكم إن توليتم عن الطاعة والجهاد، وأعرضتم عن القتال وتنفيذ أحكامه، أن تعودوا إلى سيرة الجاهلية، فتسفكوا الدماء وتفسدوا في الأرض بالبغي والنهب، وارتكاب المعاصي، وتقطعوا أرحامكم بالقتل والعقوق، ووأد البنات، ومقارفة سائر مفاسد الجاهلية. وكلمة (عسى) للتوقع، وهي من الله تفيد التحقق.
__________
(1) أي المغمى عليه خوفا من الموت.
(2) أي فالويل لهم والهلاك لهم، ابتداء وخبر، معناه الزجر والتوعد.
(3) مبتدأ، وخبره محذوف أي أمثل. وحسن الابتداء بالنكرة لأنها مخصّصة، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الأمر طاعة.
(4) استعارة لفساد المعتقد.(3/2441)
لكن طاعة وقول معروف: أحسن أو أمثل، فذلك هو الأمر المرضي لله تعالى، فإذا جدّ الحال ووجب، أي وفرض القتال، فلو صدقوا في ذلك القول، وفي القتال، وأطاعوا الله تعالى، وأخلصوا له النية، لكان إظهار الإيمان والطاعة خيرا لهم من المعصية والمخالفة. ثم وبخهم الله تعالى على تقصيرهم، فلعلكم إن توليتم عن الطاعة والجهاد، وأعرضتم عن الإسلام أو عن القتال وتنفيذ أحكامه، أن تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية، فتسفكوا الدماء، وتفسدوا في الأرض بالبغي والظلم، والنهب والسلب وسائر المعاصي، وتقطّعوا أرحامكم بالقتل والعقوق ووأد البنات وارتكاب سائر مفاسد الجاهلية، وبعبارة أخرى: فهل عسى أن تفعلوا إن توليتم غير أن تفسدوا في الأرض، وتقطّعوا أرحامكم؟
ثم صب الله عليهم اللعنة، فقال: أولئك الظالمون، وسفاكو الدماء بغير حق:
هم الذين أبعدهم الله من رحمته، وطردهم عنها، فأصمهم في الدنيا عن استماع الحق، وأعمى أبصارهم عن رؤية الحق «1» ، وعن النظر في أدلة الكون الدالة على عدالة نظام الله تعالى، وشرعه في عباده، من تحريم الدماء والأموال بغير حق، وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، ويتضمن الأمر بالإصلاح في الأرض، وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: وخلق الله تعالى الخلق، فلما فرغ منه، قامت الرحم، فأخذت بحقوي «2» الرحمن عز وجل، فقال: مه، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك»
قال أبو هريرة
__________
(1) هذا استعارة، لعدم فهمهم، فكأنهم عمي وصمّ.
(2) الحقو: الإزار أو الخصر، والمراد هنا: أنه مجاز عن شدة التعلق واللجوء إلى الله والاستعانة به.(3/2442)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ؟! أوضحت هذه الآيات موقف المنافقين المخزي من القرآن وتكاليفه العملية أو الواقعية، فهم يخافون من الجهاد، ويتنكرون لقول المعروف وطاعة الشرع الشريف.
وهم بطبيعتهم قوم جهلاء، يمارسون أفعال الجاهلية، ويميلون إليها: من الإفساد في الأرض، وتقطيع الأرحام، مما يوجب عليهم الطرد من رحمة الله، ومنع تسرب الخير والفكر الرشيد إلى قلوبهم.
تدبر القرآن الكريم
أمر الله تعالى كل السامعين للقرآن العظيم بتدبر آياته وفهمها، وحذرهم من هجره، ووبخهم على الإعراض عنه، كي تتحقق الفائدة من استماع القرآن، ويبتعدوا عن الموبقات المهلكات التي يقعون فيها إذا لم يفعلوا ذلك. والذين آثروا الكفر وانحازوا إليه، إنما فعلوا ذلك، لا جهلا بمصداقية القرآن والنبوة، وإنما يعد تبيّن حقيقة الإسلام بالأدلة القاطعة، والمعجزات النبوية الباهرة. وسيلاقون الأهوال العظام عند الموت، لاتباع أهوائهم، والله قادر على كشف أحوالهم، ولكنه تركهم سادرين في غوايتهم لاختبارهم في الدنيا، وسيجازيهم بما عملوا، كما جاء في الآيات الآتية:
[سورة محمد (47) : الآيات 24 الى 32]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) جمع قفل، والعبارة استعارة للرّين أو الحجاب الذين منعهم الإيمان.
(2) ظهورهم.
(3) زين لهم خطاياهم. [.....]
(4) مدّ لهم في الآمال والأماني الباطلة.(3/2443)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [محمد: 47/ 24- 32] .
أفلا يتفهم المنافقون وغيرهم آيات القرآن، فيعملوا بمواعظة، ويقتنعوا بأدلته، أم (بمعنى بل وألف الاستفهام) على قلوبهم أغطية منعتهم الإيمان!! والآية توبيخ لهم، لتركهم هدي القرآن وبيانه.
إن الذين فارقوا الإيمان، ورجعوا إلى الكفر، من بعد تبيّن الهدى عند الداعي إليه، بالأدلة الواضحة، والمعجزات الظاهرة، زين لهم الشيطان خطاياهم، وسهّل لهم الوقوع فيها، وحسّن لهم الكفر، وخدعهم بالأماني المعسولة والأمنيات الزائفة.
قال قتادة: إنها نزلت في قوم من اليهود، كانوا قد عرفوا من التوراة أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم ارتدوا عن الهدى. وقال ابن عباس: نزلت في منافقين كانوا أسلموا، ثم نافقت قلوبهم.
ثم أوضح الله مظاهر ضلالهم وهي:
ذلك الارتداد والكفر بعد الإيمان من المنافقين: بسبب كراهية ما نزّل الله تعالى في قرآنه، وقولهم للمشركين واليهود: سنطيعكم في بعض الأمور، كعداوة النبي ومخالفة
__________
(1) أبطلها.
(2) شك ونفاق.
(3) أحقادهم.
(4) بعلامتهم.
(5) أسلوبه المعتمد على التعريض بدل التصريح.
(6) لنختبرنكم بالجهاد وسائر التكاليف.
(7) خالفوه.(3/2444)
ما جاء به، والتخلف عن الجهاد معه، والله عالم بتآمرهم سرا، وبكل ما بيّتوه من مكائد ومؤامرات. وهذا مثل قولهم في آية أخرى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ.. [الحشر: 59/ 11] .
وحالهم عند الموت في غاية السوء، فإن الملائكة عند قبض أرواحهم تستخرجها بعنف وقهر، وتضرب وجوههم وظهورهم، أي إنهم إذا خافوا من فرض القتال وقراع الأعداء، فكيف يكون فزعهم وجزعهم إذا توفتهم الملائكة؟!.
وسبب أهوال موتهم: اتباعهم ما أسخط الله، من الكفر والمعاصي، وتآمرهم مع أعداء الله، على معاداة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكراهيتهم ما يرضي الله من الإيمان الصحيح وتوحيد الله وطاعته، فأبطل الله أعمالهم الخيرية قبل الردة وبعدها كالصدقة وإغاثة الملهوف، لأنهم فعلوها في حال الكفر، كما جاء في آية أخرى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) [الفرقان: 25/ 23] .
ثم وبخ الله المنافقين وهددهم بقوله: أيظن هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شك ونفاق وحقد وعداوة للمؤمنين أن الله لن يكشف أحقادهم وعداوتهم؟ إنهم مخطئون في هذا، فالله عالم الغيب والشهادة، يعلم السر وأخفى.
ولو نشاء أيها النبي لعيّناهم بالأسماء والتعريف التام ولعرفتهم بعلاماتهم المميزة، ولكنه تعالى لم يعينهم إبقاء عليهم وعلى قراباتهم، وو الله لتعرفنهم في لحن القول، أي الأسلوب المعتمد على التعريض والتلويح، والمنحى والمقصد، والله يعلم جميع أعمالهم، فيجازيهم عليها من خير أو شر، وهذا وعد ووعيد، روى مسلم وأحمد عن حذيفة ما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عرّفه بهم أو ببعضهم.
ومنهج الحياة: الاختبار، فلنختبرنكم أيها المنافقون وغيركم بالأوامر والنواهي(3/2445)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
أو لنعاملنكم معاملة المختبر، ومنها الجهاد في سبيل الله، حتى نتبين أو نعلم علم ظهور وانكشاف المجاهدين في سبيل الله بحق، والصابرين على دينه ومشاق التكليف، ونظهر أخباركم ونكشفها للناس، ليعرف الطائع من العاصي. وعلم الله تعالى بالمجاهدين قديم أزلي. وإنما المراد إظهار جهادهم إلى الوجود، وتبيان تكسبهم الذي يتعلق به ثوابهم.
إن الذين كفروا بالله ووحدانيته، وصدّوا الناس عن دينه وطريق الحق، بمنعهم من الإسلام واتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومخالفتهم إياه، فكانوا في شق أو جانب والنبي صلّى الله عليه وسلّم في شق، بعد أن تبينوا معالم الهدى عند الداعي إليه، لن يلحقوا أي ضرر بالله، وسيبطل الله أعمالهم، ويبدد مكرهم، ولا يثيبهم على أعمالهم يوم القيامة.
نزلت في قوم من بني إسرائيل فعلوا هذه الأفاعيل، بعد تبيّنهم أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم من التوراة. وقيل: نزلت في قوم من المنافقين، وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين في سفرة بدر.
إطاعة الله والرسول
لم يترك القرآن الكريم شيئا من أمور الدين إلا بيّنه، فإن الله تعالى أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، وأوضح حكم من مات من الكفار على كفرهم، وأنهم لا يعفون من العقاب، ونهى المؤمنين عن الدعوة إلى السلم أو المسالمة في حال القوة والتفوق، وحرّضهم على الجهاد بالنفس والمال، ورغبّهم في الإنفاق في سبيل الله، وحذّرهم من التقصير بإبدالهم أقواما آخرين، هم أفضل لإقامة الدين، ونصرة الإسلام، وكل ذلك ظاهر في الآيات الآتية:
[سورة محمد (47) : الآيات 33 الى 38]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)(3/2446)
«1» «2» «3» [محمد: 47/ 33- 38] .
أخرج النسائي والبزار وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه الآية (إطاعة الله والرسول) نزلت في بني أسد من العرب، وذلك أنهم أسلموا وقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نحن قد آثرناك على كل شيء، وجئناك بنفوسنا وأهلينا، كأنهم منّوا بذلك، فنزل فيهم يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا.. الآية [الحجرات: 49/ 17] ،
ونزلت فيهم هذه الآية.
المعنى: يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، أطيعوا الله وأطيعوا رسوله، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، ولا تبطلوا حسناتكم بالردة، أو بالمعاصي الكبائر، أو بالرياء والسمعة، والمن والأذى، أو بالشك والنفاق، أو بالعجب والتكبر.
وإذا بطلت أعمال المكلف، ففضل الله باق، يغفر له إن شاء، ما لم يمت على الكفر، فإن الذين جحدوا وحدانية الله، ومنعوا أنفسهم والناس عن دين الله، ثم ماتوا وهم كفار، فلا غفران لذنوبهم، بل يعاقبهم الله تعالى.
قال مقاتل: نزلت في رجل سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن والده، وقال: إنه كان محسنا في حال كفره.
أخرج مسلم: أن هذه الآية نزلت بسبب أن عديّ بن حاتم قال: يا رسول الله، إن حاتما كانت له أفعال برّ، فما حاله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هو في
__________
(1) لن ينقصكم ولن يضيع عليكم شيئا من أعمالكم.
(2) يبالغ في طلبكم.
(3) أحقادكم.(3/2447)
النار، فبكى عدي رضي الله عنه وولّى، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: أبي وأبوك
وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار، ونزلت هذه الآية في ذلك، وظاهر الآية العموم في كل ما تناولته الصفة. ونظيرها آية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 4/ 48] .
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بترك مسالمة الأعداء، وهم في حال قوة، فلا تضعفوا عن القتال أيها المؤمنون، ولا تدعوا الكفار إلى الصلح والمسالمة ابتداء منكم، وإظهارا للعجز والضعف، ولا مانع من قبول السلم إذا مال إليه الأعداء، أما في حال كونكم أنتم الغالبون القاهرون، فلا تبدؤوهم بطلب الصلح، والله معكم، بالنصر والمعونة عليهم، ولن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم أو جزائها. وقوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَكُمْ فيه بشارة بالنصر على الأعداء. فأما إن كان الكفار أقوى من المسلمين، ورأى الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة، فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين صدّه كفار قريش عن مكة. وعملا بقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: 8/ 61] . فقوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ في موضع الحال، أي وأنتم الغالبون والظاهرون.
واحرصوا أيها المؤمنون على جهاد الأعداء، واسترخصوا الحياة الدنيا واطلبوا الآخرة، توهب لكم الحياة، فإن حياة الدنيا لعب ولهو، أي باطل وغرور، لا ثبات له ولا قيمة له، وهذا تحقير لأمر الدنيا، أي فلا تهنوا في الجهاد بسببها. وإن تؤمنوا بالله ورسوله حق الإيمان، وتتقوا ربكم حق التقوى، بأداء فرائضه، واجتناب نواهيه، يؤتكم ثواب أعمالكم وطاعاتكم في الآخرة، ولا يطالبكم بالتصدق أو الزكاة بجميع أموالكم، بل يطالبكم بإخراج القليل منها.
وسبب الحرص على الدنيا: أن ربكم إن يطلب أموالكم كلها، ويلح في الطلب عليكم، تشحوا وتبخلوا، وتمتنعوا من الامتثال.(3/2448)
وها أنتم أيها المؤمنون المخاطبون: مدعوون للإنفاق في سبيل الله، أي في الجهاد والزكاة ونحوهما، فبعضكم يبخل باليسير من المال، ولا يجيب لدعوة الإنفاق، ومن يبخل في هذا الجانب، فإنما يمنع نفسه من الأجر والثواب بفعله، ويعود عليه وبال أعماله، والله هو الغني عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه. وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى، وعن طاعة الله واتباع شرعه، يستبدل قوما آخرين أطوع لله منكم، وليسوا أمثالكم في التولي عن الإيمان والتقوى، وفي البخل بالإنفاق في سبيل الله.
أخرج سعيد بن منصور، وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن هذا، وكان سلمان إلى جنبه، فوضع يده على فخذه، وقال: قوم هذا، ولو كان الدين في الثريا، لناله رجال من أهل فارس» .(3/2449)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)
تفسير سورة الفتح
صلح الحديبية وآثاره
إن أهم شيء في حياة الشعوب والأمم المعاصرة الاعتراف بهم من الدول أو أنظمة الحكم الأخرى ليصير لهم وجود قانوني دولي، فيصبح التعامل معهم والتبادل وإبرام المعاهدات ذا صفة نظامية قوية، ومن هنا كان صلح الحديبية بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته وبين المشركين القرشيين أصحاب الزعامة العربية فتحا عظيما سمي فتحا مبينا، والفتح الأكبر أو الأعظم في السنة السادسة من الهجرة، تمهيدا لفتح مكة، قال الزهري: «فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه» . ونزلت سورة الفتح المدينة (بعد الهجرة) بسببه، بعد انصراف النبي صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية، فهي بهذا في حكم المدني.
أخرج الحاكم وغيره عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: «نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها» وهذا مطلعها:
[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)
«1» «2»
__________
(1) أي ذا عز ومنعة لا ذلّ فيه.
(2) الطمأنينة.(3/2450)
«1» [الفتح: 48/ 1- 7] .
إنا فتحنا لك أيها النبي فتحا ظاهرا عظيما هو صلح الحديبية، عند جمهور الناس، وهو الصحيح، وليس فتح مكة، أي إن ما يسّر الله تعالى لك أيها الرسول في خروجك إلى مكة للعمرة فتح مبين تستقبله، ونزلت سورة الفتح مؤنسة للمؤمنين، لأنهم كانوا استوحشوا من ردّ قريش لهم، ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت الحرام، ومذهبة ما كان في قلوبهم.
ورأى النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية، حيث وضع فيه سهمه، وثاب (تفجر) الماء، حتى كفى الجيش، وتمت فيه بيعة الرضوان. وهي الفتح الأعظم، كما قال جابر بن عبد الله، والبراء بن عازب، وأدى ذلك إلى فتح خيبر، وامتلأت أيدي المؤمنين خيرا، ولم يفتتحها إلا أهل الحديبية، ووقعت في تلك السنة ملحمة عظيمة بين الروم وفارس، انتصر فيها الروم، فكانت من جملة الفتح على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لظهور أهل الكتاب على المجوس، وتخضيد شوكة الكفر الوثني.
ثم عظّم الله تعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم وشرّفه بأن أنبأه بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أي لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح، والهداية إلى الصراط المستقيم، والنصر العزيز المنيع الذي لا ذل معه، أو الفريد الذي لا شبيه له.
ولكي يتم الله إنعامه عليك بإعلاء شأن الدين، وانتشار الإسلام، وفتوح البلاد شرقا وغربا، وليرشدك إلى الطريق القويم بما يشرعه لك من الشرع العظيم، ولينصرك الله على أعدائك نصرا غالبا منيعا، لا يتبعه ذل. وإتمام النعمة على النبي:
__________
(1) أي دائرة هي السوء، والمراد: الهزيمة والشر. [.....](3/2451)
هو إظهاره، وتغلبه على عدوه، والرضوان في الآخرة، والنصر العزيز: هو الذي معه غلبة العدو والظهور عليه.
أخرج أحمد والشيخان والترمذي والحاكم عن أنس قال: أنزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لقد أنزلت على آية أحب إلي مما على الأرض، ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئا مريئا لك يا رسول الله، قد بيّن الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ حتى بلغ فَوْزاً عَظِيماً.
إن الله عز وجل هو الذي أوجد الطمأنينة في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة رضي الله عنهم، يوم الحديبية، الذين استجابوا لله ولرسوله، ليزيدهم الله يقينا جديدا على يقينهم الحاصل من قبل. ويسمى هذا اليوم: رفع الروح المعنوية للجيش، وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين: هو تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتى اطمأنت، وعلموا أن وعد الله حق. فازدادوا بذلك إيمانا إلى إيمانهم الأول، وكثر تصديقهم.
وهذا دليل على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب.
ولله تعالى السلطان على جنوده في السماوات والأرض، من الملائكة والإنس والجن والشياطين، والقوى الكونية في السماء والأرض، من بحار وأنهار وزلازل وبراكين وأعاصير. وكان الله ولا يزال عليما بمصالح خلقه، حكيما في صنعه وتقديره وتدبيره، وهذا إشارة إلى تسكين النفوس أيضا، وأن تكون مسلمة، لأنه ينصر من شاء، متى شاء، وعلى أي صورة شاء، مما لا يدبره البشر. ومن جنده السكينة التي أنزلها في قلوب الصحابة، فثبّتت بصائرهم.
ثم عرف الله نبيه ما يفعل به وبالمؤمنين والكافرين، فقد دبر الله ما دبر، من تسليط المؤمنين على الكافرين، ليعرفوا نعمة الله في ذلك، ويشكروها، وليدخل(3/2452)
المؤمنين والمؤمنات جنات (بساتين) تجري الأنهار من تحت قصورها، وهم ماكثون فيها على الدوام، وليكفّر (يستر) عنهم خطاياهم ولا يظهرها، وكان إنجاز ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم عند الله، وفي حكمه، فوزا عظيما كبيرا، ونجاة من كل غم، وظفرا بكل مطلوب.
ولكي يعذب أهل النفاق وأهل الشرك بالهم والغم بسبب ما يشاهدونه، من انتشار الإسلام وانتصار المسلمين، وقهر المخالفين، وبما أصيبوا به من القهر والقتل والأسر في الدنيا، وبما أعد لهم من العذاب في الآخرة، ولقد أصابهم ما أرادوا بالمسلمين فعليهم دائرة هي السوء، والمراد: الهزيمة والشر، أي دائرة السوء الذي أرادوه بالمسلمين في ظلهم السيئ.
ثم أكد الله تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، فلله تعالى تدبير أمر جنوده في هذا العالم كيف يشاء، كما تقدم بيانه، وكان الله وما يزال عليما بمصالح خلقه، حكيما في صنعه وتقديره وتدبيره.
مهام النبي صلّى الله عليه وسلّم ومغزى بيعة الرضوان
إن مهمة تكليف الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسّلام مهمة عظيمة وشاقة، وتتميز مهمة نبينا صلّى الله عليه وسلّم بمعان أو وظائف تتفق مع كونه خاتم النبيين وإمام المرسلين، فهو الشاهد على أمته والأمم المتقدمة بتبليغ الرسالة الإلهية، وهو المبشر أهل الطاعة برحمة الله تعالى، والمنذر لأهل الضلال من عذاب الله تعالى. والغاية من رسالته التوصل إلى الإيمان الحق بالله ورسوله، وتأييد دعوته، وتنزيه (تسبيح) الله بوصفه بكل صفات الكمال، وتجريده عن كل صفات النقصان. ومعنى بيعته بيعة الرضوان يوم الحديبية على الموت دفاعا عنه: بيعة لله تعالى ذاته، فمن نقض بنود البيعة عاد(3/2453)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)
وبال نقضه على نفسه، ومن أوفى بالعهد مع الله، فسيلقى الثواب العظيم. وهذا ما سجلته الآيات التالية:
[سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 10]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الفتح: 48/ 8- 10] .
إنا أرسلناك أيها النبي لأداء وظائف ثلاث هي: الشهادة على الناس من أمتك وغيرهم، بأعمالهم وأقوالهم بتبليغ شرع الله إليهم، وتبشير المؤمنين الطائعين برحمة الله وجنته، وإنذار الكافرين والعصاة وتخويفهم من عذاب الله عز وجل.
والغرض السامي من إرسالك أيها الرسول: هو أن تؤمن أمتك بالله ورسوله- والخطاب للرسول وأمته- وأن يعظموك ويفخموك، وأن يحترموك ويقدروك، وينزهوا الله تعالى عما لا يليق به من الشريك والولد والصاحبة، والتشبّه بالمخلوقات، وذلك على الدوام، وبخاصة في الصباح والمساء، لقوله: بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي في الغدو والعشي. وهذه هي صلاة البردين، أي صلاة الفجر والعشاء،
جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي موسى: «من صلّى البردين دخل الجنة» .
والفعلان: (تعزروه وتوقروه) عند جمهور المفسرين: للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وفعل (تسبحوه) لله تعالى. وقال بعض المتأولين: الضمائر في الأفعال الثلاثة هي كلها لله تعالى.
ثم بيّن الحق تعالى عظمة بيعة الرضوان في الحديبية مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي بيعة
__________
(1) تعظموه وتفخموه وتكبّروه.
(2) من التوقير: وهو التعظيم والاحترام.
(3) التسبيح: تنزيه الله، وذلك غدوة وعشيا.
(4) استعارة يراد بها اطلاع الله على مبايعتهم، ومجازاتهم عليها.
(5) نقض العهد.
(6) وفّى في مبايعته.(3/2454)
الشجرة حين أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأهبة لقتال قريش، لما بلغه مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي أرسله لمفاوضة قريش، قبل أن ينصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية، وكان معه ألف وأربع مائة رجل، وبايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد، حتى قال سلمة بن الأكوع وغيره: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الموت. وقال ابن عمر وجابر: على ألا نفرّ.
والمبايعة مفاعلة من البيع، لأن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، ثم صار اسم البيعة يطلق على معاقدة الخلفاء والملوك. وعلى هذا سمّت الخوارج أنفسها الشّراة، أي الذين اشتروا بزعمهم الجنة بأنفسهم.
ومعنى الآية: إن الذين يبايعونك أيها الرسول بيعة الرضوان بالحديبية: تحت الشجرة على قتال قريش، إنما يبايعون الله، أي يطيعونه ويعاهدونه على امتثال أوامره، وصفقتهم إنما يمضيها الله تعالى ويمنح الثمن، أي الثواب عليها، فمن بايع النبي في الظاهر، فقد بايع الله في الحقيقة والواقع.
وأكد الله هذا المعنى بقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أي بأنّ عقد الميثاق مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم كعقده مع الله تعالى على السواء، وأن الله حاضر معهم، يسمع أقوالهم ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، والله تعالى هو المبايع حقيقة بوساطة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فهو السفير المعبر عن الله، وسفارته بين الله وأوليائه المؤمنين.
فمن نقض البيعة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنما وبال نقضه وضرره على نفسه، لا يجاوزه إلى غيره. ومن وفى بالعهد وثبت عليه، ونفّذ ما عاهد عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم في البيعة، فسيؤتيه الله ثوابا جزيلا، ويدخله الجنة، كما عبر الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح: 48/ 18] .(3/2455)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
إن هذه البيعة تعد وقفة مشرفة، وتضحية بالغة، وتصميما عاليا من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، لتحقيق أعظم الغايات، لذا كان هذا الموقف مما يغبطون عليه، وقد أكرمهم الله تعالى بهذا الرضوان الإلهي على مدى الدهر، وجعله قرآنا يتلى، وأنموذجا عظيما للأبطال والشجعان، في سجلات اللقاءات والإعداد للمعارك الفاصلة الخالدة.
أوضاع المتخلفين عن الحديبية
تخلف عن الذهاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمرته يوم الحديبية قوم من الأعراب «1» : هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل وهم غفار وأشجع والدّليل، رأوا أنه يستقبل عدوا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة وهم الأحابيش، ولم يكن الإيمان قد تمكن من قلوبهم، وقالوا: لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم الله تعالى في الآيات الآتية، وأعلم محمدا صلّى الله عليه وسلّم باعتذارهم في الظاهر قبل أن يصل إليهم، وبطلبهم المشاركة في وقعة خيبر وغنائمها، ودعوتهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد. قال الله تعالى:
[سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 17]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)
«2» «3»
__________
(1) قال الرّمّاني: لا يقال أعرابي إلا لأهل البوادي خاصة.
(2) هم المتخلفون عن صحبة النبي.
(3) أي هلكى عند الله بسبب هذا الظن الفاسد.(3/2456)
[الفتح: 48/ 11- 17] .
هذه أخبار أنبّأ الله تعالى بها نبيه قبل وقوعها، أولها اعتذار المتخلفين عن الذهاب معه في عمرته يوم الحديبية، فإنهم سيقولون له بعد عودته: شغلتنا الأموال والأهلون، فاستغفر لنا، لكنهم لم يصدقوا في هذا الاعتذار، وإنما قالوا ذلك بألسنتهم في الظاهر، وبما لا يعبر عن حقيقة نواياهم وقلوبهم، في أن محمدا وصحبه سينهزمون أمام قريش وثقيف والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش، فقل أيها النبي لهم: من يحمي أموالكم وأهليكم إن أراد الله بكم سوءا، أو أراد بكم نفعا، ثم رد الله عليهم بقوله: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
ثم فسر لهم علة تخلفهم بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور، بل ظننتم أنه لن يعود الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون معه إلى أهليهم وأوطانهم أبدا، وأن العدو سيقتلهم، وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم، فقبلتموه، وظننتم أن الله تعالى لن ينصر رسوله، وكنتم قوما هلكى أو هالكين عند الله تعالى، بسبب فساد هذا الاعتقاد.
ثم أخبر الله تعالى عن عقاب أهل الكفر: وهو أن من لم يصدّق بالله تعالى ورسوله، ولم يخلص عمله لربه، كما صنع هؤلاء المتخلفون عن الحديبية، فجزاؤهم ما أعده الله لهم من عذاب السعير المتلظية بهم.(3/2457)
وقدرة الله شاملة، فهو مالك السماوات والأرض، وسلطانه مطلق فيهما، يتصرف فيهما كيف يشاء، يغفر لمن شاء مغفرة ذنوبه، ويعذب من أراد تعذيبه على كفره وعصيانه، وكان الله وما يزال غفورا لذنوب عباده التائبين رحيما يرحم جميع خلقه.
وسيقول لك أيها النبي هؤلاء الأعراب المتخلفون عنك في عمرة الحديبية: إذا سرتم إلى خيبر، وظفرتم بمغانمها: اتركونا نتبعكم في السير، ونشهد معكم الموقعة، وهذا دليل آخر على كذبهم في اعتذارهم بعد كشف أمرهم: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ إنهم يريدون في شأن غنائم خيبر تبديل حكم الله ووعده لأهل الحديبية، بتخصيصهم بمغانم خيبر، فقد أمر الله رسوله ألا يسير معه إلى خيبر أحد من غير أهل الحديبية، ووعدهم بمغانمها وحدهم، فقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ معناه: أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر.
فقل أيها النبي لهم: لن تسيروا معنا إلى خيبر، وقد قال الله ذلك سابقا: وهو أن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية خاصة، لا نصيب فيها لغيرهم. وحينئذ سيقول المخلفون عند سماع هذا القول: بل إنكم تحسدوننا في المشاركة في الغنيمة، فلذا لم تأذنوا لنا في الخروج، فرد الله عليهم: ليس الأمر أمر حسد كما تزعمون، بل إنكم لا تفهمون إلا فهما قليلا، أي لا تفهمون شيئا من أحكام الدين: وهو جعل القتال من أجل الله تعالى، والإخلاص فيه.
ومع ذلك، ميدان القتال متسع، فإنكم إن أردتم صدق الانتماء للمسلمين، فإنكم ستطالبون إلى قتال قوم أولي شدة وبأس، تخيرونهم بين أحد أمرين: إما القتال وإما الإسلام، لا ثالث لهما. وهذا يشمل مشركي العرب والمرتدين. قال عكرمة وابن جبير وقتادة: هم هوازن ومن حارب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حنين ثم وعد الله وأوعد،(3/2458)
وهو إن تطيعوا فيما تدعون إليه من الجهاد، يؤجركم الله أجرا حسنا، وإن أعرضتم كما فعلتم زمن الحديبية يعذبكم الله.
ثم استثنى الله تعالى أصحاب الأعذار من التكليف بفرضية الجهاد: ليس هناك حرج على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار وهي العمى، والعرج المستمر، والمرض المزمن، أو الطارئ في وقت طروئه، لعدم استطاعتهم. ثم رغب الله في الجهاد وطاعة الله ورسوله، فمن يطع الله ورسوله، يدخله جنات تجري الأنهار من تحت قصورها، ومن يستنكف عن الطاعة، ويعص الله ورسوله، يعذبه الله عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس: لما نزلت: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ قال أهل الزمانة:
كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.. الآية.
بيعة الرضوان وآثارها الخيّرة
كان لبيعة الرضوان عام الحديبية أثر كبير في تاريخ المسلمين، وكانت بركة عليهم، حيث ظفروا برضوان الله تعالى، وبشّروا بغنائم كثيرة، يأخذونها، وبهزيمة أعدائهم الكفار، وبحمايتهم من إغارة ثمانين رجلا مسلحين من جبل التنعيم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أصحابه.
أخرج مسلم والترمذي عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية، هبط على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانون رجلا في السلاح من جبل التنعيم (موضع في الحل بين مكة وسرف) يريدون غرّة (غفلة) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخذوا، فأعتقهم أي الرسول، فأنزل الله:
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ.. الآية.
وجاء النص على هذه الوعود والبشائر في الآيات الآتية:(3/2459)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
[سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 24]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
«1» [الفتح: 48/ 18- 24] .
تالله لقد رضي الله عن المؤمنين المخلصين، الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة بيعة الرضوان، بالحديبية، على قتال قريش وعدم الفرار، بايعهم النبي على الموت، وكان عددهم في الأصح ألفا وأربع مائة. وسميت بيعة الرضوان، لقوله تعالى:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ ...
ورضاه لأنه تعالى علم ما في قلوبهم من الإيمان والإخلاص، والسمع والطاعة، فأنزل الطمأنينة وسكون النفس عليهم، وجازاهم بفتح خيبر، بعد انصرافهم من الحديبية، ثم أتبعه بفتح مكة وسائر الأقاليم المجاورة.
وأثابهم أيضا مغانم كثيرة يأخذونها، وهي غنائم خيبر، وكان الله وما يزال قويا غالبا قادرا، مدبرا أمور خلقه، على وفق الحكمة والسداد.
ووعدكم الله أيها المؤمنون مغانم كثيرة من المشركين والكفار، على ممر الدهر، إلى يوم القيامة، ولكن عجّل لكم غنائم خيبر، وكف عن قتالكم أيدي قريش يوم الحديبية بالصلح، وأيدي اليهود أهل خيبر وحلفائهم، من أسد وغطفان، كل ذلك
__________
(1) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله، أي سنّ الله ذلك سنة.(3/2460)
لتشكروه، ولتكون تلك النعم علامة للمؤمنين، يعلمون بها صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في جميع ما يعدهم به، وليثبّتكم على طريق الهداية إلى الطريق القويم: طريق الحق، وطاعة الله ورسوله. ووعدكم أيضا غنائم وفتوحات أخرى، غير صلح الحديبية وفتح خيبر، لم تكونوا تقدرون عليها الآن، قد أحاط الله بها علما، أنها ستؤول إليكم، وتفتحونها وتأخذونها، مثل غنائم هوازن في معركة حنين، وفتوحات فارس والروم، وقد تحقق كل ذلك ولله الحمد، وأنجز الله وعده، وكان وما يزال على كل شيء قديرا مقتدرا، لا يعجزه شيء.
ولو بادركم بالقتال كفار قريش بالحديبية، لنصر الله تعالى رسوله وعباده المؤمنين عليهم، ولانهزموا هزيمة منكرة، فارّين هاربين، ثم لا يجدون حارسا وحاميا، يحرسهم ويواليهم على قتالكم، ولا ناصرا معينا ينصرهم عليكم.
تلك سنة الله الدائمة في نصره جيش الإيمان على جيش الكفر، وإعلاء كلمة الحق وإبطال الباطل، على الرغم من عدم تكافؤ القوى، مثل النصر يوم وقعة بدر، وتلك السنة مستمرة ثابتة، لا تغيير لها.
والله تعالى بكرمه وفضله: هو الذي كف أيدي المشركين عن المسلمين، وأيدي المسلمين عن المشركين، لما جاؤوا يصدّون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجنوده عن البيت الحرام، عام الحديبية، في داخل مكة وحدودها، حيث هبط ثمانون رجلا، كما تقدم، على النبي صلّى الله عليه وسلّم من جبل التنعيم، متسلحين بكامل أسلحتهم، يريدون مباغتة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخذهم المسلمون، ثم تركوهم. وهذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين، بكف المشركين عنهم، وكف المسلمين عن قتال أعدائهم. وكان الله وما يزال بصيرا بأعمال عباده المؤمنين والمشركين، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
وكانت هذه الحملة مرسلة من قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل، فلما أحسّ بهم(3/2461)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
المسلمون، بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أثرهم خالد بن الوليد، وسماه حينئذ (سيف الله) في جملة من الناس، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة، وأسروا منهم جملة، فسيقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمنّ عليهم وأطلقهم، فهذا هو كفّ الله تعالى أيديهم عن المسلمين بالرعب، وكفّ أيدي المسلمين عنهم بالنهي عن القتال في بيوت مكة وغيرها، وذلك هو (بطن مكة) .
أسباب وآثار صلح الحديبية
أوضح الله تعالى في كتابه موقف المشركين من المسلمين قبل صلح الحديبية، من إعلان الكفر وصد المؤمنين عن البيت الحرام، وبيّن حكمة هذا الصلح، من أجل تعظيم حرمة المسجد الحرام، ونشر الإسلام وسلامة النساء والرجال المؤمنين، والقضاء على الحمية الجاهلية في مهدها، وكانت آثار هذا الصلح عظيمة، بإنزال السكينة والطمأنينة والثبات على قلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه المؤمنين:
[سورة الفتح (48) : الآيات 25 الى 26]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
«1» «2» «3» [الفتح: 48/ 25- 26] .
المعنى: لم يكن كفّ المسلمين عن المشركين عام الحديبية لخير فيهم، فإنهم هم
__________
(1) أي صدوكم وصدوا الهدي (وهو شاة ونحوها من الأنعام) محبوسا عن الوصول للحرم.
(2) مكروه ومشقة.
(3) تميزوا عن الكفار، أو تفرقوا عنهم.(3/2462)
الذين كفروا بالله ورسوله، ومنعوكم أيها المسلمون من الطواف بالبيت الحرام، وأنتم أحق به وأهلوه، وصدوا الهدي (ما يهدى إلى الحرم من الأنعام) محبوسا في مكانه، عن بلوغ محل ذبحه، بغيا وعدوانا، وكان الهدي مائة أو سبعين بدنة (ناقة أو جمل) . ومحلّه: موضع نحره الذي يذبح فيه عادة، وهو منى، أو الحرم المكي، فصار محل الإحصار (المنع من دخول مكة) على طريق الرخصة محلّا للنحر، وكان ذلك خارج الحرم. وتم عقد صلح الحديبية بين سهيل بن عمرو مفاوض قريش، وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم، على أن يعود الرسول عنهم، ويعتمر من العام القابل، فهذا كان صدّهم إياه.
وعلة صرف المسلمين عن القتال وعدم تمكينهم من دخول مكة: حماية أهل الإيمان سرا، وهو أنه كان بمكة مؤمنون، رجال ونساء، خفي إيمانهم، فلو استباح المسلمون أرض مكة، أهلكوا أو قتلوا أولئك المؤمنين، فتصيبهم من جهتهم مشقة وأسى أو مكروه، خطأ بغير قصد ولا علم، لوقوع القتل جهلا، فيقول المشركون:
إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم، فدفع الله تعالى عن المشركين ببركة أولئك المؤمنين، وقد يدفع الله تعالى بالمؤمنين عن الكفار.
وقوله تعالى: أَنْ تَطَؤُهُمْ أي لولا وطؤكم قوما مؤمنين، فهي على هذا في محل رفع، أو هو منصوب بدلا من ضمير لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أي لم تعلموا وطأهم أنه وطء مؤمنين.
ولكن كفّ الله أيديكم عنهم وحال بينكم وبين قتالهم، ليخلص المؤمنين من أسرهم، وليدخل في رحمته من يشاء، فيدخل كثير منهم الإسلام.
لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا وذهبوا عن مكة، وانفصل بعضهم عن بعض، لعذب الله الذين كفروا عذابا مؤلما وهو القتل، بأن نسلطكم عليهم، فتقتلوهم قتلا شديدا.(3/2463)
ووقت هذا العذاب: حين جعل الذين كفروا في مكة في قلوبهم أنفة الجاهلية التي لا تعرف المنطق والحق والعدل، وهو قولهم: «واللات والعزّى لا يدخلونها علينا» وإباؤهم كتابة البسملة ووصف محمد بأنه رسول الله، في مقدمة صلح الحديبية.
فأنزل الله تعالى الطمأنينة والثبات والصبر على رسوله وعلى المؤمنين، حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحمية، وثبّتهم على الرضا والتسليم، وألزمهم كلمة التقوى: وهي عند الجمهور (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وتعظيم الحرم، وترك القتال فيه، ولم يستفزهم صنيع الكفرة المشركين، لانتهاك حرمة الحرم.
وكان المؤمنون أهل هذه الكلمة على الإطلاق، في علم الله تعالى وسابق قضائه سبحانه لهم، فهم أهل الحق والاعتقاد الصحيح، على نقيض المشركين ذوي العقيدة الفاسدة، وكان الله وما يزال عليما بمن يستحق الخير، ممن يستحق الشر، وهذا إشارة إلى علمه تعالى بالمؤمنين الذين دفع الله السوء بسببهم عن كفار قريش، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية، فيروى أنه لما انعقد هذا الصلح، أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة، وامتزجوا، وعلت دعوة الإسلام، وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب، وزاد عدد المسلمين في تلك المدة أضعاف ما كان قبل ذلك، فقد كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية في ألف وأربع مائة، ثم سار إلى مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس.
تحقيق رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأوصافه وأصحابه
رؤيا الأنبياء حق وجزء من الوحي، ولقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في منامه عند خروجه إلى العمرة، أنه يطوف بالبيت الحرام هو وأصحابه، بعضهم محلّقون، وبعضهم مقصرون، وقال مجاهد: أري ذلك بالحديبية، فأخبر الناس بهذه الرؤيا، ووثق(3/2464)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك (أي عام الحديبية) ولكن سبق في علم الله أن ذلك ليس في تلك الوجهة، وإنما في عام مقبل، وتحقق ذلك. وكانت مهمة الرسول وما زالت هداية إلى الطريق القويم وإلى الدين الحق. وأوصاف صحابته عجيبة: هي الشدة على الأعداء، والرحمة بالمؤمنين، وكثرة العبادة، والحرص على الثواب وإرضاء الله، والتميز بالنور، وتوصيفهم في التوراة والإنجيل، وانتقالهم إلى مرحلة القوة والكثرة، ووعدهم من الله بالمغفرة والجنة، كما في هذه الآيات الآتية:
[سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 29]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الفتح: 48/ 27- 29] .
أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: أري النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو بالحديبية أنه يدخل مكة، هو وأصحابه آمنين، محلّقين رؤوسهم ومقصرين، فلما نحر الهدي بالحديبية، قال أصحابه: أين رؤياك يا رسول الله؟
فنزلت: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ..
المعنى: تالله لقد صدق الله تعالى تأويل رؤياه، التي رآها، تصديقا مقترنا بالحق:
__________
(1) أي لتحقيق إعلائه. [.....]
(2) أي قساة، جمع شديد.
(3) علامتهم.
(4) فروعه التي تنبت حول الأصل.
(5) أعانه وقوّاه.
(6) صار غليظا وشديدا.
(7) أي استقام.
(8) أي المشركين.(3/2465)
أنكم ستدخلون المسجد الحرام بمشيئة الله تعالى، في عام قابل، وليس في عام الحديبية، حالة كونكم آمنين من العدو، محلقا بعضكم جميع رأسه، ومقصرا بعضكم الآخر، لا تخافون من أحد.
فعلم الله ما لم تعلموا من الحكمة والمصلحة في تأخير العمرة إلى العام القادم، وانتشار الإسلام ودخول الناس فيه، والحفاظ على من كان من المؤمنين في مكة، فجعل من دون ذلك الفتح فتحا قريب الحصول: هو بيعة الرضوان، في رأي كثير من الصحابة، أو هو صلح الحديبية فيما روي عن مجاهد وابن إسحاق، أو هو فتح خيبر، وهو الأولى، فهو كالدليل على صدق الرؤيا وتحققها.
وليس الفتح القريب هو فتح مكة، لأن ذلك لم يكن من دون دخول النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مكة، بل كان بعد ذلك بعام، لأن الفتح لمكة كان سنة ثمان من الهجرة.
وربط دخول المسجد الحرام بمشيئة الله، لتعليم العباد الأدب، وإرشادهم إلى تعليق كل أمر بمشيئة الله تعالى، سواء كان محقق الوقوع أو محتمل الوقوع.
وأكد الله تعالى تحقيق الرؤيا بتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في كل شيء، فالله هو الذي أرسل رسوله محمدا بالهدى، أي بالإرشاد إلى الطريق الأقوم، وإلى دين الإسلام، والعلم النافع، والعمل الصالح، ليحقق إعلاءه وإظهاره على كل الأديان، وإن بقي من الدين الآخر أجزاء. وكفى بالله شاهدا عندكم بهذا الخبر ومعلما به، وبهذا الوعد، من إظهار دينه على جميع الأديان، وهو رد على سهيل بن عمرو سفير أهل مكة لعقد صلح الحديبية، الذي أبى أن يكتب في مقدمة الصلح البسملة وكلمة (رسول الله) . فالآية على هذا وعيد للمشركين الذين رفضوا هذه الكلمة، فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية.
محمد رسول من عند الله حقا بلا شك، وهو مبتدأ وخبر، وصحابته الذين معه(3/2466)
يمتازون بالشدة والصلابة على الكفار الذين جحدوا بوحدانية الله، ويتراحمون فيما بينهم. وكلمة: وَالَّذِينَ مَعَهُ مبتدأ، وخبره: أشداء، ورحماء: خبر ثان. ووصف الشدة كما في آية أخرى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 9/ 123] . ووصف الرحمة كما جاء في حديث صحيح
أخرجه الإمام أحمد ومسلم، عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» .
وهاتان صفتان لهم، وبقية الصفات هي:
- إنك تشاهدهم يكثرون الصلاة بإخلاص، فتراهم راكعين ساجدين، يطلبون الثواب والرضا من الله، ويحتسبون عند الله تعالى جزيل الثواب: وهو الجنة.
- وعلامتهم المميزة لهم: وجود النور والوقار في الوجه والسمت الحسن والخشوع.
- ذلك الوصف المذكور للصحابة هو وصفهم المذكور في التوراة، والإنجيل، كانوا ضعافا، فتقوّوا، وصاروا في تكاثرهم مثل الزرع الذي أخرج فروعه على جوانبه، فاشتد وقوي، وأعانه وشدّه، واستقام وقوي على سوقه أو أصله، يعجب هذا الزرع الزّرّاع لقوته وحسن منظره، وتكاثر ليكونوا غيظا للكافرين.
ويُعْجِبُ الزُّرَّاعَ جملة في موضع الحال، فإذا أعجب الزراع، فهو أحرى أن يعجب غيرهم. وقوله: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ابتداء كلام، قبله محذوف، تقديره:
جعلهم الله تعالى بهذه الصفة ليغيظ بهم الكفار، أي المشركين، وعد الله تعالى الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا صالح الأعمال، أي الواجبات، منهم: أن يغفر ذنوبهم، ويجعل لهم ثوابا جزيلا في الجنة و (من) لبيان الجنس لا للتبعيض.(3/2467)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
تفسير سورة الحجرات
تقديم الكتاب والسنة والأدب مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم
أمر الله عز وجل بالتزام أحكام القرآن والسنة، ونهى عن تقديم شيء على كلام الله ورسوله، وألزم المؤمنين بتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم في خطابهم له، من غير رفع الصوت، وفي ترك مناداتهم له كرعاة الشاء باسمه المجرد عن وصف الرسالة بقولهم: «يا محمد، يا محمد» من خارج حجرات (غرف) زوجاته، تأدبا معه بالآداب العالية المشتملة على التوقير والتعظيم، وهذا صريح في الآيات الآتية، في مطلع سورة الحجرات المدنية بالإجماع من أهل التأويل:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
«1» «2» «3» «4» [الحجرات: 49/ 1- 5] .
يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله لا تتقدموا بقول أو حكم قبل حكم الله
__________
(1) أي لا تتقدموه ولا تسبقوه بالقول والحكم.
(2) أي لا تكلموه بصوت مرتفع كالجهر فيما بينكم.
(3) أي لئلا تبطل أو يضيع ثواب أعمالكم.
(4) أي من خلف أو من خارج الغرف المحاطة بالحيطان.(3/2468)
ورسوله، فربما أخطأتم، واتقوا الله في كل أموركم، وراقبوه في تجاوز ما لم يأذن به الله تعالى ورسوله، فإن الله سميع لأقوالكم، عليم بأفعالكم ونياتكم. وهذا نهي صريح عن مخالفة القرآن والسنة.
نزلت- كما
روى البخاري والترمذي وغيرهما- لما قدم وفد بني تميم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، لو أمّرت الأقرع بن حابس، وقال عمر رضي الله عنه:
يا رسول الله، بل أمّر القعقاع بن معبد، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، وارتفعت أصواتهما، فنزلت الآية في ذلك.
وأكّد الله تعالى الأدب السابق بغض الصوت، فيا أيها المؤمنون، إذا خاطبتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، لأن ذلك يدل على ترك الاحترام والأدب، وخاطبوه بالسكينة والوقار والصوت الهادئ، خلافا لعادتكم مع بعضكم برفع الصوت، والجهر غير المعتاد بالقول، ولا تقولوا: يا محمد، ويا أحمد، ولكن:
يا نبي الله، أو يا رسول الله، توقيرا له، واحتراما لرسالته، نهاكم الله عن رفع الصوت المزعج، خشية أن يذهب ثواب أعمالكم، أو وقوعكم في الكفر، من حيث لا تشعرون بذلك. أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فأنزل الله: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية.
ثم رغب القرآن في خفض الصوت، فقال الله تعالى: إن الذين يخفضون أصواتهم أثناء مكالمة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو في مجالسه، أخلص الله قلوبهم للتقوى، وجعلها أهلا ومحلا لها، أو اختبرها وطهّرها كما يمتحن الذهب بالنار، فيسّرها وهيأها للتقوى، ولهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم على تأدبهم بخفض الصوت وسائر الطاعات. نزلت- كما أخرج ابن جرير- في ثابت بن قيس الذي آلى على نفسه ألا يرفع صوته أبدا على صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ(3/2469)
تألّى أبو بكر ألا يكلم رسول الله إلا كأخي السرار (أي كصاحب السر) فأنزل الله تعالى في أبي بكر: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ.
وروى الإمام أحمد عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين لا يشتهون المعصية ولا يعملون بها أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
ثم ذمّ الله تعالى الذين ينادون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من خارج حجرات (بيوت) نسائه، كما يفعل أجلاف الأعراب، فقال الله مرشدا لهم إلى ما هو الخير والأفضل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ.. أي إن الذين ينادونك أيها النبي من بعيد، من وراء بيوت نسائك، وهم جفاة بني تميم، أكثرهم جهال، لا يعقلون الأصول والآداب الاجتماعية، ولا يقدّرون ما يجب لك من الاحترام والتعظيم. وقوله: أَكْثَرُهُمْ يراد به في أكثر أحوالهم لا يعقلون أو أكثرهم لا كلهم لا يعقلون.
أخرج الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم قال: جاء ناس من العرب إلى حجر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ الآية.
وفي مصحف ابن مسعود: «أكثرهم بنو تميم لا يعقلون» .
وليتهم لو صبروا حتى تخرج إليهم كالمعتاد، لكان لهم في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة، لما فيه من رعاية حسن الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورعاية قدره الشريف، والعمل بما يستحقه من الإعظام والاحترام، والله غفور (كثير المغفرة) لذنوب عباده، رحيم (واسع الرحمة) بهم، لا يؤاخذ مثل هؤلاء، فيما فرض منهم من إساءة الأدب، جهلا وعادة قبيحة، فهم يحتاجون إلى التعليم، وهذا حث على التوبة، وترجية لهم وإعلام بقبول توبة التائب، وغفرانه ورحمته لمن أناب ورجع.(3/2470)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
التثبت من نقل الأخبار
تناقل الأخبار آفة المجتمعات، فقد يكون بعضها إشاعة، أو كذبا، وقد يكون هناك كثير من المبالغة في الخبر وتضخيمه، وغالبا ما يكون نقل الخبر بحاجة ماسة إلى الدقة في النقل، وضبط اللفظ، وفهم المراد، وتأويل المسموع، لذا كان لا بد من الكتابة أو التدوين أو التسجيل ليكون الخبر صحيحا أو مطابقا للواقع، وقد يكون الخبر كله ملفقا أو موضوعا لدوافع سياسية أو مناصرة اتجاه معين أو لبذر بذور الفرقة، وتأجيج نار الخلاف بين الناس، الأقارب أو الأباعد، لذا أوجب القرآن التثبت من الأخبار، تحقيقا للمصلحة العامة أو الخاصة، ومنعا من إيقاع الفتنة، وزرع الفرقة، فقال الله تعالى:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
«1» «2» «3» «4» [الحجرات: 49/ 6- 8] .
سبب نزول الآية- فيما
أخرجه ابن جرير الطبري وأحمد وغيرهما بسند جيد عن ابن عباس- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدّقا (جابيا للصدقات) وكان معاديا لهم، فأراد إذايتهم، فرجع من بعض طريقه، وكذب عليهم، وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنهم قد منعوا الصدقة وطردوني وارتدوا، فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهمّ بغزوهم، ونظر في ذلك، وبعث خالد بن الوليد إليهم، فورد وفدهم
__________
(1) خارج عن حدود الدين والشرع.
(2) لوقعتم في المشقة والعنت أي الجهد والهلاك والإثم.
(3) مخالفة الشرع، والخروج عن الطاعة. [.....]
(4) الثابتون على الدين، العاملون لصالح الدين والدنيا.(3/2471)
منكرين لذلك، فنزلت الآية بهذا السبب.
وهي وإن نزلت خاصة في هؤلاء القوم، فهي عامة إلى يوم القيامة، ما نسخها شيء.
ومعناها: يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، إن أتاكم فاجر، لا يبالي بالكذب، بخبر فيه إضرار بأحد، فتبينوا الحقيقة، وتثبتوا من الأمر، ولا تتعجلوا بالحكم حتى تتبصروا في صحة الخبر، لتظهر الحقيقة، خشية أن تصيبوا قوما بالأذى، وتلحقوا بهم ضررا لا يستحقونه، وأنتم جاهلون حالهم، فتصيروا على ما حكمتم عليهم بالخطإ نادمين على ذلك.
وفي تنكير (فاسق) و (نبأ) دلالة على العموم في الفساق والأنباء، مما يدل على أن شهادة الفاسق لا تقبل، وأن خبر الواحد العدل حجة.
وعليكم أيها المؤمنون تعظيم قائدكم، فاعلموا أن معكم رسول الله، فعظموه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، ولا تقولوا قولا باطلا، ولا تتسرعوا بالحكم على الناس من غير تبيّن حقيقة الخبر، ولو أطاعكم في كثير من الأخبار التي تخبرونه بها باجتهادكم وتقدمكم بين يديه، لأدى ذلك إلى الوقوع في العنت: وهو المشقة والإثم والهلاك.
ولكن الله تعالى أنعم عليكم بنعم كثيرة، فلا تتقدموا في الأمور، واقنعوا بإنعام الله تعالى عليكم، وحبّب، أي قرّب الإيمان إلى بعضكم وحسّنه وخلقه في قلوبكم، وكرّه إليكم الكفر (جحود الخالق وتكذيب الرسل) والفسوق (الخروج عن حدود الدين) والعصيان (المخالفة وعدم الطاعة) أي جعل هذه الثلاثة مكروهة في قلوبكم، بما وصف من العقاب عليها، هؤلاء الذين قبلوا هذه النصائح واستقاموا على طريق الحق ومقتضى الشرع، وأدب الدين، وشكروا الله على ذلك، هم الراشدون المهديون، الذين لم يتورطوا في اتهام غيرهم دون تثبت. وقوله أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ التفات من الخطاب إلى الغيبة.(3/2472)
وإن تحبيب الإيمان إليكم، وتكريه الأمور الثلاثة المتقدمة تفضل الله بها عليكم تفضلا وإنعاما من لدنه، والله عليم بكل الأمور الحادثة والمستقبلة، حكيم في تدبير شؤون خلقه، وفي أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره. وقوله: فَضْلًا مصدر مؤكد بنفسه، لأن ما قبله هو بمعناه، إذ التحبيب والتزيين هو نفس الفضل.
كان قتادة رحمه الله يقول: قد قال الله تعالى لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وأنتم والله أسخف رأيا، وأطيش أحلاما، فليتّهم رجل نفسه، ولينتصح كتاب الله تبارك وتعالى.
إن في هذا الأدب وهو التثبّت من الأخبار المنقولة، والروايات المروية، فائدة عظيمة للأفراد والجماعات، فكم من خبر مفترى ولّد أحقادا ومنازعات، واتهامات باطلة، فيندم ناقل الخبر لتركه التأمل والتأني،
قال عليه الصلاة والسّلام: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان» «1» .
فض المنازعات الداخلية (البغاة)
تقع الصراعات أو المنازعات الداخلية المسلحة عادة في كل زمان ومكان، بسبب بعض الشبهات أو التأويلات، من فئات تستبد بها الأهواء أحيانا، أو الجنوح أحيانا، أو مناصرة لحق يرونه، وظلم يبغون رفعه، وتتكبد الأمة خسارة كبيرة في القضاء على الثورات المسلحة والفتن الداخلية، ولو احتكموا إلى القرآن بمعانيه الدقيقة، لما نشب بينهم شيء من الخلاف، وقد أنزل الله تعالى في قرآنه حكما سديدا في هؤلاء في الآيات الآتية:
__________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك، وهو ضعيف.(3/2473)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
«1» «2» «3» «4» [الحجرات: 49/ 9- 10] .
سبب نزول هذه الآية- فيما
أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا نبي الله، لو أتيت عبد الله بن أبيّ، فانطلق إليه على حمار، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فبال الحمار، فقال: إليك عني، فو الله، لقد آذاني نتن حمارك، فقال عبد الله بن رواحة: والله، إن بول حماره أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل منهما أصحابه، فوقع بينهما حرب بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل الله فيهم وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ...
والمعنى: إذا تقاتلت جماعتان من المسلمين، فعلى ولي الأمر الإصلاح بينهما بالنصح والدعوة إلى الله والإرشاد، وإزالة الشبه، ورفع أسباب الخلاف. والتعبير ب (إن) للدلالة على ندرة الواقعة، والخطاب لولاة الأمور، ويفيد الوجوب. وهو يدل على أن المعصية، وإن عظمت- لا تخرج من الإيمان.
فإن اعتدت أو تجاوزت إحدى الجماعتين على الأخرى، ولم تتقبل النصيحة، فعلى المسلمين أن يقاتلوا الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى حكم الله وترك البغي، ويكون القتال بالسلاح وغيره، يفعل الوسيط ما يحقق المصلحة، وهي الفيئة، فإن تحقق
__________
(1) الطائفة: الجماعة من الناس.
(2) بغت: ظلمت، والبغي: الظلم وتجاوز الحد.
(3) ترجع إلى الحالة السوية.
(4) اعدلوا في كل الأمور، من الإقساط: وهو الحكم بالعدل، وإزالة القسط وهو الجور، والقاسط: الجائر.(3/2474)
المطلوب سلما بغير سلاح، كان مسرفا في الزيادة، وإن تعين السلاح، فعل حتى الفيئة.
فإن رجعت الفئة الباغية عن بغيها، ورضيت بأمر الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدي ما يجب عليها للأخرى، حتى لا يتجدد القتال بينهما مرة أخرى، واعدلوا أيها الوسطاء في الحكم بينهما، إن الله يحب العادلين ويجازيهم أحسن الجزاء. وهذا أمر بالعدل في كل الأمور، روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما- فيما
أخرج ابن أبي حاتم والنسائي- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ، بين يدي الرحمن عز وجل، بما أقسطوا في الدنيا» .
ثم أمر الله بالإصلاح في كل نزاع، لأن الله جعل بين المؤمنين أخوة في الدين، يجمعهم أصل واحد، وهو الإيمان، فيجب الإصلاح بين كل أخوين متنازعين، وقاعدة الإصلاح قائمة على تقوى الله، لذا أمر الله بعدئذ بالتقوى في هذا الإصلاح وفي كل أمر، بأن يلتزم الجميع بالحق والعدل، والبعد عن الظلم، ورقابة الله وخشيته، فإن المتنازعين إخوة في الدين، والإسلام سوّى بين جميع المؤمنين، لعلكم ترحمون أيها المتخاصمون بسبب التقوى: وهي التزام الأوامر، واجتناب النواهي، وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ إنما المفيدة للحصر: تفيد أنه لا أخوة إلا بين المؤمنين، لأن الإسلام هو الرباط الجامع بين أتباعه، وهذا يدل على أن أخوة الدين أقوى وأمتن وأخلد من أخوة النسب، كما ذكر القرطبي وغيره.
وليست الفئة الباغية كافرة، قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أمشركون هم أهل صفّين والجمل؟ قال: لا، من الشرك فرّوا، قيل: أفمنافقون؟ قال: لا، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.(3/2475)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «حكم الله تعالى في الفئة الباغية ألا يجهز على جريح، ولا يطلب هارب، ولا يقتل أسير» «1» .
ولا ضمان في أثناء القتال بين الفئتين المتحاربتين، فإذا لم يقع قتال، نفّذت الأحكام العادية العامة، فيجب القصاص من القاتل عمدا، وتجب الدية في القتل الخطأ، والكفارة.
إن تحكيم كتاب الله والرضا بما فيه، وإفهام المتأولين خطأ تأويلهم هو قاعدة حل المنازعات الداخلية في الإسلام، ولو طبقت هذه القاعدة لما وجدنا اقتتالا قائما بين المسلمين.
الآداب الاجتماعية ووحدة الشعوب في الإنسانية
الدين رباط جامع بين العقيدة والعبادة، والمعاملة، والأخلاق أو الآداب، وليست الآداب مجرد صفات ترفيه أو كمالية في الإسلام، وإنما هي من صلب الدين، يحكمها مبدأ الحلال والحرام، والثواب والعقاب، والرضا والسخط، خلافا لما يظن بعض الناس خطأ أن الأخلاق صفة كمالية لا تخضع للحساب والعقاب، ومن المعلوم أن تقدم المجتمعات ورقيها إنما يكون بالأخلاق السوية والآداب العالية، لذا كانت سورة الحجرات كلها في الأخلاق والمبادئ الاجتماعية والإنسانية، ومنها هذه الآيات:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 11 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
«2» «3» «4» «5»
__________
(1) ذكره القرطبي.
(2) لا يهزأ ولا يحتقر.
(3) لا يطعن ولا يعب بعضكم بعضا.
(4) لا تتداعوا بالمكروه من الألقاب.
(5) ساء الاتصاف بالفسق بعد توافر الإيمان بسبب سواء الآداب.(3/2476)
«1» «2» [الحجرات: 49/ 11- 13] .
ينهى الله تعالى عن السخرية واحتقار الناس، والنهي يفيد التحريم، فيا أيها المصدقون بالله ورسوله، لا يهزأ رجال من آخرين، فربما كان المهزوء به عند الله خيرا من المستهزئ أو الساخر، ولا تهزأ نساء من نساء أخريات، فلربما كانت المهزوء بها أفضل وأكرم عند الله من المستهزئة، ولا يطعن ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة، ولا تتداعوا بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها، ساء الوصف الذي يوصف به الرجل: وهو الفسق والفجور، بعد اتصافه بالإيمان، فالإيمان فضيلة زاجرة عن ضده وهو الفسق والكفر، ومن لم يتب عما نهى الله عنه من هذه الأوصاف الثلاثة (وهي السخرية، واللمز أو التعييب، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين أنفسهم وغيرهم، لأن الإصرار على المنهي عنه كفر وظلم.
قال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين نزلت الآية الأولى من سورة الحجرات فيهم، استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخبّاب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم.
وآية وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ نزلت كما
قال ابن عباس في صفية بنت حييّ بن
__________
(1) لا تبحثوا عن العورات والمعايب ولا تكشفوها.
(2) الشعب: أعظم ما يوجد من جماعات الناس من نسب واحد، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الأسرة والفصيلة، وهم قرابة الرجل الأدنون.(3/2477)
أخطب، أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إن النساء يعيّرنني، ويقلن لي: يا يهودية بنت يهوديين!! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد» فأنزل الله هذه الآية.
وآية وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ نزلت- كما أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن الضحاك- قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ.
ثم أمر الله باجتناب سوء الظن، وحرمه، فيا أيها المصدقون بالله ورسوله، ابتعدوا عن كثير من الظن، فبعض الظن وهو ظن السوء بأهل الخير موقع في الإثم، لنهي الله عنه، وكل رشيد يحترس من سوء الظن ويسد ذرائعه، ثم نهى الله عن التجسس، فلا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتذيعوا أسرارهم ومثالبهم، والتجسس: البحث عما هو مكتوم، من العيوب. والتحسس: البحث عن الأخبار، والاستماع لحديث القوم وهم له كارهون، ثم حرم الله الغيبة: وهي ذكرك أخاك بما يكره، فلا يذكر بعضكم بعضا في غيبته بما يسيء إليه، صراحة أو إشارة، لما فيه من الأذى بالمغتاب، وهو يتناول كل ما يؤذي الآخرين، سواء في الدين أو الدنيا، في الخلق أو الخلق، في المال أو الولد أو الزوجة أو الخادمة أو اللباس ونحو ذلك.
وشبه الله تعالى الغيبة بأكل لحم الإنسان الميت للتنفير، وهو ما يكرهه كل إنسان، وإذا كان يكرهه، فالغيبة مثله، فهي كأكل جثة الإنسان، وهذا تنفير وتوبيخ وتقبيح شديد، فضلا عن كونه محرما شرعا، أي إن الغيبة حرام شراعا، وقبيحة عقلا وعرفا ودينا.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال: زعموا أن آية وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً نزلت في سلمان الفارسي، أكل ثم رقد، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت.(3/2478)
وتجوز الغيبة عند رفع الظلم وفي الشهادة والقضاء والاستشارة والتحذير من الفاسق، ثم جاءت آية الشعوب «1» الإنسانية، فيا أيها الناس- والنداء هنا بصفة الناس وما قبلها بصفة الإيمان- لقد خلقناكم جميعا من أصل واحد، ومن نفس واحدة، من آدم وحواء، فأنتم متساوون، لأن نسبكم واحد، وأباكم واحد، وأمكم واحدة، فلا تفاخر بالأنساب، فالكل سواء، وقد جعلناكم شعوبا (أمما كبيرة) وقبائل دونها للتعارف لا للتناكر، ولا للتفاخر بالأنساب، إن أكرمكم وأفضلكم عند الله بالتقوى أو بعمل صالح، فدعوا التناكر والتفاخر، إن الله عليم بكم وبأعمالكم، خبير بأحوالكم وأموركم.
أخرج الترمذي والدارمي وأحمد عن أبي بكر: «قيل: يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: من طال عمره، وحسن عمله» .
وحكى الزهراوي: أن سبب نزول هذه الآية غضب الحارث بن هشام، وعتّاب ابن أسيد، حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة.
الإيمان والإسلام
لا تنهض الأمة كلها ولا ترتقي، أو تسمو طفرة واحدة، وإنما تحتاج لفترة زمنية أو تدرج زمني لتشمل التربية جميع أفرادها وجماعاتها، وهكذا كان شأن الأمة الإسلامية في صدر الإسلام، لم يكن الجميع على المنهج الأفضل المطلوب، وإنما هناك تفاوت، فالذين لازموا الرسول صلّى الله عليه وسلّم استناروا بأدبه وأدب القرآن، والذين بعدوا عنه، لم يتنوروا بعد بأخلاق الإسلام، لذا بعد أن حرض القرآن على التقوى، قالت
__________
(1) الشعب: أعظم جماعات الناس من نسب واحد. [.....](3/2479)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
الأعراب (جماعة من سكان البادية وهم بنو أسد) أول ما دخلوا في الإسلام: لنا النسب الشريف، فلنا الشرف، فذمّهم الله تعالى، وأوضح ضعف إيمانهم، كما تصور الآيات الآتية:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
«1» «2» «3» «4» «5» [الحجرات: 49/ 14- 18] .
آية قالَتِ الْأَعْرابُ نزلت- كما ذكر الواحدي عن مجاهد- في نفر من بني أسد ابن خزيمة، قدموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ، وكانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
والمعنى: قال جماعة من الأعراب سكان البادية، وهم بنو أسد أول ما دخلوا الإسلام: صدقنا بالله ورسوله وآمنا في قلوبنا، فقال الله لهم: لَمْ تُؤْمِنُوا أي لم تصدقوا بقلوبكم، ولكن قولوا: أسلمنا، أي انقدنا لك يا رسول الله، واستسلمنا،
__________
(1) الإيمان: التصديق بالقلب، والإسلام: إعلان أركان الإسلام فهو أعم.
(2) لم ينقصكم من أعمالكم شيئا.
(3) لم يقعوا في الشك والتهمة.
(4) يعدون النعم اعتدادا بها وإظهارا لفضل صاحبها.
(5) إما مفعول به صريح أو مفعول لأجله.(3/2480)
وسالمناك فلا نحاربك، والإيمان بعد لم يدخل في قلوبكم، والله كثير المغفرة لمن تاب وأناب وأخلص العمل، واسع الرحمة فلا يعذب بعد التوبة.
دلت الآية على أن الإيمان: الذي هو التصديق بالقلب مع اطمئنان النفس أخص من الإسلام: الذي هو الاستسلام والانقياد لله تعالى، الذي يعصم أو يحقن الدم. ثم بيّن القرآن حقيقة الإيمان، إنما المؤمنون الإيمان الخالص: هم الذين صدقوا بالله ورسوله تصديقا تاما في القلب، وإقرارا باللسان، ثم لم يشكوا ولم يترددوا في إيمانهم، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض بالحق مع الاطمئنان النفسي، والأمن الذاتي، وجاهدوا بالأموال والأنفس حق الجهاد، من أجل طاعة الله وابتغاء رضوانه، قاصدين بجهادهم وجه الله وإعلاء كلمته ودينه، أولئك المتصفون بهذه الصفات المذكورة هم الصادقون في إيمانهم.
ثم أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بتوبيخهم وبيان حقيقة أمرهم بقوله: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي قل أيها الرسول لهم: أتخبرون الله بما في ضمائركم من الدين، أو بقولكم: آمَنَّا وهو يعلم منكم خلاف ذلك، لأنه العليم بكل شيء في السماوات والأرض وما بينهما، فكيف يجهل حقيقة ما تدّعونه من الإيمان؟
ثم ذكر الله سبحانه أن إسلامهم لم يكن لله، فإنهم يمتنون بإسلامهم، أي يعدّون إسلامهم منّة ونعمة عليك أيها النبي، حيث قالوا: جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، أي إنا آمنّا بك، واتّبعناك ولم نحاربك، كما فعلت محارب وحصفة وهوازن وغطفان وغيرهم، فنزلت هذه الآية فيهم، أي في بني أسد، كما حكى الطبري وغيره.
قل أيها النبي: لا تعدّوا أيها الأعراب إسلامكم منّة علي، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، بل الله يمتن عليكم، حين وفقكم للإيمان، بزعمكم إذ تقولون: آمنا، فقد(3/2481)
لزمكم أن الله تعالى مانّ عليكم إن صدقتم في ادعائكم الإيمان. وفي هذا إيماء إلى أنهم كاذبون في ادعائهم الإيمان.
ثم أكد الله تعالى علمه بكل شيء بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ.. أي إن الله تعالى عليم بما ظهر وما غاب في جميع أنحاء السماوات والأرض، ومن جملة ذلك: ما يسّره كل إنسان في نفسه، والله مطلع على كل شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم بالخير خيرا، وبالشر شرا، وهذه الآية تؤكد الإخبار بعلم الله بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات، ليترسخ ذلك في الأذهان ويستقر في أصائل القلوب.
لقد أوضحت هذه الآيات: أن المؤمنين هم الذين يصدقون بقلوبهم أن الله تعالى هو الخالق والقادر والعالم بكل شيء، والرازق صاحب الفضل، والذي لا أول له ولا نهاية، وكل شيء هالك إلا وجهه، وهم يصدقون برسالة رسول الله وأنه خاتم النبيين، وإمام المرسلين، والمبلغ وحي ربه عليه، وأنه عبد الله ورسوله إلى الناس جميعا، لا إلى العرب خاصة، ولم يشكّوا في شيء، وإنما كان إيمانهم كالجبال الرواسي راسخا في القلب، ويقينا تاما لا يشوبه شيء، وأنهم يجاهدون في سبيل الله جهادا بالنفس والمال.
وأما الإسلام: فهو الإعلان باللسان عن أركانه، من النطق بالشهادتين، وتنفيذ واجباته، من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.(3/2482)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
تفسير سورة ق
إنكار البعث
تكرر الحديث في القرآن المجيد عن إنكار المشركين البعث، مستهجنين أن إعادة الرفات البالية التي صارت ترابا مشتتا، كيف يمكن إعادتها للحياة مرة أخرى، وذلك بسبب فقد الإيمان، والجهل بقدرة الله الخارقة والشاملة لكل شيء، وجاء الرد القرآني على هذا الإنكار من نواح ثلاث: أولها: أن الله الذي خلقهم أول مرة قادر على إعادتهم، والإعادة أهون من البدء في مستوى عقل البشر، وثانيها: أن الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات قادر على خلق جديد. وثالثها:
أن إنبات النبات والزرع والشجر من التراب الميت في الظاهر، وإحياء الأرض بالمطر، مثل إحياء الإنسان بقدرة الله، وقدرة الله تعالى تتجاوز كل التصورات.
وهذا ما دوّنته الآيات في مطلع سورة (ق) الآتية، وهي مكية بالإجماع وآيات سور كثيرة لإثبات الحشر، قال الله تعالى:
[سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) رجوع مستبعد.
(2) مختلط مضطرب بين وصفه بالشعر والسحر والكهانة.
(3) شقوق وفتوق تعيبها.
(4) جبالا ثوابت.(3/2483)
«1» «2» «3» «4» «5» [ق: 50/ 1- 11] .
افتتح الله السورة بحرف ق للتنبيه لأهمية ما بعده، وأكثر ما يأتي بعد الحروف الأبجدية أو حروف المعجم الإشارة للقرآن، لبيان الإعجاز القرآني وتحدي العرب للإتيان بمثله، ما دام متكونا من حروف لغتهم التي ينطقون بها ويكتبون.
ثم أقسم الله تعالى بالقرآن الممجّد المعظم الرفيع الكثير البركة والخير، أنك يا محمد جئتهم منذرا بالبعث، وجواب القسم محذوف دل عليه ما بعده: وهو إثبات النبوة والمعاد.
هؤلاء كفار قريش تعجبوا لأن جاءهم رسول منهم ينذرهم بالبعث، فقالوا: هذا شيء يدعو للعجب: وهو أن ينذرهم رجل منهم، معروف بالأمانة والصدق والعدل.
وشبهة تعجبهم: أنبعث ونرجع أحياء إذا متنا وتفرقت أجزاؤنا في الأرض، وصرنا ترابا منثورا، وعظاما بالية؟ ذلك البعث رجوع مستبعد عقلا، لأنه في عقلهم المحدود والضعيف غير ممكن وغير مألوف عادة. وقوله: بَلْ عَجِبُوا معناه قد عجبوا والضمير عند جمهور المتأولين: هو لجميع الناس، مؤمنهم وكافرهم. أما المؤمنون فنظروا واهتدوا، وأما الكافرون فبقوا على عمايتهم.
فرد الله تعالى عليهم مبينا مدى قدرته على البعث وغيره، بقوله: لقد علمنا علما متيقنا ما تنقص، أي تأكل الأرض من أجسادهم حال البلى، ولا يخفى علينا شيء
__________
(1) صنف مبهج حسن.
(2) منصوب على المصدر بفعل مضمر.
(3) طوالا عالية.
(4) ثمر منضود متراكب على بعضه.
(5) منصوب على المصدر. [.....](3/2484)
من ذلك، وعندنا كتاب حافظ شامل لعددهم وأسمائهم وتفاصيل الأشياء كلها، وهو اللوح المحفوظ. إنه تعالى يعلم ما تأكل الأرض من ابن آدم وما تبقي منه، وأن ذلك في كتاب، وكذلك يعود في الحشر، معلوما ذلك كله. والحفيظ: الجامع الذي لم يفته شيء.
وسبب كفرهم وعنادهم: أن كفار قريش في الواقع كذبوا بالقرآن وبنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم الثابتة بالمعجزات، وكان تكذيبهم من غير ترو، ولا تدبر وتفكر، وإنما بمجرد تبليغهم به من قبل هذا الرسول، فهم في أمر مضطرب مختلط من دينهم، يقولون مرة عن القرآن والنبي: ساحر وسحر، ومرة: شاعر وشعر، ومرة: كاهن وكهانة، فهم في قلق واضطراب، لا يدرون ماذا يفعلون.
ثم استدل الله تعالى على قدرته العظيمة على البعث وغيره بدليل حسي مشاهد لهم:
أفلم ينظر هؤلاء الكفار نظرا واضحا إلى هذه السماء المخلوقة العجيبة، فهي مرفوعة بلا عمد، ومزينة بالكواكب، ومبنية بناء راسخا، ليس فيها شقوق وصدوع وفتوق، ثم ألم ينظروا أيضا إلى الأرض التي بسطناها ووسعناها، وألقينا فيها جبالا ثوابت لئلا تضطرب بأهلها، وأنبتنا فيها من كل صنف نباتي ذي بهجة وجمال وحسن منظر.
فعلنا ذلك ليتبصّر العباد والمنيبون الراجعون إلى ربهم وطاعته، ويتفكروا في بدائع مخلوقاته، ويتذكروا هذه الأدلة، وخص الله تعالى بالذكر العبد المنيب وأفرده تشريفا، من حيث إن هؤلاء العباد هم المنتفعون بالتبصرة والذكرى.
وكيفية الإنبات من التراب التي يشبهها إعادة الخلق أو البعث والحشر: أن الله قال: لقد أنزلنا من السحاب المطر الكثير النفع، المنبت كل شيء من الأشجار في البساتين، ومن الحبوب التي تحصد كالقمح والشعير ونحوهما. وأنبتنا أيضا به النخيل الجميل الطويل الشاهق في السماء، والتي لها طلع (أول ما يخرج من ثمر النخيل)(3/2485)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12)
منضّد متراكم بعضه فوق بعض، ليكون مصدر رزق وقوت للعباد، وأحيينا بالمطر كل أرض أو بلدة ميتة لا حراك فيها، وإن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء.
وهذه الآيات كلها إنما هي أمثلة وأدلة على البعث. والخروج: هو الخروج من القبور.
سيرة المكذبين الأول وتدوين أقوال الإنسان
ذكّر الله تعالى بما صدر عن الأمم السابقة من تكذيب الأنبياء، مثل قول نوح وأصحاب الرّس (البئر العظيمة باليمامة) وثمود، وعاد، وفرعون، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة (الغيضة الكثيفة قوم شعيب) وقوم تبّع (الملك الحميري باليمن) وذكّر المولى عز وجل بأنه يعلم كل ما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال ووساوس النفس، وأخبر بتسجيل الملكين عن اليمين وعن الشمال كل قول أو فعل للإنسان، كما تصوّر الآيات الآتية:
[سورة ق (50) : الآيات 12 الى 18]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
«1» «2» «3» «4» [ق: 50/ 12- 18] .
__________
(1) الرس: البئر العظيمة، وكل ما لم يطو من بئر أو معدن أو نحوه فهو رسّ.
(2) أفعجزنا بالإبداع الأول؟
بدء الخلق.
(3) بل هم في شك وحيرة من البعث.
(4) الرقيب: الملك الذي يرقب قوله وعمله، ويكتبه ويحفظه، والعتيد، الحاضر المهيأ لكتابة الخير والشر، ملك الخير عن اليمين، وملك الشر عن الشمال.(3/2486)
هدّد الله كفار قريش بأن يعاقبهم بمثل ما عاقب به الأمم السابقة قبلهم، الذين كذّبوا الرسل، فعذبهم بالطوفان كقوم نوح عليه السّلام، أو بالغرق في البحر كفرعون وقومه، أو بريح شديد عاتية كعاد قوم هود عليه السّلام، أو بالريح الحصباء وخسف الأرض، كقوم لوط عليه السّلام، أو بالصيحة الواحدة من جبريل عليه السّلام: وهم ثمود قوم صالح عليه السّلام، وأهل مدين قوم شعيب، وأصحاب الرسّ باليمامة، وأصحاب الأيكة، قوم شعيب عليه السّلام، أو بخسف الأرض وهو قارون وأصحابه، أو بالإحراق بالنار وهم حمير قوم تبّع، وتبّع: اسم لكل من ملك حمير باليمن، مثل كسرى في الفرس، وقيصر في الروم.
كل هؤلاء كذبوا رسلهم الذين أرسلوا إليهم، فوجب عليهم الوعيد، وحقت عليهم كلمة العذاب على التكذيب.
وكان تبّع (أسعد أبو كرب) أحد التبابعة رجلا صالحا، صحب حبرين، فتعلّم منهما دين موسى عليه السّلام، فأنكر قومه عليه ذلك، فندبهم إلى محاجّة الحبرين، فوقعت بينهما محاجّة عظيمة، واتفقوا على أن يدخل جميعهم النار التي في القربان، فمن أكلته النار فهو المبطل، فدخلوا فاحترق قوم تبّع، وخرج الحبران تعرق جباههما، فهلك القوم المخالفون، وآمن سائر قوم تبّع بدين الحبرين «1» .
وذكر الطبري عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تلعنوا تبّعا فإنه كان قد أسلم» .
والدليل على إمكان البعث: أفعجزنا بالخلق المبتدأ الأول (بدء الخلق) حين خلقناهم ولم يكونوا شيئا، فكيف نعجز عن بعثهم وإعادتهم مرة أخرى؟ بل هم في
__________
(1) المحرر الوجيز لابن عطية 13/ 537 وقال: وفي الحديث اختلاف كثير أثبتّ أصح ذلك على ما في سير ابن هشام.(3/2487)
الواقع في شك وحيرة من خلق مبتدأ جديد أو مستأنف بين مصدق ومكذب، وهو بعث الأموات من القبور.
وكما أن قدرة الله على البعث وغيره تامة، علم الله شامل، وتالله لقد أوجدنا الإنسان (اسم جنس) ونعلم بجميع أموره، ونحن أقرب إليه من حبل وريده، فكيف يخفى علينا شيء مما في قلبه؟ إن الله تعالى يعلم كل ما يصدر عن الإنسان، حتى ما يجول في خاطره، وحتى حديث النفس، وإن كان لا عقاب على حديث النفس، لما رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به» .
وقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ عبارة عن قدرة الله تعالى على العبد، وكون العبد في قبضة القدرة والعلم، قد أحيط به. والآية حجة على منكري البعث والجزاء، والله تعالى وكل بكل إنسان ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله، إحقاقا للحق وإقامة العدل، وإلزاما للحجة.
والله أقرب شيء للإنسان حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به وما يعمل به، فيأخذان ذلك ويثبّتانه، عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، والقعيد: من يقعد معك، فملك اليمين يكتب الحسنات، وملك الشمال يكتب السيئات.
ويحتمل أن يكون العامل في قوله تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى فعلا مضمرا تقديره: اذكر إذ يتلقى. والمتلقيان: الملكان الموكلان بكل إنسان.
والقرب المراد في الآية: بالقدرة والملك. ويكون هناك إخبارات متوالية: الإخبار بعلم ما في نفس الإنسان، والإخبار بتدوين الملكين ما يصدر عن الإنسان، ثم خبر مجيء سكرة الموت، والنفخ في الصور، ومجيء كل نفس معها السائق والشهيد (أي ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر والآخر يشهد عليه) .(3/2488)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
قال الحسن البصري: الحفظة (من الملائكة) أربعة: اثنان بالنهار، واثنان بالليل، ويؤيد ذلك الحديث الذي
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي، فيقولون: تركناهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون» .
ويروى أن ملك اليمين الذي يكتب الحسنات أمير على ملك الشمال، وأن العبد إذا أذنب يقول ملك اليمين للآخر: تثبّت لعله يتوب.
سكرة الموت وأحوال العذاب الأخروي
الانتقال عن عالم الدنيا يكتنفه مصاعب وأهوال ومخاطر كثيرة، أولها سكرات الموت: وهي ما يعتري الإنسان عند نزعه، والناس فيها مختلفة أحوالهم، لكن لكل واحد سكرة،
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول- فيما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها: «.. لا إله إلا الله، إن للموت سكرات» .
ثم يعقب ذلك أهوال، منها: نفخ الصور، ومجيء كل نفس معها سائق يسوقها إلى المحشر وآخر يشهد عليها، وعند الوقوف بين يدي الرحمن للحساب ومعاينة الحقائق يكشف الغطاء عن الإنسان، فيرى ببصيرته أو بصر عينه ما غفل عنه في الدنيا، ويقوم الحوار بين الكافر وقرينه الشيطان يوم القيامة، ويكون القرار الحاسم إما بالزج في جهنم وإما بدخول الجنة، وهذا ما تذكره الآيات الآتية:
[سورة ق (50) : الآيات 19 الى 35]
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)(3/2489)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [ق: 50/ 19- 35] .
أيها الإنسان، جاءتك في نهاية العمر شدة الموت وغمرته التي تغشى الإنسان، وتبين لك بالموت الحق يقينا، والمراد بقوله: بِالْحَقِّ بلقاء الله تعالى وفقد الحياة الدنيا، ذلك الموت الذي كنت تميل عنه وتفر منه.
ونفخ في الصور نفخة البعث، ذلك الوقت الذي يكون عظيم الأهوال هو يوم الوعيد الذي أوعد الله به الكفار بعذاب الآخرة.
وأتت كل نفس من البشر، بالبدن والروح، معها ملك يسوقها إلى المحشر، وملك يشهد عليها أو لها بالأعمال من خير أو شر.
ويقال للإنسان الكافر أو كل واحد بر أو فاجر حينئذ في المحشر: لقد كنت في الدنيا غافلا عن هذا المصير أو هذا اليوم، فرفعنا عنك حجاب الغفلة والانهماك في لذائذ الدنيا، فاحتدت بصيرتك أو بصر العين، فصرت ترى ميزانك وغير ذلك من أهوال القيامة، وأدركت ما أنكرته في الدنيا.
__________
(1) ملكان: أحدهما يسوقه إلى المحشر والآخر يشهد عليه.
(2) الغطاء الحاجب لأمور المعاد: وهو الغفلة.
(3) مهيأ لجهنم.
(4) شاك في الله وفي أخباره.
(5) أوقعته في الضلال والطغيان.
(6) قربت.
(7) كثير الرجوع إلى الله، كثير الحفظ لحدود الله.
(8) مقبل على الطاعة.
(9) زيادة. [.....](3/2490)
ويقدّم القرين السائق للإنسان: وهو الملك الموكل به أو قرينة من ربانية جهنم:
هذا ما عندي مهيأ معدّ لجهنم، أو هذا العذاب الذي لهذا الإنسان الكافر حاضر عتيد، أو هذا الذي أحصيته من الأعمال عتيد لدي، وموجب عذابه.
وقال الزهراوي: قرينه: شيطانه، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، وإنما أوقع فيه أن القرين في قوله: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف. والواقع أن القرين في الآيتين مختلف. فالقرين الذي في هذه الآية غير القرين الذي في قوله تعالى: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ إذ المقارنة تكون على أنواع.
ويقول الله تعالى للسائق والشهيد: اطرحا في جهنم كل من كفر بالله أو أشرك به شريكا آخر، كثير المنع للخير كالزكاة، معتد ظالم بالأذى والفحش، شاكّ في الله وفي أخباره، الذي جعل مع الله شريكا إلها آخر، فألقياه في النار ذات العذاب الشديد.
ويحدث حوار بين الكافر وقرينه الشيطان الذي كان معه في الدنيا، فيقول: القرين الشيطان عن الكافر المقارن له، والمتبرئ منه: يا ربنا ما أضللته أو أوقعته في الطغيان، بل كان هو في نفسه ضالا، مؤثرا الباطل، معاندا للحق، فدعوته فاستجاب لي، فهو الذي كان في ضلال بعيد الغور، يستحق معه هذا العقاب.
قال الله عز وجل للكافر وقرينه الشيطان: لا تتخاصموا ولا تتجادلوا عندي في موقف الحساب، فإني تقدمت إليكم في الدنيا بوعيدي وإنذاري ولقد قضيت ما أنا قاض، ولا يغير حكمي وقضائي، ولا خلف لوعدي، بل هو كائن لا محالة، ولست بظالم أحدا بغير جرم اقترفه أو ذنب ارتكبه، بعد قيام الحجة.
والعذاب قائم، فاذكر أيها الرسول لقومك حين يقول الله لجهنم: هل امتلأت، من الإنس والجن، فتنطق قائلة: هل من زيادة تزيدونني بها؟ غيظا على العصاة. وهذا حقيقة في الراجح، وأنها قالت ذلك وهي غير ملأى. والنعيم محقق، حيث قربت الجنّة، لأهل التقوى تقريبا غير بعيد، أو في مكان غير بعيد، بل هي بمرأى منهم.(3/2491)
وتقول الملائكة للمنعّمين: هذا النعيم الذي ترونه من الجنة: هو ما وعدتم به في كتب ربكم، وعلى ألسنة رسله المرسلين إليكم، وهذا الثواب لكل رجّاع إلى الله تعالى وطاعته بالتوبة عن المعصية وترك الذنب الحافظ لحدود الله، ذلك المحافظ على الحدود فلا يقربها: هو من خاف الله ولم يكن رآه، وجاء بقلب خاشع مخلص في طاعة الله، سليم من أي شبهة أو شك.
ويقال لهم أيضا: ادخلوا الجنة سالمين من العذاب، ومن زوال النعم، ومن كل المخاوف، ذلك هو يوم الخلود الدائم أبدا. لهؤلاء المتقين الموصوفين بما ذكر ما يريدون من الجنة وتشتهيه أنفسهم، ولدينا زيادة من النعم لم تخطر لهم على بال.
إثبات البعث وتهديد منكريه
أنذر الله تعالى منكري البعث بالعذاب الأليم في الآخرة، ثم هددهم وأنذرهم بعذاب الدنيا المدمر، وبين الإنذارين تبيان حال المتقين في الجنة، للجمع بين الترغيب والترهيب، والإهلاك عظة وتذكير.
ثم أكد الله تعالى دليل إمكان البعث بخلق السماوات والأرض وما بينهما، وأمر رسوله بالصبر على ما يقولون من إنكار البعث، وبتنزيه الله عن كل نقص، فقد اقترب يوم البعث، وسمع صوت الداعي إليه، والله وحده هو المحيي والمميت، وإليه المصير، وهو سبحانه الأعلم بما يقول المشركون في البعث، وما عليك أيها النبي إلا متابعة مهمتك في الإنذار، والتذكير بالقرآن كلّ من يخاف وعيد الله وعقابه، كما تذكر هذه الآيات:(3/2492)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
[سورة ق (50) : الآيات 36 الى 45]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [ق: 50/ 36- 45] .
كثيرا ما أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين من قريش ومن وافقهم، كانوا أكثر منهم، وأشد قوة، وآثارا في الأرض، كعاد وثمود وقوم تبّع وغيرهم، وقد فتشوا وبحثوا في البلاد، هل لهم من مفر أو مهرب يهربون إليه؟ وهل نفعهم ما جمعوا من أموال؟
إن فيما ذكر من قصة هؤلاء الأمم، وما ذكر في هذه السورة من المواعظ والعبر، لتذكرة وموعظة وعبرة لمن يعتبر بها، من كل ذي عقل واع، أو أصغى سمعه لفهم الحقائق، وهو شهيد، أي حاضر بروحه وعقله لا بجسده فقط.
ودليل إمكان البعث: تالله لقد أبدعنا من غير مثال سابق خلق السماوات والأرض وما بينهما من عجائب المخلوقات، في ستة أيام، وما أصابنا إعياء ولا تعب، فالقادر على خلقها قادر خلق البشر مرة أخرى. والله قادر على خلقهما في لحظة واحدة.
نزلت ردا على اليهود الذين قالوا: إن الله خلق الأشياء كلها في ستة أيام، ثم
__________
(1) أي أمة وجماعة متقدمة.
(2) بحثوا في البلاد هل من مهرب.
(3) تعب وإعياء.
(4) عقب سجود الصلاة.
(5) صيحة البعث.
(6) تتشقق أي تتفتح.
(7) تجبرهم على الإيمان.(3/2493)
استراح يوم السبت، فنزلت: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي تعب وإعياء. وتظاهرت الأحاديث بأن بدء خلق الأشياء كان يوم الأحد، وعند مسلم وفي الدلائل للبيهقي: أن ذلك كان يوم السبت. وأجمعوا على أن آدم عليه السّلام خلق يوم الجمعة.
ثم أمر الله نبيه بأوامر في مواجهة منكري البعث: وهي اصبر أيها الرسول على ما يقوله المشركون المكذبون بالبعث، وعلى ما يقوله بعض أهل الكتاب: ثم استراح يوم السبت. ونزّه الله دائما عن كل عجز ونقص، مقرونا التسبيح بالحمد دائما، قائلا:
سبحان الله وبحمده، وقت الفجر ووقت العصر، وبعض الليل، وفي أعقاب (أدبار) الصلوات. والمراد بالتسبيح والتحميد قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، وقبل الغروب: صلاة الظهر والعصر، ومن الليل: العشاءان، وأدبار السجود:
النوافل بعد الفرائض. وقوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ يراد به أهل الكتاب وغيرهم من الكفرة، وذلك يشمل جميع الأقوال الزائفة من قريش وغيرهم.
واستمع، أي انتظر أيها الرسول صيحة القيامة: وهي النفخة الثانية في صور إسرافيل عليه السّلام، يوم ينادي نداء يسمعه جميع أهل المحشر قائلا: هلموا إلى الحساب «1» ، فيخرجون من قبورهم. وقوله: مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلائق.
وصيحة البعث كائنة حقا، وهي يوم سماع النفخة الثانية في الصور التي تنذر بالبعث والحشر والجزاء على الأعمال، وذلك يوم الخروج من القبور. إننا وحدنا نحن الإله نحيي الموتى في الدنيا والآخرة، ونميت الأحياء في الدنيا حين انقضاء الآجال،
__________
(1)
أخرج ابن عساكر والواسطي عن يزيد بن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أن ملكا ينادي من السماء: أيتها الأجساد الهامدة، والعظام البالية، والمرمم الواهية، هلم إلى الحشر والوقوف بين يدي الله تعالى.(3/2494)
وإلينا المرجع في الآخرة للحساب والجزاء، فنجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وإلينا مصير الخلائق وقت أن تتصدع الأرض عنهم، فيخرجون من القبور، ويساقون إلى المحشر، مسرعين إلى المنادي الذي ناداهم، ذلك حشر، أي جمع هين علينا، لا مشقة فيه ولا عسر.
ثم هدد الله تعالى المشركين بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ.. أي نحن نعلم علما محيطا بما يقول لك المشركون، من تكذيب رسالتك أيها النبي، ومن إنكار البعث والتوحيد، وما أنت عليهم بمسلّط يجبرهم ويقسرهم على الإيمان، إنما أنت مبلّغ. قال قتادة: نهى الله تعالى عن التجبر، وما أنت عليهم بمتعظّم، من الجبروت.
فذكّر أيها الرسول بهذا القرآن العظيم، وبلّغ أنت رسالة ربك، فإنما يتذكر به من يخاف الله ويخشى وعيده للعصاة بالعذاب، ويرجو وعده وفضله ورحمته، وأما من عداهم فلا تأبه بهم.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن المؤمنين قالوا: يا رسول الله، لو خوّفتنا، فنزلت: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.(3/2495)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)
تفسير سورة الذاريات
وقوع البعث وحال الكفرة وعذابهم
تابع الحق تبارك وتعالى الكلام عن إثبات البعث والرد على منكريه من المشركين في سورة الذاريات المكية بعد سورة ق، وكلتا السورتين في هذا الموضوع، مع بيان بعض أحوال البعث بين المؤمنين والكافرين في السورة الأولى، والتنبيه على أحداث الأمم السابقة مع أنبيائهم في السورتين، والانتهاء إلى تقرير التوحيد وهدم الشرك، وخطأ موقف الناس من الحياة، وغلبة الطبيعة على المصلحة الحقيقية في المستقبل.
وكان مطلع سورة الذاريات قسما من الرب تعالى على صدق البعث ووجوده، كما في هذه الآيات:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» [الذاريات: 51/ 1- 14] .
__________
(1) الرياح تذرو التراب وغيره.
(2) السحب تحمل الأمطار، والوقر: الثقل.
(3) السفن الجارية.
(4) الملائكة التي تقسّم أمور العباد والأمطار والأرزاق.
(5) الجزاء.
(6) ذات الطرق. [.....]
(7) يصرف عن القرآن من صرف عن الهداية في علم الله.
(8) الكذابون.
(9) مجيء يوم الجزاء.
(10) يحرقون.(3/2496)
أقسم الله تعالى لتأكيد قضية الإيمان بالبعث: بهذه المخلوقات، وللتنبيه عليها، والتشريف لها، والاعتبار بها، حتى يتوصل الناظر فيها إلى التوحيد، فقال: أقسم لإثبات الحشر بالرياح التي تذرو التراب وغيره وتفرقه، وبالسحب الحاملة الماء الثقيل، وبالسفن الجارية بيسر وسهولة فوق الماء، وبالملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار والآجال بين المخلوقات، بأن الموعود به من الحشر إلى الله تعالى، ووقوع المعاد، صادق واقع، وأن الجزاء بالثواب والعقاب قائم فعلا حتما. والحاجة إلى هذا القسم: الاعلام بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وجريا مع اعتقاد العرب أن الإيمان الكاذبة تذر الديار بلاقع (خرائب) وتضر صاحبها، فالحلف لزرع الثقة التامة، وبخاصة أنهم يعلمون أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لا يحلف كاذبا.
والسماء ذات الطرائق والممرات، أو ذات الخلق السوي القوي، إنكم يا جماعة قريش مختلفو الأقوال، مضطربو الكلام، فمرة تقولون في القرآن والرسول: شعر وشاعر، وأحيانا سحر وساحر، وتارة كهانة وكاهن أو مجنون. وإنما يصرف عن هذا القرآن والإيمان به وبرسوله وعن الخير إلى الشر، من صرف في علم الله تعالى.
قبح أو لعن الكذابون أصحاب القول المختلف، المرتابون في وعد الله ووعيده، الذين هم في جهالة تغمرهم، وغفلة في الكفر تخيم عليهم، والغمرة: كل ما ستر الشيء وغطّاه.
يسألك المشركون تكذيبا وعنادا واستهزاء قائلين: متى يوم الجزاء؟ فقل لهم: إنه يوم يعذب الكفار ويحرقون في نار جهنم. وقوله: يُفْتَنُونَ بمعنى يحرقون ويعذبون في النار، يقال: فتنت الذهب: أحرقته لتختبره، وقوله يَوْمَ هُمْ منصوب على الظرف من مقدّر، تقديره: هو كائن يوم هم على النار، أو نحو هذا، كما قال الزجاج.
وتقول لهم خزنة النار: ذوقوا عذابكم أو حريقكم، هذا العذاب الذي كنتم(3/2497)
تستعجلون أو تطلبون تعجيله، استهزاء منكم، وظنا أنه غير كائن، واستعجالهم هو قولهم: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ وغير ذلك من الآيات التي تقتضي استعجالهم على جهة التكذيب منهم.
يفهم من هذه الآيات أن وقوع البعث أمر مقطوع به، ولولا التأكيد عليه، لما أقسم الله بهذه المخلوقات، والقسم عليها بغير بدئها بالحروف الأبجدية هو الظاهرة الشائعة في القرآن لإثبات أصول العقيدة: وهي التوحيد، والنبوة، والبعث، فسورة الصافات مثلا أقسم الله فيها لإثبات توحيد الذات الإلهية، فقال: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) [الصافات: 37/ 4] . وسورة النجم والضحى، أقسم الله فيها على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقال: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) [النجم: 53/ 1- 2] .
وقال: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) [الضحى: 93/ 1- 3] .
وبقية السور كان المقسم عليه كما في الذاريات هو البعث والجزاء.
ويلاحظ أيضا أن الله تعالى أقسم بجموع المؤنث السالم في سور خمس، ففي سورة (الصافات) لإثبات الوحدانية أقسم الله بالساكنات، وفي بقية السور، أقسم بالمتحركات لإثبات الحشر، فقال: «والذاريات» «والمرسلات» «والنازعات» «والعاديات» لأن في الحشر جمعا وتفريقا، وهو يناسب الحركة.
وتعجل العرب المشركين العذاب، وإصرارهم على كفرهم: هو الذي جعلهم يسألون استهزاء وشكا في القيامة وعنادا، متى يوم الحساب؟ فكان جواب الخالق:
إنه اليوم الذي تحرقون فيه في نار جهنم، وضم إليه التوبيخ والتهكم بهم قائلا منه أو من طريق الخزنة: ذوقوا عذابكم وجزاء تكذيبكم، ذلك العذاب الذي استعجلتم به في الدنيا.(3/2498)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)
حال المتقين ونعيمهم
في آيات سابقة في سورة الذاريات ذكر الله تعالى حال الكفرة، وما يلقون من عذاب الله تعالى، ثم أعقب ذلك بيان حال المتقين، وما يلقون من النعيم في الآيات الآتية، ليبين الفرق ويتبع الناس طريق الهدى. وهذا لون بياني رائع للمقارنة أو الموازنة، فيظهر الحق من الباطل، قال الله تعالى:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
«1» «2» «3» [الذاريات:
51/ 15- 23] .
إن الذين اتقوا ربهم بالتزام أوامره واجتناب نواهيه باتقاء الكفر والمعاصي، هم في الآخرة في جنات (بساتين) فيها عيون جارية، آخذين في دنياهم ما آتاهم ربهم من أوامره ونواهيه وفرائضه وشرعه.
إنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة، يراقبون الله تعالى فيها، كما جاء في آية أخرى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) [الحاقة: 69/ 24] .
ومن إحسانهم في العمل: أنهم كانوا ينامون زمنا قليلا من الليل، ويصلون أكثره، أي إن نومهم كان قليلا لاشتغالهم بالصلاة والعبادة، من كل ليلة.
وقوله: ما يَهْجَعُونَ ما عند جمهور النحويين: مصدرية، وقَلِيلًا خبر كان، والمعنى: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، والهجوع فاعل (قليلا) .
__________
(1) ينامون.
(2) جمع سحر وهو الجزء الأخير من الليل.
(3) الذي حرم المال وهو المتعفف عن السؤال.(3/2499)
وكانوا في الجزء الأخير من الليل يطلبون من الله تعالى المغفرة، قائلين: اللهم اغفر لنا وارحمنا، أي إنهم كانوا يحيون أكثر الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنّهم باتوا في معصية.
وجعلوا في أموالهم جزءا مقسوما معينا للفقراء والمحتاجين، على سبيل البر والصلة، والسائل: هو الفقير الذي يسأل. والمحروم: هو الذي حرم المال ويتعفف عن السؤال. وهذا الجزء الذي جعلوه للفقراء: هو على وجه الندب، لا على وجه الفرض، ومعلوم: يراد به متعارف. وكذلك قيام الليل الذي مدحوا به ليس من الفرائض، وأكثر ما تقع الفضيلة بفعل المندوبات.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن الحسن بن محمد بن الحنفية: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث سرية، فأصابوا وغنموا، فجاء قوم بعد ما فرغوا- لم يشهدوا الغنيمة- فنزلت الآية: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) .
وبعد هذا البيان، يوجد كلام مقدّر تقديره. فكونوا مثلهم أيها الناس، وعلى طريقتهم، فإن النظر المؤدي لهذا التقدير له وجه جيد.
ثم ذكر الله تعالى بعض الأدلة على قدرته الدالة على وقوع الحشر، فقال: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) أي وفي معالم الأرض من جبال ووديان وقفار ومعادن، وعيون وأنهار وبحار، وأنواع مختلفة من النبات والحيوان والناس، مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وقدراتهم الفكرية والجسدية وغير ذلك، من عجائب الصنع الإلهي، في ذلك دلائل واضحة، وعلامات ظاهرة على عظمة الخالق وقدرته الباهرة، للذين يوقنون بالله تعالى، لأنهم الذين يعترفون بذلك، ويتدبرون فيه، فينتفعون به.
ومن أدلة قدرة الله وتوحيده: خلق النفوس البشرية، أفلا تنظرون نظرة متأمل(3/2500)
معتبر، ناظر بعين البصيرة. ففي تركيب الجسم بأجهزته المختلفة من جهاز هضم ودم وتنفس، وإحساس في الأعصاب ولمس وذوق، وفي تركيب الدماغ وما يشتمل عليه من عشرات ملايين الخلايا، في ذلك دلالة على الخالق المبدع. والله ضامن الرزق لعباده، ففي السماء تقدير الأرزاق وتعيينها، وفيها ما توعدون من خير وشر، وجنة ونار، وثواب وعقاب، ففي السحاب (السماء) المطر، وفي السماء عوامل الرزق من شمس وقمر وكواكب ومطالع ومغارب تختلف بها الفصول، ويكون تغيرها مناسبا لأنواع النباتات المختلفة التي تسقى بماء المطر، وتسوقها الرياح، وتغذيها الشمس بحرارتها، ويمنحها ضوء القمر قوة ونموا.
ثم أقسم الله تعالى على أحقية البعث وضمان الرزق فقال: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) أي فو رب العزة والجلال إن ما أخبرتكم به في هذه الآيات، وما وعدتكم به من أمر القيامة والبعث والجزاء، وتيسير الرزق وضمانه:
حق لا مرية فيه، كائن لا محالة، فلا تشكّوا فيه، كما لا تشكّوا في نطقكم وتيسيره حين نطقكم، فهو كمثل نطقكم، شبّه هذا القول والخبر في التيقن به بالنطق من الإنسان، وهو في غاية الوضوح، ولا لبس فيه، خلافا للرؤية والسمع، قد يقع فيهما اللّبس.
قصة ضيف إبراهيم عليه السّلام
تكررت قصة إبراهيم الخليل في القرآن بمناسبات مختلفة لكونه شيخ المرسلين، ولأنها ذات موضوعات متنوعة، منها حوارة من غير معرفة مع الملائكة الضيوف الذين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، حتى ينزجر كفار قريش وأمثالهم ما دام هذا القرآن يتلى، وتبين من القصة: مدى كرم إبراهيم، وبشارته من الملائكة بغلام هو(3/2501)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
إسحاق بن سارة، في حال الشيخوخة وعقم امرأته. كما تبين أيضا مدى تأثير العذاب بالحجارة الشديدة الأذى، وإنجاء لوط عليه السّلام وأهله إلا امرأته، وذلك في الآيات التالية:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 37]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» [الذاريات: 51/ 24- 37] .
هل بلغك أيها النبي وكل مخاطب قصة إبراهيم عليه السّلام مع ضيوفه الملائكة المكرّمين عند الله تعالى، الذين جاءوه بصورة بني آدم، في طريقهم إلى قوم لوط، فحين دخلوا عليه سلموا بقولهم: سلاما، أي نسلم عليك سلاما، فأجابهم بأحسن من تحيتهم بما يدل على الثبات: سلام عليكم، إنكم قوم لا أعرفكم، فمن أنتم؟
فذهب إبراهيم عليه السّلام خفية من ضيوفه، في سرعة، فقدم إليهم عجلا سمينا مشويا على الحجارة المحماة، فقال بعد دعوتهم للأكل بتلطف وأدب: أَلا تَأْكُلُونَ.
فلما أعرضوا عن الأكل، لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، أحسّ في نفسه
__________
(1) استفهام تقريري للفت النظر، فكأنه يجيب: لا.
(2) أي ضيوف، والضيف يطلق على الواحد والجمع.
(3) مجهولون غير معروفين.
(4) ذهب خفية إلى أهله.
(5) أضمر في نفسه منهم خوفا.
(6) في صوت أو صيحة.
(7) عاقر لا تلد. [.....]
(8) ما شأنكم الخطير؟
(9) معلمة.
(10) المتجاوزين الحدود.(3/2502)
خوفا منهم، على عادة الناس أن الامتناع عن الطعام يبيّت شرا، وأن تناول الطعام أمان للمضيف، ودليل على سرور الضيف، فظن إبراهيم عليه السّلام أنهم جاؤوا للشر، لا للخير، فقالوا له: إننا ملائكة رسل من الله تعالى، وبشروه بغلام يولد له، بالغ العلم: وهو إسحاق عليه السّلام في رأي الجمهور، فأقبلت امرأته سارّة، لما سمعت بشارتهم، صائحة صارخة، وضربت وجهها بيدها، كعادة النساء عند التعجب، وقالت: كيف ألد، وأنا كبيرة السن، وعقيم لا تلد، حتى في عهد الشباب؟! قالت الملائكة: مثلما قلنا لك قال ربك، فلا تشكّي في ذلك، ولا تعجبي منه، فنحن رسل الله، والله على كل شيء قدير، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله، العليم بما تستحقونه من الكرامة وبكل شيء في الكون، وكان هذا الحوار مع كل من إبراهيم عليه السّلام، وزوجته سارّة.
ثم سألهم إبراهيم عليه السّلام قائلا: فما شأنكم الخطير، وأمركم المبهم؟ وكأنه يقول: ما هذه الطامة التي جئتم لها؟ فأخبروه حينئذ أنهم أرسلوا إلى سدوم قرية لوط عليه السّلام، بإهلاك أهلها الكفرة العاصين المجرمين، والمجرم: فاعل الجرائم: وهي صفات المعاصي من كفر ونحوه، لنهلكهم بحجارة من طين متحجر، مطبوخ بالنار، كالآجرّ، معلّمة بعلامتها من السماء، تعرف بها، كالخواتيم، على كل حجر اسم المضروب به، كما قيل، مخصصة عند الله لهلاك المتمادين في الضلالة، المجاوزين الحد في الفجور.
ولم يكن هذا العذاب عشوائيا يصيب الجميع، وإنما فيه تمييز المؤمنين عن المجرمين، فلما أردنا إهلاك قوم لوط، أخرجنا من كان في تلك القرية المؤمنين برسالة لوط عليه السّلام، تنحية لهم من العذاب، فلم نجد غير أهل بيت واحد أسلم وجهه لله تعالى،(3/2503)
وانقاد لأوامره، واجتنب نواهيه، وهو بيت لوط بن هاران بن تارح ابن أخي إبراهيم عليه السّلام، آمن أي لوط برسالة عمه إبراهيم، وتبعه في رحلاته إلى مصر، ثم تركه عن تراض، ونزل إلى سدوم في الأردن. وكان المؤمنون الناجون ثلاثة عشر، هم لوط وأهل بيته إلا امرأته.
وقوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ومِنَ الْمُسْلِمِينَ لا تغاير هنا بينهما، لأن أسرة لوط كانوا قوما مؤمنين ومسلمين، والمقرر عند أهل السنة: أن الإيمان أخص من الإسلام، فكل مؤمن مسلم ولا ينعكس، فاتفق الوصفان هنا، لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال. ودليل التفرقة بين الإيمان والإسلام قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 49/ 14] .
والعبرة من قصة قوم لوط: ما أخبر الله تعالى عنه: لقد أبقينا في تلك القرى علامة ودلالة لكل من يخاف عذاب الله ويخشاه، وهم المؤمنون، وهي آثار العذاب المدمر المؤلم، فإنها ما تزال ظاهرة بينة، وأثرا باقيا مؤرخا لا يفنى ذكره. فهو آية (علامة) على قدرة الله تعالى، وانتقامه من الكفرة.
تدمير قوم نوح وفرعون وعاد وثمود
لقد طوى الله عز وجل وجود أقوام غابرين من التاريخ، فاستأصلهم ولم يبق أحدا منهم، وهم قوم نوح وفرعون ولوط وعاد وثمود، وإنما ترك بعض آثارهم للعبرة والعظة، مع بيان جرائمهم ومعاصيهم التي ارتكبوها، لمعرفة أن العذاب أو الجزاء قائم على مبدأ الحق والعدل، فلا ظلم ولا تجاوز فيه، وإنما التجاوز لحدود الله، وتكذيب رسله: كان هو السبب المباشر، ومناط العقاب، مما يثير التفكير ويبعث على التأمل لتفادي الموبقات، وهذا ما دونته الآيات الآتية هنا بإيجاز:(3/2504)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 46]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [الذاريات: 51/ 38- 46] .
لقد جعلنا في قصة موسى عليه السّلام آية وعبرة، حين أرسلناه إلى الطاغية فرعون الجبار بشيرا ونذيرا، بحجة واضحة هي المعجزات كالعصا واليد وغيرهما.
فأعرض استكبارا ونأى أو تولى بجانبه تفاخرا بجنده، وقال محقّرا شأن موسى: هو إما ساحر أو مجنون، فكان جزاؤه: أنّا أخذناه مع جنوده أخذ عزيز مقتدر فألقيناهم في البحر، وفرعون آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان وادعاء الربوبية.
وجعلنا أيضا في قصة عاد عظة وعبرة، حين أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية، لا خير فيها ولا بركة، لا تلقح شجرا، ولا تحمل مطرا، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب، فلا تترك شيئا مرّت عليه من النفوس والأنعام والأموال إلا جعلته كالشيء الهالك البالي.
وجعلنا في قصة ثمود كذلك آية وعظة، حين قلنا لهم: عيشوا متمّتعين في الدنيا إلى وقت الهلاك. فتكبروا عن امتثال أوامر الله تعالى، فنزلت بهم صاعقة نار من السماء أبادتهم. والصاعقة: الصيحة العظيمة، وهي التي تكون معها النار، وذلك أنهم
__________
(1) أي وجعلنا في قصة موسى آية.
(2) بحجة واضحة.
(3) أي نأى بجانبه.
(4) في البحر.
(5) آت بما يلام عليه.
(6) التي لا تأتي بخير.
(7) كالشيء البالي.
(8) استكبروا عن امتثال أوامره.
(9) نار من السماء نازلة.(3/2505)
انتظروا العذاب ثلاثة أيام، فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع، في غدوة النهار، وهم يعاينون مشاهد الدمار، جزاء لما اقترفوه من كفر ومعاص.
فلم يقدروا على القيام من مصارعهم، والهرب من تلك الصرعة القاضية، بل أصبحوا في دارهم هلكى جاثمين، ولم يكونوا ممتنعين من عذاب الله، ولم يجدوا نصيرا ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.
وأهلكنا بالطوفان قوم نوح، من قبل هؤلاء، لتقدم زمنهم على زمن فرعون وعاد وثمود، لأنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله، متجاوزين حدوده.
هذه هي نهاية قوم عتاة طغاة، ظلموا وبغوا، وكذبوا رسلهم وافتروا، وأصروا على الكفر والضلال، وعاندوا وعارضوا كل هداية من الله تعالى، وليتهم أشفقوا على أنفسهم، واتعظوا بأحداث السابقين قبلهم، ولكنهم لم يفعلوا، والقضية سهلة، والتكليف يسير، لا يحتاجون إلى أكثر من إعلان الإيمان بالله تعالى، وأن يستقيموا على أوامره، ويجتنبوا نواهيه، ويصدقوا برسالات الرسل الكرام الذين لا همّ لهم إلا الإصلاح- إصلاح العقيدة والتصور والعبادة والمعاملة، ولكن قتل الإنسان ما أكفره! إن عبادة الأصنام التي كانت سائدة بين هؤلاء الأقوام، لا تحقق لعابديها نفعا أو خيرا، ولا تمنع عنهم ضررا، أو تحميهم من الشر، وغريب أنهم إن انحدر فيهم الفكر على هذا النحو من الطعن والمساس بكرامتهم، ألم يبق أمامهم حقل التجربة والاختبار؟! وأما توحيد الله تعالى فمصدر كل خير ونفع، والمانع من كل شر وضرر، أفلا يجدر بأصحاب العقول الواعية أن يبادروا إلى الإيمان بوحدانية الله تعالى؟! إن ألوان العذاب في إهلاك الأقوام الوثنيين السابقين، تدل على أن الله تعالى قادر على أن(3/2506)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
يعذب أو يفني بما به البقاء والوجود، من عناصر الحياة الأربعة: وهي التراب والماء والهواء والنار، فعذب الله قوم لوط بالتراب، وعذّب قوم نوح وقوم فرعون بالماء أو الإغراق في البحر، وعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية (الهواء) وعذب قبيلة ثمود بالنار الصاعقة النازلة من السماء، ولا يقتصر الأمر على هذه النماذج، فالله قادر على كل شيء، وابتكار أصناف أخرى من العذاب، ردعا للظالمين، وتمكينا لهم من التوبة والعدول عن موجبات العذاب.
وهكذا حكم الله وسنته مع جميع الأمم والأقوام والأفراد والجماعات، ولن تجد لسنة الله تبديلا أو تحويلا.
إثبات التوحيد وإنذار المكذبين
بعد بيان مصائر الأقوام الغابرين المكذبين برسالات رسلهم، والمنكرين وحدانية الله تعالى، أورد الله سبحانه بعض الأدلة القاطعة الدالة على توحيده وقدرته، وأنذر المشركين المعاندين في بطاح مكة وما حولها من عبدة الأصنام، حتى لا ينالهم مثل عذاب من تقدمهم، وكأن التكذيب للرسل شيء موصول بين الناس، فإذا أرادوا الخير لأنفسهم والنجاة من مثل ذلك العذاب المتقدم، فليس عليهم إلا الإقرار بوجود الله ووحدانية الذات الإلهية، وعبادته وحده، فإن أصروا على موقفهم، فإن العذاب واقع بهم حتما، كما جاء في الآيات الآتية:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 60]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
«1» «2» «3»
__________
(1) بقوة ومقدرة.
(2) لقادرون على خلقها وخلق غيرها. [.....]
(3) فروا إلى ثواب الله ورضاه بتوحيده وعبادته.(3/2507)
«1» «2» «3» [الذاريات: 51/ 47- 60] .
لقد بنينا السماء بقوة ومقدرة، وإنا لذوو قدوة وسعة على خلقها وخلق غيرها، فنحن قادرون، لا نعجز عن ذلك، ولا يمسنا تعب، فقوله: لَمُوسِعُونَ نوسع الأشياء قوة وقدرة.
والأرض مهدناها وبسطناها كالفراش، لصلاحية العيش عليها والاستقرار فيها، فنعم الماهدون، أي الباسطون الموطئون، نحن جعلناها مهدا لأهلها ومترعة بالخيرات على سطحها وجوفها.
وأوجدنا من جميع المخلوقات صنفين: ذكرا وأنثى، مصطحبين متلازمين، وهذا إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء كالليل والنهار، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والسماء والأرض، والسواد والبياض، والصحة والمرض، والكفر والإيمان، ونحو هذا. وهذا أدل على القدرة التي توجد الضدين، بخلاف ما يفعل بطبعه فعلا واحدا كالتسخين والتبريد. خلقنا هذه الأصناف المتلازمة، على هذا النحو لتعلموا وتتذكروا أن الخالق واحد لا شريك له. وكلمة (لعلكم) بحسب خلق البشر وعرفهم.
__________
(1) متجاوزون الحد في الظلم.
(2) نصيبا من العذاب.
(3) هلاك لهم وشدة عذاب.(3/2508)
فالجئوا إلى أمر الله، بالدخول في الإيمان وطاعة الله تعالى، فإني لكم منذر واضح الإنذار، ومخوّف من عذابه وعقابه. ولا تشركوا مع الله إلها آخر سواه، فإن الإله المعبود بحق: هو واحد، ولا تصلح العبادة لغيره.
وعبر الله تعالى عن الأمر بالإيمان والطاعة بلفظ الفرار، لينبه على أن وراء الناس عقابا وعذابا وأمرا، حقه أن يفر منه، فجمعت لفظة (فروا) بين التحذير والاستدعاء.
ثم نهى الله تعالى عن عبادة الأصنام والشياطين، وكل مدعو من دون الله تعالى، وفائدة تكرار قوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ الإبلاغ وهزّ النفس وتحكيم التحذير.
وكما كذّبك قومك من العرب أيها الرسول، ووصفوك بالسحر أو الجنون، فعلت الأمم المتقدمة التي كذبت رسلها، فهذا شأن الأمم في القديم، ولست أنت وحدك الذي كذّب.
ومن العجب كأن أفراد الأمم أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب، وتواطؤوا عليه، والواقع أنهم لم يتواصوا بذلك لتباعد زمانهم، لكنهم قوم طغاة، جمعهم الطغيان:
مجاوزة الحد في الكفر. وهذا توقيف وتعجيب من توطؤ نفوس الكفرة في تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام، مع تباعد أزمانهم، لكنهم فعلوا فعلا كأنه فعل من تواصى. والعلة في ذلك أن جميعهم طاغ، والطاغي: المستعلي في الأرض المفسد العاتي على الله تعالى.
فأعرض عنهم أيها الرسول، وكفّ عن جدالهم، فقد فعلت ما أمرك الله به، وبلّغت الرسالة، فما أنت بملوم عند الله بعد هذا؟ وليس عليك إلا البلاغ.
أخرج ابن منيع وابن راهويه والهيثم بن كليب في مسانيدهم عن علي رضي الله(3/2509)
عنه قال: لما نزلت فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة، إذا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتولى عنهم، فنزلت وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت أنفسنا، أو فسّروا بذلك.
وغاية إيجاد الخلق: العبادة، فما خلقت الإنس والجن إلا للعبادة، ولمعرفتي، لا لاحتياجي إليهم. والغاية من هذا الخلق سامية، فلا أريد من خلقهم جلب نفع لي، ولا دفع ضرر عني، ولا أريد منهم إطعامي، على عادتهم، إن الله هو واسع الرزق، يرزق جميع مخلوقاته، وهو ذو القوة والقدرة الهائلة، والشديد القوة. وبعبارة أخرى:
ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي، وليقرّوا لي بالعبودية.
ثم هدد الله مشركي مكة وأمثالهم على وثنيتهم، فإن للظالمين أنفسهم بالكفر والشرك وتكذيب الرسول، نصيبا من العذاب، مثل عذاب أمثالهم القدامى، فلا يطلبوا مني تعجيل العذاب لهم، فإن حظهم من العذاب آت لا ريب فيه.
فهلاك وشدة عذاب: للكافرين في يوم القيامة، الذي كانوا يوعدون به.(3/2510)
وَالطُّورِ (1)
تفسير سورة الطور
إيقاع العذاب بالكفار يوم القيامة
أقسم الله تعالى ببعض مخلوقاته تنويها بشأنها على تمام قدرته وشمولها، في إيقاع العذاب بالكفار يوم القيامة، وهذا القسم عظيم يشمل المقسم به من الجبال، والمدّونات الإلهية في الصحف، والكعبة المشرفة، والسماء العالية، والبحار المترعة بالماء، والعذاب المذكور يكتنفه أهوال شدائد، ومخاطر مدلهمة محيطة بأهل العذاب، منها اضطراب السماء، ودك الجبال، وذعر أهل الضلال، ودفعهم بعنف إلى نار جهنم وإدخالهم فيها ومقاساة شدائدها، كما تذكر هذه الآيات في مطلع سورة الطور المكية:
[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [الطور: 52/ 1- 16] .
__________
(1) قال بعض اللغويين: كل جبل فهو طور، فكأنه تعالى أقسم بالجبال، إذ هو اسم جنس.
(2) الكتاب المنزل من عند الله وهو يشمل الكتب الأربعة: التوراة والزبور والإنجيل والقرآن وغيرها.
(3) في جلد رقيق مبسوط.
(4) الكعبة المشرفة.
(5) السماء العالية.
(6) البحر المملوء ماء.
(7) تتحرك وتضطرب.
(8) يدفعون دفعا عنيفا.
(9) ادخلوها.(3/2511)
المعنى: أقسم (أنا الحق) بالطور، أي بكل الجبال، والطور اسم جنس للجبال عند أهل اللغة، وبالكتاب المكتوب أسطارا الذي يشمل الكتب الإلهية المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وغيرها، في الورق المعد للكتابة، المبسوط غير المطوي، وبالكعبة المشرفة التي تعمّر كل عام بالحجاج والزوار، وتعميرها للإعلام بشأن الكعبة، وبالسماء العالية التي هي كالسقف، وبالبحر المملوء ماء، المحبوس عن الأرض، إن المقسم عليه وهو عذاب الله لواقع كائن في القيامة لا محالة، لمن يستحقه من الكافرين والعصاة الذين كذبوا الرسل.
ويصاحب وقوع العذاب: اضطراب السماء اضطرابا شديدا، وإزالة الجبال من مواضعها كسير السحاب، وصيرورتها هباء كالصوف المندوف.
فويل، أي هلاك وسوء ومشقة أو واد في جهنم لأولئك الذين كذّبوا الرسل، في ذلك اليوم، من شدة هذا العذاب، وهم الذين كانوا يتخبطون في الأباطيل، فيكذبون بالقرآن، ويستهزئون بالنبي. والفاء في قوله فَوَيْلٌ لاتصال المعنى، وهو الاعلام بأمان أهل الإيمان، أما أهل الكبائر من المسلمين فلا يخلّدون في النار، لأنهم لا يكذبون الرسل.
ويكون إلقاء المكذبين في النار بأن يدفعوا إليها دفعا عنيفا شديدا، وفي إهانة وتعتعة. وكلمة يَوْمَ يُدَعُّونَ يوم: بدل من يَوْمَئِذٍ.
ويقال لهم تقريعا وتوبيخا من قبل الزبانية- وهذا كلام محذوف مختصر-: هذه النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا، والتكذيب بها:
تكذيب للرسول الذي أخبر بها من طريق الوحي.
ويقال لهم أيضا تذكيرا بما كانوا يقولون في الدنيا: أهذا الذي ترون: سحر كما(3/2512)
كنتم تقولون لرسل الله المرسلة ولكتبه المنزلة؟ بل إنه الحق، ولكنكم أنتم عمي وعن هذا، كما كنتم عميا عن الحق في الدنيا، والواقع: أن المرئي حق، ولا عمى في البصر.
ومما يقال لهم كذلك تيئيسا لهم وقطعا لرجائهم: ادخلوا النار وتلظوا بحرها، وقاسوا شدائدها، سواء صبرتم عليها أم لم تصبروا، فلا ينفعكم شيء، وعذابكم حتم، جزعتم أم صبرتم، فلا بد من جزاء أعمالكم، والجزاء بالعمل كائن، خيرا أو شرا، كان الصبر أو الجزع، لا محيد لكم عن النار، ولا خلاص لكم منها، ولا يظلم ربك أحدا، بل يجازي كل إنسان بعمله.
هذه أخبار موجعة مؤلمة، تدل على تطبيق مبدأ الحق والعدل، كما تدل على القدرة الإلهية الشاملة، وعلى إثبات يوم الحساب، وما يستتبعه من ثواب أو عقاب، وعلى إمكان البعث.
فالعاقل الذي يريد الخير لنفسه وإسعاد ذاته، يبادر إلى الإيمان بما أخبر الله تعالى به من الغيبيات الأخروية، ومن آمن بشيء بذل كل جهده في التوصل إلى مآربه، والظفر برضوان الله تعالى، فيكون الإيمان بيوم البعث دافعا إلى الخير والعمل الصالح، ومحذّرا من الشر والمنكر والعمل الضار.
وغير العاقل عقلا واعيا يسير على وفق هواه وشهواته، ولا يأبه بهذه المواعظ والزواجر، وتراه مضطرب النفس في الدنيا، حائرا تائها في مسيرة الحياة، وفي الآخرة أشد توجعا وقلقا، ويأسا، وندما، فهو يجني حصاد ما قدم في دنياه، ويلقى المصير المناسب لعمله.(3/2513)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)
جزاء المتقين
يقابل جزاء الكافرين الموصوف في الآيات السابقة في سورة الطور جزاء المتقين المتميز بروضات النعيم، ليبين الفرق، ويقع التحريض على الإيمان. والمتقون هنا:
هم متقو الشرك، لأن مصير كل مؤمن في النهاية إلى الجنات، وكلما زادت درجة التقوى، تأكد تحصيل نعيم الآخرة، وهذا النعيم ذو ألوان مادية ومعنوية كثيرة، والماديات: أطعمة وأشربة وفواكه وألبسة، ونحوها، تزدان بالخدمات المميّزة، ومن الخدم الغلمان كأنهم لؤلؤ مكنون: وهو أجمل اللؤلؤ. وهذا على خلاف حال الدنيا حيث يكون الخدم في الغالب في قبح وتبذل، لا صون معه ولا جلاء فيه. ويعرف ذلك من الآيات الآتية:
[سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الطور: 52/ 17- 28] .
إن أهل التقوى الذين اتبعوا أوامر الله وابتعدوا عن معاصيه، وتجنبوا الشرك هم في جنات (بساتين) نضرة. ويتنعمون فيها بنعيم دائم، خلافا لما عليه الكفرة من عذاب
__________
(1) فرحين مسرورين. [.....]
(2) جمع حوراء: وهي المرأة البيضاء، والعين جمع عيناء: الواسعة العين مع شدة سواد المقلة.
(3) وما نقصناهم بهذا الإلحاق.
(4) اللغو: ما لا خير فيه. والتأثيم: ما يوقع في الإثم.
(5) خائفين من عذاب الله.
(6) اسم النار، والسموم: الريح الباردة أو الحارّة.(3/2514)
الجحيم. فاكهين (فرحين مسرورين) بما منحهم الله من النعيم، من أصناف الملاذ في المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والفرش والحور العين وغير ذلك، وحماهم الله من عذاب النار، وتلك نعمة مستقلة بذاتها، تضم إلى نعمة دخول الجنة، والوقاية من العذاب: تظهر في متقي المعاصي الذي لا يدخل النار. وأما متقي الشرك الذي يعذب على معاص أخرى، فوقاهم ربهم عذاب الخلود في الجحيم.
وتقول لهم ملائكة الرضوان في الجنة مهنئة لهم: كلوا من طيبات الرزق، واشربوا مما لذّ وصفا وطاب، من غير نكد ولا كدر، بسبب ما قدمتم من أعمال صالحة في الدنيا، تفضلا من الله وإحسانا.
وأنواع المتع الأخرى أنهم والحال يجلسون على أسرّة مصفوفة، متصل بعضها ببعض، حتى تصير صفا واحدا، للدلالة على الاطمئنان والراحة وفراغ البال من الشواغل، ويزوجهم ربهم بقرينات صالحات هن الحور العين: ذوات البياض في الجسم، وبياض العين مع شدة سواد المقلة، وواسعات الأعين.
ومن زيادة النعم والفضل والإحسان: أن الله تعالى يلحق الذرية الذرية المؤمنة كبارا وصغارا على القول الأرجح، بالآباء المؤمنين، والمعنى: يرفع ذرية المؤمن إليه، بشفاعته التي يأذن الله بها. وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالآباء، فإنه سبحانه يلحق الأبناء بمراتب أولئك الآباء كرامة للآباء، جاء في حديث أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه» ثم قرأ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ الآية. وقوله: بِإِيمانٍ: هو في موضع الحال.
ولا ينقص الله الآباء نعمة أو ثوابا لأعمالهم، بإلحاق ذريتهم بهم، وكل إنسان مرتهن يوم القيامة بعمله، فلا يتحمل أحد ذنب شخص آخر، أيا كان أبا أو ابنا،(3/2515)
والمعنى: أن الله تعالى يلحق المقصّر بالمحسن، ولا ينقص المحسن من أجره شيئا، والرهين: المرتهن. وفي ألفاظ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ وعيد.
وأصناف النعم المادية على المتقين هي:
- وَأَمْدَدْناهُمْ أي وزودناهم على ما كان لهم من النعيم فاكهة متنوعة، ولحما مختلفا من أنواع اللحوم، من كل ما تشتهيه أنفسهم وتستطيبه وتلذ به. ولا كلفة في الجنة، فلا يتكلّف فيها الذبح والسلخ والطبخ. روي أن المنعّم إذا اشتهى لحما، نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها.
- ويتعاطون في الجنة كأسا من خمر الجنة، والكأس: الإناء الذي فيه الشراب، ويتجاذبون الكؤوس مع جلسائهم تجاذب سرور ولهو وملاعبة، لشدة فرحهم، وليس في شراب الآخرة ما يدعو إلى اللغو (الكلام الذي لا خير فيه) والتأثيم (الذي يوقع في الإثم) خلافا لشراب الخمور في الدنيا.
ويطوف (يدور) عليهم للخدمة بالكأس والفاكهة والطعام وغير ذلك فتيان يخدمونهم، كأنهم في الحسن والبهاء لؤلؤ مستور، مصون في الصّدف.
- وأقبلوا يتحادثون، ويسأل بعضهم بعضا في الجنة عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وما كان فيها من متاعب ومخاوف.
وأجاب المتحدثون سائليهم: إنا كنا في الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله، فتفضل الله علينا بالمغفرة والرحمة، ووفقنا للعمل الصالح، ووقانا عذاب السموم (عذاب النار) . والسموم: اسم من أسماء جهنم. والسموم: الحارّ، الذي يبلغ مسامّ الإنسان، ويقال للريح الباردة: سموم.
إنا كنا في الدنيا ندعوه، أي نعبده ونسأله المغفرة والرحمة، فاستجاب لنا، إنه سبحانه هو الكثير الإحسان، الواسع الرحمة والفضل.(3/2516)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)
متابعة نشر الرسالة وإثبات التوحيد
أمر الله تعالى نبيه بمتابعة التبليغ ونشر الدعوة أو الرسالة، مهما كانت الصعاب، والتحديات الباطلة، والاتهامات الواهية، فليس هو بكاهن ولا شاعر ولا مجنون، وإنما أعداؤه قوم طغاة تجاوزوا الحد في الكفر والعناد، ثم أثبت الله قدرته وتوحيده بخلق البشر وخلق السماوات والأرض، مما يدل على إمكان إعادة الخلق والبعث وليس للمشركين دليل مقبول على عقائدهم الزائغة، ولا سلطان لهم على شيء فلا يضر كيدهم رسول الله، وسينصره الله، ويظهر دينه، ولو كره الكافرون، وهذا ما قررته الآيات الآتية:
[سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 43]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» [الطور: 52/ 29- 43] .
لا تأبه أيها الرسول بمحاولات الصد والإحباط من قومك قريش، واثبت على ما
__________
(1) الكاهن: المخبر عن الأمور الماضية بلا وحي. والعراف: المخبر عن أمور المستقبل.
(2) ننتظر به حوادث الدهر.
(3) عقولهم.
(4) ظالمون مجاوزون الحدود بكفرهم وعنادهم.
(5) اختلقه وافتراه من عند نفسه.
(6) القاهرون الغالبون على الأشياء.
(7) بحجة قوية واضحة.
(8) غرم: وهو الالتزام بما ليس عليه.
(9) تدبير مكيدة وشر. [.....]
(10) المغلوبون المهلكون.(3/2517)
أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم، فلست بحمد الله بكاهن تدعي الإخبار عن الماضي بلا وحي، ولا بمجنون: يتخبطه الشيطان من المس.
بل يقولون: إنه شاعر ننتظر به حوادث الأيام ومصائبها، فيموت كما مات غيره، والريب: الشك، وأطلق على الحوادث على سبيل الاستعارة التصريحية، لعدم البقاء والدوام على الحال، والمنون: الدهر، لأنه يقطع الأجل، وهذا إنكار من الله عليهم باتهامهم الرسول مما ليس فيه، ثم هددهم الله: فقل لهم أيها الرسول:
انتظروا موتي أو هلاكي، فإني معكم من المنتظرين عاقبة الأمر، وقضاء الله فيكم.
أأنزل عليهم شيء من السماء، أم تأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض، وهو زعمهم أن القرآن سحر أو كهانة، أو شعر، وقولهم في الرسول: إنه كاهن أو شاعر أو مجنون. أم إنهم قوم طغاة تجاوزوا الحد في العناد والضلال عن الحق.
أم إنهم يقولون: إن محمدا اختلق القرآن وافتراه من عند نفسه، بل في الواقع إنهم لا يؤمنون بالله، ولا يصدقون بما جاء به رسوله.
فإن ص دقوا في زعمهم هذا بأن محمدا افترى القرآن، فليأتوا بمثل هذا القرآن في نظمه وسمو بلاغته، وبديع أسلوبه، وعظمة بيانه. والواقع أنهم لو اجتمعت معهم الجن وجميع الإنس، ما جاؤوا بمثله أو بمثل سورة منه ذات موضوع معين.
ثم أبطل الله شرك المشركين وردّ على إنكارهم وحدانية الخالق، فهل وجدوا من غير موجد، أم إنهم أوجدوا أنفسهم؟ وبما أن الأمرين منتفيان عقلا وواقعا، فالله هو الذي خلقهم، وهو الإله الواحد.
وهل خلقوا السماوات والأرض وما فيهما من العجائب، وأسباب العيش، ليدعوهم ذلك إلى التكبر، بل في الواقع إنهم غير مستيقنين حقا بأن الله هو الخالق، خلافا لإقرارهم، فهم لا يوقنون ولا ينظرون نظرا يؤديهم إلى اليقين. وخص الله من(3/2518)
الأشياء السماوات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات، وهذا توبيخ لهم على أنفسهم.
أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور، فهل يملكون خزائن الله من النبوة والرزق والمال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء، فيتصرفوا فيها كيف شاؤوا، أم هم المسلطون على المخلوقات، يدبرون أمرها كيف يشاءون؟ الواقع ليس الأمر كذلك، بل الله هو المالك المتصرف في كل شيء وهو الفعال لما يريد.
بل أيقولون: إن لهم سلّما منصوبا إلى السماء والأماكن العالية يصعدون به، ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم، ويطلعون على علم الغيب؟ فليأت مستمعهم إليهم على صحة ما هم فيه بحجة ظاهرة واضحة، كما أتى محمد صلّى الله عليه وسلّم بالبرهان الدال على صدقه، والواقع لا دليل ولا حجة على ما يقولون.
وبعد رد الله على إنكار الكفرة توحيد الألوهية، ردّ على من نسب البنات من الملائكة إلى الله، وأنها نسبة باطلة ولا عدل فيها. والمعنى: بل أتجعلون لله البنات، وتخصون أنفسكم بالبنين؟ وهذا تهديد ووعيد.
بل أتسألهم أجرة يدفعونها إليك على تبليغ الرسالة، فهم من التزام الغرامة مثقلون بحملها، فهم لذلك يكرهون الدخول فيما يوقعهم في الغرامة الثقلية؟! بل أيدّعون أن عندهم علم الغيب، وهو ما في اللوح المحفوظ، فيكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب أو يخبرون بما شاؤوا؟ ليس الأمر كذلك، فلا يعلم الغيب أحد إلا الله تعالى.
بل أيريدون تدبير مكيدة أو مؤامرة كما دبروا في دار الندوة لقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ ولكن النتيجة أن الكافرين هم المكيدون أي المغلوبون المهلكون، سمى الله تعالى غلبتهم كيدا، إذ كانت عقوبة الكيد، من قبيل المشاكلة والمشابهة لما فعلوا أو دبروا.(3/2519)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
ثم نزّه الله تعالى نفسه عما يشركون به من الأصنام والأوثان، والمعنى: بل ألهم إله غير الله يحرسهم من عذاب الله؟ تنزه الله عن الشريك والمثيل والنظير وعن كل ما يعبدون سواه، وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام.
وهذه الأشياء التي ناقشهم الله بها حصرت جميع المعاني والاحتمالات التي توقع في التكبر والعناد، وهي كلها ليست لهم، ولا يبقى شيء يوجب ما هم عليه إلا أنهم قوم طاغون، وذلك سبب عقابهم.
الإعراض عن الكافرين
لم يدع القرآن الكريم وسيلة للإيمان إلا أتى بها، ولا طريقا للكفر إلا سدّه، وناقش المشركين مناقشة هادئة في عقائدهم، لينقلهم من هذا الداء الخطير إلى الإيمان الصحيح، وحينما استبد العناد بهم، ولم يتزحزحوا عن مواقفهم الضالة، هددهم المولى عز وجل، وأنذرهم بعقاب الدنيا وعذاب الآخرة. وحاولوا الدفاع عن آرائهم، فاقترحوا للتحدي والمعارضة تحقيق بعض المستحيلات، فكان الأمر الإلهي للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم، والصبر في تبليغ الرسالة وإنذارهم، وانتظار وعد الله، والتزام التسبيح لله وحده حين يقوم من منامه أو من مجلسه، وعقب غروب النجوم في آخر الليل، وهذا ما قررته الآيات الآتية:
[سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 49]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) أي قطعا، مفردها كسفة وجمعها كسف وكسف.
(2) متراكم بعضه على بعض.
(3) يموتون أو يقتلون.
(4) تآمرهم وتدبيرهم.(3/2520)
«1» «2» [الطور: 52/ 44- 49] .
كانت قريش في جملة ما اقترحت تحقيقه: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء: 17/ 92] . فإن ير هؤلاء المشركون قطعا من نار السماء ساقطة عليهم لتعذيبهم، لما صدّقوا ولما أيقنوا، ولما انتهوا عن كفرهم، وإنما يقولون: هذا سحاب متراكم بعضه على بعض، نرتوي به، وهذا مثل حسي للمكابرة، لإنكارهم ما تبصره الأعين، مفاده: لو رأوا كسفا ساقطا حسب اقتراحهم، لبلغ بهم الغلو والبعد عن الحق أن يغالطوا أنفسهم وغيرهم.
فإذا كان هذا شأنهم، ولم يتركوا كفرهم، فدعهم أيها الرسول، ولا تأبه بهم، حتى يأتي يوم مصرعهم أو موتهم أو قتلهم، مثل يوم بدر. والصعق: التعذيب في الجملة.
وذلك اليوم هو اليوم الذي لا ينفعهم فيه مكرهم ولا كيدهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا، ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم، ولا ينصرهم ناصر، بل هو واقع بهم لا محالة.
وإن للظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي، ومكايدة النبي وعبادة الأوثان، عذابا دون أو قبل عذاب الآخرة، وهو إما قتلهم يوم بدر والفتح ونحوهما، وإما مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام، وإما عذاب القبر أو الجوع والقحط، غير أن أكثرهم لا يعلمون ما سينزل بهم من العذاب والبأس. وهذا كما في آية أخرى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) [السجدة: 32/ 21] .
__________
(1) أي لأمره في الإنذار والتبليغ، وانتظار وعده.
(2) بحراستنا وحفظنا.(3/2521)
واصبر أيها الرسول على أذى قومك، ولا تبال بهم، وتابع تبليغ رسالتك وإنذارك، وانتظار وعد الله بنصرك عليهم، فكل ما يحكم به الله ويقدّر هو خير ورحمة، فإنك في حراستنا وحفظنا وحمايتنا، والله عاصمك ومؤيدك، ونزّه الله عما لا يليق به، لإنعامه عليك، تنزيها مصحوبا بالحمد، حين تقوم من منامك أو من مجلسك وغيرهم، وحين تقعد، وفي كل تصرّفك، وحين تقوم للصلاة، فتقول:
«سبحان الله وبحمده» وقوله: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا معناه بإدراكنا وحفظنا وحيطتنا، وهذه الآية ينبغي أن يقدرها كل مؤمن في نفسه، فإنها تفسح مضايق الدنيا.
والتسبيح والتحميد مرغب فيه في كل وقت، ومنه أداء الصلوات المفروضة، ومنه ما بعد النوم، لما
رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تعارّ من الليل «1» ، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي، أو قال: ثم دعا، استجيب له، فإن عزم فتوضأ، ثم صلّى، قبلت صلاته» .
وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم وابن مردويه وابن أبي شيبة، عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول بآخر عمره إذا أراد أن يقوم من المجلس:
«سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» .
والتسبيح دائم ليلا ونهارا لقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) أي وإذا قمت من نومك، فسبّحه، واذكره واعبده في بعض الليل، وفي آخر الليل حين غروب النجوم، لأن العبادة حينئذ أشق على النفس، وأبعد عن الرياء، قال الرازي: والظاهر أن المراد من وَإِدْبارَ النُّجُومِ وقت الصبح حين يدبر النجم،
__________
(1) هب من نومه مع صوت.(3/2522)
ويخفى، ويذهب ضياؤه بضوء الشمس. وحينئذ يكون قوله: حِينَ تَقُومُ المراد به النهار، وقوله: وَمِنَ اللَّيْلِ ما عدا وقت النوم.
فتكون هذه الآية عامة في جميع الأوقات، في الليل والنهار، كما جاء في آية أخرى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) [الإسراء: 17/ 79] .
هذا التوجيه الإلهي بالتسبيح والتحميد يقوّي العزيمة، ويشحذ الإرادة، ويمنح النفس ثقة بالنصر في نهاية الأمر، ويخفف المعاناة والهموم، كلما ضاق الأمر، وحزن الإنسان، وفيه ترويض على الصبر مما يعانيه الداعية إلى الله، حيث وجد الإعراض عن دعوته والصدود، فإن النصر سيكون بمشيئة الله حليفة، لذا صبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مدة ثلاثة عشر عاما على أذى قومه، وتابع نشر دعوته، فتحقق له النصر والظفر، وانتشر دينه في الآفاق.(3/2523)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
تفسير سورة النجم
إثبات ظاهرة الوحي
تميزت سورة النجم المكية بالإجماع بأنها أول سورة أعلن بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجهر بقراءتها في الحرم، والمشركون يستمعون، وفي آخرها سجد، وسجد معه المؤمنون والمشركون، والجن والإنس، غير أبي لهب، فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا، روى ذلك البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهما.
وأقسم الله تعالى في مطلع هذه السورة بالنجم تشريفا له لإثبات ظاهرة الوحي على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السّلام الذي رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم على صورته الحقيقية مرة أخرى، وذلك في السماء بعد رؤيته في الأرض، قال الله تعالى:
[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [النجم: 53/ 1- 18] .
__________
(1) مال وسقط للغروب.
(2) ما عدل محمد صلّى الله عليه وسلّم عن طريق الحق إلى الباطل، وما جهل بما أوحي إليه.
(3) صاحب القوى الشديدة.
(4) ذو حصافة في العقل واستحكام في النطق، فاستقام على صورته الحقيقية التي خلق عليها.
(5) قرب فتعلق بالهواء.
(6) مقدار قوس أو أقرب من ذلك. [.....]
(7) أي جبريل إلى عبد الله.
(8) مرة أخرى.
(9) ما مال البصر وما تجاوز حده.(3/2524)
أقسم الله تعالى بالنجم إذا مال للغروب، تشريفا له، حتى يؤول ذلك إلى معرفة الله تبارك وتعالى. مثل قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) [الواقعة: 56/ 75] .
والمقسم عليه وهو الوحي حق ثابت. فما عدل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن طريق الحق إلى الباطل، وما جهل بما أوحي إليه. والضلال: هو الذي يكون بغير قصد من الإنسان. والغي: ما تتكسبه وتريده.
وما يقول هذا النبي قولا عن هوى وغرض، إن كل ما ينطق به هو وحي أوحاه الله إليه، ويبلّغ جميع وحي الله من غير زيادة ولا نقصان. والمراد بالوحي: القرآن.
والوحي: إلقاء المعنى في خفاء.
ومعلّم القرآن الناقل عن رب العزة: هو جبريل عليه السّلام، الشديد بقواه العلمية والعملية، وهو ذو قوة وشدة، وذو حصافة في العقل، ومتانة في الرأي، وقد اعتدل على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها، حين كان في الأفق الأعلى، أي في الجهة العليا من السماء، وهو أفق الشمس، فسدّ الأفق حين جاء بالوحي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أول مجيئه.
ثم قرب جبريل من الأرض إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم عند حراء، وتعلق بالهواء، وازداد في القرب من محمد والنزول، فكان فيما بينهما مقدار ما بين قوسين من المسافة أو أقل من ذلك، فأوحى جبريل إلى عبد الله، ما أوحى من القرآن في تلك النزلة، من شؤون الدين والتشريع، وهذا كان في أثناء رؤية حقيقة جبريل، والرسول في الأرض في حراء. ورآه مرة أخرى على حقيقته، والرسول في السماء، ليلة الإسراء، وحينما رآه سدّ الأفق، له ست مائة جناح.
ولم تكن رؤية جبريل خيالا، وإنما حقيقة معاينة، فما أنكر فؤاد النبي ما رآه من(3/2525)
صورة جبريل، وإنما كان في كامل وعيه، وكان فؤاده صادقا، فتكون عينه أصدق، فكيف تجادلونه وتكذبونه معشر قريش فيما رآه بعينه رؤية مشاهدة محسوسة؟ وقوله:
أَفَتُمارُونَهُ «1» خطاب لقريش معناه: أتكذبون فتجادلونه على ما يراه معاينة؟ ولم يرو قط أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه عز وجل قبل ليلة الإسراء. ولكن لا مانع من رؤية القلب.
أخرج مسلم والترمذي وأحمد: أن أبا ذر سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل رأيت ربّك؟ فقال:
«نور أنى أراه» .
ولقد رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم جبريل نازلا مرة أخرى على صورته التي خلقه الله عليها، وذلك في ليلة الإسراء، عند سدرة المنتهى التي هي في المشهور: شجرة في السماء السابعة، وعندها الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين.
ونحن نؤمن بسدرة المنتهى، على النحو الوارد في ظاهر القرآن الكريم، دون تعيين مكانها وأوصافها.
وتلك السدرة يحيط بها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله ما يحيط، مما لا يحصره وصف ولا عدد. وهذا يشعر بالتعظيم والتكثير.
ما مال بصر النبي صلّى الله عليه وسلّم عما رآه، وما تجاوز ما رأى، فرؤية جبريل وغيره من مظاهر ملكوت الله رؤية عين، وليست من خدع البصر، وهذا يؤكد أن معراج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى السماء كان بالروح والجسد.
لقد رأى في ليلة المعراج من آيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف، وهو رؤية جبريل على صورته، وسائر عجائب الملكوت و (الكبرى) : وصف ل (آيات) . وهذا كما جاء في آية أخرى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الإسراء: 17/ 1] ولكن دون تحديد المرئي، للإشارة إلى تعظيمه وأهميته.
__________
(1) أتجادلونه في شيء رآه وأبصره؟(3/2526)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)
قال الألوسي نقلا عن الكشاف: إن هذه الآيات سيقت لتحقيق أمر الوحي، ونفي الشبهة والشك فيه، ليتأكد الكل أن هذا الوحي ليس من الشعر ولا من الكهانة، فليس للشيطان ولا للجن أي قدرة على تصورهم وإدراكهم صورة جبريل الحقيقية أو غيرها، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم عرفه بقلبه وبصره، ورآه في حالاته المتعددة، ومن ثم لم يكن من المعقول أن يشتبه عليه.
أصنام الجاهلية العديمة الفائدة
حرص القرآن الكريم على أصول ثلاثة في العقيدة: وهي التوحيد، والرسالة أو النبوة، والإيمان باليوم الآخرة، وتقرير التوحيد يتطلب هدم الإشراك بالله، وبيان انعدام فائدة الأصنام، وهذا ما ذكرته الآيات الآتية، بأسلوب استنكاري مع التهكم والتوبيخ، إذ كيف يليق بكرامة الإنسان وحرمة العقل الإنساني، أن يعبد الإنسان حجرا أو معدنا أو شخصا يجعله إلها آخر مع الله؟ وهي لا تستطيع منع الضرر عن أنفسها، قال الله تعالى:
[سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 31]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)
«1» «2» «3»
__________
(1) هذه أسماء أصنام الجاهلية، اللات صنم ثقيف والطائف، والعزى: معبود غطفان، وهي شجرة ببطن نخلة ثم لما بليت انتقل أمرها إلى صخرة، ومناة: معبود هذيل وخزاعة، وهي صخرة، وكانت هذه الأصنام حول الكعبة.
(2) جائرة لا عدل فيها.
(3) من حجة وبرهان.(3/2527)
«1» [النجم: 53/ 19- 31] .
أوضح القرآن عظمة الله وقدرته، ثم أتبع ذلك الكلام عن الأصنام، فقال:
أرأيتم هذه الأوثان وحقارتها، وبعدها عن القدرة والصفات العلية؟ أنظرتم إلى اللات: صنم ثقيف والطائف، والعزى: شجرة بين مكة والطائف تعظمها قريش، ومناة: صخرة هذيل وخزاعة، وغيرها من الأصنام، إنها حجارة صماء، أو أشجار مستنبتة، فكيف تشركونها بالله، وهي مصنوعة لكم، أو مخلوقة غير خالقة، فمن يستحق العبادة أهي أم الله الخالق القادر؟! أتجعلون لله ولدا، ثم تجعلونه أنثى، وتختارون الذكور لأنفسكم؟ تلك قسمة جائرة عن الحق، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة الجائرة بين المخلوقين؟! إن تسمية هذه الأصنام آلهة، مع أنها لا تسمع ولا تبصر، ولا تعقل ولا تفهم، ولا تضر ولا تنفع، إنها مجرد أسماء سميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم، لا مسميات حقيقية، اتخذتموها آلهة أنتم وآباؤكم، لم ينزل الله بها من حجة ولا برهان تعتمدون به على أنها آلهة.
ما يتّبعون في تسمية الأصنام آلهة إلا مجرد وهم أو ظن لا يغني من الحق شيئا، ولا يتّبعون إلا ما تهواه نفوسهم وميولهم، من غير نظر إلى الحق الواجب اتباعه، ولقد جاءهم من الله القرآن الكريم الذي فيه الهداية والإرشاد.
__________
(1) انحرف ولم يجب دعوة الله.(3/2528)
والقضية ليست تمنيات، بل إن الإنسان يقرر ما يتمنى ويتصور، وليس كل من تمنى خيرا حصل له، وليس لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم وتشفع لهم، فالسلطان ليس لغير الله، وليس للأصنام مع الله أمر ولا شأن في الدنيا ولا في الآخرة، كما جاء في آية أخرى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ [النساء: 4/ 123] .
وطريق الشفاعة هو: كثير من الملائكة الكرام في السماء، مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله، لا تشفع لأحد إلا لمن أذن ورضي الله أن يشفع له، فكيف بهذه الجمادات؟.
ثم أنكر الله تعالى على المشركين جعلهم الملائكة بنات الله ووصفهم بالأنوثة، فالذين لا يصدقون بوجود الآخرة والحساب والعقاب يزعمون أن الملائكة إناث، وأنهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وليس لهؤلاء المشركين علم صحيح بصدق ما قالوه، ولا معرفة ولا برهان، فإنهم لم يعرفوهم ولا شاهدوهم، وما يتبعون في زعمهم إلا التوهم أو الظن الذي لا أساس له من الصحة، ومثل هذا الظن لا يجدي شيئا، ولا يقوم أبدا مقام الحق، فأعرض أيها الرسول عمن أعرض عن القرآن أو تذكير الله، ولم يكن همّه إلا الدنيا، وترك النظر إلى الآخرة، فاترك مجادلتهم والاهتمام بشأنهم فقد بلّغت ما أمرت به، وليس عليك إلا البلاغ. وقوله: وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا يدل على إنكارهم البعث والحشر.
إن أمر الدنيا وطلبها هو منتهى ما وصلوا إليه من العلم، فلا يلتفتون إلى ما سواه من أمر الدين، إن ربك هو عالم بمن انحرف عن سبيله، سبيل الحق والهدى، وعالم بمن اهتدى إلى الدين الحق، فأعرض عنهم، لأن الله هو الخالق لكل شيء، وسيجازي كل فريق أو أحد على عمله.(3/2529)
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
ولله تعالى ملك جميع ما في السماوات وما في الأرض، وهو الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، وقد خلق الخلق بالحق، وجعل عاقبة أمر الخلق أن يجزي كلا من المحسن والمسيء بعمله، يجزي المسيء بإساءته التي عملها، ويجزي المحسن بإحسانه، فتكون لام (ليجزي) لام العاقبة أو الصيرورة.
قال ابن الجوزي في تفسيره: والآية: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إخبار عن قدرته وسعة ملكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى أي: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وبين قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا لأنه إذا كان أعلم بالمسيء وبالمحسن، جازى كلا بما يستحقه، وإنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك.
صفات المحسنين وتوبيخ بعض المشركين
يدعي بعض الناس أنهم أتقياء بررة، محسنون خيّرون، ولكنهم في الواقع بعيدون عن الإحسان بالمعيار الشرعي الصحيح، فإن المحسنين هم الذين أحسنوا أعمالهم واجتنبوا الكبائر والفواحش، فلا يدعي إنسان ما ليس فيه أو يزكي نفسه بما ليس فيها. وفي مقابل هؤلاء المقصرين كان بعض المشركين كالوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي، وأبي جهل بن هشام في غاية الجفاء. والبعد عن معايير الشرع والخلق القويم، وهذا ما حكته الآيات الآتية:
[سورة النجم (53) : الآيات 32 الى 41]
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36)
وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) هي كبائر الذنوب: وهي كل ذنب توعد الله صاحبه بالعذاب الشديد أو ذم فاعله ذما كثيرا.
(2) هي جرائم الحدود.
(3) صغائر الذنوب التي لا إصرار فيها.
(4) أولاد في البطون.(3/2530)
«1» «2» «3» [النجم: 53/ 32- 41] .
أخرج الواحدي والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صدّيق، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «كذبت اليهود، ما من نسمة «4» يخلقه الله في بطن أمه إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد» فأنزل الله عند ذلك هذه الآية: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
المحسنون: وهم الذين تقدم ذكرهم: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى فكلمة الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ نعت لكلمة (الذين) المتقدم قبله: هم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب كالشرك والقتل وأكل مال اليتيم، وعن الفواحش كجرائم الحدود من زنا وقذف وسرقة وحرابة وشرب مسكر. والكبائر: كل ذنب توعد الله عليه بالنار وهي السبع الموبقات الآتي بيانها، والفواحش: ما تناهي أو تزايد قبحه عقلا وشرعا من الكبائر، ولكن لا يقع منهم إلا اللمم: أي صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال كالنظر إلى المحرّمات والقبلة، فإن اقترفوا اللمم تابوا.
ورد في الصحيحين عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله تعالى، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والنولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .
__________
(1) أعرض.
(2) قطع العطاء ولم يتمه. [.....]
(3) الوازرة: النفس الآثمة، والوزر: الحمل.
(4) أي إنسان.(3/2531)
ثم رغب الله بالتوبة بقوله: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ أي إن الله تعالى كثير الغفران للذنوب إذا تاب العبد منها.
والله تعالى بصير بكم حين ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم من التراب، وحين أوجدكم أجنة: أولادا في بطون أمهاتكم، فلا تمدحوا أنفسكم، ولا تبرّئوها عن الآثام، ولا تدّعوا الطهارة عن المعاصي، فالله هو العليم بمن اتقى الشرك والمعاصي. وظاهر الآية: النهي عن أن يزكي أحد نفسه.
ثم ذكر الله تعالى على سبيل التعجب والتقريع خبر بعض المشركين، الذي تميز بسوء فعله، حيث أعرض عن الإيمان، وأحجم عن العطاء، وجهل ما غاب عنه من العذاب.
ومعنى الآية: أخبرني وأعلمني بهذا الذي تولى عن الخير، وأعرض عن اتباع الحق، أعطى قليلا من المال ثم لم يتمه، ليتحمل عنه غيره وزره، هل عنده علم ما غاب عنه من أمر العذاب؟ أو أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر، فإن المتحمّل عنه ينتفع بذلك؟
أخرج الواحدي وابن جرير عن مجاهد وابن زيد قال: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتّبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على دينه، فعيّره بعض المشركين، وقال: لم تركت دين الأشياخ وضللتهم، وزعمت أنهم في النار؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله، ورجع إلى شركه، أن يتحمل عنه عذاب الله سبحانه وتعالى، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له، ثم بخل ومنعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال السدي: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقال محمد بن كعب القرظي:
نزلت في أبي جهل بن هشام.(3/2532)
ثم ذكّر الله تعالى هذا المعرض عن الإسلام بأن المسؤولية شخصية، فقال: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ أي بل أإنه لم يخبر بما في أسفار التوراة، وصحف إبراهيم الذي أكمل ما أمر به، وأدى الرسالة على الوجه الأكمل: أنه لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، فكل نفس ارتكبت جرما من كفر أو ذنب، فعليها وحدها وزرها، لا يحمله عنها أحد. وهو مبدأ المسؤولية الشخصية التي هي من مفاخر الإسلام.
وأنه ليس للإنسان إلا أجر سعيه وجزاء عمله، فلا يستحق أجرا عن عمل لم يعمله، وهو مبدأ كون الجزاء مرتبطا بالعمل، وهذا متمم للمبدأ السابق، فكما لا يتحمل أحد مسئولية غيره، كذلك ليس له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، والمراد بيان ثواب الأعمال الصالحة وكل عمل، فالخير مثاب عليه، والشر معاقب عليه.
وأن سعي الإنسان أو عمله محفوظ، يجده في ميزانه لا يضيع منه شيء ويدخره الله له بصفته وسيلة إثبات وإشادة، ولوم للمقصرين، وقوله فَهُوَ يَرى أن يراه الله تعالى ومن شاهد الأمر. وفي عرض الأعمال على الجميع تشريف للمحسنين، وتوبيخ للمسيئين. ثم يجزي الله هذا الإنسان جزاء كاملا غير منقوص، فيجازي بالسيئة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء. وهذا وعيد للكافرين، ووعد للمؤمنين.
من مظاهر القدرة الإلهية
تعددت مظاهر القدرة الإلهية في الكون والإنسان والحياة، وتلك المظاهر تصدر عن حكمة إلهية بالغة، وسلطان عظيم شامل، وعدل كامل، ورحمة شاملة، فلا يكون عقاب إلا بعد إمهال، ولا عذاب إلا بعد إنذار، ولم يبق إلا اعتدال الإنسان ووعيه في مراعاة مصلحته واستحضاره عظمة ربه، والاتعاظ بالأمثال والعبر التي(3/2533)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)
جعلت في تدمير الأمم أو الأقوام الغابرة، وذلك قبل أن يموت الإنسان ويفاجأ بقيام القيامة، وهذا ما أخبر عنه القرآن الكريم في الآيات الآتية:
[سورة النجم (53) : الآيات 42 الى 62]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61)
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [النجم: 53/ 42- 62] .
- إن المرجع والمصير إلى الله تعالى يوم القيامة، لا إلى غيره، فيجازي المخلوقات بأعمالهم، وهذا ترهيب للمسيء، وترغيب للمحسن.
- والله هو الذي أضحك من شاء في الدنيا بأن سرّه، وأبكى من شاء بأن غمّه.
والمراد أن الله خلق ما يسرّ من الأعمال الصالحة، وما يسوء ويحزن من الأعمال السيئة، وهذا دليل القدرة الإلهية.
أخرج الواحدي عن عائشة قالت: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوم يضحكون، فقال: لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا، ولضحكتم قليلا، فنزل عليه جبريل عليه السّلام بقوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) فرجع إليهم، فقال: ما خطوت أربعين
__________
(1) المرجع والمصير يوم القيامة إلى الله تعالى.
(2) تصب في الرحم.
(3) الخلقة الأخرى بعد البعث.
(4) أعطى المال وأكسب ما يقتنى كالأثاث وغيره، وقيل: أفقر.
(5) الكوكب المضيء، نجم في السماء، وهما شعريان: الغميصاء والقبور لأنها عبرت المجرّة، وكانت خزاعة ممن يعبد هذه الشعرى.
(6) قرى قوم لوط قد قلبها وخسف بها.
(7) لاهون وغافلون.(3/2534)
خطوة، حتى أتاني جبريل عليه السّلام، فقال: ائت هؤلاء، وقل لهم: إن الله عز وجل يقول: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) .
- وأنه تبارك وتعالى أمات من شاء وأحيا من شاء.
- وأنه هو الذي خلق الصنفين: الذكر والأنثى من كل إنسان أو حيوان، من قطرة ماء يصبّ في الرحم، ويتدفق فيه. ثم ينفخ الله الروح في النطفة فتصير شيئا حيا.
- وأن على الله تعالى إعادة الأرواح إلى الأجساد عند البعث والنشور والحشر، فكما خلق الله الإنسان من البداءة، هو قادر على الإعادة، وهي النشأة الأخرى يوم القيامة.
- وأنه سبحانه وحده الذي أغنى من يشاء من عباده، وأفقر من يشاء منهم، بحسب الحكمة والمصلحة للخليقة. وكلمة أَغْنى قال حضرمي: معناه أغنى نفسه.
ووَ أَقْنى أفقر عباده إليه. وقال الأخفش: أغنى: أفقر. قال ابن عطية: وهذه عبارات لا تقتضيها اللفظة، والوجه فيها بحسب اللغة: أكسب ما يقتنى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أقنى: أقنع.
- وأنه تعالى رب هذا النجم المضيء الذي يطلع خلف الجوزاء في شدة الحر، وهما شعريان: إحداهما الغميصاء «1» ، والأخرى: العبور، لأنها عبرت المجرّة، وكانت خزاعة ممن يعبد هذه الشعرى. وأول من سن عبادتها أبو كبشة من أشراف العرب، وكانت قريش تطلق على الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (ابن أبي كبشة) تشبيها له به، لمخالفته دينهم، كما خالفهم أبو كبشة، وكان من أجداد النبي صلّى الله عليه وسلّم من جهة أمه.
- وأنه تعالى دمر وأفنى قوم هود عليه السّلام، وهم عاد القدماء، وهي أول أمة
__________
(1) سميت بذلك لأنها بكت على إثر العبور حتى غمصت، أي صغرت، وهذا كناية عن قلة ضوئها.(3/2535)
أهلكت بعد نوح، وكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله ورسوله، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية، وعاد الأخرى: هي ثمود قوم صالح.
- وأهلك قبيلة ثمود، كما أهلك عادا، ودمرهم بذنوبهم، فلم يبق منهم أحدا.
- وأهلك الله قوم نوح من قبل هذين الفريقين: عاد وثمود، إنهم كانوا هم أظلم من عاد وثمود، وأشد طغيانا منهم، وأكثر تمردا وتجاوزا للحد من الذين أتوا من بعدهم، لأنهم بدؤوا بالظلم.
- وخسف الله مدائن قوم لوط، بجعل عاليها سافلها، أسقطها جبريل عليه السّلام بعد أن رفعها، ثم أمطر عليها حجارة من سجيل منضود، فغطاها بالعذاب على اختلاف ألوانه، وهذا أسلوب فيه تفخيم وتهويل لأمر العذاب.
- فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب تتشكك وتمتري.
- هذا القرآن ورسول الله نذير مخوف محذّر من جملة النذر المتقدمة، لأن القرآن منذر كالكتب السماوية السابقة.
- اقتربت القيامة، ليس هناك أحد قادر على كشفها والاعلام عنها إلا الله تعالى، لأنها من أخفى المغيبات، فاستعدوا لها قبل مجيئها بغتة، وأنتم لا تشعرون.
- كيف تعجبون من صحة القرآن، تكذيبا منكم، وتضحكون منه استهزاء، وتسخرون من آياته، ولا تبكون كما يفعل الموقنون، وأنتم لاهون عنه، غافلون معرضون؟! فاسجدوا أيها المؤمنون شكرا على الهداية، واخضعوا لله، وخصوه بالعبادة، فهو المستحق لذلك.(3/2536)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
تفسير سورة القمر
موقف المشركين من دعوة الإسلام
طالب المشركون بتحقيق معجزات مادية، على سبيل المكابرة والعناد، على الرغم مما رأوا من الآيات والمعجزات الباهرة الدالة على صدق نبوة الرسول محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم، ومع الإخبار بأنباء إهلاك الأمم المكذبة رسلها، ليعتبروا ويتعظوا، ومع تحذيرهم مما يتعرضون له في الآخرة من عذاب شديد، ونشر من القبور، ذليلين مهانين، مسرعين إلى الداعي إسرافيل إلى شيء رهيب، وهو موقف الحساب. وهذا ما أطلعتنا عليه أوائل سورة القمر المكية بالإجماع إلا الآية واحدة، اختلف فيها أهي مكية أم مدينة، وهي آية: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) :
[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
«1» «2» «3» «4» «5» [القمر: 54/ 1- 8] .
أخرج البخاري ومسلم والحاكم- واللفظ له- عن ابن مسعود قال: رأيت القمر
__________
(1) أي قربت القيامة، واقتربت أبلغ من قربت، مثل اقتدر أبلغ من قدر.
(2) أي محكم قوي، من المرّة:
وهي القوة.
(3) ما يزجرهم ويكفهم.
(4) شديد الهول تنكره نفوسهم إذ لا عهد لهم مثله. [.....]
(5) مسرعين.(3/2537)
منشقا شقين بمكة، قبل مخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: سحر القمر، فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
والمعنى: قربت القيامة ودنت، لكنّ وقتها مجهول التحديد،
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثت والساعة كهاتين» وأشار بالسبّابة والوسطى.
وانشق القمر فعلا نصفين، معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وآية ظاهرة على قرب القيامة وإمكانها.
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء (وهو جبل مشهور بمكة) بينهما.
لكن المشركين ظلوا على عنادهم، فإنهم وإن يروا علامة على النبوة وصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، يعرضوا عن التصديق والإيمان بها، ويولّوا مكذبين بها، قائلين: هذا سحر محكم قوي، من المرّة أي القوة، أو دائم مطرد متماد. وكذبوا بالحق الساطع حين جاءهم، وهو آيات الله الظاهرة، اتبعوا شهواتهم، لا بدليل، ولا بتثبّت، بسبب جهلهم وسخفهم، فهددهم الله ورد على تكذيبهم وأخبرهم بأن كل أمر مستقر، أي كل شيء منته إلى غاية، فالحق يستقر ثابتا ظاهرا، والباطل يستقر زاهقا ذاهبا، ومن جملة ذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم سينتهي إلى غاية يظهر فيها أنه على حق، وأنهم على باطل.
ثم ونجّهم الله على إصرارهم على الكفر وعلى ضلالهم، فقال: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) أي وتالله لقد جاء مشركي مكة وأمثالهم من أخبار الأمم المكذبة رسلها، وما حل بهم من العقاب والنكال، مما أخبر به القرآن، ما فيه كفاية لزجرهم وكفّهم عما هم فيه من الشرك والوثنية، ويدخل في كلمة (الأنباء) جميع ما جاء به القرآن من المواعظ والقصص وأحداث الأمم الكافرة.(3/2538)
وهذه الأنباء وما فيها من عبرة وعظة وهداية: حكمة بالغة كاملة، قد بلغت منتهى البيان، ليس فيها نقص ولا خلل، فلا تفيدهم الإنذارات شيئا بسبب عنادهم الذي يصرفهم عن الحق، كما جاء في آية أخرى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 10/ 101] وكلمة (ما) إما نافية، أو استفهامية بمعنى التقرير، أي فما غناء النذر مع هؤلاء الكفرة؟ والحكمة البالغة: هي المؤثرة تأثيرا بالغا في وعظ النفوس.
فأعرض عنهم يا محمد، ولا تتعب نفسك بدعوتهم، حيث لا يؤثر الإنذار فيهم، بعد هذا العناد والمكابرة، وانتظرهم، واذكر يوم يدعو الداعي فيه وهو إسرافيل، إلى شيء هائل تنكره نفوسهم، استعظاما له، إذ لا عهد لهم بمثله أبدا، وهو موقف الحساب الرهيب، وما يشتمل عليه من الأهوال والبلايا. وكلمة (نكر) : منكور غير معروف، ولا يرى مثله، وهو نعت للأمر الشديد، وهذا وعيد لهم.
وذلك اليوم هو يوم يخرج الناس من قبورهم، ويكون الكفار ذليلة أبصارهم، من الذل والهوان، كأنهم لانتشارهم واختلاطهم إذا توجهوا نحو المحشر والداعي: جراد منتشر موزع في الآفاق، أو مثل الفراش المبثوث، كما في آية أخرى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) [القارعة: 101/ 4] .
ويكونون مهطعين، أي مسرعين في مشيهم نحو المقصد، إما لخوف أو طمع ونحوه، ويسيرون نحو الداعي لهم وهو إسرافيل دون تلكؤ ولا تأخر، ويقول الكافرون: هذا يوم صعب، شديد الهول على الكفار، ولكنه ليس بشديد على المؤمنين. وشدته لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته. وذلك كما جاء في آية أخرى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) [المدثر: 74/ 9- 10] .
ويدل ذلك بطريق المفهوم على أنه يوم هيّن يسير على المؤمنين.(3/2539)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
قصة نوح عليه السّلام مع قومه
ساق الله تعالى في قرآنه قصص الأقوام السابقين، وعيدا لقريش وضرب مثل لهم، ومن أقدم هذه القصص: قصة نوح عليه السّلام مع قومه، فإنهم كذبوه، وزجروه عن تبليغ الدعوة بالسب والرد القبيح والتخويف، ووصفوه بأنه مجنون.
فاستنجد بربه، فأجابه، ودمّر القوم بالطوفان. وهذه هي نهاية الظلمة الذين عارضوا الرسل، وقاوموا الدعوة إلى الله ووحدانيته، واتبعوا الأهواء، وصدوا عن سبيل الله، سبيل الحق والعدل وتوحيد الله، فكان لا بد من التذكير بقصتهم للاعتبار والاتعاظ، كما يبدو في هذه الآيات:
[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 17]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [القمر: 54/ 9- 17] .
هذه القصة من قصص أربع في هذه السورة وعيد للمشركين حين نزول الوحي، على تكذيبهم رسولهم نوحا عليه السّلام، فلقد كذبت قبلهم قوم نوح بالرسل، حيث كذبوا عبد الله نوحا عليه السّلام، واتهموه بالجنون، وزجروه عن دعوة النبوة وتبليغها بأنواع الأذى والتخويف. قوله: عَبْدَنا تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق العبودية لله، فلم يكن على وجه الأرض في وقته عابد سواه، فكذبوه.
__________
(1) زجر عن دعوة النبوة بأنواع الأذى من السب والتخويف وغيرهما، وأصله ازتجر، فقلبت التاء دالا لتناسب الزاي.
(2) منصب متدفق.
(3) على مقدار مقدر.
(4) مسامير تشد بها السفينة.
(5) متعظ، وأصله مذتكر، فقلبت التاء دالا، ثم قلبت الذال دالا.
(6) إنذاراتي، فالنذر جمع نذير.(3/2540)
فدعا نوح عليه السّلام ربه تعالى قائلا: إني ضعيف عن مقاومة هؤلاء، فانتصر أنت لدينك، بعد علمك بتمردهم وعنادهم، فأجابه الله: لقد صببنا عليهم ماء غزيرا كثيرا متدفقا. وكلمة (أبواب السماء) هي تشبيه ومجاز، لأن المطر كثر كأنه من أبواب. ومنهمر: شديد الوقوع وغزير.
وجعلنا الأرض كلها عيونا متفجرة، وينابيع متدفقة، فالتقى ماء السماء، وماء الأرض، على أمر قد قضي عليهم، ورتبة وحالة قد قدرت في الأزل وقضيت، أو على مقادير قد قدرت ورتبت وقت التقائه، وهو وصف الطوفان لعقابهم والانتقام منهم.
وحملنا نوحا عليه السّلام على سفينة ذات ألواح: وهي الأخشاب العريضة، ودسر: وهي المسامير التي تشدّ بها الألواح، وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه.
تسير السفينة بمنظر ومرأى منا، وحفظ وحراسة لها، جزاء لهم على كفرهم بالله، وانتصارا لنوح عليه السّلام، لأن إرساله نعمة، وتكذيبه كفران موجب للنقمة. وهذا دليل على ضرورة اتخاذ الأسباب، لتحقيق النتائج المرجوة. فقوله: بِأَعْيُنِنا معناه بحفظنا وكفايتنا وتحت نظر منا لأهلها.
ولقد أبقينا خبر السفينة عبرة للمعتبرين، أو تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وعظة، فهل من متعظ يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها؟! فانظر أيها السامع كيف كان عذابي لمن كفر بي، وكذب رسلي، ولم يتعظ بإنذاراتي التي جاء بها المرسلون، وكيف انتصرت لهم وثأرت لهم، وكيف كانت إنذاراتي؟ وهو اطلاع لقريش على سبيل التوبيخ والتخويف، معناه: كيف كان عاقبة إنذاري، لمن لم يحفل به، مثلكم أيها القوم؟ وجمع النّذر: إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب، لأن الإنذار وهو الاعلام المتقدم رحمة وشفقة. وقوله: كُفِرَ معناه جحد به.(3/2541)
ولقد سهلنا القرآن وقرّبناه للحفظ عن ظهر قلب، ويسرنا إدراك معناه لمن أراده للتذكر، فهل من متعظ بمواعظه، معتبر بعبره؟! إن الله تعالى يسّر حفظ القرآن وفهم معانيه، بما فيه من حسن النظم، وشرف المعنى، فله التصاق بالقلوب مع محبة، وامتزاج بالعقول السليمة مع قناعة. وقوله تعالى في نهاية هذه القصة وبقية القصص الأربع: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ استدعاء وحض على حفظه وتذكر مراميه، لتكون زواجره وعلومه وهداياته حاضرة في النفس. وهي تعداد نعم الله تعالى في أنه يسّر الهدى.
والحكمة من تكرار: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) تجديد التنبيه على الاستذكار والاتعاظ، والتعرف على تعذيب الأمم السابقة، والاعتبار بحالهم.
وهكذا كان حكم تكرار آية الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) عند عدّ كل نعمة، وفي سورة المرسلات عند عدّ كل آية، لتكون ماثلة أمام الأذهان، محفوظة في كل أوان، وكذلك تكرار هذه القصص في القرآن بعبارات مختلفة، لتنبيه الغافل على أن كل موضع له فائدة، لا تعرف في غيره.
قصة عاد وثمود
تكرر بعد تكذيب قوم نوح برسولهم تكذيب قبيلتي عاد وثمود برسوليهم هود وصالح عليهما السّلام، وكان الجزاء الماحق مثل جزاء من قبلهم، وتشابهت الجرائم وتماثلت العقوبات، من أجل تحقيق غاية واحدة: هي زجر الكافرين عن كفرهم، ونقلهم من ذل الكفر والمعصية إلى عز الإيمان والطاعة. فإذا بقوا على مواقفهم لم يبق بعدئذ عذر لهم، ويكون عقابهم حقا وعدلا، وهذا ينبغي أن يكون أمثولة مستحضرة(3/2542)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18)
في أذهان المناوئين والمعارضين لدعوة الإسلام والحق على يد خاتم النبيين المرسل إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، قال الله تعالى مبيّنا قصتين بعد قصة نوح عليه السّلام:
[سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 32]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» [القمر: 54/ 18- 32] .
كذبت قبيلة عاد العربية، قوم هود عليه السّلام رسولهم، فانظروا أيها المخاطبون من قريش وغيرهم كيف كان عذابي لهم، وإنذاري إياهم.
وقوله فَكَيْفَ كانَ كيف منصوب إما على خبر (كان) وإما على الحال، و (كان) بمعنى وجد ووقع في هذا الوجه. والنذر: جمع نذير.
إنا سلطنا عليهم ريحا شديدة الصوت والبرد، في يوم شؤم عليهم، متتابع أو دائم الشؤم حتى أهلكهم ودمّرهم. قال قتادة: استمر بهم ذلك النحس حتى بلغهم جهنم.
تقتلع الناس من الأرض اقتلاع النخلة من أصلها، أي إنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا، وهم جثث طوال عظام، كأنهم بقايا أو مؤخرات نخل منقلع عن
__________
(1) هي قبيلة عاد بالأحقاف في اليمن.
(2) باردة.
(3) شؤم دائم.
(4) أصول نخل مقتلع من مغارسه.
(5) متاهة وجنون.
(6) الوحي الإلهي.
(7) كذوب في ادعاء الوحي، متكبر بطر. [.....]
(8) اختبارا وامتحانا.
(9) كل نصيب من الماء يحضره صاحب النوبة.
(10) اجترأ على عقرها.
(11) تبن صاحب الحظيرة.(3/2543)
مغارسه، أي إن ما تقطّع وتشعب من شخص الإنسان يشبه أعجاز النخل، والنخل: تذكر وتؤنث، فلذلك قال: منقعر. والكاف في قوله: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ في موضع الحال.
فانظروا كيفية عقابي وإنذاري، ولقد سهّلنا القرآن للحفظ والاستذكار والاتعاظ، فهل من متذكر متعظ؟! والإنذار بالتخويف وهزّ الأنفس. قال الرّمّاني: لما كان الإنذار أنواعا، كرر التأكيد والتنبيه. وفائدة تكرار قوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ التأكيد والتحريض وتنبيه الأنفس.
كذبت أيضا بالنذر، أي الرسل قبيلة ثمود قوم صالح عليه السّلام، وهم أهل الحجر بين الحجاز والشام، وتكذيب نبيهم صالح عليه السّلام تكذيب لجميع الرسل، لاتفاقهم على أصول الدين، فقالوا حسدا منهم لصالح عليه السّلام، واستبعادا أن يفضل نوع من البشر بعضه الآخر: أنكون جميعا، ونتّبع واحدا؟ وكيف نتبع بشرا من جنسنا، منفردا وحده، لا تبع ولا متابع له على ما يدعو إليه؟ لقد خبنا وخسرنا إن أطعنا واحدا منا، وإنا إذا اتبعناه نحن في خطأ وبعد عن الصواب، وفي أمر متلف مهلك بالإتلاف، وفي احتراق نفس هما وحنقا باتباعه، أو في جنون أو عناء.
كيف خص بالوحي والنبوة من بيننا، وفينا من هو أحق بذلك منه؟ بل هو كذوب متجاوز الحد فيما يدّعيه من نزول الوحي عليه، ومتكبر بطر. والأشر: البطر المرح، أي ليس الأمر كما يزعم، فكأنهم بهذا الوصف اتهموه بأنه أراد الاستعلاء عليهم وأن يقودهم وهم يطيعونه.
فرد الله عليهم مهددا ومتوعدا بقوله: سَيَعْلَمُونَ غَداً.. أي سيعرفون عما قريب في المستقبل وقت نزول العذاب بهم في الدنيا أو في يوم القيامة، وسيتبين لهم(3/2544)
من المفتري الكذاب، البالغ الحد في كونه أشرا، أصالح في تبليغ الرسالة أم هم في تكذيبهم إياه؟ والمراد أنهم هم الكذابون البطرون المتكبرون.
ولقد أرسلنا لهم الناقة العظيمة التي اقترحوها أن تخرج من صخرة صماء من الجبل، وذلك على سبيل الاختبار والامتحان، فانتظر ما يؤول إليه أمرهم بارتقاب الفرج والصبر.
وأخبرهم أن ماء البئر أو النهر الصغير مقسوم بينهم وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، وكل نصيب من الماء يحضره صاحبه في نوبته، فتشرب الناقة في يوم ويشربون هم في يوم آخر، أو إنهم يشربون من الماء يوما، ومن لبن الناقة يوما آخر، فكأنه تعالى أنبأهم بنعمة الله تعالى عليهم في ذلك.
ولكن ثمود ملّوا هذه القسمة، فتجرأ أحدهم وأشقاهم وأجرؤهم بتواطؤ معهم على عقر الناقة، فأهوى بسيفه على قوائمها، فكسر عرقوبها، ثم نحرها. فعاقبتهم، فانظروا كيف كان عقابي لهم على كفرهم بي، وتكذيبهم رسولي الذي يخوفهم عذاب الله تعالى.
وتعاطى: مطاوع طاوع، كأن هذه الفعلة تدافعها الناس، فتناولها هذا الشقي. إنا أرسلنا عليهم صيحة جبريل، فصاح بهم، فأبيدوا جميعا، وصاروا كعشب أو تبن صاحب الحظيرة الذي جمعه فيها، أو كالشجر اليابس المتهشم. ولقد سهلنا القرآن للتذكر والاتعاظ، فهل من متعظ؟!
قصة لوط وآل فرعون
من غرائب القصص: قصة قوم لوط، فإن الأمم الأخرى كذبوا الرسل وأصروا على العناد والكفر، أما قوم لوط فقد ضموا إلى ذلك اقترافهم فاحشة خطيرة هي(3/2545)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)
اللواط، وارتكبوا سفساف الأخلاق وأدناها، وأكثرها إخلالا بالمروءة، فكان عقابهم- وهو الخسف وقلب ديارهم عاليها سافلها- فريدا من نوعه بين أنواع العقاب الإلهي، تطهيرا للأرض أو البيئة من مفاسدهم وموبقاتهم. وهذا ما أنبأ به القرآن في الآيات الآتية:
[سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 42]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
«1» «2» «3» «4» «5» [القمر: 54/ 33- 42] .
كذبت بالرسل أيضا من الأمم البائدة قوم لوط، فإنهم كذبوا رسولهم في دعوته، وكذبوا بالآيات التي أنذرهم بها، واقترفوا الفاحشة، وتكذيب رسول واحد كتكذيب جميع الرسل، لأن مهمتهم واحدة، ولقد أنذر لوط قومه بعذاب الله، فلم يرتدعوا، فعاقبناهم. بأن أرسلنا عليهم ريحا ترميهم بالحصباء، وهي الحصى أو الحجارة، وشبّه ذلك بالسحاب، فدمرتهم جميعا إلا لوطا عليه السّلام وآله الذين آمنوا به واتبعوه، فإنا أنجيناهم من الهلاك في آخر الليل قبل الفجر.
وإنجاء هؤلاء الناجين كان إنعاما من الله عليهم، وتكريما لهم، ومثل ذلك الجزاء الحسن، نجزي من شكر نعمة الله ولم يجحدها، بأن آمن وأطاع أمر ربه، واجتنب نهيه.
__________
(1) ريحا ترميهم بالحصباء، أو السحاب الرامي بالبرد وغيره، فشبه تلك الحجارة التي رمي بها قوم لوط به في الكثرة والتوالي.
(2) أي السدس الأخير من الليل قبل طلوع الفجر.
(3) أي فكذبوا الإنذارات متشاكّين.
(4) صارت أعينهم مطموسة، أو أعميناهم.
(5) متعظ، أصله مذتكر، فقلبت التاء دالا، ثم قلبت الذال دالا، وأدغمت في مثلها.(3/2546)
والله تعالى عدل في العذاب، حيث جاء بعد إنذار، فلقد أنذرهم الرسول بطشة الله بهم، أي عذابه الشديد، فتشككوا بإلقاء الشبه والضلال في هذا الإنذار، وكذبوه.
ومن جرائمهم: أنهم أرادوا تمكينهم ممن أتى لوطا عليه السّلام من الأضياف الملائكة، الذين جاؤوا في صورة شباب مرد: حسان، ليفجروا بهم، فصيرنا أعينهم مطموسة، قال قتادة: هي حقيقة، جرّ جبريل عليه السّلام شيئا من جناحه على أعينهم، فاستوت مع وجوههم. وقال ابن عباس والضحاك: هي استعارة، وإنما حجب إدراكهم، فدخلوا المنزل، فلم يروا شيئا، فجعل ذلك كالطمس.
وقال الله لهم على لسان الملائكة: ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي.
ولقد نزل بهم العذاب بكرة، أي صباحا في أول النهار، عند طلوع الشمس، وكان عذابا متصلا مستقرا بهم، لم يفارقهم حتى ماتوا، وهم أيضا معذبون في قبورهم بانتظار جهنم، ثم يتصل ذلك بعذاب النار، فذوقوا جزاء أفعالكم عذابي الشديد، وتحملوا مقتضى إنذاركم المتقدم، وهذا مكرر تأكيدا وتوبيخا.
ولقد سهّلنا آيات القرآن للاتعاظ والتذكر، فهل من متعظ معتبر؟! وذكرت هذه الجملة عقب كل قصة من القصص الأربع، للتأكيد والتنبيه، والزجر والاتعاظ.
ووالله لقد جاءت الإنذارات بالعذاب قوم فرعون وأتباعه، على يد موسى وهارون عليهما السّلام، ويحتمل أن يريد ب (آل فرعون) قرابته، وخصهم بالذكر، لأنهم عمدة القوم وكبراؤهم.
كذبوا بآيات الله المتعددة، وبالمعجزات الباهرة التي أجراها الله تعالى على يد موسى، ومنها الآيات التسع كالعصا واليد، فكذبوا بها كلها، فأخذهم الله بالعذاب الشديد أخذ قوي غالب في انتقامه، قادر على إهلاكهم، قاهر لا يعجزه شيء، حيث أغرق فرعون وجنوده بالبحر، ونجى موسى ومن آمن معه.(3/2547)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
إن هؤلاء الأقوام العتاة (قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون) بلغوا الحد الأقصى في الضلال والفجور، وتجاوزوا المعتاد والحدود كلها، فكانوا أمثولة العالم، وحديث البشرية إلى يوم القيامة، فالله تعالى يعاقب بمثل هذا العقاب كل من اتصف بصفات تلك الأقوام، والجزاء من جنس العمل. وهو سبحانه أيضا ينجي أهل الإيمان الذين أطاعوا الله ورسوله، ولم يخشوا إلا الله لا صنما ولا وثنا، ولا حجرا ولا صخرة، ولا كوكبا، ولا شخصا مهما بلغ في عتوه وضلاله، ويظل البقاء على الدوام لأهل الحق والسداد، ويفنى مع الزمان أهل الباطل والعدوان.
تهديد المشركين وتهنئة المتقين.
بعد أن أورد الله تعالى قصص إهلاك الأمم المتقدمة الذين كذبوا الرسل، وهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون في سورة القمر، هدّد الله تعالى مشركي مكة وأمثالهم، بأن ينزل بهم من العذاب ما نزل بمن تقدمهم، لتشابههم في السبب:
وهو الإصرار على الضلال والشرك وتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم ولهم في الآخرة عذاب أشد وأبقى. ثم بشّر الله تعالى وهنأ المتقين الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا بطاعته بالجنة والأنهار العذبة التي آمنوا بها، وفي مقاعد النور والخير والإحسان التي صدقوا بها، بقرب من الله عز وجل قرب مكانة وتكريم، لا قرب مكان وتعيين، فقال الله سبحانه:
[سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 55]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
«1» «2» «3»
__________
(1) أي سلامة من العذاب مكتوبة في الكتب.
(2) يهربون إلى الوراء فارين.
(3) أعظم بلية وأشد مرارة.(3/2548)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [القمر: 54/ 43- 55] .
هذا خطاب لكفار قريش على جهة التوبيخ، أكفاركم يا مشركي العرب خير من الذين تقدم ذكرهم، ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وجحودهم كتب السماء، أم عندكم براءة: سلامة من العذاب مكتوبة، فيما أنزل من الكتب ألا ينالكم عذاب أو نكال؟ والمعنى: ليس كفاركم معشر العرب خيرا من كفار من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم، فلستم بأفضل منهم، حتى تأمنوا ما أصابهم من العذاب عند تكذيبهم الرسل. وهذا تهديد وتوبيخ للمصرّين على الكفر من مشركي العرب.
ثم خاطب الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم: أم يقولون: نحن جميع واثقون بأنا منتصرون بقوتنا، على جهة الإعجاب والاستكبار، على الضعفاء الأذلاء، والاستفهام إنكاري، سيهزمون فلا ينفع جمعهم.
سيهزم جمع المشركين، ويولّون الأدبار هاربين، وهذا من أدلة النبوة، فقد هزموا يوم بدر، وقتل زعماء الكفر. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يوم بدر:
«نحن جميع منتصر» فنزلت: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) واستشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بدر بهذه الآية.
__________
(1) خطأ وبعد عن الصواب، وفي نيران مستعرة.
(2) ذوقوا حرّ النار وألمها. [.....]
(3) مقدرا بقدر معلوم.
(4) أشباهكم في الكفر.
(5) مسطور في اللوح المحفوظ.
(6) العندية عندية مكانة وقربة ورتبة.(3/2549)
ثم تركت هذه الأقوال وأضرب عنها، عناية بأمر القيامة التي عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال، فقال الله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي بل إن القيامة موعد عذابهم الأخروي، وليس هذا العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والقهر، هو تمام ما وعدوا به من العذاب، وإنما هو مقدمة له، وعذاب القيامة أعظم وأنكى، وأشد مرارة وقسوة من عذاب الدنيا.
ونوع عذاب الآخرة: هو أن المجرمين، أي الكفار- في رأي أكثر المفسرين- في الدنيا في حيرة وبعد عن الهدى والصواب، وفي الآخرة في احتراق وتسعّر، أي في نيران مستعرة.
يوم يجرّون في النار على وجوههم للإهانة والإذلال، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا:
ذوقوا وقاسوا حرّ النار وآلامها وشدة عذابها. وهذا توعد بالسحب في جهنم. وأكثر المفسرين على أن المجرمين هنا يراد بهم الكفار، وقال قوم: المراد بالمجرمين: القدرية الذين يقولون: إن أفعال العباد ليست بقدر من الله تعالى.
ثم أوضح الحق تعالى أن جميع ما يحدث في الكون ومنه أفعال الناس كلهم هو مخلوق لله تعالى، فقال: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) أي إن كل شيء من الأشياء وكل فعل من الأفعال في الكون والحياة، خيرا أو شرا، مخلوق لله تعالى، مقدر بقدر معلوم، وفي هيئة وزمن مخصوص، وهو محكم مرتب بحكمة الله تعالى، وعلى وفق المكتوب في اللوح المحفوظ، ومعلوم لله في الأزل. وهذا المعنى يقتضي أن كل شيء مخلوق، إلا ما قام الدليل العقلي على أنه ليس بمخلوق، كالقرآن وصفات الله تعالى.
وهذه الآية رد واضح على طائفة القدرية الذين ينكرون القدر، ويقولون: المرء يخلق أفعاله.
أخرج الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خاصمت قريش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القدر، فنزلت هذه الآية.(3/2550)
وأخرج الطبري ومثله البخاري عن علي رضي الله عنه: قال أبو عبد الرحمن السّلمي: «فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ أفي شيء نستأنفه أو في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، سنيسره لليسرى، سنيسره للعسرى» .
وأخرج النحاس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القدرية الذين يقولون: الخير والشر بأيدينا، ليس لهم في شفاعتي نصيب، ولا أنا منهم، ولا هم مني» .
ثم أوضح الله نفاذ مشيئته وقدره في الخليقة، فقال: وَما أَمْرُنا أي إن أمرنا بإيجاد الأشياء يكون مرة واحدة، لا حاجة فيه إلى تأكيد ثان، فيكون أمرنا بكلمة واحدة نافذا حاصلا موجودا كلمح البصر في سرعته. ولمح البصر: إغماض العين ثم فتحه.
ثم أعاد الله تعالى التنبيه للحق، فتالله لقد أهلكنا أمثالكم في الكفر يا معشر قريش، من الأمم السابقة المكذبين بالرسل، فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك؟! وجميع ما فعله السابقون وتفعلونه من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ وغيره من كتب الملائكة. وكل صغير وكبير من الأقوال والأفعال مسطور في اللوح المحفوظ وغيره من كتب الملائكة، وكل صغير وكبير من الأقوال والأفعال مسطور في اللوح المحفوظ وفي دواوين الملائكة وصحائفهم. ثم أخبر الله تعالى عن جزاء المتقين فقال:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي إن أهل التقوى والإيمان والصلاح في بساتين غناء، وأنهار متدفقة، في المقعد الذي صدّقوا به، في الخبر به عند الملك العظيم، المقتدر على ما يشاء ويريدون، وهو الله تعالى، والعندية: لبيان الرتبة والقربة. والنّهر اسم جنس، ويراد به الأنهار.(3/2551)
الرَّحْمَنُ (1)
تفسير سورة الرحمن
نعمة القرآن والكون
نعم الله تعالى لا تعدّ ولا تحصى، منها الكبرى المستقرة، ومنها الصغرى المتجددة بتجدّد الحياة الإنسانية وغيرها، فعلى كل إنسان شكر هذه النعم اعترافا بها وإجلالا لها ووفاء لحق المنعم، وربما كان أدق هذه النعم هو النسبية الكائنة بين الأشياء، بحيث لا يكون هناك زيادة ولا نقص، ونجد الحديث عن هذه النعم الكبرى في مطلع سورة الرحمن التي هي مكية النزول في الأصح.
وإنما نزلت حين قالت قريش بمكة: «وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟» . قال الله تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الرحمن: 55/ 1- 13] .
__________
(1) المنطق الفصيح عما في القلب.
(2) بحساب دقيق.
(3) النبات الذي يظهر من الأرض.
(4) ينقادان.
(5) شرع العدل.
(6) جمع كم: وهو كل ما التفّ على شيء وستره، وهو وعاء الطلع وغطاء النّور.
(7) ورق الزرع الجاف.
(8) هو كل مشموم طيب الرائحة من النبات.(3/2552)
عدد الله نعمه في هذه السورة مبتدئا بذاته المقدسة مصدر النعم.
الرحمن: هو الله تعالى المنعم بجلائل النعم الدنيوية والأخروية، وهم اسم من أسماء الله الحسنى. وهو الذي أنزل القرآن وعلّمه الناس. أوجد الإنسان: وهو هنا اسم جنس، وعلّمه النطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول.
ومن نعم الله تعالى العلوية مجال التعلم: أن الشمس والقمر يجريان بحساب دقيق منظم، معلوم في بروج ومنازل معلومة، لا يتجاوزانها، ويدلان على اختلاف الفصول وعدد الشهور والسنين، ومواسم الزراعة، وآجال المعاملات وأعمار الناس.
ومن نعمه في عوالم الأرض السفلى: أن النبات الذي لا ساق له، والشجر الذي له ساق ينقادان طبعا لله تعالى فيما أراد، كما ينقاد الساجدون من المكلفين اختيارا، فيظهران في وقت محدد ولأجل معين، وهما غذاء الإنسان، ومتعة له.
وظاهرة التوازن أو النسبية بين الأشياء: هي في أن الله رفع السماء فوق الأرض، ووضع شرع العدل وأمر به، كما قال الله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 57/ 25] .
وأمر الله بإقامة العدل على الوجه الصحيح، ومنه إقامة الوزن للأشياء بالعدل، ونهى عن نقص المكيال والميزان، كما قال تعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الشعراء:
26/ 182] وذلك بقدر الإمكان. وأما ما لا يقدر البشر عليه من تحرير الميزان وتسويته بدقة، فهو موضوع عن الناس.
وقوله: وَلا تُخْسِرُوا من أخسر، أي نقص وأفسد.
وهذا لتأكيد الأمر بالعدل، فقد أمر الله سبحانه أولا بالعدل والتسوية، ثم نهى عن التجاوز والزيادة عند استيفاء الحق، ثم منع الخسران الذي هو النقص والبخس.(3/2553)
ثم ذكر الله تعالى ما في الأرض من نعم كثيرة في مقابل السماء، فالله هو الذي وضع الأرض وبسطها لينتفع بها الناس، وأرساها بالجبال الراسخات ليستقر الناس على وجهها.
ثم أوجد الله طرق المعايش في الأرض، ففيها كل ما يتفكه به من أنواع الثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح، وفيها أشجار النخيل ذات أوعية الطلع وأغطية النّور والزهر الذي يتحول بعدئذ إلى تمر، وفيها جميع ما يقتات الإنسان من الحبوب كالحنطة والشعير والذرة ونحوها، ذات العصف: وهو ورق الزرع الجاف، ويتحول إلى التبن الذي هو رزق البهائم، وفيها كل مشموم من النبات ذي الرائحة الجميلة، وتنكير كلمة (فاكهة) وتعريف كلمة (النخل والحب) لأن الفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص، أما ثمر النخيل والحب فهو قوت محتاج إليه في كل زمان، متداول في كل وقت، ويحتاج إليه جميع الأشخاص، وكذلك الريحان الذي لا يفارق أغلب النباتات.
فبأي النعم المتقدمة يا معشر الجن والإنس تكذبان؟ فهي من الرب المنعم الذي يتعهد عباده بالتربية والنماء، فيكون هو الجدير بالحمد والشكر على كل حال.
والضمير قوله: رَبِّكُما للجن والإنس. وعرف ذلك إما من قوله: لِلْأَنامِ أي الثّقلان، وإما من تفسيرهما في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ ووَ خَلَقَ الْجَانَّ.
ويقال بعد ذلك: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد ولك الشكر.
وقد تكررت هذه الآية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة، بعد كل خصلة من النعم، وجعلها الله فاصلة بين كل نعمتين، لتأكيد التذكير بالنعمة، وتقريرهم بها، وللتنبيه على أهميتها، والنعم تشمل دفع المكروه، وتحصيل المقصود.(3/2554)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
إن هذه النعم المادية لا شك في أهميتها والحاجة إليها، لكن أعظم نعمة وأول نعمة وأخلدها وأجدها هي نعمة القرآن، كما افتتحت بها السورة، وكما وصف هذا الكتاب في آية أخرى مثل: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 16/ 89] . ومثل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) [الإسراء: 17/ 82] .
نعم إلهية أخرى
يذكّرنا الله تعالى بنعمه على الدوام، ليدلنا على قدرته العظمى ووحدانيته الخالدة، فهو سبحانه خلق الإنسان في أصله من الطين اليابس، وخلق أصل الجن من النار، وهو رب المشارق والمغارب، وهو الذي حجز بين البحرين: العذب والملح، وسيّر السفن في أعالي البحار، وأعد كل ذلك لخير الإنسان ما دام في الحياة، ثم يفنى كل شيء، ويبقى الله ذو الجلال والعظمة والإكرام. وهذا ما نصت عليه الآيات الآتية:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 28]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
«1» «2» «3» «4» «5» [الرحمن: 55/ 14- 28] .
__________
(1) هو الطين اليابس الذي له صلصلة أي صوت.
(2) لهب خالص لا دخان فيه. [.....]
(3) أرسلهما.
(4) حاجز بين الأشياء.
(5) السفن الرافعات الشرع في البحر لتتحرك بالهواء كالجبال ونحوها من المرتفعات.(3/2555)
من دلائل القدرة الإلهية: أن الله تعالى خلق أصل الإنسان وهو آدم من طين يابس له صلصلة، أي صوت مثل الخزف: وهو الطين المطبوخ بالنار، ليتماسك ويصير صلبا.
وخلق الله تعالى أصل الجن: وهو إبليس من طرف النار، أي من لهب خالص لا دخان فيه، فبأي نعم الله يا معشر الثقلين: الإنس والجن تكذبان أو تنكران هذا الواقع المشاهد؟
والله تعالى رب مشرقي الشمس في الصيف والشتاء، ورب مغربي الشمس في الصيف والشتاء، وبهما تتكون الفصول الأربعة، وتختلف أحوال المناخ من حر وبرد واعتدال. فبأي نعم الله هذه تكذبان أو تنكران؟! وخص الله تعالى ذكر المشرقين والمغربين بالتشريف في إضافة الرب إليهما، لعظمهما في المخلوقات، وأنهما طرفا آية عظيمة وعبرة، وهي: الشمس وجريها. ومتى ذكر المشرق والمغرب: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل: 73/ 9] فيراد منهما جنس المشرق والمغرب في الجملة، ومتى ذكر المشارق والمغارب فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 70/ 40] فيراد به مشارق كل يوم ومغاربه، ومتى ذكر المشرقان والمغربان كما هنا فيراد بهما نهايتا المشارق والمغارب، لأن ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه. وقال مجاهد: هو مشرق الصيف ومغربه، ومشرق الشتاء ومغربه. والله تعالى أرسل البحرين، والمراد بهما نوعا الماء العذب والأجاج، أي خلطهما في الأرض وأرسلهما متداخلين، قريب بعضهما من بعض، ولكن بينهما حاجز يحجزهما ويمنعهما من الاختلاط، فلا يبغي أحدهما على الآخر، بالامتزاج، والاختلاط. فبأي نعم ربكما أيها الإنس والجن تكذبان أو تنكران؟
يخرج من أحد البحرين- على حذف مضاف- وهو الأجاج: اللؤلؤ وهو: كبار(3/2556)
الجوهر المتكون في الصدف، والمرجان: صغاره، وهو حجر أحمر. وتتكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر «1» فبأي نعم الله الظاهرة لكم أيها الجن والإنس تكذبان؟ ففي ذلك من دلائل القدرة الإلهية ما لا يستطيع أحد تكذيبه، وخروج هذه الأشياء إنما هو من الملح، لكنه تعالى قال: مِنْهُمَا تجوّزا.
والله الذي خلق وألهم صنع الجواري: وهي السفن، جمع جارية، الرافعات أشرعتها في الهواء كالجبال الشواهق ونحوها من المرتفعات من الظراب والآكام.
ولفظة الْمُنْشَآتُ تعم الكبير والصغير. وقوله كَالْأَعْلامِ هو الذي يقتضي الفرق بينهما هنا. وإنما قال: وَلَهُ الْجَوارِ خاصة، مع أن الله السماوات والأرض وما بينهما، لأن أموال الناس وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى، فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس؟ لقد خلقت لكم هذه النعم، أيمكنكم إنكار صناعة السفن الضخمة أو كيفية إجرائها في البحر، أو منافعها في تقريب المسافات، ونقل الحمولة وأنواع التجارة والصناعات، ليستفاد منها في بلاد أخرى.
ومما يؤكد كون هذه الأشياء من دلائل القدرة الإلهية: أن وجودها وزوالها بيد الله تعالى، فجميع من على الأرض من الناس والدواب، وجميع أهل السماوات إلا من شاء الله، سيتعرضون للفناء والموت، وتزول الحياة، ولا يبقى إلا الله سبحانه وتعالى، ذو العظمة والكبرياء، وصاحب الفضل والإكرام الذي يسبغ به على من يشاء من عباده، فبأي شيء من نعم الله هذه تكذبان أيها الجن والإنس؟! والضمير في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) عائد للأرض، ولم يتقدم لها ذكر لوضوح المعنى، كما قال تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 38/ 32] . والآية تشمل بالفناء جميع الموجودات الأرضية من حيوان وغيره. وغلّبت عبارة من يعقل في قوله
__________
(1) لأن الصدف وغيرها تفتح أجوافها للمطر.(3/2557)
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
تعالى: كُلُّ مَنْ. وقوله وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ الوجه: عبارة عن الذات، لأن العضو منفي عن الله تعالى، وهذا كما تقول: هذا وجه القول والأمر، أي حقيقته وذاته، وذُو الْجَلالِ صفة لفظة الوجه.
نعم الله وعجائبه يوم القيامة
النّعم الإلهية موصولة في الدنيا والآخرة، وفي كل نعمة تعجب من صنعها وتيسيرها للناس، وفيها دلالة واضحة على عظمة القدرة الإلهية، وكون كل شيء بخلق الله وإبداعه، حتى إن كل الاكتشافات والاختراعات المادية، وإن صدرت في الظاهر من الإنسان، فإنما هي بإلهام الله وإرشاده وتعليمه، وكذلك غزو الفضاء بالآلات والأقمار الصناعية وسفن الفضاء والصواريخ، إنما تم بتمكين الله وتعليمه.
وسيفاجأ الإنسان في الآخرة بغرائب الأحداث والظواهر الكونية خلافا للمألوف في الدنيا، كانشقاق السماء وتبدّلها، وتسيير الجبال وإزالتها، وتفرّد الله بالحساب والجزاء، وكون المسؤولية شخصية أو فردية، وتميّز المجرمين عمن سواهم، ومشاهدة جهنم المستعرة تغيّظا وإرهابا. قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 45]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)
يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) كل وقت يظهر شأن من قدرته التي سبقت في الأزل في ميقاته من الزمن، من إحياء وإماتة ورفع وخفض. والشأن: اسم جنس للأمور.
(2) سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة أيها الإنس والجن.
(3) بقوة وقهر، وذلك مستبعد.
(4) لهب خالص لا دخان فيه.(3/2558)
«1» «2» «3» [الرّحمن: 55/ 29- 45] .
المعنى: كل إنسان بحاجة إلى الله تعالى، فجميع من في السماوات والأرض يطلبون حوائجهم من الله تعالى، فلا يستغني عنه أهل السماء والأرض. والسائل الناطق يتكلم، وغير الناطق يعتمد على حاله، فحاله يقتضي السؤال. والله سبحانه يظهر في كل وقت أو زمن شأنا من شؤون قدرته الأزلية، من إحياء وإماتة، ورفع وخفض وغير ذلك من الأمور التي لا يعلم نهايتها إلا هو جلّ وعلا. والشأن: اسم جنس للأمور. فبأي نعم الله تكذبان معشر الجن والإنس، فإن اختلاف شؤونه في تدبير عباده: نعمة لا تجحد، ولا تكذّب.
وسنتجرّد لحسابكم وجزائكم على أعمالكم معشر الجن والإنسان، فبأي شيء من نعم الله تكذبان أيها الثقلان. وقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) : عبارة عن إتيان الوقت الذي قدّر فيه وقضى أن ينظر في أمر عباده، وذلك يوم القيامة.
وليس المعنى: أن هناك شغلا يفرغ منه، وإنما هي إشارة وعيد. والثّقلان: الجن والإنس، يقال لكل ما يعظم أمره: ثقيل.
أيها الجنّ والإنس، إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره، فاخرجوا منها، لا تقدرون على النفوذ من حكمه إلا بقوة وقهر، ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة، فلا يمكنكم الهرب.
__________
(1) مذابة كالدهن أو كالجلد الأحمر.
(2) علامتهم.
(3) ماء حار.(3/2559)
والمعشر: الجماعة العظيمة. والسلطان: القوة على تحقيق غرض الإنسان، أو الحجة.
والأقطار: الجهات. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن استطعتم بأذهانكم وفكركم أن تنفذوا فتعلموا علم أقطار السماوات والأرض. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان: الجن والإنس؟
ولو خرجتم من جوانب السماوات والأرض يسلط عليكم أيها الإنس والجن لهب النار الخالص، ويصبّ على رؤوسكم نحاس مذاب، فلا تقدرون على الامتناع من عذاب الله. وتثنية ضمير (عليكما) لبيان الإرسال في الجملة على النوعين من الإنس والجن، لا على كل واحد منهما، ولا على الجميع.
ومن أحوال الآخرة والجزاء: أنه إذا جاء يوم القيامة انصدعت السماء، وتبددت وصارت كوردة حمراء، وذابت مثل الدهن، أو بدت كالجلد الأحمر، والمراد أنها تذوب كما يذوب الزيت، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها. فبأي نعم الله تكذّبان أيها الإنس والجن؟ ففي الخبر بذلك رهبة ورعب.
ويوم تنشق السماء، لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجن عن ذنبه، لأنهم يعرفون بعلامتهم عند خروجهم من قبورهم، ولأن الله تعالى أحصى أعمالهم وحفظها عليهم. والآية تقتضي نفي السؤال. وهناك آيات أخرى تفيد إثبات السؤال مثل: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 15/ 92- 93] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن السؤال متى أثبت فهو بمعنى التقرير والتوبيخ، ومتى نفي فهو بمعنى الاستخبار المحض والاستعلام، لأن الله تبارك وتعالى عليم بكل شيء.
فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟ مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم. وسبب عدم السؤال أنه يعرف الكفار (المجرمون) والفجار يوم خروجهم من(3/2560)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
القبور بعلاماتهم، وهي كونهم سود الوجوه، زرق العيون، يعلوهم الحزن والكآبة، فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم مجموعا بينهما، وتضمّ الأقدام إلى النواصي. فبأي النّعم تكذبان؟ فقد أنذرتم وحذرتم سابقا.
ويقال لهم، أي للمجرمين يوم القيامة توبيخا وتقريعا: هذه نار جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها، التي كنتم تكذبون بوجودها، ها هي حاضرة أمامكم.
وإنهم يترددون بين نار جهنم وجمرها، وبين حميمها: وهو الماء المغلي في جهنم من مائع عذابها. والحميم: الماء الساخن. فبأي النّعم تكذبان بعد هذا البيان والاعلام السابق؟!
نعم مادية على المتقين في الآخرة
في مقابلة ألوان العذاب على الكفار في الآخرة في سورة الرّحمن، ذكر الله تعالى بعدها ألوان النعيم المادية من الطعام والشراب والفاكهة، والفرش والنساء الحوريات، ترغيبا في التقوى أو العمل الصالح، وتحذيرا من العصيان والمنكرات، فمن خاف ربّه انزجر عن معاصي الله، ومن آمن بالله المستحق للعبودية والطاعة لذاته، أقبل على ساحات الرّضوان الإلهي، وحقق لنفسه السعادة والطمأنينة والهناءة. وأنواع النعيم الأخروي هي ما يأتي في قوله تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 61]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
«1» «2» «3»
__________
(1) أغصان.
(2) صنفان.
(3) ما غلظ من الدّيباج. [.....](3/2561)
«1» «2» «3» «4» [الرّحمن: 55/ 46- 61] .
لمن خاف قيامه بين يدي ربّه للحساب، بالكفّ عن المعاصي والتزام الطاعات:
نعمتان كبريان: روحية ومادية، أما الروحانية: فهي رضا الله تعالى كما في قوله:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التّوبة: 9/ 72] . وأما المادية: فهي جنّتان تشتملان على متع الدنيا في الشكل، لكنها أسمى منها وأفضل، فهما جنّتان لا جنّة واحدة. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثّقلان؟ فإن نعم الجنان لا مثيل لها، فضلا عن دوامها. وهذا دليل على أن الجن المؤمنين يدخلون الجنة إذا اتّقوا معاصي ربّهم وخافوه.
وللجنتين الماديتين أغصان الأشجار وأنواع الثمار، فبأي نعم ربّكما أيها الإنس والجنّ تكذّبان؟
وقد نزلت آية: وَلِمَنْ خافَ فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه.
وفي كل من الجنتين عين جارية، لسقي الأشجار والأغصان، والاثمار من جميع الأنواع، فبأي نعم ربّكما معشر الجنّ والإنس تكذبان؟ فتلك حقيقة قاطعة، وواقع ملموس.
وفي هاتين الجنّتين من كل فاكهة صنفان، يستلذّ بكل واحد منهما، أحدهما:
__________
(1) المجتنى أو ثمر الجنّتين قريب التناول.
(2) لم يفتضهن أحد، مما يدل على أن الجن يفعلون ذلك.
(3) جواهر كريمة في صفائها وبياضها، والياقوت: حجر أملس صاف. والمرجان: الخرز الأحمر.
(4) في الثواب: وهو الجنة.(3/2562)
رطب، والآخر يابس، لا يتميز أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب، خلافا لثمار الدنيا، بل فيهما مما يعلم وخير مما يعلم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فبأي هذه النعم تكذبان أيها الإنس والجنّ؟ وهي نعم واقعية وثابتة.
ثم بعد الطعام ذكر الله الفراش، فهؤلاء الخائفون من عصيان الله يتنعمون على فرش بطائنها (وهي ما تحت الظهائر) من إستبرق (ما غلظ من الدّيباج) وثمر الجنّتين أو المجتنى قريب التناول. فبأي شيء من هذه النّعم يحصل التكذيب والإنكار؟! وكلمة مُتَّكِئِينَ إما حال من محذوف تقديره: يتنعمون متكئين، وإما من قوله تعالى:
وَلِمَنْ خافَ. والاتّكاء: جلسة المتنعّم المتمتّع.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: بطائنها من إستبرق، فما الظواهر؟ قال: ذاك مما قال الله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السّجدة: 32/ 17] وكذلك قال. والجنى: ما يجتنى من الثمار، ووصف بالدنوّ لأنه فيما روي في الحديث يتناوله الرجل على أي حالة كان، من قيام أو جلوس أو اضطجاع، لأنه يدنو إلى مشتهيه. ثم وصف الله الحور العين في الجنّتين، فقال:
فِيهِنَّ قاصِراتُ.. أي في الجنّتين الحور العين اللاتي قصرن ألحاظهن على أزواجهن، لم يفتضضهنّ قبلهم أحد من الإنس أو الجن. ويقال لدم الحيض ولدم الافتضاض: طمث، فإذا نفي الطمث فقد نفي القرب منهن على جهة الوطء.
والضمير في قوله: فِيهِنَّ عائد للجنات، إذ الجنّتان جنات في المعنى. فبأي النّعم تكذبان أيها الثّقلان؟! ومعنى قوله: وَلا جَانٌّ يحتمل أن يكون اللفظ مبالغة وتأكيدا، كأنه تعالى قال: لم يطمثهن شيء. ويحتمل أن الجن قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج الله تعالى، فنفى في هذه الآية جميع المجامعات.(3/2563)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)
ثم وصف الله نساء الحور بكأنهن الياقوت صفاء، والمرجان بياضا أو حمرة، فبأي شيء من نعم الله تعالى تكذبان أيها الإنس والجن؟
ثم بيّن الله سبب هذا الثواب، بقوله: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ.. أي ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، فبأي شيء من نعم الله تكذبان معشر الجن والإنس؟ وهذه آية وعد وبشرى لنفوس جميع المؤمنين، لأنها عامة.
نعم أخرى على المتقين في الآخرة
تابع الله تعالى في سورة الرّحمن سرد أوصاف النعيم المادية للمتقين الخائفين من معاصي الله، المقدمة لهم يوم القيامة، ففي الآيات السابقة بيّن الحق تعالى أن ثواب الخائفين جنّتان. وفي هذه الآيات ضمّ إليهما جنّتان أخريان لمن كان دون المتّقين في الرتبة والفضيلة، ولكنهما خضراوان، وفوّارتان بالماء، ومشتملتان على أنواع الفاكهة اللذيذة، والخيرات الحسان وهي أفضل النساء، وهن عذارى، وأهل هاتين الجنتين متكئون على وسائد مخضرة وبارعة الحسن والجمال، وكل ذلك من الله تعالى المتّصف بالعظمة والجلال، المتنزه عن كل ما لا يليق به، ومصدر هذا الإنعام والفضل على عباده، كما تصوّر لنا هذه الآيات:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
«1» «2» «3»
__________
(1) شديدتا الخضرة من كثرة الرّي والعناية.
(2) فوّارتان بالماء.
(3) نساء بيض ذات أعين، شديدة بياض العين مع شدة سوادها، محبوسات ومستورات في الخيام.(3/2564)
«1» «2» «3» [الرّحمن: 55/ 62- 78] .
ومن دون الجنّتين المتقدمتين في بيان سورة الرّحمن في المنزلة والقدر: جنّتان أخريان. والجنّتان الأوليان: جنّتا السابقين، والأخريان جنّتا أصحاب اليمين. فبأي شيء من النّعم الإلهية تكذّبان أيها الإنس والجنّ؟
والجنّتان شديدتا الخضرة، من شدة الرّي المائي. فبأي نعم الله تكذبان معشر الجن والإنس؟
وفي الجنّتين عينان فيّاضتان فوّارتان بالماء العذب، فهناك جنّتان تجريان بالأنهر، وجنّتان فوّارتان، والجري أقوى من النّضخ. فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟
وفي هاتين الجنّتين نساء جميلات، خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه، فبأي نعم الله تكذبان أيها الجن والإنس؟! وهؤلاء النساء الخيرات، حور شديدات البياض، واسعات الأعين، مع شدة السواد وشدة البياض وصفائه، مخدرات محجّبات مستورات في خيام الجنّة، المكونة من الدّر المجوفة. والخيام: البيوت من الخشب، لا يتبذلن في شارع ولا سوق، ولا يخرجن لبيع أو شراء، وهنّ مقصورات على أزواجهن، لا ينظرن إلى رجال غيرهن.
وهذه هي المرأة المحببة للرجال، خلافا لأذواق المنحلّين اليوم.
ولم يمسّهن ولم يجامعهن قبل ذلك أحد من الإنس والجن، توفيرا للمتّقين الخائفين ربّهم، فبأي نعم الله تكذبان؟
__________
(1) لم يفتض بكارتهن.
(2) وسائد أو ملاءات (شراشف) على ظهور الأسرّة.
(3) بسط منقوشة.(3/2565)
وهؤلاء الأتقياء البررة متكئون على وسائد خضراء، وبسط منقوشة بديعة، فاخرة الصنع، فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟! ويلاحظ أن أثاث الجنّتين الأوليين أرفع من هذه الصفة، فإنه تعالى قال فيهما هناك: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فبأي شيء من هذه النّعم تكذّبان معشر الجنّ والإنس؟! وختمت الصفات المتقدمة في الجنّتين الأوليين ببيان سببها وهو: أن استحقاق هذا الفضل والإحسان جزاء الإحسان المتقدم في الدنيا.
وهنا ختمت هذه الصفات والسورة كلها بالإقرار بمصدر هذا الفضل، وهو الله تعالى الذي تنزه عن كل ما لا يليق به، فهو المتفرّد بصفات العزّة والعظمة، وإكرام عباده المخلصين، وهو أحقّ بالعبادة والإجلال فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى. وهذه الخاتمة تدلّ على بقاء أهل الجنة ذاكرين اسم الله، منزهين له، مستمتعين به. وأما أوصاف نعيم الدنيا فختمت بما يشير إلى فناء كل شيء من الممكنات يوم القيامة مع بقاء الله: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) .
وفي الجملة: هناك لأهل التقوى أربع جنان ذات منازل مختلفة، اثنتان منهما للمقرّبين السابقين، واثنتان دونهما في المكانة والمنزلة لأصحاب اليمين. والفروق واضحة بين كل من النوعين، وذلك دليل على إقامة صرح العدالة في الثواب والتكريم، فلا يستوي كل فريق مع الآخر، مع تفاوتهما في العمل الصالح، وممارسة كل مظاهر التقوى، وأعمال البر في الدنيا، مما يؤهل كل فريق لما أعدّه الله له من الإحسان والنّعم الموافية لعمله.(3/2566)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)
تفسير سورة الواقعة
قيام القيامة وانقسام الناس فريقين أو ثلاثة
تحدّثت سورة القيامة على خبر إثبات وقوعها، وكون ذلك ذلك الخبر حقيقة ثابتة واقعة، وعلى كون الناس فيها بحسب حظوظهم وأعمالهم فريقين: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، ومن الفريق الأول فئة السابقين وهم الأنبياء المقربون عند ربّهم في جنات النعيم، فيصير الناس ثلاثة أصناف، لكل صنف مكان عند الله، فالسابقون وهم الأنبياء والرّسل والصّديقون والشهداء وأمثالهم: في منزلة خاصة هي أعلى المنازل، وأصحاب الميمنة: في منزلة أدنى في الجنة، وأصحاب الشمال وهم الكفار في نيران الجحيم، وهذا ما نجده صريحا في الآيات الآتية في مطلع سورة الواقعة المكّية بإجماع من يعتدّ بقوله من المفسرين:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الواقعة: 56/ 1- 12] .
إذا حدثت القيامة، والواقعة اسم من أسماء القيامة، كالصّاخّة والآزفة والطّامّة.
__________
(1) إذا حدثت القيامة.
(2) حرّكت تحريكا شديدا.
(3) فتّتت.
(4) متفرقا. [.....]
(5) أصنافا ثلاثة.
(6) أهل اليمين أصحاب الجنّة.
(7) أهل الشّمال أهل النار.
(8) الأنبياء ونحوهم السابقون إلى الخير في الدنيا.(3/2567)
وهذه كلها أسماء تقتضي تعظيمها وتشنيع أمرها، ليس لوقوعها صارف ولا دافع، ولا بد من أن تكون، وليس لها تكذيب ولا رد. وكلمة كاذِبَةٌ إما مصدر كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين، أي ليس لها تكذيب ولا ردّ، وهذا قول قتادة والحسن، وإما أن تكون صفة لمقدّر، كأنه تعالى قال: ليس لوقعتها حال كاذبة.
- وهي خافضة أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، فتجعلهم في الجحيم، وهم الكفرة والفسقة، ورافعة أقواما كانوا في الدنيا مغمورين، فتجعلهم في الجنة، وهم المؤمنون. فقوله: خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) خبر لمبتدأ، أي هي خافضة رافعة.
- إذا زلزلت وحرّكت الأرض بعنف تحريكا شديدا، حتى ينهدم كل ما عليها من بناء وجبال.
- وفتّتت الجبال فتّا، وصارت غبارا متفرّقا منتشرا أو شائعا في الهواء، كالهباء «1» الذي يطير في النار. وهذا يدلّ على دكّ الجبال وزوالها عن أماكنها يوم القيامة.
- وأصبحتم يوم القيامة من قسمين إلى ثلاثة أصناف: أهل اليمين أصحاب الجنة، وأهل الشمال أهل النار، والسابقون إلى الإيمان هم السابقون إلى الجنة والرحمة، وهم الأنبياء والرّسل والصّديقون والشهداء.
فأصحاب اليمين: هم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذون إلى الجنة، فما أحسن حالهم وصفتهم وأكمل سعادتهم! وقوله: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم. وقوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مبتدأ، والفاء تدلّ على التفسير، وقوله: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما: مبتدأ ثان، وأصحاب الميمنة: خبر: ما، والجملة خبر المبتدأ الأول.
__________
(1) الهباء: ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة، ولا يكاد يرى إلا في الشمس الداخلة من نافذة.(3/2568)
وأصحاب الشمال: هم الذين يتناولون كتبهم بشمائلهم، ويساقون إلى النار، فما أسوأ حالهم وأتعسهم!! والسابقون من كل أمة إلى الإيمان والطاعة والجهاد وأعمال البر، وهم: الأنبياء والرّسل عليهم السّلام، والشهداء والصّديقون، والقضاة العدول، ونحوهم، إنهم السابقون إلى الجنة والرحمة، وهم المقرّبون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته والمقرّبون من الله تعالى في جنّة عدن، والمقيمون إلى الأبد في جنات النعيم.
وقوله: أُولئِكَ تدلّ على علو مكانتهم. وقوله: وَالسَّابِقُونَ مبتدأ، ووَ السَّابِقُونَ الثاني خبر على مذهب سيبويه، وجملة أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) مبتدأ وخبر، استئناف بياني. وقال بعض النّحويين: وَالسَّابِقُونَ الثاني: نعت للأول، وجملة أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) على هذا القول: في موضع الخبر.
وهذه الآية تتضمن أن العالم يوم القيامة ثلاثة أصناف: مؤمنون هم على يمين العرش، وهنالك الجنة، وكافرون وهم على شمال العرش، وهنالك النار. والسابقون إلى الإيمان والطاعة وهم عند الله تعالى في جنة عدن، أو في الفردوس أعلى الجنان وهي أعلى منازل البشر في الآخرة. ذكر الله تعالى أصحاب الميمنة متعجبا منهم في سعادتهم، وأصحاب المشأمة متعجبا منهم في شقاوتهم، ثم ذكر السابقين مثبتا حالهم، فأخبر أنهم نهاية في العظمة والسعادة.
والقول في يمين العرش وشماله أمر تقديري، كالقول في يمين الكهف وشماله في آية:
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ [الكهف: 18/ 17] بأن تقدر باب الكهف بمثابة وجه إنسان، فإن الشمس تجيء منه أول النهار عن يمين، وآخره عن شمال.
والسابقون: هم الذين سبقت لهم السعادة، وكانت أعمالهم في الدنيا سبقا إلى(3/2569)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)
أعمال البر وإلى ترك المعاصي.
أخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها، عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله يوم القيامة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوا بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» .
نعيم السابقين المقرّبين
السابقون السابقون: هم الذين سبقوا في الدنيا إلى أعمال البر وإلى ترك المعاصي، وهم المقرّبون عند الله في أعلى منازل البشر في الآخرة، كما تقدم، وهؤلاء الصفوة المتميزة العليا من أهل الجنة، ومن مختلف الأمم إلى يوم القيامة، يتمتعون بأكمل أنواع النعيم المادي والمعنوي في الآخرة، وقد ذكر الله تعالى ألوان نعيمهم في الآيات الآتية من سورة الواقعة:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 26]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22)
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الواقعة: 56/ 13- 26] .
السابقون المقرّبون: جماعة كثيرة لا يحصى عددهم، من الأمم، وهم من الأولين
__________
(1) الثّلة: الجماعة والفرقة.
(2) منسوجة بإحكام.
(3) غلمان باقون على حالتهم لا يهرمون.
(4) الأكواب: الآنية التي لا مقبض لها ولا خرطوم، والأباريق: الأواني التي لها مقبض وخراطيم.
والكأس: إناء الخمر فإن خلا من الخمر فهو قدح. والمعين: نهر جار لا ينقطع.
(5) لا يحصل لهم صداع ولا تذهب عقولهم.
(6) واسعات الأعين حسانها.
(7) المستور.
(8) ما يؤثم.(3/2570)
أكثر من الآخرين الذين عبّر عنهم بالقليل، والأولون: هم في رأي مكي وغيره الأنبياء الذين كانوا في صدر الدنيا أكثر عددا. أو هم في رأي الحسن وغيره السابقون من الأمم، والسابقون من هذه الأمة (أتباع النّبي صلّى الله عليه وسلّم) .
أخرج أحمد وابن المنذر، وابن أبي حاتم بسند فيه من لا يعرف عن أبي هريرة قال: لما نزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) شقّ ذلك على المسلمين، فنزلت: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) .
ولا أرى تعارضا بين هذه الآيات، فهي في السابقين المقرّبين، وآية: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) فهي في أصحاب اليمين.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها تأوّلت أن الفريقين في أمة كل نبي: هي في الصّدر ثلة، وفي آخر الأمة قليل.
وروى سفيان الثوري عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «الثّلّتان جميعا من أمّتي» .
وحال هؤلاء المقرّبين: هم في الجنة متكئون على أسرّة منسوجة بخيوط الذهب، مشبكة بالدّر والياقوت والزّبرجد، في حال التقابل، لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وهم في حبور وسرور، وصفاء واطمئنان.
- يدور عليهم للخدمة غلمان باقون على صفة واحدة، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا يبعد أن يكونوا كالحور العين مخلوقين في الجنة، للقيام بهذه الخدمة.
- يطوفون على أهل الجنة السابقين بأكواب لا عرى لها ولا خراطيم، وبأباريق لها العرى والخراطيم، وبكؤوس مترعة من خمر الجنة الجارية من الينابيع والعيون، ولا تعصر عصرا كخمر الدنيا، فهي صافية نقية من الكحول المسكر، لا تتصدّع رؤوسهم من شربها، ولا يسكرون منها، فتذهب عقولهم.(3/2571)
- ومعهم ما يختارونه من ثمار الفاكهة، وأنواع لحوم الطيور التي يشتهونها، مما لذّ وطاب، ومن المعلوم أن لحوم الطيور أيسر هضما وأعذب طعما.
- ولهم نساء حوريات بيض، مع شدة سواد العين، وشدة بياضها، واسعات الأعين حسانها، كأنواع اللآلى والدّرر المستورة التي لم تمسها الأيدي صفاء وبهجة، وبياضا ومتعة، وجمالا من أحسن الألوان، يفعل بهم ذلك كله، مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.
- وفي الجنة لا يسمعون كلاما لاغيا لا معنى له، واللغو: الفاحش من القول، ولا كلاما فيه ما يوقع في الإثم من سبّ أو شتم أو ساقط الكلام. ولكن يسمعون أطيب الكلام، ويتبادلون فيما بينهم التحية وأكرم السّلام، كما في آية أخرى:
تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [إبراهيم: 14/ 23] . والمراد أن هذا النعيم ليس مصحوبا بألم، كنعيم الدنيا، وإنما هو خال من الكدر والهمّ، واللغو، والقبح. وحكمة تأخير بيان ذلك عن ذكر الجزاء، مع أنه من النّعم العظيمة: أنه من أتم النّعم، فجعله المولى من باب الزيادة والتمييز، لأنه نعمة اجتماعية تدلّ على نظافة أو طهر الوسط الاجتماعي، بعد تبيان النّعم الشخصية.
وقوله تعالى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ دليل على أن هذه الرّتب والنّعم هي بحسب أعمالهم، لأنه روي أن المنازل والقسم في الجنة هي مقسّمة على قدر الأعمال. وأما دخول الجنة نفسه: فهو برحمة الله تبارك وتعالى وفضله، لا بعمل عامل، كما جاء في حديث صحيح،
أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه والدارمي وأحمد، ولفظ البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن ينجّي أحدا منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله(3/2572)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)
برحمته، سدّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدّلجة «1» ، والقصد القصد تبلغوا «2» » .
وفي البخاري أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سدّدوا وقاربوا واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله، وإن قلّ» .
جزاء أصحاب اليمين
ذكر الله تعالى ألوان النعيم للسابقين المقرّبين عند الله يوم القيامة، ثم أتبعه ببيان أصناف النعيم لأصحاب اليمين، من الفاكهة الكثيرة، والظلال، والمياه، والأنهار الجارية، والفرش المرفوعة، والحور العين العذارى في عمر واحد أو متساويات السّن: أتراب، ومحبّبات إلى أزواجهن، وهذا أنموذج إغرائي لمن اهتم بالماديات، قياسا على أحوال الدنيا التي قد تفتقد فيها هذه الأشياء لكثير من الناس، فيجدون الحلم والعوض محقّقا في الآخرة، وهذا ما نصّت عليه الآتية التالية:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
«3» «4» «5» «6» «7» [الواقعة: 56/ 27- 40] .
__________
(1) الدلجة: هو سير الليل، وهو توجيه للمسافرين في السفر. [.....]
(2) أي عليكم بالقصد من الأمور في القول والفعل: وهو الوسط بين الطرفين، وهو منصوب على المصدر المؤكد.
(3) السّدر: شجر النّبق، والواحدة سدرة، وهو شجر ذو أوراق وأغصان كثيرة، لكن له شوك. والمخضود: مقطوع الشوك.
(4) الطّلح: شجر الموز، ومنضود: متراكب الثمر.
(5) جار دائم.
(6) العرب: النساء المتحبّبات إلى أزواجهن. والأتراب:
متساويات السّن.
(7) جماعة أو طائفة.(3/2573)
أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في البعث عن عطاء ومجاهد قالا: لما سأل أهل الطائف الوادي يحمى لهم، وفيه عسل، ففعل، وهو واد معجب، فسمعوا الناس يقولون: في الجنة كذا وكذا، قالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فأنزل الله: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) الآيات. وهم أصحاب المرتبة المتوسطة، ومنهم عصاة المؤمنين بعد مجازاتهم على معصيتهم أو العفو عنهم.
المعنى: عطف الله تعالى في بيانه على بيان جزاء السابقين المقرّبين: ما أعدّه لأصحاب اليمين الأبرار، الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، فإن منزلتهم دون المقرّبين، ولكن في درجة عالية في الجنة، فهم أصحاب الميمنة، وما أدراك ما هم، وأي شيء هم، وما حالهم ومآلهم؟! وهذا يشير إلى التفخيم والانتباه للتعرّف على حالهم، فجاء البيان المفصل لما أبهم من حالهم، فقال الله تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) أي يتمتعون في جنات فيها شجر يشبه شجر السّدر: وهو من العضاة له شوك، وأما سدر الجنة فهو على خلقة سدر الدنيا، له ثمر كقلال هجر، طيب الطعم والريح، ووصفه تعالى بأنه مخضود، أي مقطوع الشوك الذي لا أذى فيه.
ولهم أيضا مثل الطّلح: وهو كذلك من العضاء شجر عظيم كثير الشّوك، ولكن طلح الجنة على صفات كثيرة مباينة لحال الدنيا، ومنضود معناه: مركب ثمره، بعضه على بعض من أرضه إلى أعلاه.
أخرج البيهقي عن مجاهد قال: كانوا يعجبون بوج (واد مخصب بالطائف) وظلاله وطلحة وسدره، فأنزل الله: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وهم في ظلال وارفة دائمة الظّل، وحولهم ماء جار لا ينقطع، ويتناولون من أنواع(3/2574)
الفاكهة الكثيرة ما شاؤوا، فهي لا تنقطع أبدا في وقت من الأوقات، كما تنقطع فواكه الدنيا أحيانا، ولا تمنع عمن أرادها في أي وقت، على أي صفة، أعدت لمن أرادها.
ويجلسون وينامون على فرش مرفوعة على الأسرّة، وذات رفعة، والفرش:
الأسرّة، جمع فراش: وهو ما يفترش للجلوس عليه أو النوم عليه، وقال أبو عبيدة وغيره: أراد بالفرش النّساء. والمرفوعة: معناه المرتفعة الأقدار والمنازل. ثم أشار الله تعالى إلى نساء أهل الجنة، والضمير في رأي قتادة عائد على الحور العين المذكورات قبل، أو إلى الفرش المرفوعة، أي النساء في رأي أبي عبيدة معمر، وإن لم يتقدم لهن ذكر، لدلالة المعنى على المقصد، كقوله تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 38/ 32] .
وهؤلاء النّساء يتجدد خلقهن، فقال الله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) أي خلقناهنّ شيئا بعد شيء، وأوجدناهنّ خلقا جديدا، من غير توالد، وجعلناهن بكارى عذارى لم يفتضهن قبلهم إنس ولا جان. وكلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا، من غير وجع، كما
في حديث رواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا» .
وهنّ عرب أتراب، أي متحبّبات إلى أزواجهن، عشقا لهم، من غير سابق معرفة، ومتساويات السّن والشكل والقدّ، حتى يقول الرائي: هم أتراب.
وأصحاب اليمين: هم سالف الأمم، جماعة عظيمة من الأولين، وهم مؤمنو الأمم الماضية، وجماعة من الآخرين، وهم مؤمنو هذه الأمة، أتباع النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة. ويرى ابن عطية رحمه الله: بل جميعهم من هذه الأمة، إلا من كان من السابقين. ورأى آخرون الفرقتين في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فالتابعون بإحسان، ونحوهم هم الثّلة الأولى، وسائر الأمة ثلة أخرى في آخر الزمان.(3/2575)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)
وذكر أبو حيان في البحر المحيط أنه لا تنافي بين قوله تعالى: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وقوله قبل: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) لأن قوله: مِنَ الْآخِرِينَ هو من السابقين، وقوله: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) هو في أصحاب اليمين.
ومردّ كل ذلك إلى الله تعالى، وتعرف الجماعات بمدى إيمانها وعملها الصالح، سواء أكانوا من الماضين أم من اللاحقين، إقامة للعدل بين الجميع.
جزاء أصحاب الشّمال
اصطلاح الشمال دائما يدلّ على مواجهة تعبير اليمين، الأول يدلّ على الانحراف ومعارضة الفطرة، والثاني يدلّ على الاستقامة والطاعة لله تعالى. وأهل اليمين يتمتعون بألوان النعيم الأخروي، المادّي والمعنوي، النفسي والاجتماعي، وأهل الشمال يتعرضون لمختلف أنواع العذاب الأخروي، بالسّحق والإحراق، وتجدّد العذاب على الدوام، شرابهم صديد أهل النار، والماء الشديد الغليان، وطعامهم شجر الزّقوم الشديد المرار، الذي تعاف مثله الإبل في الدنيا، مع التقريع، والإهانة، والإذلال، والسخرية، كما تصور هذه الآيات:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
«1» «2» «3» «4» «5»
__________
(1) السّموم: ريح شديدة الحرارة. والحميم: الماء الشديد الحرارة.
(2) دخان شديد السواد.
(3) لا بارد كغيره، ولا هو نافع يدفع أذى الحر.
(4) متنعّمين بالحرام.
(5) أي يفعلون ما يوجب الذنب العظيم وهو الشّرك.(3/2576)
«1» «2» «3» [الواقعة: 56/ 41- 56] .
هذا بيان جزاء أصحاب الشمال وبيان سببه الموجب له، أصحاب الشمال، وما أدراك ما هم؟ وأي شيء هم فيه، وأي صفة لهم حال تعذيبهم في الآخرة؟ وهذا فيه معنى اللوم وتعظيم المصاب. هم في ريح يابسة، لا بلل معها، شديدة الحرارة، ويشربون الماء المغلي، ويتظلّلون بدخان جهنم الشديد السواد، ليس باردا كالظلال الباردة عادة، ولا حسن المنظر ولا نافعا، وكل ما ليس فيه خير، فهو ليس بكريم، أي ليس للظلال صفة مدح، فهو سيّئ الصفة، وهم فيه مهانون.
وأصحاب الشمال: مبتدأ، وقوله: ما أَصْحابُ الشِّمالِ مبتدأ وخبر، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول.
وأسباب هذا العذاب ثلاثة أشياء:
أنهم كانوا في الدنيا مترفين، أي يتنعمون في سرف وتخوض، وكانوا يصرّون على الذنب العظيم، وهو الشّرك والوثنية، وكانوا ينكرون البعث، فيقولون: كيف نبعث بعد الموت، وبعد الصيرورة ترابا وعظاما بالية أو نخرة؟
والمترف: المنعم في سرف وخوض في الباطل. ويصرّون: معناه يعتقدون اعتقادا لا ينوون عنه إقلاعا. والحنث: الإثم، ومنه حديث البخاري ومسلم وابن ماجه والنّسائي وأحمد: «ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا كانوا لهما حصنا حصينا من النار» «4» . أي لم يبلغوا الحلم الذي يتعلق به السؤال عن الآثام.
__________
(1) شجر في غاية المرار، كريه الطعم والشكل.
(2) الماء المغلي.
(3) الإبل العطاش. [.....]
(4) فقيل: يا رسول(3/2577)
والمراد بالإثم: هو الشّرك، وهذا هو الظاهر. وقوله: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ العامل فيه:
فعل مضمر، تقديره: أنبعث أو أنحشر؟ ولا يعمل فيه ما بعده، لأنه مضاف إليه.
فردّ الله تعالى على إنكارهم الآخرة، فقال: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) أي قل لهم أيها الرسول: إن المتقدّمين من الأمم والعالم كله محشورون مبعوثون ليوم معلوم مؤقت. والميقات: مفعال من الوقت، كميعاد من الوعد.
ثم خاطب الله كفار قريش ومن كان على حالهم بقوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) أي إنكم معشر الضّالّين عن الحق، الذين أنكرتم وجود الله وتوحيده، وكذّبتم رسله، ستأكلون في الآخرة من شجر الزقوم الذي هو شجر كريه المنظر والطعم، حتى تملؤوا بطونكم، لشدة الجوع. ثم إنكم سوف تشربون على الزّقوم عقب أكله، من الماء الحار، لشدة العطش، ويكون شرابكم منه كشرب الإبل العطاش، التي لا تروى لداء يصيبها، حتى تموت. والهيم: الإبل العطاش الظّماء.
وشرب بضم الشين: إما مصدر، أي كالشرب الحاصل من الإبل، وإما إنه اسم لما يشرب، أي شراب الإبل.
وهذا الذي وصفنا من المأكول والمشروب، من شجر الزقوم، وشراب الحميم هو- على سبيل السخرية والاستهزاء- ضيافتهم عند ربّهم يوم حسابهم، وهو الذي يعدّ لهم ويأكلونه يوم القيامة ساعة قدومهم. والنّزل: أول ما يأكل الضيف. ويوم الدين: يوم الجزاء. وهذا خلافا لجزاء أهل الإيمان، كما جاء في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) [الكهف: 18/ 107] أي ضيافة وكرامة.
__________
الله، فإن كانا اثنين! قال: وإن كانا اثنين، فقال أبي بن كعب سيّد القرّاء رضي الله عنه: لم أقدم إلا واحدا، قال: فقيل له: وإن كان واحدا، فقال: ((إنما ذاك عند الصّدمة الأولى)) .(3/2578)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)
إن سوء هذا المصير لأهل الشّمال وهم الكفرة الظالمون واضح السبب: وهو انهماكهم في شهوات الدنيا، وشركهم، وإنكارهم البعث أو اليوم الآخر، وهذا الإنكار مصدر كل شرّ، لأن من آمن بالحساب، خافه، ومن كفر بالحساب اقتحم المهالك من غير تقدير العواقب الوخيمة.
من أدلة إثبات القدرة الإلهية على البعث
كلما وصف الله تعالى إنكار المشركين للبعث، أعقبه بإيراد الأدلة الكافية على القدرة الإلهية الخارقة الكافية على تحقيق هذا الأمر، من واقع الناس وأحوالهم التي تحيط بهم، من خلقهم ورزقهم والإنعام عليهم، وخلق السماوات والأرض، وإحياء الأرض بالنباتات. والبعث ما هو إلا إعادة خلق هيّن على الله تعالى الذي لا يعجزه شيء صغير أو كبير في الأرض ولا في السماوات، فمن لاحظ كل هذا سهل عليه إدراك كيفية البعث الداخل تحت الأمر التكويني السريع: (كن فيكون) . وهذه بعض أدلة القدرة الإلهية في الآيات الآتية:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7»
__________
(1) الإمناء: إنزال المني.
(2) لا يسبقنا أحد أو لا يغلبنا أحد.
(3) علمتم الخلقة الأولى.
(4) هشيما متكسّرا.
(5) بقيتم تتعجبون من سوء حاله.
(6) واقعون في الغرم: وهو خسارة النفقة وذهاب الزرع.
(7) ممنوعون رزقنا.(3/2579)
«1» «2» «3» «4» [الواقعة: 56/ 57- 74] .
هذه أدلة واقعية محسوسة على قدرة الله تعالى، فلقد ابتدأنا خلقكم أول مرة، بعد العدم، فهلا تصدقون بذلك تصديقا مقرونا بالطاعة والعمل الصالح، وتقرون بأن من قدر على الخلق، قادر على الإعادة بطريق الأولى؟
أخبروني عما تقذفون من المني في الأرحام، أأنتم تخلقونه بشرا سويّا، أم نحن الخالقون الموجدون له؟! وهذا حضّ على التصديق على وجه التقريع. فلا يخفى على أحد ما يوجد في المني من عمل وإرادة وقدرة.
نحن قسمنا الموت بينكم ووقّتناه لكل فرد منكم، فمنكم من يموت كبيرا، ومنكم من يموت صغيرا، والكل سواء في الموت، وما نحن بمسبوقين يسبقنا أحد على أن نبدّل بكم غيركم، فتموت طائفة ونبدّلها بطائفة، وهكذا قرنا بعد قرن، وننشئكم بأوصاف لا يصلها علمكم، ولا تحيط بها أفكاركم. وهذا وعيد يستوجب العظة والعبرة. وهو دليل على كذب المكذبين بالبعث، وتصديق الرّسل في الحشر.
ودليل آخر: أنه قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم على مراحل وأطوار، من نطفة، فعلقة، فمضغة، فهيكل عظمي، فإكساؤكم باللحم، وجعل لكم السمع والبصر والفؤاد، فهلا تتذكرون قدرة الله تعالى على النشأة الأخرى، وتقيسونها على النشأة الأولى؟! وهذه الآية نص في استعمال القياس والحضّ عليه.
__________
(1) السحب، جمع مزنة: سحابة.
(2) ملحا لا يشرب.
(3) تقدحون نارها.
(4) المسافرين.(3/2580)
ودليل آخر: أخبروني عما تحرثون من الأرض، وتطرحون فيه البذر، هل أنتم أوجدتموه زرعا ونباتا كاملا فيه السنبل والحب، بل نحن الذين ننبته في الأرض ونصيّره زرعا تامّا؟ بل أنت يا ربّ.
لو أردنا أن نجعل هذا الزرع يابسا أو هشيما متكسّرا لفعلنا، فصرتم تتعجبون من سوء حاله وما نزل به، قائلين: إننا لخاسرون مغرمون. والمغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض، أو إننا لهالكون هلاك أرزاقنا.
وبعد المأكول يكون المشروب، أخبروني أيها الناس عن الماء العذب الذي تشربونه لإطفاء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون بقدرتنا دون غيرنا، فكيف لا تصدقون بالبعث بعد هذا الإيجاد؟! لو أردنا أن نجعل هذا الماء ملحا لا يصلح للشرب ولا للزرع، لفعلنا، فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم هذا الماء عذبا فراتا زلالا، تشربون منه، وتنتفعون به؟! ثم ذكر النار أداة الطّهي والإنضاج، فهل رأيتم النار التي تستخرجونها بالقدح من الزناد، أأنتم أنشأتم شجرتها التي تقدحون منها النار، أم نحن المنشئون لها بقدرتنا دونكم؟
نحن جعلناه هذه النار تذكرة لكم بحرّ نار جهنم الكبرى، ليتّعظ بها المؤمن، وينتفع بها المقوون، أي المسافرون الضاربون في البوادي، والأراضي القفر. فنزّه الله تعالى القادر على خلق هذه الأشياء أيها النّبي وكل مخاطب بالقرآن، حيث أوجد هذه الأشياء المختلفة المتضادة، من إيجاد عنصر الرطوبة بالماء، وعنصر الحرارة بالنار، ومادة الملوحة في البحار والمحيطات.
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، فقالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافية؟ فقال: إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» .(3/2581)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
إثبات النّبوة والوحي القرآني
أقسم الله تعالى بمساقط أو مواقع النجوم على أن القرآن كتاب كريم، مصون في كتاب محفوظ، وهو اللوح المحفوظ، منزل تنزيلا من ربّ العالمين، والشّك فيه شكّ ساقط لا قرار له. لذا وبّخ الله تعالى المشركين على عقيدتهم الباطلة بإنكار توحيد الله وتكذيب رسوله، وإنكار المعاد. ثم ذكر الله تعالى أحوال الأصناف الثلاثة الذين بدئت بهم سورة الواقعة، وهم السابقون المقرّبون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وجزاء كل فريق يوم القيامة، وهذا هو الحق الثابت الذي لا شك فيه، فيقتضي التوجّه للآخرة وتنزيه الله عن كل نقص، كما تقرر هذه الآيات:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 96]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [الواقعة: 56/ 75- 96] .
أخرج مسلم عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة وضعها
__________
(1) مساقطها للغروب. [.....]
(2) محفوظ مصون.
(3) خطاب للكفار، والمراد يلاين بعضكم بعضا ويتبعه في الكفر.
(4) مجرى الطعام.
(5) أي غير محاسبين ومجزيين.
(6) فالنّزل المعدّ ساعة القدوم ماء شديد الحرارة، واصطلاء بنار جهنم.
(7) إن المذكور في هذه السورة هو.(3/2582)
الله،
وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، فنزلت هذه الآيات: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) حتى بلغ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) .
أقسم الله تعالى بمواقع النّجوم تعظيما لشأن القرآن أنه تنزيل من ربّ العالمين، ومواقع النجوم: مساقطها عند الغروب. وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك.
والضمير يرجع إلى القسم المفهوم، من الكلام المتقدّم. والمقسم عليه هو أن هذا القرآن الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لكتاب كثير المنافع والفوائد، لما فيه من: العلم والهدى والحكمة والإرشاد إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وجاء القسم هكذا: فَلا أُقْسِمُ بالنّفي، والمراد: أقسم، لأن العرب تزيد (لا) قبل فعل (أقسم) كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه، فيفيد التأكيد، أي كأنه تعالى يقول: فلا صحة لما يقوله الكفار. فتكون (لا) نافية، في رأي بعض النحويين، وقال بعضهم: هي زائدة، والمعنى: فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع أمر معروف. وقال آخرون: هي مؤكدة، تعطي في القسم مبالغة، وهي كاستفتاح كلام، مثل: (فلا وأبي، أي فو أبي) .
وبعد أن وصف الله القرآن بأنه كريم، أي كثير المنافع، وصفه بثلاث صفات أخرى وهي: أنه محفوظ في اللوح المحفوظ، لا يطّلع عليه إلا الملائكة المقرّبون وهم الكروبيون. ولا يمسّه في السماء إلا الملائكة الأطهار، وكذلك لا يمسّه في الدنيا إلا المطهّرون من الحدثين الأصغر والأكبر، وهو منزّل تنزيلا متدرّجا من الله تعالى، فليس هو بسحر ولا كهانة ولا شعر ولا قول بشر، بل هو الحق الثابت الذي لا مرية فيه.
وقال جماهير العلماء: لا يمسّ المصحف من بني آدم إلا الطاهر من الكفر والجنابة والحدث الأصغر،
وفي كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن حزم- الذي أخرجه عبد الرزاق وأبي داود وابن المنذر، عن عبد الله بن أبي بكر- «ولا يمسّ القرآن إلا طاهر» .(3/2583)
ثم وبّخ الله تعالى الكفار المتهاونين في شأن القرآن، فقال: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ.. أي أبهذا القرآن الموصوف بالصفات الأربع السابقة أنتم متهاونون، يلاين بعضكم بعضا، ويتبعه في الكفر؟ وتجعلون شكر رزقكم من السماء: وهو المطر، أو من الأرض: وهو الزرع أنكم تكذبون بنعمة الله وبالبعث وبما دلّ عليه القرآن، فتضعون التكذيب موضع الشكر؟ وهذا توبيخ للقائلين في المطر: هذا بنوء كذا وكذا، كالأسد والجوزاء وغير ذلك.
وتوبيخ آخر للمشركين، فهلا إذا وصلت الروح الحلق حين الاحتضار، وأنتم ترون بالعين المحتضر قد قارب فراق الحياة، تنظرون إليه وما يكابده من سكرات الموت، ونحن بالعلم المحيط أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرون ملائكة الموت الذين يتولون قبض روحه. والمراد التأمّل والنظر في أن الله مالك كل شيء.
فهلا إن كنتم غير محاسبين أو غير مملوكين ولا مجزيين في عالم البعث والحساب، تمنعون موته وترجعون الروح التي بلغت الحلقوم (مجرى الطعام) إلى مقرّها الذي كانت فيه، إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم لن تبعثوا. وهذه الحال: هي نزاع المرء للموت. والمدين: المملوك في الأصح.
ومصائر الناس عند احتضارهم وبعد وفاتهم أصناف ثلاثة:
1- فأما إن كان المتوفى من السابقين المقرّبين: وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبّات، وتركوا المحرّمات والمكروهات وبعض المباحات، فلهم استراحة ورحمة وطمأنينة وهو الروح، ورزق حسن للبدن وهو الريحان أو الطيب، وجنة نعيم للروح والجسد، أي إن المرء من السابقين يلقى عند موته روحا (رحمة وسعة) ، وريحانا (وهو الطّيب) وهو دليل النّعم، أو هو كل ما تنبسط إليه النفوس.(3/2584)
2- وأما إن كان المتوفى من أهل اليمين: وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، فتبشرهم الملائكة قائلين: سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي ليس في أمرك إلا السّلام والنّجاة من العذاب.
3- وأما إن كان المتوفى من المكذبين بالحق والبعث، الضّالّين عن الهدى، وهم أصحاب الشمال، فإن ضيافتهم ساعة لقائهم ماء شديد الحرارة ثم تصلية في جهنم.
إن هذا الخبر لهو محض اليقين وخالصة والحق الثابت الذي لا شكّ فيه، فأعرض عن أقوال الكفار، وأقبل على أمور الآخرة، وعبادة الله تعالى.(3/2585)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
تفسير سورة الحديد
عبادة الله وتسبيحه في جميع الأوقات
تسبيح الله تعالى: وهو التّنزيه عما لا يليق بالله، المعروف في قولهم: «سبحان الله» : هو حقيقة ثابتة مستقرة في الكون والإنسان والحياة، يعلنها الواقع، ويفرضها المنطق، لأن الله سبحانه هو الخالق الرازق، المحيي والمميت، فيكون التسبيح من السماوات والأرض وما فيهما دائما مستمرا، لأن الله تعالى هو الحقيقة الأبدية، والمهيمن على كل شيء في الوجود، والعالم بكل شيء في السماء والأرض، وإليه المرجع والحساب، ويسيّر الكون، ويوجد تعاقب الليل والنهار، وهو على كل شيء قدير. وهذا ما قررته الآيات الآتية في مطلع سورة الحديد المدنيّة بالإجماع:
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
«1» «2» «3» «4» «5» [الحديد: 57/ 1- 6] .
__________
(1) التسبيح: التنزيه عن كل نقص، والتقديس لله ووصفه بكل كمال.
(2) هو بالغلبة والقهر المستمرّين بالقدرة.
(3) يدخل.
(4) يصعد.
(5) يدخل أحدهما في زمن الآخر.(3/2586)
أخبر الله تعالى عن تسبيحه، أي تنزيهه بعبارة (سبحان الله) بصيغة الماضي المتضمّنة إفادة الدوام والاستمرار، والتسبيح حقيقة وليس مجازا، وهذا في الجمادات وغيرها من القادرين على التسبيح. والمعنى ينزه الله تعالى عن كل نقص كل شيء في السماوات والأرض، من الجماد والنبات، والإنسان والحيوان، تعظيما له وإقرارا بربوبيّته، سواء بلسان المقال، كتسبيح الملائكة والإنس والجنّ، أو بلسان الحال كتسبيح الجمادات والنباتات. والله هو القوي القادر الغالب الذي خضع له كل شيء، والحكيم في تدبيره وأمره وخلقه وشرعه.
ولله تعالى المالك المطلق للسماوات والأرض، يتصرّف فيهما وحده، وله السلطان التام، وهو نافذ الأمر، وهو الذي يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، وهو تامّ القدرة على كل شيء، لا يعجزه شيء، كائنا ما كان.
والله هو الأول: الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة، والآخر: الذي ليس له نهاية منقضية، والظاهر: بالأدلة ونظر العقول في صنعته، والباطن: بلطفه وغوامض حكمته، وباهر صفته التي لا تصل إلى معرفتها على ما هي عليه الأوهام والتصورات، وهو بكل شيء عالم علما تامّا، وعموما شاملا.
والله هو الذي أبدع السماوات والأرض في ستة أيام، والأصوب أنها من أيام الدنيا، وأكثر الناس على أن بدء الخلق في يوم الأحد. وعند مسلم: أن البداية في يوم السبت. ثم استوى على العرش استواء يليق بذاته، على نحو يريده، مما لا يعلم به إلا هو، بالقهر والغلبة المستمرين بالقدرة، والعرش، أي الكرسي أعظم المخلوقات، وليس فيه تحديد بمكان أو جهة، ويعلم الله كل شيء، يدخل في الأرض من مطر وأموات وغير ذلك، ويخرج منها من نبات ومعادن وغير ذلك، وما ينزل من السماء من مطر وملائكة وغير ذلك، وما يصعد إلى السماء من الملائكة وأعمال العباد(3/2587)
الصالحة والسيئة، والدعوات والأبخرة المتصاعدة ونحوها، والله معكم أيها العباد بقدرته وعلمه، وإحاطته وهدايته، أينما كنتم في البر والبحر والجو، والله رقيب عليكم، بصير بأعمالكم، لا يخفى عليه شيء منها.
والله مالك السماوات والأرض، والدنيا والآخرة، وترجع إليه جميع الأمور، وهذا خبر يعمّ جميع الموجودات. وقوله: لَهُ مُلْكُ مكرر مع الآية السابقة للتأكيد.
والأمور ليست جمع المصدر، بل هي جميع الموجودات، لأن الأمر والشيء والموجود أسماء شائعة في جميع الموجودات أعراضها وجواهرها.
والله المتصرّف في الخلق، يقلّب الليل والنهار، ويقدرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يطول الليل، ويقصر النهار، وتارة على العكس، وتارة يجعلهما معتدلين متساويين، وتتوالى الفصول الأربعة، بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه، وهو سبحانه يعلم السرائر وضمائر الصدور ومكنوناتها، وإن خفيت، لا يخفى عليه من ذلك خافية، سواء الظاهر منها والباطن. وقوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ تنبيه على العبرة فيما يتفاوت فيه الليل والنهار من الطول والقصر، وذلك متشعب مختلف حسب اختلاف الأقطار والأزمان الأربعة، وذلك بحر من بحار الفكر والتأمل لمن يتأمله.
ويُولِجُ معناه: يدخل، وبِذاتِ الصُّدُورِ ما فيها من الأسرار والمعتقدات، وذلك أغمض ما يكون. وهذا كله حثّ على التأمّل في ملكوت الله، وعلى الشكر على ما أنعم الله، وعلى وجوب تنزيه الله عن كل ما لا يليق بالله.
والخلاصة: هذه الآيات إخبار بتسبيح الله من كل شيء، وبيان موجبات التسبيح وأسبابه، فما أعظم التأمل بالخالق الموجود، وبالكون المخلوق الدّال على الخالق، وما أسعد الإنسان الذي يفكّر في هذا الوجود ليستدلّ به على الرّب المعبود!!(3/2588)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
الأمر بالإيمان والإنفاق
بعد أن أثبت الله تعالى في أوائل سورة الحديد وحدانيته وعلمه وقدرته، بمشاهد السماوات والأرض والأنفس، أعقبها بالأمر ببعض الواجبات، فأمر بالإيمان الخالص بالله تعالى وبرسوله، ثم أوجب على المؤمنين الإنفاق في سبيل الله، وحثّ عليه بمضاعفة الأجر أو الثواب عليه. وأعلمنا بأن آياته الدينية والكونية تخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وأن أهل الإيمان يسعى نورهم بين أيديهم إلى جنان الخلد التي تبشّرهم بها الملائكة، كما يتّضح من هذه الآيات:
[سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 12]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
«1» «2» «3» «4» «5» [الحديد: 57/ 7- 12] .
مطلع الآيات: أمر للمؤمنين بالثبوت على الإيمان والإنفاق في سبيل الله، أي صدّقوا بالله إلها واحدا، وبرسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم رسولا من عند الله، وداوموا على الإنفاق من الأموال، مما جعلكم خلفاء في التّصرف فيه، من غير تملّكه حقيقة،
__________
(1) يخلف بعضكم في إرث الأموال والتصرف فيها.
(2) آيات واضحات هي آي القرآن.
(3) هو فتح مكة على المشهور. [.....]
(4) أي الجنة.
(5) أي ينفق في سبيل الله تعالى.(3/2589)
فالذين صدقوا بالله ورسوله من أهل الإيمان، وأنفقوا في سبيل الله، لهم ثواب كبير واسع. وقوله: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ تزهيد وتنبيه على أن الأموال إنما تصير إلى الإنسان من غيره ويتركها لغيره، وليس له إلا ما تضمنه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذي
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي وأحمد عن مطرف عن أبيه قال: أتيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) [التكاثر: 102/ 1] قال:
يقول ابن آدم، مالي مالي، قال: وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت» .
ثم وبّخ الله تعالى على ترك الإيمان بقوله: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ.. أي ما الذي يمنعكم عن الإيمان، والرسول محمد معكم يدعوكم إلى ذلك، فتصدقوا بربّكم، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به، وقد أخذ العهد عليكم في عالم الذّر حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم، إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال، فالآن آمنوا، أو إذا دمتم على ما بدأتم به.
والغاية من إنزال القرآن: أن الله هو الذي أراد بإنزال الآيات الواضحات في القرآن وغيره، أن يخرجكم من ظلمات الجهل والكفر والتناقض، إلى نور الهدى واليقين والسعادة، وإن الله لكثير الرأفة والرحمة بعباده، حيث أنزل الكتب، وبعث الرسل، لهدايتهم.
وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في طاعة الله ومرضاته والجهاد لأجل إعلاء كلمته؟
وكل الأموال والثروات صائرة إلى الله تعالى، إن لم تنفقوها في حياتكم، كرجوع الميراث إلى الوارث، ولا يبقى لكم منه شيء، فالمال مال الله، ولا تساوي بين من أنفق في سبيل الله قبل فتح مكة وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، أولئك الأولون أعظم درجة من الآخرين، لأن حاجة الناس كانت حينئذ أكثر، والعدد أقل(3/2590)
وأضعف، وكل واحد من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة، والله عليم بأعمالكم وأحوالكم الظاهرة والباطنة، فيجازيكم بذلك.
ذكر الواحدي عن الكلبي: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه.
وثمرة الإنفاق تبدو في مضاعفة الثواب، فمن الذي ينفق ماله في سبيل الله، محتسبا أجره عند ربّه؟ فإنه كمن يقرضه قرضا حسنا، والله يضاعف له ذلك القرض، فيجعل له الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، وله بعد ذلك ثواب كثير الخير والنفع، وهو الجنة.
وحال المؤمنين المنفقين يوم القيامة هو: اذكر أيها النّبي ذلك اليوم حين تنظر المؤمنين والمؤمنات يسعى الضياء الذي يرونه على الصراط يوم القيامة أمامهم، وهو نور حقيقة يعطونه، وتكون كتبهم بأيمانهم، أي أعمالهم الصالحة سببا لنجاتهم، وهدايتهم إلى الجنة، وتبشّرهم الملائكة بالجنات (البساتين) التي تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام، تكريما لهم، وذلك هو النجاح العظيم الذي لا مثيل له. فللمؤمنين نور حقيقة يوم القيامة يمنحهم الله إياه، وهذا النور من جميع جهاتهم، فهو كاف بين أيديهم، وعن أيمانهم، وكائن بسبب إيمانهم على قراءة إيمانهم.
حال المنافقين في الآخرة
يظهر الفرق واضحا في الآخرة بين المؤمنين، حيث يعطى كل مؤمن مظهر ومبطن للإيمان نورا، وبين المنافقين حيث يطفى نور كل منافق، ويبقى نور المؤمنين، فيلتمس أهل النفاق عون المؤمنين ومساعدتهم لهم، فيجابون بالخيبة واليأس، لأن النار(3/2591)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
مأواهم، وهذه هي نهاية أهل السعادة من المؤمنين الأبرار، وعاقبة أهل الشقاوة ممن نافقوا في الدنيا، فأظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر والضلال. وذلك إنذار واضح ووعيد شديد للمنافقين والمنافقات، كما في هذه الآيات الآتية:
[سورة الحديد (57) : الآيات 13 الى 15]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الحديد: 57/ 13- 15] .
يوم يقول المنافقون: متعلّق بآخر الآية السابقة، فالعمل فيه هو قوله تعالى:
ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «9» ، كأنه تعالى يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا، وهو عند انطفاء أنوارهم، فيقولون للمؤمنين: انتظرونا حتى نتّبعكم ولعلنا نستضيء بنوركم، ونخرج من هذا الظلام الدامس، فيجابون بما يخيب الآمال ويقال لهم من قبل الملائكة أو من المؤمنين:
ارجعوا إلى الدنيا التي تركتموها وراءكم، فالتمسوا النور بما التمسناه به، من الإيمان والعمل الصالح، وهذا تهكّم بهم واستهزاء بطلبهم. وينتهي الحوار بأن يضرب بين المؤمنين وبين المنافقين سور أو حاجز، باطنه، أي جانبه الذي يلي أهل الجنة: فيه الرحمة، وهي الجنة ونعيمها، وظاهره البادي، أي جانبه الذي يلي المنافقين أهل النار، من جهته عذاب جهنم. فالرحمة: الجنة، والعذاب: جهنم.
__________
(1) انتظرونا.
(2) نستضيء بنوركم.
(3) حائط حاجز بين الجنة والنار.
(4) امتحنتموها بالنفاق وأهلكتموها بالمعاصي.
(5) توقعتم الدواهي، وشككتم في أمر الله تعالى.
(6) طول الأمل وامتداد الأجل.
(7) الشيطان.
(8) مكان إيوائكم النار هي أولى بكم.
(9) وقال الزمخشري في الكشاف 3/ 201: يوم يقول: بدل من: يوم ترى. وهذا أصوب في تقديري.(3/2592)
وينادي المنافقون المؤمنين: ألم نكن معكم في دار الدنيا، نوافقكم في أعمالكم وعباداتكم في المساجد، وأداء مناسك الحج، وحضور معارك الجهاد، والعمل بأعمال الإسلام كلها. فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين: بلى قد كنتم معنا في الظاهر، ولكنكم اختبرتم أنفسكم، وأهلكتموها بالنفاق وإبطان الكفر، وتوقعتم الدواهي والمصائب بالمؤمنين، وشككتم في أمر الدين والبعث بعد الموت، ولم تصدّقوا بما نزل به القرآن، ولا آمنتم بالمعجزات، وخدعتكم الأماني المعسولة الباطلة، حيث قلتم: سيغفر لنا، وسيهلك محمد هذا العام، ستهزمه قريش، وغرّكم طول الأمل وامتداد الأجل، حتى فاجأكم الموت أو الفتح وظهور الإسلام، وخدعكم بالله الشيطان.
ففي هذا اليوم لا يقبل منكم أيها المنافقون فدية تفدون بها أنفسكم من النار أو العذاب، ولا أيضا من الذين كفروا بالله ظاهرا وباطنا، منزلكم الذي تأوون إليه النار، هي أولى بكم من كل منزل، وبئس المصير الذي تصيرون إليه، وهو النار.
وقوله: هِيَ مَوْلاكُمْ قال المفسّرون: معناه: هي أولى بكم، وهذا تفسير بالمعنى، وإنما هي- كما قال ابن عطية- استعارة، لأنها من حيث تضمّهم وتباشرهم هي تواليهم، وتكون لهم مكان المولى، أي الناصر والعون. وعلى هذا، فتكون كلمة مَوْلاكُمْ ظرف مكان بمعنى أنه مكانكم الذي يقال فيه: إنه أولى بكم.
إن هذا الحوار أو النقاش السابق وصفه في الدنيا قبل الآخرة إعجاز قرآني، وإنذار موجه لخير الإنسان، لأنه يبين نوع الجزاء المؤلم، وسببه الذي أدى إليه، فلا يبقى هناك مجال للوم أو الاعتذار، فمن أنذر فقد أعذر، وأدى ما عليه ليتجنب الأسباب المؤدية إلى الهلاك والخسران، في يوم لا تغيير فيه ولا تبديل في القضاء والحكم الحاسم.(3/2593)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
إن النفاق مرض عضال يضرّ بالأمة والمجتمع، كما يضرّ بأهله الذين كانوا أغبياء أو حمقى أو ضعيفي نظر ووعي. ولقد عانى المسلمون في الصدر الأول من هذا المرض وأهله الذين كانوا شوكة للطعن من الخلف، لولا تأييد الله ونصره وإحباط مكائدهم.
الحضّ على خشية الله والصدقات
لا تكفي المقارنة الوصفية أحيانا بين الأشياء والأحوال المتضادّة، مثل وصف جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، لذا كان المولى يتعهد أهل الإيمان بمزيد من التوجيه والنصح والإرشاد والتربية الفاضلة، ليكونوا دائما عنوانا مشرّفا على رسالة الإسلام العظيمة، رسالة الخير والإنقاذ والنجاة للبشرية جمعاء. ومن هذا التوجيه القرآني للمؤمنين: حثّ المؤمنين على ملازمة الخشوع وخشية القلب لمواعظ الله تعالى، وتحذيرهم من التشبه ببعض قساة القلوب الذين قطعوا صلتهم بأنبيائهم، وأهملوا أوامر دينهم ونواهيه، كما يتبين في هذه الآيات:
[سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 19]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الحديد: 57/ 16- 19] .
__________
(1) ألم يحن أو يأت وقته.
(2) تخشى وتخاف وتلين.
(3) الزمن بينهم وبين أنبيائهم. [.....]
(4) أصبحت قاسية صلبة.
(5) خارجون عن حدود دينهم.
(6) الذين قتلوا في سبيل الله، وتشهد لهم الملائكة بالجنة.(3/2594)
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه، عن عبد العزيز بن أبي رواد: أن أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم ظهر فيهم المزاح والضحك، فنزلت: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ.. الآية.
في هذه الآية معنى الحضّ والتقريع، قال ابن عباس رضي الله عنهما: عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. والخشوع: اللين والذّلّ لله تعالى، وهو هيئة تظهر في الجوارح (الأعضاء) متى كانت في القلب، فلذلك خصّ الله تعالى القلب بالذكر. والمعنى: ألم يحن الوقت لكي تلين قلوب المؤمنين وترق عند سماع تذكير الله ووحيه؟ أو لأجل ذكر الله وقرآنه، أو لأجل تذكير الله تعالى إياهم وأمره فيهم، فيفهمون المطلوب ويطيعون الآمر والنّاهي وهو الله تعالى.
ولا يتشبهوا بحملة الكتاب الإلهي من قبلهم قبل نزول القرآن، حين طال عليهم الزمان والفجوة بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم بذلك السبب، حتى صاروا لا يتأثرون بالموعظة، ولا بالوعد والوعيد، وبدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واتّبعوا أهواءهم، وكثير منهم خارجون عن حدود الله وأوامره ونواهيه، فصارت أعمالهم باطلة، وقلوبهم فاسدة.
ثم ضرب الله المثل في تأثير مواعظ القرآن، وهو كما أن الله يحيي الأرض بالنبات والغيث بعد جدبها، قادر على أن يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد الضلال، ببراهين القرآن وأدلته، فقد أوضحنا لكم الآيات والحجج، كي تتدبّروها، وتعقلوا ما فيها من المواعظ، وتعملوا بها.
والثواب كبير على الصدقة في سبيل الله، فإن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم على ذوي الحاجة والفقر، ودفعوا المال بنيّة خالصة، ابتغاء رضوان الله، يضاعف لهم الثواب، فتكون الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ولهم(3/2595)
فوق ذلك ثواب سخي كثير النفع، حسن العطاء والأثر. فقوله: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ أي إن الذين تصدّقوا.
والذين أقرّوا بوحدانية الله وصدقوا رسله، هم في منزلة الصّديقين، قال مجاهد:
كل من آمن بالله ورسله فهو صدّيق. والصواب أنهم الذين سبقوا إلى الإيمان ورسخوا فيه. والذين استشهدوا في سبيل الله، لإعلاء كلمته ودينه، ولرفع راية الحق والتوحيد وأهله، لهم الثواب العظيم عند ربّهم، والنور الموعود به الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. فقوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ خبر عن الشهداء فقط في قول، وخبر عن المؤمنين المذكورين في أول الآية في أكثر الأقوال. وهذا إشارة لصنفين من المؤمنين: وهم الشهداء والصّدّيقون، والصّنفان الآخران: الأنبياء والصّالحون، وهؤلاء الأربعة هم المذكورون في آية أخرى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النّساء: 4/ 69] .
والصّدّيقون: مبالغة من الصّدق أو من التّصديق، وهم الذين سبقوا إلى الإيمان ورسخوا فيه.
والذين أنكروا وجود الله، وجحدوا وحدانيته، وكذبوا آياته وبراهينه الدالة على ألوهيته الحقّة، وصدق رسله، أولئك لا غيرهم أصحاب النار خالدين فيها أبدا.
وهذا حال الأشقياء، بعد التعرف على حال السعداء.
حال الدنيا وحقيقة الآخرة
زهّد القرآن الكريم بالدنيا حتى لا تطغى على العمل للآخرة، ولأنها فانية زائلة، وأوضح حقيقة الآخرة، حتى يقبل العالم على الإيمان بها والإعداد لها، ولأنها خلود دائمة، والخالد أبقى وأجدى، فيفضل على المؤقت الزائل، ويحرص العقلاء أهل(3/2596)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
الإيمان والتقوى على التنافس في عمل الآخرة، لأنها درجات يتفاضل فيها السعداء، وكلما كان المؤمن في درجة أعلى، والفردوس أعلى الجنان، كان أو في نعمة، وأكثر غبطة، وهذا ما نجده في الآيات الآتية:
[سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
«1» «2» «3» «4» «5» [الحديد: 57/ 20- 21] .
هذه آية وعظ وتبيين لأمر الدنيا وضعة منزلتها، والتعريف بحقيقة الآخرة ورفعة مكانتها للمؤمنين العاملين، وشدة عذابها للأشقياء الضّالين.
اعلموا أيها الناس جميعا أن الحياة الدنيا مجرد لعب ليس فيها جدّ يدوم، ولهو يتلهى به ثم يزول، وزينة يتزين بها مؤقتا ثم يذهب، ومفخرة يتفاخر بها، وتكاثر في الأموال والأولاد ثم ينتهي من غير أثر. والحياة الدنيا في هذه الآية: عبارة عن الأشغال والتصرفات والأفكار المختصة بالدنيا، المجردة عن أي عمل صالح للآخرة.
واللعب واللهو شيء واحد، أو إن اللعب: ما لا فائدة فيه، واللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه. والزينة: التحسين الخارج عن ذات الشيء. والتفاخر: التباهي بالأنساب والأموال وغيرها. والتكاثر: هو الرغبة في الدنيا ومظاهرها وألوانها وعددها، ليعتز بها الكاثر على من دونه.
والدنيا بهذه الأوصاف سبب البعد عن الدين، فهي التي يؤثرها ضعفاء النفوس
__________
(1) مطر.
(2) الزّراع.
(3) يتحرك وينمو.
(4) هشيما متكسّرا من اليبس.
(5) تمتع الخديعة لمن أقبل عليها ونسي الآخرة.(3/2597)
والعقول على الآخرة، وحبها رأس كل خطيئة، وهي مركب الشيطان، وسبب قسوة القلب، وضعف الذّمة وقلّة التقوى، وكل ما فيها عرض زائل يخدع السّذج والبسطاء، وما هي إلا كمثل مطر، أعجب الزّراع النبات الحاصل به، ثم يجفّ وييبس بعد خضرته، ثم يصير فتاتا هشيما متكسّرا بعد يبسه، تعصف به الرياح.
والكفار هنا: الزّراع، لأنهم يكفرون، أي يسترون البذر في الأرض.
ونظير الآية كثير في القرآن، مثل قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ.. [يونس: 10/ 24] .
ثم حذّر القرآن من أمر الدنيا، ومن مخاطر ومهالك العذاب في الآخرة، ورغّب في الاستعداد للظفر بالجنة والمغفرة والرضوان، فليس في الآخرة إلا أمران: إما عذاب شديد لأعداء الله والرّسل، وإما مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته. وما الحياة الدنيا إلا مجرد متاع يتمتع به، وخديعة لمن يغتر بها، ولم يعمل لآخرته. وقوله:
مَتاعُ الْغُرُورِ معناه الشيء الذي لا يعظّم الاستمتاع به إلا مغتر.
والآخرة: مجال التّسابق في الخيرات والمبرات، لذا قال الله تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ.. أي بادروا إلى ما يوجب المغفرة لكم من ربكم من الأعمال الصالحة والإيمان المنجي، وإلى ما يوصل إلى جنة عرضها مثل عرض السماء والأرض معا، وقد عبّر عن المساحة بالعرض، ولم يقصد أن طولها أكثر ولا أقل. وهذه الآية حجة عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات. وقوله: سابِقُوا معناه: كونوا في أول صف المسابقة في الجهاد وغيره من الطاعات والفرائض.
هذه الجنة أعدت وخلقت للذين صدقوا بالله ورسله، وعمل بما فرض الله عليه، واجتنب نهيه. وهذا دليل على أن الجنة مثل النار مخلوقة الآن معدّة لأهلها.(3/2598)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
ومن حظي بالجنة والمغفرة فذلك من فضل الله ورحمته، يؤتيه من يريد من عباده، والله صاحب الفضل العميم الواسع، ورحمته سبقت غضبه.
ألا إن الجنة غالية الثمن، وثمنها سهل بسيط وهو الإيمان والعمل الصالح والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، فتلك غراسها الطيبة.
المصيبة والقدر ونظام الحياة
الإسلام دين إيجابي وتنظيمي في آن واحد، وإيجابيته ظاهرة في العقيدة، خلافا لتصوّر الجهلة والعوام السّذّج، فإن من آمن بالقدر لا يعني اتّكاله على المقدّر، لأنه يجهل ذلك، وإنما يكون إيمانه بالقدر مبعث الإقدام والجرأة والشجاعة، فلا يهاب الموت إذا قاتل العدو، لأن الموت لا يتقدم ولا يتأخر، وأن الإقدام لا يقتل، وإذا أنفق في سبيل الله، فلا يخشى الفقر، لأنه يوقن بأن الرازق هو الله، وأن الجود أو السخاء لا يفقر. والحياة منظمة بقانون إلهي شامل مبني على العلم والوعي والتخطيط، وإعداد القوة، والعدل في الحكم، ومجاهدة النفس من أجل صلاح النفس والمجتمع، وجهاد العدو الخارجي الذي لا يفهم بغير القوة. وهذه آيات تدلّ على الإيجابية واحترام نظام الحياة:
[سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 25]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
«1» «2» «3» «4» «5»
__________
(1) المصيبة لغة: كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، وفي العرف هي الشّر.
(2) نخلقها.
(3) تحزنوا.
(4) متكبّر، مباه بماله أو جاهه.
(5) بالحجج الواضحات والبراهين والمعجزات.(3/2599)
«1» «2» [الحديد: 57/ 22- 25] .
لا توجد مصيبة من خير أو شر في الدنيا، سواء في الأرض كالقحط والجدب، أو الغلاء وغير ذلك، أم في الأنفس كالأمراض والموت والفقر، وذهاب الأولاد وغير ذلك، إلا وهي مسطرة أو مدونة في اللوح المحفوظ، من قبل إيجاد الخليقة، إن 7 ثباتها في اللوح المحفوظ مع كثرتها والعلم بها قبل وجودها سهل يسير على الله، غير عسير، لأن الله هو الخالق، وهو أعلم بما خلق، يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون إلى يوم القيامة. وخصّ الكلام بالمصيبة لأنها أهم على البشر، وهي بعض الحوادث، فدلّ على أن جميع الحوادث خيرها وشرها معلوم عند الله، مدوّن في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، أي إن الكتاب السابق أزلي قبل هذه الأشياء كلها، وإن تحصيل هذه الأشياء كلها في كتاب.
أخبرناكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم في الدنيا، ولا تفرحوا فرح بطر وأشر بما هو آت، فلا تأسوا على ما فاتكم، لأنه لو قدّر شيء لكان، ولا تفرحوا بما جاءكم أو أعطاكم، فذلك كله من قدر الله ورزقه لكم، إن الله يعاقب كل مختال في نفسه، أي متكبّر، فخور على غيره، مباه بماله أو جاهه.
والمختال غالبا يكون بخيلا، لذا ذكر الله خصال البخلاء، فهؤلاء البخلاء الفخورون: هم الذين يبخلون عادة بأموالهم وإيمانهم وغير ذلك، فلا يؤدون حقّ الله فيها، ولا يواسون فقيرا، بل إنهم يطلبون من غيرهم إمساك المال، ويرغّبون الناس بالبخل بما يملكون، حتى يجعلوا لهم أشباها وأمثالا، ومن يعرض عن
__________
(1) الكتاب: ما أنزل الله من تشريع. والميزان: العدل. [.....]
(2) الحق والتعادل.(3/2600)
الإنفاق وعن أمر الله وطاعته، فإن الله غني عنه، محمود الذات في السماء والأرض عند خلقه، لا يضرّه ذلك، ولا يضرّ البخيل إلا نفسه.
إعراب: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ على مذهب الأخفش: صفة لكلمة كل في قوله: كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم الذين يبخلون، أو مبتدأ وخبره محذوف معناه الوعيد والذّم، وحذفه للإبهام.
ثم أوضح الله تعالى الغرض من بعثة الرّسل وهو تنظيم شؤون الحياة، فقال:
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ.. أي تالله لقد أرسلنا رسلنا الملائكة إلى الأنبياء بالوحي، وبعثنا الأنبياء بالمعجزات البيّنة والحجج الواضحات، وأنزلنا معهم الكتاب، أي جنس الكتاب الشامل لكل كتاب سماوي كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن، وأنزلنا معهم الميزان، أي العدل في الأحكام، أي أمرناهم به، ليتبع الناس ما أمروا به من الحق والعدل، وتقوم حياتهم عليه، فيتعاملوا بينهم بالإنصاف في جميع أمورهم الدينية والدنيوية.
وخلقنا الحديد وبقية المعادن، وجعلناه رادعا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه، ففيه قوة رادعة، وفيه منافع للناس ينتفعون به في كثير. من حاجاتهم ومعايشهم، كأدوات الطعام، ومرافق المنازل وحياة الإقتصاد، وصناعة السلم والحرب وغير ذلك.
وهناك مضمر بعد قوله: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ تقديره: لينتفع الناس، وذلك مقدمة لما أظهره بعدئذ وهو وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ليدلّ على أن هذا هو المقصود.
إنما شرع الله ذلك ليعلم علم مشاهدة ووجود من ينصر دينه ورسله بإخلاص، باستعمال الحديد في أسلحة الجهاد ومقاومة الأعداء، إن الله قوي قادر، عزيز قاهر غالب، يستطيع دفع عدوان الظالمين، وينصر رسله والمؤمنين من غير حاجة إليهم.(3/2601)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
إن إيجاد دولة قوية معززة بقيمها وأنظمتها وأنشطتها وقوة أبنائها، واعتمادها على ذاتها جهادا وتضحية، وتصنيعا وزراعة واتّجارا، هو ما أراده الله من إنزال الشرائع، وإرسال الرسل، وفيه الخير والعزة والمنعة والحفاظ على الكرامة والحقوق.
وحدة أصول الشرائع
أرسل الله تعالى الرسل بالبيّنات والمعجزات لمهام عظمي، لإقامة نظام المجتمع القوي المتين الفاضل، بالكتاب الإلهي، والعدل، وصلابة الموقف وازدهار الصناعة، ثم أتبع ذلك ببيان وحدة الرسالات الإلهية والنّبوات والشرائع في أصولها من عهد نوح وإبراهيم، ثم موسى وعيسى عليهم السّلام، إلى عهد خاتم النّبيين صلوات الله وسلامه عليه، وهذا واضح في الآيات الآتية:
[سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 29]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
«1» «2» «3» [الحديد: 57/ 26- 29] .
المعنى: تالله لقد بعثنا نوحا أبا البشر الثاني إلى قومه، وإبراهيم أبا الأنبياء إلى قوم
__________
(1) أتبعنا، أي جعلناهم تابعين متأخرين عنهم في الزمان.
(2) هي المبالغة في العبادة واعتزال الناس.
(3) نصيبين وحظّين.(3/2602)
آخرين، وجعلنا الرسالة والنّبوة في ذرّيتهما، وجعلنا الكتب المنزلة فيهما. والكتاب:
يعني الكتب الأربعة، فإنها جميعا في ذرّية إبراهيم عليه السّلام. وذكر نوح وإبراهيم تشريف لهما، وبيان نعم الله عليهما، ثم على ذرّيّتهما. ومع ذلك من ذرّيتهما من فسق وعاند، وهم الكثيرون، ومنهم المهتدون الطائعون. وهذا يدلّ على أن الانحراف عن جادة الحق، كان بعد التمكّن من معرفته.
ثم أتبعنا بعدهم في الزمان رسلنا، واحدا بعد الآخر، ثم خصّ الله تعالى عيسى ابن مريم بالاتباع تشريفا له، ولشهرته في عصر التنزيل القرآني، وأن الله آتاه الإنجيل، وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه، متضمنا أصول شرعه، ومكملا للتوراة، وموضحا حقيقة الشريعة. ومن صفات عيسى عليه السّلام: أن الله جعل في قلوب أتباعه الخلّص: وهم الحواريون وأنصارهم رقّة في الطبع، ورحمة بالخلق، خلافا لليهود القساة، لكنهم ابتدعوا الرهبانية من جهة أنفسهم: وهي الانقطاع للعبادة ورياضة الروح واعتزال الناس، ولم يشرعها الله لهم ولم يأمرهم بها، ولكنهم قصدوا من ذلك ابتغاء رضوان الله، وكان مآلهم أمرين: أولهما- أنهم ابتدعوا في دين الله ما لم يأمر الله به، والثاني- أنهم لم يقوموا بحقّ ما التزموه، ولم يراعوا كونه قربة لله عزّ وجلّ، ولم يرعوه حق الرعاية، بل غيّروا وبدّلوا، فأعطينا المؤمنين منهم إيمانا صحيحا ثوابهم الذي يستحقونه بالإيمان، وكثير من هؤلاء المترهبين فاسقون خارجون عن حدود الله وطاعته، يأكلون الأموال بالباطل، وينحرفون في سلوكهم.
وناسب ما ذكر: الاتّعاظ والإعتبار وبيان ثواب المؤمنين بعيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام، فقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ.. أي يا أيها الذين صدّقوا بوجود الله ووحدانيته، وصدّقوا رسوله من مؤمني أهل الكتاب:
اليهود والنصارى، خافوا الله تعالى، بترك ما نهاكم عنه، وأداء ما أمركم به، وآمنوا(3/2603)
برسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، يعطكم الله نصيبين أو ضعفين من رحمته، بسبب اكتمال إيمانكم، ويزيدكم على ذلك أنه يجعل لكم نورا تمشون به على الصراط، تهتدون به في الآخرة، ويغفر لكم ذنوبكم، والله واسع المغفرة والرحمة.
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما نزلت: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص: 28/ 54] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: لنا أجران، ولكم أجر، فاشتد ذلك على الصحابة، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ.. الآية، فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب، وزادهم النور.
ثم ردّ الله تعالى على اليهود الذين زعموا اختصاص النّبوة فيهم، فقال: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ.. أي اتّقوا الله وآمنوا، يؤتكم الأمور الثلاثة المتقدمة (وهي مضاعفة الأجر، وإيتاء النور، وغفران الذنوب) ليعلم ويتحقق الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على ردّ ما أعطى الله لرسوله، ولا إعطاء ما منع عنه، وهم عاجزون من أن ينالوا شيئا من فضل الله الذي تفضّل به على المستحقين له، كالنّبوة والرسالة وغيرهما، وأن الفضل محصور بيد الله، ومنه النّبوة والعلم والتقوى، يعطيه من يشاء، والله واسع الفضل، كثير العطاء والخير لمن يشاء من عباده. والمراد: أن إيمان أهل الكتاب بكتابهم ورسولهم لا يكفي، ما لم يؤمنوا بالنّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
أخرج ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أنه لما نزلت: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الآية.(3/2604)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
تفسير سورة المجادلة
الظّهار حكمه وكفّارته
كانت في الجاهلية العربية تشيع عادات وأحكام غريبة، سواء في نظام المجتمع القبلي كعادة الأخذ بالثأر وحبّ الانتقام والتهور في الشجاعة، أو في علاقات الأسرة العربية كأنظمة الزواج الجاهلي المشترك، وحرمان المرأة من الميراث، وتحريم المرأة بالظّهار تحريما أبديّا، فلما جاء الإسلام ألغى بعض الأنظمة، وعدّل بعضها، وأبقى بعضها مثل تحمّل العاقلة (العصبة) دية القتل الخطأ، ومن الأحكام التي عدّلها جعل الظّهار يفيد التحريم المؤقت وينتهي بالكفارة، لأنه إثم من القول وزور، كما جاء في مطلع سورة المجادلة المدنية النزول بالاتّفاق، في الآيات الآتية:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
«1» «2» «3» [المجادلة: 58/ 1- 4] .
__________
(1) أي يقولون لنسائهم: أنت علي كظهر أمي.
(2) ذلك قول ينكره الشرع، وكذب وبهتان.
(3) فإعتاق رقيق من قبل العودة للاستمتاع بالمرأة.(3/2605)
أخرج الحاكم وصححه عن عائشة رضي الله عنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقول: يا رسول الله، أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سنّي، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.. وهو أوس بن الصامت.
لقد قبل الله شكوى المرأة التي تراجعك الكلام أيها النّبي في شأن زوجها الذي ظاهر منها، قائلا لها: «أنت علي كظهر أمّي» أي في الحرمة، وتشتكي إلى الله ما أغمها وأحزنها، والله يسمع ما تتراجعان به من الكلام، إن الله يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر على الوجه الأتم الأكمل، ومن ذلك محاورة هذه المرأة معك نبي الله. والمحاورة: مراجعة القول ومعاطاته. والشكوى: الإخبار عن مكروه أصابك.
ثم وبّخ الله المقدمين على الظّهار، فالذين يشبّهون أزواجهم بأمّهاتهم، بقولهم لهنّ على لسان الواحد منهم: أنت علي كظهر أمي ونحوه، أي في التحريم، ليست نساؤهم بأمهاتهم، فذلك كذب منهم، لأن الأمهات في الحقيقة هنّ اللواتي ولدنهم فقط.
وإنهم ليقولون قولا ينكره الشّرع، ويقبحه، وهو كذب محض وبهتان، وإن الله تعالى واسع المغفرة والعفو لمن تاب وأناب، إذ جعل الكفارة عليهم مخلّصة لهم عن هذا المنكر. فوصف الزوجة وتشبيهها بالأم خبر مزوّر مكذوب، لا يغيّر الحقيقة، وهذا يدلّ على أن الظّهار حرام موجب للإثم والمعصية. وقد كان الظّهار طلاقا في الجاهلية، يوجب التحريم المؤبّد.
وكفّارة الظّهار لمن يريد نقضه والعودة لحالته الطبيعية مع زوجته، من إرادة الاستمتاع: هو عتق رقبة كاملة لا بعضها، وهي هنا مطلقة غير مقيدة بالإيمان، وبه(3/2606)
أخذ الحنفية والظاهرية. وقيّد بقية العلماء الرقبة بوصف الإيمان، كما هو المقرّر في كفّارة القتل الخطأ حيث قال الله تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النّساء: 4/ 92] ، من طريق الإلحاق أو القياس، والمسمى في أصول الفقه: حمل المطلق على المقيد، بسبب الاتّحاد في السبب بين القتل والظّهار، فيتّحدان في الحكم.
وذلك من قبل التماس، أي العودة إلى الجماع، والله تام العلم والخبرة بما تعملون. وذلكم، أي الإلزام بالكفارة عظة لكم لتنتهوا عن الظّهار. وهذا تحذير من التقصير في الكفارة. والمسيس في رأي الحسن البصري والثوري وجماعة: هو الوطء، ويجوز غيره من أنواع الاستمتاع. واتّجه الجمهور إلى تعميم الحكم على منع الوطء والمباشرة بأنواعها من تقبيل ومضاجعة واستمتاع بأعلى المرأة كالحيض، فلا يجوز للمظاهر أن يطأ ولا يقبّل ولا يلمس بيده ولا يفعل شيئا من هذا النوع إلا بعد الكفارة.
فمن لم يجد الرقبة في ملكه أو ملك غيره، بأن لم توجد كما في عصرنا، أو لم يجد ثمنها، فيجب عليه صيام شهرين متتابعين متواليين من غير تفريق لا يفطر فيهما، إما بصيام ستين يوما تباعا، أو بأن يصومهما بالأهلّة، يبدأ مع الهلال ويفطر مع الهلال، فإن أفطر يوما أو أكثر بغير عذر، أو جامع المرأة، استأنف من جديد صيام الشهرين في رأي الجمهور، وقال الشافعي وأبو يوسف: لا يستأنف إذا وطأ ليلا، لأنه ليس محلّا للصوم. ولا ينقطع التتابع عند المالكية إذا أفسد الصوم لعذر غالب كالمرض والنسيان ونحوه، وينقطع عند الحنفية والشافعي في المذهب الجديد. فمن لم يستطع الصوم لشيخوخة أو مرض مزمن أو لمشقة شديدة، فعليه إطعام ستين مسكينا، لكل مسكين مدّان من القمح (أو نصف صاع من القمح) عند الحنفية،(3/2607)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)
وصاع «1» من تمر أو شعير كالفطرة، ومدّ وثلثان من القمح إن اقتاتوه عند المالكية، ومدّ من قمح أو نصف صاع من تمر أو شعير عند الشافعية والحنابلة. والطعام: هو غالب قوت البلد. ومن العلماء من يرى إطعام مدّ بمدّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
ذلك الترخيص والتسهيل من النقل من تحرير رقبة إلى الصوم والإطعام، وتشريع الكفارة بسبب الظّهار، لتصدقوا بشرع الله وأمره، وتلك حدود الله، فالتزموها وقفوا عندها، وللكافرين المتجاوزين حدود الشرع عذاب مؤلم شديد على كفرهم، وهو نار جهنم، وعذاب في الدنيا، وهذا وعيد وتهديد.
وعيد المعادين لله ورسوله
امتدح الله تعالى بعد آيات الظّهار المؤمنين الواقفين عند حدود الله، ثم أتبعه بوعيد المعادين لأمر الله ورسوله بالإهانة في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة، إذ لا تخفى على الله خافية منهم، أو حال من أحوالهم في السّر والعلن، وسوف ينبئهم الله بأفعالهم يوم القيامة والحساب، ويجازيهم على ما قدّموا من أعمال. فنزلت هذه الآيات في شأنهم، وهم المنافقون وقوم من اليهود كانوا في المدينة يحتكّون بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم، وينتظرون به وبالمؤمنين الشّر، ويدبّرون المؤامرات، ويتمنون فيهم المكروه، ويتناجون بذلك، نزلت هذه الآيات بهم إلى آخر النجوى:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
«2» «3» «4» «5» «6»
__________
(1) المدّ: 675 غم، والصّاع: 2751 غم.
(2) أي يعادون ويشاقون.
(3) أهينوا وذلّوا.
(4) أدلة وعلامات واضحات تدلّ على صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
(5) ذو إهانة وإذلال.
(6) مطّلع لا يغيب عنه شيء.(3/2608)
«1» [المجادلة: 58/ 5- 7] .
إن الذين يعادون، ويخالفون أوامر الله والرسول، ويعاندون الأحكام والشرع، أذلّوا وأهينوا، كما أذلّ المنافقون السابقون من قبلهم من كفار الأمم الغابرة، بسبب معاداة شرع الله تعالى، وفي ذلك تبشير بنصر المؤمنين على من عاداهم، ووعيد لكل من يهجر شريعة الله، وقد أنزلنا في هذا القرآن للناس آيات واضحات، دالّة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لا يخالفها إلا كل كافر معاند، وللجاحدين بتلك الآيات، المستكبرين عن اتّباع شرع الله والانقياد له: عذاب يهين صاحبه ويذلّه، بسبب كفره واستكباره، وذلك العذاب هزيمة وهوان في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة.
والمحادّة: أن يكون كل واحد من المتعاديين في حد أو جهة، والآخر في حدّ أو جهة مغايرة أو مخالفة. وكبت الرجل: إذا بقي حزنان يبصر ما يكره، ولا يقدر على دفعه.
اذكر أيها الرسول ذلك اليوم الذي يأتي فيه العذاب، وهو يوم القيامة، تعظيما له، وأخبر بأن لهم عذابا مهينا يوم يحشرهم الله جميعا من الأولين والآخرين في يوم الحساب، مجتمعين في حال واحدة، فيخبرهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا، لإقامة الحجة عليهم، فقد حفظ الله وضبط كل ما صنعوا من خير أو شرّ، والله سبحانه مطّلع على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء. وهذا وعيد وإنذار.
ألم تعلم أيها النّبي وكل مخاطب أن علم الله واسع شامل، محيط بكل شيء في
__________
(1) تناجي أو مسارّة. [.....](3/2609)
الأرض والسماء، بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما، فما يوجد من تناجي أو تسارر ثلاثة أشخاص إلا كان الله رابعهم، مطّلع عليهم، يسمع كلامهم وسرّهم ونجواهم، ولا خمسة أفراد إلا كان الله سادسهم بالعلم والقدرة والإحاطة، ولا أكثر من هذا العدد مهما بلغ ولو ملايين إلا كان الله معهم، عليم بهم وبأقوالهم وأسرارهم، في أي مكان وأي زمان، ثم يخبرهم الله بكل ما عملوا يوم القيامة، إن الله واسع العلم بكل شيء، وسع علمه وسمعه وبصره السماوات والأرض وما بينهما.
وكلمة نَجْوى إما أن يكون المراد به جمعا من الناس، أي أولو نجوى، ويكون قوله تعالى بعدها: ثَلاثَةٍ على هذا بدلا من نَجْوى أو صفة، أو يكون (النجوى) مصدرا محضا وهو التناجي، فيقدر قبل (أدنى) فعل، تقديره: ولا يكون أدنى.
والسبب في ذكر الثلاثة والخمسة وإهمال ذكر الإثنين والأربعة: هو إما تصوير الحالة الواقعية التي نزلت الآية بسببها، فإنها نزلت في قوم منافقين، اجتمعوا على التّناجي مغايظة للمؤمنين، وكانوا على هذين العددين. وإما أن طبيعة المشاورة تتطلب وجود عدد وتر، فيكون الاثنان أو الأربعة وغيرهما من الأرقام الزوجية يمثلان التنازع، والثالث والخامس كالمتوسط الحكم بينهم، فذكر سبحانه الثلاثة والخمسة تنبيها على الأفراد والمجموعات الباقية.
وقد أجمع المفسّرون على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ولا شك في إرادة ذلك.
وقد جمعت هذه الآية بين جميع وسائل العلم، فإنه مع علم الله تعالى وسمعه وبصره بكل شيء هو سبحانه وتعالى مطّلع على جميع أمور خلقه، ومحيط علمه بكل كائن صغير أو كبير، كما جاء في ختام الآية: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ(3/2610)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
وفي هذا إعلام لمن يتناجون بالسوء والمكر، على سبيل التوبيخ لهم والتبكيت وإلزام الحجة.
قال الإمام أحمد: افتتح الله الآية بالعلم، واختتمها بالعلم. ومن المعلوم أن العالم بالأسرار والقدير على اتخاذ القرار يفعل ما يشاء بالناس، مما يقتضي الحذر والالتزام بمرضاة العالم.
آداب المناجاة
تابع الله تعالى في كلامه عن النّجوى أو المسارّة بين الأفراد بيان حال الذين نهوا عن النّجوى وهم اليهود والمنافقون، ثم عودتهم إلى المنهي عنه، وتحيتهم بالسوء للنبي صلّى الله عليه وسلّم قائلين له: السّام عليك، أي الموت، مما أوجب تهديدهم بدخول جهنم.
وناسب ذلك التعريف بآداب المناجاة الاجتماعية، من الامتناع عن التناجي بالإثم والعدوان، والإلزام بالتناجي بالبر والتقوى، أي بالخير، وفعل كل ما يقي الإنسان عذاب النار، من فعل الطاعات وترك المعاصي والمنكرات، فقال الله تعالى:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
«1» «2» «3» «4» «5» [المجادلة: 58/ 8- 10] .
__________
(1) الإثم: بالمعصية، والعدوان: الاعتداء على الآخرين.
(2) خاطبوك بالتحية، وهي الدعاء له بالحياة، ومنه التحيات لله: البقاء.
(3) كافيهم عذاب جهنم.
(4) يدخلونها ويصطلون بحرّها.
(5) تجمعون للجزاء.(3/2611)
الآية الأولى نزلت في قوم من اليهود، نهاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن التّناجي بحضرة المؤمنين، وإظهار ما فيه ريبة من ذلك، فلم ينتهوا، فنزلت هذه الآية.
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيّان قال: كان بين النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبين اليهود موادعة، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة، جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظنّ المؤمن أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكرهه، فنهاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن النجوى، فلم ينتهوا، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى الآية.
وقال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين.
والمعنى: ألم تعلم وتنظر إلى الذين نهيتهم عن التّناجي والمسارّة بالسوء، ثم عودتهم إلى ما نهيتهم عنه، وهم اليهود والمنافقون، كما ذكر في سبب النزول. ويتسارّون فيما بينهم بما هو معصية وذنب كالكذب، واعتداء وظلم للآخرين، وعدوان على المؤمنين، وتواص بمخالفة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وإذا أتى إليك بعض اليهود حيّوك بتحية سوء، لم يحيّك بها الله مطلقا، فيقولون:
السّام عليكم يا محمد، والسّام: الموت، يريدون بذلك السّلام في الظاهر، وإنما يعنون الموت في الباطن،
فيجيبهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: وعليكم، فسمعتهم عائشة رضي الله عنها يوما، فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما، فقالت: بل عليكم السّام واللعنة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مهلا يا عائشة، إن الله يكره الفحش والتّفحش، قالت: أما سمعت ما قالوا؟ قال: أما سمعت ما قلت لهم؟ إني قلت: وعليكم.
ثم كشف الله تعالى خبث طويتهم والحجة التي إليها يستريحون، وذلك أنهم كانوا يقولون، أي المنافقون وبعض اليهود الذين تخلّقوا بخلقهم،: نحن الآن نلقى محمدا بهذه الأمور التي تسوؤه ولا يصيبنان سوء، ولا يعاقبنا الله تعالى بذلك، ولو كان نبيّا لهلكنا بهذه الأقوال، وجهلوا أن أمرهم مؤخر إلى عذاب جهنم، فأخبر الله تعالى بذلك، وأنها كافيتهم، أي إنهم قالوا ذلك المقال، فجاوبهم الله: بأن جهنم تكفيهم، يدخلونها، فبئس المرجع والمآل: وهو جهنم.(3/2612)
ثم ذكر الله تعالى آداب المناجاة، حتى لا يكون المؤمنون مثل اليهود والمنافقين، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ أي يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله- والإيمان يقتضي امتثال أمر الله، والبعد عما ينافي العقيدة- إذا تحدّثتم سرّا فيما بينكم، فلا تفعلوا مثلما يفعل الجهلة من اليهود والمنافقين، من التّناجي بالمعصية والذنب، والاعتداء على الآخرين وظلمهم، وعصيان النبي صلّى الله عليه وسلّم ومخالفته.
وتحدّثوا بما هو طاعة وترك معصية، وبما فيه خير واتّقاء الله فيما تفعلون وتتركون، فإنكم إليه تجمعون يوم القيامة للحساب، فيخبركم بأعمالكم وأقوالكم، ويحاسبكم عليها. وهذه وصية للمؤمنين بألا يكون منهم تناج في مكروه، وذلك عامّ جميع الناس إلى يوم القيامة.
ثم ذكر الله تعالى أن التّناجي والشيطان لا يضرّ أحدا إلا بإذن الله، أي إنما التّناجي بالسوء من تزيين الشيطان ووسوسته، للإساءة للمؤمنين وإيقاعهم في الحزن، بإيهامهم أنهم في مكيدة يكادون بها، وليس الشيطان أو التّناجي الذي هو منه بتحريضه، بضارّ أحدا من المؤمنين إلا بإذن الله، أي بأمره وقدره، ثم أمر الله تعالى المؤمنين بالتوكّل على الله ربّهم، وتفويض الأمر إليه في جميع شؤونهم، والاستعاذة بالله من الشيطان، وترك المبالاة بما يزيّنه من النجوى. لذا
قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم وابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه» .
أدب المجالسة والتصدّق قبل مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم
منع الإسلام من التّناجي سرّا أو بالإثم والعدوان، حفاظا على الثقة والبعد عن الريبة والشك، وتبييت الغدر، والطعن، وأمر في المجالس بالتوسع، للتعاون والمحبة(3/2613)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
والودّ واحترام الآخرين. وكل ذلك لإشعار المسلمين أنهم في الواقع إخوة أمناء وأحبّاء، وصف واحد أمام الأعداء، حديثهم واضح لا غش فيه، ومجلسهم قائم على المساواة وتبادل الاحترام، وكان في صدر الإسلام الأمر بالتصدّق قبل مكالمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم توقيرا له وتعظيما، ثم رفع ذلك، دفعا للحرج وتيسيرا على جميع المؤمنين.
وهذا مقرر في الآيات الآتية:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 11 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
«1» «2» «3» [المجادلة: 58/ 11- 13] .
قال زيد بن أسلم وقتادة: نزلت (آية الأمر بالتّفسح) بسبب تضايق الناس في مجلس النّبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنهم كانوا يتنافسون في القرب منه وسماع كلامه والنظر إليه، فيأتي الرجل الذي له الحق والسّن والقدم (التقدم) في الإسلام، فلا يجد مكانا، فنزلت الآية بسبب ذلك.
يا أيها المصدّقون بالله ورسوله، إذا طلب منكم التوسع في المواضع أو المجالس، فليفسح بعضكم لبعض، وليوسع أحدكم للآخر، يوسع الله لكم في جنته ورحمته.
فالسّنة المندوب إليها هي التفسّح،
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي
__________
(1) توسّعوا فيها يوسّع الله عليكم في رحمته وجنّته.
(2) انهضوا أو ارتفعوا وتنحّوا عن مواضعكم للتوسعة على القادمين.
(3) أخفتم الفقر من ذلك؟(3/2614)
والدارمي وأحمد، عن أبي هريرة: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، فيجلس فيه، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا» .
فيكون القيام من المجلس منهيّا عنه، لهذا الحديث. أما القيام إجلالا للقادم فجائز بالحديث الذي
أخرجه البخاري وأبو داود وأحمد، عن أبي أمامة بن سهل: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم حين أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه قال: «قوموا إلى سيدكم» .
وواجب على المعظّم ألا يحبّ ذلك ويأخذ الناس به، لحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن معاوية: «من أحبّ أن يتمثّل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» .
وإذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا من المجلس، فافعلوا ذلك، وقد نزلت الآية آمرة بالقيام من المجلس، متى فهم ذلك بقول أو فعل، تمكينا من جلوس آخرين.
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل: أنها نزلت يوم الجمعة، وقد جاء ناس من أهل بدر، وفي المكان ضيق، فلم يفسح لهم، فقاموا على أرجلهم، فأقام صلّى الله عليه وسلّم نفرا بعدّتهم، وأجلسهم مكانهم، فكره أولئك النفر ذلك، فنزلت آية وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا.
وعلّة الأمر بالقيام للآخرين، وهو جواب الأمر بالنشوز أو النهوض: هو أن الله تعالى يرفع منازل المؤمنين في الدنيا والآخرة، بتوفير نصيبهم فيها، ويرفع أيضا بصفة خاصة منازل العلماء درجات عالية، في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، فمن جمع الإيمان والعمل رفعه الله بهما درجات، ومنه الرفع في المجالس، والله خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه، مطّلع على أحوال ونوايا جميع عباده، ومجازيهم عليها بما يناسب، من خير أو شرّ.
ثم أمر الله تعالى بالصدقة قبل مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى شقّوا عليه، فأراد(3/2615)
الله أن يخفف عن نبيّه، فأنزل: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً
فلما نزلت، صبر كثير من الناس، وكفّوا عن المسألة، فأنزل الله بعد ذلك: أَأَشْفَقْتُمْ الآية.
والمعنى: يا أيها الذين صدّقوا بوجود الله وتوحيده، وصدقوا برسالة رسوله، إذا أردتم مناجاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو مساررته في أمر من أموركم، فقدّموا قبل المناجاة صدقة، تصدّقوا بها، لتعظيم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والتّخفيف عنه، ونفع الفقراء. ذلك، أي تقديم الصدقة قبل المناجاة، خير لكم، لما فيه من طاعة الله وامتثال أمره، والثواب الأخروي، وأزكى لنفوسكم بتطهيرها من الشّح والبخل وحبّ المال، ونفع الفقراء، فإن لم يجد أحدكم تلك الصدقة، فلا حرج عليكم بالمناجاة بدون صدقة، والله واسع المغفرة والرحمة لأهل الطاعة.
ثم رفع الله تعالى الحكم السابق بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ أي أخفتم الفقر من تقديم الصدقات قبل مناجاة نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم، قال مقاتل: إنما كان ذلك عشر ليال، ثم نسخ، بما يلي.
ومعناه: وحين لم تفعلوا ما أمرتكم به من الصدقة قبل النجوى لثقلها عليكم، ورخّص الله لكم في الترك والمناجاة من غير صدقة، فثابروا واثبتوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وإطاعة الله ورسوله، والله خبير محيط بأعمالكم، فمجازيكم عليها.
وليس في الآية ما يدلّ على وقوع تقصير من الصحابة في تقديم الصدقة، فقد يكون عدم الفعل، لأنهم لم يناجوا. ولا يدلّ قوله: «فتاب عليكم» على أنهم قصّروا، لأن المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا، ومثل هذا يمكن التعبير عنه بالتوبة.(3/2616)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
موالاة الأعداء
حذّر القرآن المؤمنين من موالاة غيرهم ممن لا يريد بهم إلا السوء أو الشّر، وذلك حفاظا على وحدة الأمة ورعاية مصالحها، وإغلاق المنافذ للنفاذ بين جيوب الصف الإيماني من أجل إفساده وبذر بذور الفتنة والفرقة بين فئاته. وهذا مبدأ أساسي في السياسة الخارجية والداخلية، لا تستغني عنه أمة من الأمم، وكما جاء في كلام الله عزّ وجلّ في هذه الآيات:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 22]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [المجادلة: 58/ 14- 22] .
__________
(1) وقاية وسترا يتستّر به ويتّقى المحذور ومنه المجن: وهو الترس.
(2) ذو إهانة، من الهوان.
(3) استولى عليهم وغلب على أفكارهم.
(4) أتباعه وأنصاره.
(5) يعادون ويعطون الحدّ من الأفعال والأقوال.
(6) غالب قاهر. [.....]
(7) يصادقون ويوالون.
(8) أهلهم وقراباتهم.
(9) بقوة وطمأنينة منه.(3/2617)
الآية الأولى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نزلت في قوم من المنافقين تولوا قوما من اليهود وهم المغضوب عليهم.
ومعناها: أخبرني عن حال هؤلاء المنافقين الذين تولوا اليهود ومالؤوهم في الباطن، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين، فموقفهم يدعو إلى العجب. لذا فإن الله سخط عليهم، وهم، أي المنافقون، في الواقع ليسوا من المؤمنين ولا من اليهود، ويحلفون، يعني المنافقين، بالأيمان الكاذبة، وهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه، وأنه كذب لا حقيقة له.
هيّأ الله لهم العذاب المؤلم الشديد، وهو عذاب الآخرة، على أعمالهم السيئة المنكرة، ومن أهمها موالاة الكافرين، ومعاداة الكافرين، ساء الفعل القبيح فعلهم في الماضي. اتّخذوا أيمانهم (جمع يمين) وقاية وسترا لتغطية نفاقهم، وصون دمائهم، فانخدع بهم بعض الناس، ومنعوا الناس عن الإسلام، بسبب تثبيطهم وتهوين شأن المسلمين، فلهم عذاب مذلّ ذو إهانة في نار جهنم بسبب أيمانهم الكاذبة بالله تعالى.
لن تفيدهم أو تجديهم أموالهم ولا أولادهم شيئا من عذاب الله، وأولئك المتصفون بهذه الصفات هم أهل النار، لا يفارقونها، ويمكثون فيها على الدوام، لا يخرجون منها ولا يموتون فيها.
اذكر لهم أيها النّبي حين يبعثهم الله جميعا من قبورهم أحياء، ويحشرهم يوم القيامة عن آخرهم، فلا يترك أحدا منهم، فيحلفون بالله عزّ وجلّ أنهم كانوا على الهدى والاستقامة، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا، ويظنّون أو يتخيّلون بجهلهم، في الآخرة، أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما ينفع أو يدفع الضّر وتقبل منهم، كما ظنّوا في الدنيا، ألا إنهم بهذا التّصور هم الكاذبون أشد الكذب فيما يحلفون عليه. نزلت في شأن منافق
قال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال:(3/2618)
ذرني آتك بهم، فانطلق، فدعاهم، فحلفوا له ما قالوا وما فعلوا، فأنزل الله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً..
لقد استولى عليهم الشيطان وغلب على عقولهم فأنساهم ذكر الله، فتركوا أوامر الله والعمل بطاعته، أولئك- والإشارة لبعدهم في الغواية والضلال- جنود الشيطان وأتباعه، ألا إن أعوان الشيطان هم الخاسرون الهالكون، لأنهم باعوا الجنة بالنار، والهدى بالضلال.
ان الذين يعادون الله ورسوله، ويخالفون أوامر الله ونواهيه، هم لا غيرهم في عداد الأذلّين المهانين. وقد قضى الله في الأزل أن الله ورسله هم الغالبون بالحجة وانتشار الإسلام، إن الله قوي على نصر رسله، غالب لأعدائه. وهذا تبشير بنصر المؤمنين على الكافرين.
قال مقاتل: لما فتح الله مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها، قالوا: نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي: أتظنّون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إنهم لأكثر وأشد بطشا من أن تظنّوا فيهم ذلك؟ فنزلت: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وشأن المؤمنين أنهم لا يوادّون أعداء الله، فلا تجد قوما آمنوا بالله واليوم الآخر يصادقون من عادى الله تعالى ورسوله، حتى ولو كان المعادون من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم (قرابتهم أو قبيلتهم) التي ينتمون إليها، أي لا يجتمع في قلب واحد إيمان كامل مخلص مع موادّة الكفار، أولئك الذين يتجنّبون موادّة أعداء الله والرسول، ثبّت الله الإيمان الصحيح في قلوبهم، وقوّاهم بنصره وأفرغ الطمأنينة في نفوسهم، ويدخلهم ربهم جنات تجري من تحت قصورها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام، وقد قبل الله أعمالهم ورضي عنهم، وفرحوا بما أعطاهم ربّهم، أولئك هم(3/2619)
أنصار الله وجنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه، وينصرون أولياءه، ألا إن هؤلاء الأنصار هم لا غيرهم الفائزون بالجنان والسعادة الأبدية.
قال الرازي: إن الأكثرين اتفقوا على أن قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً.. نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النّبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم، لما أراد فتح مكة.(3/2620)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
تفسير سورة الحشر
إجلاء بني النّضير من المدينة
كان اليهود بطوائفهم الثلاث في المدينة هم الذين بدؤوا بنقض العهد مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتواطؤوا مع المشركين الوثنيين على مكايدة النّبي والمسلمين ومقاتلتهم، وأظهروا العداوة لهم، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم صالحهم على الجلاء من المدينة، وكان حصارهم في ربيع الأول- السنة الرابعة من الهجرة.
أخرج الحاكم وصححه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من المتعة والأموال إلا الحلقة وهي السّلاح، فأنزل الله فيهم:
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
مطلع سورة الحشر المدنية بالإجماع، وتسمى سورة بني النضير:
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
«1» «2» «3» «4» «5»
__________
(1) نزّهه وقدّسه.
(2) في وقت الجمع الأول، والجمع الثاني: إخراجهم من خيبر إلى الشام.
(3) قلاعهم.
(4) من حيث لم يخطر لهم ببال.
(5) ألقي فيها الخوف.(3/2621)
«1» «2» «3» [الحشر: 59/ 1- 5] .
نزّه الله تعالى عن كل نقص جميع الكائنات في السماوات والأرض، وسبّحه إما على الحقيقة وذلك بما يتفق مع طبيعة الجمادات، وإما مجازا، أي ان آثار الصنعة فيها والإيجاد لها كالتسبيح، وهو القوي المنيع الجناب، الغالب القاهر في ملكه، الحكيم في صنعه وقدره وشرعه، يضع الأشياء في موضعها الصحيح.
ومن حكمة الله وقدرته: أنه سبحانه هو الذي قضى بإخراج الذين كفروا من الكتابيين وهم يهود بني النضير، من ديارهم في المدينة المنورة، في الجمع الأول والجلاء والإخراج، فكان أول جلاء من المدينة: هو الذي فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والجلاء الآخر أو الثاني من خيبر إلى الشام: هو الذي فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ما توقعتم أيها المسلمون أن يخرج بنو النضير من ديارهم من المدينة، لقوتهم ومنعتهم، وكانوا أهل حصون وقلاع، وعقارات وبساتين نخيل واسعة، وذوو عدد وعدة، فجاءهم أمر الله وبأسه وعقابه من جهة لم تخطر لهم ببال أنهم لن يقدر عليهم، وهو أن الله أمر نبيّه بإجلائهم وقتالهم، وألقى الخوف الذي يملأ الصدر في قلوبهم، فلم تكن آمالكم وظنونكم أنهم يخرجون ويتركون أموالهم لكم.
ولما أيقنوا بالجلاء، أخذوا يهدمون بيوتهم من الداخل، كيلا يستفيد منها المسلمون، كما دمّرها المؤمنون من الخارج، فاتّعظوا أيها العقلاء بما حدث، واعلموا أن الله يفعل مثل ذلك بمن غدر وخالف أمر الله ورسوله.
__________
(1) الخروج الجماعي من الوطن.
(2) عادوه.
(3) نخلة.(3/2622)
ولولا أن قضى الله عليهم بالخروج والجلاء من الوطن على هذا النحو، لعذّبهم في الدنيا بالقتل والسّبي، كما فعل ببني قريظة سنة خمس للهجرة، بعد غزوة الخندق، وكما فعل بالمشركين يوم بدر في السنة الثانية، وبيهود بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة عقب معركة بدر الكبرى، ولهم في القيامة عذاب شديد في نار جهنم. وسبب إجلاء بني النضير: محاولتهم إلقاء صخرة من فوق سطح على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، مكان جلوسه بجوار جدار، فأطلعه الله تعالى بالوحي على مؤامرتهم، فقام ورجع إلى المدينة، وأمر بالتهيؤ لحربهم وإجلائهم عن المدينة، فحاصرهم ست ليال، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فطلبوا الصّلح على الجلاء وتحميل الإبل أموالهم إلا السّلاح.
وإنما فعل الله بهم ذلك وهو الطرد والإجلاء، وتسليط المؤمنين عليهم، لأنهم عادوا الله ورسوله، وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين، من البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، علما بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. ومن يعادي الله ورسوله بعدم الطاعة، ويتواطأ مع المشركين، وينقض العهد أو ميثاق الصحيفة على الأمن والسّلام والتعايش الديني والاجتماعي، والاقتصادي، فإن الله يعاقبه أشد العقاب، ويعذبه في الدنيا والآخرة.
وفي أثناء الحصار:
أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقطع نخل بني النضير وإحراقه، حتى لا يبقى لهم تعلّق بأموالهم وأمل بالعودة، ونادوا: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيب من يصنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟! فنزل قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها.. الآية.
أي إن ما قمتم به من قطع النخيل وإحراقه، أو تركه قائما دون قطع، فهو بأمر الله ومشيئته، وقد أذن بذلك، لإعزاز المؤمنين، وإذلال الرافضين للطاعة، وهم اليهود، ولإخزاء الفاسقين، أي الخارجين عن الحدود، الجاحدين بما أنزل الله تعالى على رسله. واللينة: النخلة.(3/2623)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
فالآية ردّ على قول بني النّضير: إن محمدا ينهى عن الفساد، وها هو ذا يفسد، فأعلم الله تعالى أن ذلك بإذنه، وليخزي الفاسقين من بني النضير.
حكم الفيء (أموال الأعداء)
ترتب على إجلاء بني النضير من المدينة وصلحهم على ترحيل أموالهم إلا السّلاح:
ظهور ما يسمى بالفيء، وهو الأموال التي أخذت منهم صلحا، فلم تؤخذ بطريق القتال، لأن المقاتلة كانت قليلة، فأجري ذلك مجرى ما لم يحصل فيه قتال أصلا، وخصّ الله تعالى بتلك الأموال رسوله، يتصرف فيها بحسب ما يرى من المصلحة، فقسمها بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصّمة.
وهذا في الآيات الآتية المبينة حكم الفيء وطريقة تقسيمه في المصالح العامة:
[سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) ما ردّه الله على رسوله من أموال بني النضير ونحوها، والفيء: ما أخذ من الأعداء بلا حرب.
(2) أي لم تأخذوه بطريق القوة بركوب الخيل، والإبل وهي الركاب خاصة.
(3) متداولا بين الأغنياء. [.....]
(4) الذين سكنوا المدينة ولزموها، وهم مؤمنون.(3/2624)
«1» «2» «3» [الحشر: 59/ 6- 10] .
هذا حكم قسمة الفيء، وإعلام أن ما أخذ من بني النضير ومن فدك فهو خاص للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس على حكم الغنيمة التي تؤخذ من العدو بطريق العنوة أو القتال، وإنما حكمه حكم خمس الغنائم تصرف في المصالح العامة، فما ردّه الله تعالى على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وصيّره إليه من أموال الكفار بني النضير فهو آت من غير قتال، ولكن الله يسلّط بقدرته وتدبيره رسله على من يشاء من أعدائه، فيأخذون أموالهم دون قتال، والله قادر على كل شيء، يفعل ما يشاء بمن يشاء. وفي ذلك قال عمر رضي الله عنه: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينفق منها على أهله نفقه سنة، وما بقي منها جعله في السلاح والكراع (الخيل) عدّة في سبيل الله تعالى.
ومصارف الفيء: هي أن كل ما ردّه الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم من كفار أهل القرى، كقريظة والنضير وفدك وخيبر، صلحا من غير قتال، ولم ينتزع بإيجاف خيل (وهو السرعة في الجري) ولا ركاب وهي الإبل الخاصة، يحكم الله به بما يشاء، فيكون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته، يتصرف به بحسب ما يراه من المصلحة، ثم يكون من بعده مصروفا في مصالح المسلمين العامة. ويقسم خمسة أقسام: سهم الله تعالى ورسوله: هو للرسول في حياته، ولمصالح المسلمين من بعده، وسهم قرابة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وسهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم ابن السبيل (المسافر المنقطع عن بلده في سفره) والأربعة الأخماس الباقية لمصالح المسلمين
__________
(1) حاجة.
(2) من يحمى ويمنع من بخل نفسه.
(3) حقدا وحسدا.(3/2625)
العامة. أما الغنيمة فيصرف خمسها لهؤلاء الأصناف الخمسة المذكورين في الآية، وآية الغنائم: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... [الأنفال: 8/ 41] ، والأربعة الأخماس الباقية للمقاتلين في المعركة.
وعلّة هذا التقسيم وحكمه: ألا يكون تداول الأموال محصورا بين الأغنياء فقط، ولا يصيب الفقراء منه شيء، فيغلب الأغنياء الفقراء، ويقسمونه بينهم، وهذا مبدأ إغناء الكل.
وما أمركم به الرسول صلّى الله عليه وسلّم فخذوه، وما منعكم عنه فاتركوه، وخافوا الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، إن الله شديد العقاب لمن عصاه، وخالف أمره، وارتكاب ما زجر عنه. ثم بيّن الله تعالى حال الفقراء المستحقّين للفيء، فسهم هؤلاء غير سهم الله والرسول، وهم فقراء المهاجرين الذين أبعدوا من ديارهم وأموالهم، طلبا لمرضاة الله وفضله، وإعلاء كلمة الله ودينه، ونصرة الله ورسوله بجهاد الأعداء، هؤلاء المهاجرون هم الصادقون في إيمانهم، الذين صدّقوا قولهم بفعلهم.
ثم يعطى سهم للأنصار الذين سكنوا المدينة دار الهجرة، من قبل مجيء المهاجرين، ويحبّون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم، ولا يجدون في أنفسهم حاجة أي حسدا أو حقدا بسبب ما أوتي المهاجرون دونهم، بل طابت أنفسهم بذلك، ويقدمون غيرهم على أنفسهم في حظوظ الدنيا، ولو كان بهم حاجة وفقر، ومن كفاه الله داء بخل نفسه ووقي من ذلك، فأدى ما يجب عليه شرعا من زكاة أو حقّ، فقد فاز وظفر بكل المطلوب. والإيثار على النفس أكرم خلق.
والذين أتوا في الزمان من بعد المهاجرين والأنصار، وهم التابعون لهم بإحسان يقولون: ربّنا اغفر لنا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وانزع من قلوبنا الغلّ أو الحقد والبغض والحسد للمؤمنين قاطبة، فإنك يا ربّ واسع الرأفة، كثير الرحمة،(3/2626)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
فاقبل دعاءنا. قال الإمام مالك: إنه من كان له في أحد من الصحابة قول سوء أو بغض، فلا حظّ له في الغنيمة أدبا له.
مواقف المنافقين واليهود في القتال
ضمّ التّكتل المعادي للمسلمين في صدر الإسلام فئات ثلاثا: هم المشركون الوثنيون، والمنافقون واليهود، وهم الحلف الثلاثي لمعسكر الشّر والكيد، والتّآمر والعدوان، فقد جمعتهم المصالح، لمحاربة أهل القرآن وأتباع النّبي عليه الصّلاة والسّلام، وأظهروا مواقف عدوانية خطيرة، لا بدّ من صدّها والوقوف ضدّها، ولم تمض إلا فترة زمنية قليلة إلا وانفرط عقد هذا الحلف المشبوه، وتبددت قوى أهله، وزال كيد أصحاب الكيد والضّلال، قال الله تعالى واصفا مواقف فئتين من هذا التّكتل، وهم المنافقون واليهود:
[سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الحشر: 59/ 11- 17] .
__________
(1) ليفرّن هاربين منهزمين.
(2) أسوار، جمع جدار.
(3) حربهم، وشديد: متمكّن بيّن.
(4) متفرقة متخالفة.
(5) عاقبة كفرهم.
(6) مصيرهما.(3/2627)
أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال: أسلم ناس من أهل قريظة، وكان فيهم منافقون، وكانوا يقولون لأهل النضير: «لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم» فنزلت هذه الآية فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ..
نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول، ورفاعة بن التابوت، وقوم من منافقي الأنصار.
والمعنى: ألم تنظر نبي الله إلى هؤلاء القوم من المنافقين كعبد الله بن أبي، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد، وأمثالهم، حين بعثوا إلى يهود بني النضير: أن اثبتوا وتحصّنوا، أو تمنّعوا، فإننا لا نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، ولا نطيع في شأنكم ومن أجلكم أحدا ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم كمحمد وأتباعه، وإن طال الزمان، وإن قوتلتم لننصرنكم على أعدائكم، وكانوا كذبة فيما قالوا من ذلك، والله يشهد إنهم لكاذبون فيما وعدوهم به من الخروج والنصرة، إما لنيّتهم المبينة ألا يفوا بما وعدوا به، وإما لأنهم لا ينفّذون ما قالوا.
ثم فصّل الله تعالى أخبارهم الكاذبة ومواقفهم الخادعة، فقال: لَئِنْ أُخْرِجُوا أي تالله لئن أخرج يهود بني النضير من ديارهم، لا يخرج معهم المنافقون، ولئن قاتلهم المؤمنون لا يقاتلون معهم، ولئن قاتلوا معهم، لفرّوا هاربين منهزمين، ثم لا يصير الفريقان من المنافقين واليهود منصورين بعد ذلك، بل يذلّهم الله ويخذلهم، ولا ينفعهم نفاقهم.
إنكم أنتم أيها المسلمون أشدّ خوفا ورهبة في صدور المنافقين واليهود من رهبة الله، فهم يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله، بسبب أنهم قوم لا يعلمون قدر عظمة الله، حتى يخشوه تمام الخشية، ولو فقهوا لعلموا أن الله تعالى أحقّ بالرّهبة منه دونكم.(3/2628)
وأسلوب المنافقين واليهود في قتال المؤمنين أنهم لا يواجهون جيش الإسلام مواجهة، ولا يقاتلونهم مجتمعين، وإنما يقاتلونهم من وراء الحصون والقلاع، أو من خلف الأسوار التي يتستّرون بها، لجبنهم ورهبتهم، وحربهم الدائرة بينهم شديدة، تظنهم جميعا متوحّدين، وهم متفرّقون، لما بينهم من أحقاد وعداوات، ولأنهم قوم لا يعقلون الحق وأمر الله. وبأسهم: أحقادهم وأضغانهم.
ولهم أشباه ونظائر، فهؤلاء اليهود والمنافقون أصابهم مثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر، في السنة الثانية من الهجرة، ومثل ما أصاب من قبلهم من يهود بني قينقاع الذين أجلاهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى أذرعات بالشام، بعد سنة ونصف من الهجرة، إنهم ذاقوا في زمان قريب سوء عاقبة كفرهم في الدنيا، ولهم عذاب مؤلم جدّا في الآخرة. ولهم مثل آخر، فإنهم مثل الشيطان الذي سوّل للإنسان الشّر، وأغراه بالكفر وزيّنه له، وحمله عليه، فلما كفر مطاوعة للشيطان، تبرأ الشيطان منه، وقال على وجه التّبري من الإنسان: إني أخاف عذاب الله ربّ العالمين إذا ناصرتك، أي ان مثل هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير كمثل الشيطان والإنسان، فالمنافقون مثلهم الشيطان، وبنو النضير مثلهم الإنسان.
فكان عاقبة الفريقين: فريق المنافقين واليهود، وعاقبة الشيطان الآمر بالكفر والإنسان المستجيب لوسوسة الشيطان: أنهما صائران إلى نار جهنم، خالدان فيها على الدوام، وذلك الجزاء وهو الخلود في النار هو جزاء الكافرين جميعا.
التذكير بالآخرة
تكرر في القرآن الكريم كثيرا الأمر بتقوى الله التي هي التزام المأمورات، واجتناب المنهيات، وذلك فيما يقارب مائتين وأربعين مرة، إما بالأمر، أو بالخبر،(3/2629)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
أو بالوصف والإشادة بالمتّقين، من أجل تربية الإنسان وتصحيح عقيدته وعبادته وسلوكه في الحياة، ورغّب القرآن في الإعداد للجنّة، وحذّر من عمل أهل النار، ووصف أهل الجنة المستحقين لها بالفائزين، وأهل النار بالفاسقين. وهذه آيات وعظ وتذكير وتقريب للآخرة. وتحذير ممن لا تخفى عليه خافية، قال الله تعالى:
[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» [الحشر: 59/ 18- 24] .
يا أيها المصدّقون بالله ورسوله، افعلوا ما أمرتكم به، واجتنبوا ما نهيتكم عنه، ولتتأمل نفس واحدة ما أسلفت ليوم القيامة، واتّقوا الله- وكرّر الأمر بذلك للتأكيد- فإن الله مطّلع على أعمالكم، ومجازيكم عليها كلها.
واحذروا أن تكونوا كالذين تركوا أمر الله، وأهملوا حقوق الله الواجبة على عباده، ولم يخافوا ربّهم، فجعلهم ناسين أنفسهم بسبب نسيانهم لربّهم، فلم يعملوا
__________
(1) أي ليوم القيامة.
(2) المالك المتصرف في ملكه تصرّفا تامّا.
(3) المنزه عن النقص أو الكامل الصفات والأفعال.
(4) ذو السلامة من كل نقص. [.....]
(5) المصدّق رسله فيما بلّغوه.
(6) الرّقيب الحافظ لكل شيء.
(7) القوي الغالب.
(8) الذي أجبر خلقه على ما أراد.
(9) البليغ الكبرياء والعظمة.
(10) الخالق: المقدّر للأشياء، والبارئ: المنشئ من العدم.
(11) الموجد لصور الأشياء.(3/2630)
الأعمال الصالحة التي تنفعهم في المعاد، وتنجيهم من العذاب، أولئك هم التاركون حقوق الله، الخارجون عن حدود الله وطاعته.
ولا مساواة بين المحسنين والمسيئين، فلا يستوي مستحقّو النار، ومستحقّو الجنّة في حكم الله تعالى في الفضل والمنزلة، أصحاب الجنّة هم الناجون، الظافرون بكل مطلوب. وهذا ترغيب في العمل للجنة، وترهيب من العمل للنار. وهذه الآيات الثلاث كلها لتأكيد الأمر بالتقوى وطاعة الله تعالى.
وللقرآن عظمته البالغة ومواعظه المؤثرة، فلو أنزلنا هذا القرآن على جبل من الجبال، لرأيته مع كونه بالغ الصلابة، في غاية الخشوع والخضوع والانقياد لأمر الله، يكاد يتشقّق من خوف الله وخشية عذابه، وهذه الأمثال المذكورة نضربها للناس جميعا، لعلهم يتفكرون فيما يجب عليهم التفكّر فيه، ويتّعظوا بالمواعظ. وهذه موعظة بالغة للإنسان، وذمّ لأخلاقه في غفلته وإعراضه عن داعية الله تعالى، مع وجود الأوصاف لله التي توجب لمخلوقاته هذه الخشية.
ولقد عظم القرآن الكريم بعظمة صفات منزله، فالله هو الإله الواحد الذي لا إله غيره، ولا ربّ سواه، عالم بكل ما غاب عن الأحاسيس، وبكل ما هو مشاهد محسوس، وهو ذو الرحمة الشاملة الواسعة، المنعم بجلائل النّعم ودقائقها.
والغيب: ما غاب عن المخلوقين ومنه الآخرة. والشهادة: ما شهدوه، ومنه الدنيا.
هو الله الواحد الأحد، وكرّر ذلك للتأكيد والتقرير، والمالك لجميع الأشياء، المتصرّف فيها على وجه التمام والكمال، الطاهر من كل عيب أو نقص، الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله، السالم من أي نقص وعيب ومن أي جور، أي ذو السّلام، المصدق أنبياءه فيما بلّغوا، والمصدّق المؤمنين في أنهم آمنوا، المهيمن، أي الرقيب الحافظ لكل شيء، الأمين عليه، القوي الغالب، ذو العزّة والجبروت فلا يدانيه شيء(3/2631)
ولا يلحق رتبته، والبليغ الكبرياء والعظمة، الذي له التكبّر حقّا، المنزه نفسه عن إشراك الكفار به الأصنام التي ليس لها شيء من هذه الصفات، الخالق: المقدر لخلقه على حسب ما تقتضيه حكمته، الموجد خلقه من غير تفاوت مخلّ به، المصوّر: الموجد صور الأشياء وكيفياتها، له الأسماء الحسنى: الدّالة على محاسن المعاني، ينزهه كل ما في السماوات والأرض، وهو بهذه الصفات القوي الغالب القاهر الذي لا يغالبه مغالب، الشديد الانتقام من أعدائه، الحكيم في تدبير خلقه وشرعه وقدره، وفي كل الأمور التي يقضي فيها، فهو كامل القدرة، تام العلم. أي إن الله واجب الوجود أزلا وأبدا، الحاضر الذي لا يزول. المعبود بحق، فلا يستحقّ العبادة أحد غيره، كامل الصفات والأفعال.
فقوله: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي ذات الحسن في معانيها القائمة بذاته، لا إله إلا هو، وهذه الأسماء هي التي حصرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
بقوله: «إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنّة» «1» .
وقد ذكرها الترمذي وغيره مسندة، واختلف الرّواة في بعضها.
وأخرج الدّيلمي عن ابن عباس مرفوعا: «اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر» .
فيدعى بها لاشتمالها على الاسم الأعظم. والعبرة في الدعاء بهذه الأسماء: الإخلاص وصفاء النفس والروح، والتوجّه الصادق لله عزّ وجلّ.
__________
(1) حديث صحيح أخرجه التّرمذي وابن حبان في صحيحة والحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه.(3/2632)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
تفسير سورة الممتحنة
حكم موالاة الأعداء
في مواطن كثيرة من آي القرآن الكريم حذّر الله تعالى من موالاة الكفار، ونهى عن اتّخاذهم أولياء، أي أصدقاء، لوجود التهمة وانعدام الثقة بنصحهم وقولهم، ومن أجل الحفاظ على المصالح العامة العليا للأمة، التي إن روعيت تحقق النصر والأمن والمصلحة، وإن ألغيت أو عبث بها بعض الناس، وقعت الأمة في الهزائم المتوالية، والهزّات، والمحن المتلاحقة، وسورة الممتحنة كلها نزلت- كما أخرج أصحاب الكتب السّتة- في شأن حاطب بن أبي بلتعة الذي أخبر قريشا بكتاب مع امرأة بعزم النّبي صلّى الله عليه وسلّم على حربهم، ونزل جبريل بالخبر، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا وعمارا وعمرا أو الزبير والمقداد بن الأسود (أي ثلاثا) والظاهر المشهور أنهم علي والزبير والمقداد، لتخليص الكتاب من المرأة، ففعلوا، وقد أراد حاطب الذي شهد بدرا مصانعة قريش ليحموا له أهله وأمواله، ولم ينافق أو يكفر، فأنزل الله هذه السورة (الممتحنة) التي هي مدنية بالإجماع ومطلعها:
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
«1» «2» «3»
__________
(1) العدو: اسم يقع للجمع والمفرد، والمراد به هاهنا كفار قريش، وينطبق على سائر الكفار.
(2) أصدقاء توالونهم السّر.
(3) تفضون إليهم بالمودّة، أي النصيحة هنا.(3/2633)
«1» [الممتحنة: 60/ 1- 3] .
يا أيها المصدّقون بالله تعالى ورسوله، لا تتخذوا عدوي وعدوّكم، وهم هنا كفار قريش، أنصارا وأعوانا وأصدقاء لكم، تنقلون إليهم أخبار نبيكم والمؤمنين، بسبب المودة التي بينكم وبينهم. وهذا نهي صريح عن موالاة الكفار بأي وجه من الوجوه.
وسبب النّهي: أنهم كفروا بالله ورسوله، وبما جاءكم من الحق وهو القرآن وهداية الله، وأخرجوا الرسول والمؤمنين من مكة، من أجل إيمانهم بالله تعالى، وعبادتهم إياه، وذلك للدواعي الآتية المتعلقة بكم:
- لا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيل الله وطلب مرضاته.
- وتنقلون إليهم الأخبار، وتسرّون إليهم بمودّتكم لهم، وأنا الله العالم بالسرائر والضمائر والظواهر، وبكل ما تخفون وما تعلنون.
- ومن يوال الأعداء منكم، فقد انحرف وأخطأ طريق الحق والصواب، وحاد عن قصد السبيل التي توصل إلى الجنة والرضوان الإلهي.
وكذلك لأسباب ثلاثة منهم تمنع موالاتهم، وتدلّ على عداوتهم وحقدهم وكراهيتهم:
- إن يلقوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة والبغضاء، ويكونوا حربا عليكم.
__________
(1) إن يظفروا بكم.(3/2634)
- ويمدّوا إليكم أيديهم بالضرب والأذى والقتل وغير ذلك من صنوف الاعتداء، وينالوكم بألسنتهم وكلماتهم سبّا وقذفا وشتما وبكل إساءة.
- ويتمنّوا ارتدادكم وكفركم بربّكم ورجوعكم إلى الكفر، فهم يحرصون على ألا تنالوا خيرا، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة، فكيف توالون مثل هؤلاء الذين يبتدءونكم بالعداوة والسوء؟! ورابطة الدين والإيمان أنفع لكم من رابطة القرابة والموالاة، فلن تفيدكم يوم القيامة أقاربكم وأولادكم، حتى توالوا الكفار لأجلهم، كما وقع في قصة حاطب ابن أبي بلتعة التي هي سبب نزول هذه الآيات، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة الكفار، وترك موالاتهم، وتوثيق صلات الإيمان وأخوة الدين، لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 49/ 10] . ففي الآخرة يفرّق الله بينكم، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار، والله مطّلع على أعمالكم، ومبصر بها، ومجازيكم عليها إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.
والقصد من هذه الآية: أن القرابة النّسبية لا تنفع شيئا عند الله تعالى، إن أراد الله بكم سوءا، ولن تفيدكم القرابة إذا أرضيتموها بما يسخط الله، ومن وافق أهله على الكفر، فقد خاب وخسر وضلّ عمله، ولو كان قريبا لنبي أو منسوبا لآل البيت الطاهرين، لقوله تعالى في الأبوين: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لقمان: 31/ 15] . هذا في الدنيا.
وأما في الآخرة فيقول الله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) [المؤمنون: 23/ 101] . ويقول سبحانه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) [الزّخرف: 43/ 67] .
ألا إن المودّة لا تنفع يوم القيامة إن لم تكن فيما يرضي الله، حبّا ومعاداة، لانفصال كل اتّصال يومئذ، واعتماد كل إنسان على ما قدّم لنفسه.(3/2635)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
إبراهيم الخليل أسوة حسنة
الأنبياء الكرام كلهم قدوة للناس، ولا سيما إبراهيم الخليل أبو الأنبياء عليهم السّلام، وذلك في كل ما أمرهم الله تعالى به، ومنه التّبرؤ من الكفار ومعاداتهم، ولو كانوا إخوة أو آباء أو غيرهم، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة ومحبة وثقة، ولكن الله تعالى استثنى من التّأسي بأقوال إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام استغفاره لأبيه، الذي كان عن موعدة وعده بها قبل أن يعلم أنه عدوّ لله، ففي هذا لا يستغفر أحد لأبيه إذا كان كافرا، ولا تأسّي بما حدث، كما تصرّح هذه الآيات الكريمة:
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 9]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [الممتحنة: 60/ 4- 9] .
لا بدّ لكل أمة من نبراس أو رمز أو قدوة عملية، يعمل الناس بسيرته العملية،
__________
(1) قدوة وإمام.
(2) أبرياء لا نعتد بكم وبآلهتكم. [.....]
(3) العداوة: ضدّ الصداقة، والبغضاء: الكراهية ضدّ المحبة.
(4) رجعنا وتبنا.
(5) صلة وقربى.
(6) تحكموا بينهم بالعدل، والاقساط: العدل.
(7) العادلين.
(8) تعاونوا على إخراجكم.
(9) تتخذوهم أولياء أي أنصارا وأعوانا.(3/2636)
وقد جعل الله للمسلمين من الأنبياء الماضين إبراهيم الخليل عليهم السّلام قدوة طيبة حميدة، يقتدون به وبمن آمن برسالته الداعية لتوحيد الله عزّ وجلّ والمنفّذة للدعوة، حين قالوا لقومهم الكفرة عبدة الأوثان: إننا بريئون منكم، لكفركم بالله وشرككم به، وبريئون من كل ما تعبدون من غير الله من الأصنام، فقد جحدنا بما آمنتم به من الأوثان، وكذّبناكم في أقوالكم ولم نؤمن بشيء منها.
وعادتنا معكم: أنه قد ظهرت العداوة والكراهية بيننا وبينكم، ما دمتم على كفركم، فنحن نتبرأ منكم إلى الأبد، حتى تظهروا الإيمان بالله وحده لا شريك له، وتعبدوا الله دون غيره، وتتركوا ما أنتم عليه من الشّرك والوثنية.
ثم استثنى الله تعالى شيئا لا يتأسّى به بإبراهيم عليه السّلام، ألا وهو استغفاره لأبيه، وقوله له: لا أملك لك من ردّ عذاب الله شيئا إن أشركت به، فلا تتأسوا به في هذا الاستغفار للمشركين، فإن استغفار إبراهيم لأبيه كان بسبب وعد سابق وعده إيّاه، فلما تبيّن له أنه عدوّ لله، تبرأ منه.
واعتصم إبراهيم عليه السّلام والمؤمنون به: بتوحيد الله حين فارقوا قومهم وتبرؤوا منهم قائلين: يا ربّنا اعتمدنا عليك في جميع أمورنا، ورجعنا وتبنا إليك، فإليك المرجع والمصير في الآخرة، لا لأحد سواك.
يا ربّنا لا تغلّبهم علينا، فنكون لهم فتنة وسبب ضلالة، لأنّهم يتمسكون بكفرهم ويقولون: إنما غلبناهم لأنا على الحقّ وهم على الباطل، هذا قول قتادة، وقال ابن عباس: لا تسلّطهم علينا فيفتنونا عن ديننا، وهذا القول الثاني أرجح، لأنهم إنما دعوا لأنفسهم، وعلى منحى قتادة إنما دعوا للكفار. واغفر لنا ذنوبنا يا ربّنا، فإنك أنت القوي الغالب القاهر، وذو الحكمة البالغة في أقوالك وأفعالك، وشرعك وقدرك، وتدبير خلقك.(3/2637)
ثم أكّد الله تعالى المطالبة بالتّأسّي بإبراهيم والمؤمنين معه، فلقد كان لكم في إبراهيم والمؤمنين معه قدوة حسنة، لمن كان يطمع في الخير والثواب من الله، في الدنيا والآخرة، ويتأمّل النجاة في اليوم الآخر، ومن يعرض عما أمر الله تعالى به، ويوال أعداء الله ويوادّهم، فإنه لا يضرّ إلا نفسه، فإن الله هو الغني عن خلقه، المحمود: المستحقّ الحمد من جميع مخلوقاته بما أنعم عليهم.
ولما نزلت هذه الآيات، وصمم المؤمنون على قطع الصّلات بالكفار وإظهار عداوتهم، تأسّفوا على قراباتهم أن لم يؤمنوا ولم يهتدوا، حتى يبقى بينهم الودّ والتّواصل، فنزل قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ الآية مؤنسة لهم في ذلك، ومرجّية أن يقع، فأسلموا في فتح مكة، وصار الجميع إخوانا.
والمعنى: ربّما أسلم أعداؤكم، وصاروا من أهل دينكم، فتحوّلت العداوة إلى مودّة، والبغضاء إلى محبة، والله قادر على كل شيء، وغفور لمن أخطأ، فوادّهم، واسع الرّحمة بهم، فلم يعذّبهم بعد التوبة.
ثم سامح أو رخّص الله في مواصلة الكفار الذين لم يقاتلوا المؤمنين ولم يطردوهم من ديارهم، فلا يمنعكم الله من فعل الخير مع الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء والضعفاء منهم، ولم يخرجوكم من دياركم، ولا يمنعكم أيضا من أن تحكموا بينهم بالعدل، إن الله يرضى عن العادلين.
نزلت هذه الآية- كما
أخرج أحمد والبخاري ومسلم- في أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، حين استأذنت النّبي صلّى الله عليه وسلّم في صلة أمها وإعطائها شيئا من المال، وهي مشركة، فقال: «نعم، صلي أمك» ، فأنزل الله فيها: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ..
والقصد من الآية: أن الله تعالى لا ينهى عن برّ المعاهدين من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى ألا يعينوا عليهم.(3/2638)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
- إنما ينهاكم الله معشر المؤمنين عن موالاة الذين عادوكم، وهم مشركو قريش المردة وأمثالهم الذين قاتلوكم وأخرجوكم من دياركم، وساعدوا على إخراجكم، أن تتخذوهم أولياء، أي أنصارا وأصدقاء، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم، لأنهم صانعوا من يستحقّ العداوة.
اختبار المهاجرات إلى دار الإسلام
تضمن صلح الحديبية بين النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومشركي مكة على أن يردّ المؤمنون إلى الكفار كل من جاء مسلما من رجل أو امرأة، فنزلت آية اختبار المهاجرات إلى دار الإسلام إثر صلح الحديبية، ونقض الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية، وحكم بأن المهاجرة المؤمنة لا تردّ إلى دار الكفر، بل تبقى عند المسلمين وتستبرأ بحيضة، وتتزوج، ويعطى زوجها الكافر الصداق الذي أنفق، وأمر الله أيضا المؤمنين بطلب صداق من فرّت امرأته من المؤمنين، معاملة بالمثل، كما يتبين في هذه الآيات:
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
«1» «2» [الممتحنة: 60/ 10- 11] .
أخرج البخاري ومسلم عن المسور ومروان بن الحكم: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لما
__________
(1) مهورهن، ويطلق الأجر على المهر في اللغة والاصطلاح القرآني.
(2) أي ما تعتصم به الكافرات من عقد الزواج.(3/2639)
عاهد كفار قريش يوم الحديبية، جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ.. إلى قوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا، أي صدّقوا بالله ورسوله، إذا جاءكم النساء اللاتي آمنّ مهاجرات «1» من بلاد الكفار، فاختبروهن وجرّبوهن وتعرفوا حقيقة ما عندهن، لتعلموا صدق رغبتهن في الإسلام، واسألوهن عن سبب مجيئهن. وسماهن الله تعالى:
مُؤْمِناتٍ قبل التّيقن من ذلك، عملا بظاهر أمرهن. وقوله: فَامْتَحِنُوهُنَّ أمر بمعنى الوجوب، وقيل: بمعنى النّدب أو الاستحباب.
قال ابن عباس وآخرون في كيفية هذا الامتحان: كان بأن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغض زوجها، ولا بجريرة جرّتها، ولا بسبب من أعراض الدنيا، سوى حب الله تعالى، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والدار الآخرة.
ثم حضّ الله تعالى على امتحانهن، واحتمال الاسترابة ببعضهن، فقال: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ.. أي إن الامتحان في الظاهر فقط، أما في الحقيقة والواقع فلا يعلم حقيقة حالهن إلا الله تعالى، والله أمركم بالظواهر، وهو يتولى السّرائر، فإن ترجح لكم أو غلب على ظنّكم أنهنّ مؤمنات، فلا تردوهنّ إلى أزواجهن المشركين. وسمي الظنّ علما: من باب الظّن الغالب.
والعلّة في ألا يردّ النساء إلى الكفار: هي امتناع الوطء وحرمته، فليست المؤمنات حلالا للكفار، وإسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها، وليس الكفار حلالا للمؤمنات. وهذه الآية هي التي حرّمت المسلمات على المشركين الوثنيين. وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، كزواج أبي العاص بن الربيع بزينب ابنة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم أسلم سنة ثمان.
__________
(1) منصوب على الحال.(3/2640)
وأحكام تسوية زواج المسلمة المهاجرة: هي ما يأتي:
- ادفعوا إلى أزواج المهاجرات من المشركين ما غرموه عليهن من المهور.
- ولا إثم ولا حرج عليكم أيها المؤمنون في الزواج بالمؤمنات المهاجرات إذا أعطيتموهن مهورهن، وبشرط انقضاء عدتهن، وكون الزواج من الولي وغير ذلك.
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري في قوله: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت، فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها.
- ويحرم عليكم أيها المؤمنون بعد نزول هذه الآية الزواج بالمشركات الكوافر، واستمرار العصمة الزوجية معهن، فمن كانت امرأته مشركة وثنية، فليست له بامرأة، لانقطاع عصمتها باختلاف الدين.
- وطالبوا بمهور نسائكم إذا ارتددن، وليطالبوا بمهور نسائهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين. ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجانبين، واستثناء النساء من حكم صلح الحديبية: هو حكم الله وشرعه يحكم به بين عباده، والله واسع العلم، بالغ الحكمة في أقواله وأفعاله، فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة.
- وإن ذهبت امرأة من أزواجكم إلى الكفار، بأن ارتدت المسلمة ورجعت إلى دار الحرب، فعاقبتم، أي فصرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم، وذلك بأن يأتيكم شيء من أزواجهن، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهن مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، إذا لم يردّ المشركون على زوجها مهرها، واحذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم، وخافوا الله تعالى بتنفيذ حكمه وشرعه، أي إن علة إيجاب التقوى: هي الإيمان بالله تعالى، والتصديق بوحدانيته وصفاته وعقابه وإنعامه.
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ الآية، قال(3/2641)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
- كما تقدم-: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت، فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتدّ امرأة من قريش غيرها.
وفي الجملة: على الكفار ردّ مهر المرأة العائدة إلى دار الكفر، فإن ردّوه تحقّق المطلوب، وإلا فمن غنائم الحرب العائدة منهم.
بيعة المهاجرات
من المعلوم أن رسالة الإسلام عامة للإنس والجن، للعرب وغيرهم، وللعالم كله، ذكورا وإناثا، لإصلاح الحياة البشرية بنمو متوازن، فتعمّ الاستقامة، ولا يبقى فيها زاوية في المجتمع دون ترميم أو إصلاح، لذا كانت بداية دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى دين الله وتوحيده، موجهة للرجال والنساء معا، عن طريق البيعة أو المعاهدة، فكانت بيعة الرجال أولا، ثم بيعة النساء، قبل فرض شريعة القتال، ولما فرغ النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر أسفل منه يبايع النساء، بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويبلغهن عنه. وهذا ما أخبرت به الآيات الآتية:
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 12 الى 13]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
«1» «2» «3» «4» [الممتحنة: 60/ 12- 13] .
__________
(1) البهتان: أسوأ الكذب، والمراد هنا: أن تنسب المرأة إلى زوجها ولدا ليس له.
(2) يختلقن نسبة الولد إلى الزوج.
(3) المعروف: كل ما ندب إليه الشرع من الحسنات، ونهى عنه من المستقبحات.
(4) عامة الكفار ومنهم اليهود. [.....](3/2642)
نزلت الآية الأولى يوم فتح مكة، فإنه صلّى الله عليه وسلّم لما فرغ من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء.
أخرج البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يمتحن من هاجرن إليه بهذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ.. الآية، فمن أقرّت بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«قد بايعتك» كلاما، ولا، والله ما مسّت يده يد امرأة في المبايعة قط، ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك» .
والمعنى: إذا جاءك أيها النّبي المؤمنات بالله ورسوله، يعاهدنك ويقصدن مبايعتك على الإسلام والطاعة، فبايعهن على ألا يشركن بالله شيئا من وثن أو حجر أو ملك أو كوكب أو بشر، ولا يسرقن من أموال الناس شيئا، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، أي بالوأد وغيره، وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات، ولا يلحقن بأزواجهن أولادا ليسوا لهم.
ولا يعصينك في أمر معروف: وهو كل ما وافق طاعة لله، أي كل ما أقرّ به الشّرع، أو نهى عنه، كالنهي عن النّوح وتمزيق الثياب، وجزّ الشعر، وشقّ الجيب، وخمش الوجوه، والدعاء بالويل، والخلوة بالأجنبي غير المحرم، فبايعهن، واطلب من الله المغفرة لهن، بعد هذه المبايعة منك، إن الله واسع المغفرة لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم، فلا يعذبهم بما اقترفوه قبل الإسلام.
وكانت بنود بيعة النساء هذه، قد بويع بها الرجال أيضا.
روى البخاري عن عبادة ابن الصامت قال: كنا عند النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا» ؟ قرأ آية النّساء، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا، فستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عذّبه، وإن شاء غفر له منها» .
لقد أجمع الصحابة على أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لم تمسّ يده الشريفة يد امرأة أجنبية،
أخرج(3/2643)
البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت- كما تقدم-: فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد بايعتك» كلاما، ولا والله ما مسّت يده يد امرأة في المبايعة قط، ما يبايعهن إلا بقوله: «قد بايعتك على ذلك» .
وأخرج عبد الرزاق وأحمد والنّسائي وغيرهم عن أميمة بنت رقيقة: «.. قلن: يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال: «إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» . وفي لفظ آخر: «إني لا أصافحكن، ولكن آخذ عليكن ما أخذ الله» .
ثم أكّد الله تعالى النّهي عن موالاة الكفار الأعداء كما بدأ سورة الممتحنة، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً.. أي يا أيها المؤمنون برسالة الإسلام لا تتخذوا اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم، ولعنهم، واستحقّوا الطرد والإبعاد من رحمته أنصارا وأصدقاء، وقد يئسوا من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عزّ وجلّ، وأصبحوا لا يوقنون بالآخرة، بسبب كفرهم وعنادهم، كيأس ذلك الكافر من الرحمة في قبره، وذلك لأنه قد رين (غطّي) على قلوبهم، وحملهم الحسد على ترك الإيمان، وغلب على ظنونهم أنهم معذّبون، وهذه كانت صفة كثير من معاصري النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وقوله تعالى: قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ القوم: إما كفار قريش في رأي ابن عباس، ويكون معنى قوله تعالى: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ كما يئس بقية الكفار في قبورهم من لقاء بعضهم بعضا، لأن اعتقاد أهل مكة في الآخرة كاعتقاد الكافر في البعث ولقاء موتاه. وإما أن المراد بهم هم اليهود في رأي ابن زيد والحسن البصري ومنذر بن سعيد، ويكون معنى قوله تعالى: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ: كما يئس الكفار من الرحمة إذا مات وكان صاحب قبر.
والآية نزلت، كما أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن عمر، وزيد بن الحارث يوادّان رجلا من يهود، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية.(3/2644)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
تفسير سورة الصّف
وحدة الصّف وتطابق القول مع العمل
نظّم الإسلام المجتمع تنظيما دقيقا على أسس متينة، وأخلاق ومبادئ رصينة، لتكون الأمة كتلة واحدة متراصّة، فأمر بوحدة الصّف في القتال، ومواجهة الأعداء، ودعا إلى العمل المطابق للقول، فلا يكون هناك ازدواج أو تنافر بين الكلمة وبين الفعل، لأن ظهور مثل هذه الظاهرة يهدم الثقة، ويزعزع بنية الأمة، ويشيع تصوّرا كئيبا على عدم الصدق في الإيمان وصحّة الاعتقاد، وضعف الفكر وانعدام التخطيط للمستقبل. وهذا ما حذّر منه القرآن الكريم في الآيات الآتية في مطلع سورة الصّف، التي هي مدنيّة على الصحيح عند جمهور العلماء:
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
«1» «2» «3» «4» «5» «6»
__________
(1) المقت: أشد البغض.
(2) صافين أنفسهم.
(3) متراص متلائم الأجزاء.
(4) مالوا عن الحق.
(5) لما تقدمني من الكتب كالتوراة والزبور.
(6) من أسماء النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعناه: أنه أحمد الناس لربّه.(3/2645)
[الصّف: 61/ 1- 9] .
أخرج التّرمذي والحاكم وصححه والدارمي، عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحبّ إلى الله لعملناه، فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) فقرأها علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ختمها.
المعنى: نزّه الله ومجّده لعظمته وقدرته ووحدانيته وجميع صفات كماله: جميع ما في السّماوات وما في الأرض، من العقلاء وغيرهم، وهو في سلطانه وقدرته القوي الغالب القاهر فوق عباده الذي لا يغالب، الحكيم في أفعاله وأقواله، وفي تدبيره خلقه وتصريف أمورهم وفي أفعاله كلها.
يا أيها المصدّقون بالله ورسوله، لأي شيء تقولون قولا وتخالفون عملا؟ وهذا إنكار شديد على كل من وعد وعدا أو قال قولا، ثم لا يفي به.
ثم ذمّ الله تعالى كل من يخالف فعله قوله: لقد عظم جرما أن تقولوا قولا، وتفعلون غيره، فإن خلف الوعد دليل على حبّ الذات فقط، وإهدار مصلحة الآخرين وكرامتهم ووقتهم. وكل من يقول ما لا يفعل فهو ممقوت مذموم كذوب غير مخلص. والمقت: البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة، يصنعها الممقوت.
ثم مدح الله تعالى الذين أقدموا على قتال عدوّهم صفّا واحدا، حيث ذكر أن الله يرضى عن المقاتلين المتّحدين صفا واحدا، وكتلة متراصّة لا تتزحزح من المواقع،(3/2646)
كأنهم بناء راسخ شامخ. وهذا تأكيد لمحبة الله للمقاتلين صفّا. ومحبة الله: هي ما يظهر عليهم من نصره وكرامته. والمحبة: صفة فعل، وليست بمعنى الإرادة، لأن الإرادة لا يصح أن يقع ما يخالفها، والمقاتلون على غير هذه الصفة كثيرون.
ثم ذكّر الله تعالى بمقالة موسى وعيسى حين كذّبهما القوم، ليكون ذلك ضرب مثل للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون، لأن التكذيب تصادم مع الواقع.
واذكر أيها الرسول لقومك خبر موسى عليه السّلام حين قال لقومه بني إسرائيل:
يا قوم لم تلحقون الأذى بي بمخالفة ما آمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم، أو لم تؤذونني بالشّتم والتعييب، وأنتم تعلمون يقينا صدقي فيما جئتكم به من الرسول، فلما زاغوا، أي تركوا الحقّ ولم يتبعوا نبيّهم، أمال الله قلوبهم عن الهدى، والله لا يوفّق للحق ولا يرشد للهداية القوم الكافرين الذين كفروا بأنبيائهم، وعصوا رسلهم. فاحذروا أيها المؤمنون أن يصيّركم العصيان وقول الباطل إلى مثل حالهم.
واذكر أيضا أيها النّبي لقومك خبر عيسى حين قال: يا بني إسرائيل، إني رسول الله إليكم بالإنجيل، لم آتكم بشيء يخالف التوراة، وإنما أؤيدها وأكملها، فكيف تعصونني؟ وإن التوراة بشّرت بي، وأنا مبشّر بمن بعدي: وهو الرسول العربي أحمد، أي أحمد الناس لربّه، وهو محمد عليه الصّلاة والسّلام، فلما جاء أحمد المبشّر به في الكتب المتقدمة بالمعجزات والأدلّة القاطعة، قال الكفار: هذا سحر واضح لا شك فيه.
أخرج البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي (أي بعدي) وأنا العاقب» .
أي الآخر الآتي بعد الأنبياء.(3/2647)
ولا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله، ويجعل له شركاء، وهو يدعى إلى إسلام القلب لله، وإلى التوحيد والإخلاص، والله لا يرشد للحق والصواب القوم الكافرين الظالمي أنفسهم بالكفر.
إن الكفار يريدون أو يحاولون إبطال دعوة الإسلام، ومنع هدايته، ومقاومة دعوته، والله مظهر دين الإسلام في الآفاق، ولو كره الكافرون ذلك.
إن الله هو الذي أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالهدى التّام، ودين الحقّ الناصع، المتمثّل بالقرآن والسّنة، ليجعله متفوقا على جميع الأديان، ولو كره المشركون ذلك، فإنه كائن لا محالة وهذا تأكيد لأمر الرسالة ومؤازرتها.
حكى الماوردي عن عطاء عن ابن عباس: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا واتّصل الوحي بعدها.
وإنما قال: وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أولا ليتناسب مع كلمة (النّور) فالكفر أعم من الشرك، والنّور أعم من الدين والرسول صلّى الله عليه وسلّم.
التجارة الناجحة
إن سبيل الفلاح والنجاح هو في اتّباع شرع الله ودينه، ولا نجد أحدا يعرض عن تعاليم الله تعالى إلا كان خاسرا خائبا، لأنه ورّط نفسه في المهالك والعقاب الأليم.
وحينئذ تكون التجارة الرابحة: هي في إعلان الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله بالمال والنفس، لتحقيق العزّة والانتصار، والظفر بالسعادة، وتكون مناصرة دين(3/2648)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
الله والحق صمام أمان من الضياع، وتحقيق النجاة، كما ناصر الحواريون نبيّهم عيسى ابن مريم رسول الله عليه السّلام، فيما تقرّره الآيات الآتية:
[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
«1» «2» «3» «4» «5» [الصّف: 61/ 10- 14] .
أخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: قالوا: لو كنا نعلم أي الأعمال أحبّ إلى الله وأفضل؟ فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ.. الآية، فكرهوا الجهاد، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، ألا أرشدكم إلى تجارة نافعة رابحة؟! وهذا أسلوب فيه ترغيب وتشويق، والمراد بالتجارة هنا العمل الصالح، ونوع التجارة:
هي أن تواظبوا على الإيمان بالله ورسوله، وتخلصوا العمل لله، وتجاهدوا من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه بالأنفس والأموال، والأموال مقدمة للإعداد الحربي، لبدء الاستعداد بها.
وكلمة خَيْرٌ إما للتفضيل أي خير من كل عمل، أو إخبار أن هذا خير في ذاته ونفسه.
__________
(1) التجارة في الأصل: تبادل البيع والشراء لأجل المكسب، المراد بها هنا: العمل الصالح.
(2) أي أنصار دينه ورسوله.
(3) أي خلصاؤه وأصفياؤه، وخلصاء الأنبياء عليهم السّلام.
(4) جماعة.
(5) غالبين.(3/2649)
ذلكم المذكور من الإيمان والجهاد خير لكم وأفضل من أموالكم وأنفسكم، ومن أنواع التجارات في الدنيا والعناية بها وحدها، إن كنتم تعلمون الحقائق والغايات.
وثمرة الإيمان والجهاد هي: إن فعلتم ما أمرتكم به والتزمتم منهاجي، غفرت لكم ذنوبكم، وأدخلتكم جنات (بساتين) تجري الأنهار من تحت قصورها، وفيها مساكن طيبة للنفوس، ودرجات عالية، في جنات إقامة دائمة، لا تنتهي بموت ولا بخروج منها، وذلكم المذكور من المغفرة ودخول الجنات: هو الفوز الأعظم الذي لا فوز بعده. وهذا في الآخرة.
وفي الدنيا تتحقق لكم خصلة أو نعمة أخرى تعجبكم: هي نصر مبين من الله لكم، وفتح عاجل للبلاد، كمكة وغيرها من بلاد فارس والروم، أي إن قاتلتم في سبيل الله، ونصرتم دينه، تكفّل الله بنصركم. وبشّر أيها الرسول المؤمنين بالنصر العاجل في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.
ثم أمر الله أو ندب إلى النصرة، فيا أيها المؤمنون كونوا على ما أنتم عليه من نصرة دين الله وتأييد شرعه ورسوله، في جميع الأحوال بالأقوال والأفعال، والأنفس والأموال، واستجيبوا لدين الله ورسوله، كما استجاب الحواريون (أصفياء المسيح عليه السّلام وخلصاؤه) لعيسى حين قال لهم: من الذي ينصرني ويعينني في الدعوة إلى الله؟ فقال الحواريون: نحن أنصار دين الله، ومؤيدوك فيما أرسلت به، فبعثهم الله مبشّرين ودعاة إلى دينه في أنحاء بلاد الشام.
فلما بلّغ عيسى عليه السّلام رسالة ربّه إلى قومه، وآزره الحواريون، اهتدت طائفة (جماعة) من بني إسرائيل إلى الإيمان الحق، وآمنوا بعيسى على حقيقته أنه: عبد الله ورسوله، وضلّت طائفة أخرى، وكفرت بعيسى، وجحدوا نبوته، واتّهموه وأمّه بالفاحشة، وهما منها بريئان براءة مطلقة.(3/2650)
فنصرنا المؤمنين على من عاداهم من فرق النصارى، وقوّينا أهل الحق منهم بالحجة والتأييد من عندنا على المبطلين، فأصبحوا غالبين عليهم.
وإيراد هذا المثل واضح التأثير، فإن القلة المتمسكة بالحق، الناصرة لدين الله وشرعه، تصبح عما قريب هي صاحبة القوة والمجد، وكما تحقق ذلك في التاريخ المسيحي قبل الإسلام، تحقق كما هو معروف في التاريخ الإسلامي بعد نزول القرآن، ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وذلك في مختلف الأنحاء، في داخل الجزيرة العربية حيث تطهرت من الشرك والوثنية، وفي خارجها حيث دحرت قوى مملكتين عظيمتين، وهما فارس والروم، وحلّت محلهما القوة المسلمة الجديدة التي تنشد الخير والسعادة والنجاة للعالم أجمع.(3/2651)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
تفسير سورة الجمعة
فضل البعثة النبوية
كانت البعثة النبوية وما تزال خيرا عميما على العرب والناس قاطبة، لاشتمالها على مقومات الحياة السعيدة الطيبة، وكونها مصدر العلم والمعرفة والبيان، وتتويجها بنزول القرآن الكريم، وتعريف النبي الناس بخصائص القرآن وأسراره، وشرائعه، وإيتاء النبي صلّى الله عليه وسلّم السّنة الشريفة التي هي الحكمة والميزان، وسميت السّنة حكمة، وهي سداد القول وصواب العمل، ووضع ذلك في موضعه الصحيح اللائق به، لأن أقواله صلّى الله عليه وسلّم وأفعاله وإقراراته هي عين الحكمة: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ..
[النّساء: 4/ 113] ، وسميت السّنة أيضا ميزانا في قوله تعالى:
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) [الشورى:
42/ 17] لأن السّنة النبوية المشتملة على أقواله وأفعاله صلّى الله عليه وسلّم وأحواله ميزان لكل ذلك.
وجاء أيضا في مطلع سورة الجمعة التي هي مدنية بالإجماع ما ينص صراحة على أن السّنة هي الحكمة، في الآيات الآتية:
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
«1» «2» «3» «4» «5»
__________
(1) ينزه ويقدّس ويمجّد الله.
(2) المنزه عما لا يليق به.
(3) العرب الذين لا يقرءون ولا يكتبون. [.....]
(4) يجعلهم أطهارا.
(5) السّنة ومعالم الشريعة.(3/2652)
«1» [الجمعة: 62/ 1- 4] .
ينزّه الله ويمجده جميع المخلوقات ناطقها وجامدها، إقرارا بوجوده ووحدانيته وقدرته، ولأنه مالك السماوات والأرض المتصرف فيهما بأمره وحكمته، المنزه عن جميع النقائص والعيوب، القوي في سلطانه وقدرته، الغالب القاهر الذي لا يغلبه غالب، البالغ العزة والحكمة، المتقن في تدبيره وأفعاله كل شيء.
واللام في قوله لِلَّهِ يسبح لله: زائدة بقصد التوكيد والتمكين.
والله سبحانه هو الذي أرسل في العرب الأميّين، حيث كان أكثرهم لا يقرأ ولا يكتب، أرسل فيهم رسولا من جنسهم، فهو أمّي مثلهم، يتلو عليهم آيات القرآن، ويطهرهم من الشرك، وينمي الخير فيهم، ويعلّمهم القرآن والسّنة ومعالم الشريعة، وإن كانوا من قبل مجيئه لفي خطأ واضح، بعيد عن الحق. فالكتاب في الآية: الوحي المتلو وهو القرآن، والحكمة: السّنة ومعالم الشريعة، أي أحكام الدين والقرآن.
وهذه الآية تعديد نعم الله تعالى على العرب فيما أولاهم.
ووصف العرب بالأميّين لعدم تمكّن أكثرهم من القراءة والكتابة، كما
جاء في قوله صلّى الله عليه وسلّم- الذي أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنّسائي-: «إنا أمّة أميّة لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا»
أي تسعة وعشرون يوما أو ثلاثون.
وهذا الوصف تأكيد أيضا البيان النعمة على العرب بذكر حالهم التي كانت على الضد من الهداية، الغارقة في الضلالة. وكلمة مِنْهُمْ دالّة على أن النّبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم العربي الهاشمي هو من العرب الخلّص.
__________
(1) أي من قبل مجيء النبي لفي خطأ واضح.(3/2653)
وامتدّت بركة البعثة النّبوية إلى جميع طوائف الناس، من الروم والفرس وغيرهم، حيث أعدّ الله لقبول دينه جماعة آخرين: وهم من دخل في الإسلام بعد الصحابة إلى يوم القيامة، وهم لم يلحقوا بالصحب الكرام في ذلك الوقت، وسيلحقون بهم من بعد، والله هو القوي الغالب القاهر، ذو العزة والسلطان، القادر على التمكين لأمّة الإسلام في الأرض، وهو ذو الحكمة البالغة في شرعه وقدره، وأفعاله وأقواله، وتدبير خلقه. وكلمة مِنْهُمْ في قوله: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ إنما يراد بها في البشرية والإيمان، كأنه تعالى قال: وآخرين من الناس، سواء من العرب أو من غيرهم هم من الأمة الإسلامية.
وكلمة آخَرِينَ إما معطوفة بالنصب على ضمير يُعَلِّمُهُمُ أي يعلّم العرب وغيرهم، أو معطوفة بالجر على قوله تعالى: فِي الْأُمِّيِّينَ أي وبعث في الأمّيين رسولا منهم، وفي آخرين.
وهذا دليل على عموم بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جميع الناس، فهي إلى العرب وغيرهم، ويدلّ على ذلك كتب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ملوك وأمراء فارس والروم وغيرهم من الأمم، يدعوهم فيها إلى الله عزّ وجلّ وإلى اتباع ما جاء به. وقوله: لَمَّا نفي لما قرب من الحال، والمعنى: أنهم مزمعون أن يلحقوا بهم. وهي (لم) زيدت عليها (ما) للتأكيد.
هذه البعثة النبوية خير كبير ورحمة وفضل على الأمة العربية والناس جميعا، لقوله تعالى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ.. أي ذلك الإسلام والوحي وإعطاء النبوة العظيمة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: فضل من الله يعطيه من يشاء من عباده، والله صاحب الفضل العظيم الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه، وهو ذو المنّ العظيم على جميع خلقه في الدنيا، بتعليم الكتاب والحكمة في الدنيا، وفي الآخرة بمضاعفة الجزاء على الأعمال. فقوله تعالى:
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ تبيين لموقع النعمة وتخصيصه إياهم (أي العرب وغيرهم) بها.(3/2654)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
وفي القرآن آيات كثيرة أخرى تدل على عموم الرسالة الإسلامية لجميع أبناء البشرية رجالا ونساء، بل وللجنّ أيضا كما هو ثابت في سورة الجنّ وغيرها، مثل قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 7/ 158] .
وقوله سبحانه: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) [الفرقان:
25/ 1] .
موقف اليهود من التوراة
زعم اليهود أن النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى العرب خاصة، ولم يبعث لهم، لمفهوم الآية السابقة: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ.. فردّ الله عليهم بأنهم لم يعملوا بالتوراة، وأنهم لو عملوا بمقتضاها وما تضمنته من البشارة بالرسول محمد، لانتفعوا بها وآمنوا به، ولم يقولوا هذا القول. وكذلك ردّ الله عليهم حين قالوا:
نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 5/ 18] بأنه لو كان قولهم حقا وموثوقا به، لتمنّوا على الله أن يميتهم، لينقلهم إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه، وهم في الحقيقة لا يتمنون الموت أبدا، بسبب ما قدموا من الكفر وتحريف الآيات. وهذا ما صرّحت به الآيات التالية متضمنة هذين الرّدّين:
[سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
«1» «2» «3»
__________
(1) أي كلفوا بها.
(2) كتبا علمية عظيمة.
(3) أي أحبّاؤه.(3/2655)
«1» [الجمعة: 62/ 5- 8] .
إن مثل اليهود الذين كلفوا العمل بالتوراة والقيام بأوامرها ونواهيها، ثم هجروها وتركوها، كمثل الحمار الذي يحمل الكتب الكبيرة على ظهره، وهو لا يقدّر قيمتها وأهميتها، ولا الفرق بينها وبين الأحمال الأخرى، لأنه عديم الفهم. وهذا كما حمل الإنسان الأمانة. فهم لم يلتزموا حدود التوراة، حين كذبوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والتوراة تنطق بنبوته، فكأن كل خير لم ينتفع به من حمّله، كمثل حمار عليه أسفار، لا يميز بينها. والأسفار جمع سفر: وهو الكتاب المجتمع الأوراق منضّدة.
ما أقبح ما يمثّل به للمكذبين الذين كذبوا بآيات الله، وما أشنع هذا التشبيه، وهو تشبيه اليهود بالحمار، فإياكم أن تكونوا أيها المسلمون مثلهم. والله لا يوفق للحق والخير القوم الكافرين، بنحو عام، ومنهم اليهود بالأولى. فقوله: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ معناه وتقديره: بئس المثل مثل القوم.
ثم ذمّ اليهود ذمّا آخر، وردّ على مزاعمهم ردا آخر، قل أيها الرسول: يا أيها اليهود إن كنتم تزعمون أنكم أولياء الله، أي أحباؤه من دون الناس، وأنكم على هدى، وأن المسلمين على ضلالة، فاطلبوا الموت لتصيروا إلى الكرامة أو التكريم في زعمكم، وادعوا بالموت على الضّال من الفئتين، إن كنتم صادقين في هذا الزعم.
روي أنها نزلت بسبب أن يهود المدينة لما ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاطبوا يهود خيبر في أمره، فذكروا نبوّته، وقالوا لهم: إن رأيتم اتّباعه أطعناكم، وإن رأيتم خلافه خالفناه معكم، فجاءهم جواب أهل خيبر يقولون: نحن أبناء إبراهيم خليل الرحمن، وأبناء عزير ابن الله، ومنا الأنبياء، ومتى كانت النّبوة في العرب؟ نحن أحقّ بالنّبوة
__________
(1) تخافون منه.(3/2656)
من محمد، ولا سبيل إلى اتّباعه، فنزلت الآية، بمعنى: إنكم إذا كنتم من الله بهذه المنزلة، فقربه وفراق هذه الحياة الخسيسة أحبّ إليكم، فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين، تعتقدون في أنفسكم هذه المنزلة.
قال ابن عطية: ثم أخبر الله تعالى أنهم لا يتمنون الموت ولا يريدونه إلا كرها، لعلمهم بسوء حالهم عند الله تعالى وبعدهم عنه. وروى كثير من المفسّرين أن الله تعالى جعل هذه الآية معجزة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وآية باهرة، وأعلمه أنه إن تمنى أحد منهم الموت في أيام معدودة مات وفارق الدنيا.
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تمنّوا الموت على جهة التعجيز وإظهار الآية
، فما تمنّاه أحد، خوفا من الموت، وثقة بصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ثم توعّدهم الله تعالى بالموت الذي لا محيد لهم عنه، ثم بما بعده من الرد إلى الله تعالى، عالم الحس والمشاهدة، وعالم المغيبات المجهولة للبشر، فيخبركم بأعمالكم، ويجازيكم عليها بما أنتم له أهل. إن هذه الرّدود القاطعة، والتحدّيات القرآنية السافرة لليهود تدلّ دلالة قاطعة على أنهم قوم لا يريدون الحق، ويزعمون أنهم شعب الله المختار، وهذا كذب وافتراء، فهم أبعد الناس عن القربى من الله، وعن رضا الله عنهم. إنهم قتلة الأنبياء، وطعنة أعراض وكرامات الأنبياء، وهم أبعد الناس عن التوراة وعن أحكام الله وشرائعه، إنهم أعداء الله والإنسانية على حد سواء، وبخاصة هم أعداء العرب والمسلمين جميعا.
صلاة الجمعة والعمل بعدها
الإسلام دين جمع بين الدنيا والآخرة، والمادة والروح، والعبادة والمعاملة، فهو دين الوسطية والاعتدال، وإعطاء كل ذي حق حقّه، فالعبادة فريضة والجمعة فريضة، يجب احترامها والقيام بها على وجه أتم، من السعي إليها إن كانت جمعة،(3/2657)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
والاستماع إلى خطبتها، فلا يجوز الاشتغال عنها بأي عمل آخر من بيع وشراء أو تجارة، أو لهو، أداء مهمة. لكن بمجرد الانتهاء منها، طلب الإسلام التفرغ للأعمال الأخرى، والسّعي في توفير المكاسب والمعايش مع ملازمة ذكر الله وخشيته سرّا وعلانية، وهذا ما أمرت به الآيات الآتية:
[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
«1» «2» «3» «4» [الجمعة: 62/ 9- 11] .
يا معشر أهل التصديق والإيمان بالله ورسوله وبالإسلام الحق، إذا أذّن لصلاة الجمعة في يومها المعروف، بالأذان الثاني بعد جلوس الخطيب على المنبر، فيحرم التشاغل بأعمال الدنيا، وعليكم المبادرة إلى أداء الفريضة، من الاستماع إلى ذكر الله، وهو الخطبة، وأداء صلاة الجمعة في المسجد الجامع، وترك البيع وسائر أوجه المعاملات من إجارة وشركة ونحوهما، وذلكم السّعي إلى ذكر الله وترك البيع خير من فعل البيع وترك السّعي، لما في الامتثال من الثواب والجزاء الحسن، إن كنتم من أهل الدّراية والعلم الصحيح بما ينفع. وخصّ البيع بالذكر، لأنه من أهم ما يشغل الإنسان نهارا، وفيه إشارة إلى ترك جميع التّجارات والمهن والحرف في وقت الخطبة والصلاة. أما الأذان الأول فهو تنبيه للإعداد للصلاة والمضي إليها خشية أن يفوت تحقيق المقصد الشرعي من تشريع صلاة الجمعة والاستماع لخطبتها.
__________
(1) النّداء للجمعة: الأذان الداعي لها.
(2) فامشوا إلى ذكر الله بقصد طيب حسن واتركوا البيع ونحوه.
(3) أدّيت الصلاة.
(4) أسرعوا إليها.(3/2658)
والسّعي في الآية: ليس الإسراع في المشي، كالسّعي بين الصّفا والمروة، وإنما المراد إتيان الصلاة بالسكينة والوقار، والسّعي: هو بالنّية والإرادة والعمل. والذّكر:
هو وعظ الخطبة.
ويسنّ لصلاة الجمعة ثلاثة أذانات: ما قبل دخول الوقت بحوالي نصف ساعة أو أقل، والأذان بعد دخول الوقت، وهو الذي زاده عثمان رضي الله عنه لما اتسعت المدينة، على الزوراء (أعلى دار كانت بالمدينة قرب المسجد) ويوصف بأنه الأذان الثاني أو الثالث، والأذان بين يدي الخطيب، وهو الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد شاهدت في بلاد المغرب في الرباط وغيرها في وقت واحد أذانات ثلاثة متوالية، قبل شروع الخطيب بالخطبة، وذلك إحياء للسّنة كما يبدو، ولكن الغريب كونها متعاقبة في زمن واحد، حيث لا يصلّون السّنة القبلية.
ويكره البيع تحريما بعد الأذان عند الحنفية، ويحرم عند الآخرين، لكنه ينفذ ويمضى ولا يفسخ عند الشافعية، ويفسخ في المشهور عند المالكية ما لم يتم القبض، ولا يصح عند الحنابلة، لأن الجمعة واجبة على الرجال المقيمين الأحرار الذين لا عذر لهم، وترك الجمعة إخلال بالفرض للأمر بها،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه أحمد والحاكم عن أبي قلابة، وأحمد والنّسائي وابن ماجه والحاكم عن جابر: «من ترك الجمعة ثلاث مرات متواليات، من غير ضرورة، طبع الله على قلبه»
إسناده صحيح ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي.
والعمل مباح بعد الفراغ من الصلاة وإتمامها، لقوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ.. أي إذا أدّيتم الصلاة وفرغتم منها، فيباح لكم التوزّع في نواحي الأرض للتجارة وبقية الأعمال، ولكن لا تنسوا في أثناء العمل تذكر الله كثيرا ومتابعة الأذكار، كالتسبيح والتحميد والتكبير والاستغفار ونحو ذلك. وقوله(3/2659)
تعالى: فَانْتَشِرُوا وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أمر ومقتضى الأمر هنا الإباحة في طلب المعاش، مثل قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 5/ 2] .
ثم عاتب الله المؤمنين حين تركوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يخطب، وخرجوا من المسجد، للاشتغال بالتجارة والاستماع إلى طبولها المعبّرة عن الفرحة بقدوم التجارة من بلاد الشام أو غيرها، وذلك في قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً.. أي إذا رأى المصلّون في الجامع الذين يستمعون إلى الخطبة قافلة التجارة القادمة من الشام، أو رأوا لهوا كقرع الطبول وضجيج المزامير، احتفالا بزواج وغيره، خرجوا من المسجد، وانصرفوا إلى الملاهي ومتع الدنيا، وتركوك أيها النّبي قائما على المنبر تخطب فيهم، لوعظهم وإرشادهم، فقل لهم أيها الرسول: ما عند الله من الثواب العظيم في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة التي هي هنا سبب الخروج، والله مصدر الرزق وخير الرازقين، فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسّلوا بعمل الطاعة، فذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه، والله يرزق بسخاء من توكّل عليه، وطلب الرزق في وقته، وهو سبحانه كفيل برزق العباد، ولن يحرم أحد رزقه أو ينقص منه شيء بسبب الصلاة. وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ مناسب لكل من التجارة واللهو الذي هو كالتبع للتجارة.
نزلت هذه الآية بسبب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قائما على المنبر، يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عير (إبل محملة بالتجارة) من الشام، تحمل ميرة (طعاما للسفر ونحوه) وصاحبها دحية بن خليفة الكلبي. قال مجاهد: وكان من عرفهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والمعازف والصياح من ورائها، فدخلت العير بمثل ذلك، فانفض أهل المسجد إلى رؤية ذلك وسماعه، وتركوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما على المنبر، ولم يبق معه غير اثني عشر رجلا، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أنا أحدهم.(3/2660)
أخرج عبد بن حميد عن الحسن البصري أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال في شأن الباقين معه دون خروج من المسجد: «والذي نفس محمد بيده، لو تتابعتم، حتى لا يبقى منكم أحد، لسال عليكم الوادي نارا» .
وتدلّ هذه الآية على قيام الخطيب. وأول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله عنه، وأول من خطب جالسا معاوية رضي الله عنه.(3/2661)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
تفسير سورة المنافقون
صفات المنافقين
خصّص الله تعالى- بعد تعداد خصال المنافقين في مناسبات قرآنية عديدة- سورة لبيان أوصاف المنافقين هي سورة (المنافقون) المدنية بالإجماع، التي نزلت في غزوة بني المصطلق، بسبب أن عبد الله بن أبيّ بن سلول كان منه في تلك الغزوة أقوال غريبة، وكان له أتباع يقولون قوله، ويتصفون بصفاته، فهم كذبة في حلفهم وشهادتهم في الظاهر، ونحو ذلك مما تقدم قبل الغزوة كالتحريض على ترك الإنفاق أو التصدق على بعض الأصحاب، وهم قوم مغرورون سواء في الغزوة أو بعدها، بدليل ما أظهروه من كراهية وعداء مثل تحدّي المؤمنين بأنهم أذلّة وهم أعزّة، والتهديد والتصميم على إخراج المسلمين من المدينة بعد عودتهم من تلك الغزوة، كما تصوّر هذه السورة ومطلعها:
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) نحلف.
(2) وقاية وسترا.
(3) ختم عليها فلا ينفذ إليها الخير والإيمان. [.....]
(4) أخشاب مائلة إلى الجدار.(3/2662)
«1» «2» «3» «4» [المنافقون: 63/ 1- 6] .
فضح الله تعالى بهذه الآيات سرائر المنافقين، فإنهم إذا جاؤوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كابن أبي وأتباعه كذبوا وقالوا: نحلف بأنك رسول الله إلى الناس كافة، وهم في إخبارهم هذا كاذبون، لإخبارهم بضد ما في قلوبهم، والله يعلم بصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم في رسالته، وهو ما تضمنه كلامهم، والله يقسم بأن المنافقين لكاذبون في أيمانهم.
وقوله: يَشْهَدُ ونحوها من أفعال اليقين والعلم بمنزلة القسم.
إنهم جعلوا أيمانهم الكاذبة وقاية وسترا لحماية أنفسهم من القتل والأسر، وأموالهم من الأخذ، كما يفعل بالأعداء المقاتلين، فاغتر بهم من يجهلهم، وظنوا أنهم مسلمون، وشككوا غيرهم بحقائق الإيمان والجهاد، ومنعوهم من الإسلام والطاعة، إنهم ساء ما عملوا ويعملون. فهم في هذا أجرموا بجرمين كبيرين: الحلف بالإيمان الكاذبة، والصّد عن الدخول في الإسلام، ومنع الاسهام في الجهاد في سبيل الله، فكانوا أقبح الناس. والمراد: صدّوا غيرهم ممن كانوا يريدون الإيمان بسبب تشكيكهم ودسائسهم المنكرة.
وأسباب هذا الموقف وافتضاح الله لهم وتوبيخهم: أنهم آمنوا نفاقا، ثم كفروا حقيقة، فختم الله على قلوبهم بسبب كفرهم، فلا يدخلها إيمان، ولا تهتدي إلى حق،
__________
(1) يظنون أن كل صوت مزعج واقع بهم.
(2) لعنهم وطردهم.
(3) يصرفون عن الحق والإيمان إلى الضلال.
(4) أمالوها.(3/2663)
ولا ينفذ إليها خير، فأصبحوا لا يفهمون ما فيه رشدهم وصلاحهم، ولا يدركون أدلة صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رسالته.
ثم وبّخهم الله لأنهم كانوا رجالا فصحاء ووجهاء، فكان منظرهم يخدع، فإذا نظرت إليهم أعجبتك هيئاتهم، وإن تكلموا سمع كلامهم، وظنّ السامع أنه حق وصدق، لفصاحتهم، وذلاقة ألسنتهم، كأنهم في الواقع أخشاب جوفاء منخورة مستندة إلى الحيطان، ومجرد كتل بشرية لا تفهم ولا تعلم.
وهم مع جمال هيئاتهم، ومناظرهم في غاية الجبن والضعف، يظنون كل صوت عال أنه واقع بهم، لفراغهم النفسي وترددهم وقلقهم وخوفهم المسيطر عليهم، وانهزامهم الداخلي، فهم الأعداء الألدّاء، فاحذر مؤامراتهم، ولا تطلعهم أيها النّبي على شيء من الأسرار، لأنهم جواسيس للمشركين والكفار، لعنهم الله وطردهم من رحمته، وأهلكهم، كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل والضلال. وكلمة (قاتلهم) :
كلمة ذم وتوبيخ للتعجب، أو إن القتل مستعمل في اللعن والطرد، على سبيل الاستعارة التبعية لعلاقة المشابهة، في أن كلّا منهما نهاية الشدائد والعذاب.
وإذا طلب منهم بقيادة زعيمهم عبد الله بن أبي أن يأتوا لرسول الله ليطلب لهم المغفرة من الله، أعرضوا واستكبروا واستهزءوا، ورأيتهم يعرضون إعراضا شديدا، مع إمالة رؤوسهم، ويمنعون عن سبيل الله غيرهم، فلا يتركونهم يؤمنون، وذلك في حال من الاستكبار والأنفة.
أخرج ابن جرير عن قتادة قال: قيل لعبد الله بن أبي: لو أتيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فاستغفر لك، فجعل يلوي رأسه، فنزلت فيه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ.. الآية.
وهذا دليل على إعراضهم عن الاعتذار.
والاستغفار في الواقع لا ينفعهم، فسواء استغفرت لهم أيها الرسول أم لم تستغفر(3/2664)
لهم، لن يغفر الله لهم لإصرارهم على الكفر والنفاق، ولا يجديهم الاستغفار شيئا، ما داموا على النفاق، إن الله لا يوفق الخارجين عن الطاعة، المنهمكين في المعاصي، المظهرين خلاف ما يبطنون، والله لا يغفر لهم دون حدّ في الاستغفار، وذلك ناسخ في رأي بعضهم لآية الاستغفار سبعين مرة «1» بدليل
حديث: «لو علمت أني لو زدت غفر لهم» «2» .
أخرج ابن جرير عن عروة قال: لما نزلت اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التّوبة: 9/ 80] . قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لأزيدن على السبعين» فأنزل الله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ «3» لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية.
وقد حاول عبد الله بن أبي أثناء خروجه لغزوة بني المصطلق إيقاع الفتنة بين المهاجرين لسبقهم إلى ماء بلغوا إليه، وبين الأنصار،
فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
«ما بال دعوى الجاهلية؟» فلما أخبر بالقصة قال: «دعوها فإنها منتنة» .
من أسباب النّفاق
النّفاق مرض عضال خطير بالنسبة للأمة، لأنه يزعزع أوضاع الجبهة الداخلية أو ما يسمى حديثا بالوحدة الوطنية، أما بالنسبة للمنافقين فهو داء نابع من الجبن والسخف، وضعف الإدراك والملكات العقلية، لأن النفاق لا بد من أن يظهر أثره، ويفتضح شأن صاحبه. ولكن منافقي المدينة في الماضي انضمّ إلى نفاقهم استكبار أو استعلاء، وظنوا أن لهم قوة يتمكنون من تهديد بقية الأمّة، فأعرضوا عن الاعتذار ولم يوافقوا على طلب الاستغفار، وحجبوا المعاونة عن المهاجرين حتى يموتوا جوعا،
__________
(1) الآية 80 من سورة التوبة.
(2) هذا على رأي مالك القائل بدليل الخطاب أي مفهوم المخالفة.
(3) الهمزة للاستفهام في الأصل، واستعملت للتسوية، مجازا.(3/2665)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
وصمموا بعد وقعة بني المصطلق (قبيلة من اليهود) على طرد المؤمنين من المدينة، وأحجموا عن الإنفاق في سبيل المصلحة العامة أو الخير، كما يتبين من منطوق الآيات الآتية:
[سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 11]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
«1» «2» «3» «4» [المنافقون: 63/ 7- 11] .
أخرج البخاري وأحمد والترمذي وغيرهم عن زيد بن أرقم قال: سمعت عبد الله ابن أبي يقول لأصحابه: «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا، فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ» ، فذكرت ذلك لعمّي، فذكر ذلك عمي للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، فدعاني النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فحدّثته، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذّبني، وصدّقه، فأصابني شيء لم يصبني مثله، فجلست في البيت، فقال عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومقتك، فأنزل الله: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ فبعث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأها، ثم قال: «إن الله قد صدّقك» .
هؤلاء المنافقون يقولون للأنصار: لا تطعموا أصحاب محمد المهاجرين، حتى يجوعوا ويتفرّقوا عنه. فردّ الله عليهم بأن الله هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، وبيده
__________
(1) يتفرّقوا.
(2) الغلبة.
(3) فأتصدّق.
(4) نهاية العمر.(3/2666)
مفاتيح أرزاق العباد، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ولكن المنافقين يجهلون أن خزائن الأرزاق بيد الله، فظنّوا أن الله لا يوسّع أو يعوّض على المؤمنين ما فقدوه أو تركوه من أموالهم في مكة.
والأظهر أن الخزائن أشياء مخلوقة موجودة، يصرّفها الله تعالى حيث يشاء.
هؤلاء المنافقون: هم الذين يقولون- والقائل زعيمهم عبد الله بن أبي-: لئن عدنا من هذه الغزوة- غزوة بني المصطلق- إلى المدينة، ليخرجن الأعزّ (أي نفسه) منها الأذلّ (أي الرسول والمؤمنين) ، ولم يلبث بعد أن رجع زعيم النفاق ابن أبيّ إلى المدينة أياما يسيرة، حتى مات، وردّ الله على المنافقين: بأن لله وحده القوة والغلبة، ولمن منحها من رسله وصالح المؤمنين، لا لغيرهم، ولكن المنافقين لا يعلمون أو لا يدرون ذلك. وفي ذلك وعيد لهم.
ثم حذّر الله المؤمنين من التشبه بالمنافقين، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ «1» .. أي يا أيها المصدّقون بالله ورسوله، لا تشغلكم الأموال وتدبيرها، عن القيام بذكر الله تعالى من التوحيد والصلاة والدعاء وغير ذلك من تسبيح وتحميد وتهليل، وأداء الفرائض الأخرى غير الصلاة. ومن يتلهى بالدنيا ومتاعها وزخارفها، وينصرف عن الدين وطاعة ربّه، فإنه من الخاسرين، الكاملي الخسران، الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، لأنه باع خالدا بفان زائل، وهذا تحذير وتوعّد وتخويف. والأظهر أن (ذكر الله) ، هنا عام في التوحيد والصلاة والدعاء وغير ذلك من فرض ومندوب.
ثم حثّ الله المؤمنين على الإنفاق في طاعته ونشر دينه وجهاد عدوه، فقال:
__________
(1) الإلهاء: الاشتغال بشهوة ولذّة.(3/2667)
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ.. أي وبادروا إلى الإنفاق من بعض ما رزقناكم، في سبيل الخير العام، شكرا على النعمة، ورحمة بالفقراء، ورعاية للمصلحة العامة العليا، من قبل مجيء أسباب الموت ومشاهدة علاماته، فيقول الواحد منكم: هلا أمهلتني يا ربّ، وأخّرت موتي إلى مدة أخرى قصيرة، فأتصدّق بمالي، وأكن من الصالحين المستقيمين. وهذا دليل على أن كل مفرّط أو مقصّر في عمل الخير يندم عند الاحتضار.
وقوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ.. الأظهر أنه عام في كل مفروض ومندوب.
وكذا قوله: مِنَ الصَّالِحِينَ ظاهره العموم. وقوله تعالى: يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي علاماته وأوائل أمره. وقوله لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ مطالبة بالعودة إلى الدنيا والإمهال.
ولن يؤخر الله تعالى أي نفس عن الموت أو قبض الروح إذا حضر أجلها، وانقضى عمرها، والله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم عليها، بالخير خيرا، وبالشّرّ شرّا. وهذا حضّ على المبادرة لعمل الخير، ومسابقة الأجل بالعمل الصالح.
إن النّدم من أي إنسان على التفريط وطلب العودة إلى الدنيا لتدارك التقصير عما فاته، لا يفيد الإنسان شيئا، فلات ساعة مندم، فقد تم القضاء، ونفذ الأمر، ولا أمل في النجاة إلا بالعمل الصالح.(3/2668)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
تفسير سورة التّغابن
إثبات القدرة الإلهية والرّد على منكري البعث
قدرة الله تعالى الخارقة واضحة ثابتة بأدنى تأمّل، في هذا الكون الذي أوجده الله من العدم، حيث لا يوجد شيء عقلا ولا طبعا بدون موجد، وأوجد الإنسان وصوّره في أحسن تصوير، وأحاط علم الله بكل شيء في السموات والأرض. فلا يؤبه بإنكار المشركين وحدانية الله، والنّبوات، وبعث الناس من القبور، ومع ذلك أقسم الله تعالى على وجود البعث، وإخبار الناس جميعا بما عملوا في الدنيا، وذلك أمر يسير على الله، كما في الآيات الآتية في مطلع سورة التّغابن «1» المدنيّة عند الأكثرين، وقيل: إنها مكّية:
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
«2» «3» «4» «5» «6» [التّغابن: 64/ 1- 7] .
__________
(1) هو تغابن الآخرة حيث يغبن (يجده قليلا) كل إنسان عمله. [.....]
(2) أبدع تصويركم أي تخطيطكم وتشكيلكم.
(3) أي حديث النفس والسّر.
(4) خبرهم المهم.
(5) عاقبة أمرهم الثقيلة.
(6) ادعوا العلم بالباطل.(3/2669)
ينزه الله تعالى عن كل نقص وعيب، ويمجّده جميع المخلوقات في السماوات والأرض، لأنه المالك المطلق وحده، والمحمود المشكور وحده، المستحق للحمد والشكر، من جميع مخلوقاته، على جميع ما يخلقه ويقدّره، وهو القادر على كل شيء، أي موجود، وفيه عموم التنبيه، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ومن آثار قدرته: أنه تعالى هو الذي أوجدكم على هذه الصفة، وصار أمر كل واحد ما اختاره، فمنكم الكافر باختياره وكسبه على نقيض فطرته، ومنكم المؤمن باختياره على حسب فطرته السوية القائمة على التوحيد، والله العالم البصير قبل الخلق بما يؤول إليه أمر كل واحد منكم، الشهيد على أعمال عباده.
- ومن مظاهر قدرته: أنه أوجد السماوات والأرض بالعدل والحكمة البالغة المحققة لنفع العالم في الدين والدنيا، فلم يكن خلقها عبثا ولا لغير معنى. وأبدع خلقكم أو تصويركم، أي التشكيل والتخطيط في أحسن وجه وأجمل عضو، وإليه في الآخرة مرجعكم ومآلكم، فيجازي كل إنسان بما كسب.
- ومن آثار قدرته: أنه تعالى يعلم جميع ما في السماوات والأرض، فلا تخفى عليه خافية من ذلك، ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه، والله محيط علمه بما يضمره كل إنسان في نفسه من الأسرار والعقائد. وقوله: وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ عطف خاص على عام، فإنه تعالى علم أعظم المخلوقات، ثم تدرج القول إلى أخفى من ذلك، وهو جميع ما يقوله الناس في السّرّ والعلن، ثم تدرج إلى شيء خفي: وهو ما يهجس بالخواطر. وبِذاتِ الصُّدُورِ: ما فيه من خطرات واعتقادات، والصّدر هنا: هو القلب.
ألم يبلغكم معشر مشركي مكة خبر الكفار من الأمم الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود، وما حلّ بهم من العذاب والنّكال، بسبب مخالفة الرّسل والتكذيب بالحق، فقد دعتهم الرّسل إلى توحيد الله وعبادته، وترك عبادة الأوثان، فعاندوا وأعرضوا،(3/2670)
فأصابهم عاقبة كفرهم وتكذيبهم، ورديء أفعالهم، بعقاب الدنيا، والعذاب المؤلم في الآخرة، وهو عذاب النار.
وذلك العذاب في الدارين بسبب أنه كانت تجيئهم رسلهم بالمعجزات الظاهرة والأدلة الواضحة، فقالوا: كيف يتصور أن يهدينا البشر؟ فكفروا بالرسل وبرسالاتهم، وأعرضوا عنهم وعن الحق والعمل به، ولم يتدبروا فيما جاؤوا به، واستغنى الله عن إيمانهم وعبادتهم الباطلين، حين أهلكهم، وعما ظهر من هلاكهم، وأنهم لن يضرّوا الله شيئا، فبان أنه كان غنيّا أولا، والله غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له، محمود من كل مخلوقاته، بلسان المقال أو الحال.
وكلمة أَبَشَرٌ اسم جنس، فوصف بالجمع، على أنه مبتدأ، ويهدوننا خبر. ثم أخبر الله عن عقيدة الكفار بإنكار البعث، فقد زعم «1» الذين كفروا، يعني قريشا، ثم يعمّ كل كافر بالبعث، أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، فردّ الله عليهم وأخبرهم بأنكم والله ستبعثون وتخرجون من قبوركم أحياء، ثم تخبرون بجميع أعمالكم جليلها وصغيرها، إقامة للحجة عليكم، ثم تجزون به، وذلك البعث والجزاء هيّن سهل على الله تعالى. وفيه تأكيد البعث على جهة الإخبار والتوبيخ.
وليس في القرآن قسم يقسم به الله بنفسه إلا في ثلاثة مواضع: هذا الموضع: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ وقوله في آية أخرى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
(53) [يونس: 10/ 53] ، وقوله في موضع ثالث: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: 34/ 3] . والمواضع الثلاثة لإثبات البعث بالقسم الإلهي العظيم.
__________
(1) الزعم: عبارة عن الكذب، أو القول الذي انفرد به قائله ويلقيه على الزاعم، أخرج أحمد وأبو داود عن حذيفة حديثا ضعيفا هو: «بئس مطية الرجل: زعموا»(3/2671)
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
فليس لمؤمن أو عاقل أن ينكر الآخرة وما فيها من حساب، وعقاب وثواب، لإقامة صرح العدالة بين الناس.
الدّعوة إلى الإيمان بالله ورسوله
والتحذير من مفاجات القيامة
بعد أن أقسم الله تعالى على إثبات وجود البعث، أمر بالإيمان الخالص بالله تعالى وبرسوله، وبالقرآن نور الله الهادي إلى صراط مستقيم، ثم هدّد وحذّر من الحساب العسير يوم القيامة وهو يوم الجمع، حيث يغبن كل إنسان عمله، لتركه الاستعداد ليوم الآخرة، وليس هناك أحد أخلص من الله وأحبّ لعباده، حيث أمر بما فيه المصلحة لهم، وحذّرهم من المخاطر، ونبّههم إلى التسابق في عمل الخير، ووصف لهم أنواع النعيم، وألوان العذاب في الجحيم، ورغّبهم بالإيمان والطاعة والتوكّل على الله سبحانه، كما في هذه الآيات:
[سورة التغابن (64) : الآيات 8 الى 13]
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12)
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
«1» «2» «3» «4» [التّغابن: 64/ 8- 13] .
__________
(1) أي القرآن.
(2) هو يوم القيامة، وقوله: (يوم) العامل فيه إما: (تنبؤن) أو (خبير) .
(3) يغبن فيه الكافر نفسه بتركه الإيمان، والمؤمن بتركه الإحسان.
(4) إلى الرّضا بمصيبته والصبر والثبات على الإيمان.(3/2672)
هذا بعد إثبات البعث اليسير على الله: دعوة إلى الله تعالى وتبليغ وتحذير، فصدّقوا بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن الكتاب المنير الهادي إلى السعادة، والمنقذ من الضلالة، والله مطّلع على كل شيء، عالم بكل ما تعملون أو تقولون، ومجازيكم على ذلك خيرا أو شرّا بحسب عمل كل واحد.
الله خبير ينبئكم بما عملتم يوم يجمعكم أو يحشركم في صعيد واحد للجزاء، يوم القيامة، ذلك اليوم الذي يظهر فيه الغبن أو النقص، غبن الكافر بتركه الإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، فتظهر فيه الخسارة الفادحة للفريقين. فإذا وقع الجزاء عيّر المؤمنون الكافرين، لأنهم يجزون الجنة، ويحصل الكفار في النار.
ومن يصدق بالله تصديقا صحيحا، ويعمل العمل الصالح بأداء الفرائض والطاعات، واجتناب المنهيات المنكرات، يمح الله سيئاته وذنوبه، ويدخله الجنات التي تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام، وذلك الشرف والإنعام والتكريم: هو الظفر أو الفوز الذي لا يعادله شيء قبله ولا بعده.
وإنما قال: خالِدِينَ بلفظ الجمع، بعد قوله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بلفظ الواحد، لأن ذلك بحسب اللفظ، وهذا بحسب المعنى.
وأما الذين كفروا بالله وكذبوا بآياته القرآنية الدّالة على البعث والقدرة الإلهية، وأنكروا رسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأولئك هم أصحاب النار، خالدين (ماكثين فيها على الدوام) وبئس المرجع مرجعهم، وساءت النار مثواهم.
وهذه موازنة بين الفريقين، تدلّ على حال السعداء، وحال الأشقياء، لبيان حال التغابن في الآخرة، لا في الدنيا.
ثم أوضح الله تعالى أن كل ما يصيب الإنسان فهو بقضاء الله وقدرته، على وفق السّنة الكونية، القائمة على العلم الإلهي، والإرادة المدبّرة، أي إن كل ما يصيب(3/2673)
الإنسان من مصائب ورزايا، ومن خير أو شرّ فهو بإذن الله تعالى، أي بعلمه وإرادته وتمكينه الوقوع، بحسب الحكمة الإلهية، وما على الإنسان إلا العمل بأمر الله، واجتناب ما نهى عنه، لأن الأمر الإلهي غير الإرادة.
ومن يصدق بالله، ويعلم أن ما أصابه من مصيبة أو شرّ أو خير، يهد الله قلبه للرّضا والصبر والثبات على الإيمان، والله واسع العلم، لا تخفى عليه من ذلك خافية. وبعبارة أخرى: من آمن بالله تعالى، وعرف أن كل شيء بقضاء الله وقدره وعلمه، هانت عليه مصيبته، وسلّم الأمر لله تعالى.
ثم أمر الله تعالى بالطاعة، أي أيها الناس اشتغلوا بطاعة الله فيما شرع، وبطاعة رسوله فيما بلّغ، وافعلوا ما به أمر، واتركوا كل ما نهى عنه وزجر، فإن أعرضتم عن الطاعة، وتنكبتم طريق العمل، فإثمكم على أنفسكم، وليس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا التبليغ الواضح. قال الزّهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. والآية وعيد وتبرئة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم إذا بلّغ.
والله هو الإله الواحد الذي لا إله غيره، ولا ربّ سواه، وهو المستحقّ للعبودية والعبادة دون غيره، فوحدوا الله وأخلصوا العمل له، ولا تشركوا به شيئا، وتوكّلوا عليه، أي فوّضوا أموركم إليه، واعتمدوا عليه، لا على غيره. وهذا تحريض للمؤمنين على مكافحة الكفار ومجاهدتهم والصبر على دين الله تعالى، وإرشاد إلى وجوب الاعتماد في كل شيء على الله، وطلب العون الدائم منه، فهو حسبنا ونعم الوكيل.
إن هذه الإرشادات الإلهية ترشد إلى الصواب في الأمور، وتدلّ على فلسفة الأحداث، وتعلّقها بالإرادة الإلهية، وبالعلم الرّباني، وبالحكمة السّرمدية، فكل ذلك مرتبط بعلم الله تعالى الشامل لكل شيء، ويجب على العبد المؤمن الرّضا(3/2674)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
والتسليم، وحسن الظن والثقة بالله، ووجوب الاعتماد على الله بعد اتّخاذ الأسباب، والقيام بالأعمال المطلوبة شرعا.
فتنة الأزواج والأولاد والأموال
حذّر الله تعالى من فتنة الأزواج والأموال والأولاد الذين يكونون سببا في التقصير بالطاعة، والتورّط أحيانا في المعصية، وناسب ذلك أن يأمر الله بالتقوى والإنفاق في سبيل الله، لأن ذلك هو رأس مال الإنسان، وسبيل إسعاده في الدنيا والآخرة، فلكل مرض علاج، وعلاج الانحراف المبادرة إلى الاستقامة، والتزام جادة الامتثال والطاعة، كما توضح هذه الآيات الآتية:
[سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
«1» «2» «3» «4» [التّغابن: 64/ 14- 18] .
أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ في قوم من أهل مكة، أسلموا، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم (أن يهاجروا) ، فأتوا المدينة، فلما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رأوا الناس قد فقهوا، فهمّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
__________
(1) اختبار لكم.
(2) الشح: البخل مع الحرص.
(3) أي تتصدقوا.
(4) بإخلاص وطيب نفس من غير ربا. [.....](3/2675)
الآية، أي إن سبب الآية أن قوما آمنوا بالله تعالى، وثبّطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، فلم يهاجروا إلا بعد مدة، فوجدوا غيرهم قد تفقّه في الدين، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، إن بعض أزواجكم وأولادكم عدو لكم عداوة أخروية، في غير صالحكم، يشغلونكم عن الخير والعمل الصالح المفيد لكم في الآخرة، فاحذروا أن تؤثروا حبّهم وشفقتكم عليهم على طاعة الله تعالى. ثم رغّب الله تعالى بالعفو عنهم، فإن تعفوا عن ذنوب أزواجكم وأولادكم، وتصفحوا بترك اللوم عليها، وتستروا الأخطاء تمهيدا لمعذرتهم فيها، فالله واسع المغفرة لذنوب عباده، شامل الرحمة بهم، يعامل الناس بأحسن مما عملوا.
ثم أخبر الله تعالى أن الأموال والأولاد فتنة أي موضع اختبار ومحنة، تشغل المرء عن مراشده، وتحمله على إيثار الدنيا على الآخرة، والوقوع فيما لا يحمد عليه، ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه أبو يعلى في مسنده-: «الولد مبخلة مجبنة» .
والله عنده الثواب الجليل لمن آثر طاعة الله تعالى، وترك التورّط في المعصية، بسبب محبة ولده وماله. وهذا تزهيد في الدنيا، وترغيب في الآخرة.
أخرج أحمد والترمذي والحاكم والطبراني عن كعب بن عياض قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن لكل أمّة فتنة، وإن فتنة أمّتي المال» .
والتخلّص من الفتنة: بالتقوى والطاعة، فأمر الله بالتقوى: وهي التزام الأوامر واجتناب النواهي، بقدر الطاقة والجهد، وأمر بالاستماع للأوامر وإطاعتها، والإنفاق من الأموال التي رزق الله بها العباد في وجوه الخير. وقوله: خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ منصوب بقوله: أَنْفِقُوا. والخير هنا: المال، أو نعت لمصدر محذوف تقديره: إنفاقا خيرا. ففي الإنفاق خير للأنفس في الدنيا والآخرة.(3/2676)
ومن وقاه الله وحفظه من داء الشح (البخل مع الحرص) فأنفق في سبيل الله ووجوه الخير، فأولئك هم الفائزون بما يطلبون.
أخرج البخاري في تاريخه وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «شرّ ما في الرجل: شحّ هالع، وجبن خالع» .
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «1» [آل عمران: 3/ 102] اشتدّ على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرّحت جباههم، فأنزل الله تخفيفا على المسلمين: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» .
ثم أكّد الله تعالى الحث على النفقة، بقوله: فيما معناه: إن تتصدقوا صدقة حسنة بإخلاص وطيب نفس، يضاعف الله الثواب لكم أضعافا مضاعفة، ويغفر لكم أيضا ذنوبكم، والله يجزي الكثير على القليل، تام الشكر، أي يعطي على الطاعة الجزيل بالقليل، واسع الحلم، أي لا يعاجل بالعقوبة على المعصية. وقوله: شَكُورٌ إخبار بمجازاته تعالى على الشيء، وأنه يحط به عمن شاء عظائم الأمور.
ثم رغّب الله ترغيبا زائدا بالنفقة، وهو أن الله تعالى شامل العلم بما غاب عنكم وما حضر، غالب قاهر، ذو حكمة بالغة، يضع الأمور في مواضعها الصحيحة. إن التحذير من فتنة المال والتعلّق به، ثم توالي تأكيدات ثلاثة على الإنفاق بأساليب متنوعة، ترويض على اقتلاع داء البخل من النفس، وحمل للنفس على ادّخار ثواب النفقة في سبيل الخير والمعروف عند الله تعالى الذي لا تضيع عنده الودائع.
__________
(1) أي فيما استطعتم، إذ لا يطيع أحد فوق طاقته واستطاعته.(3/2677)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
تفسير سورة الطلاق
الطّلاق السني في العدة
كره الإسلام الطلاق، لأنه تبديد الشمل، وقطع الصّلة، وهدم الحياة الزوجية، وإذا كان لا بدّ منه، فينبغي اقترانه ببدء العدة، حتى لا تطول مدّتها على المرأة، وتتضرر فالإضرار بالطلاق حرام، وكيلا يقع الزوج في الندم إذا طلّق في وقت غير مناسب، فيحرم في وقت الحيض، أو في طهر جامعها فيه، وهذا هو الطلاق البدعي، ويقابله الطلاق السني الذي أمر به في الآيات الآتية من مطلع سورة الطلاق، المدنية بالإجماع:
[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» [الطّلاق: 65/ 1- 3] .
__________
(1) أي مستقبلات مبتدئات عدتهن.
(2) اضبطوها.
(3) ارتكاب ذنب ظاهر كالزنا.
(4) قضين عدتهن.
(5) أهل عدالة وذمة.
(6) أدوها لوجه الله بلا تحريف.
(7) طريقا للخروج من المحنة.
(8) كافيه.
(9) محقق ما يريده.
(10) تقديرا لا يتجاوزه.(3/2678)
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن أنس قال: طلّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة، فأتت أهلها، فأنزل الله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ
الآية، فقيل له: راجعها فإنها صوّامة قوّامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة.
خوطب النّبي في مطلع السورة للتنبيه على سماع القول وتلقّي الأمر، ثم خوطبت أمته، أي إذا طلقتم أنت وأمتك، فيا أيها الرسول والمؤمنون به، إذا أردتم تطليق النساء، وعزمتم عليه، فطلّقوهن (أي يجب عليكم) مستقبلات لعدتهن، حتى لا تطول العدة عليهن، ولئلا يلحقهن ضرر بتطويل العدة، واضبطوا أيها الأزواج مدة العدة واحفظوها، لتكون عدة كاملة، وهي ثلاثة أقراء (أطهار في رأي، وحيضات في رأي آخر) وضبط العدة واجب، لترتب أحكام فيها، من معرفة وقت الرجعة، والإشهاد عليها، وأداء نفقة المعتدة وسكناها، والتزام بيوتهن، واتّقوا الله الرّب تعالى، فلا تعصوه فيما أمركم، ولا تلحقوا ضررا بالمرأة، ولا تخرجوا المطلقات من بيوتهن (بيت الزوجية) في مدة العدة، فلكل معتدة الحق في السكنى على حساب الزوج، ما دامت في عدتها منه، وليس للزوج أن يخرجها، ولا يجوز لها الخروج من بيت الزوجية: بيت العدة لغير ضرورة ليلا أو نهارا، إلا إذا ارتكبت فاحشة ظاهرة ثابتة كالزّنا.
وهذه الأحكام المتعلقة بالعدة: هي حدود الله التي حدّها لهم، لا يحلّ لهم تجاوزها إلى غيرها، ومن يتجاوز هذه الحدود، فقد ظلم نفسه وأضرّ غيره، وأهلكها.
وعلّة تحريم تعدي حدود الله: أنك لا تدري أيها المطلق حين ألزمنا بإبقاء المطلقة في منزل الزوج مدة العدة، أن يتراجع الزوجان، ويندم كل منهما على ما حدث، وهذا هو الغالب الواقع، ويؤلف الله بين قلوبهما، ويراجع المطلق زوجته، وتعود الحياة الزوجية كما كانت، بل ربما أحسن مما مضى، لأن الطلاق أمر صعب شاق على كل من الرجل والمرأة.(3/2679)
فإذا اقترب انتهاء العدة، وشارفت المعتدات على انقضاء العدة، أي اقترب وقت انتهاء العدة، فعليكم أيها الأزواج اختيار أحد أمرين: إما الإمساك بالمعروف: وهو الرجعة إلى عصمة الزوج واستمرار الزوجية، مع إحسان الصحبة والمعاشرة بالمعروف كما أمر الله تعالى، وإما المفارقة بالمعروف، أي تركهن إلى انقضاء عدتهن، مع إيفاء حقّهن واتّقاء الإضرار بهن، من غير توبيخ ولا مشاتمة، بل تنفصل المرأة على وجه حسن.
ويأمركم الله بالإشهاد على الرجعة أو الفراق من شاهدي عدل، حسما للخلاف، وإعلاما للناس حتى لا يطعن بالزوج إن راجع، أو بالمرأة إن تزوجت بزوج آخر، وأدّوا أيها الشهود الشهادة خالصة لوجه الله، دون تحيّز أو ميل لأحد الخصمين. وهذه الشهادة على الرجعة والفراق مندوبة باتّفاق المذاهب الأربعة، للإجماع على عدم وجوبها عند الطلاق، فكذلك عند الإمساك.
ذلكم المذكور الذي أمرناكم به من الإشهاد وإخلاص الشهادة لله تعالى، وإيقاع الطلاق على وجه السّنة، وإحصاء العدة، والكفّ عن الخروج والإخراج، إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويخاف عقاب الله في الآخرة.
ومن يتّق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه، ويقف عند حدوده، يجعل له مخرجا أو مخلصا مما وقع فيه، ويرزقه ما يطعم أهله ويوسع عليه، على وجه لا يخطر بباله، ولا يكون في حسابه.
ومن يفوّض أمره لله فيما نابه، فالله كافيه، إن الله يبلغ ما يريده، ويحقق مراده، قد جعل للأشياء قدرا محددا قبل وجودها، وقدّر لها أوقاتها. والآية كلها عظة لجميع الناس وحضّ على التوكّل.
نزلت آية: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ كما
أخرج الحاكم عن جابر: في رجل من أشجع،(3/2680)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
كان فقيرا، خفيف ذات اليد، كثير العيال، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسأله، فقال له:
اتّق الله، واصبر، فلم يلبث إلا يسيرا، حتى جاء ابن له بغنم، وكان العدو أصابوه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره خبرها، فقال: كلها، فنزلت.
وهو حديث منكر له شاهد، أي إن الولد كان أسيرا، فهرب وأخذ من العدو قطيع غنم.
أنواع العدد ومقاديرها وحقوق المعتدات
إذا وقع الطلاق في بدء العدة، ولم تقع الرجعة للحائض في العدة (ثلاثة قروء) وجب على المطلقة الاعتداد بثلاثة قروء (حيضات أو أطهار) ، إن كانت حائضا، وأما الآيسة من الحيض، والصغيرة التي لم تر الدم، فعدتهما ثلاثة أشهر، وعدة الحامل بوضع الحمل. وللمعتدة الحق في النفقة والسكنى في بيت الزوجية بحسب الوسع والطاقة، ولو في حجرة من بيت الزوج، ومعيار مقدار النفقة هو بحسب حال الزوج يسارا وإعسارا، وتوسّعا أو اعتدالا، فالتكليف على قدر الحال. وهذا ما نصّت عليه الآيات الآتية:
[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 7]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
«1» «2» «3» «4» «5» «6»
__________
(1) وقعن في اليأس من الحيض لكبر السن.
(2) إن شككتم في عدتهن.
(3) انقضاء عدتهن بالوضع. [.....]
(4) من وسعكم وطاقتكم.
(5) تشاوروا في شأن إرضاع الطفل.
(6) تعرضتم للإعسار.(3/2681)
«1» [الطّلاق: 65/ 4- 7] .
أخرج ابن جرير وإسحاق بن راهويه والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال: لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد من عدد النساء، قالوا: قد بقي عدد من عدد النساء لم يذكرن: الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض، وأولات الأحمال، فأنزلت: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية.
النساء اللاتي أصبحن آيسات من مجيء الحيض لكبرهن، ببلوغهن مثلا سنّ الخامسة والخمسين أو الستين، عدتهن وعدة الصغيرات اللاتي لم يبلغن سن الحيض:
ثلاثة أشهر.
وعدة أصحاب الحمل (الحبالى) : بوضع الحمل، ولو بعد الطلاق أو الموت بساعة، في قول الجمهور، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أذن لسبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد وضعها حملها بليال، بعد وفاة زوجها: بأن تتزوج، فتزوجت، أي عقدت زواجها وكان زوجها سعد ابن خولة قد توفي في حجة الوداع، ووضعت حملها قبل أربعة أشهر.
وقد نزلت هذه الآية كما ذكر ابن مسعود بعد آية عدة الوفاة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [البقرة: 2/ 234] .
ومن يخف الله تعالى ويرهب عقابه، فيأتمر بما أمر الله، وينته عما نهى عنه، يسهّل عليه أمره كله في الدنيا والآخرة، وهذا تنويه بفضيلة التقوى.
ذلك، أي جميع الأحكام المتقدمة في الطلاق والعدة: هو أمر الله الذي أمر به عباده، وأنزله إليهم في قرآنه، ومن يخف الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، يمح
__________
(1) قتر عليه في الرزق.(3/2682)
عنه ذنوبه من صحائف أعماله، ولا يؤاخذه بها، ويجزل له الثواب على عمله، وكرر الأمر بالتقوى للتأكيد عليها.
وحقوق المعتدة: هي السكنى والنفقة، فأسكنوا المطلقات في مسكن مشابه لما تسكنون فيه بقدر أحوالكم وسعتكم، ولو في غرفة من غرف الدار التي تسكنون فيها، ولا تلحقوا بهنّ ضررا في النفقة والسكنى، فتضطروهن إلى الخروج من المسكن، أو التنازل عن النفقة.
وإن كانت النساء أصحاب حمل (حبليات) فيجب عليكم بلا خلاف الإنفاق عليهن والسكنى حتى يضعن حملهن. وأوجب الحنفية السكنى والنفقة لكل مطلقة، ولو مبتوتة، وإن لم تكن ذات حمل، لقوله تعالى: وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ. ولم يوجب المالكية والشافعية للمطلقة ثلاثا إلا السكنى فقط دون النفقة، ومذهب الإمام أحمد: ألا نفقة للمطلقة ثلاثا ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس عند مسلم وأحمد، حيث طلقها زوجها ثلاثا،
فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نفقة لك ولا سكنى» .
وأُولاتِ أي ذوات، جمع ذات، وأكثر أهل العلم على أن هذه الآية تعمّ الحوامل المطلقات والمعتدات من الوفاة، لحديث سبيعة المتقدم.
ويجب على الزوج دفع الأجرة على الرضاع، فإن أرضعت الأمهات المطلقات أولادكم بعد الطلاق، فأعطوهن أجور إرضاعهن إذا رضين بأجر المثل، وتشاوروا أيها الأزواج والزوجات في إرضاع الطفل، بحسب المعروف، أي بالمسامحة، من غير إضرار ولا مضارّة، وليأمر كل واحد صاحبه بخير.
وإن تضايقتم واختلفتم وأصابكم إعسار في شأن الإرضاع، فأبى الزوج إعطاء الأم الأجر الذي تريده، وأبت الأم إرضاعه إلا بما تريد من الأجر، فيستأجر الأب مرضعة أخرى، ترضع ولده.(3/2683)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)
ومقدار النفقة: أن ينفق الوالد بحسب طاقته أو سعته، والفقير بحسب ما أعطاه الله من الرزق بقدر سعته أيضا، ولا يكلف الله نفسا إلا ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير بالإنفاق على الزوجة والقريب ذي الرحم ما ليس في وسعه، كنفقة الغني. والعجز عن النفقة الزوجية يجيز عند الجمهور التفريق بين الزوجين، وقال الحنفية: لا يفرق بينهما.
ثم وعد الله تعالى بالإغناء، فسيجعل الله تعالى بعد ضيق وشدة سعة وغنى، وهذا وعد من الله تعالى، ووعده حق لا خلف فيه، وهو بشرى بالفرج بعد الكرب، وباليسر بعد العسر، كما جاء في آية أخرى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) [الانشراح: 94/ 5- 6] .
وعيد المخالفين ووعد المؤمنين الطائعين
اقتضى بيان أحكام الطلاق والعدد وما يجب للمعتدة من نفقة وسكنى والوصية بالتقوى: إنذار المخالفين أمر الله ورسوله، بعقاب مماثل لعقاب الأمم الماضية الذين كفروا وكذّبوا رسلهم، والتذكير بعظيم قدرة الله تعالى، وإحاطة علمه بكل شيء، تأكيدا للتحذير من مخالفة الأوامر بعد تبيان الأحكام الشرعية، وهذا موضح بالآيات الآتية:
[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
«1» «2» «3» «4» «5» «6»
__________
(1) كثير من القرى.
(2) أعرضت، والعتو: ترك الائتمار والقبول.
(3) شديدا منكرا عظيما.
(4) عاقبته.
(5) أصحاب العقول النّيّرة.
(6) الذّكر: هو القرآن.(3/2684)
«1» «2» [الطّلاق: 65/ 8- 12] .
هذا وعيد لكل مخالف أمر الله تعالى، مكذب رسله، فكثير من أهل القرى عصوا أمر الله ورسله، ولم يقبلوا شرعه، وتكبروا وتمردوا، فحاسبها الله تعالى بأعمالها المعمولة في الدنيا ولم يغتفر لهم زلّة، بل أخذوا بالدقائق من الذنوب، وعذب أهلها عذابا مؤلما منكرا، في الآخرة، وأما في الدنيا فعذبهم بالجوع والقحط والخسف ونحو ذلك. وعبّر بالماضي في قوله: فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها عن المستقبل، للدلالة على التحقّق والوقوع، لوعيد الله.
وسبب العذاب: أن أولئك المعذبين لقوا عاقبة أمرهم وشؤم كفرهم، وكان مصيرهم الخسارة والهلاك والنكال في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
وأعدّ الله لهم في الآخرة عذابا شديدا مؤلما، لكفرهم وتمرّدهم، وهو عذاب النار. فكان قوله تعالى: فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً الظاهر أنه في الدنيا، بدليل قوله بعدئذ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً الذي يبين خسران عاقبتهم، هو عذاب الآخرة.
ثم ندب الله تعالى أولي العقول إلى التقوى تحذيرا، وأمرهم بها صراحة، وذكّرهم بما يوجب التقوى أو العمل الصالح بنحو دائم، فاتقوا الله يا أولي الألباب (العقول) من هذه الأمة. الذين صدّقوا بالله ورسله، وأسلموا لله تعالى، وانقادوا لعظمته وحكمه، واتّبعوا رسولهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فإن الله قد أنزل إليكم القرآن الكريم تذكرة دائمة، وأرسل لكم رسولا مذكّرا بهذا القرآن، فهو الترجمان الصادق، وهو الذي يبلّغكم وحي الله وشرعه، ويقرأ عليكم كلام الله وآياته في حال كونها بيّنة واضحة،
__________
(1) جزاء حسنا.
(2) أمر الله وقضاؤه.(3/2685)
يبيّن فيها للناس الشرائع والأحكام، لإخراج المؤمنين بالآيات والرسول من دائرة الظلمات إلى أنوار الهداية الربانية، ومن ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
وقوله تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا مختلف فيه، فقال قوم من المتأولين:
المراد بالاسمين القرآن، ورَسُولًا بمعنى رسالة. وقال آخرون: رسولا نعت أو كالنعت لقوله سبحانه: ذِكْراً أي ذكرا ذا رسول. وقال آخرون: المراد بهما جميعا محمد صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: ذا ذكر رسولا، والذكر: اسم من أسماء الرسول عليه الصّلاة والسّلام، وهذا هو الظاهر، لكن قال ابن عطية رحمه الله: وأبين الأقوال عندي معنى: أن يكون (الذّكر) القرآن، و (الرّسول) محمدا صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: بعث رسولا، لكن الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول، ونحا هذا المنحى السّدي.
ثمّ رغّب الله المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح ببيان الجزاء الحسن لهما، وهو أن من يصدّق بالله، ويعمل العمل الصالح، فيجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه، يدخله الله جنات (أي بساتين) تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها أبدا على الدوام، وقد وسّع الله له رزقه في الجنة. والرزق الحسن في الآية: رزق الجنة، لدوامه وتدفّقه.
ثم أورد الله ما يدلّ على عظيم قدرته وسعة علمه، وهو أن الله تعالى هو الذي أبدع السماوات السبع، والأرضين السبع، أي كونها سبعا مثل السماوات السبع، يتنزل أمر الله وقضاؤه وحكمه بين السماوات والأرض، وقد فعل ذلك لتعلموا كمال قدرة الله، وإحاطة علمه بجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه شيء منها كائنا ما كان، فاحذروا المخالفة، لأن الله مطّلع على كل شيء، واتّعظوا بمصائر الأمم السابقة، فإن الله تام العلم بأعمالكم كلها، وسيجازيكم عليها، والكل خاضع له سبحانه، وفي دائرة سلطانه، فيكون الله قادرا على إثابة الطائعين، وتعذيب العاصين والمخالفين لأمره.(3/2686)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
تفسير سورة التّحريم
تحريم بعض الأشياء وكفارة اليمين
النّبي صلّى الله عليه وسلّم بشر، يغضب ويرضى، وغيرة النّساء من أهم أسباب إغضاب الزوج، وقد تامرت عائشة وحفصة عليه، فحرّم على نفسه العسل.
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الحلواء والعسل، وكان إذا انصرف من العصر، دخل على نسائه، يمكث عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلا، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل النّبي صلّى الله عليه وسلّم عليها، فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير «1» ، أكلت مغافير، فقال: لا، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، ولن أعود إليه، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا»
فنزلت الآيات الآتية في مطلع سورة التحريم المدنيّة بالإجماع:
[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
«2» «3» «4» «5» «6» «7» «8»
__________
(1) المغافير: نبت كريه الرائحة.
(2) شرع. [.....]
(3) تحليل الأيمان بالكفارة.
(4) متولّي أموركم.
(5) لما أخبرت به وأطلعه الله عليه.
(6) مالت قلوبكما عن الصواب، وجمع القلوب من حيث الاثنان جمع أو لكراهة اجتماع تثنيتين.
(7) ناصره.
(8) معاونون له.(3/2687)
«1» «2» [التّحريم: 66/ 1- 5] .
يا أيها الرسول النّبي، لماذا تمنع نفسك من بعض ما أباح الله لك، قاصدا إرضاء أزواجك، والله غفور لما فرط منك، من تحريم ما أحلّ الله لك، وما تقدّم من الزّلة، رحيم بك، فلا يعاقبك على ذنب تبت منه. وهذا عتاب بطريق التلطّف، وإشارة إلى أن ترك الأولى بالنسبة له مثل الذنب، وإن لم يكن ذنبا في الواقع.
وقد صحح ابن العربي أن التحريم كان في العسل، وأنه شربه عند زينب.
وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، وجرى ما جرى، فحلف ألا يشربه، وأسرّ ذلك، ونزلت الآية في الجميع.
وقال ابن عطية: إن الآية نزلت بسبب مارية أصح وأوضح، وعليه تفقه الناس في الآية، ومتى حرّم الرجل مالا أو جارية دون أن يعتق أو يشترط عتقا أو نحو ذلك، فليس تحريمه بشيء. فقد
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه الاستمتاع بمارية القبطية الجارية التي أهداها المقوقس إليه، حين قضى معها وقت القيلولة، في حجرة حفصة أو في حجرة عائشة، فغضبت بعد أن جاءت، فقال لها الرسول صلّى الله عليه وسلّم: أيرضيك أن أحرّمها؟ قالت: نعم، واستكتم صاحبة الغرفة، لئلا تعلم عائشة أو حفصة بالخبر، خوفا من غضبها.
والكفارة عن اليمين المحلوفة: أن الله تعالى شرع لكم تحليل أيمانكم بأداء الكفارة المقررة في اليمين المنعقدة في سورة المائدة [الآية: 89] ، والله متولّي أموركم وناصركم
__________
(1) مواظبات على الطاعة.
(2) صائمات. وقد ذكرت صفات بلا حرف عطف، لاجتماعها في موصوف واحد، وترك العطف لشدة ارتباطها.(3/2688)
على الأعداء، وهو العليم بما فيه صلاحكم وفلاحكم، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير الأمور.
واذكر حين أسرّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم لزوجته حفصة أنه حرّم العسل على نفسه، أو حرّم مارية، فلما أخبرت به غيرها، وأطلع الله نبيه على ما حدث منها من إخبار غيرها، عرّف زوجته (حفصة أو عائشة) بعض ما أخبرت به، وأعرض عن تعريف البعض الآخر.
فحينما أخبرها بإفشائها هذا الحديث، قالت: من أخبرك به؟ قال: أخبرني به الله الذي لا تخفى عليه خافية، فهو واسع العلم بالأسرار، وتامّ الخبرة بكل شيء في السماء والأرض.
ثم أمر الله تعالى حفصة وعائشة بالتوبة مع العتاب، فإنكما إن تتوبا إلى الله، فتكتما السرّ، وتحبّا ما أحبّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتكرها ما كرهه، قبلت توبتكما من الذنب، وكان خيرا لكما، فقد مالت قلوبكما عن الصواب والسداد والحق. وإن تتعاونا على ما يؤذي النبي، بسبب الغيرة والرغبة في إفشاء سرّه، فإن الله يتولّى نصره، وكذلك في الولاية (أو النصرة) جبريل وصالح المؤمنين كأبي بكر وعمر وعلي، والملائكة بعد نصر الله له، ومناصرة جبريل والمؤمنين أعوان له وحراس وحفظة.
ثم حذّرهما من العواقب، فلله القدرة التامّة، فإن ربّه عسى «1» إن طلّقكن أيتها النسوة قادر أن يبدله أزواجا خيرا وأفضل منكن، قائمات بفروض الإسلام، كاملات الإيمان والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله، مطيعات لله سبحانه ولرسوله، تائبات من الذنوب، مواظبات على العبادة متذلّلات لله، صائمات،
__________
(1) عسى في القرآن يجب تحقق ما بعدها، وليست للرجاء، وتحقق ما بعدها هنا بشرط التطليق.(3/2689)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
بعضهن ثيبات (مدخول بهن) وبعضهن بكارى أو عذارى (غير مدخول بهن) . والآية تهديد ووعيد على محاولات إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيها أيضا وعد من الله لنبيّه أن يزوجه بما يريد، في الدنيا والآخرة.
أخرج البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغيرة عليه، فقلت: عسى ربّه إن طلّقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت هذه الآية.
وليس بعد هذه الموالاة أو المناصرة شيء مثيل لها، مبالغة في تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتخلّصا من المكيدة ومكر النساء وغيرهن، وإحباطا لكل كيد من المشركين والمنافقين.
اتّقاء النار والتوبة والجهاد
أمر الله المؤمنين بطائفة من المواعظ، هي وقاية النفس والأهل من النار، بترك المعاصي وفعل الطاعات، والمبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الخطايا والذنوب، والإقدام على الجهاد- جهاد الكفار والمنافقين، لإقرار عقيدة التوحيد، وتنظيف المجتمع من كل مظاهر الضعف والطعن والتفريق في الداخل، لتبقى الأمة واحدة نقية، كما يتضح في هذه الآيات:
[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) اجعلوا وقاية بينكم وبين النار.
(2) شداد في الخلق والطباع.
(3) أقوياء البدن على الأفعال الشديدة.
(4) خالصة بالغة في النصح، وهي صيغة مبالغة.(3/2690)
«1» [التّحريم: 66/ 6- 9] .
يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، روّضوا أنفسكم وأهليكم، واتّخذوا لها وقاية من النار، أما بالنسبة للنفس فبحملها على طاعة الله تعالى، وأما بالنسبة للأهل فبالوصية لهم، والحمل على الطاعة أيضا، حتى لا تصيروا معهم إلى النار الرهيبة، التي تتوقد بالناس والحجارة، كما يتوقد غيرها بالحطب. وهذا دليل على أن المعلّم يجب أن يكون عالما بما يأمر به وينهى عنه.
وعلى النار خزنة من الملائكة غلاظ الخلق والطباع، أشداء القلوب والبطش والفظاظة، ذوو قوة هائلة، والشدة: القوة، وعدد زبانية جهنم تسعة عشر، كما جاء في آية أخرى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) [المدّثّر: 74/ 30] . يتميّزون بالطاعة التامّة لله، فلا يخالفونه في أوامره، ويؤدّون ما يؤمرون.
وفائدة الجملتين: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أن الأولى لبيان الطواعية في الماضي، والثانية للمستقبل وفورية التنفيذ والامتثال.
ثم أخبر الله تعالى عما يقال للكافرين، ليكون ذلك وعظا للمؤمنين، يقال لهم عند دخول النار يوم القيامة، تيئيسا لهم: لا تعتذروا عن شيء، فالمعذرة لا تنفعكم، وإنما تجزون بأعمالكم، فلا تلوموا إلا أنفسكم.
ثم أمر الله المؤمنين بالتوبة النّصوح الخالصة له وهي مبالغة من النّصح، فيا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، ارجعوا إلى الله وتوبوا إليه توبة خالصة صادقة، تمحو
__________
(1) لا يفضح ولا يوقعه في مكروه بسبب نقص أو سوء منزلة. [.....](3/2691)
ما قبلها من السيئات: وهي الندم بالقلب على الذنب، والاستغفار باللسان، والإقلاع البدني عن المعصية، والعزم على ترك العودة إلى العصيان، عسى وهي هنا ترجية، أي لعل الله أن يمحو سيئات أعمالكم التي قارفتموها، ويدخلكم بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، حين لا يوقع نبيّه والمؤمنين أتباعه بالمكروه بترك أو نقص شيء أو سوء منزلة، بل يعزّهم ويكرمهم، وحين ترى نور المؤمنين يضيء لهم طريقهم، ويسبقهم أمامهم، ويجاورهم عن أيمانهم، حال مشيهم على الصراط، كما جاء في آية أخرى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد: 57/ 28] .
ويبقى النّبي صلّى الله عليه وسلّم مخصوصا مفضّلا بأنه لا يخزي.
ويدعو المؤمنون حين يطفئ الله نور المنافقين يوم القيامة، قائلين: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا أي أبقه لنا، وأدمه علينا، فلا ينطفئ حتى نتجاوز الصراط، واستر ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا، ولا تفضحنا بالعقاب، واغفر لنا ذنوبنا، وحقّق رجاءنا، إنك القادر التامّ القدرة على كل شيء.
ثم أكّد الله تعالى أمر الجهاد وفرضه المتقدّم، فيا أيها النّبي القائد، دم على جهاد الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم، واضربهم على جرائمهم، وعند قوة الظن بهم، ولكن دون تعيين الله لرسوله منافقا يقع القطع بنفاقه. وليكن جهادك للفريقين بعنف وقسوة قلب، وشدة وانتهار، وقلة رفق بهم، وشدّد عليهم في الدعوة إلى الإسلام في الدنيا، ومثواهم جهنم في الآخرة، وساء المرجع مرجعهم.
وعذابهم في الدنيا حين التأكّد من نفاق بعضهم: الطّرد من المسجد،
فقد أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعضهم قائلا: اخرج يا فلان.
وسيكون مقر الفريقين من الكفار والمنافقين نار جهنم، فلا أمل لهم بعد هذا البيان بالنجاة أو التخلّص من العذاب.(3/2692)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
إن هذه التوجيهات والمواعظ في الدنيا لها أهميتها الكبرى لصلاح النفس والبيئة، ونقاء القلب وطهره وتجرّده من جميع شوائب المعصية، وإقرار مبدأ توحيد الله وإزالة كل عوائق الكفر في الوقوف أمام نشر دعوة الإسلام.
مثلان من سيرة النّساء
ضرب الله تعالى مثلين للكفار والمؤمنين، مؤدّاهما: أن من كفر لا يغني عنه من الله شيء، ولا ينفعه ملجأ أو معتصم، ولو كان متعلّقا أو متأمّلا بأقوى الأسباب.
وأن من آمن لا يدفعه دافع عن رضوان الله تعالى، ولو كان في أسوأ منشأ وأخس حال. فامرأة نوح وامرأة لوط كانتا في بيت النّبوة، ولكنهما خانتا زوجيهما في الكفر، فلم تفدهما رابطة الزواج شيئا من عذاب الله، ولكن ليست الخيانة أخلاقية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وما بغت زوجة نبي قط ولا ابتلي الأنبياء في نسائهم بهذا. وآسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران كانتا في وسط صعب مناف للإيمان، فصبرتا على المكروه، فكانتا في منزلة عالية عند الله تعالى، وذلك المثلان في الآيات الآتية:
[سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [التّحريم: 66/ 10- 12] .
__________
(1) أورد حالة غريبة لمعرفة حال أخرى مشابهة لها.
(2) خانتاهما في الكفر.
(3) لم يفدهما نوح ولوط.
(4) أي الكافرين.
(5) حفظته.
(6) أي شرائعه.
(7) الطائعين.(3/2693)
جعل الله مثلا لحال الكفار في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم، أنه لا يغني أحد عن أحد، فكل إنسان مسئول عن نفسه، ومجرد الخلطة أو النسب أو الزوجية لا فائدة فيها في مجال النجاة عند الله، ما دام الإنسان كافرا، أي مات على الكفر ولم يتب.
وهذا المثل: أن امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السّلام، كانتا في عصمة نبيّين رسولين، وبينهما معاشرة واختلاط بسبب رابطة الزوجية، لكنهما خانتا الرسولين في الكفر وترك الإيمان برسالتهما، وعدم الإيمان بهما، فكانت امرأة نوح (واعلة) تقول عن زوجها لقومه: إنه مجنون، وكانت امرأة لوط (والهة) تدلّ قومه على أضيافه، بإيقاد النار ليلا، وبالتدخين نهارا، فلم ينفعهما الزواج شيئا من النفع عند الله: نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما، ولا تمكنا من دفع العذاب الإلهي عنهما، أو رفع محذور عنهما، مع علوّ مكانة زوجيهما عند الله.
وهذا تعريض بزوجي النبي صلّى الله عليه وسلّم: حفصة وعائشة، لما فرط منهما، وتحذير لهما ولغيرهما بأنه لا يفيدهن شيئا زواجهن بالنّبي عليه الصّلاة والسّلام إن عصين الله تعالى.
ثم ضرب الله مثلا آخر للمؤمنين بامرأتين أخريين مؤمنتين، على ضدّ حال المرأتين الكافرتين في المثل السابق.
وهذا المثل الذي ضربه أو جعله الله للمؤمنين: هو حال امرأة فرعون آسية بنت مزاحم، وعمة موسى عليه السّلام، آمنت بموسى، حين سمعت قصة إلقائه عصاه، فعذّبها فرعون في الشمس بسبب إيمانها، وبعث إليها من يقتلها بالحجر الأعظم، فلم تتراجع عن إيمانها، ونجاها الله حين أحسّت الشرّ من محاولي قتلها، حين دعت بهذا الدعاء: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ(3/2694)
الظَّالِمِينَ
أي ابن لي بيتا قريبا من رحمتك في أعلى درجات المقرّبين منك، وخلّصني من بطش فرعون وشروره، وأنقذني من القوم الظالمين، وهم كفار القبط. فقبض الله تعالى روحها. وهذا دليل على صدق إيمانها بالله واليوم الآخر.
والمرأة الثانية في هذا المثل: هي حال مريم ابنة عمران أم عيسى عليهما السّلام، التي صانت فرجها عن الفاحشة، فكانت مثال العفة والطّهر، فأمر الله جبريل أن ينفخ الروح في فرجها، فحملت بعيسى، وصدّقت بشرائع الله التي شرعها لعباده وبصحفه المنزلة على إدريس وغيره، وبكتبه المنزلة على الأنبياء، وهي التوراة والإنجيل، وكانت من القوم المطيعين لربّهم، حيث كان أهلها أهل بيت صلاح وطاعة، ومن عداد الناسكين العابدين المخبتين لربّهم، أي كانت من القوم القانتين في عبادتها وحال دينها. وقوله تعالى: مِنْ رُوحِنا إضافة مخلوق إلى خالق، ومملوك إلى مالك، كما تقول: بيت الله، وناقة الله، كذلك الروح والجنس كله هو روح الله.
أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الأرض أربعة خطوط، وقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» .
وجاء في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كمل من الرّجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام» .(3/2695)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
تفسير سورة الملك
من أدلّة القدرة الإلهية
أقام الحق تبارك وتعالى في مناسبات عديدة أدلة قاطعة على علمه وقدرته، لإثبات عظمته ووحدانيته ومقدرته على البعث أو القيامة، ليؤمن الكافر، ويزداد المؤمن إيمانا، وتلك الأدلة تتركز حول خلق الإنسان، وخلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من كواكب، وخلق الموت والحياة، وتعاقب الليل والنهار وغير ذلك. وفي مطلع سورة الملك أو الواقية أو المنجية، التي هي مكّية بالإجماع، بعض هذه الأدلّة:
[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» [الملك: 67/ 1- 11] .
__________
(1) تعاظم بالذّات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا.
(2) ليختبركم، أي يعاملكم معاملة المختبر.
(3) متطابقة بعضها فوق بعض.
(4) شقوق وصدوع.
(5) كرّة بعد أخرى.
(6) صاغرا ذليلا.
(7) كليل منقطع. [.....]
(8) ما يرجم به.
(9) النار الملتهبة.
(10) صوتا منكرا.
(11) تميّز، أي تتقطع من شدة الغيظ.
(12) بعدا من رحمة الله.(3/2696)
تعاظم الله تعالى وتقدّس وتمجّد عما سواه، ذاتا وصفة وفعلا، وتبارك أيضا:
تزايد في الخيرات، فهو المالك لكل شيء، وهو تام القدرة على كل شيء، لا يعجزه شيء، يتصرّف في ملكه كيف يريد، من إحياء وإماتة، ورفع وخفض، وإنعام وانتقام، وإعطاء وحرمان.
فهو الذات الأعظم، والمالك المطلق، والمتصرف كيف يشاء والقادر على كل شيء. ومن آثار قدرته:- أنه تعالى أوجد الموت والحياة، وقدرهما من الأزل، ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم، فيجازيكم على ذلك، وهو القوي الغالب القاهر، الذي لا يغلبه ولا يعجزه أحد، الواسع المغفرة والسّتر لذنوب عباده. وهذا دليل على أن الموت أمر وجودي، لا عدمي، لأنه مخلوق. والقصد من الابتلاء:
إقامة الدليل الحسّي على أفعال العباد، وإظهار كمال المحسنين وإساءة المسيئين.
والموت والحياة: معنيان يتعاقبان جسم الحيوان (الكائن الحي) يرتفع أحدهما بحلول الآخر. وقدّم الموت على الحياة في الآية، لأنه أدعى إلى العمل. وقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أي ليختبركم في حال الحياة، ويجازيكم بعد الموت.
- ومن مظاهر قدرته: أنه تعالى أوجد أو أبدع السماوات السبع، المتطابقة بعضها فوق بعض، كل سماء منفصلة عن الأخرى، لا تشاهد أيها الناظر المتأمّل في مخلوقات الرحمن تناقضا وتباينا أو قلّة تناسب وخروج عن الانسجام، وإن كنت في شك من ذلك، فكرر البصر، هل تشاهد فيها من صدوع وشقوق؟ وهذا دليل على تعظيم خلقها وسلامتها من العيوب. ثم ردد البصر ودقّق مرة بعد مرة، يرتد إليك البصر صاغرا ذليلا عن رؤية شيء من الخلل أو العيب في خلق السماء، وهو كليل عيي من كثرة التأمل وإعادة النظر.
- ومن مظاهر القدرة الإلهية أيضا أننا- الله- زيّنا أقرب السماوات إلى الناس(3/2697)
بمصابيح، أي بكواكب أو نجوم ثوابت وسيارات، تضيء كإضاءة السّراج، وجعلنا بعض تلك الكواكب راجمات لرجم الشياطين، وهيّأنا أو أعددنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب المنقصة عذاب النار الملتهبة، بسبب فسادهم وإفسادهم.
وهيأنا للذين كفروا بربّهم، وكذبوا رسله، عذاب نار جهنم، وبئس المرجع وما يصيرون إليه، وهو جهنم. ثم ذكر الله تعالى للنار أربع صفات وهي:
- إذا طرح الكفار في نار جهنم، كما يطرح الحطب في النار العظيمة، سمعوا لها صوتا منكرا كصوت الحمير أول نهيقها، وهي أيضا تغلي بهم غليان المرجل.
- تكاد تلك النار، أي تقترب أن تتقطع من شدة غيظها على الكفار. لكن أولاد الأنبياء والمؤمنين قبل البلوغ: هم في الجنة، وكذلك أولاد المشركين بدليل هذه الآية المتضمنة مساءلة الخزنة.
- وكلما طرح فيها فوج، أي جماعة من الكفار، سألهم أعوانها وزبانيتها سؤال تقريع وتوبيخ: أما جاءكم في الدنيا رسول منذر، ينذركم هذا اليوم، ويخوّفكم منه؟
والآية تقتضي أنه لا يلقى فيها أحد إلا سئل على جهة التوبيخ عن النّذر.
فأجابهم الكفار: مقرين بأنهم جاءوهم وكذّبوهم، قائلين: بلى جاءنا رسول من عند الله ربّنا، فأنذرنا وخوّفنا، لكنا كذبنا ذلك النذير، وقلنا له: ما نزّل الله من شيء على لسانك، ولم يوح إليك بشيء من أمور الغيب، وأخبار الآخرة والشرائع المنزلة، وما أنتم أيها الرّسل، إلا في متاهة وانحراف عن الحق، وبعد عن الصواب.
وقوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ يحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار، ويحتمل أن يكون من كلام الكفار للنذر.
وأجابوا أيضا بأننا نلوم أنفسنا، فلو كنا نسمع ما أنزل الله من الحق سماع(3/2698)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
الواعين والمهديين، أو نعقل عقل من يميز وينظر وينتفع، لم نكن من أهل النار، ولم نكن من الكافرين بالله. فأقرّوا معترفين بما صدر عنهم من ذنوب: وهو الكفر وتكذيب الأنبياء، فبعدا لهم من الله ومن رحمته، فهم أصحاب النار الملتهبة. إنهم اعترفوا بذنبهم في وقت لا ينفع فيه الاعتراف.
وعد المؤمنين ووعيد الكافرين
لا تظهر ثمرة الإيمان إلا بخشية الله تعالى، ولا تتحقق الخشية إلا برقابة الله في السرّ والعلن، ولا ينفصل الدين عن العمل للدنيا، والعمل للدنيا أمر مطلوب للتعرّض لرزق الله تعالى، فإن الرزق مرتبط بالسّعي. وكيف يأمن الكافرون عذاب الله تعالى في الدنيا كالخسف والزلزال، أو إرسال الحاصب وهي الريح الشديدة التي فيها حصباء لرجم العصاة؟ ألم يعتبر هؤلاء بمن كذب من الأمم الماضية فعوقبوا عقابا منكرا عظيما؟ ولم لم يتأمّلوا بمخلوقات الله العجيبة ومنها الطيور سابحات في الفضاء، بإمساك الله وتدبيره؟ كما هو واضح مما يأتي من الآيات:
[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 19]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9»
__________
(1) صاحبة الصدور، أي خواطر النفوس.
(2) المطّلع على دقائق الأمور.
(3) مذلّلة منقادة سهلة.
(4) نواحيها.
(5) الخروج من القبور.
(6) يغوّر أو يغيّب بكم الأرض.
(7) تضطرب بشدة.
(8) ريحا شديدة تحمل الحصباء، أي الحجارة الصغيرة.
(9) إنكاري أي عذابي الشديد. [.....](3/2699)
«1» [الملك: 67/ 12- 19] .
يصف الله المؤمنين، وهم: إن الذين يخافون ربّهم بالغيب، أي في خلواتهم، غائبين عن أعين الناس، حيث لا يراهم أحد إلا الله تعالى، أو بالغيب الذي أخبروا به من الحشر والنّشر، والصّراط والميزان، والجنة والنار، فآمنوا بذلك وخشوا ربّهم فيه، لهم مغفرة واسعة لذنوبهم، ولهم ثواب جزيل، وهو الجنة.
والله مطّلع على كل شيء، فسواء أخفيتم كلامكم أو جهرتم به، فالله عليم به، يعلم كل ما في الصدور، أي خواطر النفوس والضمائر. والآية خطاب عامّ لجميع الخلق في جميع الأعمال.
قال ابن عباس: نزلت في المشركين، كانوا ينالون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخبّره جبريل عليه السّلام بما قالوا فيه، ونالوا منه، فيقول بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم، لئلا يسمع إله محمد، فنزلت هذه الآية.
وأدلة سعة علم الله تعالى كثيرة، ألا يعلم الخالق خلقه فهو الذي خلق الإنسان، وأوجد السرّ ومضمرات القلوب؟ فالله أعلم بمن خلقه، لأن الصانع أعلم من غيره بالمصنوع، وهو سبحانه العليم بدقائق الأمور وما في القلوب، والخبير بما تسرّه أو تضمره من الأمور، لا تخفى عليه من ذلك خافية.
وقوله: مَنْ خَلَقَ من: فاعل لفعل (يعلم) كأنه تعالى قال: ألا يعلم الخالق خلقه؟ فالمفعول على هذا محذوف. أو منصوب بفعل (يعلم) كأنه تعالى قال: ألا يعلم الله من خلق؟
وأدلة قدرة الله تعالى كثيرة، منها أنه هو الذي سخّر لكم الأرض، وذلّلها لكم،
__________
(1) باسطات أجنحتها ثم قابضات لها.(3/2700)
أي جعلها مذلولة سهلة، لينة، قابلة للاستقرار والحياة عليها، فسيروا في نواحيها وجوانبها، وكلوا مما رزقكم الله وخلقه لكم في الأرض، ومكّنكم من الانتفاع بها، وإليه النشور، أي البعث من قبوركم إلى الله، لا إلى غيره. والآية دليل على قدرة الله ومزيد إنعامه على خلقه، وعلى أن السّعي واتّخاذ الأسباب لا ينافي التوكّل على الله، وعلى أن الاتّجار والتّكسب مندوب إليه. أخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرّة قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم، فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكّلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكّل رجل ألقى حبّه في بطن الأرض، وتوكّل على الله عزّ وجلّ.
أتأمنون أن يخسف، أي يغوّر ويقلع الله بكم الأرض؟ كما خسف بقارون، بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون أو تسعون في جوانبها وطرقها، فإذا هي تضطرب وتتحرك بشدة. والمراد بهذا الاستفهام الوعيد والإخبار بقدرة الله على تعذيب من كفر بالله أو أشرك مع الله إلها آخر.
بل هل أمنتم ربّكم الله الذي هو في السماء كما تزعمون، وهل أمنتم قدرة الله على أن يرسل عليكم ريحا شديدة مصحوبة بالحصى أو الحجارة الصغيرة؟ وحينئذ إذا عاينتم العذاب تعلمون كيف كان إنذاري وعقابي لمن خالف وكذب به.
ولقد كذب الكفار الذين كانوا قبلهم، كذبوا الرّسل، فكيف كان إنكاري عليهم بما سلّطت عليهم من العذاب الشديد؟! أو لم ينظروا إلى الطير فوقهم في الأجواء العليا، وهنّ باسطات أجنحتها تارة، وقابضات لها تارة أخرى؟ ما يمسكهنّ في الهواء إلا الله الرّحمن القادر على كل شيء، إنه تعالى عليم بصير بما يصلح كل شيء من مخلوقاته، لا يخفى عليه شيء من دقائق الأمور وعظائمها.(3/2701)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
تحدّي عبدة الأصنام وإظهار كمال القدرة الإلهية
تحدّى الله المشركين عبدة الأصنام وأبطل اعتقاداتهم في أصنامهم من قوة وجلب خير فيها، ثم أقام تعالى أدلّة أربعة على كمال قدرته وهي تحليق الطيور في الهواء، كما في آية سابقة، وتزويد الإنسان بمفاتيح المعرفة، من السمع والبصر والفؤاد أو العقل، وشعوره بذاته في الوجود، وضمان تكاثر النوع الإنساني، ورفده بالمدد الإلهي والرزق الدائم، ثم أظهر الله حفظه لنبيّه حين دعوا عليه بالهلاك، وإعذاره حين طالبوا بتعيين وقت العذاب الذي خوّفهم به، كما في هذه الآيات وما بعدها:
[سورة الملك (67) : الآيات 20 الى 24]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
«1» «2» «3» «4» «5» [الملك: 67/ 20- 24] .
قل يا محمد لهؤلاء المشركين عبدة الأصنام، على جهة الإنكار والتيئيس من تحصيل مبتغاهم من الأوثان: بل من هؤلاء الجند من غير الإله الرحمن، أي أعوان المذهب الذين يعينونكم على ما تطلبون، ويمنعونكم من عذاب الله، إن أراد بكم سوءا؟! ما الكافرون في الواقع إلا في تغرير خادع من الشيطان بأن العذاب غير نازل بهم. والآية ردّ على الكافرين الممتنعين من الإيمان، والمعتمدين خطأ على وجود قوة من جهة الإخوان والأعوان.
- وقل لهم أيضا: من هؤلاء الذين يرزقونكم إن منع الله رزقه عنكم؟ لا أحد
__________
(1) تغرير من الشيطان بأن العذاب لا ينزل بهم.
(2) تمادوا واستمروا.
(3) العتو: العناد والكبر، والنفور: البعد عن الحق.
(4) ساقطا على وجهه من حين لآخر.
(5) خلقكم ووزعكم متكاثرين.(3/2702)
يعطي ويمنع غير الله، ولا أحد يرزق أو ينصر إلا الله عزّ وجلّ. بل إنهم في الواقع تمادوا في غيّهم وعنادهم واستكبارهم، ونفروا أو ابتعدوا عن الحق، وساروا في طغيانهم الفكري وممارساتهم الضّالّة، ولم يتّعظوا ولم يتفكّروا في الحقيقة. والآية واضحة الدلالة على أنه لا ناصر ينصر من عذاب الله، ولا رزاق يرزق غير الله، إن حجب رزقه عن مخلوقاته.
والفرق واضح بين المؤمن والكافر: أرأيتم معشر الناس حال المؤمن والكافر؟! الكافر يمشي متعثّرا في كل وقت، ساقطا على وجهه من حين لآخر، لا يدري مسلكه وكيفية ذهابه، بل هو تائه حائر ضالّ. أهذا أهدى إلى الطريق القويم، أم ذلك المؤمن الذي هو كمن يسير معتمدا على ذاته، معتدلا في مشيته، ناظرا أمامه، على طريق مستو، لا عوج فيه ولا انحراف؟ فهو في نفسه مستقيم، وطريقه مستقيمة، سواء في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس وابن الكلبي وغيرهما: نزلت هذه الآية مثلا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ولأبي جهل بن هشام. وهي إما إخبار بأحوال الفريقين في الدنيا أو في الآخرة.
وهذا برهان آخر: برهان الرزق بعد تمكين الطير من التحليق، على قدرة الله، وبرهان ثالث: قل: أيها الرسول لهؤلاء المشركين: إن الله ربّكم هو الذي ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، وأوجد لكم حاسة السمع لسماع المواعظ، وحاسة البصر للنظر في بدائع خلق الله، والقلوب والعقول للتأمل والتفكير في مخلوقات الله وإدراك حقائق الأشياء، ولكن قليلا ما تستعملون هذه الطاقات التي أنعم الله بها عليكم، وقليلا ما تشكرونه بصرف تلك النّعم إلى ما أوجدت لأجله في الخير، والبعد عن التّورّط في الشرّ، فإذا لم تستعمل هذه القوى في طلب مرضاة الله، فأنتم ما شكرتم نعمته مطلقا. وإنما خصّت بالذكر مواهب السمع والبصر والفؤاد،(3/2703)
لأنها أداة العلم والمعرفة. وقوله تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ إما تعبير عن قلّة الشكر، أو إرادة نفي الشكر جملة.
وبرهان رابع على كمال قدرة الله، قل أيها النّبي أيضا للمشركين: إن الله هو الذي خلقكم ووزعكم في الأرض على جهة التكاثر، مع اختلاف ألسنتكم ولغاتكم وألوانكم، ثم إليه تجمعون بعد هذا التفرق والتّشتت، فهو يجمعكم كما فرّقكم، ويعيدكم كما بدأكم، للحساب والجزاء. فالحشر المشار إليه في الآية: هو بعث القيامة.
إن أدلة إثبات القدرة الإلهية كثيرة، ذكر منها في هذه الآيات ثلاثة، وفي الآية السابقة عليها ذكر دليل آخر، فتكون الأدلة الأربعة: تمكين الطيور من التحليق في أجواء السماء، ومثلها وعلى نسقها اختراع الطائرات، وإمداد المخلوقات بالرزق من عند الله، دون غيره، وإيجاد المخلوقات، ومن أخصّها الإنسان، وتزويده بطاقات السمع والبصر والعقل، التي هي مفاتيح المعرفة والعلم والإبداع، وضمان تكاثر النوع الإنساني الموزع في أنحاء الأرض، مع اختلاف الألوان والأشكال، والألسنة واللغات، والعروق والأجناس، وكل قوم راضون بأوطانهم وديارهم، ومتمسكون بأراضيهم للحفاظ على وجودهم، ثم يجمعون يوم القيامة إلى الله في المحشر، لإقامة صرح العدالة، وإنصاف المظلومين من الظالمين، والمحسنين من المقصّرين أو المسيئين.
العالم بالقيامة وتهديد المنكرين لها
يوم القيامة أو البعث حق ثابت قطعا، لا شكّ فيه، ولكن العلم به وبوقته مختصّ بالله تعالى، ومهمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم مجرد الإخبار والإنذار، وفي ذلك اليوم الرهيب يصطدم الكافرون بأهواله. وتمنّي الكافرين هلاك النّبي صلّى الله عليه وسلّم أمل خادع لا فائدة فيه، ولا يبدل(3/2704)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
من جزائهم شيئا، فالعذاب لاحق بهم، ولا ينجيهم إلا الإيمان بالله وحده لا شريك له، ومع هذا الموقف الرافض منهم للإيمان ينعم الله على المخلوقات بلا حساب، ومن نعمه العظمى: رفد الناس بالماء سبب الحياة، كما جاء في الآيات الآتية:
[سورة الملك (67) : الآيات 25 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
«1» «2» «3» «4» «5» [الملك: 67/ 25- 30] .
هذا إخبار عن مقالة الكفار الذين يستعجلون أمر القيامة، ويطالبون بالخبر الصادق بها، إن المشركين يقولون تهكّما واستهزاء وتحديا: متى يقع يا محمد ما تعدنا به من القيامة والحشر والعذاب والنار في الآخرة، والخسف ومجيء الريح الشديدة ذات الحصباء، أي الحصى والحجارة في الدنيا، إن كنتم يا محمد ومن آمن معك صادقين فيما تدعونه؟ فأخبرونا به، وبيّنوه لنا. إنهم يطالبون بتعيين وقت الحشر والعذاب الأخروي، أو الدنيوي، ولكنهم في هذا مخطئون الطلب، لأن العلم بتوقيت العذاب محصور بالله تعالى. فأجبهم وقل لهم أيها النّبي: إنما علم الساعة ووقتها ووقت العذاب بالتحديد مقصور على الله عزّ وجلّ، وإنما أنا مجرد رسول منذر مخوف لكم تخويفا واضحا. فلما رأوا العذاب الموعود به قريبا في الدنيا، وقامت القيامة وشاهدها الكفار، ورأوا أن الأمر كان قريبا، اسودّت وجوههم، وعلتها الكآبة والحزن، وغشيتها المذلّة والهوان، وقالت لهم ملائكة العذاب خزنة النار، على
__________
(1) لما رأوا يوم القيامة قريبا منهم.
(2) اسودّت وجوههم وأصيبت بالكآبة.
(3) تطلبون وتنادون.
(4) غائرا ذاهبا.
(5) جار كثير.(3/2705)
وجه التقريع والتوبيخ: هذا هو الذي كنتم في الدنيا تطلبونه، وتستعجلون به استهزاء، وهذا هو جوابكم لرسولكم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأحقاف: 46/ 22] .
ثم إن أولئك المشركين تمنّوا موت الرسول صلّى الله عليه وسلّم،
روي أن كفار مكّة، كانوا يدعون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين بالهلاك، فنزلت الآية الكريمة: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ..
وهذا هو الأمر الثاني الذي حكاه الله عن الكفار المشركين بعد تخويفهم بعذاب الله، إنهم طالبوا أولا بتعيين تاريخ القيامة، ثم دعوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين بالهلاك، فأجابهم الله تعالى من وجهين:
أولا: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله ربّهم، الجاحدين نعمه: أخبروني عن أي فائدة أو نفع لكم، أو راحة فيما إذا أهلكني الله بالإماتة، أو رحمني بتأخير الأجل، أنا ومن معي من المؤمنين، فلو فرض أنه وقع بنا ذلك، فلا ينجي الكافرين أحد من عذاب الله، سواء أمات الله رسوله ومن آمن معه، أو أمهلهم، وإنما الذي ينفعكم هو الإيمان فقط.
ثانيا: قل لهم: إن الذي نجانا نحن هو الإيمان بالله الرحمن، والتوكّل عليه فقط، والتوكّل: تفويض الأمر كله لله عزّ وجلّ.
وأما أنتم إذا بقيتم على ما أنتم عليه من الكفر والضلال، فستعلمون غدا، وستدركون من الذي كان في خطأ كبير واضح، منا أو منكم، وستعرفون لمن العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة. وفي هذا تعريض بالكفار أنهم يتّكلون على الرجال والأموال.
والدليل الواضح على وجوب التوكّل على الله لا على غيره: أنه هو مصدر جميع(3/2706)
النّعم، ومنها نعمة الإمداد بالماء، قل لهم يا محمد: أخبروني إن صار ماؤكم المتدفّق في الآبار والأنهار والعيون غائرا ذاهبا في أعماق الأرض، بحيث لا يناله أحد، فمن الذي يأتيكم بماء كثير جار غير منقطع؟! إنه لا يأتيكم به أحد، إلا الله تعالى، بإنزال المطر والثلج وإجراء الأنهار، والمقصود بالآية: أن يجعلهم القرآن مقرّين ببعض نعم الله، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر والضلال. فإذا أقرّوا بذلك، والإقرار نابع من الواقع، ولا بدّ من أن يقولوا: هو الله، فيقال لهم حينئذ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا لله في العبودية والعبادة؟! والآية دليل على وجوب الاعتماد على الله تعالى في كل حاجة، وذلك من فضل الله ومن مظاهر قدرته ووحدانيته.(3/2707)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
تفسير سورة القلم (ن)
النّبي صلّى الله عليه وسلّم المثل الأعلى في الأخلاق
يتميّز الأنبياء عادة بالاتّصاف بأكرم الصفات وأسمى الآداب والأخلاق، لينشروا دين الله ودعوة التوحيد في الأرض، ويتحمّلوا صنوف المواجهة والمعارضة، ويحلموا على الناس ويتوسّعوا فيهم، ونبيّنا صلّى الله عليه وسلّم هو في قمة الخلق والأدب، وصفوة الناس في مكارم الأخلاق والآداب، لأنه خاتم النّبيين، والرسول إلى الناس كافة وإلى العرب خاصة، وسمة هؤلاء: القسوة والجفاء، والشدة والغلظة، والنجاح في الدعوة إلى الله يتطلب إلانة القلوب القاسية، وإزالة جفاء النفوس، لذا وصف الله تعالى نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالخلق العظيم، كما يبدو في الآيات الآتية في مطلع سورة القلم أو ن المكّية على الصحيح:
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9»
__________
(1) غير منقطع.
(2) المجنون.
(3) أي تلين وتجامل وتداهن فيلينون. [.....]
(4) كثير الحلف.
(5) حقير الرأي.
(6) طعّان في الناس، يمشي بينهم بالنميمة والسّعاية بالإفساد.
(7) متجاوز حدود العدل، كثير الإثم.
(8) غليظ جاف.
(9) دعي في قريش، ابن زنا.(3/2708)
«1» «2» [القلم: 68/ 1- 16] .
ن أو نون: حرف مقطّع في قول جمهور المفسّرين للتنبيه لخطورة وأهمية ما بعدها، وتنبيه المشركين وتحدّيهم بأن القرآن الذي أعجزكم مكوّن من حروف هجائية هي مادة تكوين لغتكم العربية، التي تنطقون بها، ثم مع هذا عجزتم عن الإتيان بمثله أو مثل سورة منه. ثم أقسم الله تعالى بالقلم وبما يكتب به، أي أقسم بالقلم أداة الكتابة وبالمكتوب به. لست يا محمد بسبب نعمة النّبوة بمجنون، كما يزعمون، وإنما أنت ذو مكانة عالية وعقل رشيد وفكر سديد.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا يقولون للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنه مجنون، ثم شيطان، فنزلت: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) .
وهو جواب القسم، أي إنك بسبب نعمة ربّك- وهي جملة اعتراضية- لست مجنونا. والجنون: ستر العقل، بمعنى أن كلامه خطأ ككلام المجنون، فنفى الله تعالى ذلك عنه.
ومطلع السورة حيث أقسم بالقلم، وأثره: إشادة بالكتابة التي هي قوام العلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة، فإن القلم أخو اللسان، وطريق الفطنة، ونعمة عامّة من الله تعالى.
- وإن لك أيها النّبي لثوابا عظيما على ما تحمّلت من مهامّ النّبوة، وذلك الثواب غير مقطوع، وإنما هو مستمر.
وإنك لصاحب الخلق العظيم الذي أمرك الله به في القرآن، لما تحملت من قومك، ما لم يتحمله أمثالك. وجمّاع هذا الخلق يتمثل في قوله الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) [الأعراف: 7/ 199] .
__________
(1) خرافات القدماء.
(2) سنجعل على أنفه سمة أو علامة يتميز بها.(3/2709)
ثم هدّد الله المشركين وتوعّدهم بقوله: فَسَتُبْصِرُ.. أي ستعلم أيها النّبي، وسيعلم يوم القيامة المشركون الذين كذّبوك في الدنيا، من المفتون المجنون الضّال، أي في أي فريق منّا أو منكم النوع المفتون؟ ثم أكّد الله تعالى وعيده ووعده بقوله: إِنَّ رَبَّكَ.. أي إن الله يعلم من هو في الحقيقة الضّال، أنت أم من اتّهمك بالضلال، ومن هو المهتدي من الفريقين، منكم ومنّا؟! والمعنى: بل هم الضّالون، لمعارضتهم ما فيه نفعهم العاجل والآجل.
ثم أوضح الله تعالى ما عليه الكفار من الأخلاق الذميمة، مما يقتضي التشدّد معهم، فداوم أيها النّبي على مخالفة الكفار المكذّبين لرسالتك، وتشدد في ذلك.
لقد تمنّوا لو تلين لهم، فيلينون لك، بأن تركن إلى آلهتهم، ولا تهاجمها، فيقرّون بعبادة إلهك. ثم خصص الله تعالى الوليد بن المغيرة أو غيره بالتحذير من طاعته، لاتّصافه بالصفات المذمومة، والمشهور أنه الوليد، وقيل: إنه الأخنس بن شريق أو أبو جهل أو الأسود بن عبد يغوث. وظاهر اللفظة: عموم من بهذه الصفة، والمخاطبة بهذا المعنى مستمرة باقي الزمان، لا سيما لولاة الأمور. وهذه الصفات:
- إياك أيها النبي إطاعة كل شخص كثير الحلف بالباطل، حقير الرأي والفكر.
وهو أيضا عيّاب طعّان، يذكر الناس بالشرّ في وجوههم، ويمشي بالنميمة والسّعاية بالفساد بين الناس. روى الجماعة إلا ابن ماجه عن حذيفة: «لا يدخل الجنّة قتّات» أي نمام.
- وهو منّاع للخير، أي بخيل، يمنع الخير عن الناس من الإيمان والعمل الصالح.
ظالم متجاوز الحق وحدود الله من أمر ونهي، كثير الآثام والذنوب. كان للوليد بن المغيرة عشرة بنين، وكان يقول لهم ولأمثالهم: لئن تبع دين محمد منكم أحد، لا أنفعه بشيء أبدا، فمنعهم الإسلام وهو الخير الذي منعهم إياه.(3/2710)
- وهو عدا ما ذكر غليظ جاف الطبع، شديد الخلق، دعيّ في قريش، ملصق بالقوم، وليس هو منهم. قال قرة الهمداني: إنما ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة، وبواعث كفره وكبره:
- أيكفر بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، لأن الله أنعم عليه بالأموال والبنين؟ حيث جعل جزاء النعم الكفر والجحود؟ فذلك لا ينفعه عند ربّه. وهذا تقريع وتوبيخ على مقابلة النعمة بالكفر بآيات الله والإعراض عنها.
- وإذا تليت عليه آيات القرآن، زعم أنها كذب من أكاذيب وقصص الماضين، وليس هو من عند الله تعالى. لكن عقابه في الدنيا أو الآخرة أننا سنجعل له على أنفه وسما بالسواد، وبالفعل فإنه قاتل يوم بدر، فخطم بالسيف في القتال.
وقوله: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) العامل في (أن) فعل مضمر، تقديره: كفر أو جحد.
قصة أصحاب الجنّة
ينعم الله تعالى على بعض العباد بالثروة أو المال الوفير، ليعرف هل المنعم عليه شاكر لربّه في طاعة الله وشكر نعمة الله، فيزيده من النعمة، أو يكفر بها فيقطعها عنه. وهذا مثل عظيم لأهل مكة وعتاة الكفار وأصحاب الثراء، وهو مثل أصحاب الجنة ذات الثمار والحبوب، طلب منهم أن يشكروا نعمة الله، ويؤدّوا الفقراء حقوقهم، فجحدوا النعمة وحرموا المساكين حظّهم، فحرمهم الله الثمار كلها. روي أنّ واحدا من ثقيف، وكان مسلما، كان يملك ضيعة، فيها نخل وزرع بقرب صنعاء، وكان يجعل من ناتجها عند الحصاد نصيبا وافرا للفقراء، فلما مات، ورثها منه بنوه،(3/2711)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)
ثم قالوا: عيالنا كثير، والمال قليل، ولا يمكننا أن نعطي المساكين، مثلما كان يفعل أبونا، فأحرق الله جنتهم، كما يبدو في هذه الآيات:
[سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» «13» «14» «15» [القلم: 68/ 17- 33] .
إنا اختبرنا أهل مكة بالجوع والقحط، كما اختبرنا أصحاب البستان المعروف.
وخبرهم عند قريش، حين حلفوا أنهم سيقطعون ثمر البستان عند الصباح، حتى لا يعلم بهم الفقراء، فيأخذون ما كانوا يأخذونه، طمعا في اقتناء كامل الغلّة والزرع.
والقصد من الاختبار: معرفة حالهم، أيشكرون نعم الله عليهم، فيؤمنوا برسول الله المرسل إليهم بشيرا ونذيرا، أم يكذّبونه ويجحدون برسالته، وينكرون حقّ الله عليهم؟ ولا يقولون: إن شاء الله، أو لا يستثنون نصيب المساكين.
فطاف على تلك الجنة (البستان) من عند الله نار أحرقتها، أي أصابتها آفة
__________
(1) عاملنا أهل مكة أو ثقيف معاملة المختبر.
(2) البستان.
(3) ليقطعنها في الصباح.
(4) لا يقولون: إن شاء الله.
(5) طرقها بلاء طارق وهو الهلاك.
(6) كالبستان المقطوع. [.....]
(7) مكان الزرع وهو الحقل.
(8) مريدين قطع ثمارها.
(9) يتسارّون فيما بينهم.
(10) على تصميم على منع المساكين حظّهم.
(11) أعدلهم.
(12) هلا تنزهون الله من كل سوء.
(13) يا هلاكنا احضر.
(14) متجاوزين الحدّ.
(15) متضرّعون متوجّهون.(3/2712)
سماوية، حتى صارت سوداء كالليل المظلم. والطائف: الأمر الذي يأتي بالليل.
والصّريم: الرّماد الأسود، بلغة جذيمة.
ولكنهم لم يقدّروا العواقب، وصمموا على ما أرادوا، فنادى بعضهم بعضا وقت الصباح، ليذهبوا إلى الجذاذ، أي القطع: أن اخرجوا مبكّرين في الصباح إلى الثمار والزروع، إن كنتم قاصدين للصّرام أي القطع.
- فبادروا مسرعين إلى حقلهم، وهم يتناجون سرّا ويقول بعضهم لبعض: لا تمكّنوا اليوم فقيرا واحدا يدخل عليكم. و (يتخافتون) يتكلمون كلاما خفيّا.
- وذهبوا في الغداة مبكّرين، زاعمين أنهم قادرون على الصّرام (القطع) ومنع المساكين وحرمانهم. وقوله: عَلى حَرْدٍ أي ظنّوا أنهم قادرون على منع المساكين.
- فلما وصلوا إلى جنّتهم وشاهدوها وهي على هذه الحالة المؤلمة من الاحتراق والسواد، قال بعضهم لبعض: قد أخطأنا الطريق- طريق بستاننا، وليس هذا.
- ثم لما تأمّلوا وعلموا أنها جنّتهم (بستانهم) وأن الله تعالى عاقبهم بإبادة ما فيها، قالوا: بل نحن في الحقيقة محرومون من ثمر جنّتنا، لعزمنا على منع المساكين حقوقهم.
- قال أعقلهم وأحسنهم رأيا: هل تنزهون الله عن كل عيب أو نقص، وتذكرونه وتشكرونه على ما أنعم به عليكم، وتستغفرون الله من فعلكم، وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها؟
فاعترفوا بذنبهم، وقالوا: تنزيها لله عن أن يكون ظالما فيما صنع ببستاننا، فإنا كنا ظالمين أنفسنا في حرماننا المساكين حقوقهم. ولكنهم أتوا بالطاعة حيث لا تنفع.
ثم لام بعضهم بعضا على ما كانوا أصرّوا عليه من منع المساكين من حقّ الجذاذ، أي القطاف، ولم يجدوا أمامهم إلا الاعتراف بالخطإ والذنب. قالوا: يا هلاكنا أقبل، فإنا كنّا معتدين متجاوزين الحدّ، حتى أصابنا ما أصابنا.(3/2713)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
ثم دعوا ربّهم أن يعوّضهم خيرا عما حلّ بهم قائلين: لعل الله ربّنا أن يعطينا بدلا خيرا من جنّتنا، فإنّا متضرّعون متّجهون إليه، راجون العفو والخير منه.
ثم هناك ابتداء مخاطبة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم في أمر قريش في قوله تعالى: كَذلِكَ الْعَذابُ أي مثل ذلك العذاب الذي نزل بالجنّة: العذاب الذي ينزل بقريش بغتة، وهو عذاب كل من خالف أمر الله، وعذاب الآخرة أشد وأعظم من عذاب الدنيا، فلو كان المشركون يعلمون ذلك، لعادوا إلى رشدهم، وبادروا إلى الإيمان برسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم. وهذا دليل على غفلتهم وجهلهم. قال كثير من المفسّرين: العذاب النازل بقريش المماثل لأمر الجنة: هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين، حتى رأوا الدخان، وأكلوا الجراد.
انتفاء المساواة بين الطائعين والعصاة
حذر القرآن الكريم الكافرين من عذاب الدنيا والآخرة، ووعد الله المتقين بجنات النعيم، والجزاء حق وعدل للفريقين، ولا يعقل بل ولا تقرّ العدالة التساوي بين طائع وعاص، ومؤمن ومجرم، وكيف يحكم عاقل بالمساواة بينهما، من غير منطق، ولا كتاب إلهي، ولا وعد من الله تعالى، ولا من الشركاء المزعومين الذين لا وجود لهم، وهذا ما قررته الآيات الآتية:
[سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 43]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) كيف نجعل المسلمين كالمجرمين في الدرجة والمنزلة في الجنان؟
(2) تقرؤون بعناية.
(3) مغلظة مؤكدة.
(4) كفيل وضامن.(3/2714)
«1» «2» [القلم: 68/ 34- 43] .
أخبر الله تعالى أن المتقين لهم عند ربّهم جنات النعيم، فروي أنه لما نزلت هذه الآية، قالت قريش: إن كان ثمّ جنات نعيم، فلنا فيها أكبر الحظ، فنزلت آية:
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) . وهذا على جهة الاطلاع والتوبيخ.
والمعنى: إن لكل من اتّقى الله وأطاعه، في الآخرة، جنات فيها النعيم الخالص الذي لا يزول ولا ينقضي. وحينما زعم المشركون المكّيون أن لهم الأفضلية في الآخرة، لأفضليتهم في الثروة والنفوذ، أو على الأقل المساواة مع المسلمين، أجابهم الله تعالى بقوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ ...
أي كيف يعقل أن نسوّي بين الفريقين في الجزاء، فنجعل من يلتزم الطاعة كمن هو فاجر مجرم لا يبالي بمعصيته؟ كلا، فلا مساواة بين المطيع والعاصي.
ثم نفى الله تعالى وجود أي دليل عقلي أو نقلي على هذا الزعم فيما يلي:
- كيف تظنون ذلك، وكيف تحكمون هذا الحكم الأعوج، كأن قانون الجزاء مفوض إليكم؟ إن أبسط مبادئ العقل وصحة الرأي يمنع مثل هذا الظن أو الحكم، وهذا نفي للدليل العقلي على المساواة.
أم (بل وألف الاستفهام) أي بل ألكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه، يتضمن حكما مؤكدا كما تدّعون؟ ومفاد الحكم التسوية بين المطيع والعاصي، وهل في ذلك الكتاب أن لكم في الآخرة ما تختارون وتشتهون؟ وهذا نفي الدليل النقلي.
__________
(1) يوم يشتد الأمر، وهذا مجاز. [.....]
(2) تلحقهم ذلّة ومهانة.(3/2715)
- بل ألكم من الله عهد موثق، وأيمان مغلظة مؤكدة، قائمة إلى يوم القيامة، في أن الله تعالى يدخلكم الجنة، ويحقّق لكم رغائبكم كما تريدون وتشتهون؟ وأن لكم إنفاذ الحكم الذي تصدرونه؟ كأنه تعالى يقول: هل أقسمنا لكم قسما فهو عهد لكم بأن ننعّمكم يوم القيامة وما بعده؟
اطلب منهم يا محمد موبّخا ومقرّعا وقل لهم: من المتضمن المتكفل بهذا، أو أيهم كفيل لهم بذلك، بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها؟! - بل ألهم شركاء لله بزعمهم كالأصنام والأنداد قادرون على أن يجعلوهم مثل المسلمين في الآخرة؟ فإن كان لهم شركاء، فليأتوا بهم لمناصرتهم، إن كانوا صادقين في دعواهم. وهذا نفي التقليد وإبطال اعتقاد المشركين.
ثم تحدّاهم الله بالإتيان بالشركاء يوم القيامة حيث يشتدّ الأمر، وذلك وقت أن يكشف عن الساق، أي يوم اشتداد الأمر، وعظم الخطب في القيامة، وحين يدعى هؤلاء المشركون وأنصارهم من الكفار والمنافقين، إلى السجود، توبيخا لهم على تركه في الدنيا، فلا يتمكنون من السجود، لأن ظهورهم تيبس، وتصبح شيئا واحدا، فلا تلين للسجود. قال مجاهد في قوله: يَوْمَ يُكْشَفُ هي أول ساعة من القيامة، وهي أفظعها.
وتكون أبصارهم خاشعة ذليلة منكسرة، تعمّهم الذّلة الشديدة، والحسرة والندامة، وقد كانوا في الدنيا مدعوين إلى الصلاة والسجود لله تعالى، فامتنعوا وتمرّدوا، وكانوا سالمين أصحاء، متمكنين من الفعل، ولا يوجد مانع يمنعهم من السجود. قال النخعي والشعبي: المراد بالسجود: الصلوات المفروضة. والواقع أنهم لا يدعون إلى السجود تعبّدا، وإنما توبيخا وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا. وبما أنهم تكبروا عن السجود في الدنيا، مع صحتهم وسلامتهم، عوقبوا بنقيض ما كانوا(3/2716)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
عليه، بعد قدرتهم عليه، ولا يستطيع أحد أن يسجد، لصيرورة ظهره كتلة واحدة أو طبقة واحدة. وقوله تعالى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يريد في دار الدنيا، وهم سالمون مما نال عظام صدورهم من الاتصال والعتوّ.
التخويف من قدرة الله تعالى
تخويف للكافرين في القرآن بعد تخويف، لقد خوّفهم الله تعالى بأهوال القيامة وشدائدها، ثم خوّفهم وهدّدهم أيضا بما في قدرته من القهر، ففيه الكفاية بالجزاء لمن يكذب بالقرآن الكريم. ثم أمر الله تعالى نبيّه بالصبر، وترك الضجر في أمر التبليغ خلافا لما فعل يونس عليه السّلام. وليس للنّبي أن يأبه بجسد قومه له، بعد أن صبّره وقوى معنوياته، وأن الشرف العظيم له، حين جعل القرآن المنزل عليه عظة للجن والإنس جميعا. وهذا مفاد الآيات الآتية:
[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» «13» [القلم: 68/ 44- 52] .
هذا وعيد وتهديد من الله تعالى، مفاده: دعني وإياهم، واترك أمر أولئك
__________
(1) اتركني.
(2) القرآن.
(3) سنأخذهم تدريجا بالإمهال، ثم عقابهم على غفلة.
(4) أمهلهم.
(5) تدبيري قوي محكم شديد.
(6) فهم من غرامة محملون حملا ثقيلا.
(7) هو يونس بن متى.
(8) مملوء غيظا وغما.
(9) بالأرض الفضاء.
(10) ملوم.
(11) اختاره.
(12) ليجعلونك تزلق.
(13) القرآن. [.....](3/2717)
المكذبين بالقرآن الكريم، فإني أنا أكفيك أمرهم، وأعلم كيف أجازيهم، فإنا سنأخذهم بالعذاب على غفلة، بعد سوقهم إليه درجة فدرجة، حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج، لأنهم يظنونه إنعاما، وهم لا يشعرون أن الإنعام استدراج.
والاستدراج: يستعمل في الشرّ، ويراد به: النزول بالشخص درجة درجة إلى حيث تريد، لتوريطه فيه، والمراد: إدناؤهم من العذاب تدريجا بالإمهال وإدامة الصحة، وزيادة النعمة.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه، عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»
ثم قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:
11/ 102] .
وأمهلهم وأؤخرهم ليزدادوا إثما، ويتورّطوا، فإن تدبيري وكيدي لأهل الكفر قوي شديد، فلا يفوتني شيء لكل من خالف أمري، وكذّب رسلي. وسمي الجزاء كيدا، لكونه في صورة الجرم. فالمراد بالكيد هنا العقوبة: التي تحلّ بالكفار من حيث هي على كيد منهم، فسمّى العقوبة باسم الذنب. و (المتين) القوي الذي له متانة.
ثم أخبر الله تعالى عن إزالة أي مانع يمنع المشركين من قبول الإسلام، فقال: أَمْ تَسْئَلُهُمْ و (أم) هي التي تتضمن الإضراب عن الكلام الأول، لا على جهة الرفض له، لكن على جهة الترك، والإقبال على ما سواه.
والمراد: بل أتطلب يا محمد منهم أجرة على الإرشاد والهداية وتبليغ الرسالة إليهم، فهم من الغرامة المالية مثقلون بأدائها، لشحّهم ببذل المال. الحقيقة أنك أيها النبي تدعو إلى توحيد الله تعالى بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجو ثواب ذلك عند الله(3/2718)
تعالى، وهم مع ذلك يكذبونك في دعوتك. وهذا توبيخ للكفار، لأنه لو سألهم أجرا، فأثقلهم عدم ذلك، لكان لهم بعض العذر في إعراضهم وفرارهم.
بل أعندهم علم الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون، ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك؟! وبعد هذا التفنيد لمواقف الكفار وشبهاتهم، أمر الله رسوله بالصبر على أذاهم وعلى تبليغ رسالته، فاصبر يا محمد على قضاء ربّك وحكمه فيك، وفي هؤلاء المشركين، وعلى أذى قومك وتكذيبهم إياك، ولا تكن ضجرا متعجلا مغاضبا مثل يونس عليه السّلام، حين ترك قومه، وركب البحر، والتقمه الحوت، ثم ندم على ما فعل، فألقاه الحوت على الشاطئ. أي لا تتصف بصفات يونس من الضجر والمغاضبة، فتبتلى ببلائه.
ولولا أن تداركه من ربّه رحمة ونعمة، بتوفيقه للتوبة وقبولها منه، فتاب الله عليه، لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات، وهو ملوم بالذنب الذي أذنبه، مطرود من الرحمة والكرامة. فاصطفاه ربّه واختاره للنبوة، وأتم عليه رسالته، حين أعاده لقومه البالغين مائة ألف أو أكثر، فآمنوا جميعا.
ثم حذّر الله تعالى نبيّه من عداوة المشركين، وترك المبالاة بحسدهم، فإنهم، أي الكفار يكادون يجعلونك بأبصارهم تزلق، وتهلك، لما سمعوا القرآن، وقولهم عنك:
إنك مجنون، تنفيرا عنك، وتحييرا في شأنك، والمعنى: أنهم وصفوه بالجنون لأجل القرآن. وما القرآن في الواقع إلا خير وبركة، وموعظة وتذكير للجن والإنس، فلا يتحمله إلا من كان أهلا له من العقلاء. قال الحسن البصري: دواء الإصابة بالعين:
أن يقرأ هذه الآية وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. الآية.(3/2719)
الْحَاقَّةُ (1)
تفسير سورة الحاقّة
التخويف بيوم القيامة وجزاء المكذبين بها
القيامة أو الحاقّة أعظم وأخطر بكثير مما نتصور، وحينما كذبت أقوام بها كثمود وعاد وفرعون وقومه وقرى قوم لوط، دمّرهم الله تدميرا شديدا، جعل عبرة بالغة للأجيال الآتية من بعدهم. وهذا ما تحكيه لنا سورة الحاقّة المكّية بالإجماع، التي سمعها عمر رضي الله عنه من النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال في أوائلها في نفسه: إنه لشاعر، كما تقول قريش، حتى بلغ إلى قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) ثم مرّ حتى انتهى إلى آخر السورة فأدخل الله تعالى في قلبي الإسلام. وهذا مطلع هذه السورة:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9»
__________
(1) القيامة المتحققة الوقوع، وما مبتدأ، والحاقة الثانية خبرها، والجملة خبر الأولى.
(2) القيامة التي تقرع القلوب بالإفزاع.
(3) الواقعة التي جاوزت الحدّ في الشدة وهي الصيحة أو الرجفة.
(4) بريح شديدة الصوت والبرد، شديدة القوة والعصف.
(5) متتابعة.
(6) موتى مطروحين على الأرض.
(7) أصول نخيل ساقطة فارغة.
(8) قرى قوم لوط.
(9) بالخطإ الشديد الفاحش.(3/2720)
«1» «2» «3» «4» «5» [الحاقّة: 69/ 1- 12] .
البعث والقيامة، وما أدراك ما القيامة، وهي التي يتحقق فيها الوعد والوعيد، وسميت بالحاقّة لأن أمور الحساب مثبتة فيها، وحقّقت لكل عامل عمله، ومتحققة الوقوع من غير شك ولا ريب. وكلمة (الحاقّة) اسم فاعل من (حق الشيء يحق) إذا كان صحيح الوجود. وقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) مبالغة في أهوالها وصفاتها.
ونوع العقاب ببعض الأمم السابقة التي كذبت بيوم القيامة، تخويفا لأهل مكة وغيرهم: هو:
كذبت قبيلة ثمود قوم صالح وقبيلة عاد قوم هود بالقيامة التي هي القارعة التي تقرع الناس بأهوالها. فأما جماعة ثمود فأهلكوا هلاكا تامّا بالطاغية: وهي الصيحة أو الصاعقة أو الرجفة التي جاوزت الحدّ في الشدة. قال قتادة: الطاغية: معناه الصيحة التي خرجت عن حدّ كل صيحة. وهذا أولى الأقوال وأصوبها.
وأما قبيلة عاد قوم هود، فأهلكوا هلاكا ساحقا بريح شديدة الصوت والبرد، قاسية شديدة الهبوب، جاوزت الحدّ، لشدة هولها، وطول زمنها وشدة بردها، سلّطها الله عليهم طوال مدة سبع ليال وثمانية أيام متتابعة، لا تنقطع ولا تهدأ، وكانت تقتلهم بالحجارة، تحسمهم حسوما، أي تفنيهم وتذهبهم. فتشاهد إن حضرت أولئك القوم في ديارهم موتى مصروعين على الأرض، كأنهم أصول نخل ساقطة أو بالية، لم يبق الله منهم أحدا، فهل تحس منهم من أحد من بقاياهم؟ بل
__________
(1) زائدة في الشدة.
(2) جاوز الحدّ المعتاد.
(3) السفينة التي تجري في الماء.
(4) عظة.
(5) حافظة لما تسمع. [.....](3/2721)
بادوا عن آخرهم، ولا خلف لهم.
ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» .
وقوله: مِنْ باقِيَةٍ إما مبالغة كعلّامة ونسّابة، والمعنى: من باق، أو من فئة باقية، وإما مصدر، أي من بقاء.
وأتى بالفعلة الخاطئة الطاغية فرعون ومن تقدّمه من الأمم الكافرة، وأهل المنقلبات (المؤتفكات) قرى قوم لوط، وخطؤهم: الشّرك والمعاصي الكبائر.
فعصت كل أمة من هؤلاء رسولها المرسل إليها، فأهلكهم الله ودمّرهم، وأخذهم أخذة أليمة شديدة، زائدة على عقوبات سائر الأمم الأخرى. و (الرّابية) النامية التي قد عظمت جدا.
ثم عدد الله تعالى نعمته على الناس في قصة الطوفان.
إننا لما تجاوز الماء حدّه وارتفع بإذن الله، وجاء الطوفان في زمن نوح عليه السّلام، حملنا آباءكم المؤمنين وأنتم في أصلابهم، في السفينة التي تجري في الماء، لتتحقق لهم النجاة من الغرق، ولنجعل نجاة المؤمنين، وإغراق الكافرين عبرة وعظة، تستدلون بها على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه، وشدة انتقامه، ولتحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت ووعت. فقوله تعالى: لِنَجْعَلَها
ووَ تَعِيَها
عائد إلى الواقعة المعلومة، وهي نجاة المؤمنين، وإغراق الكافرين، أي: من تذكرها ازدجر.
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن مكحول مرسلا قال: لما نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سألت ربّي أن يجعلها أذن عليّ» ، قال مكحول: فكان علي يقول: ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا قط، فنسيته.
هذا أنموذج من أوصاف العقاب الأليم الذي أوقعه الله ببعض الأقوام الغابرة، اتصفت بأقسى ألوان الشدة في الدنيا، لتكون درسا بليغا، وعظة بالغة للأقوام(3/2722)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
والأفراد والجماعات إذا فعلوا مثل فعلهم، سواء من أهل مكة المشركين في الماضي، أو من أهل الأقطار والبلاد الأخرى. وهذا اللون من العقاب أخفّ بكثير إذا قورن بألوان العذاب الأخروي. والفرق بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فرق واضح، الأول مؤقت، ومقصور على فئات خاصة، والثاني دائم خالد لا يزول، شامل كل من جحد بالله ومات على كفره.
هول القيامة وحال الأبرار فيها
للقيامة أهوال وأحزان، ومفاجات وكوارث، تبدأ من نفخة الفزع التي ينفخها إسرافيل في الصور (وهو القرن الذي ينفخ فيه) ومعها يكون الصعق، ثم يعقبها نفخة البعث، وبعد النفخة الأولى تدكّ الأرض والجبال، وتنشق السماء وتنتثر الكواكب والنجوم، ثم يكون الحساب للأبرار والفجّار، أما الأبرار: فهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، ويهنأون في العيش الرغيد الخالد، في جنات النعيم، وأما الفجار: فهم الأشقياء الذين يعطون كتبهم بشمائلهم أو من وراء ظهورهم، ويعذّبون في الجحيم بسبب كفرهم وإحجامهم عن الخير، كما يتضح في الآيات الآتية:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 24]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8»
__________
(1) الصّور: القرن الذي ينفخ فيه.
(2) هي نفخة القيامة التي للفزع والصعق.
(3) أي تصير الأرض والجبال كتلة واحدة.
(4) قامت القيامة.
(5) كناية عن تصدّعها وتبدّدها.
(6) مختلة ضعيفة غير متماسكة.
(7) هو مخلوق وأعظم المخلوقات.
(8) خذوا.(3/2723)
«1» «2» «3» [الحاقّة: 69/ 13- 24] .
ذكّر الله تعالى بأمر القيامة في هذه الآيات، ومبدؤها حين ينفخ إسرافيل النفخة الأولى التي يكون عندها خراب العالم، وحدوث الفزع والصعق. ثم تكون نفخة البعث. وقيل: هي نفخات ثلاث: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ثم نفخة البعث.
وبعد النفخة الأولى ترفع الجبال من أماكنها بقدرة الله، ويضرب بعضها ببعض ضربة واحدة، وتصير مع الأرض كتلة واحدة، وترجع كثيبا مهيلا، وتتبدد وتتغير.
فحينئذ قامت القيامة، ووقعت النازلة. فقوله: وَقَعَتِ الْواقِعَةُ معناه: قامت القيامة والطّامّة الكبرى.
وتصدّعت السماء، فتصير يومئذ ضعيفة مسترخية، غير متماسكة الأجزاء، وتتبدل هي والأرض تبدّلا محسوسا واضحا، ويبرز الناس للحساب بين يدي الله تعالى.
وتكون الملائكة على جوانب السماء وحافاتها على أتم الاستعداد لتنفيذ ما يأمرهم الله به. ويحمل عرش ربّك فوق رؤوس الملائكة الذين هم على الأرجاء (الجوانب) ثمانية أملاك. وقوله: الْمَلَكُ اسم جنس، يريد به الملائكة. وضمير أَرْجائِها عائد على السماء، أي الملائكة على نواحيها وجوانبها. والعرش في اللغة: سرير الملك، وهو أعظم مخلوقات الله تعالى، نؤمن به، ونفوض الأمر في وصفه لله عزّ وجلّ.
في ذلك اليوم، يعرض العباد على الله تعالى لحسابهم، فلا يخفى على الله من
__________
(1) ذات رضا.
(2) ثمارها قريبة التناول.
(3) الماضية في الدنيا.(3/2724)
ذواتكم وأقوالكم وأفعالكم وأموركم خافية، كائنة ما كانت، فهو تعالى يعلم السرّ وأخفى. وهذا تهديد ووعيد.
والناس بعد الحساب فريقان: سعداء أبرار، وأشقياء فجّار.
أما الأبرار: فهم الذين يؤتون كتبهم التي كتبتها الحفظة عليهم من أعمالهم، فيقول السعيد صاحب اليمين لكل من لقيه: خذوا هذا الكتاب فاقرؤوا ما فيه، لعلمه أنه صار من الناجين، بعد أن كان خائفا مضطربا كشأن أهل المحشر كلهم، كما قال تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) أي تيقّنت وعلمت أني ألقى حسابي في هذا اليوم، فيؤاخذني الله بسيئاتي، ولكنه تعالى تفضّل علي بالعفو، ولم يؤاخذني بها. والآية عبارة عن إيمان هذا السعيد بالبعث وغيره. فهو يقول: لقد علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة، وأن هذا اليوم كائن لا محالة. قال قتادة: ظنّ هذا ظنّا يقينيا فنفعه، وقوم ظنوا ظن شك فشقوا به.
ومصير هذا السعيد: أنه بعد تلقي كتابه بيمينه هو في عيشة مرضية أو ذات رضا، خالية من المكدّرات، غير مكروهة، في جنة مرتفعة المكان، رفيعة القدر، عالية المنازل، مكانا وقدرا، دائمة السرور، ثمارها قريبة التناول لكل أحد بحسب راحته، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع. والقطوف: جمع قطف: وهو ما يجتنى من الثمار ويقطف. ودنوها: هو أنها تأتي طوع التّمني، فيأكلها القائم والقاعد والمضطجع، بفيه، من شجرتها.
ويقال لهؤلاء السعداء من الملائكة الأبرار: كلوا أيها المتّقون الأبرار في الجنّة من طيباتها وثمارها، واشربوا من أشربتها الهانئة، أكلا وشربا هنيئا، أي لا تكدير فيه ولا تنغيص، جزاء لما عملتم، وبسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا. والْأَيَّامِ الْخالِيَةِ هي أيام الدنيا، لأنها في الآخرة قد خلت وذهبت. وأَسْلَفْتُمْ قدمتم.(3/2725)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25)
وهذا تفضّل من الله تعالى عليهم، وامتنان وإنعام وإحسان، لما
ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اعملوا وسدّدوا وقاربوا، واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنّة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» .
إن دخول الجنان بفضل من الله ورحمة وإحسان، أما تفاوت الناس الصالحين في درجات الجنّة، فإنما هو بحسب تفاضلهم في أعمالهم، وهو ما صرّح به القرآن الكريم في قوله تعالى: يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النّحل: 16/ 32] .
وهذا جمع موفّق بين الآيات والأحاديث النّبوية.
حال الفجّار في القيامة
يتميز أسلوب القرآن الكريم بالموازنة أو المقارنة بين الأضداد والمتغايرات، ليختار الإنسان العاقل الواعي بحرّيته طريق الخير أو طريق الشرّ، ويكون عمله هو سبب جزائه الحسن أو السوء، وقد ذكر الله تعالى في آيات سابقة حال الأبرار الأتقياء من نعيم الجنان، ليستعد الإنسان للعمل بعملهم، ثم أعقبه ببيان حال الأشقياء التعساء في نيران الجحيم، ليتجنّب المرء مسيرتهم وسلوكهم، لأن الجزاء الواضح في الآخرة مرتبط بنوع العمل، فأهل الإيمان والعمل الصالح هم السعداء، وأهل الكفر والجحود والمعاصي هم الهالكون الخاسرون، بسبب الإعراض عن الإيمان الصحيح بالله ورسالاته وعن أعمال البر والخير، كما يبدو في هذه الآيات:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 25 الى 37]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)(3/2726)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [الحاقّة: 69/ 25- 37] .
المعنى: أما الشّقي الذي أعطي كتابه بشماله أو من وراء ظهره، فيقول حزنا وكربا لما رأى من سوء عمله وعقيدته: يا ليتني لم أعط كتابي. ولم أعلم شيئا عن حسابي، لأن كله وبال علي، ليت الموتة التي متّها في الدنيا كانت القاطعة نهاية الحياة، ولم أبعث بعدها، أي ليتها لم يكن بعدها رجوع ولا حياة، فهو يتمنى دوام الموت وعدم البعث، لما شاهد من سوء عمله، وما يجابهه في الآخرة من العذاب.
جمعت الآيات بين مقابلة العذاب النفسي بتمنّي عدم تلقّي الكتاب، وبين الشعور بالعذاب الجسدي، حين تمنّي الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه، كما قال قتادة.
ويضيف الكافر قائلا: ما أفادني مالي شيئا، ولم يدفع عني شيئا من عذاب الله تعالى، وذهب منصبي وجاهي وملكي وحجتي، والسلطان: هو الحجة، على الراجح، فلم يدفع عني العذاب. قال ابن عطية: والظاهر عندي أن سلطان كل أحد: هو حاله في الدنيا من عدد وعدد، ومنه
الحديث: «لا يؤمنّ الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» «8» .
هؤلاء الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم: هم المخلّدون في النار، أهل الكفر، فيتمنون
__________
(1) القاطعة لحياتي، فلم أبعث، إشارة إلى موته في الدنيا.
(2) شدّوه في الأغلال.
(3) أدخلوه في نار جهنم. [.....]
(4) مبلغ كيلها أو طولها سبعون ذراعا، المراد أنها طويلة، وهي ذراع الملك.
(5) صديق.
(6) ما يسيل من صديد أهل جهنم.
(7) الآثمون.
(8) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي وابن ماجه، وأحمد في مسنده، عن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه.(3/2727)
أن لو كانوا معدومين لا يجري عليهم شيء، حين لا يجدون شيئا ينفعهم في الآخرة من مال أو ولد أو حجة مقبولة.
فيأمر الله زبانية جهنم قائلا لهم: خذوه، أي خذوا هذا الكافر الشّقي، مكبّلا بالقيود والسلاسل والأغلال، بجمع يده إلى عنقه في الغلّ، ثم أدخلوه الجحيم ليصلى حرّها، ثم أدخلوه في سلسلة (حلق منتظمة) طولها سبعون ذراعا تلفّ على جسمه، لئلا يتحرّك. وقد جعل الله تعالى في قرآنه السبع مائة، والسبعين، والسبعة، مواقف ونهايات لأشياء عظام، فلذلك مشى العرب وغيرهم على أن يجعلوها نهايات، وهذه السلسلة من الأشياء التي جعل الله تعالى فيها السبعين: نهاية.
وسبب وعيد هذا الشّقي وعذابه: أنه كان لا يؤمن بالله العظيم، أي كافرا جاحدا، لا يصدق بالله صاحب العظمة والسلطان، ولا يحب الخير ولا يفعله، ولا يحث على إطعام الفقير والمسكين البائس، فضلا عن أنه لا يبذل المال لمحتاج. أي لا يؤدي حقوق الله من توحيده وعبادته، وترك الشّرك به، ولا يوفي بحقوق العباد من الإحسان والمعاونة على البر والتقوى. وفي ذكر الحضّ دون الفعل تشنيع على صاحبه، يفيد أن تارك الحض كتارك الفعل. وهذا دليل على أن غير المؤمنين إطلاقا مطالبون بفروع أحكام الشريعة الإسلامية، من صلاة وصيام وحج وزكاة وغيرها من شرائع المعاملات والأحوال الشخصية.
والعذاب متعين لازم لهذا الشقي، فليس له يوم القيامة قريب ينفعه، أو صديق يشفع له، أو منقذ ينقذه من العذاب. والحميم: هو الصديق اللطيف المودة.
وأما وسائل بقاء الحياة في النار لأهلها، فتتجدد حياتهم كلما عذّبوا، وليس لهم طعام يأكلونه إلا أقبح الأشياء، وهو ما يسيل من أجساد أهل النار من صديد ودم وقيح، إنها سموم قاتلة في الباطن، مع العذاب في الظاهر، وهذا الطعام لا يتناوله إلا(3/2728)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38)
الآثمون أصحاب الخطايا والذنوب. والخاطئ: الذي يتعمد الإثم والخطأ وترك الصواب. والمخطئ: الذي يفعله من غير تعمّد.
نفى الله تعالى في هاتين الآيتين أن يكون للكافر في الآخرة من يواليه، ونفى أن يكون له طعام إلا من غسلين: ما يسيل من أجساد أهل النار، وذلك غاية القبح.
القرآن تنزيل من الله وتذكرة
ختم الله تعالى سورة الحاقّة بما يدلّ على تعظيم القرآن الكريم، وكونه تنزيل ربّ العالمين، على قلب رسوله الأمين، وأنه تذكرة للمتقين، ولا قيمة لتكذيب المكذبين، وسيبقى حق اليقين الذي لا شك فيه، ومصدر غصة وعذاب وحسرة على الكافرين، وهو الكتاب المعجز الدالّ على إخراس ألسنة المتقولين فيه، قال مقاتل: سبب نزول الآيات أي التي يقسم الله فيها على أن القرآن قول الله الذي يبلّغه رسول كريم: أن الوليد ابن المغيرة قال: إن محمدا ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن، فقال الله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) الآيات، أي أقسم. وهذه هي الآيات:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 52]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الحاقّة: 69/ 38- 52] .
__________
(1) أي إنه تلاوة وتبليغ رسول كريم إما جبريل عليه السّلام، وإما محمد صلّى الله عليه وسلّم.
(2) الكاهن: من يخبر بالغيب.
(3) تكلف وافترى.
(4) لعاقبناه بقوة.
(5) الوريد: العرق الرئيسي المتّصل بالقلب.
(6) مانعين.
(7) أي اليقين الحق الذي لا شك فيه.
(8) نزّه الله عما لا يليق به.(3/2729)
فلا أقسم: لا إما زائدة أي فأقسم، أو ردّ لما تقدم من أقوال الكفار. والمعنى:
أقسم أي أقسم لخلقي بما تشاهدون من المخلوقات الدالة على كمالي في أسمائي وصفاتي، وما لا تشاهدون مما غاب عنكم من المغيبات، إن هذا القرآن هو كلام الله ووحيه وتنزيله على عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو تلاوة وتبليغ رسول كريم: هو جبريل عليه السّلام، أو محمد عليه الصّلاة والسّلام، وعليه الأكثرون، وأضيف القول إليه، لأنه هو الذي تلاه وبلّغه.
وليس القرآن بقول شاعر كما تزعمون، لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بشاعر، وليست آيات القرآن من أصناف الشعر، وأنتم تؤمنون أو تصدّقون تصديقا يسيرا، حين تقولون عن الخالق: إنه الله.
وليس هو بقول كاهن: وهو من يدّعي الغيب ومعرفة أسرار المستقبل، كما تزعمون، فإن القرآن سبّ الشياطين، فلا يعقل أن يكون بإلهامهم، ولكنكم تتذكرون تذكّروا قليلا، فيلتبس الأمر عليكم.
بل هو تنزيل من الله ربّ الإنس والجنّ، نزل به جبريل الرّوح الأمين على قلب الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم. ثم أكّد الله تعالى أن هذا النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يستطيع أن يختلق القرآن، فإنه لو افترى القرآن، وجاء به من عند نفسه، ونسبه إلى الله تعالى، على سبيل الفرض، لأخذناه وأهلكناه بالقوة، ولنلنا عقابه بقوة منا، واليمين: القوة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. ثم لبترنا منه الوتين من قلبه، وهو العرق أو الوريد المتصل من القلب بالرأس، إذا قطع مات صاحبه. وهذا تصوير لإهلاكه بأشنع وأشد ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه.
فليس منكم أحد يحجزنا ويمنعنا منه، أو ينقذنا منه، فكيف يجرأ على تكلف الكذب على الله لأجلكم؟! وقوله: حاجِزِينَ جمع روعي فيه المعنى، لأن قوله:(3/2730)
مِنْ أَحَدٍ في معنى الجماعة، يقع في النفي العام على الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، والمراد: لا يمنعنا أحد عن الرسول أو عن القتل.
وأوصاف القرآن الكريم: هي أنه عظة وتذكرة لأهل التقوى الذين يخشون عذاب الله بإطاعة أوامره، واجتناب نواهيه.
وإنا لنوقن ونجزم أن بعضكم مكذبون بالقرآن، كفرا وعنادا، ونحن نجازيهم على ذلك، وبعضكم مصدّقون به، لاهتدائه إلى الحق. وفي هذا وعيد شديد للمكذبين.
وإن هذا القرآن سيكون حسرة وألما وندامة على الكافرين، يوم القيامة، من حيث إنهم كفروا به، ويرون من آمن به ينعّم، وهم يعذّبون.
وإن القرآن هو الخبر الصدق، واليقين الحق الذي لا شك فيه، لكونه من عند الله، وليس من قول أحد من البشر. وقوله: لَحَقُّ الْيَقِينِ في رأي الكوفيين: من إضافة الشيء إلى نفسه، كدار الآخرة، ومسجد الجامع. وفي رأي البصريين والحذّاق: أن الحقّ مضاف إلى الأبلغ من وجوهه، قال المبرد: إنما هو كقولك: عين اليقين، ومحض اليقين.
ثم أمر الله تعالى نبيّه بتسبيح الله باسمه العظيم، أي نزّه الله تعالى الذي أنزل هذا القرآن العظيم، عما لا يليق به، بقولك: سبحان ربي العظيم. وفي ضمن ذلك:
الاستمرار على تبليغ رسالته.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لما نزلت هذه الآية: «اجعلوها في ركوعكم» .
واسم الرّب: كل لفظ يدل على الذات الأقدس أو على صفة من صفاته، كالله والرّحمن والرّحيم. وتنزيه الاسم الخاص: تنزيه للذات، فتكون الباء في قوله: بِاسْمِ زائدة.(3/2731)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
تفسير سورة المعارج
التهديد بالعذاب الأخروي
المشركون قوم حمقى، فإنهم طالبوا بإنزال العذاب في الدنيا، واستعجال العذاب الأخروي تحدّيا واستهزاء وعنادا، على الرغم من إخبار القرآن بتعذيب من قبلهم ممن هو أشد منهم قوة وجحودا وثراء وزعامة، فجاءهم إنذار آخر من السماء يهددهم بعذاب واقع، مع وصف مرعب ليوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال وتغيرات غريبة تباين المألوف، مما يزيد في الخوف أو الذّعر، وذلك في مطلع سورة المعارج المكّية بالإجماع في هذه الآيات:
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» [المعارج: 70/ 1- 18] .
__________
(1) سأل بكذا: طلبه، وسأل عن كذا: استخبر عنه اعتناء به. [.....]
(2) مانع وواقع.
(3) المصاعد والدرجات لصعود العمل الصالح إليه.
(4) مائع الزيت ونحوه من المعادن المذابة.
(5) الصوف المندوف.
(6) صديق صديقه.
(7) زوجته.
(8) عشيرته.
(9) كلمة ردع وزجر للمخاطب عما هو عليه.
(10) نار ملتهبة.
(11) هي أعضاء الجسم الخارجية أو جلدة الرأس.(3/2732)
أخرج النّسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ قال:
هو النّضر بن الحارث، قال: «اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء» .
دعا داع وطلب طالب بإنزال عذاب واقعي، كائن للكافرين، نازل بهم، لا يمنع ذلك العذاب الواقع أحد إذا أراده الله تعالى. وقوله: لِلْكافِرينَ بمعنى: على الكافرين، فاللام بمعنى على هنا، أو كأن قائلا قال: لمن هذا العذاب؟ فقيل:
للكافرين. وسؤال العذاب من طالبه للاستهزاء والتعنّت. والسائل كما تقدّم: هو النضر بن الحارث أو غيره.
والعذاب واقع من جهة الله تعالى، ذي المصاعد الذي تصعد إليه الكلمة الطيبة والعمل الصالح، أو تصعد فيها الملائكة، وقال ابن عباس: المعارج: السماوات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء. تصعد في تلك المعارج الملائكة وجبريل عليه السّلام، خصصه بالذّكر تشريفا، في مدة يوم يقدّر بخمسين ألف سنة من سنوات الدنيا، لو أراد البشر الصعود إليها. وهذا بحسب مواقف القيامة ومواطنها، فيها هذه المواطن، وفيها خمسون موطنا، كل موطن ألف سنة، كما في آية أخرى: هي فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السّجدة: 32/ 5] . وهذا في حقّ الكافر، أما في حقّ المؤمن فلا يجدون هذه المسافة لقوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) [الفرقان: 25/ 24] . والمستقر والمقيل: هو الجنة.
ثم أمر الله نبيّه بالصبر على مثل هذا السؤال، فاصبر يا محمد صبرا جميلا، ولا تأبه بسؤالهم العذاب استهزاء وتعنّتا وتكذيبا بالوحي، واحلم على تكذيبهم لك.
إن المشركين يرون يوم القيامة ووقوع العذاب فيه بعيدا أو مستحيل الوقوع، والله يراه قريبا، ويعلمه كائنا ممكنا غير متعذر، لأن كل ما هو آت قريب.(3/2733)
وأوصاف ذلك اليوم يوم القيامة: أن السماء تصير كمائع الزيت أو المعادن المذابة، وتكون الجبال كالصوف المنفوش أو المندوف إذا طيّرته الريح، ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه أو حاله في ذلك اليوم، وهو يراه في أسوأ الأحوال، فتشغله نفسه عن غيره.
ويبصّر أو يرى كل صديق صديقه، ويعرّف به، لا يخفى منهم أحد عن أحد، دون أن يكلم بعضهم بعضا، ويتمنّى الكافر وكل مذنب ذنبا يستحقّ به النار: أن يفتدي نفسه من عذاب يوم القيامة الذي نزل به، بأعزّ ما لديه، من المال والبنين، والزوجة، والإخوة والأخوات، والعشيرة أو الرّهط والقرابة الأدنين، كبني هاشم مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكل من في الأرض جميعهم من الثّقلين: الإنس والجنّ وغيرهما من الخلائق، ثم ينجيه من هذا الفداء، الذي تضمنه قوله: لَوْ يَفْتَدِي فهو كالمتقدم الذّكر. فالفاعل لقوله: يُنْجِيهِ هو الفداء، أي لا نجاة.
ثم أكّد الله تعالى رفض قبول الفداء بقوله: كَلَّا للردع والزجر، فهي ردّ لقولهم وما ودّوه، أي ليس الأمر كذلك. فلا يقبل الفداء من المجرم، إنها جهنم الشديدة الحرّ مأواه، التي تنزع اللحم عن العظم، والأعضاء عن مفاصلها، وجلدة الرأس عنه، ثم يعود كما كان. وتنادي جهنم الكفار وهم كل من أدبر عن الحق والإيمان في الدنيا، وتولى عنه، وجمع المال فجعله في وعاء، فلم ينفق منه شيئا في سبيل الخير، ومنع حق الله فيه، من الواجب عليه من النفقات وإخراج الزكاة.
وقوله: فَأَوْعى أي جعله في الأوعية. وهذا إشارة إلى كفار أغبياء جعلوا جمع المال جلّ همهم ومقصد حياتهم، فجمعوه من غير حلّ، ومنعوه من حقوق الله تعالى.
ودعاء جهنم لأهلها إما حقيقة، تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، كما قال ابن(3/2734)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)
عباس وغيره. وقال الخليل بن أحمد: هي عبارة عن حرصها عليهم، واستدنائها لهم، وما توقعه من عذابها.
والواقع أن غضب الله وسخطه يحيط بجهنم وأهلها، وكل ما فيها وما حولها عذاب في عذاب، وشقاء في شقاء، أعاذنا الله تعالى منها ومن الاقتراب من حرّها.
طبع الإنسان وعلاجه
على الرغم من أهوال القيامة الموحية بأشد ألوان العذاب، يجمح بالإنسان طبعه وميله إلى الشرّ، بسبب أوصاف الهلع والجزع والمنع التي تؤدي به إلى السوء، لكن تعديل الغرائز وترقية الطباع أمر متحمل. ويمكن ترويض هذه الأخلاق وعلاجها بالحكمة والمجاهدة، وفي ضوء تقدير المخاطر، ومن أجل النجاة من المخاوف التي تحيط بالإنسان في آخرته. والقرآن الكريم نبّه إلى طرق العلاج لطبيعة الإنسان بأسلوب معقول وواضح، كما يتبين من هذه الآيات:
[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [المعارج: 70/ 19- 35] .
__________
(1) سريع الحزن، شديد الحرص، قليل الصبر.
(2) كثير الجزع، أي إنه يئوس قنوط، والجزع: الحزن.
(3) كثير المنع.
(4) المتعرّض للسؤال، والمتعفف فيحرم. [.....]
(5) خائفون.
(6) من طلب غير هذا فهم المتجاوزون الحدود.
(7) يؤدّون الشهادة ولا يكتمونها.(3/2735)
إن الإنسان (اسم جنس يفيد العموم) مجبول على الضجر والهلع: وهو شدة الحرص، وقلة الصبر، فإذا أصابه شرّ من فقر أو مرض مثلا، فهو كثير الجزع، أو الحزن، والشكوى، وإذا أصابه خير من غنى أو منصب وجاه، أو قوة وصحة ونحو ذلك، فهو كثير المنع والبخل. والهلع بعبارة أخرى: فزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «شرّ ما في الرجل: شحّ هالع، وجبن خالع» .
ثم استثنى الله تعالى من اتصف بصفات عشر وهي:
- هؤلاء الناس يتّصفون بصفات الذّم، إلا المصلّين الذين يؤدّون صلاتهم، ويحافظون على أوقاتها وواجباتها، ويداومون عليها، وهاتان الصفتان: أداء الصلاة والمواظبة عليها، تساعدان على التخلّص من صفات الهلع والجزع والمنع، أي إن هذا المعنى يقل فيهم، لأنهم يجاهدون أنفسهم بالتقوى، ويؤثرون الآخرة على الدنيا.
- والذين يكون في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات والبائسين، سواء سألوا الناس أو تعفّفوا، والسائل: الفقير الذي يتكفّف فيعطى، والمحروم: الذين يتعفّف فيحرم. والحق المعلوم: هو الزكاة المفروضة في رأي. وفي رأي آخر أصح هي في الحقوق التي سوى الزكاة، وهي ما ندبت الشريعة إليه من المواساة. وقد قال ابن عمر والثعلبي ومجاهد وكثير من أهل العلم: إن في المال حقّا سوى الزكاة.
- والذين يوقنون بوجود يوم القيامة يوم الحساب والجزاء، لا يشكون فيه ولا يجحدونه، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب، ويخشى العقاب. وسمي يوم القيامة بيوم الدين، لأنه يوم المجازاة، والدين: الجزاء.
- والذين هم خائفون من عذاب الله، إذا تركوا الواجبات، واقترفوا المنكرات، فيكون العذاب واقعا بهم إلا بعفو من الله تعالى.(3/2736)
- والذين يكفّون فروجهم عن الحرام، ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه، وهو الزوجة وملك اليمين الذي هو الإماء، حين كان الرّق قائما، فلا لوم في الاستمتاع المشروع بهما، فمن قصد المتعة بغير هذين السبيلين: الزواج والتمتع بملك اليمين، فهم المتجاوزون الحدود، المعتدون الضارّون.
وقوله: غَيْرُ مَلُومِينَ معناه أنهم غير ملومين على أزواجهم وما ملكت أيمانهم.
وابْتَغى معناه: طلب، وقوله: وَراءَ ذلِكَ معناه سوى ما ذكر.
- والذين يؤدّون الأمانات التي يؤتمنون عليها إلى أهلها، ويوفون بالمعاهدات والاتفاقات والعقود المبرمة، ولا ينقضون البيع ولا شيئا من الشروط المتفق عليها.
فإذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا، وإذا حدّثوا لم يكذبوا. وهذه صفات المؤمنين، وأضدادها صفات المنافقين. والأمانات: هي في الأموال والأسرار، وفيما بين العبد وربّه تعالى، فيما أمره به ونهاه عنه. قال الحسن: الدّين كله أمانة. والعهد:
كل ما تقلّده الإنسان من قول أو فعل أو مودّة. أخرج البخاري في كتاب الأدب:
«حسن العهد من الإيمان» . وراعُونَ جمع راع، أي حافظ.
- والذين يؤدّون الشهادة على الحقوق والمنازعات في محاكم القضاء بحق، ويحافظون عليها دون زيادة ولا نقصان، ودون مجاملة لقريب أو بعيد، أو رفيع أو ذي منصب وجاه، ولا يكتمونها ولا يغيرونها. ولا يكون أداء الشهادة في حقوق العباد إلا بعد طلب لأداء الشهادة، أما في حقوق الله تعالى كمنع منكر وقمع مخالفة فتؤدي حسبة من دون طلب.
- والذين يحافظون على مواقيت الصلاة وأدائها بأركانها وواجباتها ومندوباتها، لا يخلّون بشيء منها، ولا يتشاغلون بشاغل عنها، ولا يفعلون بعدها ما يتناقض معها، فيبطل ثوابها، وتضيع ثمرتها. وذلك بالدخول فيها في حماس ورغبة بها،(3/2737)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)
ويفرغون قلوبهم من شواغل الدنيا، ويفكرون فيما يتلون فيها من آيات القرآن، أو يرددون من أذكار التكبير والتسبيح والتحميد، وتكون قلوبهم حاضرة مع الله تعالى، ويتأملون في معاني آيات الله تعالى.
أولئك الموصوفون بالصفات السابقة ينعّمون بجنات الخلود، ويكرمون بأنواع التكريم وألوان الملاذّ والمسارّ.
والجزاء بهذه الخاتمة الرائعة يحمل المتّصفين بهذه الصفات على التخلّص من أوصاف الهلع والجزع والمنع.
تهديد المكذّبين بالرّسالة النّبوية
أسرع الكفار المكذّبون بدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الاعتصام بالكفر، وإلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان، فتوعّدهم الله بالإبادة والهلاك، وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم حتى يوم القيامة، حيث تكون أبصارهم ذليلة، وتغشاهم المذلّة والهوان بسبب تكذيبهم أيضا بيوم القيامة.
قال المفسّرون: كان المشركون يجتمعون حول النّبي صلّى الله عليه وسلّم يستمعون كلامه، ولا ينتفعون به، بل يكذبون به ويستهزئون ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة، لندخلنها قبلهم، وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) . والآيات التي قبلها وبعدها هي:
[سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44]
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
»
«2» «3»
__________
(1) ناحيتك.
(2) مسرعين إليك شاخصين أبصارهم نحوك.
(3) جماعات متفرقين، جمع عزة: وهي العصبة والجماعة.(3/2738)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [المعارج: 70/ 36- 44] .
ما بال هؤلاء الكفار تجدهم مسرعين إلى الكفر والتكذيب والاستهزاء بك، وتراهم عن يمينك أيها النّبي وعن شمالك جماعات متفرّقة، وموزّعين مشتّتين، وقوله:
قِبَلَكَ معناه فيما يليك، والمهطع: الذي يمشي مسرعا إلى شيء قد أقبل عليه ببصره.
وعزين: جماعات يسيرة، ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة.
نزلت هذه الآية لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي عند الكعبة أحيانا ويقرأ القرآن، فكان كثير من الكفار يقومون من مجالسهم مسرعين إليه يتسمعون قراءته، ويقول بعضهم لبعض: شاعر، وكاهن، ومفتر، وغير ذلك.
ثم أيأس الله أولئك الكفار من دخول الجنان بقوله فيما معناه: أيطمع هؤلاء المشركون المكذبون برسالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يدخلوا جنات النعيم؟! كلا، بل مأواهم جهنم، إنا خلقناكم من الماء المهين الضعيف، أي من خلق من ذلك، فليس بذات خلقه يعطى الجنة، بل بالأعمال الصالحة إن كانت. وهذا تقرير لوقوع المعاد والعذاب الذي هدّدوا به، وأنكروا حدوثه، أو استبعدوا وجوده.
نزلت هذه الآية كما تقدم: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) لأن الكفار قالت: إن كانت ثمّ آخرة وجنّة، فنحن أهلها وفيها، لأن الله تعالى لم ينعم علينا في الدنيا بالمال والبنين وغير ذلك إلا لرضاه عنا.
__________
(1) بمغلوبين.
(2) يتحدثوا في الباطل.
(3) القبور، جمع جدث.
(4) مسرعين.
(5) أنصاب للعبادة.
(6) يسرعون.
(7) ذليلة كسيرة.(3/2739)
ثم أنذرهم الله سبحانه بالهلاك إن داموا على الكفر، وهدّدهم بإيجاد آخرين مكانهم ليؤمنوا، فقال: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) أي فإني أقسم بمشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها كل يوم من أيام السنة، على أننا قادرون على أن نخلق أمثل منهم، وأطوع لله تعالى ممن عصوه، ونهلك هؤلاء، ولن يعجزنا شيء، ولسنا بمغلوبين إن أردنا ذلك، بل نفعل ما أردنا، لكن اقتضت مشيئتنا وحكمتنا تأخير ذلك. وهذا دليل على كمال قدرة الله تعالى على الإيجاد والإعدام، مؤكدا بالقسم. وهو تهكّم بهم وتنبيه على تناقض كلامهم، حيث إنهم ينكرون البعث، ثم يطمعون في دخول الجنة، ويقرّون بأن الله هو خالق السماوات والأرض وخالقهم مما يعلمون، ثم لا يؤمنون بأنه قادر على خلقهم مرة ثانية.
والمشارق والمغارب: هي مطالع الشمس والقمر وسائر الكواكب، وحيث تغرب، لأنها مختلفة عند التفصيل، فلذلك جمع.
ثم أمر الله تعالى رسول الله عليه الصّلاة والسّلام بالإعراض عنهم حتى يوم البعث، زيادة في التهديد، وهو معنى قوله: اتركهم يا نبي الله يتحدّثون في باطلهم، ويلهون في دنياهم، ويعاندون في تكذيبهم وإنكارهم البعث، حتى يلقوا يوم القيامة وما فيه من أهوال، ويجازوا بأعمالهم. والآية وعيد، وما فيه من معنى المهادنة منسوخ بآية السيف.
اذكر أيها النّبي يوم يقومون من القبور بدعوة الله تعالى لموقف الحساب، مسرعين متسابقين، كأنهم في إسراعهم إلى الموقف، كما كانوا في الدنيا يهرولون أو يسرعون إلى شيء منصوب، من علم أو راية. والأجداث: القبور، والنصب: ما نصب للإنسان، فهو يقصد مسرعا إليه، من علم أو بناء أو صنم لأهل الأصنام. وقد كثر استعمال هذا الاسم في الأصنام حتى قيل لها: الأنصاب.(3/2740)
إنهم في خروجهم من الأجداث (القبور) تكون أبصارهم ذليلة كسيرة، وتغشاهم المذلّة الشديدة، لهول العذاب الذي يواجههم، وفي مقابلة استكبارهم عن الطاعة في الدنيا، ذلك اليوم المشتمل على الأهوال العظام: هو اليوم الذي أوعدهم الله تعالى به، وأنذرهم بملاقاته، وكانوا يكذّبون به، وليتهم آمنوا به، فنجوا من العذاب.
وعبر عن مجيء وقت العذاب بلفظ الماضي: كانُوا يُوعَدُونَ لأن ما وعد الله به يكون آتيا لا محالة.(3/2741)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)
تفسير سورة نوح
دعوة نوح عليه السّلام
لقد لقي نوح عليه السّلام من قومه على مدى قرابة ألف سنة ما لم يلقه أحد من الأنبياء، حيث إنهم كذّبوه وآذوه، وأعرضوا إلا قليلا جدّا عن دعوته إلى توحيد الله، وهجر عبادة الأصنام البدائية، واشتطوا في فرارهم منه، على الرغم من وعدهم بالرّخاء وتوالي النّعم المادية المتنوعة في الأموال والأولاد، ناسين مراحل خلقهم، وتدرج الخلق، حتى صاروا قوما أشداء، كما توضح الآيات الآتية في مطلع سورة نوح المكّية بالإجماع:
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [نوح: 71/ 1- 14] .
__________
(1) أجل مقدر محدد. [.....]
(2) تغطوا بثيابهم الساترة لجميع البدن.
(3) لازموا الأمر وانكبّوا عليه.
(4) تكبّروا تكبّرا.
(5) مجاهرة.
(6) كثير الدرور.
(7) يعطكم على فترات.
(8) عظمة وتوقيرا.(3/2742)
إنا بعثنا بعثة دعوة نوحا بن لامك عليه السّلام أول رسول أرسله الله إلى قومه، وقلنا له: أنذر قومك بأس الله وعذابه، قبل أن يجيئهم عذاب شديد الألم، وهو عذاب النار، أو الإغراق بالطوفان، فإن تابوا ورجعوا، رفع عنهم.
قال نوح: يا قومي، إني لكم منذر من عذاب الله ومخوف إياكم، واضح الإنذار والاعلام. ومضمون دعوتي: أني آمركم بعبادة الله وحده لا شريك له، وأن تؤدّوا حقوقه، وتمتثلوا أوامره، وتجتنبوا نواهيه التي توقعكم في العذاب، وتطيعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه. والتقوى: امتثال الأوامر، واجتناب المحرّمات.
وثمره التكاليف أمران: أنه تعالى يستر لكم بعض ذنوبكم، ويمدّ في أعماركم، ويؤخر موتكم إلى أمد محدد قدره الله لكم، إن آمنتم وأطعتم. وقوله: مِنْ ذُنُوبِكُمْ من للتبعيض، وهذا وعد كريم على الطاعة والعبادة بشيئين: دفع مضارّ الآخرة وهو غفران الذنوب، وتحقيق منافع الدنيا، وهو تأخير الأجل إلى وقت آخر. ولا يعني هذا خلافا للمعتزلة من وجود أجلين للإنسان، وإنما المراد أنه قد سبق في الأزل، أنهم إما ممن قضي له بالإيمان والتأخير، وإما ممن قضي له بالكفر والمعاجلة، بدليل قوله: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ أي ما قدره لكم إذا جاء، وأنتم كافرون، لا يؤخر بل يقع حتما.
قال نوح بعد أن طال عمره، وتحقّق اليأس من قومه: يا ربّ إني دعوت قومي إلى ما أمرتني به، بأن أدعوهم إلى الإيمان بوجودك ووحدانيتك، دعاء متواصلا دائما في الليل والنهار، من غير تقصير، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك، فلم يزدهم دعائي إلى الله الذات الأقدس إلا فرارا مما دعوتهم إليه، وبعدا عنه. وقوله: لَيْلًا وَنَهاراً:
عبارة عن استمرار دعائه، وأنه لم يتوان فيه قط.
وكلما دعوتهم إلى سبب المغفرة، وهو الإيمان بالله والطاعة له، سدّوا آذانهم(3/2743)
برؤوس أصابعهم، لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه، وغطّوا بثيابهم وجوههم لئلا يروني، ولئلا يسمعوا كلامي، واستمروا على الكفر والشّرك ولازموه، وتكبّروا عن قول الحق تكبّرا شديدا، أي استنكفوا عن اتّباع الحق والانقياد له.
ثم إنني نوّعت لهم أساليب الدعوة، فدعوتهم إلى الإيمان والطاعة جهرة بين الناس، أي مجاهرا لهم بها، ثم جمعت في الدعوة بين الإعلان بها والإسرار، أي إن نوحا عليه السّلام سلك في دعوته مراتب ثلاثا: بدأ بالمناصحة في السرّ ليلا ونهارا، ففرّوا منه، ثم جهر بالدعوة، لأن النصح العلني تقريع، ثم جمع بين الأمرين:
الإسرار والإعلان. وتكرار صفة الدعوة بيان وتأكيد، يدلّ على غاية الجدّ.
وقلت لهؤلاء القوم: اطلبوا المغفرة من ربّكم لذنوبكم السابقة، بإخلاص النّية، وتوبوا إلى الله من الكفر والمعاصي، إن ربّكم الذي خلقكم وربّاكم كثير المغفرة للمذنبين.
ثم وعدهم على التوبة من الكفر والعصيان بخمسة أشياء: إرسال المطر المتتابع، الكثير الغزارة ليكثر الخير والخصب، والإمداد بالأموال الكثيرة، وإكثار الذرّية والأولاد بسبب الأمن والرفاه، ومنحهم بساتين نضرة عامرة بالأشجار والثمار، وجعل الأنهار جارية بالماء العذب، ليكثر الزرع والثمر والغلة. والوقار: العظمة والسلطان. فكأن الكلام وعيد وتخويف.
ما لكم لا تخافون من عظمة الله وجلاله، فتوحّدوه وتطيعوه، في حين أنه هو الذي خلقكم على أطوار أو مراحل مختلفة، وهو كما قال ابن عباس إشارة إلى التدرّج الذي للإنسان في بطن أمّه من النطفة والعلقة والمضغة، ثم العظام فاللحم، ثم تمام الخلق، وإنشاؤكم خلقا آخر، تمرّون في دور الطفولة، ثم التمييز، ثم البلوغ والمراهقة، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، فكيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة؟(3/2744)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)
تذكير نوح بأدلة وحدانية الله وموقف القوم منه
لم يدع نوح عليه السّلام دليلا إلا استدلّ به لقومه على وجود الله ووحدانيته وقدرته، من خلق السماوات والأرض، وخلق الناس، وإنبات النبات، ولكنهم قوم أغبياء وحمقى، فأصرّوا على ملازمة عبادة الأصنام والضلال والإضلال، فهدّدهم الله تعالى، وألهم نوحا الدعاء عليهم وعلى ذرّيتهم، وطلب المغفرة له ولوالديه ولأهل الإيمان وإهلاك الظالمين المشركين، وذلك في الآيات الآتية:
[سورة نوح (71) : الآيات 15 الى 28]
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» [نوح: 71/ 15- 28] .
الآيات الأولى تبيّن أنواع الدلائل على وحدانية الله وقدرته: ألم تنظروا فوقكم كيف خلق الله السماوات المتطابقة بعضها فوق بعض، وجعل القمر في السماوات منوّرا لوجه الأرض، من غير حرارة، وجعل الشمس مصدر الضوء كالسّراج: وهو المصباح المضيء الذي يزيل ظلمة الليل، وينشر الحرارة والدّفء.
__________
(1) متطابقة فوق بعضها.
(2) مصدر إضاءة كالسّراج.
(3) أنشأكم.
(4) ممهدة منبسطة.
(5) واسعة.
(6) كبيرا للغاية.
(7) أسماء أصنامهم، وكانت في الأصل أسماء رجال صالحين في قومهم. [.....]
(8) من أجل خطاياهم.
(9) أحدا في دار.
(10) شديد الفجور والكفر.
(11) هلاكا.(3/2745)
- والله تعالى أوجد أباكم آدم من التراب، وجعله ينمو ويكبر كالنبات، وجعل نموكم معتمدا على الغذاء من نتاج الأرض، وتحولها إلى نبات أو حيوان.
وهذه استعارة من حيث أخذ آدم عليه السّلام من الأرض، ثم صار الجميع نابتا منه. وقوله: نَباتاً مصدر جار على غير المصدر، والتقدير: فنبتّم نباتا.
ثم يعيدكم في الأرض بالدّفن فيها الذي هو عرف البشر، بعد موتكم، حتى تعودوا ترابا مندمجا في الأرض، ثم يخرجكم منها بالبعث يوم القيامة، إخراجا دفعة واحدة، لموقف العرض والجزاء، لا إنباتا بالتدرّج كالمرة الأولى.
- ومن نعمه تعالى على الإنسان أنه جعل لكم الأرض ممهدة منبسطة كالبساط، للتمكين من العيش عليها والاستقرار فيها، وثبّتها بالجبال، وجعلكم تبحثون فيها عن الرزق، وأوجد لكم طرقا واسعة بين الجبال والوديان والسهول.
- قال نوح داعيا ربّه: يا ربّ، إن قومي عصوني، ولم يجيبوا دعوتي، واتّبع كبراؤهم وأثرياؤهم الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة.
ومكروا بالتدبير الخبيث مكرا عظيما، وهو صدّ الناس عن دعوة نوح إلى الدين الحق وتوحيد الإله، وإغراء السّفلة على إيذاء نوح عليه السّلام وقتله.
- وقال الرؤساء للأتباع لمخالفة نوح وعصيان قوله: لا تتركوا عبادة آلهتكم، وتعبدوا ربّ نوح، ولا تتركوا عبادة هذه الأصنام التي انتقلت عبادتها إلى العرب، وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر. فكان ودّ لكلب، وسواع لهذيل، ويغوث لغطفان، ويعوق لهمدان، ونسر لحمير آل ذي الكلاع، وهي في الأصل أسماء رجال صالحين، من قوم نوح عليه السّلام.(3/2746)
وقد أضلّ كبراؤهم كثيرا من الناس، فدعا نوح عليهم قائلا: ولا تزد الكافرين إلا حيرة وبعدا عن الصواب، فلا يهتدوا إلى الحقّ والرشاد.
وسبب الجزاء: هو من أجل كثرة سيئاتهم وآثامهم وإصرارهم على الكفر، ثم أدخلوا نار الآخرة، فلم يجدوا لهم من غير الله أنصارا يمنعون عنهم العذاب، ويدفعونه عنهم.
وقال نوح لما أيس من إيمانهم: يا ربّ لا تترك على وجه الأرض منهم أحدا، يسكن الديار. إنك إن أبقيت منهم أحدا، أضلّوا عبادك الذين تخلقهم بعدهم عن طريق الحق، ولا يلدوا إلا كل كافر فاجر في الأعمال، بترك طاعتك، كثير الكفران في القلب لنعمتك، لخبرته بهم.
ثم دعا نوح عليه السّلام لنفسه ولوالديه ولأهل الإيمان قائلا: ربّ استر علي ذنوبي، واستر على والدي المؤمنين برسالتي، واغفر لكل من دخل منزلي وهو مؤمن، ولكل المصدّقين الواثقين بوجودك ووحدانيتك، وكل المصدّقات بذلك من الأمم والأجيال القادمة، ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، إلا هلاكا وخسرانا ودمارا.(3/2747)
تفسير سورة الجنّ
[الأخبار العجيبة هذه السورة]
اشتملت سورة الجنّ المكّية بالإجماع على أشياء وأخبار عجيبة عن الجنّ يمكن تصنيفها بخمسة أنواع:
النوع الأول- الإخبار عن ستة أشياء عن الجنّ منها إيمانهم بالقرآن العظيم وبمنزله وهو الله تعالى.
والنوع الثاني- حكاية سبعة أشياء عن الجنّ تتعلّق بأسرار السماء وأحوالهم من الإيمان.
والنوع الثالث- عن مكانة المساجد.
والنوع الرابع- عن أصول دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
والنوع الخامس- عن موعد الساعة أو القيامة.
النوع الأول
ستّة أخبار عن الجنّ
نزلت سورة الجنّ حينما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببطن نخلة وهو يريد سوق عكاظ، يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا،(3/2748)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
إنا سمعنا قرآنا عجبا، فأنزل الله على نبيّه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ وإنما أوحي إليه قول الجنّ. وهذه ستة أخبار عن الجن في مطلع سورة الجن:
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الجنّ: 72/ 1- 7] .
هذه حكاية أخبار ستة عن الجن:
- أولها إيمان فريق منهم بالقرآن وبمنزله، مضمون هذا الخبر: قل أيها النّبي مخبرا أمتك: بأن الجنّ استمعوا القرآن، فآمنوا به وصدّقوا به وانقادوا له، فقالوا لقومهم حين سماع سورة الجنّ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً لما رجعوا إليهم: سمعنا كلاما مقروءا مثيرا للعجب في فصاحته وبلاغته، ومواعظه وبركاته. والجنّ: عالم مستتر عنا، لا نعرف عنه إلا ما أخبر به الوحي، وهم مخلوقون من النار.
وهذا القرآن يهدي أو يرشد إلى الحق والصواب ومعرفة الله تعالى، فصدّقنا به أنه من عند الله، ولن نشرك مع الله إلها آخر من خلقه، ولا نتخذ إلها آخر. وهذا يدلّ على أن أعظم ما في دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم: هو توحيد الله تعالى ومحاربة الشّرك وأهله.
- وأنه تعاظم جلال ربّنا وعظمته، ولم يتخذ صاحبة وولدا، لاستغنائه عن ذلك، والمعنى: أنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله، نزّهوا الرّب تعالى- حين أسلموا
__________
(1) الوحي: ما يلقى إلى الأنبياء والرّسل من عند الله تعالى.
(2) مثيرا للعجب داعيا للغرابة.
(3) جلال ربّنا وعظمته.
(4) السفيه: الجاهل والذي عنده خفة وطيش.
(5) غلوّا في الكذب وتجاوزا حدّ العدل والحق.
(6) شيئا مكذوبا تبيّنا كذبه.
(7) يطلبون النجاة والعون.
(8) زادوهم طغيانا وكبرا وعتوّا.(3/2749)
وآمنوا بالقرآن- عن اتّخاذ الصاحبة والولد، فأثبتوا وحدانية الله، وامتناع وجود شريك له، ثم أثبتوا له القوة والعظمة، ونزّهوه عن الحاجة والضعف، باتّخاذ الصاحبة والولد.
- وأن بعض سفهاء الجنّ (الجهلة الطائشين) كانوا قبل إسلامهم يقولون قولا متجاوزا الحدّ، بعيدا عن الرشد والصواب، وعن الحق والعدل.
- وأننا حسبنا أن الإنس والجنّ كانوا لا يكذبون على الله، حينما قالوا: بأن له شريكا وصاحبة وولدا، فصدّقناهم في ذلك، ثم لما سمعنا القرآن تبيّنّا كذبهم وبطلان قولهم.
- وكنا نرى أن بعض الإنس كانوا يستعيذون في القفار ببعض الجنّ، أو يطلبون النجاة والعون، فزادوا رجال الجنّ طغيانا وغيّا، وكبرا وعتوّا. روى جمهور المفسّرين أن الرجل كان إذا أراد المبيت والحلول في واد، صاح بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي، إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك. فيعتقد بذلك أن الجنّي الذي بالوادي يمنعه ويحميه. وكانت الجن تقول عند ذلك: ما نملك لكم ولا لأنفسنا من الله شيئا. قال مقاتل: أول من تعوّذ بالجنّ قوم من أهل اليمن، ثم بنو حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب. وأضاف قتادة قائلا: كانت الجنّ لذلك تحتقر بني آدم وتزدريهم، لما يرون من جهلهم، فكانوا يزيدونهم مخافة، ويتعرضون للتخيل لهم بمنتهى طاقتهم، ويغوونهم في إرادتهم، لمّا رأوا رقّة أحلامهم، فهذا هو الرّهق الذي زادته الجنّ بني آدم.
- وأن الإنس بني آدم الكفار ظنّوا كما ظننتم أيها الجن أنه لا بعث ولا جزاء، أو أنه لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولا يدعو إلى التوحيد والإيمان بالله ورسله واليوم الآخر. (وأن) في قوله تعالى: أَنْ لَنْ يَبْعَثَ مخففة من الثقيلة، وهي تسدّ مسدّ المفعولين لفعل (ظنّ) .(3/2750)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)
إن هذه الطائفة من الأخبار السّتة عن الجنّ تضمنت أصل العقيدة: وأولها الإيمان بالقرآن الكريم وبمواعظه الهادية إلى أرشد الأمور، والإيمان بوحدانية الله وتنزيهه عن الشّرك، وعن اتّخاذ الصاحبة والولد. ثم تضمّنت معلومات عن إبليس والجنّ قبل إسلامهم من الكذب وتجاوز الحدّ في الظلم، ومعلومات أخرى عن الإنس والجنّ، حيث كان يستعيذ بعض الإنس السّذج ببعض الجنّ في القفار والوديان ليحموهم من شرّ أشرار الجنّ، وحيث يصدر الكذب عن بعض الإنس والجنّ في اتّخاذ الله صاحبة وولدا، ويظن بعض الفريقين أن لا بعث ولا آخرة، ولا جزاء ولا حساب، وهذا ضلال وخطأ بيّن. فما على كفار قريش إلا الاتّعاظ بصنيع الجنّ، وأن يبادروا إلى الإيمان الحق كما آمن الجنّ بالقرآن والله والرسول.
النوع الثاني من أخبار الجنّ
هذه هي الطائفة الثانية من أخبار الجنّ، وهي سبعة أخبار، ذكرها القرآن الكريم، تحكي أحوال الجنّ في محاولاتهم استراق السمع لأخبار السماء، قبل البعثة النبوية، ثم منعوا منها بعدها، دون أن يدروا سبب المنع وإقامة الحراسة على السماء، ومن أخبارهم: أن الجن فريقان كالإنس، فمنهم المؤمن والصالح ومنهم الكافر والفاسق، وأنهم علموا بقدرة الله الحاكمة عليهم، دون التمكن من الإفلات منها، وأنهم أدركوا عظمة القرآن وهدايته، فآمنوا به، وكل ذلك يدل على أن طبيعة الجن كطبيعة الإنس، وأنهم مكلفون بدعوة الحق والنبي، كما يتضح من هذه الآيات:
[سورة الجن (72) : الآيات 8 الى 17]
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12)
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)
«1» «2»
__________
(1) حرّاسا من الملائكة شدادا.
(2) جمع شهاب: وهو الشعلة من نار ساطعة. [.....](3/2751)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الجنّ: 72/ 8- 17] .
هذه أخبار الجن الثابتة بحكاية القرآن الكريم لها وهي هنا سبعة كما يلي:
- لما بعث النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأنزل عليه القرآن، طلبنا خبر السماء، كما جرت به عادتنا، فوجدناها ملئت حراسا أقوياء من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع، ووجدنا أيضا نيرانا منقضة من الكواكب تحرق وتمنع من أراد استراق السمع كما كنا نفعل.
- وأننا كنا نقعد في السماء مقاعد لاستراق السمع، وسماع أخبار السماء من الملائكة لإلقائها إلى الكهنة (مدعي الغيب ومعرفة الأسرار في المستقبل) فحرسها الله تعالى عند بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشهب المحرقة، فمن حاول الإصغاء لأخبار السماء أو استراق السمع، يجد له الآن شهابا (شعلة نار) مرصدا له، يحرقه ويهلكه.
- ولا نعلم بسبب هذه الحراسة للسماء، أشرّ أو عذاب أراد الله أن ينزله على أهل الأرض، أم أراد بهم ربّهم خيرا وصلاحا، بإرسال نبي مصلح.
- وأخبر الله تعالى عما قال الجن عن أنفسهم، لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان
__________
(1) الاستماع: الإصغاء.
(2) يرصده ويرقبه للانقضاض عليه.
(3) خيرا ورحمة.
(4) ذوي مذاهب متفرقة مختلفة.
(5) انتقاصا من حقّه في الثواب.
(6) لا يخاف ظلما.
(7) الظالمون الجائرون.
(8) طلبوا الأحرى والأهدى من الطريقتين.(3/2752)
برسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم: كنا قبل استماع القرآن، منا المؤمنون الأبرار الصالحون، ومنا دون ذلك، أي غير صالحين أو كافرين، كنا جماعات متفرقة، وذوي سير أو مذاهب مختلفة، أي إنهم أقسام، فمنهم المؤمن، ومنهم الفاسق، ومنهم الكافر، كحال الإنس تماما.
و (الطرائق) ، السّير المختلفة، و (القدد) كذلك هي الأشياء المختلفة، كأنه قد قدّ بعضها من بعض، وفصل. وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة: طَرائِقَ قِدَداً أهواء مختلفة.
وأننا علمنا أن قدرة الله حاكمة علينا، وأنا لا نفلت من قدرة الله ولا نفوته إن طلبنا وأراد بنا أمرا، سواء كنا كائنين في الأرض أو هاربين منه إلى السماء، فإنه علينا قادر، لا يعجزه أحد منا. والظن في الآية: بمعنى العلم.
- وأننا لما سمعنا الهدى وهو القرآن، صدّقنا أنه من عند الله، ولم نكذب به، كما كذبت به كفرة الإنس، فمن يصدق بربّه وبما أنزله على رسله، فلا يخاف نقصانا من حسناته، ولا عدوانا وظلما وطغيانا بالزيادة في سيئاته. والبخس: النقص نقص الحسنات. والرّهق: الزيادة في السيئات.
وأن بعضنا مؤمنون مطيعون لربّهم، يعملون الصالحات، وبعضنا جائرون ظالمون حادوا عن طريق الحق والخير ومنهج الإيمان الواجب. فمن آمن بالله، وأسلم وجهه لله بطاعة شريعته، فأولئك طلبوا باجتهادهم طريق الرشاد والسعادة، وطلبوا لأنفسهم النجاة من العذاب، وهذا ثواب المؤمنين. وأما الجائرون الحائدون عن منهج الإسلام، فكانوا وقودا للنار، توقد أو تسعّر، كما توقد بكفرة الإنس.
ويلاحظ الفرق بين الكلمتين، فالقاسط: الجائر عن الحق، الظالم، أما المقسط: فهو القائم بالعدل، من أقسط، أي عدل.
ثم أوحى الله لنبيّه أنه لو استقام الجنّ والإنس على طريقة الإسلام، لأسقيناهم ماء كثيرا، ولآتيناهم خيرا كثيرا واسعا، لنعاملهم معاملة المختبر، فنعلم كيف شكرهم(3/2753)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
على تلك النّعم، فإن هم أطاعوا ربّهم أثبناهم، وإن عصوه عاقبناهم في الآخرة، وسلبناهم النعمة، والاستقامة على الطريقة: على طريقة الإسلام والحق. وقوله:
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم.
ومن يعرض عن القرآن أو عن الموعظة الحسنة، فلا يأتمر بالأوامر، ولا ينتهي عن النواهي، يدخله ربّه عذابا شاقّا، صعبا لا راحة فيه.
وكلمة عَذاباً صَعَداً معناه شاقّا، تقول: فلان في صعد من أمره، أي في مشقّة.
هذه أحوال الجن مع رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، تتضمن كونهم أقساما وفرقا مختلفة وجماعات متفاوتة، كأحوال الإنس.
النوع الثالث والرابع والخامس من أخبار الجنّ
أخبر الله تعالى في سورة الجنّ عن النوع الثالث والرابع والخامس من أخبار الجنّ، الموحى به، وتتضمن الاعلام بأهمية المساجد لأداء الصلاة، وبأن دعوة النّبي صلى الله عليه وسلّم دعوة خالصة إلى الله عزّ وجلّ، وترك الإشراك به، وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا نفعا، وأن لا ملجأ من الله إلا إليه، وأن مهمته مقصورة على تبليغ الوحي المنزل عليه، وأنه لا يعلم وقت تعذيب المشركين، وإنما ذلك مختص بالله تعالى، فهذا غيب، والله تعالى هو عالم الغيب الذي لا يطلع عليه إلا من ارتضى من رسول، وأن مدّعي الغيب من الجنّ والكهان وغيرهم هم كذبة، لا يعرفون حقيقة أنفسهم، وهذا يتضح في صريح الآيات الآتية:
[سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 28]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
«1»
__________
(1) أماكن السجود: أي مواضع العبادة والصلاة.(3/2754)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الجنّ: 72/ 18- 28] .
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قالت الجنّ: يا رسول الله، ائذن لنا، فنشهد معك الصلوات في مسجدك، فأنزل الله: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) .
وقوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ معطوف على قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ وهو النوع الثالث من الموحى به، على معنى: إن عبادتكم أيها الجنّ حيث كنتم مقبولة.
المعنى: لقد أوحي إلي أن المساجد مختصة بالله، فلا تعبدوا فيها غير الله أحدا، ولا تشركوا به فيها شيئا. والمساجد كما قال الحسن البصري أراد بها: كل مكان أو موضع سجد فيه، سواء كان مخصوصا لذلك أو لم يكن، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه البخاري ومسلم والنّسائي- عن جابر: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
كأنه تعالى قال: الأرض كلها مخلوقة لله تعالى، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها.
والنوع الرابع من جملة الموحى به: أنه لما قام عبد الله النّبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو الله ويعبده،
__________
(1) جماعات، جمع لبدة.
(2) لن ينفعني.
(3) ملتجأ أو حرزا.
(4) زمنا بعيدا.
(5) يقيم ويبثّ. [.....]
(6) حرّاسا وحفظة.(3/2755)
كاد الجنّ يكونون عليه جماعات متراكمين عليه من الازدحام، لسماع القرآن منه، وتعجبا مما رأوا من عبادته، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله.
قل أيها النّبي لمن تجمعوا حولك لإبطال دينك: إنما أدعو ربّي، وأعبده وحده لا شريك له، وأستجير به، وأتوكل عليه، ولا أشرك في العبادة معه أحدا.
وسبب نزول هذه الآية، كما ذكر الشوكاني-: أن كفار قريش، قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا، فنحن نجيرك.
قل أيها النبي أيضا لهؤلاء القوم: لا يدفع عني أحد من عذاب الله إن أنزله بي، ولا نصير ولا ملجأ لي من غير الله أحد، ولا يجيرني من الله ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها علي، فأبلّغ عن الله، وأعمل برسالاته، أمرا ونهيا، فإن فعلت ذلك نجوت، وإلا هلكت.
أخرج ابن جرير عن حضرمي أنه ذكر أن جنيّا من الجنّ، من أشرافهم، ذا تبع قال: إنما يريد محمد أن يجيره الله، وأنا أجيره، فأنزل الله: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ الآية.
وقوله تعالى: إِلَّا بَلاغاً قال الحسن البصري ما معناه: إنه استثناء منقطع، والمعنى: لن يجيرني من الله أحد إلا بلاغا، فإني إن بلّغت رحمني بذلك، والإجارة للبلاغ مستعارة إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته. وقال بعض النّحاة: على هذا المعنى هو استثناء متصل، والمعنى: لن أجد ملتحدا إلا بلاغا، أي شيئا أميل إليه وأعتصم به، إلا أن أبلّغ وأطيع فيجيرني الله. والتقدير كما قال قتادة: لا أملك إلا بلاغا، فأما الإيمان والكفر فلا أملكه.
وجزاء العصاة الذين لا يمتثلون موجب التبليغ عن الله تعالى: هو أنني أبلغكم(3/2756)
رسالة الله، فمن يعص بعد ذلك، فله جزاء خطير، وهو نار جهنم، ماكثين فيها أبدا على الدوام، لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها. وقوله: أَبَداً دليل أن المراد بالعصيان هنا: هو الشّرك.
ثم هدّد الله تعالى بالهزيمة والذّل المشركين الذين كانوا أقصر نظرا من الجنّ في عدم الإيمان، فإنهم إذا ظلّوا على كفرهم ورأوا ما يوعدون يوم القيامة، فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرا، أي جندا ينتصر به، وأقل عددا، أهم أم المؤمنون الموحّدون لله تعالى؟ أي بل المشركون لا ناصر لهم إطلاقا، وهم أقلّ عددا من جنود الله تعالى. ثم ذكر الله تعالى النوع الخامس من الموحى به، وهو علم الغيب لإبطال ادّعاء الجنّ والإنس العلم به: والمعنى: وقل أيها النّبي: لست أدري أقرب العذاب الذي يعدكم الله به، فما أدري أقريب وقت العذاب أم بعيد، وهل جعل الله له غاية ومدة؟ فلا يعلم موعد يوم القيامة إلا الله وحده.
قال مقاتل: لما سمع المشركون قوله تعالى: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به؟ فأنزل الله تعالى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ الآيات.
والله وحده هو العالم بالغيبيات، فلا يطلع على ما غاب عن العباد أحدا إلا من ارتضى من الرسل، فإنه تعالى يطلعهم على بعض المغيبات، ليكون معجزة لهم، ودلالة على صدق نبوّتهم. فمن ارتضى من رسول، فإنه يطلعه على غيبه بطريق الوحي، ثم يجعل بين يديه (أمامه) ومن خلفه حرسا من الملائكة وهم الرّصد، أي يبث الله تعالى حول ذلك الملك الرسول حفظة، رصدا لإبليس وحزبه من الجنّ والإنس. والرسول: هو الملك أو صاحب الشريعة السماوية، أي يشمل الرسول الملكي والبشري. والرّصد: الحفظة يحفظون كل رسول من تعرّض الجنّ والشياطين.(3/2757)
وذلك ليعلم الله علم ظهور وانكشاف واقعي أن هؤلاء الرّسل قد بلّغوا الرسالات الإلهية، كما هي، دون زيادة أو نقص، وأحاط الله تعالى علما بما عند الرصد، من الملائكة، أو بما عند الرّسل المبلّغين لرسالاته، وبما لديهم من الأحوال، فهو سبحانه عالم بكل شيء كان أو سيكون، وعالم بكل الأحكام والشرائع، وضبط كل شيء معدودا محصورا، دون مشاركة أحد من الملائكة وسائط العلم.(3/2758)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
تفسير سورة المزملّ
في بدء نزول الوحي بعد نزول سورة العلق «اقرأ» نزلت سورة المزمّل التي تعالج آثار الوحي الثقيل على قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتحمله على ملازمة عبادة الله تعالى في الليل والنهار، لتقوى روحانيته وصلته بربّه وتكتمل حالة الخشوع والإخلاص لله، وتطالبه بترتيل القرآن ليتمكن سامعوه من تدبّره وإدراك معانيه، كما تطالبه بكثرة الذكر لله لتستمر الصلة بالله تعالى الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وبالصبر في الدعوة، وتفريغ النهار للدعوة والتبليغ وجهاد المعارضين ومشاغل الحياة واكتساب الرزق،
قال ابن عباس: كان نزول المزمّل في ابتداء الوحي إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لما سمع قول الملك، ونظر إليه، أخذته الرّعدة، فأتى أهله، فقال: «زملوني زملوني» أي غطّوني.
وهذا مطلع سورة المزمّل المكّية:
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» [المزمّل: 73/ 1- 10] .
__________
(1) المتلفّف بثيابه.
(2) اقرأه بتثبت وتؤدة.
(3) شاقّا شديدا.
(4) قيام الليل بعد النوم.
(5) مواطأة وموافقة، يتوافق فيها القلب مع السمع على تفهم القرآن.
(6) أعدل قولا.
(7) عملا كثيرا سريعا.
(8) انقطع إليه انقطاعا.
(9) مفوضا إليه أمورك.
(10) الهجر الجميل: هو ما لا عتاب معه.(3/2759)
كان وقع الوحي ونظرة النّبي إلى الملك شديدين على قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم فأخذه الخوف، وطلب التزمّل بثيابه أول ما جاءه جبريل عليه السّلام بالوحي خوفا منه، ثم زال ما به، وخوطب بالنّبوة والرسالة وأنس بجبريل عليه السّلام.
فيا أيها النّبي المتزمّل المتلفّف بثيابك، صلّ صلاة الليل أو صلاة التهجد بمقدار نصف الليل، بزيادة قليلة أو نقصان قليل، لا حرج عليك في ذلك، وهذا تخيير بين الثلث والنصف والثلثين. والليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. والأمر بقيام الليل في رأي جمهور أهل العلم: هو أمر على جهة النّدب، قد كان، ولم يفرض قط.
وقال بعضهم: كان فرضا في وقت نزول هذه الآية، إما على الجميع، وإما على النّبي صلّى الله عليه وسلّم وحده حتى توفّي، وهذا هو الراجح.
ثم اقرأ القرآن على تمهّل، مع تبيين الحروف، ليكون عونا على فهم القرآن وتدبّره، وقوله: تَرْتِيلًا تأكيد في الإيجاب، وأنه لا بد للقارئ منه، ليستحضر المعاني.
والترتيل: أن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع، كما كان يفعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم. أخرج الحاكم وغيره عن البراء: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» .
إننا سنوحي إليك القرآن، وسننزله عليك، وفيه التكاليف الشاقة على البشر، والأوامر والنواهي الصعبة على النفس، من الفرائض والحدود، والحلال والحرام، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه.
إن ناشئة الليل، أي قيام الليل، وهو الذي ينشأ بعد نوم، أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص وتوافق القلب واللسان، فذلك يتجلى في هدوء الليل أكثر من أي وقت آخر، وهو أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهّمها، وأشد ثبوتا ورسوخا، وأقوم قولا وأثبت قراءة، لأنه بخلو البال من أشغال النهار يوافق قلب المرء لسانه، وفكره عبارته، فهذه مواطأة صحيحة.(3/2760)
هذا في الليل وقت العبادة، وأما في النهار: فلك في وقته تقلّب وتصرّف في حوائجك ومصالح الحياة، فلا تتفرغ فيه للعبادة، فصلّ بالليل.
ولا تنقطع عن ذكر الله في أي وقت ليلا أو نهارا، وأكثر من ذكر الله، وداوم عليه إن استطعت ليلا ونهارا، وأخلص العبادة لربّك، وانقطع إلى الله انقطاعا بالاشتغال بعبادته، والتماس ما عنده إذا فرغت من أشغالك وحوائجك الدنيوية.
وَتَبَتَّلْ معناه: انقطع من كل شيء إلا منه، وافرغ إليه.
وسبب الأمر بالعبادة وضرورة التّبتّل: أن ربّك ربّ المشرق والمغرب الذي لا إله إلا هو، وكما أفردته بالعبادة، فأفرده بالتوكّل، واجعله وكيلا لك في جميع الأمور.
والوكيل: القائم بالأمور الذي توكل إليه الأشياء.
والقيام بتبليغ الرسالة يتطلب جهدا متواصلا، وصبرا دائما، فاصبر أيها الرسول على أذى قومك، وما ينالك من السّب والاستهزاء، ولا تجزع من ذلك، ولا تتعرض لهم، ولا تعاتبهم ودارهم. وعلاج الأذى: هو الصبر. والهجر الجميل:
وهو أن تجانبهم وتداريهم، ولا تعاتبهم وفوّض أمرهم إلى الله تعالى. فالهجر الجميل: هو الذي لا عتاب معه.
أرشدت الآيات إلى فرضية التّهجد على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، خاصة به، وإلى وجوب ترتيل القرآن: وهو قراءته على مهل، وتبيين حروفه، وتحسين مخارجه، وإظهار مقاطعه، مع تدبّر المعاني. وناشئة الليل، أي العبادة في الليل أشدّ انسجاما وتوافقا بين الفكر والقلب، والعقل والنفس، وأسدّ مقالا وأثبت قراءة. والنهار لكسب العيش والحاجات الأصلية. ولا يترك ذكر الله باللسان والقلب في جميع الأوقات، والتّبتّل:
الانقطاع إلى الله بالكلية، بإخلاص العبادة، لا تعطيل أعمال الدنيا، ويطالب المؤمن بإفراد الله بالعبادة، وبالتوكل عليه دون سواه، ولا بدّ من الصبر على الأذى في سبيل نشر الدعوة إلى الله وتوحيده.(3/2761)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
وعيد المكذّبين بالرسالة
هدّد الله تعالى وأوعد المشركين على الإعراض عن قبول دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وخوّفهم عذاب يوم القيامة وكيفيته وأهواله، وعذاب الدنيا ومخاطره، وأنذرهم بإرسال رسول شاهد على أعمالهم كإرسال موسى عليه السّلام إلى فرعون، ثم وصف الله تعالى عذاب الآخرة، وأنه لشدته يشيب منه الولدان، وتتشقق السماوات منه، وأن هذه تذكرة مؤثرة وعظة بليغة، لمن شاء اتخاذ السبيل القويم إلى ربّه تعالى. وهذا ما أوضحته الآيات الآتية:
[سورة المزمل (73) : الآيات 11 الى 19]
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [المزمّل: 73/ 11- 19] .
قوله تعالى: وَذَرْنِي روي أنها نزلت في صناديد قريش، ورؤساء مكة من المستهزئين: وهذا وعيد لهم. ومعناه: دعني وأولئك المكذبين المترفين أصحاب الأموال فلا يتمكن أحد من منع العذاب عنهم، فإني أكفيك أمرهم، وأنتقم لك منهم، فلا تأبه بكونهم أرباب الغنى والسعة والتّرفّه في الدنيا، وتمهّل عليهم رويدا وزمنا طويلا. والمراد: لا تشغل أيها النّبي بالك بهم وكلهم إلي.
__________
(1) بالفتح: التّنعم وغضارة العيش وكثرة المال، وبالكسر: ما ينعم به، وبالضّم: النّعمة: المسرّة.
(2) اتركهم زمانا قليلا برفق وتأنّ.
(3) قيودا ثقيلة. [.....]
(4) نارا محرقة.
(5) يغصّ به فلا يستساغ.
(6) تلّا من رمل متجمع بتأثير الريح، ومهيلا: رخوا لينا.
(7) ثقيلا شديدا.
(8) جمع أشيب.
(9) منشق متصدّع.(3/2762)
وأنواع عذابهم أربعة: هي أن عندنا القيود والأغلال لهؤلاء المكذبين بآياتنا وبرسولنا، ونارا مؤججة مضطرمة، وطعاما لا يستساغ، ويصعب بلعه، ينشب في الحلق، فلا يخرج ولا يدخل كالزّقوم والضّريع، ونوعا آخر من العذاب المؤلم الشديد، لا يعلم به غير الله تعالى.
والأنكال: جمع نكل: وهو القيد من الحديد، ويروى أنها قيود سود من نار.
وروي أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية فصعق.
وزمان ذلك العذاب الذي يعذب به الكافرون: هو في يوم تضطرب فيه الأرض والجبال، وتتزلزل بمن عليها. والرجفة: الزلزلة الشديدة. وتصير الجبال كالكثيب المهيل، أي الرمل المتجمع السائل، الذي يسيح فيه الإنسان والحيوان، بعد ما كانت حجارة صماء، وصخورا صلبة، ثم تنسف نسفا، فلا يبقى منها شيء إلا ذهب.
والمهيل: هو الذي إذا وطئته القدم زلّ ما تحتها.
ثم هدّد الله تعالى مشركي مكة بأهوال الدنيا التي تعرضت لها الأمم المكذبة المتقدمة، وهو: إننا أرسلنا إليكم أيها المشركون في مكة وغيرها، رسولا هو محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم، وبما يصدر عنكم من إجابة وامتناع، وطاعة وعصيان، كما أرسلنا موسى عليه السّلام إلى الطاغية فرعون، يدعوه إلى دين الحق والإيمان بالله تعالى إلها واحدا لا شريك له، فعصى فرعون الرسول المرسل إليه، وكذّبه ولم يؤمن برسالته، فأخذناه أخذا شديدا ثقيلا غليظا، وعاقبناه عقابا مؤلما، وأهلكناه ومن معه بالغرق في البحر، فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم ما أصاب فرعون، حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وأنتم أولى بالهلاك والدمار، إن كذبتم رسولكم الذي هو أشرف وأعظم من موسى بن عمران عليه السّلام. وإنما عرّف كلمة (الرسول) في المرة الثانية، لأنه ينصرف إلى المعهود السابق في الذكر.(3/2763)
ثم أكّد الله تعالى تخويف المشركين بعذاب الآخرة من وجهين:
كيف تقون أنفسكم، وتنعمون بالأمان والاستقرار إن بقيتم على الكفر، من عذاب يوم يجعل الأطفال شيبا بيض الشعور، لشدة هوله، وهذا كناية عن شدة الخوف وتصير السماء متشققة به متصدعة، لشدته وعظيم هوله، وكان وعد الله بمجيء ذلك اليوم كائنا واقعا، لا محالة، ولا محيد عنه. وقوله تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ معناه: كيف تجعلون واقيا لأنفسكم، وكلمة (يوما) مفعول به لكلمة (تتقون) ويجوز أن يكون ظرفا، والمعنى: تتقون عقاب الله يوما. ويَجْعَلُ الْوِلْدانَ إما مسند إلى اسم الله تعالى، أو مسند إلى اليوم. و (الولدان) صغار الأطفال. والسَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ أي ذات انفطار وتشقق، كامرأة حائض وطالق. والانفطار: التصدع والانشقاق، على غير نظام يقصد. وضمير (به) إما عائد على اليوم، وإما عائد على الله تعالى.
وهذه الآية لها نظائر، منها: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25/ 25] . أي بالغمام الذي هو ظلل، يأتي الله تعالى فيها، والمعنى: يأتي أمره وقدرته. وكذلك مُنْفَطِرٌ بِهِ أي بأمره وسلطانه. وضمير كانَ وَعْدُهُ ظاهر أنه لله تعالى. ويحتمل أن يكون لليوم، لأنه يضاف إليه من حيث هو فيه.
إن توالي التهديدات لمشركي قريش، مع وصف ألوان العذاب، يدلّ على شدة غضب الله تعالى وسخطه على كل من كفر بالله وأشرك، وأن كل أعمال المشركين مرصودة مدونة عليهم مشهود بها من رسولهم عليها، حتى لا تكون مجالا للإنكار والجحود. وما تقدم في سورة المزمل من الآيات المخوفة موعظة بليغة، فمن أراد اتّعظ بها واتّخذ الطاعة طريقا توصله إلى رضوان الله في الجنة.(3/2764)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
تخفيف الله على عباده في قيام الليل
الإسلام كله دين يسر، وسهولة، وتخفيف، قد يفرض أو يطلب فيه شيء لظرف من الظروف في فاتحة الوحي الإلهي، ثم يرفع الفرض أو الندب مثل قيام الليل، وذلك فضل من الله ورحمة، وإحسان ونعمة، ليكون المطلوب على جهة الدوام والاستمرار موصوفا بصفة اليسر ودفع الحرج والمشقة. وآيات التخفيف متنوعة، منها ما ورد في قيام الليل الذي كان مطلوبا إما على جهة الوجوب أو على الندب، بحسب الخلاف المذكور بين العلماء:
[سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
«1» «2» «3» «4» «5» [المزمّل: 73/ 20] .
إن ظروف طروء المرض، والتجارة، والجهاد في سبيل الله اقتضت التخفيف عن النبي وأمته في شأن عبادة الليل، والله محيط علمه بكل شيء.
فإن الله تعالى يعلم أيها الرسول أنك تقوم ممتثلا أمر ربك، تاركا النوم والراحة لمدة هي أقل من ثلثي الليل أحيانا، وأحيانا تقوم نصفه أو ثلثه أو أدنى من الثلث، بحسب قدراتهم مع عذر النوم. إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الندب، بحسب الخلاف المتقدم بين العلماء، في أوائل سورة المزمّل. وتقوم معك ذلك القدر في قيام الليل طائفة من أصحابك، والله يجازيكم على ذلك أحسن الجزاء.
__________
(1) أي أقلّ منه.
(2) تطيقوه.
(3) يسر عليكم وخفف عنكم.
(4) الضرب في الأرض: هو السفر للتجارة وغيرها.
(5) يطلبون الرزق من الله بالتجارة وغيرها.(3/2765)
ويعلم الله تعالى مقادير الليل والنهار حقيقة، ويعلم القدر الذي تقومونه من الليل، مرة يكثر، ومرة يقلّ، وأما البشر فلا يحصون ذلك، ويعلم الله أنكم لن تطيقوا معرفة حقائق الزمان والقيام بالليل، ولن تتمكنوا من ضبط مقادير الليل والنهار، ولا إحصاء الساعات، فتاب الله عليكم، أي رجع بهم من الثّقل إلى الخفّة، ومن العسر إلى اليسر، وأصل التوبة: الرجوع.
قال مقاتل: لما نزلت قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) شقّ ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم، فقال الله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ. والمراد بقوله: لَنْ تُحْصُوهُ أي لن تطيقوه، لصعوبة الأمر، لا أنهم لا يقدرون عليه.
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ هذا في صلاة قيام الليل، أي صلّوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل، فالمراد بالقراءة: الصلاة، من إطلاق الجزء وإرادة الكل. وهذه الآية نسخت المطالبة بقيام الليل.
وأسباب التخفيف: هي أن الله تعالى علم بطروء أعذار ثلاثة على بني آدم تحول بينهم وبين قيام الليل: هي المرض، والسفر، والجهاد، فقد يكون منكم مرضى لا يطيقون قيام الليل، وآخرون يسافرون في الأرض للتجارة وكسب العيش والأرباح، يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم، فلا يطيقون قيام الليل. وقوم آخرون: هم المجاهدون في سبيل الله، لا يطيقون قيام الليل، فوجود هذه الأعذار المقتضية للترخيص سبب لرفع فرضية التهجد عن جميع الأمة، وكذا عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: عَلِمَ أَنْ أن مخففة من الثقيلة، أي أنه يكون. والضرب في الأرض: هو السفر للتجارة.(3/2766)
وفي هذه الآية فضيلة الضرب في الأرض للتجارة، وجعل السفر لها كالسفر للجهاد.
فصلّوا ما تيسّر، واقرؤوا في صلاتكم الليلة قبيل الفجر ما تيسّر من القرآن، والمراد بالأمر هنا الإباحة، وقد أعيد الأمر هنا لتأكيد الرخصة وتقريرها، وأدّوا الصلاة المفروضة قائمة بفروضها وأركانها وشرائطها، وملازمة الخشوع فيها، دون غفلة عنها، وأدّوا الزكاة الواجبة في الأموال، وأنفقوا في سبيل الله إنفاقا حسنا على الأهل وفي الجهاد، وعلى المحتاجين. وإقراض الله تعالى: هو استلاف العمل الصالح عنده مجازا عن القبول.
ثم أكد الله تعالى طلب الصدقة ورغّب فيها، فجميع ما تقدّمونه من الخير المذكور وغير المذكور، ثوابه حاصل لكم، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا، ومما تؤخّرونه إلى وقت الموت، أو توصون به، لإخراجه من التركة بعد موتكم.
ثم أمر الله تعالى بالاستغفار، وأوجب لنفسه صفة الغفران، لا إله غيره، فأكثروا من الاستغفار لذنوبكم وفي أموركم كلها، فإنكم قد تقترفون بعض الذنوب، والله كثير المغفرة لمن استغفره، كثير الرحمن لمن استرحمه. قال بعض العلماء: فالاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية، ومن قوله تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) [الذّاريات: 51/ 17- 18] .(3/2767)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
تفسير سورة المدّثر
إرشاد النّبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء الدعوة
كان تأهيل النّبي عليه الصّلاة والسّلام لتبليغ الدعوة أمرا مرتبطا بالوحي الإلهي، وكان يتأثر في مبدأ الوحي إليه بثقل الوحي، ويبادر إلى التّزمل (التغطي أو التلفف بثيابه) والتدثّر (بالثياب أو بقطيفة) حتى يزول عنه آثار التعرّق، مما أدى إلى أنه انقطع عنه الوحي فترة، ثم عاد إليه على شوق وحرص ومحبة إليه، وذلك من أجل سكن نفسه، وهدأة روعه.
أخرج الشيخان عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: جاورت بحرّاء شهرا، فلما قضيت جواري، نزلت، فاستنبطت الوادي، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحرّاء، فرجعت، فقلت: دثّروني، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) .
وهذه أوائل سورة المدثّر المكّية بإجماع أهل التأويل، وهي التي نزلت بعد سورة العلق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) بنص حديث البخاري المذكور، وهو الأصح:
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
«1» «2» «3» «4» «5» [المدّثّر: 74/ 1- 10] .
__________
(1) لابس الدّثار، أو المتدثّر بثيابه. والدّثار: ما يتغطّى الإنسان به من الثياب.
(2) أي طهّر قلبك ونفسك.
(3) اترك الأسباب والمآثم المؤدية إلى العذاب. [.....]
(4) لا تعط شيئا فتطلب أكثر منه.
(5) نفخ في الصّور.(3/2768)
قال جمهور المفسرين: نودي بالمدثّر، لما
ورد في البخاري من أنه صلّى الله عليه وسلّم لما فرغ من رؤية جبريل عليه السّلام على كرسي بين السماء والأرض، فرعب منه، ورجع إلى خديجة.
وهذه توجيهات أولية ضرورية ونافعة للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد بدء الوحي، تشتمل على البدء بالإنذار، وتكبير الله، وتطهير نفسه وقلبه، والتّرفع عن محقّرات الأخلاق كإعطاء القليل لأخذ الكثير، والصبر في دعوته لربّه، وتذكّر هول يوم القيامة الشديد على الكافرين.
- وأول هذه التوجيهات: بدء التبليغ تبشيرا وإنذارا، فيا أيها النّبي الذي قد تدثّر بثيابه، أي تغطى بها رعبا من رؤية الملك عند نزول الوحي أول مرة: انهض بواجب الرسالة، وخوّف أهل مكة وجميع الخلق من عذاب الله ووقائعه بالأمم، إن لم يسلموا، وهو أمر بترك العزلة، والاستعداد للاختلاط ونشر الدعوة.
- وعظّم الله وصفه بالكبرياء، في عبادتك وكلامك وجميع أحوالك، فإنه أكبر من أن يكون له شريك، فالشّرك كفر وضلال، وسبب لغضب الرحمن، وتوحيد الله تعالى أساس دعوتك.
- وطهّر قلبك ونفسك من أدران المعصية، وثيابك واحفظها من النجاسات، لأن الإسلام دين الطّهر والنظافة، والصحة والنقاء، وهو دين الطهارتين: المعنوية الروحانية، والحسّية الجسدية. والآية دليل على تعظيم الله تعالى، وتنزيهه عما يقول عبدة الأوثان، وعلى نظافة الجسد والثياب، وتحسين الأخلاق، واجتناب المعاصي.
- واترك تركا أبديا الرّجز، أي الأصنام والأوثان، فلا تعبدها، فإنها سبب العذاب، واهجر جميع الأسباب والمعاصي المؤدية إلى العذاب الدنيوي والأخروي.
والآية دليل على وجوب الاحتراز من كبائر المعاصي كالشّرك أو الوثنية، بل وعن جميع المعاصي.(3/2769)
والنّهي عن جميع ذلك، لأنه القدوة الحسنة العليا، ولا يعني أنه يرتكب شيئا منها، وإنما يراد به تدوين مبدأ إسلامي عام هو هجر الوثنية، والدوام على الهجران.
ولا تمنن على أصحابك وغيرهم بتبليغ الوحي، مستكثرا ذلك عليهم، وإذا أعطيت أحدا شيئا من الأعطيات، فأعطها لوجه الله تعالى، ولا تمنّ بعطيتك على الناس، ولا تعط عطاء لتعطى أكثر منه. وقال مجاهد: المعنى لا تضعف من الاستكثار من الخير، أو مما حمّلناك من أعباء الرسالة.
- واجعل صبرك على أذاهم لوجه ربّك عزّ وجلّ وطلب رضاه، فإنك حملت أمرا عظيما، ستحاربك العرب والعجم عليه، فاصبر على هذا الأمر لوجه الله، واصبر أيضا على طاعة الله وعبادته.
- اصبر على أذى قومك وغيرهم من الكفار، وعلى العبادة، وعن الشهوات، وعلى تكاليف النّبوة، فعاقبة الصبر منك النصر والفرج، وأمام الكفار يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية للبعث من القبور، فوقت النقر يومئذ يوم شديد جدّا على الكفار، غير سهل عليهم. والناقور: الذي ينفخ فيه، وهو الصّور. ويوم عسير: فيه عسر في الأمور الجارية على الكفار، فوصف الله تعالى اليوم بالعسر، لكونه ظرف زمان له، وكذلك تجيء صفته باليسر.
أخرج ابن أبي حاتم، وابن أبي شيبة وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف أنعم، وصاحب القرن، قد التقم القرن، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر، فينفخ؟ فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله، ونعم الوكيل، على الله توكّلنا» .
لقد جمعت هذه الآيات على وجازتها أمهات الفضائل، حيث جمعت بين أوامر العقيدة وتعظيم الله، وأوامر الدعوة وتبليغها، وأوامر العبادة والطاعة لله تعالى(3/2770)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
ومتطلباتها من طهارة القلب والنفس والثياب، ومثلها البدن والمكان من باب أولى، واجتناب الأوثان، وتحرير العقل من الشّرك، والتّخلق بالأخلاق الاجتماعية والعادات الإنسانية كترك إعطاء القليل وابتغاء الكثير، وتقويم النفس بكريم الخلق، وإصلاح البدن بهجر المآثم والمحارم. وهذه الأوامر لا تعني أن النّبي يفعل شيئا منها، وإنما هو من قبيل الاستمرار والمداومة على ما هو عليه من عبادة الله الواحد الأحد، والتّحلي بالأخلاق الكريمة، وهجر كل ما يغضب الله تعالى.
وعيد زعماء الشّرك
في بدء الدعوة هدّد الله تعالى الوليد بن المغيرة وأمثاله من زعماء الشّرك، وآنس نبيّه بقوله في سورة المدّثّر: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وقوله في سورة المزمّل:
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) ، ثم عدّد سبحانه وتعالى نعمه الوفيرة على الوليد من المال والولد والجاه والرياسة، وكفره بها، ووعيده بنار جهنم لوصفه القرآن الكريم بأنه سحر، بل ومحاولة تحدّيه بمقاومة الملائكة، زبانية جهنم التسعة عشر. ويتبين ذلك في الآيات الآتية:
[سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 31]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9»
__________
(1) اتركني أي أنا أكفي عقابه وشأنه كله.
(2) موسعا كثيرا.
(3) حضورا.
(4) بسطت له الدنيا بسطا.
(5) كلمة ردع وزجر.
(6) معاندا لها ومكابرا.
(7) تأمّل في القرآن وهيّأ الأمر في نفسه.
(8) قطّب جبهته، واشتدّ عبوسه، حتى تغيّر وجهه.
(9) يروى ويتعلم.(3/2771)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [المدّثّر: 74/ 11- 31] .
أخرج الحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.. أن الوليد ابن المغيرة جاء إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك ما لا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا، لتتعرض لما قبله، قال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، فقال: وماذا أقول؟ فو الله، ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني أفكر فيه، فقال: «هذا سحر يؤثر» يأثره عن غيره، فنزلت: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)
والمعنى: دعني أنا، والذي خلقته حال كونه وحيدا في بطن أمه، لا مال له ولا ولد، أو دعني وحدي معه لا يشركني فيه أحد، فإني أكفيك في الانتقام منه. عرفنا أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، الذي كان يلقب بالوحيد، لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته. فذكر الوحيد في الآية في جملة النّعم التي أعطيها،
__________
(1) سأدخله نار جهنم.
(2) تلوح وتظهر لأنظار الناس.
(3) ابتلاء واختبارا. [.....]
(4) ولا يشكّ.
(5) شكّ ونفاق.
(6) المثل: هو القول السائر على ألسن الناس.
(7) أنصاره وأعوانه.
(8) موعظة وعبرة.(3/2772)
ولكن لم يثبت هذا. ومعنى قوله: خَلَقْتُ وَحِيداً معناه: منفردا ذليلا، فجعلت له المال والبنين.
وجعلت له مالا واسعا كثيرا، وبنين حضورا معه بمكة، لا يفارقونها ولا يسافرون بالتجارات في البلاد لطلب الرزق، لكثرة مال أبيهم، وبسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش، ومع كل هذا يطمع في زيادة المال والولد وغير ذلك، مما يدعو إلى التعجب. وهذا إنكار عليه، لشدة حرصه على الدنيا. فرد الله عليه: كلا: كلمة ردع وزجر، لا أزيده، إنه كان لآيات القرآن معاندا لها، كافرا بها، بعد العلم بصدقها. سأكلفه وأحمله مشقة من العذاب.
وسَأُرْهِقُهُ: أكلفه بمشقة وعسر، وصَعُوداً عقبة في نار جهنم.
إنه فكّر في شأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفي القرآن العظيم، وهيّأ من الكلام في نفسه ما يقول، وتروى فيما يصف به القرآن حين سئل عنه، فلعن وعذّب، على أي حال قدر ما قدر من الكلام. وهذا كله تعجب واستعظام من موقفه، واستحقاقه مضاعفة العذاب، ثم أعاد النظر والتّروي والتأمّل في الطعن بالقرآن، ثم قطّب وجهه، لما لم يجد مطعنا يطعن به القرآن، وتغيّر وجهه، ثم أعرض عن الإيمان، وتكبّر عن الانقياد للقرآن، فقال: ما هذا إلا سحر ينقل ويحكى، هو قول (كلام) البشر، أي ليس منزلا من عند الله تعالى. وقوله: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) دعاء عليه على معنى تقبيح حاله. و (قتل) بمعنى لعنه أو عاداه، أو هو بمعنى التعجب من الشيء.
سأدخله النار، وسأغمره فيها من جميع جهاته، وسقر: من أسماء النار، ثم أي شيء أعلمك ما سقر؟ لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا، فلا تتركهم، بل تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبدا. وهي أي جهنم تلوح للناس حتى يرونها عيانا، وعليها زبانية أشداء، من الملائكة عددهم(3/2773)
تسعة عشر شخصا،
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وابن مردويه عن البراء: أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن خزنة جهنم، فجاء، فأخبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل عليه ساعتئذ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) .
ولم نجعل خزنة النار وزبانيتها القائمين بالتعذيب إلا ملائكة غلاظا شدادا، ولم نجعلهم رجالا تمكن مغالبتهم، ولم نجعل عددهم تسعة عشر إلا اختبارا منّا للناس، وسبب محنة وإضلال للكافرين، حتى قالوا ما قالوا، ليتضاعف عذابهم، وقوله:
فِتْنَةً أي سبب فتنة للكفار، وفتنتهم: كونهم أظهروا مقاومتهم، والطمع في مغالبتهم، وذلك على سبيل الاستهزاء، فإنهم مكذّبون بالبعث وبالنار وبخزنتها.
وجعل الله هذا العدد ليتيقن أهل الكتاب (وهم اليهود والنصارى) أن الرسول حق، فإنه جاء ناطقا بما يطابق كتبهم السماوية السابقة، فإن فيها أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر، ولكي يزداد إيمان المؤمنين، ولا يشك أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمؤمنون بالله تعالى ورسوله، في صحة وحقيقة هذا العدد وفي دين الله، وليقول المنافقون الذين في قلوبهم شكّ وريب، في صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعهم الكافرون من أهل مكة وغيرهم: أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل، وما الحكمة في ذكر هذا العدد هنا؟ مثل ذلك المذكور من الإضلال والهداية، يضلّ الله من يريد، بخذلانه عن إصابة الحق، لسوء استعداده، ويهدي إلى الحق والإيمان من يريد، بتوفيقه إلى الصواب، وليس في ذلك إجبار على الضلالة والهدى، لمنافاته للعدل الإلهي. وما يعلم أنصار الله وأعوانه إلا الله وحده، وما سقر وصفتها إلا تذكرة وعظة للناس، ليعلموا كمال قدرة الله.
روي أن الحارث بن كلدة الجمحي قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي لم نجعلهم رجالا تستطيعون مغالبتهم.(3/2774)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32)
التّحذير من إنكار جهنم ووصف أهلها
ردّ الله تعالى على الكافرين الذين لا يؤمنون بالبعث، وعلى أنواع الطاعنين على الحقّ وأحوال أهل النار، فإن الجنة حق والنار حق، وكل إنسان مسئول عن نفسه لا عن غيره، ويتساءل أصحاب اليمين في الجنة عن سبب دخول المجرمين النار، فيذكر لهم السبب من الآن في الدنيا: وهو إعراضهم عن الإيمان وعن أداء الفرائض وعن إطعام المساكين، وإعراضهم ناشئ من التكبّر والأنفة، وتظل جهنم إنذارا كافيا لمن أراد التقدم إلى الخير والطاعة، وهذا ما أوضحته الآيات الآتية:
[سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 56]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» [المدّثّر: 74/ 32- 56] .
قوله: كَلَّا ردّ على الكافرين والطاعنين على الدين الحق، ومفاد الرّد: أني أوجه تحذيرا رادعا لكم أيها الناس، فلا سبيل لإنكار وجود النار في الآخرة، وأقسم بالقمر، وبالليل إذا مضى وولّى ذاهبا، وبالصّبح إذا ظهر وأضاء قبل طلوع الشمس
__________
(1) ولى وانصرم.
(2) أضاء وظهر.
(3) لإحدى الدّواهي الكبار.
(4) وثيقة لشيء آخر.
(5) ما أدخلكم في النار؟
(6) نكذب مع المكذبين.
(7) يوم الجزاء.
(8) الموت.
(9) حمير نافرة من نفسها. [.....]
(10) من أسد.
(11) صحف مبسوطة منتشرة.(3/2775)
بكثير، إن سقر (وهي جهنم) لإحدى الدّواهي العظام، لإنذار البشر وتخويفهم من عقاب الله تعالى على العصيان.
- وإن جهنم إنذار واضح لمن أراد أن يتقدم إلى الخير والطاعة، أو إلى الجنة بالإيمان، أو يتأخّر عن ذلك إلى الشّرّ والمعصية أو إلى النار، لإنذار البشر من عقاب الله على العصيان. قال ابن عباس: هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخّر عن الطاعة وكذّب محمدا صلّى الله عليه وسلّم، عوقب عقابا لا ينقطع. وقال الحسن البصري: لا نذير أدهى من النار.
ليس لكل امرئ إلا جزاء عمله، فكل نفس مأخوذة بعملها، مرتهنة به، فإن كان العمل خيرا خلّصها وأعتقها من العذاب، وإن كان شرّا أوبقها في النار، أي إن المقصّر مرتهن بسوء عمله.
لكن أصحاب اليمين (والاستثناء هنا منفصل أو منقطع) لأنهم لم يكتسبوا ما هم به مرتهنون. وهم في جنات يتنعمون، يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين في النار، ما الذي أدخلكم في جهنم؟ والمقصود من السؤال: زيادة التوبيخ والتخجيل.
فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة: لم نكن في الدنيا نؤدي الصلاة المفروضة، ولم نحسن إلى أحد، فلم نطعم الفقير المحتاج ما يجب إعطاؤه، وكنا نخالط أهل الباطل في باطلهم، أي كلما غوى غاو غووا معه، وكنا نكذب بيوم الجزاء أي القيامة، حتى أتانا الموت. والتكذيب بيوم القيامة كفر صراح بالله تعالى. فهذه أسباب أربعة لازمتنا طوال حياتنا الدنيوية: ترك الصلاة، والزكاة، والخوض في باطل الكلام أو الغواية، وإنكار البعث والحساب والجزاء. وكون الأمرين الأولين سبب النار دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
فمن كان متّصفا بمثل هذه الصفات، فلا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه، من ملائكة وأنبياء وصالحين، لأن مصيرهم إلى النار حتما.(3/2776)
ما الذي حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو التذكرة والموعظة؟
كأنهم في نفورهم عن الحق وإعراضهم عنه، من حمر الوحش إذا فرّت من رماة يرمونها، أو من أسد يريد افتراسها. وجمهور اللغويين على أن القسورة: الأسد.
وقيل: الرجال الأشداء.
أخرج البخاري ومسلم وأحمد حديث الشفاعة، وهو طويل، وفيه: «تشفع الملائكة، ثم النّبيون، ثم العلماء، ثم الشهداء، ثم الصالحون، فيشفّعون، ثم يقول الله تعالى: شفع عبادي، وبقيت شفاعة أرحم الرّاحمين، فلا يبقى في النار من له إيمان» .
ومن صور عناد الكافرين: ما وصف الله تعالى: بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب، كما أنزل على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فهم قد بلغوا من العناد حدّا تجاوزوا به أقدارهم. كلا (كلمة زجر وردع لهم) على اقتراحهم إنزال تلك الصحف المفتوحة المبسوطة، فلا يؤتونها، وهم في الحقيقة منكرون للبعث والحساب، لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات.
وكفاهم القرآن كتابا، حقّا إن القرآن تذكرة كافية لهم، فإنه خير تذكرة وموعظة، فمن أراد أن يذكره ويتّعظ به، اتّعظ واعتبر.
ولا يقع شيء في هذا الكون قهرا عن الله، لأنه المالك وصاحب السلطان، فما يذكرون القرآن ويتّعظون به إلا بمشيئة الله تعالى، الجدير بالتقوى، أي بأن يتّقيه ويخاف منه المتّقون، بترك معاصيه، والعمل بطاعاته. وهو أيضا الجدير بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، وبأن يقبل توبة التائبين من العصاة.
أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والنّسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم فسّر هذه الآية، فقال: «يقول لكم ربّكم جلّت قدرته وعظمته: أنا أهل أن أتّقى، فلا يجعل معي إله غيري، ومن اتّقى أن يجعل معي إلها غيري، فأنا أغفر له» .(3/2777)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
تفسير سورة القيامة
إثبات القيامة وما يحدث فيها
أنكر المشركون ثلاثة أمور: وحدانية الله، والنّبوة، والقيامة، فكان القرآن الكريم معنيّا في مناقشاته وردوده بهذه الأمور، لإثباتها، وبما أن القيامة أمر غيبي، لا مجال لإثباته إلا بالخبر الصادق، ومن أصدق من الله حديثا؟ فإنه سبحانه أخبر عن وجوب الإيمان بالغيب، ومنه يوم القيامة، وأقسم قسما شديد التأكيد على أنه يوم واقع، وفي مطلع سورة القيامة المكّية بالإجماع قسم من الله على وقوع القيامة وما فيها من أهوال:
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» [القيامة: 75/ 1- 15] .
أقسم أنا الله بيوم القيامة، و (لا) إما استفتاح كلام، أو صلة زائدة، وأقسم
__________
(1) التي تلوم نفسها أو غيرها.
(2) أطراف الأصابع.
(3) ليذنب بقية حياته.
(4) زاغ وتحيّر من الدهشة.
(5) ذهب نوره.
(6) ذهب ضوؤهما يوم القيامة.
(7) الفرار.
(8) لا ملجأ.
(9) الاستقرار والسكون.
(10) شاهد.
(11) أعذاره.(3/2778)
بالنفس اللوامة صاحبها أو غيرها على تقصيره في ترك الطاعة ونحوه، أنكم سوف تبعثون وتحاسبون يوم القيامة.
وجواب القسم محذوف، لدلالة ما بعده عليه. والقسم بالشيء إشارة لتعظيمه وتفخيمه. والنفس في الآية: اسم جنس لنفوس البشر.
وكل نفس متوسطة ليست بالمطمئنة ولا بالأمارة بالسوء، فإنها لوّامة، مرة تلوم على ترك الطاعة، ومرة تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنت خلصت وصفت.
أيظن الإنسان (الكافر) ألا بعث وألا نجمع عظامه؟! وهذا تقرير وتوبيخ. وهذه الظنون أو الأقوال كانت لكفار قريش. بلى: (وهي إيجاب ما نفي) أي بلى نجمعها قادرين على جمعه وإعادة تركيب عظامه وأعضائه، وتسوية بنانه، أي أطراف أصابعه.
أي إن العظام والأعضاء تجمع ويسوّى أكثرها تفرقا، وأدقها أجزاء، وهي عظام الأنامل والمفاصل، وهذا كله عند البعث والنشور من القبور.
ويسأل الإنسان الكافر وغيره سؤال استبعاد وإنكار واستهزاء وتعنّت متى يوم القيامة؟ ومن لم يؤمن بالبعث ارتكب أعظم الآثام، وبادر إلى انتهاب اللذات غير عابئ بما يفعل. والإنسان: اسم جنس، وهو ابن آدم. بل (وهو إضراب عما سبق لتقرير أمر آخر) يريد الإنسان في الواقع تغليب شهواته، ومداومة فجوره أي فسقه أو كفره، بتكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي القيامة.
وعلامات القيامة ثلاث هي: إذا دهش البصر وتحيّر من شدة أهوال القيامة، وذهب ضوء القمر كله دون أن يعود، كما يعود بعد الخسوف في الدنيا، وتبدد أو زال ضوء الشمس والقمر جميعا، فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار، أي إن معالم الكون تتغير كلها.(3/2779)
كلا (كلمة ردع وزجر) لا ملجأ ولا معتصم من الله يعصمكم يومئذ، وإنما إلى الله ربكم المرجع والمصير، في الجنة أو في النار.
وفي ذلك اليوم يوم القيامة، يخبر الإنسان أثناء العرض والحساب بجميع أعماله التي قدمها من خير أو شرّ، قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها.
والإنسان عالم بنفسه، لذا قال الله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ..
أي بل (وهو يفيد الإضراب بمعنى الترك، لا بمعنى إبطال القول الأول) إن الإنسان بعقله وفطرته حجة، وشاهد مبصر على نفسه، عالم بما فعله، فهو حجة كافية بينة على أعماله، ولو اعتذر وأنكر، وحاول تقديم المعاذير أي الأعذار، أي ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه. قال مجاهد: معاذيره: حجته، وقال ابن كثير: والصحيح قول مجاهد وأصحابه، كقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) [الأنعام: 6/ 23] . وكقوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) [المجادلة: 58/ 18] .
إن هذه الآيات التي يراد بها إثبات يوم القيامة تدلّ على عظمة الله وقدرته الخارقة، فهو سبحانه قادر على جمع عظام الإنسان المفتتة في أي مكان، وأعضائه المشتتة في أي موضع، وهذا في حدود العقل البشري مستبعد، لكن في مجال علم الله تعالى وقدرته أمر سهل يسير، غير مستبعد، بل هو واقع حتما.
والمفاجأة بالحقائق أمر صعب على النفوس، فيفاجأ المرء بتاريخه الطويل الذي سجّله في الدنيا، وتكون الكارثة أو النجاة، فإما إلى نار دائمة الاشتعال والتعذيب للكافرين، وإما إلى جنة دائمة النعيم والفضل الإلهي.
ولا مجال للمكابرة أو الاعتذار عن شيء فعله الإنسان، فلا يقبل العذر مهما(3/2780)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)
كان، ويصطدم الشخص بواقعه الذي هو أعلم به، وهو خير شاهد وحجة على نفسه، حتى ولو أنكر أو اعتذر.
وأي سبيل للإنكار؟ وأعمال الإنسان مدوّنة عليه بوساطة ملك اليمين وملك الشمال، لأن الكتابة لا سبيل لمحوها أو إنكارها، والله أعلم بكل شيء صغير أو كبير، من كل مكتوب أو مقروء أو مقالة.
حفظ القرآن وحال الناس في الدنيا والآخرة
إنزال القرآن الكريم بالوحي على قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم شيء عظيم لا يعادله شيء في الدنيا، لذا حرص النّبي على تلقّي الوحي وعلى حفظه ومتابعته، وكان يردّده في مبدأ الأمر أثناء التّلقي، فأرشده الله تعالى إلى ضرورة الإصغاء له أولا، ثم يكون التثبيت والحفظ في القلب من فعل الله تعالى. أما منكر القيامة والبعث فهو معرض عن آيات الله تعالى ومعجزاته، وسبب إنكاره البعث: هو حبّ الدنيا، وترك العمل للآخرة.
والناس في الآخرة فريقان: فريق المؤمنين وفريق المشركين الذين يترقبون نزول دواهي العذاب بهم، وهذا ما عبّرت عنه الآيات الآتية:
[سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 25]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
«1» «2» «3» «4» «5» [القيامة:
75/ 16- 25] .
أخرج البخاري ومسلم وأحمد، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا
__________
(1) قراءته. [.....]
(2) الدنيا وما فيها.
(3) حسنة جميلة مشرقة.
(4) عابسة بشدة.
(5) داهية عظيمة.(3/2781)
أنزل الوحي، يحرّك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) الآية.
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حرصا منه على القرآن الموحى به إليه، يبادر إلى حفظه وترداده، ويسابق الملك في قراءته، ويحرّك شفتيه ولسانه بالقرآن، إذا أنزل عليه، قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي، فنزلت هذه الآية.
ومعناها: لا تحرّك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي، لتأخذه على عجل، مخافة أن يتفلت منك، كما جاء في آية أخرى: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 20/ 114] .
إن علينا جمعه في صدرك، حتى لا يذهب عليك منه شيء، وعلينا إثبات قراءته في لسانك على الوجه القويم. فإذا أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السّلام، فاستمع له وأنصت، ثم اقرأه كما أقرأك، وكرره حتى يرسخ في ذهنك. والقرآن: مصدر كالقراءة.
ثم إننا بعد حفظه وتلاوته، نفسّر لك ما فيه من الحلال والحرام، ونبيّن أو نوضّح لك ما أشكل منه، ونلهمك معناه كما أردناه وشرعنا، أي علينا تبيينه وتحفيظه لك.
إن هذه الآيات الأربع اشتملت على أحوال ثلاث: هي جمعه في صدره وحفظه، في الآيتين الأولى والثانية، وتلاوته وتيسير أدائه كما أنزل، في الآية الثالثة، وتفسيره وبيانه في الآية الرابعة. ثم أوضح القرآن الكريم حال منكر البعث، فوبّخه وقرّعه على إنكار البعث، وبيّن له سبب الإنكار، وهو:
كلا (كلمة ردع وزجر) أي أردعكم عما تقولون أيها المشركون من إنكار البعث، فإن الذي يحملكم على التكذيب بيوم القيامة، ومخالفة ما أنزله الله تعالى على رسوله، من الوحي الحق والقرآن العظيم، وسبب إنكاركم، هو محبّتكم دار الدنيا العاجلة، وتشاغلكم عن الآخرة، وترك العمل لها. وهذه الآية كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ(3/2782)
رجوع إلى مخاطبة قريش، في ردّهم الشريعة، أي ليس ذلك كما تقولون، وإنما أنتم قوم غلبتكم الدنيا بشهواتها، فأنتم تحبّونها حبّا تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها.
ولما ذكر الله تعالى الآخرة، أخبر بشيء من حال أهلها.
وجوه المؤمنين في الجنة حسنة بهية، مشرقة مسرورة، ترى ربّها عيانا، ووجود الفجّار الكفّار في النار عابسة كالحة كئيبة، توقن أن سينزل بها داهية عظيمة، تكسر فقار الظهر. وجمهور العلماء على جواز رؤية الله تعالى في الآخرة، من غير تحديد بمكان معين.
جاء في الصحيحين عن جرير، قال: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى القمر ليلة البدر، فقال: «إنكم ترون ربّكم، كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، ولا قبل غروبها، فافعلوا» .
وللآية نظائر منها: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) [عبس: 80/ 38- 42] .
لقد تكفّل الله لنبيّه ثلاثة أمور لحفظ القرآن: وهي جمعه في صدره عليه الصّلاة والسّلام، وتلاوته، وتفسيره لبيان ما فيه من الحدود والحلال والحرام، والوعد والوعيد، والمشكلات.
وسبب إنكار المشركين البعث والجزاء: هو إيثار الدنيا والتّمتع بنعيمها، وترك العمل والاستعداد للآخرة، وهذا سوء اختيار، لأن نعيم الدنيا زائل، ونعيم الآخرة باق دائم.
ورؤية أهل الإيمان ربّهم في جنان الخلد، وحرمان الفجّار (الكفّار والعصاة) منها أمر ثابت مقرر لا شك فيه بدلالات الكتاب والسّنة، جاء في حديث مسلم عن صهيب: أن رؤية الله عزّ وجلّ هي الزيادة في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 10/ 26] .(3/2783)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)
وتكون وجوه الكفّار الفجّار في الآخرة كالحة كاسفة عابسة، مستيقنة أنه سيحلّ بها عذاب شديد، وداهية عظيمة.
التّفريط وعاقبته
الناس فريقان: إما عصاة أشرار، وإما طائعون أبرار، وقد أنذر الله تعالى جميع الناس قبل أن يفجأهم الموت، وتطوى صحائف الأعمال، فيبادروا إلى الإيمان بالله والعمل الصالح، وبعد الموت الذي يستوي فيه الكل، يأتي البعث حتما في وقت لا بد منه، من أجل أمرين: ألا وهما إقامة العدل المطلق بين الخلائق، بالجزاء على الأعمال، حتى لا يتساوى المطيع والعاصي، وبيان إنجاز وعد الله تعالى وممارسة قدرته، فكما أن الله تعالى قادر على بدء الخلق، فهو قادر على الإعادة والبعث، بل إن الإعادة أهون في منطق البشر. قال الله تعالى زاجرا ومنذرا من ملاقاة أهوال القيامة:
[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [القيامة: 75/ 26- 40] .
__________
(1) لكل إنسان ترقوتان يمينا وشمالا من الحلق إلى العاتق.
(2) الذي يتخذ الرقية علاجا.
(3) مثل لاشتداد الحال.
(4) يتبختر في مشيته.
(5) أسلوب للتهديد، أي ويل لك، أو أولى لك الهلاك.
(6) مهملا بلا عناية.
(7) ماء قليل يصب في الرحم.
(8) قطعة دم عالقة في جدار الرحم.
(9) أحكم خلقها، وعدلها بتقدير محكم.(3/2784)
زجر الله تعالى قريشا وأمثالها بأنهم متعرّضون لموطن من مواطن الهول، وأمر من الله تعالى لا محيد لبشر عنه، وهو حالة الموت والمنازعة التي كتبها على كل حيوان.
ومضمون الزجر: لا تستطيع أيها الإنسان التكذيب بما أخبرت به، حين تجد الحقيقة عيانا أمامك، وهي مفارقة الحياة وتجرّع كأس الموت. فإذا بلغت روحك تراقيك الموازية للحلاقيم، وهي جمع ترقوة، وهي العظام التي بين ثغرة النّحر والعاتق، ولكل أحد ترقوتان، والأفراد في الكثيرين جمع، فالأمر كله كناية عن حال الحشرجة ونزاع الروح. يسّره الله تعالى علينا.
وقيل حينئذ: من الطّبيب المعالج الذي يرقي المحتضر ويشفيه، وأيقن هذا الشخص الذي بلغت روحه التراقي أنها ساعة الفراق من الدنيا والأهل، لنذكر جميعا هذه الحالة. والمعنى العام: ارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، وتنبّهوا إذا بلغت الحلقوم أو أعالي الصدر، كناية عن الاحتضار وأهواله، والموت وشدائده.
وفي حالة الاحتضار التفّت ساق الإنسان على ساقه عند نزول الموت به، فلا يقدر على تحريكها، أي ماتت رجلاه، ويبست ساقاه ولم تحملاه، واجتمع عليه أمران:
الناس يجهّزون جسده، والملائكة يجهّزون روحه.
وتساق الأرواح بعد قبضها من الأجساد إلى خالقها، ويكون المرجع والمآب إلى حكم ربّك، فإما إلى جنّة عرضها السماوات والأرض، وإما إلى نار حامية دائمة الإحراق.
وعمل هذا المحتضر المعذب بموته: هو أنه في الدنيا لم يصدق بالرسالة النّبوية ولا بالقرآن، ولا صلّى لربّه الصلاة المطلوبة منه فرضا، بل كذّب بالرسول وبما جاء به، وتولّى عن الطاعة والإيمان، وزاد على ذلك أنه ذهب إلى أهله بطرا أشرا، يتبختر ويختال في مشيته، افتخارا بتقصيره. لقد جمع بين إهمال العقيدة الصائبة، وبين إهمال(3/2785)
الفرائض، وبين سوء الخلق بالتكبّر والتجبّر والتطاول. وهذا دليل واضح على أن الكافر يستحقّ العقاب بترك الصلاة والزكاة، كما يستحقه بترك الإيمان الذي هو أساس صحة الصلاة.
وهذا العقاب جدير به هذا الجاحد، كما قال تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) أي ويل لك ثم ويل، أولى لك الهلاك، وهو وعيد ثان، ثم كرر ذلك تأكيدا، والمراد:
أولى لك الازدجار والانتهاء، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجرا. ومنه قوله تعالى:
فَأَوْلى لَهُمْ، طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [محمد: 47/ 20- 21] .
أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) وعيد على وعيد، زعم أن هذا أنزل في عدو الله أبي جهل، ذكر لنا
أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ بمجامع ثيابه، فقال: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) فقال عدو الله أبو جهل: أيوعدني محمد؟ والله ما تستطيع لي أنت ولا ربّك شيئا، والله لأنا أعزّ من مشى بين جبليها.
وأخرجه النّسائي عن ابن عباس عن قوله: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) أشيء قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قبل نفسه أم أمره الله به؟ قال: بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله.
ثم استدلّ الله تعالى على البعث بدليلين:
الأول- أيظنّ الإنسان أن يترك في الدنيا مهملا، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف، ولا يحاسب ولا يعاقب بعمله في الآخرة؟ وهذا خلاف مقتضى العدل والحكمة.
الثاني- أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من مني يراق في الرّحم، ثم صار بعد ذلك علقة، أي قطعة دم عالقة، ثم مضغة، أي قطعة لحم، ثم شكّل ونفخ فيه الروح، فصار خلقا سويّا سليم الأعضاء، ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره؟ أليس الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه بقادر على أن يعيد خلق الأجسام من جديد بالبعث،(3/2786)
كما كانت عليه في الدنيا، بلى، فإن الإعادة أهون من الابتداء. وقوله: أَلَيْسَ ذلِكَ توبيخ وإقامة حجة.
وقوله تعالى: فَخَلَقَ فَسَوَّى خلق: قدّر بقدر محكم بأن جعلها مضغة مخلّقة.
وفَسَوَّى عدل أركانه وأحكم أمره، وأكمل نشأته، وجعل من المني بعد تخليقه صنفي الإنسان: الرجل والمرأة. وهذا استدلال بالخلق الأول على الإعادة، فإن الخالق الأول هو الخالق الآخر، والأمران سواء عليه.(3/2787)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
تفسير سورة الدّهر
خلق الإنسان ومصيره
من أعاجيب الخلق الإلهي: خلق الكون من السماء والأرض، وخلق الإنسان بعد العدم، ثم تكاثر النوع الإنساني، وتكليف الإنسان بالتكاليف الرّبانيّة المسماة بالأمانة، ثم يمرّ في أطوار الحياة بعد الولادة، وتبدأ مرحلة البلوغ والخطاب الإلهي له، ليكون موضع اختبار في مدى الحياة أو العمر، ويكون في أعقاب الامتحان إما كافرا جاحدا، وإما مؤمنا شاكرا. ولكلّ جزاؤه، فللكافرين السعير والسلاسل والأغلال، وللمؤمنين الأبرار جنان الخلد والنعيم بسبب ما قدموا من صالح الأعمال، وهذا صريح الآيات الآتية في مطلع سورة الدّهر أو الإنسان المكّية في رأي بعضهم، والأصح أنها مدنيّة:
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» «13»
__________
(1) جزء محدود من الزمان. [.....]
(2) زمان ممتد غير محدود.
(3) قليل من الماء.
(4) أخلاط.
(5) نختبره.
(6) بيّنا له طريق الخير والشّر وأرشدناه.
(7) هيّأنا.
(8) قيودا في الأرجل.
(9) أطواق في الأيدي.
(10) الذين هم أهل الصدق والطاعة والإخلاص.
(11) إناء الخمر.
(12) ما تمزج به.
(13) طيب معروف له رائحة جميلة.(3/2788)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الإنسان: 76/ 1- 12] .
هل: في كلام العرب قد تجيء بمعنى قد، مع التقرير، وقال أكثر المتأوّلين: (هل) تقرير. أي لقد أتى على جنس الإنسان فترة من الزمان، كان فيه منسيا غير موجود ولا مخلوق، ولا مذكور لأحد من الخليقة المتقدمين عليه: وهم الملائكة والجنّ. وهذا إخبار عن فترة ما قبل خلق الإنسان، حيث كان معدوما لا يذكر. أي إذا تأمل كل إنسان نفسه، علم بأنه قد مرّ حين من الدّهر عظيم، لم يكن هو فيه شيئا مذكورا، أي لم يكن موجودا.
ثم أخبر الله تعالى عن بدء تكاثر الخلق، إننا نحن الخالق أوجدنا ابن آدم من ماء قليل من المني، مختلط بين ماءي الرجل والمرأة، من أجل اختباره، بالخير والشّر، وبالتكاليف الشرعية، بعد البلوغ، وزودناه بطاقات الفهم والوعي والإدراك وهي السمع والبصر، ليتمكن من حمل رسالة التكليف واجتياز مرحلة الاختبار.
ودللنا الإنسان وأرشدناه، وبيّنا له طريقي الخير والشّر، والهدى والضّلال، ويكون حاله إما مؤمنا شاكرا لأنعم الله، مهتديا بهديه، وإما كافرا جاحدا للنعمة معرضا عن الطاعة، متنكّرا للهدي الإلهي. وهذا مثل قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) [البلد: 90/ 10] . أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشّر، فهو باختياره بعدئذ إما شقي أو سعيد.
__________
(1) تنبع بحسب أمرهم.
(2) منتشرا فاشيا في كل مكان. [.....]
(3) المسكين: المحتاج، واليتيم: من لا أب له، والأسير: المأسور في أيدي الأعداء.
(4) العبوس: شديد الهول، والقمطرير: الشديد الظلمة.
(5) أعطاهم.
(6) حسنا وفرحا.(3/2789)
وجزاء الفريقين بداهة مختلف في قانون العدل الدنيوي والإلهي. لقد هيّأنا وأعددنا لكل كافر بالله وبنعمه، سلاسل في أرجلهم يقادون بها إلى النار، وقيودا تشدّ بها أيديهم إلى أعناقهم، ونارا تستعر وتتوقد، لنعذبهم ونحرقهم بها.
وأما المؤمنون الأبرار الذين جمعوا بين الصدق والطاعة (التقوى) والإخلاص فهم يشربون شرابا ذا رائحة أو كأسا من خمر الجنة، الممزوجة بالكافور (وهو طيب معروف له رائحة جميلة) وهذا الشراب نابع من عين جارية عذبة يشرب منها عباد الله الصالحون، تنبع بأمرهم، ويجرونها إلى حيث أرادوا من منازلهم وقصورهم. وقوله تعالى: عَيْناً بدل من قوله تعالى: كافُوراً أو مفعول به لفعل (يشربون) أي يشربون ماء هذه العين من كأس عطرة كالكافور.
وأسباب ثواب الأبرار ثلاثة أشياء أو خصال ثلاث: هي الوفاء بالواجب، وخوفهم الحساب، وتخلّقهم بالخلق الفاضل كإطعام الطعام للمحتاجين.
1- 2- أنهم يوفون بالنّذور التي التزموها وأوجبوها على أنفسهم، تقرّبا إلى الله تعالى. ويتركون المحرّمات التي نهى الله عنها، خوفا من عذاب يوم القيامة، الذي تكون شدائده وأهواله منتشرة في كل جهة، وعامة على الناس، إلا من رحم الله.
فقوله: يَوْماً كانَ شَرُّهُ أي يوم القيامة الذي كان ضرره متّصلا شائعا كاستطارة الفجر.
3- ويطعمون الطّعام في حال محبّتهم إياه لمحتاج فقير عاجز عن الكسب، وليتيم حزين فقد أباه، ولأسير مأسور عند الأعداء. وخصّ الطعام بالذكر لكونه إنقاذا للحياة، وإصلاحا للإنسان. قال القرطبي: والصحيح أن الآية نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلا حسنا، فهي عامة.
وهم في حال إطعام الطعام لهؤلاء يقولون وينوون: إنما نطعمكم هذا الطعام(3/2790)
لابتغاء رضوان الله وحده، ورجاء ثوابه، دون منّ عليكم، ولا ثناء من الناس، ولا طلب جزاء أو مقابل منكم أو من أحد، بل هو خالص لوجه الله تعالى.
إننا مع طلب رضوان الله سبحانه نخاف من أهوال يوم تعبس فيه الوجوه من هوله وشدّته، صعب شديد الهول والخطر، وشديد الظلمة.
فجازاهم الله تعالى على إخلاصهم أنه دفع عنهم شرّ ذلك اليوم العبوس، وآمنهم من مخاوفه، وأعطاهم نضرة في الوجوه، وسرورا في القلوب، لطلبهم رضوان الله تعالى.
وكافأهم بسبب صبرهم على التكاليف الشرعية جنة يدخلونها، وحريرا يلبسونه، أي أعطاهم أو منحهم منزلا رحبا، وعيشا رغيدا، ولباسا جميلا حسنا. وذلك كله بتكريم الله وفضله وإحسانه، جعلنا الله من أهل هذا الجزاء الحسن، ومتّعنا بهذه النعم الجليلة.
نعم أهل الجنّة
إن أغلب الناس تأثّرا بطبائعهم وشهواتهم المادّية يتأثّرون بالإغراءات المادّية، والمطامع المعيشية من كساء وغذاء وشراب وخدمات الخدم وحلي الدنيا، فكانت إغراءات النعيم في الجنان من هذا الطراز، ليطمعوا في الحصول عليها، ويعملوا العمل الصالح الموصل لها، وهو الجزاء المادّي، وهناك جزاء معنوي أسمى وأرفع منه وهو الشعور بالرضوان الإلهي، والتمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم الذي لا يعادله شيء من هذه النّعم، ولكن المسألة في الجنة درجات ومراتب بحسب تفاوت أعمال الناس. وهذه الآيات الآتية تقرر نعيم الأشخاص العاديين:(3/2791)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
[سورة الإنسان (76) : الآيات 13 الى 22]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» [الدّهر: 76/ 13- 22] .
هذه مظاهر النعيم المادي في الجنة، لقد جزى الله الأبرار جنة الخلود، حيث يتكئون فيها على الأسرّة والفرش والوسائد، ولا يرون فيها الحرّ الشديد والبرد القارس، لاعتدال هوائها، وذهاب ضرورتي الحرّ والبرد عنها. ومسّ الشمس: أشدّ الحر، والزمهرير: أشد البرد.
وظلال الأشجار قريبة منهم، مظلّلة عليهم حيث لا شمس هناك، وأدنيت ثمارها لمتناوليها تسخيرا.
ويطوف عليهم الخدم بأواني الطعام، وهي من فضة، وبأكواب الشراب: وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم، وهي من فضة، فاجتمع لها بياض الفضة، وصفاء القوارير، وهي الزجاج، حتى يرى داخلها من خارجها. وشكلها وحجمها حسب إرادة أهل الجنة، بحسب تقديرهم ورغبتهم.
__________
(1) حال من الضمير المنصوب في الآية السابقة:
(2) مستندين بتمكّن وراحة على الوسائد والأسرّة.
(3) بردا قارسا.
(4) سهّلت عناقيدها المقطوفة.
(5) الآنية: صحاف الطعام، والأكواب:
آنية الشراب وهي الأقداح المستديرة بلا عروة ولا خرطوم.
(6) أوعية زجاجية.
(7) نبات مطيب لرائحته الجميلة يوضع مع البهارات.
(8) سميت بذلك لسلاسة انسياغها.
(9) حرير رقيق.
(10) حرير سميك. [.....]
(11) ألبسوا حلية.
(12) نقيّا من الشوائب.(3/2792)
ويسقى الأبرار أيضا في هذه الأكواب في الجنة شرابا ممزوجة بالزنجبيل الحارّ أو بالكافور البارد، ليعتدل الشراب، وأما المقرّبون فيشربون من كلّ منهما صرفا.
ويسقون شرابهم هذا من عين في الجنة تسمى السلسبيل، سميت بذلك لسلاسة مائها، وسهولة جريها وانحدارها وإساغتها في الحلوق.
وصفة الخدم: أنه يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان، لهم صفة الخلود، لا يتغيرون عن تلك الحال، من الشباب والطراوة والنضارة، ولا يهرمون ولا يمرضون ولا يموتون، إذا رأيتهم في قضاء الحوائج رأيتهم في صباحة الوجوه، وحسن الألوان وجمال الثياب والحلي كأنهم اللؤلؤ المنثور، قال ابن كثير: ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن. شبّههم بالمنثور، لأنهم سراع في الخدمة، أما الحور العين فشبّهن باللؤلؤ المكنون، لأنهن لا يمتهن بالخدمة.
وفي الجملة، يكون نعيمهم أنك إذا نظرت نظرا بعيدا في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها، وما فيها من الجمال والسرور، رأيت نعيما لا يوصف وسلطانا عظيما لا يقدر قدره.
أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر بن الخطاب على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو راقد على حصير من جريد، وقد أثّر في جنبه، فبكى عمر، فقال: ما يبكيك؟ قال:
ذكرت كسرى وملكه، وهرمز، وصاحب الحبشة وملكه، وأنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير من جريد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة، فأنزل الله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20)
وملابسهم وحليّهم: هي أن الذي يعلوهم من اللباس: هو الحرير الرفيع الرقيق الأخضر، والديباج السميك، وحلّوا (ألبسوا الحلية) بأساور من الفضة، وسقاهم(3/2793)
ربّهم بشراب غير ما سبق، يطهّر بواطنهم من الحسد والحقد والبغضاء والأذى، وسائر الأخلاق الرديئة، كما روي عن علي رضي الله عنه.
وعلّة هذا الفضل والنعيم: أنه يقال لهؤلاء الأبرار الممتّعين بالجنان، تكريما لهم وإحسانا إليهم: إن هذا المذكور من أنواع النعيم، كان لكم جزاء لأعمالكم، أي ثوابا لها، وجزاكم الله تعالى على القليل بالكثير، ويقبل طاعتكم، فشكر الله تعالى لعمل عبده: هو قبول لطاعته. وهذا مثل قوله تعالى في آية أخرى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقّة: 69/ 24] . وقوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 7/ 43] .
إنها نعم الله تعالى السابغة العظيمة، الدائمة، فليست نعم الله مقصورة على الدنيا، وإنما برحمة الله تشمل الآخرة، ونعم الآخرة أعظم وأكثر وأشمل من نعم الدنيا.
تثبيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم في مواجهة أفعال قريش
كان كل رسول يواجه معارضة شديدة لدعوته من قومه أو المرسل إليهم، وكان هذا هو الظاهرة القائمة من أفعال قريش وأحوالهم، حيث نسبوا الرسول محمدا إلى الكهانة والسّحر، فثبّت الله تعالى رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وبيّن للقوم أن القرآن كلام الله ووحيه، وأمره بالصبر على أذى قومه، وبالسّجود والصلاة، وبذكر ربّه بكرة وأصيلا، فهم قوم يؤثرون الدنيا على الآخرة، وشريعة الله ووحيه تذكرة وعظة لمن أراد النجاة بين يدي الله عزّ وجلّ، بمشيئة الله، وكل شيء من أفعال البشر لا يقع إلا بمشيئة إلهية، كما يتضح من الآيات الآتية:(3/2794)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)
[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [الدّهر: 76/ 23- 31] .
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة: أنه بلغه أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدا يصلّي، لأطأن عنقه، فأنزل الله: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.
يقول الله فيما معناه: لقد أنزلنا عليك أيها الرسول القرآن تنزيلا متدرّجا مفرّقا، في مدى ثلاث وعشرين سنة، ولم ننزله جملة واحدة، ليسهل حفظه ووعيه والعمل به، ولتثبيت المؤمنين في مواجهة الحوادث.
فاصبر أيها النّبي على قضاء الله وقدره في تأخير نصرك على المشركين، إلى أجل اقتضته حكمته، وفي تبليغ رسالتك من ربّك، وتحمّل المشقة، والصبر على الأذى، ليعذر الله تعالى إليهم، ولا تطع أحدا من المشركين أو العصاة، المبالغين في الوقوع في الإثم والعصيان، والجحود والكفر. والآثم: مرتكب المعاصي، والكفور: جاحد النعمة، وبما أن الآية في المشركين، فكل واحد منهم آثم وهو كفور. ومن الآثمين:
عتبة بن ربيعة، ومن الكفورين: الوليد بن المغيرة. والآية تقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة، أو كفور من المشركين.
__________
(1) كثير الإثم.
(2) شديد الكفر.
(3) أول النهار وآخره.
(4) الدنيا.
(5) ويتركون أمامهم يوما شديدا.
(6) أحكمنا خلقهم.
(7) عظة وعبرة.(3/2795)
ثم أمر الله تعالى نبيّه بالمداومة على ذكر ربّه في أول النهار وآخره، وفي جميع الأوقات، بالقلب واللسان، وبالسجود في الليل والتسبيح الذي هو الصلاة.
وصلاة الصبح: هي في أول النهار أو البكرة، وآخره أو الأصيل: صلاة العصر ومعها صلاة الظهر، وصلاة الليل تشمل صلاتي المغرب والعشاء، والتّهجد في آخر الليل، فتكون الآية جامعة فرائض الصلوات الخمس، والتهجد. وهذه أحوال الطائعين. ثم ذكر الله تعالى أحوال الكفار والمتمرّدين:
إن هؤلاء مشركي مكة وأمثالهم يحبّون الدار العاجلة، وهي الدنيا، ويقبلون على لذّاتها وشهواتها، ويتركون أمامهم يوم القيامة الشديد الأهوال، فلا يستعدّون له، ولا يعبؤون به، وسمي يوما ثقيلا، لما فيه من الشدائد والأهوال. والآية فيها توبيخ المترّدين واحتقارهم. وحبّهم للدنيا: أنهم لا يعتقدون غيرها.
وكيف يتغافل هؤلاء الكفار عن ربّهم وآخرتهم، ونحن الله الذي خلقناهم وأحكمنا خلقهم بتسوية أعضائهم ومفاصلهم، وربطها بالعروق والأعصاب، ولو شئنا لأهلكناهم، وجئنا بأطوع لله منهم. والأسر: الخلقة واتّساق الأعضاء والمفاصل. وهذا تعداد النعمة من الله على عباده، في إيجادهم وخلقهم، وفي إتقان بنيتهم وشدّ خلقتهم. وفي آخر الآية توعّد بالتبديل، فجمعت الآية بين تعديد النعمة، والوعيد، والتبديل، احتجاجا على منكري البعث، فمن هو قادر على هذه الأمور، فكيف تتعذر عليه الإعادة؟
ثم أرشد الله تعالى إلى فائدة القرآن والشريعة، فهذه السورة أو الشريعة، وما فيها من مواعظ، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، عظة وعبرة للمتأمّلين، وتبصرة للمتبصرين، وتذكير للعقلاء، فمن شاء الخير لنفسه في الدنيا والآخرة، اتخذ طريقا للتّقرب إلى ربّه بالإيمان والطاعة، واجتناب المعصية، ومن شاء اهتدى بالقرآن. وهذا(3/2796)
دليل على أن الإيمان والكفر داخلان في اختيار الإنسان وحريته، ولكن ضمن مشيئة الله، حيث لا يقع شيء في ملكوت الله إلا بمشيئته، وإلا كان الملك المطلق الملك مقهورا في سلطانه، وهذا لا يقع بالنسبة لله تعالى.
إن مشيئة العبد داخلة في إطار مشيئة الله، فما تشاؤون أن تتخذوا إلى الله سبيلا إلى النجاة إلا بمشيئة الله، ولا يقدر أحد أن يهدي نفسه، أو يؤمن أو يجلب نفعا لنفسه إلا بتوفيق الله، فالأمر إلى الله سبحانه، إن الله تعالى عليم بمن يستحق الهداية، فييسرها له، وعليم بمن يستحق الغواية، فيبقى في دائرة الضلال، وله الحكمة البالغة.
والله يدخل في جنته من يشاء من عباده إدخالهم فيها، فضلا من الله وإحسانا، ويعذب الظالمين الكافرين الذين ظلموا أنفسهم، عذابا مؤلما وهو عذاب جهنم.(3/2797)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)
تفسير سورة المرسلات
القيامة وقدرة الله عليها وتهديد منكريها
تكرّر في القرآن الكريم إيراد الأدلّة والبراهين القاطعة على وقوع القيامة حتما، ومنها قسم الله بذاته كما في سورة التّغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [الآية: 7] ، ومنها قسم الله بالقيامة نفسها كما في مطلع سورة القيامة: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) [القيامة: 75/ 1] .
ومنها القسم الإلهي بالرّياح الهادرة المتتابعة، أو بالرّسل إلى الناس من الأنبياء عليهم السّلام، أو بالملائكة المرسلة، كما في مطلع سورة المرسلات المكّية، في قول جمهور المفسّرين:
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 28]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11»
__________
(1) الرياح المتتابعة أو الرّسل إلى الناس من الأنبياء.
(2) الرّياح الشديدة.
(3) الرّياح التي تنشر المطر.
(4) الملائكة التي تنزل بالوحي إلى الأنبياء والرّسل.
(5) الملائكة الملقيات الذّكر من الوحي. [.....]
(6) إعذار من الله للعباد، وإنذار بالعذاب.
(7) ذهب ضوؤها.
(8) تشققت.
(9) تفرّقت أجزاؤها.
(10) بلغت الوقت المحدّد لها.
(11) يوم القيامة.(3/2798)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [المرسلات: 77/ 1- 28] .
يقول الله تعالى: أقسم بالرّسل المرسلين إلى الأنبياء والرّسل جماعات، إفضالا على العباد بالبعثة، أو بالرّياح المتتابعة التي هي نعم، بها الأرزاق والنجاة في البحر، وبالرياح التي ترسل عاصفة لما أمرت به من نعمة أو نقمة، وبالرياح التي تنشر السحاب وتفرّقه في آفاق السماء، كما يشاء الله تعالى.
وأقسم بالملائكة الذين ينزلون بأمر الله على الرّسل بما يفرّق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والحلال والحرام، والذين يلقون الوحي إلى الأنبياء والرّسل، إعذارا من الله تعالى إلى خلقه، وإنذارا من عذابه إن خالفوا أمره.
إن ما وعدتم به من مجيء الساعة ونفخ الصور، وبعث الأجساد، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، وجزاء كل إنسان بما عمل خيرا أو شرّا، إن هذا كله لواقع حتما.
وعلامات وقوعه: إذا ذهب ضوء النجوم، وتشققت السماء وتصدعت، وقلعت الجبال من أماكنها، وصارت في الأجواء هباء منبثا.
وإذا الرّسل جمعت وجعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، ويقال لتعجيب العباد من الهول: لأي يوم عظيم أخّرت الأمور المتعلّقة بهؤلاء الرّسل؟
وهي تعذيب من كذّبهم، وتعظيم من صدّقهم. والجواب من الله تعالى: بأنهم أجّلوا
__________
(1) ماء ضعيف حقير.
(2) مستقر حصين وهو الرّحم.
(3) زمان معين.
(4) هيّأنا وأحكمنا.
(5) جمعا وضما.
(6) جبالا ثوابت عاليات.
(7) عذبا.(3/2799)
ليوم الفصل بين الخلائق، يفصل فيه بين الناس بأعمالهم، ويوزّعون إما إلى الجنة وإما إلى النار. ثم أعظم الله تعالى شأن ذلك اليوم مرة ثانية، بقوله: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) أي وما أعلمك بيوم الفصل، وأي شيء شدته ومهابته!! وتهويل ثالث: ويل لهم من عذاب الله غدا، أولئك الذين كذبوا بالله ورسله وكتبه، والويل تهديد بالهلاك، وقد ذكر هذا التهويل في سورة المرسلات تسع مرات، لمزيد التأكيد والتقرير.
وتهديد آخر من سيرة الماضين: ألم نهلك الكفار المكذّبين للرّسل المخالفين لما جاؤوا به من الأمم الماضية، من لدن آدم عليه السّلام، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، إلى زمن محمد صلّى الله عليه وسلّم، بتعذيبهم في الدنيا، ثم نتبعهم بأمثالهم ونظرائهم، وهم كفار مكة حين كذبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المعارك. وهذا وعيد شديد لكل من كفر بالله تعالى.
وتلك سنّة الله لا تبديل لها، فإن سنّتنا في جميع الكفار واحدة، فمثل ذلك الإهلاك للمكذّبين بكتب الله ورسله، الذين أجرموا في حقّ أنفسهم، نفعل بكل من أجرم وأشرك مع الله إلها آخر. والهلاك الشديد يومئذ للمكذّبين بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. وقوله: كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) أي في المستقبل، قريش وسائر الكفار.
ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر القدرة الإلهية على الناس، ومنها: ألا ترون وتدركون أننا نحن خلقناكم من ماء ضعيف حقير، وهو المني، وجعلناه مجموعا في مستقر مكين، أي حرز حصين، وهو الرّحم، ثم أبقيناه في الرّحم مدة معينة هي مدة الحمل من ستة إلى تسعة أشهر.
نحن الذين مارسنا قدرتنا على الخلق وتقديرنا في تكوين الأعضاء والصفات،(3/2800)
وجعلنا كل حال على الصفة التي أردنا، فنعم المقدّر وهو الله، أو نعم المقدّرون له نحن. والهلاك والعذاب في يوم القيامة لم كذّب بقدرتنا على ذلك، وبهذه النّعم. وهذا تخويف وتوبيخ من وجهين: هما أن النّعمة كلما كانت أعظم كان كفرها أفحش، والقادر على الخلق الأول قادر على الإعادة.
ثم عدّد الله تعالى نعمه الثلاث في الآفاق بعد نعمة تكوين الأنفس وهي: ألم نجعل الأرض ضامّة للأحياء على ظهرها في منازلهم، والأموات في بطنها تضمّهم وتجمعهم؟ وجعلنا في الأرض جبالا ثوابت عاليات، لئلا تميد وتضطرب بكم، وأسقيناكم من ينابيعها، أو من السّحاب ماء عذبا صافيا. وهذا كله أعجب من البعث.
ويل، أي عذاب وهلاك شديد في الآخرة، لمن كذب أو كفر بهذه النّعم، وويل لمن تأمل في هذه المخلوقات الدالّة على عظمة الله تعالى خالقها، وعلى قدرته الفائقة، ثم استمرّ على تكذيبه وكفره.
ألوان التهديد والعذاب، وأصناف النعيم
وصف الله تعالى ألوان عذاب الكفار وصفا تقشعر منه الأبدان، وتشيب منه الغلمان، فهو يشتمل على عشرة أنواع من التهديد والتخويف، أربعة منها في آيات سابقة من سورة المرسلات، وهي: القسم الإلهي على العذاب، والتهديد بعذاب مماثل للأمم الغابرة، واللوم على كفران النعم في الأنفس، وكفران النعم في الآفاق، وستة منها في الآيات الآتية: وهي أولا قول الملائكة للكفار: انطلقوا لعذاب الآخرة، وله أوصاف أربعة: ألسنة النار وأدخنتها ذات شعب ثلاث، ولا ظل من الحر، ولا يفيد شيئا في رد الحر، وشرر النار كالقصر، وثانيا بطلان الحجة(3/2801)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
وفقد العذر، وثالثا التعذيب بالتقريع والتخجيل والباقي مضاعفة الحسرة، ووصفهم بالإجرام، وتوبيخهم، قال الله تعالى:
[سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 50]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
«1» «2» «3» [المرسلات: 77/ 29- 50] .
هذه تهديدات متوالية للكفار، يقال لهم من خزنة جهنم: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عذاب الآخرة. ذلك العذاب سيروا فيه إلى ظل من دخان جهنم، متشعب ثلاث شعب، فإن لهب النار إذا ارتفع وتصاعد دخانه، تشعب إلى ثلاث شعب من شدته وقوته، وليس للنار ظل يمنع الحر ولا البرد، ولا يرد الحر ولا يفيد شيئا في تخفيف العذاب. واللهب: ما يعلو على النار بعد اشتعالها. وشرر هذه النار متفرق، كل شرارة ترمي بها هي كالقصر (البناء العظيم) في العظم والارتفاع، وكالإبل الصفر في اللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة. وهلاك وعذاب وخزي يومئذ في القيامة للمكذبين رسل الله وآياته. ولا عذر ولا حجة لأولئك المعذّبين فيما ارتكبوا من قبائح ومنكرات، فهم لا يتكلمون في ذلك اليوم، لهول ما يرون، وللحيرة والدهشة التي تعتريهم، ولا يأذن الله لهم بالكلام، فيكون لهم اعتذار، لقيام
__________
(1) جمع جمل، وهو أعظم الحيوانات البرية. [.....]
(2) مكر أو حيلة.
(3) جمع ظل.(3/2802)
الحجة عليهم، وإنما لم يؤذن لهم في الاعتذار، لأن الله تعالى قدم لهم الإنذار في الدنيا.
وعذاب القيامة للمكذبين بسب ما أنذرتهم الرسل من العذاب في الدنيا، إن استمروا على الكفر، ومعاداة الرسل. وهذا لون من التعذيب الأدبي.
ويقال لهم من الله أو من ملائكته: هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق، ويتميز فيه الحق من الباطل، جمعناكم بقدرتنا معشر كفار قريش وأمثالكم على ممر الدهر. و (الأولون) المشار إليهم: قوم نوح وغيرهم، ممن جاء في صدر الدنيا، وعلى وجه الدهر. فإن قدرتم أيها الكفار على مكر أو حيلة أو مكيدة لتتخلصوا من العذاب وتنجيكم، فافعلوها، فإنكم لا تقدرون على ذلك. وهذا نهاية التقريع والتوبيخ، وهو تعذيب روحي. وعذاب يوم القيامة متحقق لكل مكذب بالبعث، لظهور العجز وفقد الأمل بالنجاة.
وأما المتقون في الآخرة: فهم في جنات وظلال وارفة تحت الأشجار والقصور، وتحيط بهم الأنهار والينابيع من كل مكان، ولديهم أنواع من الفاكهة والثمار، بحسب ما تطلبه نفوسهم، وتستدعيه شهواتهم.
ويقال لهم في الآخرة على سبيل الإحسان إليهم والتكريم: كلوا أيها المتقون من طيبات الجنة وفاكهتها، واشربوا شربا هنيئا، بسبب ما عملتم في الدنيا، من العمل الصالح. وهذا أمر تكريم، لا أمر تكليف.
هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل، ومثل ذلك الجزاء العظيم لهؤلاء المتقين، نجزي المحسنين في أعمالهم، فلا نضيع لهم أجرا، وعذاب وخزي يوم القيامة للمكذبين بالله ورسله، وبما أخبر الله من تكريم هؤلاء المتقين في الآخرة، حيث صاروا في شقاء عظيم، وصار المؤمنون في نعيم مقيم.(3/2803)
ثم خاطب الله تعالى المكذبين بيوم الجزاء (يوم القيامة) على سبيل التهديد والوعيد والتوبيخ: فيقال لهم: كلوا من مآكل الحياة ولذائذها، وتمتعوا بخيراتها زمانا قليلا لمدة العمر الباقي، ثم تساقون إلى نار جهنم، لشرككم بالله تعالى، ولأنكم مجرمون. إنه عذاب لأولئك المشركين المكذبين بأوامر الله تعالى ونواهيه، وبما أخبرهم به ربهم أنه فاعل بهم.
وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون، فهم يستكبرون عن طاعة الله تعالى، وهذا ذم على ترك الخشوع والتواضع لله، بقبول وحيه وأمره وتكليفه. وهلاك يوم القيامة ثابت للمكذبين بأوامر الله تعالى ونواهيه.
ومما يدعو للتعجب من صنيع الكفار: أنه إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن، وما اشتمل عليه من أدلة وجود الله وتوحيده وصدق نبيه صلّى الله عليه وسلّم، فبأي كلام بعده يصدقون؟ ففي القرآن كل ما يرشد إلى الخير وسعادة الدارين، وهو الكتاب الكامل الذي جميع فأوعى.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة، كان إذا قرأ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فقرأ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ قال: فليقل: آمنت بالله وبما أنزل.
ألا إن الضالين الكافرين لا ينتفعون بمواعظ القرآن وحكمه البالغة، ولا يهتدون بنوره، وأما المتقون فهم المتدبرون لكلام القرآن، الملتزمون بهديه ونوره.(3/2804)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)
تفسير سورة النبأ
إثبات البعث وتعداد النعم الإلهية
لا تكاد تجد سورة مكية (أي نزلت في مكة قبل الهجرة) إلا وفيها حديث عن البعث، إما بالإثبات وغرس اليقين حوله، بالقسم أو بإيراد أدلة عقلية وحسية على إمكانه، وإما بوصف أهواله ومخاوفه وآثاره الخطيرة التي تنحصر في شيئين: دخول الجنان أو الزج بالنيران، لأن التشريع المكي عني غالبا بالعقائد، وأهمها توحيد الله ونبذ الشرك، وإثبات النبوة أو الرسالة والوحي، ووقوع القيامة، ووصف القيامة رهيب كما في مطلع سورة النبأ المكية اتفاقا:
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» «13» «14» [النبأ: 78/ 1- 16] .
__________
(1) عن أي شيء يسأل المشركون مرارا رسول الله؟
(2) عن خبر البعث.
(3) ممهدة مذللة فراشا.
(4) كالأوتاد وهي الأخشاب المغروزة في الأرض.
(5) أصنافا ذكورا وإناثا.
(6) راحة لأبدانكم.
(7) كاللباس في الستر.
(8) وقتا للمعيشة بالكسب والعمل.
(9) قوية محكمة.
(10) مضيئا وقادا.
(11) السحب والغيوم.
(12) مطرا صبابا كثير الهطول. [.....]
(13) الحب: ما يقتات به الإنسان كالحنطة والشعير، والنبات: ما تقتات به الدواب.
(14) بساتين ملتفة الأشجار.(3/2805)
ينكر الله تعالى على المشركين المكيين وجميع العالم تساؤلهم عن القيامة، فعن أي شيء يسأل بعضهم بعضا؟ عن الخبر المهم العظيم الشأن، الذي اختلفوا في أمره، بين مكذب ومصدق، وكافر ومؤمن به، ومنكر ومقر، وشاكّ ومثبت: وهو يوم البعث من القبور بعد الموت. والمراد من الاستفهام: تفخيم الأمر وتعظيمه. وقوله تعالى: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) متعلق ب يَتَساءَلُونَ، كأنه تعالى قال: لم يتساءلون عن هذا النبأ؟
كلا: كلمة ردع لهم وزجر، لا ينبغي لهم أن يختلفوا في شأن البعث، فهو حق لا ريب فيه، وليرتدعوا عن التساؤل، فإن جميع العالم سيعلمون عاقبة تكذيبهم أو إنكارهم. وكلمة (كلا) الثانية تأكيد للجملة الأولى. وهذا تهديد ووعيد. والبعث قائم حتما بقدرة الله، ومن مظاهر قدرته تعالى:
- كيف تنكرون البعث؟ وقد شاهدتم أدلة قدرة الله التامة، من جعل الأرض ممهدة مذللة للخلائق، كالمهد للصبي: وهو ما يمهد له من الفراش، للنوم والراحة، وجعل الجبال الراسيات كالأوتاد للأرض، لتسكن ولا تتحرك، وتهدأ ولا تضطرب بأهلها.
- وأوجدناكم في هذا العالم أصنافا: ذكورا وإناثا، لتحقيق التكاثر وإبقاء النوع الإنساني، وليتم التعاون والأنس بين الصنفين.
- وجعلنا نومكم راحة لأبدانكم، وقطعا لأعمالكم المتعبة في النهار، فبالنوم تتجدد القوى، وينشط العقل والجسد. والسبات: الانقطاع عن الحركة. وجعلنا الليل المظلم الهادئ سكنا تسكنون فيه، وكاللباس الذي يغطي بظلامه الأشياء والأجسام، فكما أن اللباس يغطي الجسد ويقيه من الحر والبرد، ويستر العورات، كذلك الليل يستتر فيه من أراد الاختفاء لقضاء مصالح لا تتوافر في النهار.(3/2806)
- وجعلنا وقت النهار مشرقا مضيئا، ليتمكن الناس من تحصيل أسباب المعيشة، والتكسب، والاتجار، والزراعة والصناعة، وممارسة الخدمات الفنية والعملية وغيرها.
- وبنينا فوقكم سبع سموات قوية الخلق، محكمة البناء، متقنة الصنع، مزينة بالكواكب الثوابت والسيارات المتنقلة، وجعلنا الشمس سراجا مضيئا على جميع العالم، ينشر الضوء والحرارة، ويستفيد منه كل الكائنات الحية.
- وأنزلنا من السحب القاطرة، والغيوم المتكاثفة التي تنعصر بالماء، ولم تمطر بعد، مطرا منصبا بكثرة وغزارة، كثير السيلان، لنخرج بذلك الماء الكثير الطيب النافع، حبا يقتات به الناس، مثل القمح والشعير والذرة، والأرز، ونباتا تأكله الدواب، من التبن والحشيش وسائر النباتات، وبساتين وحدائق ذات بهجة وأشجار وأغصان ملتفة على بعضها، وثمرات متنوعة، وألوان مختلفة، وطعوم وروائح متفاوتة، وإن كان ذلك في بقعة أرضية واحدة، يسقى من ماء واحد، وتتفاضل ثمارها في المأكل والتفكه، كما جاء في آية أخرى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 13/ 4] .
والثجّاج: السريع الاندفاع، كما يندفع الدم من عروق الذبيحة، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه الترمذي عن ابن عمر-: «أفضل الحج: العجّ والثجّ» . أي رفع الصوت بالتلبية، وصب دماء البدن وإراقتها، والمراد: التضرع بالدعاء الجهير، وذبح الهدي. والحب: جنس الحبوب الذي ينتفع به الحيوان. والنبات: الذي يستعمل رطبا لإنسان أو بهيمة، لذا ذكر الله تعالى موضع المنفعتين.(3/2807)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)
صفات يوم القيامة
يوم القيامة يوم عصيب رهيب حاسم، سمي يوم الفصل، وتحدد وقته بأجل معلوم بعلم الله تعالى وحده دون سواه، ولا يتقدم وقته ولا يتأخر، وعلامات ذلك اليوم كثيرة، منها نفخ الصور، وتصدع السماء، وتسيير الجبال عن أماكنها وصيرورتها هباء منبثا كالهواء. وليس بعد الموت والقيامة إلا أحد شيئين: إما الجنة للمتقين وإما النار للظالمين، كما تقرر الآيات الآتية:
[سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 30]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21)
لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26)
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» [النبأ: 78/ 17- 30] إن يوم القيامة الذي يسمى بيوم الفصل، لأن الله تعالى يفصل فيه بين المؤمنين والكافرين، وبين الحق والباطل، كان مؤقتا بوقت محدد، وميعاد معين، للأولين والآخرين، للحساب والجزاء. والميقات: مفعال من الوقت، كميعاد من الوعد.
وعلاماته ثلاث:
- إنه اليوم الذي ينفخ فيه إسرافيل بالبوق أو القرن، فتأتون معشر الخلائق من قبوركم إلى موضع العرض زمرا زمرا، وجماعات جماعات متميزة، تأتي فيه كل أمة
__________
(1) جماعات متميزة.
(2) وتشققت السماء وتصدعت، وأزيلت الجبال من أماكنها.
(3) فكانت كالسراب: وهو ما يظنه الرائي ماء.
(4) موصد رصد.
(5) للظالمين الكافرين المتجاوزين الحد في المعصية.
(6) مرجعا ومأوى.
(7) مددا متطاولة، لا نهاية لها.
(8) الحميم: الماء الحار، والغساق: ما يسيل من أجساد أهل النار.
(9) تكذيبا كثيرا.
(10) إحصاء مكتوبا.(3/2808)
مع رسولها، كما قال الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 17/ 71] .
والصور: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل لبعث الناس.
- وفيه تتصدع السماء وتتشقق، فصارت ذات أبواب كثيرة، وطرقا ومسالك لنزول الملائكة. وقوله: فَكانَتْ أَبْواباً معناه تنفطر وتتشقق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في الجدران.
- وفيه تزول الجبال عن مواضعها، وتتبدد في الهواء، فكانت هباء منبثا كالسراب: وهو ما يتخيله الناظر ماء، أي تدكّ أولا، ثم تصير كالصوف المندوف، ثم تتقطع وتتبدد وتصير كالهباء، ثم تنسف عن الأرض بالرياح.
والذي يلقاه الكافرون الضالون يومئذ هو النار، إن جهنم كانت في حكم الله وقضائه مرصدة معدة للطغاة الجبارين، ومرجعا ومأوى لهم، حال كونهم لابثين فيها (ماكثين) مددا طويلة من الزمان، تتعاقب الأحقاب (المدد) إثر بعضها، إلى الأبد. ومرصادا:
موضع الرصد، كما قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) [الفجر: 89/ 14] .
وهذا دليل على أن جهنم كالجنة معدة مخلوقة الآن، لأن (مرصادا) معناه: معدّة.
والأحقاب جمع حقب وحقب وحقب، وهو جمع حقبة: وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدودة.
- لا يذوق المعذبون في جهنم بردا يقيهم من الحر، أي لا يمسهم ما يستلذ ويكسر عذاب الحر، فالذوق مستعار، ولا يجدون شرابا يزيل العطش إلا الحميم: وهو الماء الحار الشديد الغليان، وإلا الغسّاق: وهو ما يسيل من أجساد أهل النار من قيح وصديد دائم السيلان.
وهذا الجزاء العدل موافق الذنب العظيم الذي ارتكبوه نوعا ومقدارا، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار، وقد كانت أعمالهم سيئة، فجوزوا(3/2809)
بمثلها، كما قال الله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 42/ 40] . وقوله:
جَزاءً وِفاقاً (26) معناه: لأعمالهم وكفرهم، أي هو جزاؤهم الجدير بهم، الموافق مع التحذير لأعمالهم، فهي كفر، والجزاء نار.
- إنهم اقترفوا الأعمال السيئة، والقبائح المنكرة، لأنهم لا يطمعون في ثواب، ولا يخافون من حساب، لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، وقوله: إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) معناه لا يتوقعون ولا يخافون حسابا، أي إنهم كانوا لا يصدقون بالحساب، فهم لذلك لا يرجونه ولا يخافونه، وهو علة التأبيد في العذاب.
وإن الله تعالى يعلم بجميع أعمال العباد، فكتبها أو دوّنها عليهم سلفا الحفظة من الملائكة كتابة تامة شاملة، ومحصاة إحصاء منضبطا، ويكون المكتوب المسجل سابقا، مطابقا لما تكتبه الملائكة من الأعمال، وسيجزيهم الله تعالى على ذلك جزاء مناسبا، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وقوله: كِتاباً مصدر وضع في موضع إحصاء.
وقوله: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ يراد به: كل شيء شأنه أن يحصى، وفي هذا الخبر ربط لأجزاء القصة بأولها، أي هم مكذّبون كافرون، والله أحصى ذلك بالقول لهم في الآخرة، وقوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) قال أبو حيان في البحر المحيط: عام مخصوص، أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب، وهي جملة اعتراضية.
ويقال لهم أثناء التعذيب تقريعا وتوبيخا: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (30) أي يقال لأهل النار، بسبب الكفر والتكذيب بالآيات، وقبح الأفعال: ذوقوا ما أنتم فيه من العذاب الأليم، فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه، قال عبد الله بن عمرو (وفي البحر المحيط: ابن عمر) : لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (30) أي فهم في مزيد من العذاب أبدا.
إن أوصاف يوم القيامة المرعبة، الفاصلة في مصائر الناس، وما يعقبها من(3/2810)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)
حساب وجزاء، تنبئ نبأ يقينيا بما يقع في المستقبل في عالم الآخرة، وتكاد تنخلع القلوب من مواضعها من شدة الأهوال، وألوان العذاب في نيران جهنم، علما بأنه حق عدل مطابق للأفعال والأقوال التي صدرت من الكافرين، وأردت بهم إلى جهنم.
أحوال السعداء يوم القيامة
لما ذكر الله تعالى حال أهل النار، عقّب بذكر حال أهل الجنة، ليتبين الفرق. فهم فائزون ناجون، حيث تخلصوا من النار، وأدخلوا الجنة، فضلا من الله وإحسانا.
والمتأمل في حال الفريقين يجد الفرق واسعا، فيرغب المؤمنون العقلاء بالجنة، ويرهبون المخالفة والعصيان، والتورط في أعمال أهل النار. وبيان حال الفريقين يشتمل على وعيد الكفار، ووعد المؤمنين الأخيار، كما يتضح من هذه الآيات:
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 40]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» [النبأ: 78/ 31- 40] .
هذا مصير المؤمنين الطائعين، وهو أن للذين اتقوا ربهم بالعمل بأوامره،
__________
(1) مكان فوز أو فوزا.
(2) بدل من (مفازا) أي بساتين مثمرة الأشجار، مسورة بالجدران. [.....]
(3) جمع كاعب: وهي الفتاة المستديرة الثدي، والأتراب جمع ترب: ذوات السن الواحدة كاللدات.
(4) إناء بلوريا مملوءا يشرب فيه، والدهاق: الممتلئ.
(5) اللغو: ساقط الكلام، والكذاب: التكذيب.
(6) إحسانا من الله كافيا على قدر أعمالهم.
(7) جبريل.
(8) مصطفين.
(9) قولا صوابا.
(10) مرجعا.
(11) كالتراب لم أخلق.(3/2811)
واجتناب نواهيه، مفازا أي موضع الفوز، لأنهم زحزحوا عن النار، وأدخلوا الجنة يتمتعون بالبساتين المسوّرة ذات الأشجار والثمار والأعناب اللذيذة الطعم، وبحوريات الجنة الكواعب النواهد، وذوات الأثداء التي لم تتكسر ولم تتدلّ، المتساويات في السن، ويتناولون الشراب اللذيذ بالكؤوس المترعة المملوءة بخمر الجنة غير المسكرة، وعطف الأعناب على الحدائق: عطف خاص على عام. لا يسمعون في الجنة الباطل من الكلام، ولا يكذّب بعضهم بعضا، مما يدل على نظافة البيئة وسموها الأدبي، لترتاح النفوس، ولا تخدش بالكلام الشاذ. جازاهم الله تعالى على إيمانهم وصالح أعمالهم، وأعطاهم ذلك عطاء، تفضلا منه وإحسانا، وهو كاف واف على قدر أعمالهم، إنجازا لوعد الله تعالى إياهم.
وهذا الرب المتفضل المجازي جزاء حسنا هو المتصف بالعظمة والجلال، ورب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، وهو الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء، ولا يقدر أحد على ابتداء خطابه إلا بإذنه، لجلاله وهيبته.
لا يملك الناس خطاب الله تعالى يوم يقوم جبريل عليه السّلام وجميع الملائكة مصطفين «1» صفوفا منتظمة، مع رفعة أقدارهم ودرجاتهم، لا يتكلمون أيضا في يوم القيامة الرهيب إلا بشرطين:
الأول- الإذن من الله بالشفاعة، كما جاء في آية أخرى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 2/ 255] .
والثاني- أن يقول قولا صائبا: أي موافقا للحق والصدق إذا كان الإذن للشافع، وأن يكون ذلك المشفوع به ممن قال في الدنيا صوابا، أي شهد بالتوحيد بأن قال:
لا إله إلا الله، إذا كان الإذن للمشفوع له.
__________
(1) عطف عام على خاص. ويوم ظرف لفعل (لا يتكلمون) .(3/2812)
والروح: هو جبريل عليه السّلام في رأي الأكثرين، لقول الله عز وجل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 26/ 193- 194] . والآية دليل على أن الملائكة وجبريل عليهم السّلام أعظم المخلوقات قدرا ومكانة، وعلى عظمة يوم القيامة ورهبته. وعطف الملائكة على جبريل: عطف عام لا خاص.
وذلك اليوم يوم القيامة هو اليوم الحق، أي الثابت الوقوع، المتحقق الذي لا ريب فيه، فمن أراد النجاة، اتخذ إلى ثواب ربه مرجعا وطريقا يهتدي إليه، ويقرّبه منه، ويدنيه من كرامته، ويباعده من عقابه، بالإيمان الحق والعمل الصالح.
ثم هدّد الله تعالى الكافرين، وحذّرهم وخوّفهم من ذلك اليوم يوم القيامة مرة أخرى. إننا يا أهل مكة وأمثالكم من الكفار، حذرناكم وخوفناكم عذابا قريب الوقوع، وهو في يوم القيامة، فإنه لتأكد وقوعه، صار قريبا، ولأن كل ما هو آت قريب، وفي هذا اليوم القريب الوقوع، ينظر كل امرئ ما قدم من خير أو شر في حياته الأولى في الدنيا، ويقول الكافر من شدة ما يعانيه من أنواع الأهوال والعذاب، كأبي بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وأبي جهل، وأبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي: ليتني كنت ترابا كالحيوانات، لم أخلق، فهو يتمنى أن لم يكن إنسانا موجودا أولا، ولا مبعوثا ثانيا أو مرة أخرى. وإنما تصير الحيوانات ترابا بعد الاقتصاص من بعضها لبعض.
وهاتان الآيتان الأخيرتان تدلان على أن الناس يكونون يوم القيامة فريقين: فريق المؤمنين المقربين من ثواب الله وكرامته ورضاه، وفريق الكافرين الجاحدين البعيدين من رحمة الله، الواقعين في صنوف العذاب.
فأي الفريقين أهدى سبيلا، وأرشد طريقا، وأسلم عاقبة، وأحسن قدوة؟! لو سئل صبي عاقل دون البلوغ عن الفرق لأجاب، ولما وسعه إلا اتباع أهل الإيمان والنجاة.(3/2813)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
تفسير سورة النازعات
إثبات القيامة وأهوالها وتهديد المكذبين بها
أقسم الله تعالى لإثبات البعث ببعض الظواهر الكونية، كالقسم بالرياح المتتابعة، والملائكة في مطلع سورة المرسلات، والحلف بالملائكة التي تنزع الأرواح أو تسبح من السماء، أو تنزل بتدبير بعض الأمور، كما في مطلع سورة النازعات، واشتمل القسم على إيراد بعض الأخبار عن أهوال القيامة، وأعقب ذلك تهديد المكذبين بهذا اليوم في الدنيا والآخرة، كما يبدو واضحا في مطلع سورة النازعات المكية بالاتفاق:
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 26]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» «13» «14» «15»
__________
(1) الملائكة التي تنزع أرواح الكفار بشدة، وقيل: الكواكب الجارية.
(2) الملائكة التي تخرج أرواح المؤمنين برفق، وقيل: الكواكب تخرج من برج إلى آخر.
(3) الملائكة التي تسبح من السماء (تنزل بسرعة) وقيل: الكواكب تسبح في أفلاكها.
(4) الملائكة تسبق بالأرواح إلى مستقرها، أو الكواكب يسبق بعضها بعضا. [.....]
(5) الملائكة تنزل بأمر ربها.
(6) تتحرك الأرض والجبال.
(7) تلحق بها السماء والكواكب.
(8) مضطربة قلقة.
(9) خاضعة ذليلة.
(10) في الحياة التي كنا فيها.
(11) بالية.
(12) رجعة فيها خسارة.
(13) صيحة.
(14) أحياء على وجه الأرض.
(15) الوادي المطهر طوى بين أيلة ومصر.(3/2814)
«1» «2» «3» «4» «5» [النازعات: 79/ 1- 26] .
أقسم الله تعالى بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار بشدة وعنف، وأرواح المؤمنين بسرعة ولطف، وبالملائكة الذين ينزلون من السماء مسرعين، وتسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وتدبر الأمر بأن تنزل بالحلال والحرام وتفصيلهما، وقال الحسن البصري: المراد بالكلمات الخمس: النجوم والكواكب في جريها وتنقلها بين الأبراج وسيرها في أفلاكها هادئة، أو مسرعة، أو مدبّرة أمرا بأمر الله تعالى.
وقوله: أَمْراً يراد به الجنس، فيقوم مقام الجمع، وتدبير الأمر في الحقيقة لله تعالى، وإنما أضيف إلى الملائكة لإتيانها به، ولأنها من أسبابه، وجواب القسم محذوف، أي لتبعثن بعد الموت.
حين تتحرك الأرض وتضطرب الجبال، وتتلوها السماء، فتنشق بما فيها من الكواكب وتنتثر.
هناك قلوب تكون يوم القيامة خائفة مضطربة قلقة، لما عاينت من أهوال يوم القيامة، وهي قلوب الكفار، وأبصار أصحابها ذليلة حقيرة، مما عاينت من الأهوال، لموتهم كافرين وإنكارهم البعث، وأقوالهم هي:
يقول المشركون المكيون وأمثالهم: هل نرد إلى حياتنا الأولى، وابتداء أمرنا قبل الموت، فنصير أحياء بعد موتنا. والحافرة: لفظة توقعها العرب على أول أمر رجع
__________
(1) تجاوز الحد.
(2) تتزكى وتطهر نفسك من الآثام.
(3) انقلاب العصا حية. [.....]
(4) جمع.
(5) من أجل عقوبتهما.(3/2815)
إليه من آخره. وهم يقولون ذلك على جهة الاستخفاف والعجب والتكذيب. والمعنى:
أإنا لمردودون إلى الحياة بعد مفارقتها بالموت؟! وكيف يتصور ردنا إلى الحياة، بعد أن صرنا عظاما بالية متفتتة منخورة؟ إنا إذا رددنا بعد الموت، وصح أن بعثنا يوم القيامة لنخسرن خسارة محققة، لتكذيبنا بمحمد، وهذا قول على سبيل الاستهزاء والتهكم، هذا ما قالوه، فنزلت هذه الآية.
فرد الله عليهم: لا تستبعدوا ذلك، فإنما الأمر يسير، ولا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله، وما هي إلا صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية للبعث من القبور، فإذا هم على وجه الأرض أحياء، والساهرة: أرض الآخرة، وهي أرض بيضاء مستوية، ووصفت بذلك لأنهم لا ينامون عليها حينئذ. وقال جماعة: هي أرض أو جبل بالشام، قريبة من بيت المقدس.
ثم واسى الله نبيه وآنسه عن تكذيب قومه، بقصة موسى عليه السّلام مع فرعون الجبار: فقال له: ألم يبلغك قصة موسى عليه السّلام مع فرعون، حيث ابتعثه الله إليه، وأيده بالمعجزات، حين ناداه ربه ليلا، مكلما إياه، مكلفا له بالنبوة والرسالة في الوادي المبارك المطهر: وهو طوى: وهو الوادي في جبل سيناء. وقال الله تعالى له مبينا مهمّته: اذهب إلى فرعون طاغية مصر، فإنه جاوز الحد في العصيان والتكبر والكفر بالله، حيث ادعى الربوبية، واستعبد قومه.
وأسلوب دعوتك، بأن تقول له: هل لك رغبة في التطهر من الشرك والعيوب؟
وأرشدك إلى معرفة الله وتوحيده وعبادته، وإنما أمره الله بلين القول، ليكون أنجع أو أنجح في دعوته، وهذا دليل على أن هدف البعثة: هداية الناس إلى معرفة الله.
ودليل صدق موسى أمام فرعون: معجزته، وهي أنه أظهر له العلامة الكبرى الدالة على صدق نبوته: وهي انقلاب العصا حية، وتحول اليد بيضاء، ومع ذلك كذّب وخالف، كما في قوله تعالى: فَكَذَّبَ وَعَصى (21)(3/2816)
أي فكذب فرعون بموسى، وبما جاء به وبالحق، وعصى الله عز وجل فلم يطعه وتولى وأعرض عن الإيمان، وأخذ يسعى بالفساد في الأرض، لإبطال دعوة موسى.
وقوله: فَكَذَّبَ وَعَصى (21) دليل على أنه كذب بالقلب واللسان، وعصى بإظهار التمرد.
فجمع جنوده وأهل مملكته للتشاور، وجمع السحرة للمعارضة، ثم نادى في الجميع: أنا الرب الأعلى، وصاحب السلطان المطلق، فأغرقه الله مع جنوده.
وأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وانتقم منه انتقاما جعله عبرة ونكالا لأمثاله المتمردين في الدنيا، وجع له عقوبتي الدنيا والآخرة، بالإغراق والإذلال في الدنيا، وبالإحراق في الآخرة. وكلمة (نكال) منصوب على المصدر.
إن فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل به عبرة عظيمة لمن شأنه أن يخشى الله ويخاف منه، وينزجر، فينظر في أحداث الماضي، ويتعظ للحاضر والمستقبل.
وعيد الكفار المخاطبين برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم
خاطب الله تعالى مباشرة منكري البعث، محتجا عليهم ببدء الخلق على إعادته، فإن الله تعالى خلق السماوات والأرض والجبال: فهو قادر على إعادة الخلق، بل إن ذلك واقع فعلا، وسيكون الناس فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم أجاب الله تعالى عن سؤال المشركين: متى الساعة؟ بأن علمها مفوض إلى الله سبحانه، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوث للإنذار فقط، وأن ما أنكروه سيرونه عيانا، وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار، وهذا موضح في الآيات الآتية:(3/2817)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)
[سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 46]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)
فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» [النازعات: 79/ 27- 46] .
هل أنتم يا مشركي مكة وأمثالكم أصعب وأمتن خلقا، أو خلق السماء أشد متانة؟ لا شك بأن السماء أشد خلقا، فإن الله تعالى جعل مقدار سمكها (أي ارتفاعها) ما بين سطحها الأسفل الذي يلينا، وبين سطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها، وفي هذه الآية دليل على أن بعث الأجساد من القبور لا يتعذر على قدرة الله تعالى.
وجعل ليل السماء مظلما، وأبرز ضحى النهار بإضاءة الشمس، وبسط الأرض ومهدها وجعلها مفلطحة كالبيضة، بعد خلق السماء، فإنها كانت مخلوقة غير مدحوة قبل خلق السماء، ثم دحيت بعد خلق السماء. فدل هذا على أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها، ثم استوى إلى السماء، وهي دخان فخلقها وبناها، ثم دحا الأرض بعد ذلك. ودحو الأرض: بسطها.
__________
(1) السّمك: مقدار الارتفاع، أي جعل الله مقدار ارتفاعها ما بين سطحها الأسفل والأعلى فوقها مديدا.
(2) جعلها مستوية محكمة.
(3) جعله مظلما.
(4) أبرزه.
(5) بسطها ومهدها للعيش عليها.
(6) الداهية الكبرى يوم القيامة.
(7) ظهرت بارزة معاينة.
(8) تجاوز الحد في العصيان.
(9) مقر الإيواء.
(10) متى وقت رسوها وحدوثها.
(11) نهايتها.
(12) طرف النهار أو أوله. [.....](3/2818)
وأعد الله تعالى أثناء دحو الأرض وسائل الحياة والعيش بأن فجّر من الأرض الماء بالأنهار والعيون والينابيع، وأنبت فيها المراعي والأعشاب والحشائش للدواب، وجعل فيها النبات لبني آدم كالحبوب والثمار، وجعل الجبال كالأوتاد للأرض، لئلا تتحرك بأهلها، ومعنى (أرساها) : أثبتها. وجميع هذه النعم إذا تدبّرت فهي متاع للناس والأنعام، يتمتعون فيها وبها، وجعل الله كل ذلك منفعة وفائدة لكم أيها الناس ولأنعامكم التي تركبونها وتأكلون لحمها، وهي الإبل والبقر والغنم.
فإذا جاء وقت مجيء الداهية العظمى وهي القيامة، التي تطم على سائر الطامات، وهي يوم القيامة، أو النفخة الثانية للبعث من القبور، وينسى الإنسان كل شيء قبلها في جنبها، ويتذكر أعماله التي سعى بها في الدنيا، وتبرز، أي تظهر واضحة للعيان الجحيم، لمن يشاهدها ويبصر ويحصّل.
ويأتي الحكم الفاصل في الخلائق بعدئذ، فأما من طغى (أي تجاوز الحدود التي ينبغي للإنسان أن يقف عندها، فكفر وعصى، وتمرد وتكبر) وقدم الحياة الدنيوية على الآخرة، ولم يستعد لها، ولا عمل عملها، فالنار المحرقة هي مأواه ومثواه ومستقره، لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة.
وأما من خاف القيام بين يدي الله عز وجل، وخاف حكم الله فيه يوم القيامة، وأدرك عظمة الله وجلاله، ونهى نفسه عن هواها، وزجرها عن المعاصي والمحارم التي تشتهيها، وردها إلى طاعة مولاها، فالجنة مكانه الذي يأوي إليه، ومستقره ومقامه، لا غيرها.
ثم أورد الله تعالى تساؤل المشركين استهزاء عن ميعاد القيامة، يسألك أيها النبي المشركون المكذبون بالبعث عن وقت رسو أو استقرار القيامة، وميعاد وقوعها، متى يأتي بها الله؟ نزلت بسبب أن قريشا كانت تلح في البحث عن وقت الساعة التي كان(3/2819)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبرهم بها، ويتوعدهم بأمرها، ويكثر من ذلك.
أخرج الحاكم وابن جرير عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن الساعة، حتى أنزل عليه:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) .
أوقف الله تعالى نبيه عليه السّلام بقوله: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) أي في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها؟ أي لست من ذلك في شيء، ولا مصلحة لك في بيانها وهذا تعجب من كثرة ذكره لها، ليس علمها إليك، ولا إلى أحد من الخلق، بل مردها إلى الله تعالى، فهو وحده الذي يعلم وقتها على التعيين، إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه، وما أنت إلا مخوّف لمن يخشى قيام الساعة، فمن خشي الله وخاف عقابه، اتبعك ونجا، ومن كذب بالساعة وخالفك، خسر وخاب، فدع علم ما لم تكلّف به، واعمل بما أمرت به من إنذار.
إن هذا اليوم الذي يسألون عنه واقع حتما، وكأنهم فيه، فإنهم إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر، ورأوا القيامة، استقصروا مدة الدنيا، ورأوا كأنها ساعة من نهار، أو عشية من ضحى يوم. قرّب الله تعالى بهذا أمر الساعة بإخباره أن الإنسان عند رؤيته إياها يظن أنه لم يلبث إلا عشية يوم أو بكرته، فأضاف (الضحى) إلى (العشية) من حيث هما طرفان للنهار. والمراد تقليل مدة الدنيا في نفوسهم إذا رأوا أهوال القيامة.(3/2820)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
تفسير سورة عبس
المساواة في الإسلام وعظة القرآن
نزلت سورة عبس المكية بسبب عبد الله بن أم مكتوم، أثناء تشاغل النبي صلّى الله عليه وسلّم عنه مع جماعة من قريش، فيهم الوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، والعباس، وأبو جهل، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان شديد الحرص على إسلام قريش وأشرافهم، وكان يتحفّى بدعائهم إلى الله تعالى.
أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: نزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل يقول: يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله يعرض عنه، ويقبل على الآخر، فيقول له: أترى بما أقول بأسا؟ فيقول: لا، فنزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2)
وهذا مطلعها:
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 23]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10»
__________
(1) قطب وجهه.
(2) أعرض.
(3) عبد الله بن أم مكتوم.
(4) يتطهر من الذنوب.
(5) الموعظة.
(6) عن سماع القرآن.
(7) تتصدى، أي تتعرض له بالموعظة.
(8) يسرع في طلب الخير.
(9) تتلهى أي تتشاغل عنه.
(10) موعظة.(3/2821)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [عبس: 80/ 1- 23] .
قطّب النبي صلّى الله عليه وسلّم وجهه، وأعرض، لمجيء الأعمى عبد الله بن أم مكتوم إليه يسأله، بقوله: «علمني مما علّمك الله» فكره النبي أن يقطع عليه كلامه مع زعماء الشرك، رجاء إيمانهم، فأعرض عنه، فنزلت هذه الآية.
وما يعلمك يا محمد أنه لعل هذا الأعمى يتطهر من الذنوب والآثام، بالعمل الصالح، بسبب ما يتعلمه منك، أو يتذكر أو يتعظ بما تعلمه، فتنفعه الموعظة.
ثم عاتب الله تعالى نبيه بصراحة، فقال له: أما من استغنى بماله وجاهه عن القرآن ورسالتك، وعن الإيمان والهداية، فأنت تقبل عليه بوجهك وحديثك، وتتعرض له بالموعظة، ولا شيء عليك في أن لا يسلم ولا يهتدي، ولا يتطهر من الذنوب، فإنه ليس عليك إلا البلاغ.
وأما من أتى إليك مسرعا بجد لطلب الهداية والإرشاد إلى الخير، والاتعاظ بآيات الله، وهو يخاف الله تعالى، فأنت عنه تتشاغل، وتعرض. وهذا دليل على وجوب المساواة في الإنذار بين الناس جميعا، لا فرق بين شريف وضعيف ورجل وامرأة.
كلا (كلمة ردع وزجر) زجرا للمخاطب عن الشيء المعاتب عليه، أو عن معاودة مثله، لا تفعل مثل ذلك الفعل مع ابن أم مكتوم، من الإعراض عن الفقير، والتصدي للغني مع كونه ليس ممن يتزكى، وهذه الآيات موعظة وعبرة، جدير بك
__________
(1) في صحائف مكتوبة مشرفة عند الله.
(2) رفيعة القدر منزهة عن الشياطين.
(3) جمع سافر، هم الكتبة من الملائكة.
(4) أعزاء على الله، أتقياء مطيعين لله تعالى. [.....]
(5) أنشأه في أطوار مختلفة وهيأه لما يصلح له.
(6) أحياه.(3/2822)
العمل بموجبها. وهذا يدل على تعظيم شأن القرآن، سواء قبله الكفار أم لا. قال سفيان الثوري:
فكان أي النبي بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم قال: مرحبا بما عاتبني فيه ربي عز وجل، وبسط له رداءه، واستخلفه النبي على المدينة مرتين.
وتلك التذكرة ذات صفتين: إنها تذكرة بينة ظاهرة، مقدور على فهمها، فمن رغب فيها اتعظ بها، وحفظها، وعمل بمقتضاها.
وهي تذكرة مثبتة كائنة في صحف مشرفة عند الله تعالى، لما فيها من العلم والحكمة، وإثباتها في اللوح المحفوظ، وكونها رفيعة القدر عند الله، منزهة، لا يمسها إلا المطهرون، محمولة بأيدي ملائكة وسائط ينقلون الوحي للرسل، لتبليغها للناس، وهم كرام على ربهم، ومترفعون عن المعاصي، أتقياء مطيعون لله عز وجل، صادقون في إيمانهم.
ثم ذم الله تعالى منكر البعث بقوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) أي حقّ قتل الإنسان الكافر، أي هو أهل أن يدعى عليه بهذا، أيّ شيء أكفره؟ أي جعله كافرا.
والمراد: إرادة إيصال العقاب الشديد للكافر.
قيل: إن هذه الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب، وذلك أنه غاضب أباه، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالا، وجهّزه إلى الشام، فبعث عتبة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: إني كافر برب النجم إذا هوى. فدعا عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخذه الأسد وأكله بطريق الشام، أخرجه ابن المنذر عن عكرمة.
من أي شيء مهين خلق الله هذا الكافر بربه؟! فلا ينبغي له التكبر عن الطاعة.
وهو استفهام على معنى التقرير على تفاهة الشيء الذي خلق الله الإنسان منه. خلق الله هذا الكافر بربّه، وقدره أطوارا وأحوالا، وسواه وهيأه لمصالح نفسه. وأتم خلقه وأكمله بأعضائه الملائمة لحاجاته مدة حياته، وزوده بطاقات العقل والفهم وبالحواس المدركة، للاستفادة من نعم الله تعالى، فلا يستعملها في إغضابه.(3/2823)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
ثم يسر الله تعالى خروج هذا الإنسان من بطن أمه ورحمها، ومكنّه من تحصيل الخير أو الشر، قال مجاهد: أراد السبيل عامة، اسم الجنس في (هدى وضلال) أي يسر قوما لهذا، وقوما لهذا. وقال الحسن البصري ما معناه: إن السبيل هي سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان، وتيسيره له: هو هبة العقل.
ثم بعد خلقه له، قبض روحه، وأمر بمواراته في قبر، أي أن يجعل له قبر. وفي ذلك تكريم، لئلا يطرح كسائر الحيوان، ثم إذا شاء الله أنشره، أي أحياه بعد موته، أو بعثه بعد موته. وقوله: ثُمَّ إِذا شاءَ يريد: إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه، وهو يوم القيامة.
كلا، أي هذا ردع وزجر للإنسان عما هو عليه، فلم يخل إنسان من تقصير قط، إما بالكفر، وإما بالعصيان، وإما بارتكاب خلاف الأولى والأفضل لما يليق بمنزلته، ولم يفعل بما أمره الله إلا القليل، وهذا تعجيب من حال الإنسان.
نعم الإله على الإنسان وأهوال القيامة
ذكر الله تعالى من أجل بيان قدرته نعمه في الأنفس البشرية، ثم ذكر دلائل الآفاق، وعدّد النعم التي يحتاج إليها الإنسان، لقوام حياته، لعله يقابل النعمة بالوفاء والشكر والإيمان، ثم حذره مما يلقاه في الآخرة من أهوال القيامة، التي تملأ النفس خوفا ورهبة، ليكون ذلك مدعاة إلى التأمل في الدلائل، وفي المبادرة إلى الإيمان بالموجد الخالق، والإعراض عن الكفر، والتواضع لكل أحد، كما يبدو في هذه الآيات:
[سورة عبس (80) : الآيات 24 الى 42]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)(3/2824)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» [عبس: 80/ 24- 42] .
ليتأمل الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي يتعيش به، وكيف صنعه الله له؟
وهذا منّة بالنعمة المتكررة، واستدلال بإحياء النبات من التراب على إحياء الأجساد بعد البلى. وكيفية إيجاد الطعام: أننا نحن الله أنزلنا الماء من السماء أو السحاب، على الأرض بغزارة وكثرة، وصبّ الماء: هو المطر، ثم أسكناه في الأرض، ثم أروينا البذور في باطن الأرض بالماء، ثم شققناها بالنبات الخارج منها، فارتفع وظهر على وجهها، فوجدت النباتات المختلفة.
فأنبتنا في الأرض الحبوب المقتاتة التي يتغذى بها كالحنطة والشعير والأرز، والأعناب المتنوعة، وأنواع البرسيم لأكل الدواب وعلفها، قال أبو عبيدة:
القضب: الرّطبة، وأهل مكة يسمون القتّ القضب، لأنه يقضب كل يوم. وقال ابن عطية: إن القضب هنا: هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم، غضا من النبات، كالبقول والهليون ونحوه، فإنه من المطعوم جزء عظيم، ولا ذكر له في الآية إلا في هذه اللفظة.
وأوجدنا أيضا بساتين ذات أشجار ضخمة ومتكاثفة كثيرة، وفاكهة: وهي كل ما
__________
(1) هو المأكول الرطب كالبقول.
(2) بساتين ضخمة عظيمة، كثيرة الأشجار.
(3) الكلأ والمرعى.
(4) النفخة التي تقوم بها القيامة.
(5) زوجته.
(6) يصرفه عما عداه.
(7) مضيئة متهللة.
(8) فرحة.
(9) غبار.
(10) تعلوها ألوان السواد كالدخان.
(11) الخارجون عن حدود الدين والعقل.(3/2825)
يتفكه به الإنسان من الثمار، من الفاكهة المعروفة، ومرعى من العشب أو الحشيش للدواب. أي إن (الأبّ) هو المرعى، وقيل: التبن.
وحكمة الإنبات: أننا جعلنا ذلك متعة أو عيشة لكم أيها البشر ولأنعامكم. فإذا جاءت القيامة. ولفظة (الصاخة) في حقيقتها إنما هي لنفخة الصور التي تصخّ الآذان، أي تصمّها، واستعملت في القيامة، والداهية والصيحة المفرطة من قبيل الاستعارة.
إذا جاءت الصاخة ترى المرء يفرّ من أقرب الناس له، من أخيه وأمه وأبيه وزوجته وولده، ويبتعد عنهم، لشدة الهول والخطب، ولكل امرئ منهم يومئذ حال أو شغل يشغله عن الأقرباء، ويصرفه منهم، ويفرّ عنهم، حذرا من مطالبتهم إياه بشيء يهمهم، ولئلا يروا ما هو فيه من الشدة. روي أن الرسل تقول يومئذ: نفسي نفسي، لا أسألك غيري. و (الشأن الذي يغنيه) هو فكره في سيئاته، وخوفه على نفسه من التخليد في النار. والمعنى: يغنيه عن اللقاء عن غيره.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه ابن جرير عن أنس رضي الله عنه- لعائشة رضي الله عنها: «لا يضرّك في القيامة كان عليك ثياب أم لا» ،
وقرأ هذه الآية.
وأحوال الناس في القيامة فريقان: سعداء وأشقياء، عبر عنهم بما يأتي:
وجوه متهللة مشرقة مضيئة، وهي وجوه المؤمنين أهل الجنة، لأنهم علموا إذ ذاك ما لهم من النعيم والكرامة.
ووجوه أخرى في القيامة، عليها غبار وكدورة، والقترة: غبار الأرض، لما تراه مما أعدّه الله لها من العذاب، يغشاها سواد، وذلة وشدة، وأصحاب تلك الوجوه المغبّرة: هم الذين كفروا بالله، فلم يؤمنوا به، ولا بما جاء به أنبياؤه ورسله، وهم الذين اقترفوا المعاصي والسيئات، فهم الفاسقون الكاذبون، الذين جمعوا بين الكفر والفجور، كما جاء في آية أخرى: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 71/ 27] أي إن(3/2826)
الكفار هم الفجار، وليسوا أصحاب المعاصي الكبائر. والكفرة وقت نزول الوحي القرآني: هم قريش وأمثالهم قديما وحديثا.
إن هذا الوصف المرعب ليوم القيامة يستدعي التأمل والنظر، قبل التورط في هذه المآسي التي لا علاج لها، ولا تبديل، والسبيل لتفادي تلك الأهوال: هو الإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر، ويضم العمل الصالح لساحة الإيمان الأصيلة التي هي قاعدة قبول العمل عند الله تعالى، فمن توافر لديه هذان العنصران، نجا وهان عليه الأمر، وضمن السلامة لنفسه.(3/2827)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
تفسير سورة التكوير
تبدلات السماء والأرض يوم القيامة
وصف الله تعالى أحوال القيامة وأهوالها بما يثير الرعب والقلق والوحشة، حيث تبدل السماوات والأرض، ويفاجأ الإنسان بعالم جديد، تنقضّ فيه السماء والنجوم والكواكب، وتزول الجبال من مواضعها وتتبدد، وتحترق مياه البحار، وتعود الأرواح إلى الأموات، وتتطاير الصحف، وتوقد الجحيم وتلتهب، وتقترب الجنة وتتدنى، وتعلم كل نفس ما قدمت من خير أو شر، كما يبين في الآيات الآتية في مطلع سورة التكوير المكية بإجماع المتأولين:
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» «13» [التكوير: 81/ 1- 14] .
هذه كلها أوصاف يوم القيامة، إذا لفّت الشمس وطويت بأن تدار ويذهب بها إلى
__________
(1) لفت وطويت. [.....]
(2) تساقطت وهوت.
(3) أزيلت عن مواضعها.
(4) تركت النوق الحوامل مهملة بلا راع وبلا حلب.
(5) جمعت للقصاص بينها.
(6) أوقدت نارا فاحترقت.
(7) جمعت الأرواح بالأبدان.
(8) البنت المدفونة حية.
(9) صحف الأعمال فتحت وبسطت.
(10) أزيلت مثل كشط الجلد عن الذبيحة.
(11) أوقدت نارها.
(12) قربت وأدنيت.
(13) ما قدمت من خير أو شر.(3/2828)
حيث شاء الله تعالى. وإذا تساقطت النجوم وتناثرت، وإذا أزيلت أو قلعت الجبال عن أماكنها الأرضية، وسيرت في الهواء كالصوف المندوف. وانكدار النجوم: هو انقضاضها وهبوطها من مواضعها.
- وإذا النوق الحوامل، وهي أنفس أموال العرب، تركت مهملة بلا راع ولا حلب، لما دهاهم من الأمر. وإذا جمعت الوحوش ليقتص من بعضها لبعض، يقتص للجمّاء من القرناء، وإذا البحار أوقدت بالبراكين والزلازل، فصارت نارا تضطرم، بعد أن فاض بعضها إلى بعض، وصارت شيئا واحدا.
- وإذا قرنت الأرواح بأجسادها حين النشأة الأخرى، وإذا الفتاة المدفونة في حال الحياة، خوف العار أو الحاجة، سئلت عن أي ذنب قتلت، ليكون ذلك تهديدا لقاتلها، فإنه إذا سئل المظلوم، فما ظن الظالم حينئذ؟ وهذا على وجه التوبيخ للعرب الفاعلين ذلك، وسؤالها لمساءلة الفاعلين.
- وإذا صحف الأعمال عرضت ونشرت للحساب، في موقف الحساب، فكل إنسان يعطى صحيفته بيمينه، فيكون ناجيا، أو بشماله أو من وراء ظهره، فيكون هالكا. وإذا أزيلت السماء، كما يكشط جلد الشاة حين تسلخ. وكشط السماء: هو طيّها كطي السّجل، فلم يبق لها وجود.
وإذا أوقدت النار لأعداء الله إيقادا شديدا وأضرمت نارها، وقربت الجنة وأدنيت لأهلها المتقين المؤمنين ليدخلوها.
وجواب (إذا) في جميع ما ذكر في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) أي تحققت نفس ما أحضرت من شر فدخلت به جهنم، أو من خير فدخلت به الجنة.
ونفس هنا: اسم جنس، أي علمت النفوس. ووقع الإفراد لكلمة (نفس) لينبّه(3/2829)
الذّهن على حقارة المرء الواحد، وقلة دفاعه عن نفسه، والآيات من أول السورة إلى هنا شرط، وجوابه: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) .
هذه أوائل مفاجات البعث، ذكرت بعد مقدماته. وجاء هذا التفصيل، لتفصيل ما أجمل في سورة (ق) عند بيان ما يسبق الحساب، فقال الله تعالى في سورة (ق) :
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) [ق: 50/ 20] . وجاء هنا في سورة التكوير: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) إلى قوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) .
وعلى العكس من ذلك أجمل في سورة التكوير ما يحصل في يوم الحساب، حيث اكتفي بسؤال الموءودة، وتسعير جهنم، وتقريب الجنة، وفي سورة (ق) فصّل الله كثيرا مما يحدث في الحساب، حيث قال الله تعالى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) [50/ 21] . وما جاء بعدها من الآيات الكريمة الدقيقة الوصف، في تقديم القرين من الملائكة ما أوكل به، وما يحدث من جدل حاد بين المرء وقرينه، من الكفرة الجاحدين، ثم تضمهم جميعا جهنم، وتتطلب المزيد من هؤلاء.
وقوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) إجمال يثير الرعب والقلق والخوف، حيث ينسى الإنسان عادة ما قدم في الدنيا، فيفاجأ بما يجده في صحيفته من تفاصيل الأعمال، ولا أمل في تجاوز المخاطر إلا بأن تطفو الحسنات على السيئات، وبأن تعم الرحمة والفضل الإلهي العباد المقصرين.
إن هذا المشهد من تقلبات الدنيا ومألوفاتها يوم القيامة، يعدّ وحده مثارا للمخاوف، وهو بإيجازه يحتاج إلى مئات الصفحات لرصد الدقائق وما يترتب على التبدلات من إنذارات بالعذاب.(3/2830)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
صدق الوحي والنبوة
تصدى القرآن الكريم للرد المفحم على قول قريش في تكذيبهم بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وزعمهم: إنه ساحر وكاهن ونحو ذلك، وتكذيبه يؤدي لتكذيب الوحي الإلهي والقرآن المنزل، على الرغم من إعجاز القرآن وعجز العرب عن محاولة إبطاله أو تفنيده أو محاكاته، مما يدل على أنه كلام الله عز وجل، نزل به الروح الأمين جبريل عليه السّلام، على قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فصار هو قوله المنقول عن رب العزة، ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، وهنا إبطال من جانب آخر لكلام العرب ومزاعمهم في شأن القرآن من طريق قسم الله تعالى بالنجوم والكواكب السيارة، وبالليل، وبالصبح، على أن القرآن هو كلام الله الموحى به بوساطة جبريل عليه السّلام، كما يتضح من الآيات الآتية:
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» [التكوير: 81/ 15- 29] .
لا أقسم، أي أقسم، على عادة العرب في كلامهم أنهم إذا أقسموا على إثبات أمر
__________
(1) الكواكب الرواجع أو المستترة وهي جميع الكواكب.
(2) التي تجري وهي السيارة والتي تستتر في أبراجها تحت ضوء الشمس، وتظهر في أفلاكها للعين ليلا. [.....]
(3) أقبل بظلامه.
(4) ظهر وامتد.
(5) صاحب قوة شديدة.
(6) هذا القرآن قول منقول بواسطة جبريل.
(7) صاحب عزة ومكانة عند الله.
(8) هو الرسول عليه السّلام.
(9) رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم جبريل بصورته الحقيقية.
(10) ببخيل مقصر في التعليم.
(11) مرجوم ملعون مطرود من رحمة الله.
(12) عظة وعبرة.(3/2831)
واضح قالوا: لا أقسم، أي لا يحتاج إلى قسم، وقيل: إن الإتيان ب (لا) في القسم لتعظيم المقسم به.
والمعنى هنا أقسم بالكواكب جميعها التي تخنس، أي تختفي بالنهار تحت ضوء الشمس، وتكنس بالليل، أي تظهر بالليل في أماكنها، كما تظهر الظباء من كنسها، أي بيوتها، والمراد بها: الكواكب السيّارة السبعة: وهي الشمس، والقمر، وزحل وعطارد، والمرّيخ، والزّهرة، والمشتري. وهو رأي الجمهور.
وأقسم بالليل إذا أقبل بظلامه، لما فيه من الرهبة، والصبح إذا أقبل وامتد وظهر وأضاء بنوره الأفق. وجواب القسم هو:
إن هذا القرآن هو تبليغ ونقل رسول كريم عند الله، وهو جبريل عليه السّلام، في قول جمهور الناس، ولجبريل صفات أربع: أنه شديد القوى في الحفظ التام والتبليغ الكامل، وذو رفعة عالية، ومكانة سامية عند الله سبحانه، ومطاع بين الملائكة، يرجعون إليه ويطيعونه، مؤتمن على الوحي والرسالة من ربه، وعلى غير ذلك.
وقوله: ثَمَّ أي عند الله تعالى. وقوله: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ متعلق بقوله: ذِي قُوَّةٍ أو متعلق بقوله مَكِينٍ ومعناه: له مكانة ورفعة. ومُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) معناه:
مقبول القول، مصدّق فيما يقوله، مؤتمن على ما يرسل به ويؤديه من وحي وامتثال أمر.
وليس محمد صلّى الله عليه وسلّم صاحبكم يا أهل مكة بمجنون، كما تزعمون. وقوله تعالى: وَما صاحِبُكُمْ وصف بالصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره، وبأنه أعقل الناس وأكملهم.
وتالله، لقد رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السّلام على صورته الأصلية، له ست مائة جناح، في مطلع أو أفق الشمس الأعلى من قبل المشرق، بحيث حصل له علم بدهي بأنه ملك مقرّب، يطمأن لنزوله بالوحي عليه، لا شيطان رجيم.
وليس محمد صلّى الله عليه وسلّم على ما أنزله الله عليه، من الوحي وخبر السماء، ببخيل مقصر(3/2832)
في التعليم والتبليغ، ثم نفى الله تعالى عن القرآن أن يكون كلام شيطان، حيث ردّ الله على ما قالت قريش: إن محمدا كاهن. أي وليس القرآن بقول شيطان يسترق السمع، مبعد مرجوم بالكواكب واللعنة وغير ذلك، لأن القرآن ليس بشعر ولا كهانة، كما قالت قريش.
فأيّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم؟ وأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن، مع ظهوره ووضوحه، وبيان كونه حقا من عند الله تعالى؟ فهذا تقرير وتوقيف، على معنى: أين المذهب (مقر الذهاب) لأحد عن هذه الحقائق؟! ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين، وتذكير لهم بما ينفعهم، وتحذير لهم مما يضرهم، لمن أراد من البشر أن يستقيم على الحق والإيمان والطاعة، فمن أراد الهداية، فعليه بهذا القرآن، فإنه مناجاة له وهداية، ولا هداية فيما سواه. والذكر هنا: مصدر بمعنى التذكرة. وخصص الله تعالى من شاء الاستقامة بالذكر، تشريفا وتنبيها وبيانا لتكسبهم أفعال الاستقامة.
ثم بيّن الله تعالى أن تكسّب المرء على العموم، في استقامة وغيرها: إنما يكون مع خلق الله تعالى، واختراعه الإيمان في صدر المرء، فقال: وَما تَشاؤُنَ.. أي وما تريدون الاستقامة، ولا تقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله وتوفيقه، فليست المشيئة موكولة إليكم، فمن شاء الله اهتدى، ومن شاء ضل، بل كل ذلك تابع لمشيئة الله تعالى رب الإنس والجن والعالم كله. آمنا بالله وبما يشاء.
روي أنه لما نزل قوله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) قال أبو جهل: هذا أمر قد وكل إلينا، فإن شئنا استقمنا، وإن لم نشأ لم نستقم، فنزلت: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1» .
__________
(1) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى.(3/2833)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
تفسير سورة الانفطار
أمارات القيامة ومصير الناس فيها
سورة الانفطار المكية بالاتفاق كسورتي التكوير والانشقاق تتضمن الكلام على أمارات البعث والتذكير بيوم القيامة، وما فيه من أهوال وتبدلات، وبيان مصير الإنسان: إما إلى الجنة وإما إلى النار، لكن كل سورة تتميز بوصف مظاهر معينة للقيامة، وقد تلتقي السور الثلاث في بيان بعض مصير الظواهر الكونية. وكل سورة من هذه السور تلوم مخالفة الإنسان لربه، مع إنعامه عليه، وتحمله على الاستقامة، لأن كل شيء مدوّن عليه من الملكين الملازمين له، وذلك قبل أن يتقرر مصيره النهائي في القيامة بتسلم كتابه بيمينه أو شماله. وهذه آي الانفطار، أي انشقاق السماء على غير نظام مقصود:
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9»
__________
(1) انشقت.
(2) تساقطت.
(3) شققت جوانبها فصارت بحرا واحدا. [.....]
(4) قلب ترابها الموضوع على موتاها.
(5) ما خدعك وحملك على معصية الله؟
(6) خلقك كامل الأعضاء جميلا.
(7) صيرك معتدلا متناسب الخلق.
(8) الجزاء والحساب.
(9) الذين يعلمون البر ويلتزمونه.(3/2834)
«1» «2» «3» [الانفطار: 82/ 1- 19] .
هذه أوصاف يوم القيامة يذكرنا الله بها، وبما يقدمه الإنسان فيها من خير أو شر، ويجازى عليه. إذا انشقت السماء وتصدعت، وتساقطت الكواكب وتناثرت بعدها، وشققت جوانب البحار فصارت بحرا واحدا، ثم أضرمت النار فيها، وهذه أشراط (أمارات) الساعة، وجواب الشرط:
إذا حدثت هذه الأمور المتقدمة، علمت كل نفس عند انتشار صحائف الأعمال ما قدمت من خير أو شر، وما أخّرت من الأعمال بسبب التكاسل والإهمال.
يا أيها الإنسان المدرك نهاية العالم، ما الذي خدعك وجرّأك على عصيان ربك، الذي خلقك كامل الأعضاء، حسن الهيئة، وصيرك معتدلا متناسب الخلق، لا تفاوت في أعضائك، مزودا بالحواس من السمع والبصر، وفيك العقل والعلم والفهم.
أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في هذه الآية: ما غَرَّكَ قال نزلت في أبي بن خلف. وقيل: في أبي الأشد بن كلدة الجمحي أو في الوليد بن المغيرة.
لقد ركّبك الله في أي صورة شاءها، من أبهى الصور وأجملها، وأنت لم تختر صورة نفسك.
ثم رد الله تعالى على سائر أقوالهم، وردع عنها بقوله سبحانه: كَلَّا ثم أثبت لهم تكذيبهم بيوم الجزاء، وهذا الخطاب عام، ومعناه الخصوص في الكفار.
__________
(1) العصاة الخارجين عن حدود الله.
(2) يدخلونها ويقاسون حرها.
(3) يوم الحساب والجزاء.(3/2835)
ارتدعوا أيها الكفار وانزجروا عن الاغترار بحلم الله وكرمه، والواقع أنكم تكذبون بيوم المعاد والحساب والجزاء، حيث لا يحملكم الخوف من هذا اليوم على التزام طاعة الله واجتناب معاصيه.
ثم زاد في التحذير من العناد والتفريط: أن جميع الأعمال مرصودة على الناس بالملائكة، إن عليكم لملائكة حفظة كراما، فلا تقابلوهم بالقبائح، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم، ويعلمون جميع أفعالكم. ولَحافِظِينَ هم الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم، ووصفهم الله تعالى بالكرم الذي هو نفي المذامّ، ويَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) لمشاهدتهم حال بني آدم.
والناس يوم القيامة فريقان نتيجة كتابة الحفظة أعمال العباد:
إن الأبرار وهم الذين أطاعوا الله عز وجل، ولم يقابلوه بالمعاصي يصيرون إلى دار النعيم وهي الجنة. وإن الفجار: وهم الذين كفروا بالله وبرسله، وقابلوا ربهم بالمعاصي، يصيرون إلى دار الجحيم، وهي النار المحرقة، يدخلونها ويقاسون حرّها، يوم الجزاء والحساب الذي كانوا يكذبون به.
وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) أي لا يفارقون الجحيم ولا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة، ولا يخفف من عذابها، بل هم فيها إلى الأبد، ملازمون لها، كما في آية أخرى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 2/ 167] . وهذا تأكيد في الإخبار عن أنهم يصلونها، وأنهم لا يمكنهم المغيب عنها يومئذ.
ثم وصف الله تعالى يوم القيامة بما فيه غاية التهويل، مؤكدا ذلك مرتين، في قوله: وَما أَدْراكَ.. أي وما أعلمك وما أعرفك ما يوم الجزاء والحساب وكرر الجملة تعظيما لشأن يوم القيامة، وتفخيما لأمره، مما يستدعي التدبر والتأمل.
ثم أعلن الله تعالى قراره الحاسم في شأن الإنسان يوم القيامة، فقال: يَوْمَ لا(3/2836)
تَمْلِكُ نَفْسٌ..
أي إنه اليوم الذي لا يقدر فيه أحد كائنا من كان، على نفع أحد، ولا خلاصه مما هو فيه، إلا بأن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، ولا يملك أحد صنع شيء إلا الله رب العالمين، فهو المتفرد بالسلطان والحكم، وبيده الأمر كله، وترجع الأمور كلها إليه. قال قتادة: والأمر، والله اليوم، لله، ولكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد، ولا يمكّن أحدا من شيء كما مكّنه في الدنيا.
وهذا خبر من الله تعالى بضعف الناس يومئذ، وأنه لا يغني بعضهم عن بعض، وأن الأمر له تبارك وتعالى.
وهو رد قاطع على من يزعم: أن أحد الرسل يتولى الحساب وفصل القضاء، فيدخل من يشاء الجنة، ومن يشاء النار، وهو زعم أقرب إلى السخف والسذاجة والبلاهة منه إلى الجد والحق والعقل.(3/2837)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
تفسير سورة المطففين
وعيد المطففين والمكذبين بيوم الحساب وديوان الشر
سورة المطففين المكية في قول الأكثرين تبين قواعد النظام الاقتصادي والاجتماعي في الإسلام، وتحدد مصير بعض الفاسقين الظالمين، بسبب التطفيف في الكيل والميزان، والتكذيب بيوم الجزاء والحساب، ووصف القرآن بأنه أساطير الأولين، وتهدد الفجار بسوء الحساب وإصلاء الجحيم، وتبرز منزلة الأبرار في جنان النعيم، وتبين ألوان النعم التي ينعمون بها، وتذكّر بمواقف الفجار من المؤمنين واستهزائهم منهم في الدنيا، وسيلقى كل فريق جزاءه العادل، كما تبين الآيات الآتية:
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11»
__________
(1) ويل: مبتدأ وإن كان نكرة، لوقوعه في موقع الدعاء، وللمطففين: خبره، ومعناه: هلاك وعذاب لمن يأخذون شيئا بغير حق، إما بزيادة الوزن أو الكيل أو نقصه.
(2) أخذوا حقوقهم بالكيل.
(3) ينالون حقهم كاملا.
(4) أعطوهم شيئا بالكيل.
(5) ينقصون الكيل والميزان. [.....]
(6) ألا يعلم.
(7) سجل أعمال الفجار.
(8) ظاهر الكتابة.
(9) المعتدي: المتجاوز حدود الشرع. والأثيم: كثير الإثم.
(10) أكاذيبهم وخرافاتهم.
(11) غطى على قلوبهم بأن اسودت من الذنب.(3/2838)
«1» «2» [المطففين: 83/ 1- 17] .
أخرج النسائي وابن ماجه بسند صحيح عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، كانوا من أبخس الناس كيلا، فأنزل الله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
المعنى: هلاك وعذاب وشقاء وحزن دائم للمطففين إيجابا وسلبا، الذين ينالون حقهم كاملا، ويعطون حق غيرهم ناقصا. إذا اكتالوا: أخذوا ما لهم من حق بالكيل، يأخذونه وافيا كاملا، وإذا كالوهم: أعطوهم شيئا بالكيل، ينقصون الكيل والميزان، وهذا مناف للحق والعدل، فإن الله تعالى يأمر بالوفاء في الكيل والميزان، لأن في ذلك إيفاء للحق واستيفاء له، من غير نقص ولا زيادة. والتصرف في مال الآخرين ظلما هو حرام بغير شك. ولا بد فيه من التوبة العاجلة.
ثم توعد الله المطففين بأنه: ألا يعلم أولئك المطففون أنهم مبعوثون ليوم رهيب شديد الهول والفزع: وهو يوم القيامة، فيسألون عما كانوا يفعلون. يوم يقوم الناس من قبورهم أحياء واقفين بين يدي ربهم، للحساب والجزاء. ويختلف الناس فيه بحسب منازلهم، وقد رويت في تقدير مدته آثار، من أربعين سنة، إلى مائة سنة إلى ثلاث مائة سنة، إلى خمسين ألف سنة وغير ذلك، والمعنى: أن كل مدة لقوم ما تقتضي حالهم وشدة أمرهم في ذلك. أما المؤمن فروي أن القيام فيه: هو على ما بين الظهر إلى العصر، أو على بعض الناس على قدر صلاة مكتوبة، والعرق أيضا مختلف في قدره بحسب أحوال الناس، فمنهم من يغمره كله أو إلى أنصاف ساقيه أو إلى فوق، أو إلى أسفل.
__________
(1) لممنوعون من رؤية ربهم.
(2) لداخلوها وذائقو حرها.(3/2839)
كلا: كلمة ردع وزجر لهم عما يرتكبونه من التطفيف والتكذيب. فارتدعوا أيها الفجار الظلمة عما أنتم فيه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب، فإن الفجار ومنهم المطففون أعمالهم مكتوبة في ديوان الشر، أو سجل أهل النار، وهو السجين.
والسجين: فعّيل من السّجن، كسكّير وشرّيب، أي في موقع ساجن وساكر وشارب، فجاء (سجّين) بناء مبالغة.
وما أعلمك أنت ولا قومك ما هو السجّين؟ إنه الكتاب الذي رصدت فيه أسماؤهم، فهو كتاب مسطور بيّن الكتابة، جامع لأعمال الشر، الصادرة من الشياطين والكفرة والفسقة، وهذا السجل هو السجل الكبير أو العظيم، الذي فيه لكل فاجر صحيفة.
وعذاب وهلاك شديد يوم القيامة لمن كذب بالبعث والجزاء، وبما جاء به الرسل، فهؤلاء المكذبون هم الذين لا يصدقون بوقوع الجزاء، ولا يعتقدون بوجوده، ويستبعدون أمره.
وصفات المكذبين يوم الجزء ثلاث وهي:
لا يكذب بيوم الدين (الجزاء) إلا من كان متصفا بهذه الصفات الثلاث: وهي كونه معتديا، أي فاجرا متجاوزا منهج الحق، وأنه أثيم، كثير الإثم، وهو المنهمك في الإثم في أفعاله، من تعاطي الحرام وتجاوز المباح، وأنه إذا تلي عليه القرآن قال:
أساطير الأولين، أي أخبار المتقدمين وأباطيلهم وأكاذيبهم التي افتروها، تلقّاها محمد صلّى الله عليه وسلّم من غيره ممن تقدموه.
وسبب افترائهم على القرآن يستدعي الردع المفهوم من كلمة: كلا، أي ارتدعوا وانزجروا عن هذه الأقوال، فليس الأمر كما زعمتم أيها المعتدون الآثمون، ولا كما قلتم، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله الكريم عليه السّلام. وإنما السبب في(3/2840)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
افترائهم هو كثرة الذنوب والخطايا التي حجبت قلوبهم عن الإيمان بالقرآن، والتي غطّاها الله، ومنع عنها نفاذ الحق والخير والنور إليها، فأعماها عن رؤية الحقيقة. ثم إنهم في الواقع محجوبون عن ربهم يوم القيامة، لا ينظرون إليه كما ينظر المؤمنون.
ويقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ من زبانية جهنم: هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا، فانظروه وذو قوه.
ديوان الخير وأهله
في سورة المطففين إخبار عن سجل أو سجّين أو ديوان الشر للكفار والفجار، وعن ديوان الخير للأبرار، وكل ديوان مليء بأعمال أهله، أما ديوان الشر فدليل على عذاب صاحبه وهو في سجل ضخم، فيه سوءات الفجار، وأما ديوان الخير فيدل على نجاة أهله، وهو في سجل ضخم، فيه عمل الأبرار والصالحين من الثقلين، وأصحابه في نعيم، مترع بألوان النعم المادية والمعنوية، ويقتص أهل البر المؤمنون في الآخرة باستهزائهم من الكفار الذين كانوا يستهزئون منهم في عالم الدنيا، وذلك صريح في الآيات الآتية:
[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 36]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32)
وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8»
__________
(1) جمع برّ، وهو ضد الفاجر والأبرار أصحاب اليمين.
(2) ديوان ضخم لتسجيل عمل الأبرار والصالحين.
(3) الأسرة المكللة المغطاة بالكلّة.
(4) بهجة النعيم.
(5) الرحيق: أجود الخمر غير المسكرة، مختوم أوانيها.
(6) ما يخلط به. [.....]
(7) عين عالية.
(8) هم السابقون كالأنبياء ونحوهم.(3/2841)
«1» «2» «3» «4» «5» [المطففين: 83/ 18- 36] .
ارتدعوا أيها الكفار عن نظرتكم للأبرار، إن كتاب الأبرار وهم المؤمنون المخلصون العاملون المطيعون في ديوان ضخم مخصص لهم، وموجود في مكان عال، وما أعلمك يا محمد أي شيء هو علّيون؟ وهو تعظيم لشأنه، إنه كتاب مسطور، سطرت فيه أسماؤهم وأعمالهم، وهو السجل الكبير، الذي تحضره الملائكة وتحفظه، كما يحفظ اللوح المحفوظ.
- إن أهل الطاعة والإيمان لفي نعيم عظيم يوم القيامة، وفي جنان الخلد على الأسرّة التي في الحجال (جمع حجلة وهي الكلّة) ينظرون إلى ما أعده الله لهم من أنواع النعيم في الجنة، وإلى ما لهم من الكرامات المادية والمعنوية.
إذا رأيتهم عرفت فيهم آثار النعمة والترف، والسرور، في وجوههم، التي تتلألأ بالنور والحسن والبياض.
يسقون من الخمر التي لا غش فيها، ولا يشوبها شيء من الفساد الذي يفسدها، وقد ختم إناؤها بالمسك، فلا يفكّه إلا الأبرار، وآخر طعمه ريح المسك، وفي ذلك فليرغب الراغبون، وليتسابق المتسابقون بالمبادرة إلى طاعة الله، باتباع أوامره، واجتناب نواهيه. ويخلط ذلك الشراب بماء عين تسمى التسنيم ذات مكان عال، وهي التي يشرب منها الأبرار المقربون صرفا، وتمزج لأصحاب اليمين مزجا،
__________
(1) يغمز استهزاء بعضهم بعضا.
(2) فرحين استهزاء بهم.
(3) منحرفون عن الطريق السوي.
(4) لأعمالهم شاهدين عليها.
(5) جوزوا على عملهم الدنيوي.(3/2842)
والمقربون في هذا الموضع: الملائكة المقرّبون عند الله تعالى، أهل كل سماء، كما قال ابن عباس. وكلمة (عينا) إما منصوب على المدح، أو حال من (تسنيم) أو (يسقون) .
ثم وصف الله تعالى أهل الشرك بصفات أربع، وهم أكابر المشركين كأبي جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي، كانوا يضحكون من عمار، وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم.
هذه الصفات: هي أنهم أي كفار قريش وأمثالهم كانوا في الدنيا يستهزئون من المؤمنين، ويسخرون منهم. وإذا مرّ الكفار بالمؤمنين تغامزوا عليهم، محتقرين إياهم، يعيرونهم بالإسلام، ويعيبونهم به، ويتخذونهم هزوا. روي- كما تقدم- أن هذه القصة نزلت في صناديد قريش، وضعفة المؤمنين، أو في علي وجماعة معه من المؤمنين مرّوا بجمع من الكفار في مكة، فضحكوا منهم، واستخفّوا بهم عبثا ونقصان عقل، فنزلت الآية في ذلك.
- ومن صفاتهم: أنه إذا رجع الكفار إلى أهلهم في منازلهم من مجالسهم في السوق رجعوا معجبين بما هم فيه، متلذذين به، يتفكهون بما فعلوا بالمؤمنين، وبما قاموا به من طعن فيهم، واستهزاء بهم.
- وإذا رأى المشركون المؤمنين، وصفوهم بالضلال، لكونهم على غير دينهم وعقائدهم الموروثة، ولاتباعهم محمدا، وتمسكهم بما جاء به، وتركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب، لا يدرى: لا يدرى: أله وجود أم لا؟ فرد الله تعالى على مواقفهم: بأنه لم يرسل هؤلاء المجرمون من قبل الله، رقباء على المؤمنين، يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم وأقوالهم، ولا كلفوا بهم، وإنما كلفوا بالنظر في شؤون أنفسهم.
واقتصاصا منهم ومعاملة لهم بالمثل، في يوم القيامة يضحك أو يهزأ المؤمنون من(3/2843)
الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوبين، قد نزل بهم ما نزل من العذاب، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، معاملة بالمثل، وبيانا أن الكفار الجاحدين هم في الواقع سفهاء العقول والأحلام، خسروا الدنيا والآخرة.
وينظر المؤمنون إلى أعداء الله، وهم يعذبون في النار، والمؤمنون يتنعمون على الأرائك، وهذا وضع دائم خالد، لا يعادله شيء من المؤقت الفاني.
هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين، من الاستهزاء والطعن والتعيير والتنقيص أو لا؟ حقا، لقد جوزي الكفار أتم الجزاء بما كان يقع منهم في الدنيا من الهزء بالمؤمنين والاستخفاف بهم. وهذا تقرير وتوقيف لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته.(3/2844)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
تفسير سورة الانشقاق
أهوال القيامة وأحوال الناس فيها
سورة الانشقاق المكية اتفاقا كسورتي التكوير والانفطار قبلها تصف أهوال القيامة وأحوال الناس فيها، وانقسامهم فريقين: أهل اليمين، وأهل الشمال. وتلك الأهوال الكبرى تثير الرعب والهلع، وتبين مدى ضعف الإنسان، وعجزه، وفقره، في مواجهة المشكلات، حيث لا ينفعه إلا الإيمان والعمل الصالح، فترى هؤلاء الأتقياء في أتم السرور، وترى الأشقياء في أشنع الأحوال وأتم الحزن والكآبة وانتظار الهلاك المتكرر. وذلك واضح في مطلع سورة الانشقاق:
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» [الانشقاق: 84/ 1- 15] .
__________
(1) امتثلت واستمعت له.
(2) أي وحق لها أن تمتثل.
(3) بسطت واتسعت رقعتها بزوال الجبال.
(4) لم يبق في باطنها شيء.
(5) مجاهد ومجدّ في عملك.
(6) سهلا.
(7) هلاكا وموتا. [.....]
(8) يصطلي حر جهنم.
(9) فرحا فرح بطر وتكبر وترف.
(10) يرجع إلى الله.
(11) جواب بعد النفي، أي بلى يرجع.(3/2845)
إذا تصدعت السماء وتشققت، مؤذنة بخراب العالم، وأطاعت ربها وامتثلت له فيما أمر ونهى، وحق لها أن تطيع أمره وتنقاد وتسمع.
وإذا الأرض بسطت وسويت واتسعت بزوال الجبال والآكام، ولفظت وأخرجت ما فيها من الأموات والكنوز، وطرحتهم على سطحها، وتخلت على كل ما فيها، ولم يبق في باطنها شيء.
واستمعت وأطاعت أوامر بها ونواهيه، وحق لها أن تستمع لما يريد الله منها، لأنها في قبضة القدرة الإلهية، وكررت الجملة للتأكيد.
وجواب (إذا) محذوف، لإرادة التهويل على الناس، تقديره: إذا حدث ما حدث، رأيتم أعمالكم من خير أو شر.
يا أيها الإنسان- والمراد به الجنس الذي يشمل المؤمن والكافر- إنك عامل في هذه الحياة، ومجاهد ومجدّ في عملك، جهادا وجدا قويا، لتلقى ربك، وتلقى ما عملت من خير أو شر. والكدح: جهد النفس في العمل حتى تأثرت.
وقوله: فَمُلاقِيهِ عائد في رأي الجمهور على الرب تبارك وتعالى، فالفاء على هذا عاطفة (ملاق) على (كادح) .
ثم ذكر الله تعالى أحوال الناس وانقسامهم إلى فريقين يوم القيامة:
الفريق الأول- المؤمنون الموصوفون بقوله: فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه، وهم المؤمنون، فإنه يحاسب حسابا سهلا، بأن تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله، ويتجاوز عنها، من غير أن يناقشه الحساب، فذلك الحساب اليسير، أخذا بمفهوم الحديث الذي
أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من نوقش الحساب عذّب، قالت، فقلت: أفليس الله تعالى قال:(3/2846)
فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) ؟ قال: ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العرض، ومن نوقش الحساب يوم القيامة عذّب» .
وهذا الذي يحاسب حسابا يسيرا بالعرض، يرجع إلى أهله وعشيرته في الجنة مغتبطا، فرحا مسرورا، بما أعطاه الله عز وجل، وما أوتي من الخير والكرامة.
الفريق الثاني- الكافرون الموصوفون بقوله: وأما من أعطي كتاب أو صحيفة أعماله بشماله، أي من وراء ظهره، حيث تثنى يديه من خلفه، ويعطى كتابه بها، وتكون يمينه مغلولة إلى عنقه، فإذا قرأ كتابه، نادى: يا ثبوراه، أي بالهلاك والخسار، ثم يدخل جهنم، ويصلى حر نارها وشدتها.
يتبين من هذا أن الكافر يؤتى كتابه من ورائه، لأن يديه مغلولتان، وروي أن يده تدخل من صدره، حتى تخرج من وراء ظهره، فيأخذ كتابه بها.
ويقال: إن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد، وفي أخيه الأسود، وكان أبو سلمة من أفضل المسلمين، وأخوه من عتاة الكافرين. وقوله: يَدْعُوا ثُبُوراً معناه: يصيح منتحبا: وا ثبوراه وا حزناه، ونحو هذا مما معناه: هذا وقتك وأوانك، أي احضرني. والثبور: اسم جامع للمكاره، كالويل.
ثم ذكر الله تعالى سببين لعذاب الكافر وهما:
- إنه كان في الدنيا فرحا بطرا، لا يفكر في العواقب، ولا يخاف مما أمامه، وإنما يتبع هواه، ويركب شهواته، تكبرا، لأنه لا يؤمن في الواقع بالآخرة، كما بان في السبب الثاني.
- إن سبب ذلك السرور والبطر: ظنه بأنه لا يرجع إلى الله تعالى، ولا يبعث للحساب والعقاب، ولا يعاد بعد الموت.(3/2847)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)
فرد الله تعالى عليه ظنه قائلا: بَلى أي بلى، إنه سيرجع إلى الله تعالى، وسيعيده إليه ربه كما بدأه، ويجازيه على أعماله، خيرها وشرها، فإن ربه كان به وبأعماله مطلعا خبيرا، لا يخفى عليه منها شيء.
وفي هذا دلالة واضحة على أنه لا بد من دار للجزاء غير دار التكليف، لأن ذلك مقتضى العلم التام، والقدرة الشاملة، والحكمة البالغة.
تأكيد وقوع القيامة
أكد الله تعالى بمناسبات مختلفة غرس عقيدة الإيمان بالبعث على وقوع يوم القيامة، وما يتبعها من أهوال، بقسم صادر من الله تعالى، بآيات كونية، منها في سورة الانشقاق: الشفق الأحمر بعد الغروب، والليل، والقمر، على أن هذا اليوم كائن لا محالة، وأن الناس يتعرضون فيه لشدائد الأهوال. ومع الأسف لا يؤمن بعض الناس بالقرآن وبالقيامة، ولا يصغون لآي القرآن، عنادا منهم وتكبرا، فيجازون أشد العذاب، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا، فله الثواب الدائم غير المنقطع، وهذا ما نصت عليه الآيات الآتية:
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الانشقاق: 84/ 16- 25] .
__________
(1) الحمرة التي تعقب غيبوبة الشمس، مع البياض التابع لها في الأغلب.
(2) أي جمع وضم.
(3) اجتمع وتكامل بدرا.
(4) لتلاقنّ حالا بعد حال، بعضها أشد من بعض، وهي الموت وما يتبعه من أحوال القيامة.
(5) يحفظونه في قلوبهم من شرك أو عصيان وغيرهما من أمراض القلوب.
(6) غير مقطوع.(3/2848)
المعنى: أقسم، ولا: زائدة، أو لنفي كلام سابق قبل القسم، أقسم بالشفق:
وهو الحمرة بعد غروب الشمس إلى وقت العشاء، وبالليل الأسود وما جمع وضم، وستر ما انتشر في النهار، وبالقمر إذا تم واكتمل بدرا، في منتصف كل شهر قمري.
والقسم بهذه الأشياء تنويه بعظمتها وعظمة مبدعها. وجواب القسم هو: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً أي لتصادفن أحوالا بعد أحوال، هي طبقات في الشدة، بعضها أشد من بعض، وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها، ثم يكون المصير الأخير:
وهو الخلود في الجنة أو في النار.
ثم وبخ الله وأنكر على المشركين استبعادهم البعث، بقوله: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) أي فأي شيء يمنعهم عن الإيمان بصحة البعث أو القيامة، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وبما جاء به القرآن؟! مع وجود موجبات الإيمان بذلك، من الأدلة الكونية القاطعة الدالة على قدرة الله على كل شيء، والمعجزات الظاهرة الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصدق الوحي القرآني المنزل عليه.
وأي مانع يمنعهم من السجود والخضوع لله تعالى عند قراءة القرآن الذي دل إعجازه على كونه منزلا من عند الله تعالى؟! ويكون سجودهم تعظيما للقرآن ومنزله، بعد أن علموا كونه معجزا، وهم يتذوقون العربية ويدركون فصاحتها وبلاغتها.
والواقع أن الكفار يكذبون بالكتاب المشتمل على إثبات التوحيد والبعث والثواب والعقاب، إما حسدا، وإما خوفا من ضياع المصالح والمراكز. والله أعلم من جميع المخلوقات بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب، وأعلم بأسباب الإصرار على الشرك أو الكفر، وبجميع الأعمال الصالحة والمنكرة، من أمراض القلوب من حسد وحقد وتكبر وكراهية، وقوله تعالى: يُوعُونَ معناه يجمعون من الأعمال والتكذيب والكفر، كأنهم يحملونها في أوعية.(3/2849)
فأخبرهم أيها النبي بما أعد الله لهم من عذاب مؤلم، واستعمل تعبير البشارة بدلا عن الخبر بالعذاب تهكما بهم واستهزاء منهم.
ثم استثنى الله تعالى من كفار قريش القوم الذين كانوا سبق لهم الإيمان في قضائه، والمعنى: لكن الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر، وخضعوا للقرآن الكريم، وعملوا بما جاء به، والتزموا صالح الأعمال، لهم في الدار الآخرة أجر أو ثواب غير مقطوع ولا منقوص، ولا يمن به عليهم. كما جاء في آية أخرى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 11/ 108] . والاستثناء منقطع في رأي الزمخشري، وقال أكثر المتأولين:
معناه إلا من تاب منهم وعمل صالحا، فله الثواب العظيم. وفي هذا ترغيب بالإيمان والطاعة وزجر عن الكفر والمعصية.
دلت الآيات على أن القادر على تغيير أفلاك السماء من حال إلى حال قادر على البعث وإحياء الإنسان بعد موته، والشواهد والأدلة الكونية ناطقة كلها على قدرة الله على ذلك. إلا أن الكافرين يكذبون بلا حجة ولا برهان، فيكونون جديرين باستحقاق العذاب الأليم، والعذاب حق وعدل، إذ لا يعقل التسوية بين المؤمن الطائع، والكافر العاصي.
وما أجمل الأنس بوعد الله تعالى والتذكير برحمته، حين يجد الإنسان بعد إشاعة جو العذاب والتهديد والوعيد غرس الأمل بالرحمة، لذا كان الأسلوب القرآني في غاية الروعة والبيان، حين يقرن الكلام عن العذاب، بالكلام عن النعيم والرحمة والإحسان، إما قبل أخبار العذاب، أو بعد الإخبار به، فترتاح النفوس وتطمئن القلوب، وتتفتح أبواب الأمل في فكر الإنسان وتذكيره بضرورة العودة إلى جادة الاستقامة والإيمان والتزام العمل الصالح.(3/2850)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)
تفسير سورة البروج
قصة أصحاب الأخدود
إن الصراع بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر قديم وعويص وخطير، حتى إنك تجد أهل الباطل يرتكبون أكبر الجرائم وأخطرها في سبيل نصرة باطلهم، ولكنهم في النهاية تكون الخيبة والخسارة والدمار عليهم، وينتصر الحق وأهله، ويندحر الباطل وجنده، هذه حقيقة، والحقيقة الثانية: هي أن الناس لا يعتبرون من هذه الأمثلة البارزة والشواهد التاريخية الساطعة، وهذا مثل غريب وهو قصة أهل الأخدود كما تصورها الآيات الكريمة في مطلع سورة البروج المكية بالإجماع:
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [البروج: 85/ 1- 11] .
__________
(1) أي منازل الكواكب الاثني عشر، أو النجوم العظام.
(2) يوم القيامة.
(3) الشاهد: من يشهد على غيره، والمشهود: الواقعة المشهود بها على المشهود عليه.
(4) الشق المستطيل في الأرض. [.....]
(5) حضور على عذاب المؤمنين.
(6) وما عابوا منهم.
(7) ابتلوهم بالإحراق، أي أحرقوهم.(3/2851)
يقول الله تعالى: أقسم بالسماء وبروجها: وهي منازل الكواكب أو نجومها العظام، وهي اثنا عشر برجا لاثني عشر كوكبا، وهي التي تقطعها الشمس في سنة، والقمر في ثمانية وعشرين يوما، وهذا القسم بها تنويه بها وتعظيم وتشريف لها.
وأقسم بيوم القيامة الموعود به، وبمن يشهد في ذلك اليوم، وبالمشهود به على المشهود عليه من الوقائع أو الجرائم التي فعلها، كالشهادة على أصحاب الأخدود.
والشاهد: الملائكة الحفظة وغيرهم، والمشهود عليهم: الناس، كما ذكر الترمذي.
لعن أصحاب الأخدود المشتمل على النار ذات الحطب الذي توقد به، وهم قوم من الكفار في نجران اليمن، طلبوا من المؤمنين بالله عز وجل أن يرجعوا عن دينهم وهو توحيد الله، فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدودا (شقا مستطيلا) وأوقدوا فيه نارا، وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فلم يقبلوا منهم، فقذفوهم فيها، وقوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) هو جواب القسم، أي لعنوا وطردوا من رحمة الله. وقوله: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) النار: بدل اشتمال، من كلمة (الأخدود) .
كان من قصة هؤلاء: أن الكفار قعدوا على جانب الأخدود، وجمع المؤمنون، فعرض عليهم الدخول في الكفر، فمن أبى رمي في أخدود النار فاحترق، روي أنه احترق في النار عشرون ألفا.
لقد لعن هؤلاء الكفار الذين عذّبوا المؤمنين في النيران، حين أحرقوا بالنار، قاعدين على الكراسي عند الأخدود، وهم الملك وأصحابه، يشاهدون ما يفعل بالمؤمنين الذين هم قعود على النار، يحاولون إرجاعهم إلى دين الوثنية ويشهدون بما فعلوا يوم القيامة، حيث تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم.
وهذا يدل على أن قلوب الكفرة الذين أقدموا على إحراق أهل الإيمان قاسية، بل(3/2852)
أشد من الحجارة قسوة، تجردوا من الإنسانية والرحمة، وتمكن الكفر والباطل والضلال منهم.
وسبب هذا التعذيب والإحراق بالنار: أن جبابرة أهل الكفر هؤلاء في نجران اليمن، لم ينكروا ولم يعيبوا شيئا على المؤمنين إلا إيمانهم، وتصديقهم بالله تعالى الذي لا يغلب، المحمود على كل حال، مالك السماوات والأرض، وإليه الأمر كله، فهو الحقيق بالإيمان به وبتوحيده، والله شاهد عالم بما فعلوا بالمؤمنين، لا تخفى عليه خافية، وسيجازيهم بالجزاء الأوفى على أفعالهم، وهذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود وأمثالهم، ووعد طيب بالخير لمن عذّب من المؤمنين على دينه، فصبر ولم يتراجع في موقف الشدة.
والجزاء يجمع الفريقين، فإن الذين أحرقوا بالنار المؤمنين والمؤمنات بالله ورسله، ولم يتركوهم أحرارا في دينهم، وأجبروهم إما على الإحراق، وإما على الرجوع عن دينهم، ثم لم يتوبوا من قبيح صنيعهم وفحش كفرهم، فلهم في الآخرة عذاب جهنم بسبب كفرهم، ولهم عذاب الاحتراق بالنار، لأن الجزاء من جنس العمل، وعذاب الحريق تأكيد لعذاب جهنم، أو أن جهنم والحريق: طبقتان من النار.
وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا دليل على إصرارهم على الكفر، وأنهم لو تابوا عن سوء فعلهم، وندموا، لغفر الله لهم، ولكنهم لم يفعلوا.
وأما الذين آمنوا وصدقوا بالله ربا واحدا لا شريك له، وبالرسل وباليوم الآخر والملائكة والكتب الإلهية، وعملوا صالح الأعمال باتباع أوامر الله، واجتناب نواهيه، ومنهم الذين صبروا على نار الأخدود، وثبتوا على دينهم، ولم يرتدوا، لهم بهاتين الصفتين: الإيمان والعمل الصالح، جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها(3/2853)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
الأنهار، وذلك الثواب والنعيم المذكور هو الفوز أو الظفر الكبير الذي لا مثيل له، جزاء إيمانهم وطاعة ربهم.
ليدرك الإنسان الفرق الواضح بين مصير المصرين على الكفر، والصادقين في الإيمان.
القدرة الإلهية
من كمال فضل الله تعالى وتمام رحمته: أن يذكّرنا دائما في المناسبات المختلفة بقدرته التي لا حدود ولا نهاية لها، فهي قدرة تامة، قدرة الخلق والإبداع، والمتابعة، والشمول، والدقة، التي لا يقف أمامها شيء، والتذكير بهذه القدرة فيه ترهيب الكافر، وترغيب المؤمن وتثبيته على الإيمان والشدائد، والصبر على المحن والأزمات، والأمثلة على التنكيل بالكافرين كثيرة في تاريخ الأمم السابقة، كفرعون وجنده وعاد وثمود وقوم تبّع وأصحاب الأيكة ونحوهم، وذلك يتضح في الآيات الآتية:
[سورة البروج (85) : الآيات 12 الى 22]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
«1» «2» «3» «4» [البروج: 85/ 12- 22] .
هذا تأكيد للوعد والوعيد في الآيات السابقة بما يفيد معرفة تمام قدرة الله تعالى على إنقاذ وعيده، وتنفيذ وعده، فإن بطش ربك، أي أخذه بقوة وسرعة، لشديد على المعذبين، عظيم قوي التأثير والنفاذ، مضاعف لمن أراد الله مضاعفة العذاب عليه،
__________
(1) البطش: الأخذ بعنف وشدة.
(2) المحب لمن أطاع.
(3) قادر على التعذيب.
(4) هو اللوح المحفوظ في سدرة المنتهى الذي تكتب فيه مقادير الكائنات.(3/2854)
فإنه سبحانه ذو القدرة الفائقة، الذي ما شاء كان، ويكون لمح البصر أو هو أقرب، وهذا ينشر جو الرهبة أمام كفار قريش وأمثالهم.
ويؤكد تمام القدرة: أن الله تعالى هو الذي بدأ الخلق أول مرة في الدنيا، وهو القادر على أن يعيدهم أحياء بعد الموت، يبدأ الخلق بالإنشاء ويعيد الخلق إليه بالحشر. قال ابن عباس فيما معناه: إن ذلك عام في جميع الأشياء، فهي عبارة عن أنه تعالى يفعل كل شيء، أي يبدئ كل ما يبدأ، ويعيد كل ما يعاد، وهذان قسمان يستوفيان جميع الأشياء.
ثم أكد الله تعالى الوعد الكريم بإيراد خمس صفات له سبحانه وهي:
أنه بالغ المغفرة وواسع الفضل، يغفر، أي يستر ذنوب عباده المؤمنين، إذا تابوا وأنابوا إليه، وأنه بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه وأصفيائه. والمراد به: إيصال الثواب لأهل طاعته على الوجه الأتم.
قوله: الْغَفُورُ الْوَدُودُ صفتا فعل، الأولى ستر على عباده، والثاني لطف بهم وإحسان إليهم.
وأنه تعالى صاحب العرش العظيم، العالي على جميع الخلائق، وصاحب الملك والسلطان، والعظيم الجليل المتعالي، صاحب النهاية في الكرم والفضل، بالغ السمو والعلو.
وخصص الله العرش بإضافة نفسه إليه تشريفا للعرش، وتنبيها على أنه أعظم المخلوقات. والمجيد بالكسر في قراءة جماعة صفة للعرش، وذلك يدل على أن المجد والتمجّد قد يوصف به كثير من الموجودات. وبالرفع في قراءة الجمهور: صفة لله تعالى.
ثم أخبر الله تعالى نبيه بقصة فرعون وثمود للإيناس والتثبيت، فهل أتاك أيها النبي(3/2855)
خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم، والتي جندت جنودها لقتالهم؟ أو هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، لغلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال؟ ومنهم: فرعون وجنوده، وقبيلة ثمود من العرب البائدة، قوم صالح عليه السّلام، والمراد بحديثهم:
ما وقع منهم من الكفر والعناد، وما حلّ بهم من العذاب.
ومعنى الآية: فاجعل هؤلاء الكفرة الذين يخالفونك وراء ظهرك ولا تهتم بهم، فقد انتقم الله تعالى من أولئك الأقوياء الأشداء، فكيف بهؤلاء؟! والجنود: الجموع المعدّة للقتال، والتوجه نحو غرض واحد. وذكر فرعون وحده هنا لأنه هو رأس قومه وآله.
ثم ترك القول بحال فرعون وثمود، وأضرب عنه إلى الإخبار بأن هؤلاء الكفار بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا حجة لهم عليه ولا برهان، بل هو تكذيب مجرد سببه الحسد، أي إن الواقع القائم أن هؤلاء المشركين العرب في تكذيب شديد لك أيها النبي، ولما جئت به، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار.
ثم توعدهم الله تعالى بقوله: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) أي إن الله تعالى قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بأولئك، قاهر الجبارين لا يفوتونه ولا يعجزونه، فهو مقتدر عليهم، وهم في قبضته لا يجدون عنها مهربا.
ثم رد الله تعالى على تكذيب قريش بالقرآن، فقال: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) أي إن هذا القرآن الذي كذّبوا به شريف الرتبة في نظمه وأسلوبه، حتى بلغ حدّ الإعجاز، متناه في الشرف والكرم والبركة، وليس هو كما يزعمون بأنه شعر وكهانة وسحر، وإنما هو كلام الله تعالى المصون عن التغيير والتحريف، المكتوب في اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب.
إن هذا الكلام إضراب عن تكذيب القرشيين وإبطال له ورد عليه، بالإخبار بأن(3/2856)
هذا الكتاب قرآن مجيد، أي لا مذمة فيه، وهو كلام الله المنزل من اللوح المحفوظ الذي فيه جميع الأشياء. واللوح المحفوظ: شيء أخبرنا الله به، فيجب علينا الإيمان به، كما أخبر الله تعالى، وإن لم نعرف حقيقته، والغيبيات المجهولة عنا كثيرة، الجهل بها ينشر الهيبة، ويشيع الخوف من مفاجآتها.(3/2857)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
تفسير سورة الطارق
إثبات البعث وصدق القرآن
في سورة الطارق المكية بالإجماع كسورتي الانشقاق والانفطار: قسم من الله تعالى على إمكان حدوث البعث، وإثباته ثبوتا قطعيا، وردّ على المشركين المكذبين به، وإخبار بأن الله تعالى هو خالق الإنسان من العدم، والقادر على البدء والإنشاء، قادر على الإعادة بعد الموت، ويوم القيامة يوم مكشوف تنكشف فيه جميع الأشياء من غير أستار ولا غيبيات، ويكون الإنسان محل الحساب والجزاء، دون أن يكون له نصير أو شفيع، أو قدرة على الهرب، والقرآن الذي أخبر بقيام البعث في وقت معين عند الله تعالى هو كلام الله المحكم، الذي فصل بين الحق والباطل، كما تقرر الآيات في مطلع سورة الطارق:
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» [الطارق: 86/ 1- 17] .
__________
(1) النجم الطالع ليلا.
(2) المضيء ظلام الليل.
(3) ماء مدفوق، أي مصبوب.
(4) الصلب: عظام الظهر أي فقاره، والترائب: عظام الصدر التي يوضع عليها القلادة، جمع تريبة.
(5) تختبر وتكشف مكنونات الصدور.
(6) المطر الذي يعود للأرض من السماء.
(7) الشق. [.....]
(8) فارق بين الحق والباطل.
(9) المكر والتدبير لإبطال الإسلام.
(10) أنظرهم أو أمهلهم.(3/2858)
المعنى: أقسم بالسماء البديعة، والكوكب المنير البادي ليلا، وما أعلمك ما حقيقته أيها النبي؟ إنه النجم المضيء ليلا لتبديد شدة الظلمة، كأنه يخرق أو يثقب حجب الظلام، والقسم بالكواكب للدلالة على أن لها خالقا مدبرا منظما لها.
والطارق: اسم جنس لكل ما يظهر أو يأتي ليلا، فسره ما بعده بأنه النجم الثاقب.
وجواب القسم: ما كل نفس إلا عليها من الله حافظ، يحرسها من الآفات، وهم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها، وما تكسبه من خير أو شر. وكلمة (لما) بمعنى إلا، و (إن) على ذلك: نافية، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ.
ثم نبّه الله تعالى الإنسان إلى مبدأ خلقه ليتعظ، ويستدل به على إمكان المعاد، في قوله: فَلْيَنْظُرِ أي فعلى الإنسان أن يتفكر في كيفية بدء خلقه، ليعلم قدرة الله على ما هو دون ذلك من البعث، إنه خلق من ماء مدفوق مصبوب في الرحم، وهو ماء الرجل وماء المرأة، وقد جعلا ماء واحدا لامتزاجهما. يخرج من ظهر الرجل في النخاع الشوكي الآتي من الدماغ، ومن بين ترائب المرأة، أي عظام صدرها، أو موضع القلادة من الصدر. والولد يتكون من اجتماع الماءين، ثم يستقر الماء المختلط في الرحم، فيتكون الجنين بإرادة الله تعالى.
إن الله تعالى قادر على إرجاع الإنسان إليه، أي إعادته بالبعث بعد الموت، لأن من قدر على البداءة والإنشاء، قادر على الإعادة والإحياء مرة أخرى. وإرجاعه يوم القيامة يوم تختبر وتعرف السرائر، أي مكنونات النفوس والقلوب من العقائد والنيات والأسرار وغيرها.
وليس للإنسان حين بعثه من قوة في نفسه أو من غيره، يمتنع بها من عذاب الله،(3/2859)
ولا يجد ناصرا ينصره، فينقذه مما نزل به، أي فليس له قوة ذاتية ولا قوة خارجية من غيره، لإنجاء نفسه من عذاب الله تعالى.
أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) قال: نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي، كان يقوم على الأديم (الجلد) فيقول: «يا معشر قريش، من أزالني عنه، فله كذا» ويقول: إن محمدا يزعم أن خزنة جهنم تسعة عشر، فأنا أكفيكم وحدي عشرة، واكفوني أنتم تسعة» فنزلت هذه الآية: فَلْيَنْظُرِ ...
ثم قال تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) أي إنني أقسم قسما آخر بالسماء ذات المطر الذي يعود إلى الأرض من السماء، أي السحاب، فيحيي الأرض بعد موتها، وينبت النبات، والأرض ذات الصدع: وهو الشق الذي يحدث من تصدع الأرض وتشققها، فيخرج من الأرض النبات والثمار والشجر والمعدن والكنز والثروة النفطية والمائية، وجواب القسم: ان آي القرآن لقول فصل، يفصل بين الحق والباطل، ولم ينزل باللعب واللهو، فهو جد لا هزل فيه، وكلام من الله تعالى ليس هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، تنزيل من حكيم حميد. ثم أوعد الله تعالى المكذبين بالقرآن بقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ.
أي إن صناديد قريش في مكة وأمثالهم يدبرون المكائد للنبي صلّى الله عليه وسلّم لإبطال ما جاء به من الدين الحق، وللصد عن سبيل الله وعن القرآن، بالقول بأن القرآن أساطير الأولين، وبأن محمدا ساحر أو مجنون أو شاعر، ويتآمرون على قتله. ولكن الله تعالى يدبر لهم تدبيرا آخر، يستدرجهم في عصيانهم، ثم يجازيهم جزاء كيدهم.
ثم وعد الله رسوله بالنصر، بقوله فيما معناه: أخر أيها النبي الكافرين وأنظرهم، ولا تدع عليهم بهلاكهم، ولا تستعجل به، وارض بما يدبره الله لك في أمورهم، وأمهلهم إمهالا يسيرا قليلا أو قريبا، فسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال، والعقوبة والهلاك، وهذا تكرار للمعنى بطريق المبالغة.(3/2860)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
تفسير سورة الأعلى
التسبيح والتذكير وإيثار الدنيا
كل سورة من سور القرآن الكريم مهما صغرت أو قل عدد آياتها، فيها العقيدة، وأصول العبادة، والأخلاق بتزكية النفس، والتحذير من الاغترار بالدنيا، والتوجيه نحو العمل الصالح للآخرة الباقية. وهذا الاتجاه هو منهج القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة وصحف إبراهيم وشيث وموسى. وهذا أنموذج للحياة الإسلامية في سورة الأعلى المكية في قول الجمهور:
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» «13» «14» «15» [الأعلى: 87/ 1- 19] .
__________
(1) نزه الله عما لا يليق به.
(2) جعله سويا متناسب الأجزاء متقنا.
(3) قدر لها مقادير مخصوصة.
(4) أرشد وعرف طريق الانتفاع بالمخلوقات.
(5) هشيما يابسا.
(6) مائلا للسواد.
(7) نوفقك لأعمال الخير.
(8) عظ وبلّغ الرسالة.
(9) يخاف الله.
(10) الكافر.
(11) يدخل النار ويحرق فيها. [.....]
(12) فاز ونجا من تطهر من الكفر والمعصية وأصلح نفسه.
(13) خشع لله.
(14) تفضلون الدنيا على الآخرة.
(15) الكتب أو المدونات المنزلة سابقا.(3/2861)
نزه الله وقدسه ومجده عن النقائص والأغيار المغايرة له جميعا وعما يقول المشركون، والمراد باسم ربك: المسمى وهو الرب، ويقصد بهذا الأمر: تنزيه الله تعالى مطلقا، والأعلى الأجل والأعظم من كل ما يصفه به الواصفون، فهو العالي والأعلى كالكبير والأكبر.
وصفات الرب الأعلى: أنه الذي خلق الكائنات جميعها، ومنها الإنسان، وسوّى كل مخلوق في أحسن الهيئات، فعدل قامته، وناسب بين أجزائه، وجعلها متناسقة محكمة، غير متفاوتة ولا مضطربة، فقوله: فَسَوَّى عدّل وأتقن.
والذي قدر لكل مخلوق ما يصلح له، من المقادير المخصوصة، فأرشده وعرفه وجوه الانتفاع بالأشياء. فقوله: قَدَّرَ معناه: التقدير والموازنة بين الأشياء.
والذي أنبت العشب الذي ترعاه الدواب، والنبات والزرع الذي يأكله الإنسان، ثم جعل ذلك المرعى بعد اخضراره باليا هشيما جافا أسود يابسا.
ثم وعد الله نبيه تثبيت القرآن في قلبه، فإنا سنجعلك أيها النبي قارئا، بأن نلهمك القراءة، فلا تنسى ما تقرؤه.
قال مجاهد والكلبي: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، لم يفرغ جبريل من آخر الآية، حتى يتكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم بأولها، مخافة أن ينساها، فنزلت: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) بعد ذلك شيئا، فقد كفيتكه.
وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات.
إنك ستحفظ القرآن المنزل إليك، ولا تنساه، إلا ما شاء الله أن تنساه، فإن أراد أن ينسيك شيئا، فعل. قال الحسن البصري وقتادة ومالك بن أنس: هذه الآية في معنى قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
[القيامة: 75/ 16- 18] . وعده الله تعالى أن يقرئه، وأخبره أنه لا ينسى نسيانا لا يكون بعده تذكّر فيذهب الآية، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحرك شفتيه،(3/2862)
مبادرة، خوفا منه أن ينسى. وفي هذا التأويل آية للنبي صلّى الله عليه وسلّم في أنه أمي، وحفظ الله تعالى عليه الوحي، وأمّنه من نسيانه.
ثم أكد الله تعالى الوعد بالإقراء وعدم النسيان، بأن الله يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
ثم بشر الله نبيه ببشارة أخرى وهو توفيقه للأيسر في أحكام الشريعة، إنا نسهل عليك أفعال الخير وأقواله، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا، ونوفقك للطريقة اليسرى.
والمعنى بإيجاز: نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في دنياك وأخراك، من النصر والظفر وعلو الرسالة والمنزلة يوم القيامة، والرفعة في الجنة.
ثم أمره الله تعالى بالتذكير، فعظ أيها النبي الناس بالقرآن، وأرشدهم إلى سبل الخير، واهدهم إلى شرائع الدين، وذلك إن نفع التذكير، وهذا اعتراض على جهة التوبيخ لقريش، أي ان نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة، سيتذكر ويتعظ من يخشى الله تعالى والدار الآخرة، وهم العلماء والمؤمنون، كل بقدر ما وفّق، ويتجنب الذكرى ونفعها من سبقت له الشقاوة فكفر، ووجب له صلي النار الكبرى، والخلود في عذابها.
إن المخلّد الذي يدخل النار يبقى فيها على الدوام، فلا يموت فيها، فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياة طيبة هانئة ينتفع بها أو يسعد بها.
لقد فاز ونجا من العذاب من تطهر من الشرك والمعصية، فآمن بالله ووحده وعمل بشرائعه وتعهد نفسه بالتزكية والتهذيب والتطهر من الرذائل والمفاسد.
ثم أخبر الله تعالى الناس: أنهم يؤثرون الحياة الدنيا، فالكافر يؤثرها فلا يؤمن بالآخرة، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس إلا من عصم الله تعالى، ولكن(3/2863)
الآخرة ونعيمها أفضل وأدوم من الدنيا، وثواب الله في الآخرة خير من الدنيا وأبقى، لأن الدنيا فانية، والآخرة باقية.
ثم أعلم الله تعالى أن الشرائع واحدة في أصولها وآدابها العامة، فإن كل ما ذكر من فلاح من تزكى، وتذكّر الله تعالى، وإيثار الناس الدنيا، ثابت في صحف إبراهيم العشر، وصحف موسى العشر غير التوراة، فقد تتابعت كتب الله تعالى أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا.(3/2864)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
تفسير سورة الغاشية
القيامة وأحوال الناس فيها
لن يجد الإنسان مهما تعرض له من محن وأزمات وكوارث وفتن أشد على نفسه من القيامة التي سميت بالغاشية، أي الداهية في سورة الغاشية المكية بالإجماع، فهي تذهل بها النفوس، وترتعد القلوب، وتنهار العزائم، وترى الناس فيها أحد فريقين لا ثالث لهما: فريق الجنة، وفريق السعير، والفرق بينهما كبير جدا، والإخبار القرآني عن القيامة وأهوالها إنذار وتحذير سابق قبل المفاجأة المذهلة، كما يبدو في هذه الآيات في مطلع سورة الغاشية:
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» [الغاشية: 88/ 1- 16] .
__________
(1) يوم القيامة، سميت بالغاشية لغشيان الناس بعذابها.
(2) ذليلة.
(3) عاملة تعبة في الدنيا.
(4) تدخل نارا متناهية في الحر.
(5) من ينبوع الماء الشديد الحرارة.
(6) نوع من الشوك لا ترعاه دابة لشدة مرارته.
(7) لغوا لا فائدة فيه.
(8) ينبوع لا ينقطع.
(9) أسرّة عالية.
(10) آنية بلا عرى ولا خراطيم. [.....]
(11) وسائد.
(12) بسط فاخرة.(3/2865)
هَلْ أَتاكَ؟ إخبار، يفيد في تحريك نفس السامع إلى تلقّي الخبر، فهل أتاك أيها النبي حديث القيامة وعلمت خبره؟ وسميت القيامة غاشية، لأنها تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها وتغييرها لبنية العالم.
وأحوال الناس في القيامة فريقان: أشقياء النار، وسعداء الجنة، ففي القيامة أصحاب وجوه خاشعة ذليلة متغيرة بالعذاب هي وجوه الكفار، عاملة في الدنيا، متعبة فيها، لكن لا ثمرة لعاملها إلا النصب، أي التعب، فتكون خاتمتها النار، لأنها على غير هدى، أي إنهم كانوا يعملون في الدنيا عملا كثيرا، ويتعبون أنفسهم في العبادة، ولا أجر لهم عليها، لما هم عليه من الكفر والضلال، ولأن الإيمان بالله تعالى ورسوله شرط قبول الأعمال.
وجزاء هؤلاء يوم القيامة في قوله تعالى: تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) أي تدخل تلك الوجوه نارا شديدة الحرارة، وتقاسي حرها، وتعذب فيها، لخسارة أعمالها، وتسقى إذا عطشوا من ماء عين، أي ينبوع، آنية، أي متناهية الحرارة، فهي لا تطفئ لهم عطشا. فالحامية: المسعّرة التوقد المتوهجة. والآنية: التي قد انتهى حرها. وليس لهم طعام يتغذون به إلا الضريع: وهو شوك يابس شديد المرارة والضر، يقال له في لغة أهل الحجاز الشّبرق إذا كان رطبا. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة: الضريع شبرق النار.
وهذا الطعام الذين يتغذون به لا يحصل به مقصود، ولا يندفع به محذور، فلا يسمن آكله، ولا يدفع عنه الجوع.
وهناك طعام آخر لأهل النار: وهو الغسلين والزقّوم، قال الله تعالى: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) [الحاقة: 69/ 36] . وقال سبحانه: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) [الدخان: 44/ 43- 44] .(3/2866)
ولما ذكر الله تعالى وجوه أهل النار، عقّب ذلك بذكر وجوه أهل الجنة، ليبين الفرق، فقال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) .
أي ووجوه يوم القيامة ذات نعمة وبهجة، ونضرة وحسن، يعرف النعيم فيها، أو متنعمة، كما قال الله تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) [المطففين: 83/ 24] .
وهي وجوه السعداء، لما شاهدوا من عاقبة أمرهم وقبول عملهم، فهي لعملها الذي عملته في الدنيا ولطاعتها راضية، أي رضيت عملها، لأنها قد أعطيت من الأجر ما أرضاها.
ثم وصف الله تعالى دار الثواب وهي الجنة بسبعة أوصاف وهي:
- إن أصحاب الوجوه الناعمة (المتنعمة) وهم المؤمنون السعداء في جنة رفيعة المكان، بهية الوصف، آمنة الغرفات، أي إن علو الجنة: من جهة المسافة والمكان، ومن جهة المكانة والمنزلة أيضا، لأن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض.
- ولا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة لغو وهذيان، لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم الله من النعيم الدائم، وحقّ لهم الحمد والشكر الذي لا يوصف، وجعلنا الله منهم.
وفي الجنة ينبوع أو عين ماء تجري مياهها وتتدفق بأنواع الأشربة المستلذة الصافية، والمراد بها جنس، أي عيون جاريات. وفيها أسرّة عالية مفروشة بما هو ناعم الملمس، كثيرة الفرش، مرتفعة السّمك، إذا جلس عليها المؤمن، استمتع بها، ورأى رياض الجنة ونعيمها، كما في آية أخرى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) [الواقعة: 56/ 34] .
- وفي الجنة: أكواب، أي أواني الشرب وأقداح الخمر غير المسكرة، معدّة مرصودة بين أيديها، يشربون منها متى أرادوا، وفيها وسائد مصفوفة، بعضها إلى(3/2867)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
بعض، للجلوس عليها أو الاستناد إليها، وفيها بسط مبسوطة في المجالس، وطنافس (سجاد) لها خمل رقيق ناعم، مفرّقة في المجالس، كثيرة، تغري بالجلوس عليها، ويستمتع الناظر إليها، وفيها الأبهة والمتعة والجمال والفخامة. والأكواب: أوان كالأباريق لا عرى لها ولا آذان ولا خراطيم، وموضوعة: معناه بأشربتها معدة، والنّمرقة: الوسادة، والزرابي، واحدتها: زربيّة، وهي كالطنافس لها خمل، وهي ملونات، ومبثوثة: كثيرة متفرقة.
مظاهر القدرة الإلهية
أقام الله تعالى الحجة في آيات كثيرة على منكري قدرته على بعث الأجساد، بأن حدد لهم مواضع العبرة في مخلوقاته، ولفت أنظارهم إلى التأمل في المشاهد الحسية المحيطة بهم، من عظمة السماء وعلوها، وما فيها من كواكب عظيمة، والأرض وما تشتمل عليه من سهول وبقاع مسطحة، يسهل الانتفاع بها والعيش عليها، والجبال الثوابت الراسخات فوقها لتثبيتها، والحيوانات ذات الأحجام المتفاوتة من الإبل الكبيرة إلى الزلاحف الصغيرة، فمن خلق هذه الأشياء وغيرها، فهو القادر على خلق الناس مرة أخرى وإعادتهم أحياء للحساب والجزاء، كما يتضح في هذه الآيات:
[سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 26]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
«1» «2» [الغاشية: 88/ 17- 26] .
__________
(1) بمتسلط مسيطر على الناس، بقهر وتكبر.
(2) رجوعهم.(3/2868)
أخرج ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وعبد بن حميد، عن قتادة قال: لما نعت الله ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) هذه طائفة من الأدلة على وجود الله ووحدانيته وقدرته، على الناس أن ينظروا فيها، ويتأملوا بعجيب خلقها، ليهتدوا إلى الإيمان باليوم الآخر. كيف يصح للمشركين إنكار البعث واستبعاد وقوعه؟ وهم يشاهدون الإبل التي هي غالب مواشيهم وأكبر مخلوقاتهم في بيئتهم، كيف خلقها الله على هذا النحو البديع، من عظم الجثة، وقوة الجسد، وجمال الوصف، فهي خلق عجيب، وتركيب غريب. ومع ذلك تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للولد الصغير، وتؤكل بعد الذبح، وينتفع بأوبارها، وألبانها، وجلودها، وتصبر على الجوع والعطش.
ودليل آخر هو: ألا يشاهدون السماء كيف رفعت فوق الأرض بلا عمد؟! وينظرون إلى الجبال الضخمة العالية المنصوبة على الأرض، فإنها ثابتة لئلا تميد الأرض بأهلها أثناء دورانها.
وينظرون إلى الأرض كيف بسطت ومدت ومهّدت، ليستقر عليها سكناها، وينتفعوا بما فيها من خيرات ومعادن دفينة، وما تخرجه من نباتات وزروع وأشجار متنوعة، بها قوام الحياة والمعيشة.
وتسطيح الأرض إنما هو بالنسبة للناظر إليها من كثب (أي قرب) ، والمقيم عليها في بعض نواحيها، ولا يعني ذلك أنها ليست بكروية، لأن الكرة- كما ذكر الفخر الرازي- إذا كانت في غاية العظمة، يكون كل قطعة منها كالسطح.
وإنما ذكرت هذه المخلوقات دون غيرها، لأنها أقرب الأشياء إلى الإنسان الناظر فيها.(3/2869)
ثم أمر الله نبيه بالتذكير بهذه الأدلة والبراهين الحسية، فقال فَذَكِّرْ أي فذكر أيها النبي الناس بما أرسلت به إليهم، وعظهم وخوفهم، ووجّههم للتأمل بهذه الشواهد الدالة على قدرة الله على كل شيء، ومنها البعث والمعاد، وليس عليك إلا التذكير فقط، فإنما بعثت لهذا الغرض، ولا سلطان ولا سيطرة لك عليهم، لحملهم على الإيمان بالله تعالى ربا واحدا لا شريك له، وتصديقهم بجميع رسالتك، رسالة الخير والإنقاذ والسعادة والنظام، فإن آمنوا فقد اهتدوا، وإن أعرضوا فقد ضلوا وكفروا وشقوا.
لكن من تولى عن الوعظ والإرشاد والتذكير، وكفر بقلبه ولسانه، فيعذبه الله في الآخرة بعذاب جهنم الدائم، عدا عذاب الدنيا من قتل وأسر واغتنام مال، لأنه إذا كان لا سلطان لك عليهم، فإن الله تعالى هو المسيطر عليهم، لا يخرجون عن قبضته وقوته وسلطانه. والعذاب الأكبر: عذاب الآخرة، لأنهم قد عذّبوا في الدنيا بالجوع والقتل وغيرهما. فقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى الصحيح أن الاستثناء منفصل أو منقطع.
ثم أكد الله تعالى وقوع البعث والحساب والعذاب، سواء اعتقد المشركون ذلك أم لم يعتقدوا، فقرار الله تعالى حاسم، وهو: إن إلينا مرجعهم ومصيرهم، ونحن نحاسبهم على أعمالهم بعد رجوعهم إلى الله بالبعث، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فلا مفر للمعرضين، ولا خلاص للمكذبين من العقاب.
إن توكيد قرار وقوع البعث والقيامة دليل على أنه لا مفر لأحد من تطبيق قانون العدالة المطلق، حتى لا يغبن أحد في عمله، فليس من الحق والعدل والمعقول أن يتساوى المحسنون والأشرار، والمستقيمون والفجار، والمؤمنون والكفار، فمن آمن وأطاع، حق له الإنعام والتقدير والإحسان، ومن كفر وعصى كان بدهيا أن يلقى جزاءه العادل على عمله الذي اختاره في الدنيا.(3/2870)
وَالْفَجْرِ (1)
تفسير الفجر
حتمية العذاب وطبع الإنسان
من قواطع الأحكام الإلهية أن الثواب للمؤمنين حق وحتم، والعقاب للكافرين حق وحتم، إنصافا للخلائق، واحتراما للمبادئ، ومصداقية مع الشرائع، وكان من فضل الله ورحمته أن أخبرنا عن أمثلة لعذاب الكفار في الدنيا، ليرتدع الفاجر ويؤمن الكافر، ولكن الإنسان يهمل العبر والمواعظ، ويتعجل الأمور، فإذا أنعم الله عليه نعمة دائمة رضي واطمأن، وإذا حجب الله عنه نعمة أو نزلت به فاقة أو مصيبة، جزع ونقم، وهذا واضح من طبع الإنسان في الدنيا، كما تخبر به الآيات الآتية في مطلع سورة الفجر المكية عند جمهور المفسرين:
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» «13» «14» «15»
__________
(1) وقت الإصباح.
(2) الليالي العشر الأولى من كل شهر قمري.
(3) الزوج والفرد من الليالي.
(4) أي يسري: يجيء ويمضي.
(5) عقل.
(6) قبيلة من العرب البائدة في الأحقاف جنوبي الجزيرة العربية.
(7) لقب لقبيلة عاد، ذات الأعمدة الرفيعة.
(8) قبيلة من العرب البائدة في الحجر بين الشام والحجاز.
(9) قطعوا الصخر ونحتوه.
(10) الأبنية الثابتة كالأوتاد. [.....]
(11) تجاوزوا الحد.
(12) أنزل عليهم العقوبة متتابعة.
(13) نوع عذاب ينزل بهم.
(14) يرصد ويراقب أعمال العباد.
(15) اختبره.(3/2871)
«1» [الفجر: 89/ 1- 16] .
المعنى: أقسم بوقت الفجر أو الصبح الذي يظهر فيه النور، لبدء النهار، وبالليالي العشر من بدء كل شهر قمري، ومنها العشر الأوائل من ذي الحجة، وبالزوج والفرد من تلك الليالي ومن كل الأشياء، وبالليل إذا جاء وأقبل، ثم ذهب وأدبر، وجواب القسم: محذوف تقديره: لتبعثن.
أليس في هذا القسم بهذه الأشياء العظيمة قسم كاف يقنع كل ذي عقل أو لبّ؟
و (الحجر) : العقل، والمعنى: فيزدجر ذو العقل، وينظر في آيات الله تعالى. ثم ذكر الله تعالى مصارع الأمم الخالية الكافرة، وما فعل بها من التعذيب والإهلاك، لتوعد قريش، وبيان الأمثال لها. ألم تعلم يا إنسان، كيف أهلك الله قبيلة عاد الأولى، التي كانت تسكن في بلاد الأحقاف، في جنوب شبه الجزيرة العربية، والتي لها اسم آخر:
هو إرم، وكانت ذات مباني عالية، وهذا كناية عن الغنى وبسط العيش، ولم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد المختلفة، أي في زمانهم. فكلمة (إرم) هي قبيلة عاد بعينها، كان نبيها هودا عليه السّلام.
ثم ألم تعلم أيضا ما فعل الله بقبيلة ثمود قوم صالح عليه السّلام، الذين قطعوا الصخر ونحتوه، وبنوا بالأحجار بيوتا يسكنون فيها، وقصورا عظيمة، في الحجر: ما بين الشام والحجاز، أو وادي القرى. وما فعل الله أيضا بالجبار فرعون حاكم مصر في عهد موسى عليه السّلام، الذي كان صاحب المباني العظيمة، الثوابت كالأوتاد المغروزة في الأرض، ومنها الأهرامات التي بناها الفراعنة لتكون قبورا لهم.
هؤلاء الذين ذكرناهم وهم عاد وثمود وفرعون هم الذين تجاوزوا في بلادهم الحد
__________
(1) جعله منعما عليه.(3/2872)
في الظلم والجور، وتمردوا وعتوا، واغتروا بقوتهم، وأكثروا الفساد فيها بالكفر والمعاصي والظلم.
فأنزل الله تعالى على تلك الجماعات بنحو متتابع، نوعا من العذاب الشديد، يشبه السوط المؤلم الذي يستعمل في تطبيق العقاب. وقوله: فَصَبَّ الصب:
مستعمل في السوط، لأنه يقتضي سرعة في النزول، وسبب العذاب: جرمهم، فإن الله يرصد ويراقب عمل كل إنسان، فلا يفوته شيء، حتى يجازيه عليه بالخير خيرا، وبالشر شرا، ولا يهمل منه شيئا مهما قل. والمرصاد والمرصد: موضع الرصد، أي أنه عند لسان كل قائل، ومرصد لكل فاعل.
وتكرار قصص هذه الأمم المدمرة للتذكير بها، والاتعاظ والاعتبار بها.
ثم ذكر الله تعالى ما كانت قريش تقوله، وتستدل به على إكرام الله تعالى، وإهانته لعبده، وذلك أنهم كانوا يرون أن من عنده الغنى والثروة والأولاد فهو المكرم، وبضده المهان، وبما أن هذا هو الغالب على كثير من الكفار، جاء التوبيخ في هذه الآية: فَأَمَّا الْإِنْسانُ.. لاسم الجنس، إذ قد يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا الطبع.
أي إن الإنسان مخطئ في تفكيره أو اعتقاده: أنه إذا امتحنه الله، واختبره بالنعم، فأكرمه بالمال، ووسّع عليه الرزق، فيقول: ربي أكرمني وفضلني، وآثرني واصطفاني.
والمقصود من الآية: أن الله يلوم الإنسان فيما يظنه: أنه إن وسع الله عليه في الرزق ليختبره فيه، كان ذلك إكراما من الله له، وليس كذلك، بل هو امتحان واختبار، هذا بالنسبة للغني أو الثري.
وأما بالنسبة لما يواجه ذلك وهو الفقر، فإن الفقر والتقتير ليس دليلا على سخط الله على العبد، فإذا ما اختبر الله العبد بالفقر، وضيق عليه الرزق، ولم يوسعه له،(3/2873)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
فيقول: ربي أهانني وأذلني. وهذا خطأ أيضا، فلا يصح للإنسان أن يعتقد أن حجب الرزق عنه إهانة له، وإذلال لنفسه.
وقوله: ابْتَلاهُ معناه: اختبره. ووَ نَعَّمَهُ معناه: جعله ذا نعمة.
والخلاصة: إن الإنعام على إنسان بشيء من المال والصحة والجاه والمركز مثلا ليس دليلا من الله على الرضا عنه. وليس حجب الرزق أو الفقر والتقتير دليلا على سخط الله وعقابه، وإنما ذلك ابتلاء، فحق من ابتلي بالغنى أن يشكر ويطيع، ومن ابتلي بالفقر أن يشكر ويصبر. وأما إكرام الله تعالى فهو بالتقوى، وإهانته فبالمعصية.
النفس اللوامة وتقصيرها والنفس المطمئنة ورضاها
ردع الله تعالى الإنسان الذي يخطئ الاعتقاد أو الظن في حالتي النعمة والإكرام، والنقمة والإهانة، وأوضح حقيقة تطلعات الإنسان وتصرفاته، فتراه لا يكرم اليتيم أو المحتاج، ولا يحض على إطعام المساكين، ويبادر إلى أكل الميراث بشدة، ويحب جمع المال، ثم يندم على كل ذلك يوم القيامة، ويلوم نفسه على تقصيرها، ويصطدم بالحقيقة: وهي ألا سلطان في الحساب والجزاء إلا لله تعالى. وهذا هو الغالب. وأما التقي الصالح المطمئن إلى صحة عمله وطاعة ربه، فيعود إلى ربه هادئ النفس، مطمئن البال، راضيا بما عمل، ومرضيا بما يجازى به، فيدخل في جنان الخلد مع عباد الله الأبرار. وهذا ما قررته الآيات الآتية:
[سورة الفجر (89) : الآيات 17 الى 30]
كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
«1»
__________
(1) لا يحض بعضكم بعضا على ذلك.(3/2874)
«1» «2» «3» «4» «5» [الفجر: 89/ 17- 30] .
أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن أعمال الناس، على جهة الردع والزجر، بقوله: كلا، أي زجرا وردعا عن مزاعم المشركين، فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق الرزق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار على طاعة الله تعالى في الحالين، فإذا كان غنيا شكر، وإذا كان فقيرا صبر.
وهم في الواقع مقصرون في سبل الخير، فلا يكرمون الأيتام ولا يبرونهم، ويدفعونهم عن حقوقهم الثابتة لهم في الميراث، ويأخذون أموالهم منهم، ويأكلون المواريث أكلا شديدا، وجمعا من غير تمييز بين الحلال والحرام، ويحبون المال حبا كثيرا فاحشا، أي إنكم أيها الناس تؤثرون الدنيا على الآخرة، والله يحب السعي للآخرة.
كلا، أي زجرا وردعا لأقوالكم وأفعالكم هذه، ولا يصح أن يكون عملكم مجرد الحرص على الدنيا، وترك مواساة الآخرين منها، وجمع الأموال فيها بأية كيفية، من غير تحر للحلال وبعد عن الحرام.
واستعدوا ليوم الحساب والفصل بين الخلائق، حيث تدك، أي تكسر الأرض وتتحرك تحركا شديدا، ويجيء الله تعالى للفصل بين عباده، وإصدار أوامره وأحكامه
__________
(1) الميراث.
(2) شديدا من غير تمييز بين الحلال والحرام.
(3) كثيرا.
(4) لا يشد رباطه ولا يتولى عذابه أحد غير الله.
(5) المستقرة في إيمانها بالحق، التي اطمأنت بذكر الله.(3/2875)
بالجزاء والحساب، وإظهار آيات قدرته وسلطانه وقهره، ويقف الملائكة مصطفين صفوفا للحراسة والحفظ. وتكشف للناظرين جهنم بعد غيبتها وحجبها عنهم، كما في آية أخرى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) [النازعات: 79/ 36] .
في ذلك اليوم الرهيب يتذكر الإنسان أنه أخطأ وقصر، وكذب وعصى، وفرط وطغى، ويندم على ما قدم في الدنيا من الكفر والمعاصي، وعلى ما عمل من أعمال السوء، ولكن هل تنفعه الذكرى؟ أي: وأنى له نفع الذكرى؟ لا تنفعه، فقد فات الأوان، وإنما كانت تنفعه الذكرى لو تذكر الحق قبل حضور الموت، ويقول الإنسان الذي عصى في الدنيا: يا ليتني قدمت عملا ينفعني في تلك الحياة الأبدية، وكأنها هي الحياة فقط، يا ليتني قدمت الخير والعمل الصالح لحياتي الأخروية الدائمة الباقية، فهي الحياة الأخيرة الخالدة لأهل النار ولأهل الجنة جميعا.
وقوله تعالى: لِحَياتِي معناه عند جمهور المتأولين: لحياتي الباقية، أي الآخرة، وقال بعض المتأولين: المعنى: لوقت أو لمدة حياتي الماضية في الدنيا، واللام بمعنى الوقت.
وجواب قوله: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ.. في قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ.. أي في يوم القيامة لا يتولى أحد تعذيب العصاة وحسابهم وجزاءهم إلا الله، ولا يتولى إحكام الوثاق أو الربط بالسلاسل والأغلال للكافر أحد إلا الله، ولا يعذّب أحد مثل عذاب الله. وفي هذا ترغيب بالعمل الصالح والإيمان، وترهيب من الكفر والعصيان.
فالضمير في (عذابه) و (وثاقه) لله تعالى، والمصدر مضاف إلى الفاعل. وقد جمعت الآية معنيين:
أحدهما- أن الله تعالى لا يكل عذاب الكفار يومئذ إلى أحد.
والآخر- أن عذابه من الشدة في حيّز لم يعذّب قط أحد بمثله في الدنيا، وهذا شأن الإنسان المادي.(3/2876)
وبعد بيان ما يتعرض له هؤلاء المعذبون، ذكر الله تعالى ما عليه نفوس المؤمنين وحالهم، وهم الذين صفت أرواحهم وسمت عن الماديات، فقال: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) والمطمئنة: الموقنة غاية اليقين. والمعنى: يقول الله تعالى للمؤمن مباشرة أو بوساطة ملك: يا أيتها النفس الموقنة بالإيمان والحق وتوحيد الله، التي لا يخالجها شك في صدق عقيدتها، وقد رضيت بقضاء الله وقدره، ووقفت عند حدود الشرع، فتجيء يوم القيامة مطمئنة بذكر الله، ثابتة لا تتزعزع، آمنة مؤمنة غير خائفة، ارجعي إلى ثواب ربك الذي أعطاك، وإلى محل كرامته الذي منحك إياه، راضية بهذا الثواب عما عملت في الدنيا، وبما حكم الله، ومرضية عند الله، فادخلي في زمرة عبادي الصالحين، وادخلي معهم جنتي، فتلك هي الكرامة التي لا كرامة سواها، جعلنا الله من أهلها.
نزلت هذه الآية، كما أخرج ابن أبي حاتم عن بريدة: في حمزة، وقال ابن عباس: نزلت في عثمان حينما اشترى بئر رومة، وجعلها سقاية للناس.(3/2877)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)
تفسير سورة البلد
متاعب الإنسان وتزويده بمفاتيح الرشاد
الحياة مشحونة بالتعب، والإنسان خلق مغمورا بالتعب والهموم ومكابدة العيش، واغتر بالحياة ومباهجها، وظن أنه السيد على الأرض الذي لا يقدر عليه أحد. ولكن الله تعالى زود الإنسان بطاقات المعرفة، ومفاتيح البحث عن المعلومات، وطرق الوصول إلى الهداية والرشاد، والظفر بأسلوب النجاة، ولكنه قصر وأهمل في اقتحام العقبة، وهي تحرير الرقاب، وإطعام الطعام، وأدى ذلك إلى انقسام الناس فئتين: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، كما يتضح من سورة البلد المكية في قول جمهور المفسرين:
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10»
__________
(1) أي أقسم بمكة.
(2) خلقناه مغمورا في مكابدة المشاق والمتاعب، والكبد: المشقة. [.....]
(3) كثيرا.
(4) ذللناه وأرشدناه إلى سبيلي الخير والشر.
(5) دخل بشدة وصعوبة.
(6) الطريق الصعب، أي المشاق المصادفة.
(7) إعتاقها.
(8) مجاعة.
(9) قرابة.
(10) ذا فقر، أي التصقت يده بالتراب كناية عن فقره.(3/2878)
«1» «2» [البلد: 90/ 1- 20] .
المعنى: أقسم بهذا البلد: مكة المكرمة، تنبيها على حرمتها، وأنت أيها النبي حلال بهذا البلد، يحل لك فيه قتل من شئت، وكان هذا يوم فتح مكة. فقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال حرمته. والمراد: أن مكة عظيمة القدر في كل حال، حتى في حال اعتقاد الكفار القرشيين أنك أيها النبي حلال، لا حرمة لك، وهذا تقريع وتوبيخ لهم. وهذا على رأي شرحبيل بن سعد فيما ذكره الثعلبي: أن معنى وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) أي قد جعلوك حلالا مستحل الأذى والإخراج، والقتل لك لو قدروا.
والمقسم عليه هو: لقد خلقنا الإنسان في كبد أي لقد خلقنا الإنسان اسم الجنس كله مغمورا بالمشقة والمكابدة، أي يكابد أمر الدنيا وأمر الآخرة.
ولكن الإنسان اغتر بقوته، فقيل له: أيظن ابن آدم أن لن يقدر عليه أحد، ولا ينتقم منه أحد، فالله قادر على كل شيء.
نزلت هذه الآية في أبي الأشد بن كلدة الجمحي، الذي كان مغترا بقوته، واسمه:
أسيد بن كلدة الجمحي، كان يحسب أن أحدا لا يقدر عليه. وقيل: نزلت في غيره، مثل عمر بن عبد ود الذي قتله علي رضي الله عنه خلف الخندق، أو في الحارث بن عامر بن نوفل، فوبخهم القرآن على ذلك.
ثم ذم الله الإنسان على الإنفاق بقصد المراءاة، فإنه يقول يوم القيامة: أنفقت مالا كثيرا، مجتمعا بعضه على بعض، وهو الذي يسميه أهل الجاهلية مكارم أو معالي ومفاخر.
__________
(1) الرحمة.
(2) محيطة بهم.(3/2879)
قال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب، فاستفتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأمره أن يكفّر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد.
وهذا القول منه إما استطالة بما أنفق، فيكون طغيانا منه، وإما أسفا عليه، فيكون ندما منه.
ثم عاب الله الإنسان على جهله، حيث قال الله عنه: أيظن الإنسان ومدعي النفقة في سبيل الله أن الله تعالى لم يطلع عليه، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه، وأين أنفقه؟
ولكن الله تعالى لم يترك الإنسان سادرا في صنوف الجهالة، بل زوده بما يمكنه من التمييز بين الخير والشر، بخلق مفاتيح المعرفة لديه، من أعين ولسان وشفتين وعقل نيّر، حيث قال الله تعالى عنه: ألم أمنحك أيها الإنسان الجاهل، المغرور بقوتك عينين تبصر بهما، ولسانا تنطق به، وشفتين تغطي بهما ثغرك، وتستعين بهما على الكلام وأكل الطعام؟
ألم نبين لك وندلك على طريق الخير والشر، وجعلنا لك من العقل والفطرة ما تستطيع به إدراك محاسن الخير، ومفاسد الشر، وتختار لنفسك طريق النجاة؟! وسبيل النجاة: هو اختيار الأفضل، فهلا نشط الإنسان واخترق الموانع المانعة من طاعة الله تعالى، من وساوس الشيطان واتباع الأهواء؟ وهلا جاهد لاجتياز الطريق الصعب، وأي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ إنه يكون بإعتاق الرقبة وتحريرها، أو بإطعام في يوم مجاعة يتيما فقد أباه ذا قرابة، أو مسكينا محتاجا لا شيء له، ولا قدرة على كسب المال لضعفه وعجزه، كأنه ألصق يده بالتراب، لفقد المال.
والمسغبة: الجوع العام، وذا متربة معناه: مدقعا قد لصق بالتراب، وبه يتبين أن المسكين أشد فاقة من الفقير.(3/2880)
ثم كان من الذين آمنوا وصدقوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، لأن القربات لا تقبل من دون شرط الإيمان، فكان من جملة المؤمنين العاملين عملا صالحا، المتواصين بالصبر على الأذى وعلى طاعة الله تعالى وبلائه وقضائه، وعلى الشهوات والمعاصي. وعلى الرحمة فيما بينهم وعلى خلق الله. والمرحمة: كل ما يؤدي إلى رحمة الله تعالى.
أولئك المتصفون بهذه الصفات: هم من أصحاب اليمين، وهم أصحاب الجنة، وأما أضداد هؤلاء فهم الذين جحدوا بآياتنا التنزيلية والكونية الدالة على قدرتنا، فهم أصحاب الشمال، وعليهم نار مغلقة محيطة بهم.
والميمنة: مفعلة، عن يمين العرش، وهو موضع الجنة، ومكان المرحومين من الناس، والمشأمة: الجانب الأشأم، وهو الأيسر، وفيه جهنم، وهو طريق المعذّبين، يؤخذ بهم ذات الشمال.(3/2881)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
تفسير سورة الشمس
تزكية النفس وعذاب المكذبين
النفس الغريزية تحتاج إلى تعديل الغرائز والتزكية، والتوجيه نحو الأفضل، وجهاد الشيطان والهوى. فإذا جاهد الإنسان هواه وكبح شهواته، كان مؤمنا حق الإيمان، وإذا أهمل نفسه، وتركها تسير على وفق المزاج والأهواء، خاب وخسر، وقد أقسم الله على ذلك. والخيبة والخسران تقتضي التعرض للعذاب، والعذاب واقع على المكذبين حتما، كما وقع على قبيلة ثمود بسبب طغيانها وكفرها، واعتدائها على رسل الله ومعجزاتهم. أخبر الله تعالى بذلك في سورة الشمس المكية بالاتفاق.
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)
وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» «13» «14» «15» «16» [الشمس: 91/ 1- 15] .
__________
(1) ارتفاع الضوء وكماله.
(2) اتبعها واستمد نوره منها.
(3) كشفها وأظهرها.
(4) يزيل ضوءها. [.....]
(5) بسطها ووسعها.
(6) عدّلها وكملها.
(7) أفهمها ما يسبب هلاكها وخسرانها، وما يحفظها من الهلاك.
(8) طهرها ونماها.
(9) خسر من أهمل تزكية نفسه وتهذيبها.
(10) بطغيانها.
(11) الذي عقر الناقة.
(12) شربها الخاص.
(13) فذبحوها.
(14) أطبق عليهم.
(15) سوى عليهم الأرض.
(16) عاقبتها.(3/2882)
المعنى: أقسم بالشمس المضيئة نفسها، سواء غابت أم طلعت، وبضوئها وضحاها الذي يعم الأفق، لأنه مبعث حياة الأحياء، وأقسم بالقمر المنير إذا تبع الشمس في الطلوع بعد غروبها، أو أقسم برب الشمس والضحى والقمر، والضحى: ارتفاع الضوء وكماله، أو هو النهار كله، أو حر الشمس، والقمر يتلو الشمس من أول الشهر إلى نصفه في الغرب، تغرب هي ثم يغرب هو، ويتلوها في النصف الآخر بنحو آخر، وهو أن تغرب هي فيطلع هو. والواقع أن هذا اتباع لا يختص بنصف أول الشهر ولا بآخره.
وأقسم بالنهار إذا جلّى الشمس وكشفها وأظهر تمامها، ففي اكتمال النهار اكتمال وضوح الشمس. وأقسم بالليل إذا يغشى الشمس ويغطي ضوءها بظلمته، فيزيل الضوء وتغيب الشمس، وتظلم الدنيا في نصف الكرة الأرضية، ثم تطلع في النصف الآخر، وهذا رد على المشركين الذين يؤلهون الكواكب، والثنوية الذين يقولون بإلهين اثنين: النور والظلمة، لأن الإله لا يغيب ولا يتبدل حاله.
ثم ذكر الله تعالى صفات الكون حيث قال: وأقسم بالسماء وبناء الله تعالى لها بالكواكب، وأقسم بالأرض والذي بسطها من كل جانب، وجعلها ممهدة موطأة للسكنى.
وقوله: وَما بَناها ووَ ما طَحاها ما فيهما: بمعنى الذي، أي ومن بناها، لأن (ما) تقع عامة لمن يعقل ولمن لا يعقل، فيجيء القسم بنفسه تعالى، ويحتمل أن تكون (ما) في جميع ذلك مصدرية، كأنه تعالى قال: والسماء وبنيانها.
وأقسم بالنفس الإنسانية، والذي خلقها سوية مستقيمة، على الفطرة القويمة، وتسويتها: إكمال عقلها ونظرها، وإعطاؤها ما تحتاجه لتدبير البدن، وهي الحواس الظاهرة والباطنة، ثم ألهمها وأفهمها ما هو شر وفجور، وما هو خير وتقوى، وما(3/2883)
فيهما من قبح وحسن، لتمييز الخير من الشر. وقوله: فَأَلْهَمَها أي عرفها طرق ذلك.
وجواب القسم في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ أي لقد أفلح، أي قد فاز بكل مطلوب، وظفر بكل محبوب، من زكى نفسه، فهذبها وطهرها ونماها بالخيرات، وعوّدها على التقوى والعمل الصالح، وخسر وخاب من أغوى نفسه وأهملها ولم يهذبها، وتركها تنغمس في المعاصي، ولم يتعهدها بالطاعة والعمل الصالح.
أي إن العذاب واقع على المكذبين بالحساب والجزاء الأخرى، لا محالة، فقد كذبت قبيلة ثمود بالحجر بين الشام والحجاز نبيها صالحا عليه السّلام بسبب طغيانها وبغيها، فإنه الذي حملها على التكذيب. والطغيان: مجاوزة الحد في المعاصي. وذلك حين قام أشقى ثمود: وهو قدار بن سالف، بعقر ناقة صالح عليه السّلام، بتحريض قومه ورضاهم بما يفعل، فكان عقرها دليلا على تكذيبهم جميعا لنبيهم، وبرهانا على صدق رسالته، حين حل بهم العذاب الذي أوعدهم به.
فقال لهم، أي لجماعة الأشقياء نبي الله صالح عليه السّلام: ذروا ناقة الله، واحذروا التعرض لها، أو أن تمسوها بسوء، واتركوها وما تشربه من الماء المخصص لها، بحسب القسمة المتفق عليها، لها شرب يوم، ولكم شرب يوم معلوم.
فكذبوه في تحذيره إياهم من العذاب، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العقاب، فعقر الأشقى تلك الناقة، وقومه راضون بما فعل، فنسب العقر إليهم جميعا، فأطبق العذاب عليهم وأهلكهم الله بذنوبهم، وغضب عليهم، فدمرهم وعمهم بالعقاب، وسوى القبيلة في الهلاك، لم ينج منهم أحد، واستوت العقوبة على صغيرهم وكبيرهم، ولا يخاف هذا الأشقى من عاقبة فعله، فالفاعل يعود على أشقاها المنبعث، ويحتمل أن يكون الفاعل هو الله تعالى، أي فلا تبعة على الله تعالى في فعله(3/2884)
بهم، لا يسأل عما يفعل، ويحتمل أن يكون الفاعل هو صالح عليه السّلام، أي لا يخاف عقبى الله تعالى بهذه الفعلة بهم، إذ قد كان أنذرهم وحذّرهم.
وقوله: فَدَمْدَمَ معناه: أنزل العذاب مقلقا لهم، مكرّرا ذلك، وهي الدّمدمة.(3/2885)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)
تفسير سورة الليل
تفاوت أعمال الناس وثوابهم
الناس في مركب الحياة أو سفينة الحياة متفاوتون في هممهم وعزائمهم، وأعمالهم وتصرفاتهم، بسبب اختلاف عقولهم وأفكارهم وأهوائهم، وتفاوتهم في التزام الدين والأخلاق والآداب والأنظمة، أو تجاوز ذلك، وكل واحد في مسيرة الحياة يرصد لنفسه ما يلقاه في مستقبل عمره، وفي آخرته، فأما أهل الاستقامة: فهم موفقون للخصال الحسنة، ويكونون في جنان الخلد، وأما أهل الانحراف والضلال: فهم أيضا موفقون للخصال السيئة، ويكونون بسبب جناياتهم وسيئاتهم في نيران الجحيم، ولا يغنيهم عن سوء عملهم أهل ولا مال ولا صديق حميم، كما يتبين في سورة الليل المكية في قول الجمهور:
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)
لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10»
__________
(1) يستر بظلامه.
(2) ظهر وانكشف. [.....]
(3) مختلف نوعا وجزاء، جمع شتيت.
(4) بالخصلة الحسنى أو الجنة والثواب.
(5) للخطة الفضلى الميسرة المؤدية للخير.
(6) للخطة أو الحالة السيئة المؤدية للشر.
(7) هوى وسقط.
(8) تتوهج وتتقد، أي تتلظى.
(9) لا يحترق بها.
(10) ملازم الشقاء.(3/2886)
«1» «2» [الليل: 92/ 1- 21] .
أقسم- أنا الله- بالليل حين يغطي بظلامه كل ما كان مضيئا، وبالنهار متى ظهر ووضح، لإزالة الظلمة الليلية، وبالذي خلق الذكر والأنثى من جميع الأجناس، من الناس وغيرهم. ولم يذكر مفعول (يغشى) للعلم به ضمنا، أو يغشى النهار. وقوله وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) ما: إما بمعنى الذي، أو مصدرية أي بخلق الجنسين.
وجواب القسم: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) السعي: العمل، أي إن جميع أعمال العباد مختلفة متباعدة، ومفترقة جدا، فالفاعل: إما خير أو شر، والعمل: إما هدى أو ضلال، وإما مرضي لله يوجب الجنة أو سخط يوجب النار. والساعون قسمان:
فأما من أعطى في وجوه الخير وفي سبيل الله، واتقى محارم الله المنهي عنها، وصدق بالجنة أو الأجر والثواب مجملا، فسنأخذ بيده ونسهل عليه كل ما كلف به من الأفعال والتروك، والحسنى: الجنة، واليسرى: الحال الحسنة المرضية في الدنيا والآخرة.
نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أخرج ابن جرير والحاكم عن عامر بن عبد الله بن الزبير، قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه (أبو قحافة) : أي بني! أراك تعتق أناسا ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالا جلداء يقومون معك، ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبت، إنما أريد ما عند الله، فنزلت هذه الآيات فيه:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) السورة.
__________
(1) يبعد عنها التقي.
(2) تجازى وتكافأ.(3/2887)
وأما من بخل بماله، ولم يبذل منه شيئا في سبيل الله وطريق الخير، واستغنى عن الله ورحمته بزعمه، واكتفى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، وزهد في الأجر والثواب وفضل الله، وكذّب بالجزاء الأخروي، فسنأخذ بيده ونسهله للحال الصعبة التي لا تنتج إلا شرا، حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح، ويضعف عن فعلها، حتى يصل إلى النار، ولا يفيده شيئا ماله الذي بخل به، إذا وقع في جهنم، وإذا جمع في الكلام بين الخير والشر، جاء التيسير فيهما معا. والإعطاء والبخل المذكوران: إنما هما في المال. وقوله: إِذا تَرَدَّى معناه سقط في جهنم، أي من حافاتها.
قال ابن عباس: آية وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) نزلت في أمية بن خلف.
ثم أخبر الله تعالى عما قام به من الهداية والبيان، فقال: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (13) أي إن علينا أن نبين طريق الخير والشر، وسبيل الهداية والضلال، والحلال والحرام، بوساطة الأنبياء وإنزال الكتب المشتملة على تشريع الأحكام، وتبيان العقائد والعبادات، والأخلاق، وأنظمة العقود والمعاملات.
وإن لنا كل ما في الآخرة، وكل ما في الدنيا، نتصرف به كيف نشاء، فمن أراد شيئا من الدارين، فليطلبه منا، نهب ونعطي ما نشاء لمن نشاء، ولا يضرنا ترك الاهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤهم، بل نفع ذلك وضرره عائدان عليكم أيها الناس.
ثم حذر الله تعالى من سلوك طريق النار بقوله: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) أي لقد خوّفتكم نارا عظيمة، تتوهج وتلتهب وتوقد، لا يحترق بنارها إلا الشقي الكافر الذي كذب بالحق الذي جاءت به الرسل، ومنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي أنزل الله عليه الفرقان، والمراد بقوله: لا يَصْلاها.. أي لا يصلاها صلي خلود.(3/2888)
وسيباعد عن النار كل تقي اتقى الكفر والعصيان اتقاء بالغا، وهو الذي ينفق ماله ويعطيه في وجوه الخير، طالبا أن يكون عند الله زكيا، متطهرا نقيا من الذنوب، من غير رياء ولا سمعة. ولا خلاف في أن المراد بالأتقى: أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقوله تعالى: يَتَزَكَّى معناه: يتطهر ويتنمّى. وظاهر هذا الإتيان: أنه في المندوبات.
وتراه لا يتصدق بماله مقابل نعمة لأحد من الناس عليه، يكافئه عليها. أو ليس إعطاؤه ليجزي نعما قد أنزلت إليه، بل هو صادر عنه ابتداء، ابتغاء وجه الله تعالى، العلي الأعلى، وتحقيق رضوان الله ومثوبته، لا لمكافأة نعمة، وتالله لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم.
وسبب نزول هذه الآية: أن قريشا قالوا- لما أعتق أبو بكر رضي الله عنه بلالا- كانت لبلال يد (معروف) عنده.
وقوله تعالى: إِلَّا ابْتِغاءَ.. مستثنى منقطع، والابتغاء: الطلب. وقوله:
وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) وعد من الله تعالى لأبي بكر بالرضا عنه في الآخرة.(3/2889)
وَالضُّحَى (1)
تفسير سورة والضحى
نعم الله على نبيه وإرشاده لبعض الخصال
عدّد الله تعالى بعض النعم على النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، إظهارا لمكانته في أعين قريش، وردا عليهم فيما زعموا بأن الله تعالى بتأخيره إنزال الوحي على نبيه قد قلاه (أبغضه) ربه وأبعده. وتميزت هذه النعم بأنها في الغالب أخلاقية أدبية، لا مادية أو سلطوية اغترارية، ثم أمر الله نبيه بشكر هذه النعم، وبالإحسان إلى الأيتام والسائلين، ليكون مثلا أعلى للإنسانية، وتسلك أمته سلوكه، وتنتهج نهجه، وذلك في سورة الضحى المكية بالاتفاق:
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [الضحى: 93/ 1- 11] .
أخرج الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله:
وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى.
وأخرج الحاكم عن زيد
__________
(1) ضوء الشمس الساطع وعظمه في مقتبل النهار أو النهار كله.
(2) سكن وهدأ.
(3) تخلى عنك ولا تركك.
(4) أبغضك. [.....]
(5) أسكن.
(6) وفقك لأرشد الأمور.
(7) فقيرا.
(8) فلا تذله.
(9) فلا تزجره.(3/2890)
ابن أرقم قال: مكث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أياما لا ينزل عليه جبريل، فقالت أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى صاحبك إلا قد ودّعك وقلاك، فأنزل الله: وَالضُّحى..
الآيات.
أقسم بالضحى: وقت ارتفاع الشمس أول النهار، والمراد به النهار، لمقابلته بالليل، وبالليل إذا سكن وغطى بظلمته النهار، ما قطعك ربك قطع المودّع، وما تركك، ولم يقطع عنك الوحي، وما أبغضك وما كرهك.
ثم بشره الله بأن المستقبل أفضل من الماضي، فللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، إذا انقطع الوحي وحصل الموت، وكذلك أحوالك الآتية خير لك من الماضية، وأن كل يوم تزداد عزة ومهابة ورفعة وسموا، ونصرا.
أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عرض علي ما هو مفتوح لأمتي بعدي، فسرّني» فأنزل الله: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى
(4) وإسناده حسن.
ثم بشره الله أيضا بعطاء جزيل، بقوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ.. أي لسوف يمنحك ربك عطاء جزيلا، ونعمة كبيرة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو الفتح في الدين، وانتشار الإسلام، وأما في الآخرة فهو الثواب، والحوض، والشفاعة لأمتك، فترضى به. وهذا دليل على تحقيق السمو في الدارين.
أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل والطبراني وغيرهم، عن ابن عباس قال: عرض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما هو مفتوح على أمته كفرا كفرا- أي قرية قرية- فسرّ به، فأنزل الله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) .
ثم عدّد الله تعالى نعمه على رسوله قبل البعثة كالحال بعدها بقوله: أَلَمْ يَجِدْكَ أي ألم يجدك ربك يتيما لا أب لك، فجعل لك مأوى تأوي إليه، وهو بيت كافلك(3/2891)
جدك عبد المطلب، ثم عمك أبو طالب. حيث مكث بعد وفاة أمه آمنة سنتين عند عبد المطلب، وله من العمر ثمان سنين، ثم كفله عمه أبو طالب إلى أن أتم أربعين سنة حيث بعثه الله نبيا.
ووجدك ربك غافلا (ضالا) عن أحكام الشرائع، حائرا في معرفة أصح العقائد، فهداك لذلك، ووجدك فقيرا ذا عيال لا مال لك، فأغناك بربح التجارة في مال خديجة، وبما منحك الله من البركة والقناعة.
أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» .
ثم أمره ربه ببعض الأخلاق الإنسانية المحضة، وطالبه بشكر الله على نعمه، حيث قال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي كما كنت يتيما فآواك الله، فلا تستذل اليتيم ولا تتسلط عليه بالظلم لضعفه، بل أدّه حقه، وأحسن إليه، وتلطف به، واذكر يتمك.
فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحسن إلى اليتامى ويبرهم ويوصي بهم خيرا. ويتم النبي صلّى الله عليه وسلّم لئلا يكون عليه حق لمخلوق، كما قال الإمام جعفر الصادق.
وكما كنت مخطئا في العقيدة، فهداك الله، فلا تنهر السائل المسترشد في العلم والدين أو طلب المال، ولا تزجره، بل أجبه، أو ردّ عليه ردا جميلا، والضلال هنا:
بمعنى الخطأ والمباينة عما آل إليه في حال النبوة والرسالة، وليس بمعنى الكفر والضلال البعيد، فإنه صلّى الله عليه وسلّم لم يعبد صنما قط.
وتحدث بنعمة ربك عليك، واشكر هذه النعمة العظمى: وهي النبوة والقرآن، ومضامين الآيات. والتحدث بنعمة الله شكر، فكما كنت عائلا فقيرا، فأغناك الله، فتحدث بنعمة الله عليك، والمعنى في النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه أغنى الأغنياء بالصبر والقناعة، وقد حبّبا إليه.(3/2892)
إن هذه الوصايا الثلاث تتناسب مع النعم الثلاث المذكورة، في كل نعمة وصية مناسبة لها، كما تبين، فيقابل صفة اليتم الوصية باليتيم، ويقابل صفة الخطأ ترك قهر السائل عن العلم والدين، لا سائل المال، ويقابل صفة الفقر شكر النعمة التي أسداها الله عليه.(3/2893)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
تفسير سورة الشرح أو الانشراح
نعم أخرى على النبي صلّى الله عليه وسلّم
أنعم الله تعالى على نبيه قبل البعثة وبعدها بنعم كثيرة، منها اجتماعية إنسانية، كما في سورة الضحى، ومنها شخصية ودينية تتعلق برسالته، كما في سورة الشرح المكية بالإجماع، والسورتان ذات موضوع واحد، وترتبط كل منهما بالأخرى، حتى قال بعضهم: إنهما سورة واحدة. ومجملها شرح الصدر: وهو كناية عن السرور، ووضع الأوزار المتقدمة على النبوة، ورفع الذّكر والسمعة والصيت، وتحقيق اليسر في الدين والدنيا والآخرة، وكل ذلك يقتضي الشكر، والحث على العبادة، والطاعة، والعمل الصالح، كما يبدو في سورة الشرح الآتية:
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [الشرح: 94/ 1- 8] .
هذه طائفة من النعم التي أنعم الله بها على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، أولها: أن شرح الله صدره للنبوة وهيأه لها، وشرح الصدر في رأي الجمهور: تنويره بالحكمة، وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه. وقال ابن عباس رضي الله عنه وجماعة: هذه إشارة إلى شرح
__________
(1) ألم نوسع ونبسط لك صدرك أيها النبي، وهو كناية عن السرور وانبساط النفس.
(2) حملك الثقيل.
(3) أثقله.
(4) الصعوبة والشدة.
(5) سهولة.
(6) إذا فرغت من تبليغ الرسالة، فأتعب نفسك في الدعاء والعبادة.
(7) اتجه إلى الله.(3/2894)
صدره عليه السّلام، بشق جبريل عليه السّلام عنه، في وقت صغره، وفي وقت الإسراء، إذ التشريح: شق اللحم.
وحديث شق الصدر
أخرجه الإمام أحمد عن أبي بن كعب: ومضمون الحديث: أن جبريل عليه السّلام أتى محمدا صلّى الله عليه وسلّم في صغره، وشق صدره، وأخرج قلبه، وغسله، وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علما وإيمانا وحكمة، ووضعه في صدره.
وهذا من قبيل إرهاصات النبوة، أي مقدماتها وبشائرها.
وحططنا عنك ما كنت تتصور من وجود ذنوب ومعاص أثقلت كاهلك، وأتعبت نفسك، سواء قبل النبوة أو بعدها، مما هو خلاف الأولى، وهو لا يتفق مع سمو قدرك، ورفعة منزلتك، وعلو شأنك، كالإذن لبعض المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، وقبول الفداء من أسرى بدر، والعبوس في وجه الأعمى ابن أم مكتوم.
وجعلنا لك ذكرا مرفوعا عاليا في الدنيا والآخرة، بالنبوة وختم الرسالات بك، وإنزال القرآن العظيم عليك، وتكليف المؤمنين بالشهادتين، سواء في الأذان والإقامة أو في التشهد، أو في الخطبة وغيرها. والهدف من تعداد هذه النعم: أنه قد جعلنا لك يا محمد جميع هذا، فلا تكترث بأذى قريش، فإن الذي فعل بك هذه النعم، سينصرك عليهم.
ثم أخبر الله تعالى عن خصيصة مهمة جدا من خصائص رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي وجود يسيرين مع كل عسر، لتقوية رجائه وأمله في تغير أحواله وانتصاره، ردا على المشركين الذين عيّروا النبي بالفقر، والضعف. والمعنى: إن مع كل عسر يسرين بهذه الآية: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) لأن العسر معرّف للعهد، و (اليسر) منكر، فالأول وهو اليسر غير الثاني، وأما العسر فهو واحد. والعسر المعرّف واحد، لكن اليسر منكر، فهو اثنان، فيكون مع كل عسر يسران، لما
أخرجه(3/2895)
الحاكم، وعبد الرزاق، وابن جرير، والبيهقي، عن الحسن، قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما فرحا مسرورا، وهو يضحك ويقول: «لن يغلب عسر يسرين، إن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا» .
أي مع ما تراه من الأذى فرج يأتيك.
وهذه بشارة للرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن الله سيبدل حاله من فقر إلى غنى، ومن ضعف إلى عزة وقوة، ومن عداوة قومه إلى محبتهم.
ثم أمر الله تعالى نبيه بمتابعة العبادة والعمل والطاعة، فإذا فرغ من شغل من أشغال النبوة والعبادة، فعليه أن ينصب (يتعب) في آخر، والنصب: التعب، فالمعنى: أن يدأب على ما أمر به ولا يفتر.
إذا فرغت أيها النبي من تبليغ الدعوة، أو من الجهاد، أو من عبادة، أو من أحد مشاغل الدنيا وعلاقاتها، فأتعب نفسك في العبادة، واجتهد في الدعاء، واطلب من الله حاجتك، وأخلص لربك النية والرغبة، وهذا دليل على طلب الاستمرار في العمل الصالح والخير والمثابرة على الطاعة، لأن استغلال الوقت مطلوب شرعا، والانتفاع بالزمن ضروري دائما.
وإذا فرغت من أعمالك الدينية والدنيوية، فأقبل على الله تعالى، واجعل رغبتك إلى الله وحده، وتضرع إليه راهبا من النار، راغبا في الجنة، ولا تطلب ثواب عملك إلا من الله تعالى، فإنه الجدير بالتوجيه والتضرع إليه، والتوكل عليه، فهذا أمر بالتوكل على الله عز وجل، وصرف وجه الرغبات إليه لا إلى سواه.
إن هذه الأوامر بمتابعة العبادة والتضرع إلى الله، والتوكل على الله وحده، تصوغ فكر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتصبغ قلبه بالعبادة الخالصة لله سبحانه، وتجعله إنسان الدعوة الدائمة إلى الله، بلسانه وقلبه وفكره وسلوكه وعمله، فيتهيأ أن يكون الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة للأجيال، على سبيل الوفاء والكمال.(3/2896)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)
تفسير سورة التين
تقويم الإنسان ثم انحداره إلى النار
الجمال في الخلق والتكوين الإنساني هو الظاهرة الإلهية الإبداعية التي تقتضي شكران المنعم، والوفاء لقدر النعمة بالطاعة والخضوع والامتثال لله، ولكن الناس لا يقومون بحق النعمة، وينحدرون في أخلاقهم وأعمالهم حتى يكونوا من أهل النار الذين هم أسفل السافلين بسبب كفرهم، باستثناء المؤمنين الذين يعملون الصالحات، فلهم الثواب الكبير، وليس لأحد بعد إقامة الدلائل على البعث إنكار القيامة، وإقامة صرح العدالة والقضاء الحق في ذلك اليوم، كما جاء في سورة التين المكية بلا خلاف بين المفسرين:
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [التين: 95/ 1- 8] .
أقسم- أنا الحق- بالتين الطيب الذي يأكله الناس، وبالزيتون الذي يعتصر منه
__________
(1) الشجرتان المعروفتان.
(2) جبل بالشام في صحراء سيناء، كلم الله تعالى عليه موسى عليه السّلام. [.....]
(3) مكة المكرمة.
(4) أحسن تعديل لصورته وشكله وتكوينه.
(5) جعلناه من أهل النار الذين هم أسفل السافلين.
(6) غير مقطوع.
(7) يوم الجزاء.(3/2897)
الزيت، وبموضعهما، وبجبل الطور الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السّلام، في بلاد الشام، وهو طور سيناء. وبهذا البلد الآمن الأمين وهو مكة المكرمة، لأنه آمن ومأمون فيه، كما قال الله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: 3/ 97] .
أقسم الله سبحانه بهذه المواضع الثلاثة، لأنها مهابط الوحي الإلهي على الرسل الكرام أولي العزم. والقسم بها تنويه بشأنها.
ذكر القرطبي في تفسيره عن أبي ذر: أنه أهدي للنبي صلّى الله عليه وسلّم سل تين، فأكل منه، وقال: «لو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة قلت: هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم (نوى) فكلوا، فإنه يقطع البواسير، وينفع من النقرس» .
وجواب القسم: أننا خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأجمل شكل، وأبدع تكوين، والمراد: جمال الخلقة والتكوين والتركيب، والتميز بالعقل والفكر، والتدبير والحكمة، وانتصاب القامة، فجميع هذه الأشياء هو حسن التقويم، وليس المراد الجمال الظاهري.
ولم ير قوم الحنث على من حلف بالطلاق أن زوجته أحسن من الشمس أو أجمل من القمر.
ثم جعلناه بعد حسن التركيب إلى النار التي هي أسفل الدرجات إن لم يطع الله ويتبع الرسل، أو أننا رددناه أحيانا في آخر العمر إلى الهرم، وذهول العقل، وتغلب الكبر، حتى يصير لا يعلم شيئا.
وعلى التفسير الأول: يكون قوله تعالى بعدئذ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. استثناء متصلا، وعلى التفسير الثاني: يكون ذلك استثناء منقطعا.
إن مصير أكثر الناس إلى النار، على التفسير الأول، إلا المؤمنين العاملين عملا صالحا، بأن جمعوا بين الإيمان والعمل في حال الاستطاعة، فلهم ثواب جزيل،(3/2898)
ينجون به من النار أسفل السافلين، وهو الجنة دار المتقين. وعلى التفسير الثاني وهو قول حسن كما قال ابن عطية: إن في جنس الإنسان من يعتريه الخرف والهرم، لكن المؤمنين المتقين، يكافئهم الله بثواب دائم غير منقطع، بسبب صبرهم على ما ابتلوا به من الشيخوخة والهرم، والمواظبة على الطاعات بقدر استطاعتهم، أي إنهم قد يردّون إلى أرذل العمر كغيرهم، لكن لهم أجر كبير دائم على أفعالهم، وإن انقطعوا عن العبادة بسبب الضعف والهرم.
ثم وبّخ الله تعالى الكافر على التكذيب بيوم الجزاء والحساب بعد البعث بقوله:
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) قال جمهور من المتأولين: المخاطب الإنسان الكافر، أي ما الذي يجعلك كذابا بالدين، أي بالجزاء في عالم الآخرة، تجعل لله تعالى أندادا، وتزعم ألا بعث بعد هذه الدلائل؟ لقد عرفت أن الله تعالى خلقك في أحسن تقويم، وأنه بسبب الكفر يردك إلى النار مع أسفل السافلين، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ لقد علمت البدأة، وعرفت أن من قدر على البدأة، فهو قادر على الرجعة بطريق أولى، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد، وقد عرفت هذا؟
وقال قتادة، والفراء والأخفش: المخاطب في قوله تعالى: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) ؟ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى له: فما الذي يكذّبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث، وهو الدّين، بعد هذه العبرة التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت؟
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ.. قال: هم نفر، ردوا إلى أرذل العمر، على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسئل عنهم حتى سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم، أن لهم أجرهم الذي عملوا، قبل أن تذهب عقولهم.
ثم أكد الله تعالى إيقاع الجزاء والبعث بقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) أي أما هو أحكم الحاكمين قضاء وعدلا، الذي لا يجور ولا يظلم، ومن عدله أن يقيم(3/2899)
القيامة، فينتصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه، ويثيب المستقيم، ويعذب المنحرف والكافر؟
هذا إخبار من الله تعالى لجميع خلقه على أنه سبحانه أحكم الحاكمين، على جهة التقرير والتثبيت.
أخرج الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا. «فإذا قرأ أحدكم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فأتى على آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين.
وأخرج أيضا عبد بن حميد عن قتادة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه السورة قال: «بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين» .(3/2900)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
تفسير سورة العلق أو القلم
الأمر بالقراءة والكتابة وموقف الكافر المعاند
سورة القلم أو العلق المكية بالإجماع: هي أول ما نزل من كتاب الله تعالى، نزل صدرها في غار حراء، حسبما ثبت في صحيح البخاري وغيره، تضمنت الأمر بالقراءة مفتاح العلم، وبيان خالق الإنسان وبعض مظاهر قدرة الله على الإنسان، وزجر الكافر الطاغية المعاند، الذي يكون غناه سببا في طغيانه، وينهى عن الخير والصلاة، مع أنه لو أمر بالتقوى والخير، لكان مستحقا المثوبة الكبرى في جنة المأوى، ليته يعلم بأن الله يرى كل شيء وكل تصرف منه، ويعلم الغيب والشهادة، وسيجازي كل إنسان على عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولئن لم ينته هو وأمثاله من الكفار عن ضلالهم ليعذبنه الله عذابا شديدا، كما تبين هذه الآيات في سورة القلم:
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9)
عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) قطعة دم جامدة.
(2) أكرم من كل كريم.
(3) يتجاوز الحد في العصيان.
(4) نجذبن بشدة شعر مقدم الرأس.(3/2901)
«1» «2» «3» [العلق: 96/ 1- 19] .
اقرأ مبتدئا باسم ربك، أو مستعينا باسم ربك، الذي خلق كل شيء، خلق كل إنسان في مجال التناسل والتكاثر من قطعة دم جامد، وهي العلقة، التي هي أحد أطوار خلق الإنسان، حيث يبدأ من نطفة، ثم يتحول إلى علقة، ثم يكون مضغة: قطعة لحم.
وإنما قال: باسم ربك، ولم يقل: باسم الله، لما في لفظ الرب من معنى التربية وتعهد المصلحة، وذلك مناسب للأمر بالعبادة، وأضاف الله ذاته إلى رسوله، بقوله:
بِاسْمِ رَبِّكَ للدلالة على أن فائدة العبادة تصل للرسول، وليس لله تعالى.
افعل ما أمرت به من القراءة، وربك الذي أمرك بالقراءة: هو الأكرم من كل كريم، ومن كرمه: تمكينك من القراءة وأنت أمي. وكرر الله تعالى كلمة اقْرَأْ للتأكيد، ولأن القراءة لا تتحقق إلا بالتكرار والإعادة. وقوله: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ لإزالة المانع والعذر الذي اعتذر به النبي صلّى الله عليه وسلّم لجبريل عليه السّلام، حين طلب منه القراءة، بقوله اقْرَأْ فقال: ما أنا بقارئ، أي لست متعلما القراءة.
ثم قرن الله الأمر بالكتابة مع الأمر بالقراءة بقوله تعالى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) أي علّم الإنسان الكتابة بالقلم، فهو نعمة عظيمة من الله تعالى، وواسطة للتفاهم بين الناس، كالتعبير باللسان، ولولا الكتابة لزالت العلوم، ولم يبق أثر للدين وأحكام الشرائع الإلهية وغيرها، ولم يصلح عيش، ولم يستقر نظام، ولا تمكنت الشعوب والأمم من الاستفادة من علوم ومعارف وثقافات الشعوب الأخرى، ولا عرف تاريخ الماضين، ولا تحدد مستقبل البشرية والثقافة في مختلف البلاد.
__________
(1) أهل النادي.
(2) الملائكة الموكلين بالإشراف على المعذبين في النار.
(3) تقرب إلى ربك بالطاعة.(3/2902)
ثم أوضح الله تعالى عموم فضله وكثرة نعمه بقوله: عَلَّمَ الْإِنْسانَ.. أي علّم الله تعالى الإنسان بالقلم كثيرا من الأمور والمعارف، ما لم يعلم بها سابقا.
ثم ردع الله الإنسان على طغيانه في حال الغنى، فقال: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ أي ردعا وزجرا لك أيها الإنسان عن كفرك بنعمة الله عليك، وتجاوزك الحد في العصيان، لأن رأيت نفسك مستغنيا بالمال والقوة والأعوان.
أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل:
هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل لأطأن على رقبته، ولأغفرن وجهه في التراب، فأنزل الله: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) الآيات.
وجاء بعد ذلك الإنذار بالعقاب الأخروي في قوله تعالى: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
(8) أي إن الرجوع والمصير إلى الله وحده، لا إلى غيره، أي الحشر والبعث يوم القيامة، فهو الذي يحاسب كل إنسان على ماله، من أين جمعه، وأين أنفقه، والرجعى: مصدر كالرجوع. وقد جاء هذا بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، تهديدا للإنسان، وتحذيرا له من عاقبة الطغيان.
وأحوال الطغاة قبيحة جدا هي: النهي عن الصلاة وغير ذلك، ومعنى الآية:
أخبرني عن حال هذا الطاغية المغرور وهو أبو جهل وأمثاله، كيف يجرأ على أن ينهى عبدا هو محمد صلّى الله عليه وسلّم من أداء الصلاة وعبادة الله، وتحويله إلى عبادة الأوثان، وترك عبادة الخالق الرازق؟!
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه، فأنزل الله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) إلى قوله: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ
(16)(3/2903)
وأخبرني أيضا عن حال هذا الطاغية، إن كان سائرا على درب الهدى وعبادة الله تعالى، أو أمر غيره بتقوى الله بدلا من الأمر بعبادة الأوثان، كما يعتقد؟! والخطاب في هذين الأمرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك في قوله: أخبرني يا محمد عن حال هذا الطاغية أبي جهل إن كذّب بدلائل التوحيد الظاهرة، ومظاهر القدرة الباهرة، وأعرض عن الإيمان بدعوتك؟! ثم زجره الله وهدده وتوعده بأساليب مختلفة.
أما علم هذا الطاغية أن الله يراه ويسمع كلامه ويعلم أحواله، لينزجر ويرتدع عن أفعاله، فو الله لئن لم ينته عن مضايقاته ولم ينزجر عن عناده، لنأخذن بناصيته، والناصية: مقدم شعر الرأس، ولنجرنه إلى النار. فليدع أهل ناديه، أي قومه وعشيرته، لمناصرته، وسندعو الزبانية: ملائكة النار الغلاظ الشداد، ليلقوه في جهنم.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي، فجاءه أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فزجره النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) .
كلا، للزجر والردع، إياك أن تطيعه أيها النبي فيما دعاك إليه من ترك الصلاة، وتقرب إلى الله بالطاعة والعبادة، وتابع السجود والتعظيم له، فذلك قوة لك وعزة، وحصن ووقاية.(3/2904)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
تفسير سورة القدر
بدء نزول القرآن وفضائل ليلة القدر
لقد شرفت ليلة القدر، أي العظمة، بما اشتملت عليه من أعظم حدث إلهي بشري في التاريخ، ألا وهو بدء نزول القرآن الكريم فيها، فصارت ليلة مباركة، كما تضمنت تنزل الملائكة والروح جيريل فيها بكل أمر من أوامر الله تعالى، وأنها سلام من كل سوء، وأمان، واطمئنان، وعافية، ومستجاب الدعاء، من بدايتها حتى طلوعها فجر اليوم التالي.
أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن الحسن بن علي: أن ليلة القدر خير من ألف شهر،
ولكنه حديث غريب ومنكر جدا.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي، ففعل ذلك ألف شهر، فأنزل الله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) عملها ذلك الرجل. وهذه هي السورة المكية على الصحيح:
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
«1» «2» «3» [القدر: 97/ 1- 5] .
__________
(1) الضمير يعود للقرآن، وإن لم يتقدم ذكره، لدلالة المعنى عليه.
(2) هي الليلة المباركة ليلة الشرف الرفيع والقدر العالي. [.....]
(3) هو جبريل عليه السّلام.(3/2905)
إنا نحن الله الذي بدأنا إنزال القرآن الكريم إليك أيها النبي في ليلة القدر، وهي الليلة المباركة، في شهر رمضان، كما جاء في آية أخرى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) [الدخان: 44/ 3] . وآية: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 2/ 185] . وسميت بليلة القدر أي ليلة التقدير، لشرفها ورفعتها وتقدير الأشياء فيها لسنة قابلة، لقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) [الدخان: 44/ 4] . ثم أتممنا تنزيله بعد ذلك منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الحاجة والمناسبات والوقائع، تمكينا من استيعابه، وتسهيلا لتطبيقه، وتثبيتا لقلب النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين به.
وقد روي أن نزول الملك في حراء، كان في العشر الأواخر من رمضان، وليلة القدر: هي ليلة خصّها الله تعالى بفضل عظيم، وجعلها أفضل من ألف شهر، لا ليلة قدر فيها. وخصت هذه الأمة بهذه الفضيلة، لما رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم أعمار أمته، فتقاصرها، ليعوضوا بفضلها من الأعمال ما بلغ به غيرهم من الأمم في أعمارهم الطويلة، فالعمل فيها خير من العمل في ألف شهر.
وفضائل هذه الليلة كثيرة وهي:
- وما أعلمك ما ليلة القدر؟ وهذا لتفخيم شأنها وتعظيم قدرها، وبيان مدى شرفها، وهي خير وأفضل من ألف شهر، لأن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر، وألف شهر: هي ثمانون سنة، وثلاثة أعوام، وثلث عام.
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه» .
- وفي ليلة القدر تهبط الملائكة وجبريل من السماوات إلى الأرض بكل أمر ومن أجل كل أمر قدّر في تلك الليلة إلى سنة قابلة. ذكر ابن عباس وقتادة وغيرهما: أنها سميت ليلة القدر، لأن الله تعالى يقدّر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العام كلها،(3/2906)
ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله. وروي هذا في ليلة النصف من شعبان. ويدل لليلة القدر قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) [الدخان: 44/ 4] .
والروح: هو جبريل عليه السّلام، خص بالذكر لزيادة شرفه، فيكون من باب عطف الخاص على العام. و (من) لابتداء الغاية، أي نزولهم من أجل هذه الأمور المقدرة وبسببها.
وتكون هذه الليلة في أوتار العشر الأواخر من رمضان، فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في كل ليلة إلى آخر الشهر، أي في الأيام الفردية، وهي العشرون، والحادي والعشرون، والثالث والعشرون، والخامس والعشرون، والسابع والعشرون، والتاسع والعشرون.
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان..» .
- وهذه الليلة المحاطة بالخير بنزول القرآن والملائكة: هي سلامة وأمن وخير وبركة كلها، لا شر فيها، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، يستمر فيها نزول الخير والبركة، ونزول الملائكة بالرحمة، فوجا بعد فوج، إلى طلوع الفجر. وسَلامٌ هِيَ أي من كل أمر مخوف، قال مجاهد: لا يصيب أحدا فيها داء. وقال الشعبي ومنصور: سَلامٌ بمعنى التحية، أي تسلّم الملائكة على المؤمنين، فيكون المراد بكلمة سَلامٌ إما السلامة فيها من كل أمر سوء، أو بمعنى التحية.
والقائلون بانتهاء الكلام في قوله تعالى: سَلامٌ يرون أن قوله تعالى: هِيَ إنما هو إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر، إذ هذه الكلمة: هي السابعة والعشرون من كلمات هذه السورة.
أخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «خرج(3/2907)
نبي الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يريد أن يخبرنا بليلة القدر، فتلاحى (تنازع) رجلان من المسلمين، قال: «خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين- فلان وفلان- فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» .
والمراد: إذا مضت واحدة وعشرون: فالتي تليها التاسعة، وإذا مضى الثلاث والعشرون فالتي تليها السابعة، وإذا مضى خمس وعشرون، فالتي تليها الخامسة.(3/2908)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
تفسير سورة البينة أو سورة البرية، أو (لم يكن)
أسباب إنزال القرآن
سورة البينة فيها القرار الحاسم والقول الفصل في أمور أربعة: وهي علة إنزال القرآن وهو التكليف، وبيان أن ما جاء به النبي هو الحق الثابت، والفصل في شأن الكفار، من المشركين وأهل الكتاب، وجزاء أهل الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وجزاء الباقين على الكفر وماتوا على ذلك. وليس هناك عذر لمن كفر بعد بيان القرآن وإقامة الحجة القاطعة فيه بالأدلة الكونية والتنزيلية، وهذا ما تضمنته هذه السورة المكية في قول جمهور المفسرين:
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [البينة: 98/ 1- 8] .
__________
(1) مفارقين كفرهم.
(2) الحجة الظاهرة.
(3) طاهرة من الزور والبهتان والباطل.
(4) مستقيمة لا عوج فيها.
(5) مائلين عن الباطل.
(6) دين الملة المستقيمة.
(7) الخلق.
(8) جنات إقامة دائمة. والعدن: الإقامة والدوام.(3/2909)
هذه صيحة الحق تقض مضاجع السادرين وهم المتحيرون الذين لا يبالون ولا يهتمون بما يصنعون، لتوقظ فيهم مشاعر الإحساس، وتنبه فيهم مفاتح الإدراك، فليس بعد نزول القرآن عذر لمن بقي على شرك أو كفر، ولا سبب لتقصير أو إهمال.
وقد احترم القرآن ما كانوا عليه في الماضي، إذ لا بيان ولا حجة ظاهرة. لذا افتتحت سورة البينة بهذا الإنذار. لم يكن الذين جحدوا رسالة القرآن والنبي العربي الهاشمي، من اليهود والنصارى، وعبدة الأصنام والأوثان من مشركي العرب وغيرهم، منفكين عن الكفر والضلال، مفارقين كفرهم الموروث، منتهين عما هم عليه من الاعتقاد، حتى تأتيهم الحجة الواضحة، وهي القرآن الكريم، ورسالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ففي القرآن والرسالة النبوية: بيان الجهالة والضلالة، والدعوة إلى الإيمان.
والمراد من تلك البينة أو الحجة: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، يقرأ عليهم ما تتضمنه صحف القرآن، المطهرة من الخلط والكذب، والشبهات والضلال، والتحريف واللّبس. والتي فيها الحق الصريح، وفيها، أي سورة البينة أحكام كتب قيمة، أي قائمة معتدلة، آخذة للناس بالعدل، أي فيها الآيات والأحكام المكتوبة المستقيمة المستوية المحكمة، والصلاح والرشاد، والحكمة والهدى. والمراد من الآية: ما كان هؤلاء القوم ليتركوا سدى. والبينة: القصة البينة والجليلة. وفِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) فيه حذف مضاف، تقديره: فيها أحكام كتب قيمة، تقوم بالحق والعدل.
ثم ذم الله تعالى المخالفين بقوله: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ.. أي لا داعي للأسف، فإن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لم يتفرقوا في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة، وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته، فلما جاء من(3/2910)
العرب حسدوه. أي إن تفرقهم واختلافهم لم يكن لاشتباه الأمر عليهم، بل بعد وضوح الحق والصواب، ومجيء الدليل المرشد إلى الدين الصحيح، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي جاء بالقرآن، موافقا لما عندهم من الكتاب بنعته وصفته، فلما بعثه الله، تفرقوا في الدين، فآمن به بعضهم، وكفر به آخرون، وكان عليهم الاتفاق على طريقة واحدة، كما كانوا يعتقدون، من اتباع دين الله، ومتابعة رسول الله.
ثم وبخهم الله على انحرافهم عن جوهر الدين: وهو إخلاص العبادة لله، فقال:
وَما أُمِرُوا أي انهم تفرقوا واختلفوا، مع أنهم لم يؤمروا في جميع كتب الله إلا بعبادة الله وحده، عبادة خالصة، لا يشركون به شيئا، يخلصون العبادة لله تعالى، مائلين عن الأديان كلها إلى الإسلام، ويؤدون الصلاة على الوجه الأتم الذي أراده الله، ويؤتون الزكاة لمستحقيها عن طيب نفس كل عام، وذلك هو دين الملة القويمة.
ثم وجه الله تعالى الوعيد للكفار، وأصدر الوعد للمؤمنين. إن جزاء الذين كفروا بالله، وخالفوا كتب الله من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين الوثنيين هو نار جهنم المستعرة، يصيرون إليها، ماكثين فيها على الدوام، وهم شر الخليقة مصيرا، لتركهم الحق حسدا وبغيا. ولم يقل: (أبدا) لأن رحمة الله أزيد من غضبه، وقال: هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ لإفادة النفي والإثبات، أي هم دون غيرهم.
وإن الذين آمنوا بقلوبهم بربهم، وصدقوا بكتبه ورسله واليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال من أداء الفرائض والطاعات، هم خير الخليقة، حالا ومآلا.
وجزاؤهم يوم القيامة عند خالقهم على ما قدموا من حسن الاعتقاد وصلاح العمل:
جنات إقامة دائمة (بساتين) تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام، رضي الله عنهم لإطاعتهم أوامره وقبولهم شرائعه، ورضوا عنه، بما تفضل الله عليهم من حسن الثواب والجنان، وتحقيق المطالب والآمال والأحلام.(3/2911)
وذلك الجزاء الحسن مخصص لكل من خاف الله واتقاه، ورهب عقابه، وأدى فرائضه. وهذا دليل على أن شرط أداء العبادة كالصوم والصلاة: هو خشية الله والخشوع له.
وقوله تعالى: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ فيه حذف مضاف تقديره: سكنى جنات أو دخول جنات.(3/2912)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
تفسير سورة الزلزلة
علامات القيامة ونوع الجزاء
سور القرآن الكريم وآياته إنذار بعد إنذار، للتذكير والتحذير، فهذه سورة الزلزال المكية في قول ابن عباس وغيره، والمدنية في قول مقاتل وقتادة، لأن آخرها نزل بسبب رجلين كانا بالمدينة، والظاهر أنها مدنية، وهي تبين علامة يوم القيامة، فقد كان الكفار المشركون يسألون كثيرا عن الساعة ويوم الحساب، فيقولون: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [القيامة: 75/ 6] ونحو ذلك من الآيات، فأبان الله لهم في هذه السورة علامات القيامة فقط، ليعلموا أن علم ذلك عند الله، وليس لأحد معرفة ذلك اليوم، ولا تعيينه للجزاء والحساب. وآي السورة هي:
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
«1» «2» «3» «4» [الزلزلة: 99/ 1- 8] .
- إذا حركت الأرض بعنف من أسفلها حركة شديدة، واضطربت اضطرابا هائلا، حتى يتكسر كل شيء عليها.
__________
(1) حركت وهزّت اهتزازا شديدا.
(2) دفائنها وأمواتها.
(3) يخرج الناس من قبورهم إلى موقف الحساب متفرقين متمايزين: فريق للجنة وفريق للسعير.
(4) وزن ذرة، أي هباء أو نملة.(3/2913)
وقوله: زِلْزالَها أبلغ من قوله: (زلزالا) دون إضافة للأرض، لأن المصدر غير المضاف يقع على كل قدر من الزلزال، وإن قل، وإذا أضيف إليها، وجب أن يكون على قدر ما يستحقه، فهو يفيد إيفاء الشيء حقه.
- وألقت ما في جوفها من الأموات والدفائن، وهي أثقالها، وهذه إشارة إلى البعث، كما جاء في آية أخرى: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) [الانشقاق: 84/ 3- 4] . وذلك في النفخة الثانية. وقال ابن عطية: وليست القيامة بموطن لإخراج الكنوز، وإنما تخرج كنوزها وقت الدجال.
- وقال كل إنسان مؤمن أو كافر (جنس الإنسان) لمّا يبهره أمرها، ويذهله خطبها، ويستهول المرئي: ما لهذه الأرض، ولأي شيء زلزلت، وأخرجت أثقالها؟
وقد قال عليه الصلاة والسّلام- فيما أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والحاكم- عن ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس الخبر كالمعاينة..» .
- في ذلك الوقت المضطرب، وقت الزلزلة، تخبر الأرض بأخبارها، وتحدّث بما عمل عليها من خير وشر، ينطقها الله تعالى، لتشهد على العباد، فإخبار الأرض:
هو شهادتها بما عمل عليها من عمل صالح وفاسد، كما قال ابن مسعود والثوري وغيرهما. فالتحديث من الأرض- على هذا المعنى- حقيقة، وكلام بإدراك وحياة يخلقها الله تعالى، وأضاف تعالى الأخبار إليها من حيث وعتها وحصّلتها. وقال الطبري وقوم: التحديث في الآية مجاز، والمعنى حينئذ: أن ما تفعله الأرض بأمر الله تعالى من إخراج أثقالها، وتفتّت أجزائها، وسائر أحوالها، هو بمنزلة التحديث بأنبائها وأخبارها. ويؤيد القول الأول:
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي أخرجه البخاري والنسائي ومالك وأحمد: «فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جنّ ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» .(3/2914)
- ومصدر التحديث: بأن ربك ألهمها، أي تحدّث أخبارها بوحي الله وإذنه لها، بأن تتحدث وتشهد.
- في هذا اليوم المضطرب والخراب المدمر، يصدر (يخرج) الناس من قبورهم إلى موقف الحساب، متفرقين، مختلفي الأحوال، فمنهم المؤمن الآمن، ومنهم الخائف، ومنهم كافرون، ومنهم عصاة، ومنهم فريق الجنة، ومنهم فريق النار، الكل سائر إلى العرض ليريهم الله أعمالهم معروضة عليهم.
ثم أخبر الله تعالى أنه من عمل عملا رآه، قليلا كان أو كثيرا، فمن يعمل في الدنيا وزن نملة صغيرة، أو هباء لا يرى إلا في ضوء الشمس، يجده يوم القيامة في كتابه، ويلقى جزاءه، فيفرح به، أو يراه بعينه معروضا عليه، وكذلك من يعمل في الدنيا أي شيء من الشر، ولو كان حقيرا أو قليلا، يجد جزاءه يوم القيامة، فيسوؤه.
يرى الخير كله من كان مؤمنا، والكافر لا يرى في الآخرة خيرا، لأن خيره قد عجّل له في دنياه. وكذلك المؤمن أيضا له سيئاته الصغار في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها. ويحصل من مجموع هذا: أن من عمل من المؤمنين مثقال ذرة من خير أو شر رآه، وألّا يرى الكافر خيرا في الآخرة. ويؤيد هذا حديث عائشة رضي الله عنها الذي
أخرجه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما: «قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت ما كان يفعل عبد الله بن جدعان من البرّ، وصلة الرحم، وإطعام الطعام، أله في ذلك أجر؟ فقال: لا، إنه لم يقل قط: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمي هذه الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ.. الجامعة الفاذّة.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: (ويطعمون الطعام على حبّه) الآية، كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل، إذا أعطوه،(3/2915)
وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير: الكذبة، والنظرة، والغيبة، وأشباه ذلك، ويقولون: إنما وعد الله النار على الكبائر، فأنزل الله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
وأخرج ابن جرير وغيره: أن هذه السورة نزلت، وأبو بكر رضي الله عنه يأكل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فترك أبو بكر رضي الله عنه الأكل وبكى، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر، ما يبكيك؟ قال: يا رسول الله، أو أسأل عن مثاقيل الذّرّ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر، ما رأيت في الدنيا مما تكره، فمثاقيل ذرّ الشر، ويدخر الله لك مثاقيل ذرّ الخير.(3/2916)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
تفسير سورة العاديات
الجحود والبخل عند الإنسان
يغلب على طبع الإنسان صفتان ذميمتان، الكفر بالنعم أو جحود المعروف والفضل، والبخل أو الشح، وينسى الإنسان أنه في عالم الدنيا في موضع الاختبار والابتلاء، فإن أحسن العمل فاز ونجا، وإن أساء العمل ضل وخسر وهلك. والله خبير مطلع على جميع أعمال الناس، ويحصيها عليهم، لتكون أداة أو وسيلة إثبات عليهم، وهذا تهديد بالعقاب الشديد يوم القيامة، وذلك يتبين من سورة العاديات المكية في قول جماعة من أهل العلم، وهو الراجح:
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [العاديات: 100/ 1- 11] .
أخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيلا، ولبثت شهرا، لا يأتيه منها خبر، فنزلت: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1)
__________
(1) أقسم بخيل الجهاد التي تعدو وتسرع، فيصدر منها صوت أنفاس الخيل. [.....]
(2) الخيل القادحات التي توري النار، أي تخرجها.
(3) الخيل التي تغير أو تهجم على العدو وقت الصبح.
(4) هيجن بمكان عدوهن غبارا، أثناء الحركة.
(5) توسطن بالنقع جمعا من الأعداء.
(6) كفور جحود نعمة الله عليه.
(7) أخرج ما في القبور.
(8) أظهر ما في الصدور وجمع محصلا.(3/2917)
المعنى: أقسم بالخيل التي تجري بفرسانها المجاهدين في سبيل الله إلى العدو، ويسمع لها حينئذ صوت زفيرها الشديد وأنفاسها المتصاعدة، بسبب شدة الجري، وتخرج شرر النار بحوافرها أثناء الجري لتصادم الحصى بالحصى، وبسبب اصطكاك نعالها بالحجر تتطاير منه النار، وتغير على العدو وقت الصباح. والضبح: تصويت جهير عند العدو الشديد، ليس بصهيل.
فهيّجن في وقت الصبح أو في ساحة المعركة غبارا يملأ الجو، ثم توسطن بعدوهن جمعا من الأعداء، اجتمعوا في مكان، ففرّقنه أشتاتا. والنقع: الغبار الساطع المثار، وقوله: جَمْعاً المراد به جمع من الناس هم المحاربون.
- وجواب القسم هو: إِنَّ الْإِنْسانَ.. أي إن جنس الإنسان سواء كان مؤمنا أو كافرا بطبعه للنعمة، كثير الجحود لها، أي ان الإنسان لنعمة ربه لكنود، أي كفور أو عاص.
- وإن الإنسان على كونه كنودا جحودا لشهيد، يشهد على نفسه بالجحود والكفران، أي بلسان حاله، وظهور أثر ذلك عليه، في أقواله، وأفعاله، بعصيان ربه.
- وإن الإنسان أيضا، بسبب حبه للمال، لبخيل به، أو إن حبه للمال قوي، فتراه مجدا في طلبه وتحصيله، متهالكا عليه، ويكون هناك معنيان صحيحان للآية:
أحدهما- وإنه لشديد المحبة للمال. والثاني- وإنه لحريص بخيل بسبب حبه المال، أي من أجل حب الخير لشديد، أي بخيل بالمال، ضابط له. والخير: المال في عرف القرآن.
ثم هدد الله الإنسان وتوعده إذا استمر متلبسا بهذه الصفات، فقال: أَفَلا يَعْلَمُ أي أفلا يدري الجاحد إذا أخرج ما في القبور من الأموات، وجمع محصّلا ما في النفوس أو الصدور من النوايا والعزائم، والخير والشر، إن رب هؤلاء المبعوثين من(3/2918)
القبور لخبير بهم، مطلع على جميع أحوالهم، لا تخفى عليه منهم خافية في ذلك اليوم وفي غيره، وهو مجازيهم في ذلك اليوم على جميع أعمالهم أوفر الجزاء، دون أن يظلموا مثقال ذرة. وإذا علموا ذلك ووعوه، فعليهم ألا يشغلهم حب المال عن شكر ربهم وعبادته والاستعداد للآخرة بالعمل الصالح. وتخصيص أعمال القلوب بالذكر، لأنها البواعث على الأفعال العضوية الصادرة من الإنسان.
وهذا إخبار وتعريف بالمآل والمصير، أي أفلا يعلم الإنسان مآله ومصيره فيستعد له؟
وبعثرة ما في القبور: نقضه مما يستره والبحث عنه، وهي عبارة عن البعث. ثم استؤنف الخبر الصادق بأن الله تعالى خبير بهم يومئذ. والله تعالى خبير دائما، ولكن خصّص (يومئذ) لأنه يوم المجازاة، فإليه طمحت النفوس، وفي هذا وعيد مصرّح بما سيحدث.
تدل هذه الآية على أن الله تعالى عالم بالجزئيات الزمانية، لأنه تعالى نص على كونه عالما بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم، ويعد منكر هذا العلم كافرا.
إن القسم الإلهي بخيول الجهاد على توصيف طبع الإنسان، بكونه جحودا للنعمة، وشهادته بهذا الطبع على نفسه، وبكونه محبا للمال، بخيلا به بخلا شديدا، يوجب علينا الحذر من هذا الطبع، ومحاولة تعديله، وجهاد النفس وترويضها للتخلص من هذه الصفات السيئة فينا.
أما الإصرار على هذا الطبع والإبقاء عليه، فهو مدعاة للتهديد والوعيد والإنكار الشديد، لا سيما إذا علم الإنسان أنه سيلقى ربه، ويحاسبه على أعماله حسابا دقيقا، ويجازيه عليها جزاء وافرا.
وفي ملاحظة هذا الوضع وخطورة المصير، يدرك الإنسان في النهاية: أنه هو الجاني على نفسه إذا قصر في واجباته، وأهمل القيام بما عليه، ولم يتحمس لفعل الخير، ولم يرعو عن فعل الشر.(3/2919)
وفي النهاية، إن الإنسان يترك بموته كل ما جناه، ولا يستفيد من ماله إلا ما ادخر فيه الثواب عند الله، بإنفاقه في سبيل النفس والأهل وفي سبيل الله، وذلك يشمل الجهاد وعون المحتاجين.(3/2920)
الْقَارِعَةُ (1)
تفسير سورة القارعة
أهوال القيامة
ما أصعب الإنسان وأقساه، وما أكثره غفلة وأبعده عن العظة والعبرة، وما أشده تورطا في المخاطر! يرى الخطر جاثما والضرر قائما، وتراه يقتحم المخاطر، ويتقحم الأهوال بعينه ولا يبتعد عنها، ألا وإن أخطر وأدهى شيء يجده الإنسان: هو أهوال القيامة، لذا سميت القيامة في القرآن العظيم بالقارعة: وهي القيامة نفسها، لأنها تقرع القلوب بهولها، وزادها القرآن تهويلا في سورة القارعة المكية بلا خلاف.
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [القارعة: 101/ 1- 11] .
القارعة وهي القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها ومخاوفها وأفزاعها، وأي شيء هي، وما أعلمك ما شأن القارعة؟ وهذا تأكيد لشدة هولها، وتعظيم أمرها، وتهويل شأنها.
وأماراتها: يوم يخرج الناس من القبور، يسيرون على غير هدى في كل اتجاه، شأنهم في ذلك كالحشرة الطائرة المنتشرة المتفرقة، والناس في انتشارهم وتفرقهم، كأنهم فراش مبثوث، أي متفرق منتشر.
__________
(1) القيامة، لأنها تقرع القلوب والنفوس بأهوالها.
(2) حيوان صغير يتهافت على النار.
(3) المتفرق.
(4) الصوف.
(5) الذي نفش.
(6) ما يأوي إليها.
(7) هي نار جهنم. [.....]
(8) ملتهبة مستعرة.(3/2921)
و (يوم) ظرف، العامل فيه (القارعة) قال الزمخشري: شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب، كما يتطاير الفراش إلى النار.
- وتصير الجبال كالصوف ذي الألوان المختلفة، المندوف الذي نفش بالندف، لأنها تتفتت وتتطاير، كما في قوله تعالى: وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) [التكوير: 81/ 3] .
وقوله سبحانه: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا (14) [المزّمّل: 73/ 14] .
وهاتان الأمارتان فيهما تخويف شديد للناس وتحذير خطير، ويلاحظ أن التشبيه للجبال بالصوف متلائم، فالصوف منه الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وكذلك الجبال جدد (طرق) بيض وحمر وصفر وسود. والنّفش: خلخلة الأجزاء وتفريقها عن تراصّها.
ثم ذكر الله الجزاء على الأعمال وتفرق الناس فرقتين.
فأما من ثقلت موازينه وهي التي في القيامة، بأن رجحت حسناته أو أعماله الصالحة على سيئاته، فهو في عيشة مرضية، يرضاها صاحبها في الجنة.
والعيشة: كلمة تجمع النعم التي في الجنة. والعيشة الراضية: معناه ذات رضا، على النّسب. قال جمهور العلماء والفقهاء والمحدثين عن الموازين: ميزان القيامة بعمود وكفّتين، ليبين الله تعالى أمر العباد، بما عهدوه وتيقّنوه. وجمعت الموازين للإنسان لما كانت له موزونات كثيرة متغايرة، وثقل هذا الميزان: هو بالإيمان والأعمال، وخفّته بعدمها وقلّتها، ولن يخفّ ميزان مؤمن، أي لا يخلّد في النار. وإني لمؤمن بالميزان كما ورد في القرآن، دون معرفة كيفية وزنه وتقديره.
وأما من رجحت سيئاته على حسناته، أو لم تكن له حسنات يعتد بها، فمسكنه أو مأواه جهنم، وسماها أمه: لأنه يأوي إليها، كما يأوي الطفل إلى أمه، وسميت جهنم(3/2922)
هاوية: وهي الهالكة، لأنه يهوي فيها مع عمق قعرها، ولأنها نار عتيقة.
روى المبرد:
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا أمّ لك» فقال: يا رسول الله، تدعوني إلى الهدى وتقول: لا أم لك؟ فقال: إنما أريد، لا نار لك، قال الله تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ
وما أعلمك ما هذه النار؟ والاستفهام للتهويل والتخويف، لبيان أنها خارجة عن المعهود، بحيث لا يدرى كنهها، إنها النار الملتهبة الشديدة الحرارة والاستعار، القوية اللهب والارتفاع، وهذا دليل على قوتها التي تفوق جميع النيران. قال الزمخشري:
هِيَهْ ضمير الداهية التي دل عليها قوله: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أو ضمير هاوية، والهاء للسكت، وإذا وصل القارئ حذفها.
أخرج مالك والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «نار بني آدم التي توقدون: جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافية؟ فقال: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» .
وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم» .
لقد ضمت سورة القارعة صنوي التهويل العظيمين وهما القيامة وأهوالها، والنار الشديدة الحرارة ومخاوفها. والناس أمام هذا المصير فريقان: فريق المحسنين الأبرار، الذين يتمتعون بجنان الخلد، والمعيشة ذات الرضا والاطمئنان، وفريق المسيئين الأشرار الذين يتلظون بنيران جهنم، ويحترقون فيها.
ومن علامات القيامة: تغير المألوف، وزوال المعروف من تكوين السماء والأرض، حيث تتصدع السماوات وتتساقط النجوم، وتتفتت الجبال، وتحترق البحار، وتدك الأرض دكا عنيفا، وتتغير معالم الكون، في هذا الجو الرهيب يقف الإنسان حائرا مضطربا في مواجهة الله تعالى والحساب العسير.(3/2923)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
تفسير سورة التكاثر
عاقبة التكاثر في المال والجاه
الناس في لغو ولهو وطرب، ينساقون وراء المال والجاه، والصيت والسمعة، ويحرصون على التنويه بذواتهم في إطار التفوق المادي وجمع المال بأي طريق. ويظل هذا الحرص مهيمنا على مشاعرهم طوال الحياة. فمنهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال. ولقد حذر القرآن الكريم في مناسبات كثيرة من الاغترار بالدنيا وزينتها ومفاتنها، ومن فتنة الأموال والأولاد والأزواج، ولا سيما في سورة التكاثر المكية بلا خلاف:
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
«1» «2» «3» «4» «5» [التكاثر: 102/ 1- 8] .
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن بريدة في قوله: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) قال: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار، في بني حارثة وبني الحارث، وتفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما، فيكم مثل فلان ابن فلان وفلان؟ وقال الآخرون: مثل ذلك،
__________
(1) شغلكم بلذاته.
(2) التفاخر بكثرة المال والولد.
(3) علما يقينيا: وهو العلم القطعي الذي نشأ عن اعتقاد مطابق للواقع، عن معاينة أو دليل صحيح.
(4) لتشاهدن النار.
(5) لتشاهدنها حقيقة أو عيانا كأنها اليقين نفسه، فعلم المشاهدة: هو عين اليقين.(3/2924)
تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول:
فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبور، ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) لقد كان لكم فيما رأيتم عبرة وشغل.
وأخرج ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال: كنا نشك في عذاب القبر، حتى نزلت: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) إلى قوله: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) في عذاب القبر.
لقد شغلكم بلذاته ومفاتنه التفاخر والتباهي بالأموال والأولاد والأعوان، والاعتناء بكثرتها وتحصيلها، شغلكم عن طاعة الله والعمل للآخرة، حتى أدرككم الموت، وأنتم على تلك الحال. وهذا خبر فيه تقريع وتوبيخ وتحسر. والتكاثر: التفاخر بالأموال والأولاد والعدد جملة، وهذا ولع أهل الدنيا ودأبهم وعادتهم، سواء من العرب وغيرهم، لا يتخلص منه إلا العلماء المتقون.
أخرج البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» .
ومعنى حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) مختلف فيه، قال بعضهم بما يناسب سبب النزول: حتى ذكرتم الموتى في تفاخركم بالآباء والسلف، وتكثّرتم بالعظام الرميم، وقال آخرون: المعنى، حتى متّم وزرتم بأجسادكم مقابركم، أي قطعتم بالتكاثر أعماركم. وعلى هذا التأويل روي أن أعرابيا سمع هذه الآية، فقال: بعث القوم للقيامة، وربّ الكعبة، فإن الزائر منصرف لا يقيم.
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) أي ارتدعوا وانزجروا عن هذا التكاثر الذي يؤدي إلى(3/2925)
التقاطع والتدابر والأحقاد والضغائن، وإهمال العمل للآخرة، ومراعاة مصالح الأمة وخيرها، وتصحيح السلوك والأخلاق، وستعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة، وهذا زجر ووعيد.
ثم أكد الله تعالى ذلك الزجر والوعيد للاتعاظ، أي ارتدعوا عن هذا اللهو بالدنيا، فإنكم لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علما يقينيا، لانشغلتم عن التكاثر والتفاخر، ولبادرتم إلى صالح الأعمال، ولما ألهاكم التباهي عن أمر الآخرة العظيم والإعداد لها. وهذا زيادة في الزجر واللوم عن الانهماك في الدنيا، والانهماك بمظاهر الحياة الزائلة.
وقوله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ جواب (لو) محذوف مقدر في القول، أي لازدجرتم وبادرتم إنقاذ أنفسكم من الهلكة. واليقين: أعلى مراتب العلم. ثم فسر الله تعالى الوعيد، وأخبر الناس أنهم يرون الجحيم بقوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) أي لتشاهدن النار في الآخرة، أي تذوقوا عذابها، وهذا جواب قسم محذوف، وهو توعد بحال رؤية النار، التي إذا زفرت زفرة واحدة، خرّ كل ملك مقرّب، ونبي مرسل، على ركبتيه من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال الجسام.
ثم أكد الله تعالى ذلك الوعيد بقوله: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) أي ثم لتشاهدنّ الجحيم مشاهدة عيانا هي نفس اليقين، وهي المشاهدة أو الرؤية بأعينكم، فإياكم من الوقوع فيما يؤدي إلى النار من اقتراف المعاصي والسيئات.
ثم أكد الله تعالى المساءلة عن الأعمال، للتحذير، فقال: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) أي إنكم سوف تسألون عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة، وتسألون عن أنواع نعيم الدنيا، من أمن وصحة وفراغ ومأكول ومشروب ومسكن، وغير ذلك من النعيم. قال الزمخشري: عَنِ النَّعِيمِ عن اللهو والتنعم(3/2926)
الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه. وقال الفخر الرازي: والأظهر أن الذي يسأل عن النعيم هم الكفار، وفي قول آخر: إنه عام في حق المؤمن والكافر، ويكون السؤال حينئذ في حق المؤمن ليعلم أنه وجّه هذا النعيم لما فيه الخير، وصرفه فيما يرضي الله تعالى.(3/2927)
وَالْعَصْرِ (1)
تفسير سورة العصر
أصول النجاة
ليست النجاة بين يدي الله عز وجل بالمال أو الجاه، أو العلم، أو الابتكار، أو العمل الدنيوي المحض، أو غير ذلك من زخاف الحياة، ومظاهر العيش التي يتنافس فيها الناس، ويحرصون عليها، وإنما النجاة بين يدي الله إما بموقف كريم يعتمد على قاعدة الإيمان الصحيح بالله ورسوله، وإما بأصول أربعة هي: جسر النجاة في الموازين الإلهية، ألا وهي الإيمان الثابت، والعمل الصالح، والتواصي بالتزام الحق والعدل والخير، والتواصي بالصبر على الطاعة وعلى مصائب الدنيا، وهذا ما حكم به الله سبحانه في سورة العصر المكية عند الأكثرين:
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
«1» «2» «3» «4» [العصر: 103/ 1- 3] .
هذه سورة جامعة لأصول الخير والنجاة عند الله تعالى، قال الإمام الشافعي رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم، لو لم ينزل غير هذه السورة لكفت الناس، لأنها شملت جميع علوم القرآن.
وأخرج الطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشعب عن أبي حذيفة- وكانت له
__________
(1) والدهر، وقيل: إنه آخر النهار.
(2) النقصان وسوء الحال.
(3) بثوابت الأمور، أي بالخير المجرد.
(4) القوة على تحمل المشاق.(3/2928)
صحبة- قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم إذا التقيا، لم يتفرقا، حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة: والعصر ثم يسلّم أحدهما على الآخر.
وفيها إشارة إلى حال من لم يلهه التكاثر، ولذا وضعت بعد سورته.
ومعناها: أقسم بالعصر: وهو الدهر أو الزمان الذي يمر به الناس، لما فيه من العبر وتقلبات الليل والنهار، وتعاقب الظلام والضياء، وتبدل الأحداث والدول، والأحوال والمصالح، مما يدل على وجود الصانع عز وجل، وعلى توحيده وكمال ذاته وقدرته وصفاته. أقسم بذلك على أن الإنسان (أي اسم الجنس) لفي خسارة وهلاك وسوء حال، في المتاجر والأعمال، والمساعي والأفعال، إلا من استثناهم الله فيما يأتي.
وهذا القسم بالدهر دليل على شرفه وأهميته، لذا
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه-: «لا تسبّوا الدهر، فإن الله هو الدهر» أي خالقه.
والآية، كما ذكر الرازي، كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة، وذلك بيّن غاية البيان في الكافر، إنه خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وأما المؤمن- وإن خسر في دنياه أحيانا، كالتجارة، والهرم ومقاساة شقاء الدنيا- فذلك لا يعد شيئا في جانب فلاحه في الآخرة، وربحه الذي لا يفنى.
ثم استثنى الله تعالى من جنس الإنسان من اتصف بصفات أربع، حيث يجمع له الخير كله، وهذه الصفات:
- هي الإيمان الصحيح بالله عز وجل وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر، خيره وشره، حلوه ومره، والشر في المقضي بحسب تقدير الإنسان عاجلا، أما في المستقبل، أو في علم الله تعالى فلا شر في القدر.(3/2929)
- والمداومة على العمل الصالح: وهو أداء الفرائض وبقية الطاعات، وفعل الخيرات، وترك المحرمات، وترداد الباقيات الصالحات وهي سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
- والتواصي بالحق وهو كل أمر ثابت صحيح خلاف الباطل: وهو الخير كله من الإيمان بالله عز وجل، واتباع كتبه ورسله عليهم السّلام، في كل عقد وعمل. قال الزمخشري: هو الخير كله. من توحيد الله، وطاعته، واتباع كتبه ورسله والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة.
- والتواصي بالصبر عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلّة البشرية، والصبر على الطاعات التي يشق على النفس أداؤها، وعلى ما يبتلي الله تعالى به عباده من المصائب.
والصبر المذكور داخل في الحق، وذكره بعده مع إعادة الجار والفعل المتعلق هو به، لإبراز كمال العناية به. والصبر: ليس مجرد حبس النفس عما تتوق إليه من فعل أو ترك، بل هو تلقي ما ورد منه عز وجل بالجميل والرضا به، باطنا وظاهرا.
واستدل بعض المعتزلة بما في هذه السورة، على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لأنه لم يستثن فيها عن الخسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. إلخ، وأجيب عنه بأنه لا دلالة في ذلك على أكثر من كون غير المستثنى في خسر، وأما على كونه مخلدا في النار، فلا.
كيف والخسر عام، فهو إما بالخلود إن مات كافرا، وإما بالدخول في النار إن مات عاصيا، ويبقى بعد ذلك الإحالة إلى مغفرة الله تعالى، فهو سبحانه إن غفر المعاصي لم يخلد،
وقد ورد في الحديث الثابت الذي أخرجه البزار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال: لا إله إلا الله، مخلصا دخل الجنة» .(3/2930)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
تفسير سورة الهمزة
جزاء الطعن والتعييب
ليس لأحد أن يدعي الكمال، فالكمال لله وحده، وليس لأحد أن يزعم أنه خال من النقص والعيب، فإن الإنسان مبني على النقص في عقله وتجاربه، وما دام النقص من سمات الإنسان، فلا يصح أن يغفل عن نقائصه، ويوجه انتقاداته وطعونه إلى الآخرين، وإنما عليه العناية بنفسه، فيصلحها، ويحاول إكمال ما فيها من نقائص، وليترك الناس وما هم عليه من عيوب، فإن لم يفعل استحق الويل والهلاك والعذاب، الذي تنص عليه سورة الهمزة المكية بلا خلاف:
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [الهمزة: 104/ 1- 9] .
قال عطاء وغيره: نزلت في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم، وبخاصة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: في جميل بن عامر الجمحي، وقال مقاتل: نزلت في
__________
(1) كلمة هلاك وعذاب يجمع الشر والخزي، وهو مبتدأ وإن كان نكرة لوقوعه في موقع الدعاء، وخبره:
الذي جمع.
(2) عياب، طعان نمام.
(3) عده مرات تلذذا به.
(4) جعله خالدا. [.....]
(5) النار الشديدة.
(6) المتقدة المسعّرة.
(7) تصل إليها.
(8) مغلقة عليهم.
(9) عمد طويلة.(3/2931)
الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من ورائه، ويطعن عليه في وجهه، وروي أيضا أن أمية بن خلف كان يفعل ذلك، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وهذه قاعدة عامة، فهي تتناول كل من اتصف بهذه الصفات.
هلاك وعذاب وخزي لكل همزة لمزة. والهمزة: الذي يهمز الناس بلسانه، أي يعيبهم ويغتابهم، وقال ابن عباس: هو المشاء بالنميم. واللمزة: الذي يغتاب الناس ويطعن في الوجه.
- وسبب همزه ولمزه: إعجابه بما جمع من المال وأحصاه وحافظ على عدده ألا ينقص، وظن أن له به الفضل على غيره، فمنعه من الخيرات ونفقة البر.
- يظن أن ماله يضمن له الخلود، ويتركه حيا باقيا لا يموت، لشدة إعجابه بما يجمعه من المال، فلا يفكر فيما بعد الموت. ويحسب أيضا أن ماله هو معنى حياته وقوامها، وأنه حفظه مدة عمره ويحفظه.
ثم رد الله تعالى عليه هذه المزاعم والأوهام، وأخبر إخبارا مؤكدا أنه ينبذ في الحطمة، أي التي تحطم ما فيها وتلتهمه، لينزجر ويرتدع عما يقول، فليس الأمر كما زعم ولا كما حسب، بل ليلقين ويطرحن هذا الأفاك هو وماله في النار التي تحطم أو تهشم كل ما يلقى فيها.
ثم عظّم الله تعالى شأن النار، وأخبر أنهار نار الله الموقدة التي يبلغ إحراقها القلوب ولا تخمد، و (الفؤاد) القلب. وما أعلمك ما هذه النار، وأي شيء هي؟ فكأنها لا تدركها العقول والأفكار، هي النار المستعرة بأمر الله تعالى، التي لا تخمد أبدا.
وفائدة وصف جهنم بالحطمة: مناسبتها لحال المتكبر، المتجبر بماله، المترفع على غيره، فهي تكسر كسرا كل ما يلقى فيها، لا تبقي ولا تذر. وإضافة نارُ اللَّهِ للتفخيم، أي هي نار، لا كسائر النيران.(3/2932)
ثم وصف الله تعالى النار بأوصاف ثلاثة، وأخبر بها خبرا دائما عاما، وهي:
- التي تعلو وتصل إلى القلوب وتغشاها بحرها الشديد، وتحرقهم وهم أحياء، وتتجدد الحياة ويدوم العذاب، والقلوب أشد أجزاء البدن تألما، وخصت بالذكر، لأنها محل العقائد الزائغة، والنيات الخبيثة، وسوء الأخلاق من الكبر واحتقار الناس، والأعمال القبيحة.
- وهي عليهم مطبقة، مغلقة عليهم أبوابها جميعا، فلا منافذ، ولا يستطيعون الخروج منها، كما جاء في آية أخرى: عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ [البلد: 90/ 20] . وقال الله تعالى مبينا استمرار بقائهم فيها: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج: 22/ 22] . قال علي رضي الله عنه: أبواب النار بعضها فوق بعض.
- وهي أيضا كائنة ثابتة في أعمدة ممددة طويلة موثّقة، قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم شدّت بأوتاد من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح، قال ابن زيد: المعنى: في عمد حديد مغلولين لها، والكل من نار.
والآية تفيد المبالغة في العذاب، بقوله تعالى: لَيُنْبَذَنَّ أي أنه موضع، له قعر عميق جدا كالبئر، وأن أبوابها لا تفتح ليزيد في حسرتهم، وتغلق إغلاقا محكما، للتيئيس من الخروج منها، وممددة في أعمدة دائمة اللهب، فلا أمل في إطفائها أو تخفيف شدة حرارتها.
إن من يشاهد أفران النار للتوتر العالي، أو مراكز الطاقة الذرية المتفجرة، أو البراكين التي تظهر فيها المعادن والحجارة منصهرة كالماء السيّال أو النيران المتآكلة، يفزع كل الفزع، ويهرب من غير وعي ولا عقل، فكيف بنيران جهنم التي هي أشد من جميع نيران الدنيا؟! ونار الدنيا جزء من سبعين أو مائة جزء من نار الآخرة، عافانا الله منها.(3/2933)
تفسير سورة الفيل
قصة أصحاب الفيل
حرمات الله تعالى عظيمة مقدسة، ومنها بيت الله الحرام- الكعبة المشرفة، فمن حاول المساس بتلك الحرمات، رده الله وصده عنها، وحمى حرماته بما يشاء، وسورة الفيل المكية إجماعا من الرواة نزلت تذكيرا لقريش بنعمته العظيمة، حين أراد أبرهة ملك الحبشة هدم الكعبة، ووجّه جيشه لهذه المهمة، معهم الفيلة الكثيرة، بقصد توجيه حج العرب إلى بيت بناه أبرهة في اليمن، ولكن قدرة الله القهار فوق كل تقدير واعتبار، فحينما وجه أبرهه جيشه لهدم الكعبة، برك فيله بذي المغمّس (موضع قريب من مكة في طريق الطائف) ولم يمش نحو مكة، على الرغم من أنهم شقوا جلده بالحديد، وكان إذا وجهوه إلى غير مكة هرول. وبينما هم كذلك، بعث الله تعالى عليهم طيرا جماعات سودا أو خضرا من البحر، عند كل طير ثلاثة أحجار، في منقاره ورجليه، كل حجر فوق العدسة، ودون الحمّصة، فرمتهم بتلك الحجارة، وكان الحجر منها يقتل المرميّ، وتتهرأ لحومهم جربا وأسقاما، وانصرف أبرهة بمن بقي معه يريد اليمن، فماتوا في طريقهم متفرقين في كل مرحلة، وتقطّع أبرهة أنملة أنملة حتى مات، وحمى الله بيته، فنزلت هذه السورة منبّهة على الاعتبار بهذه القصة، ليعلم الكل أن الأمر كله لله تعالى، ويستسلموا للإله الذي ظهرت في ذلك قدرته، حين لم تغن الأصنام شيئا، فأصحاب الفيل: هم أبرهة الملك ورجاله.
وها هي سورة الفيل:(3/2934)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الفيل: 105/ 1- 5] .
ألم تعلم علم اليقين، وكأنك شاهدت الواقعة، بما صنع ربك العظيم القدير بأصحاب الفيل، حيث دمّرهم الله، وحمى بيته الحرام، أفلا يجدر بقومك أن يؤمنوا بالله؟! وقد شاهد بعضهم الواقعة بنفسه.
ألم تر أن ربك جعل مكرهم وتدبيرهم وسعيهم في تخريب الكعبة واستباحة أهلها، في تضليل وانحراف عما قصدوا إليه، وفي تضييع وإبطال، حتى إنهم لم يصلوا إلى البيت، ولا إلى ما أرادوا بكيدهم، بل أهلكهم الله تعالى. والكيد: إرادة مضرة بالغير على الخفية. والتضليل: الخسار والتلف.
وحيث إن قومك أيها النبي يعلمون بهذا الأمر، فليخافوا أن يعاقبهم الله بعقوبة مماثلة، ما داموا يصرون على الكفر بالله تعالى، وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وكتابه الكريم، ويصدون الناس عن سبيل الإيمان بالله تعالى.
وأرسل الله تعالى على أصحاب الفيل جماعات متفرقة من طيور سود أو خضر، جاءت من قبل البحر فوجا فوجا، مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره، لا يصيب شيئا إلا دمره وهشمه، وهي حجارة صغيرة من طين متحجر كالحمّصة وفوق العدسة، فإذا أصاب أحدهم حجر منها، خرج به الجدري أو الحصبة، حتى هلكوا.
__________
(1) ألم تعلم أيها الرسول.
(2) أبرهة الحبشي الملك وجنوده.
(3) لقد جعل مكرهم وتدبيرهم بتخريب الكعبة وتعطيلها.
(4) تضييع وإبطال.
(5) جماعات متفرقة.
(6) طين متحجر.
(7) كورق زرع وحبه وتبنه.
(8) أكلته الدواب، وراثته، أي صاروا طحينا ذاهبا كورق الحنطة، أكلته الدواب وراثته.(3/2935)
فجعلهم فضلات وبقايا، مثل ورق الزرع أو الشجر إذا أكلته الدواب، ثم راثته، فأهلكهم جميعا. وحجارة من سجيل: أي من ماء وطين، كأنها الآجر ونحوه مما طبخ، وهي المسوّمة عند الله تعالى للكفار الظالمين. والعصف: ورق الحنطة وتبنه.
والمعنى: صاروا طحينا ذاهبا كورق الحنطة، أكلته الدواب وراثته، فجمع ذلك المهانة والخسة والتلف.
هذه هي قصة أصحاب الفيل الثابتة ثبوتا قطعيا، أثبتها القرآن، وعاش أحداثها عرب مكة من قريش سنة (571 م) ، في العام الذي ولد فيه النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وهي قصة عجيبة غريبة، لإظهار مثال من أمثلة قدرة الله تعالى، حيث يغفل الناس عن الأمثلة الكثيرة الواقعية المشابهة، يتبين منها أن الله تعالى بقدرته العظيمة قادر على أن يدفع السوء عن البيت الحرام وعن كل ما يريد حمايته في كل وقت، وهو القادر على أن يعاقب الطغاة المتجبرين، الذين يشركون مع الله إلها آخر، ويصدّون الناس عن البيت الحرام للعبادة فيه، وعن الإيمان برسالة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وكفى بذلك إنذارا وتحذيرا، وحماية وصونا، وفضلا ونعمة، وإعلاما بأن الله جلت قدرته ينصر من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وعقيدتنا: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [ال عمران: 3/ 126] .(3/2936)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
تفسير سورة قريش
نعم الله على قريش
لم يترك الحق سبحانه وتعالى وسيلة إقناعية أو تربوية أو ترغيبية أو تهديدية إلا أقامها وأداها لقبيلة قريش في صدر الإسلام، من أجل حملهم على الانضمام لراية الإسلام، وإعلان عقيدة توحيد الله تعالى، وترك الشرك والوثنية وعادات الجاهلية القبيحة، ومن هذه الوسائل تذكيرهم بما أنعم الله تعالى عليهم، من تيسير الحصول على مكاسبهم وأرزاقهم وتجاراتهم الرابحة، لقطري الشام واليمن، في قوافلهم الشتوية والصيفية، وذلك في سورة قريش المكية بلا خلاف:
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
«1» «2» [قريش: 106/ 1- 4] .
أخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فضّل الله قريشا بسبع خصال أو خلال: أني منهم، وأن النبوة فيهم، والحجابة والسقاية فيهم، وأن الله نصرهم على الفيل، وأنهم عبدوا الله عز وجل عشر سنين لا يعبده غيرهم، وأن الله أنزل فيهم سورة من القرآن، ثم تلا رسول الله
__________
(1) أي فليعبدوا الله وحده بسبب إيلافهم، أي جعلهم يألفون رحلتين في العام. وقريش: ولد النّضر بن كنانة. [.....]
(2) بدل من إيلاف قريش. ورحلة: مفعول به لإيلافهم، على تقدير أن يكون من الألفة، ومنصوب بنزع الخافض إذا كان من المؤالفة.(3/2937)
صلّى الله عليه وسلّم: بسم الله الرّحمن الرّحيم: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ.. (السورة)
وهو حديث غريب، كما قال ابن كثير.
هذه السورة نزلت إذن في بيان خصال قريش، وتذكيرهم بنعم الله عليهم.
ومعناها: لتعبد قريش (وهم ولد النضر بن كنانة) الله تعالى، شكرا له وإعظاما، لأجل إيلافهم (جعلهم يألفون) رحلتين في العام، واحدة في الشتاء إلى اليمن، لجلب العطور والبهارات الآتية من الهند والخليج، وهي بلاد حارة، وواحدة إلى الشام في الصيف، لأنها بلاد باردة، لجلب الحبوب الزراعية. وكانت قريش في مكة تعيش بالتجارة. ولولا هاتان الرحلتان لم يتمكنوا من المقام بها، ولولا الأمن بجوار البيت الحرام، لم يقدروا على التصرف، وكانوا لا يغار عليهم، لأن العرب يقولون: قريش أهل بيت الله عز وجل وجيرانه.
وكل هذا الاحترام والإجلال لقريش أهل مكة إنما كان من الله عزّ وجلّ، الذي هيّأه ويسّره لهم بفضل البيت الحرام، فكان عليهم الإقرار بهذه النعمة، وإفراد الله بالعبادة والتعظيم.
كما أن النّعم الأخرى المذكورة في الحديث المتقدّم، ومن أهمها نعمة صدّ أصحاب الفيل عن هدم الكعبة، تستوجب الإقرار بها وعبادة الله تعالى المنعم. فعليهم عبادة ربّ البيت الحرام الذي كان سببا في تحقيق مجدهم وزعامتهم وأمنهم واستقرارهم. والله وحده هو المستحق للعبادة، لكونه ربّ هذا البيت، على الرغم من أوثانهم التي كانوا يعظّمونها حول الكعبة، فميّز الله تعالى نفسه عنها، وبالبيت تشرّفوا على سائر العرب، وهم يدركون هذا ويقرّون به. وكانت الإشارة إلى (البيت الحرام) في السورة لإفادة التعظيم.
ويلاحظ كما ذكر الرازي أن الإنعام على قريش بصدّ أصحاب الفيل إنما هو لدفع الضرر عنهم، ودفع الضرر عن النفس واجب، والإنعام عليهم بالبيت الحرام لجلب(3/2938)
النفع، وهو غير واجب، فجمع الله تعالى بين النعمتين العظيمتين، جمعا بين الواجب وغيره، لتحقيق الكمال والإتمام، وأمرهم ربهم بعبادته والعبودية له، وأداء الشكر على ذلك، بقوله: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
(3) .
والعبادة: هي التذلّل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون، وهي تحقّق معنى العبودية. ثم ذكر الله تعالى نعما أخرى على قريش، صادرة من الله تعالى وهي:
- أنه ربّ البيت هو الذي أطعمهم من جوع، ووسّع لهم في الرزق، ويسّر لهم سبيله، بسبب هاتين الرّحلتين، فخلّصهم من جوع شديد كانوا فيه قبلهما.
- وتفضّل عليهم بالأمن والاستقرار، فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ولا يعبدوا من دونه صنما ولا وثنا، ولا شيئا آخر مما يعظّمونه.
قال ابن كثير: ولهذا من استجاب لهذا الأمر، جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، ومن عصاه سلبهما منه، كما قال الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ [النّحل: 16/ 112- 113] .
وكانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها بعضا (يسترقونهم) ، فأمنت قريش لمكان الحرم، كما آمنهم الله من خوف الحبشة مع الفيل، قال الله تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 29/ 67] .
فمن تأمين الله لقريش كما يبدو في الآية: أنه آمنهم من خوف التّخطف في بلدهم ومسايرهم، والذي كان ظاهرة شائعة في القبائل العربية الأخرى المجاورة. ومن التأمينات الإلهية لهم أيضا: تأمينهم من خوف الجذام والطاعون، فلا يصيبهم في بلدهم، فضلا من الله تعالى ونعمة.(3/2939)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
تفسير سورة الماعون
جزاء المكذب بالدين وصفاته
إن من أهم أسباب الشقاء والانحراف والضلال في الدنيا: هو إنكار يوم القيامة أو يوم الجزاء والحساب، فلو صدّق الناس به تصديقا تاما، لما تجرأ واحد منهم على العصيان والمخالفة، أو الكفر والجحود، أو إهمال الفرائض الإلهية، وتجاوز الآداب والأخلاق القويمة، لأن الخوف من العقاب والتهديد بالعذاب لا ينفع غير المؤمنين بوجود عالم الآخرة، وتذكير السامع بالتخلص من أمراض العصيان، والقسوة على المحتاجين، ومراءاة الناس، ومنع مساعدة الجيران وحجب وسائل العون عنهم وعن غيرهم، إنما يفيد المصدقين بالقيامة، كما جاء في سورة الماعون المكية:
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الماعون: 107/ 1- 7] .
قال ابن عباس: نزلت هذه السورة في العاص بن وائل السهمي، وقال السدي:
نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل: في أبي جهل، وكان وصيا ليتيم، فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه، فدفعه. ويروى أن هذه السورة نزلت في بعض المضطّرين في
__________
(1) بالجزاء والحساب ويومه.
(2) يدفعه بعنف عن حقه ويزجره.
(3) لا يحث عليه.
(4) خزي وعذاب وهلاك.
(5) غافلون عنها.
(6) كل ما يستعان به وينتفع منه كالدلو والقدر والفأس ونحو ذلك.(3/2940)
الإسلام بمكة، الذين لم يحققوا فيه، وفتنوا فافتتنوا، وكانوا على هذا الخلق من الغشم وغلظ العشرة، والفظاظة على المساكين، وربما كان بعضهم يصلي أحيانا مع المسلمين مدافعة وحيرة، فقال الله تعالى فيهم: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) .
وقال ابن جريج: كان أبو سفيان ينحر كل أسبوع جزورا، فجاءه يتيم، فقرعه بعصا، فنزلت السورة فيه. وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- فيما
أخرجه ابن المنذر وابن جرير وغيرهما-: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون، قال: «هم الذين يؤخرونها عن وقتها»
يريد صلّى الله عليه وسلّم- والله تعالى أعلم- تأخير ترك وإهمال. وإلى هذا نحا مجاهد.
ويؤكد هذا ما أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) قال: نزلت في المنافقين كانوا يراءون المؤمنين بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العاريّة، أي الشيء المستعار.
والمعنى: أأبصرت أيها النبي الذي يكذب بالحساب والجزاء؟! أو بالمعاد والجزاء والثواب؟ وقوله: أَرَأَيْتَ وإن كان في صورة استفهام، لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب. وهذا مثال آخر لكون الإنسان في خسر.
هذا الذي يكذب بالقيامة والجزاء، هو الذي يدفع اليتيم عن حقه دفعا شديدا، ويزجره زجرا عنيفا، ويظلمه حقه، ولا يحسن إليه، علما بأن عرب الجاهلية كانوا لا يورّثون النساء والصبيان.
وهذا هو الذي لا يحث نفسه ولا أهله ولا غيرهم على إطعام المسكين المحتاج، بخلا بالمال، كما جاء في آية أخرى: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الفجر: 89/ 17- 18] .(3/2941)
فويل، أي خزي وعذاب وهلاك للمنافقين الذين يؤدون الصلاة أحيانا تظاهرا، وللغافلين عن الصلاة، الذين لا يبالي أحدهم، صلّى أم لم يصلّ، لا يرجون ثوابا إن صلوا، ولا يخافون عقابا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، إهمالا لها.
وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا. إن هؤلاء هم الساهون عن صلاتهم، أي التاركون لها، أو الغافلون عنها. قال عطاء بن يسار:
الحمد لله الذي قال: عَنْ صَلاتِهِمْ ولم يقل: (في صلاتهم) .
أولئك الساهون عن صلاتهم: هم الذين يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا، أو يراءون الناس بكل ما عملوا من أعمال البر، ليثنوا عليهم.
وهم الذين يمنعون الماعون، أي يمنعون الإعارة وفعل الخير. والماعون: كل ما يتعاوره الناس بينهم، من الدلو والفأس والقدوم والقدر ومتاع البيت، وما لا يمنع عادة كالماء والملح، مما ينسب مانعة إلى الخسة ولؤم الطبع وسوء الخلق.
إن هؤلاء المنافقين وأمثالهم من المشركين، لم يحسنوا عبادة ربهم، ولم يحسنوا إلى الناس، حتى بإعارة ما ينتفع به ويستعان به، مع بقاء عينه، ورجوعه إليهم، وهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أشد منعا وبخلا. روى النسائي وغيره عن عبد الله بن مسعود قال: كل معروف صدقة، وكنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عارية الدّلو والقدر.
إن هذه السورة الكريمة تصلح عنوانا بارزا لكل أنواع التكامل والتضامن الاجتماعي فيما بين الناس، حتى تسود المحبة والود، ويتآلف البشر، ويعم الرفاه والاستقرار أنحاء المجتمع، وتعيش كل جماعة في أمن وعافية وسلام.(3/2942)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
تفسير سورة الكوثر
نعم الله على نبيه
سور الضحى والانشراح والكوثر فيها تعداد النعم الإلهية على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي نعم كثيرة، في قمتها في الدنيا: النبوة والرسالة، وفي الآخرة: الكوثر وهو الخير الكثير، ولقد تضمنت سورة الكوثر المكية الخبر بما أعطى الله نبيه وهو الكوثر، وبما طالبه به من الصلاة والصدقة شكرا لله على ما أنعم، وتبشيرا بالنصر، وخذلانا لأعدائه، وانقطاع أثرهم وذكرهم، وهي أقصر سورة في القرآن الكريم، وهذا هو نصها في ثلاث آيات قصار فقط:
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
«1» «2» «3» [الكوثر: 108/ 1- 3] .
سبب نزولها: ما أخرجه البزار وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم كعب بن الأشرف مكة، فقالت له قريش: أنت سيدهم، ألا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السقاية، وأهل السدانة، قال: أنتم خير منه، فنزلت: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) .
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن عكرمة قال: لما أوحي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، قالت قريش: بتر محمد منا، فنزلت: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) .
__________
(1) الخير الكثير وأكثر المفسرين على أنه نهر في الجنة.
(2) انحر الأضاحي ونحوها وتصدق على المحاويج.
(3) مبغضك هو المنقطع عن كل خير، ومقطوع الأثر والذكر.(3/2943)
وهناك روايات أخرى، ومجمل الروايات كلها: أن سبب نزول هذه السورة: هو استضعاف النبي صلّى الله عليه وسلّم، واستصغار أتباعه، والشماتة بموت أولاده الذكور، ابنه القاسم بمكة، وإبراهيم بالمدينة، والفرح بوقوع شدة أو محنة بالمؤمنين، فنزلت هذه السورة إعلاما بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قوي منتصر، وأتباعه هم الغالبون، وأن موت أبناء الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يضعف من شأنه، وأن مبغضيه هم المنقطعون الذين لن يبقى لهم ذكر وسمعة ولا أثر، البعيدون عن كل خير، المحرومون من أي فضل.
والمعنى: لقد منحناك الخير الكثير، ومنه نهر في الجنة، جعله الله كرامة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولأمته.
أخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك قال: «أغفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إغفاءة، فرفع رأسه متبسما، فقال: إنه أنزل علي آنفا سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) حتى ختمها.
وفي الحديث: «هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب، إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدث بعدك» .
وكما أعطيناك هذا الكوثر، فداوم على صلاتك المفروضة والنافلة، وأدّها خالصة لوجه ربك وانحر ذبيحتك وأضحيتك، وما هو نسك لك، وهو الهدي (شاة أو بعير مقدم للحرم) وغير ذلك من الذبائح لله تعالى وعلى اسم الله وحده لا شريك له فإنه هو الذي تعهدك بالتربية، وأسبغ عليك نعمه دون سواه، كما قال تعالى في آية أخرى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) [الأنعام: 162- 163] .
وهذا على نقيض فعل المشركين، الذين كانوا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله، فأمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن تكون صلاته ونحره لله، وهو أيضا نقيض فعل المنافقين(3/2944)
المرائين. والمراد: صلاة العيد، ونحر الأضحية، قال ابن كثير: الصحيح أن المراد بالنحر: ذبح المناسك، بدليل ما نص عليه
حديث البراء بن عازب عند الشيخين: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي العيد، ثم ينحر نسكه، ويقول: من صلّى صلاتنا، ونسك نسكنا، فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له» . فقام أبو بردة بن نيار، فقال: يا رسول الله، إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم يشتهي فيه اللحم، قال: شاتك شاة لحم، قال: فإن عندي عناقا هي أحب إلي من شاتين، أفتجزى عني؟ قال: تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك» .
إن مبغضك أيها النبي، ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع، والنور المبين: هو الأبتر أي الأقل الأذل، المنقطع عن خيري الدنيا والآخرة، والذي لا يبقى ذكره بعد موته، وهذا رد على ما قال بعض المشركين كالعاص بن وائل أو الوليد بن المغيرة أو أبي جهل لما مات ابنه عبد الله من خديجة: إنه أبتر. وقال الحسن البصري رحمه الله: عنى المشركون بكونه أبتر: أنه ينقطع عن المقصود قبل حصوله، والله بيّن أن خصمه هو الذي يكون كذلك.(3/2945)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
تفسير سورة «الكافرون» أو المقشقشة «1»
البراءة من الشرك
حسم الإسلام بآيات القرآن العظيم قضية الإيمان والشرك، بعد أن أوضح الله تعالى الأدلة الدالة على صحة الاعتقاد، من توحيد الله تعالى، والتصديق بأنبيائه ورسله، وبكتبه وملائكته واليوم الآخر، فلم يبق بعدئذ مجال للوثنية أو الشرك، وجاءت سورة «الكافرون» المكية بالإجماع مبرئة من الشرك والنفاق، ومن عمل المشركين، وآمرة بإخلاص العبادة لله تعالى، فقال الله سبحانه:
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
[الكافرون: 109/ 1- 6] .
سبب نزولها: ما
أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن قريشا دعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أن يعطوه مالا، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد، وتكفّ عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فأنزل الله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) إلى آخر السورة، وأنزل: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) [الزمر: 39/ 64] .
__________
(1) هو من قشقش المريض: إذا صح وبرأ، أي المبرئة من الشرك والنفاق.(3/2946)
والجماعة الذين دعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا، من تمويله وتزويجه من شاء من كرائم نساء قريش: هم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية ابن خلف، وأبّي بن خلف، وأبو جهل، وابنا الحجاج، ونظراؤهم ممن لم يسلم بعد. فنزلت هذه السورة للرد عليهم، ومضمونه:
قل أيها الرسول لقومك القرشيين: يا أيها الكافرون، لا أعبد على الإطلاق ما تعبدون من الأصنام والأوثان، فلست أعبد آلهتكم بأية حال. والآية تشمل كل كافر على وجه الأرض، والبدء بكلمة (قل) لرفع الحرج عن النبي، وبيان أنه مأمور بهذا الكلام، لا من عند نفسه.
لن أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي.
لا أعبد أنا عبادتكم، أي لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأنتم لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم، لأن عبادة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه المؤمنين برسالته خالصة لله لا شرك فيها ولا غفلة عن الله الإله المعبود بحق. وهم يعبدون الله بما شرعه.
والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن الله بها، فكلها شرك وإشراك، ووسائلها من صنع الهوى والشيطان.
قيل: في الآيات تكرار، والغرض التأكيد، لقطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم.
والقرار الفصل والقول الحسم الذي يجعل الاستقلال لكل فئة أو جماعة بدينها:
هو أن لكم إشراككم أو كفركم، ولي ديني ومذهبي وهو التوحيد والإخلاص لله أو(3/2947)
الإسلام، فدينكم الذي هو الإشراك، لكم لا يتجاوزكم إلي، وديني الذي هو التوحيد مقصور علي لا يتجاوزني، فيحصل لكم.
وليست هذه السورة على التحقيق منسوخة بآية القتال: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 9/ 36] فإن المحققين من العلماء قالوا: لا نسخ لهذه السورة، بل المراد التهديد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 41/ 40] .
ونظير هذه الآية كثير في القرآن، منها قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 10/ 14] .
وهذا الفصل بين أتباع الأديان يريح كل فريق، ويجعل كل إنسان مسئولا عما يحب ويختار، ويعتقد ويعمل، إذ لا إكراه في الدين، والدين يقوم على أساس القناعة والحرية والاختيار، وهذا أساس توجيه المسؤولية لكل إنسان عما عمل، وسيرى كل واحد عاقبة فعله واعتقاده وقوله. وإذا لم يجد الإقناع وإعمال العقل الحر الطليق من غير تعصب ولا أحقاد ولا موروثات، فإن كل إنسان مطالب بترك غيره فيما اختاره أو اعتقده.(3/2948)
تفسير سورة النصر
التسبيح والتحميد والاستغفار عند الفتوحات
يتميز الإسلام الحنيف، بالربط بين الدنيا والآخرة، وبين الله وعبده، وبين النصر والعزة والفتوح، واللجوء إلى الله فبل وعقب ذلك، حتى لا يترك الإنسان وأهواءه وشهواته، ويظل معتدل المزاج لا يبطر ولا يغتر ولا يفجر، وهذا ما نجده واضحا من توجيه الله تعالى نبيه وأمره له بعد الفتوح التي فتحت عليه، مكة وغيرها، بأن يسبّح ربه ويحمده ويستغفره، في سورة النصر المدنية إجماعا، حيث سئل ابن عباس عن مدلولها، فقال: هو أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أعلمه الله تعالى بقربه إذا رأى هذه الأشياء، فقال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما ذكرت «1» . وهذا الاتجاه الذي ذكر ابن عباس في تفسير هذه السورة هو ما ذكره ابن مسعود وأصحابه، وقتادة، والضحاك.
وروت معناه عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنه صلّى الله عليه وسلّم لما فتحت مكة، وأسلم العرب، جعل يكثر أن يقول: «سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك» يتأول القرآن في هذه السورة «2» . وقال لها مرة: «ما أراه إلا حضور أجلي» .
هذه السورة هي سورة النصر:
__________
(1) أخرجه سعيد بن منصور، وابن سعد، والبخاري، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أخرجه عبد الرزاق وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها.(3/2949)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
«1» «2» «3» «4» [النصر: 110/ 1- 3] .
هذه السورة بشارة بالنصر للنبي صلّى الله عليه وسلّم على العرب قاطبة، ونعي أجله والاستعداد للانتقال إلى الرفيق الأعلى بمداومة التسبيح والتحميد والاستغفار.
إذا تحقق لك أيها النبي نصر الله، وعونه، وتأييده على من عاداك، وهم قريش وبقية العرب، وفتحت لك مكة، وتحققت لك الغلبة، وإظهار دينك وانتشاره، فنزه الله تعالى، حامدا له نعمه وأفضاله عليك، واسأل المغفرة لك ولمن اتبعك، إن الله كثير القبول لتوبة عباده، حتى لا ييأسوا ويرجعوا بعد الخطأ.
و (النصر) الذي رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هو غلبته لقريش وهوازن وغير ذلك. و (الفتح) هو فتح مكة والطائف ومدن الحجاز وكثير من اليمن. قال ابن عبد البر في كتابه الاستيعاب: لم يمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي العرب برجل كافر، بل دخل الكل في الإسلام، بعد حنين والطائف، منهم من قدم، ومنهم من قدم وافده، ثم كان بعده صلّى الله عليه وسلّم من الردة ما كان، ورجعوا كلهم إلى الدين «5» . والمراد بذلك: العرب وعبدة الأوثان.
وفائدة قوله: (نصر الله (مع أن النصر لا يكون إلا من عند الله: هو أنه نصر لا يليق إلا بالله، ولا يليق أن يفعله إلا الله، أو لا يليق إلا بحكمته، والمراد: تعظيم هذا النصر. وقوله: جاءَ نَصْرُ اللَّهِ: مجاز، أي وقع نصر الله.
أخرج الإمام أحمد والبيهقي والنسائي عن ابن عباس قال: لما نزلت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعيت إليّ نفسي» .
فإنه مقبوض في تلك السنة.
__________
(1) عونه على تحقيق المطلوب. [.....]
(2) تحصيل المطلوب بفتح البلاد في مكة وغيرها.
(3) جماعات كثيفة.
(4) نزه الله تعالى وقدسه، حامدا على نعمه، طالبا المغفرة لك ولأتباعك.
(5) انظر: باب أبي خراش الهذلي.(3/2950)
قال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ.. فعاش بعدها ثمانين يوما، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوما، ثم نزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما، ثم نزلت وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فعاش بعدها واحدا وعشرين يوما.
وكان من علامة ذلك: أنك أيها النبي تبصر الناس من العرب وغيرهم يدخلون في دين الله الذي بعثك به، جماعات، فوجا بعد فوج، بعد أن كانوا في بادئ الأمر، يدخلون واحدا واحدا، واثنين، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام. وتحقق ذلك في العام التاسع والعاشر عام الوفود حيث تتابعت الوفود العربية إلى المدينة معلنة إسلامها. قال ابن إسحاق: لما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه، وإنما كانت العرب تتربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش، إذ كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل عليه السّلام، وقادة العرب. فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوّخها الإسلام، عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله أفواجا، كما قال تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ ... السورة.
لقد جاء الأمر الإلهي للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالتسبيح بعد تحقيق الانتصارات العسكرية وانتشار الإسلام. والمعنى: إذا فتحت مكة وانتشر الإسلام، فاشكر الله على نعمه، بالصلاة له، وبتنزيهه عن كل ما لا يليق به، وعن أن يخلف وعده الذي وعدك به بالنصر. واقرن الحمد بالتسبيح، أي اجمع بينهما، فإن ذلك النصر والظفر يقتضي الحمد لله على عظيم منته وفضله.(3/2951)
واطلب أيضا من الله المغفرة لك، تواضعا لله، واستقصارا لعملك، وتعليما لأمتك، وكذا اسأله المغفرة لمن تبعك من المؤمنين على ما كان منهم من القلق والخوف لتأخر النصر، فإن الله سبحانه من شأنه التوبة على المستغفرين له، يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم، وهو كثير القبول لتوبة عباده، حتى لا ييأسوا ويرجعوا بعد الخطأ.(3/2952)
تفسير سورة المسد
عقاب أبي لهب وامرأته
كان أبو لهب: عبد العزى بن عبد المطلب، وكنيته أبو عتيبة، وامرأته: من أشد الناس عداوة وإيذاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان أبو لهب في المجالس العامة هو الذي يجابه النبي ويعانده، ويقف في سبيل دعوته وقوف الأعداء الأشداء الألداء.
روي في الحديث عن ابن عباس الذي أخرجه البخاري ومسلم: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 26/ 214] أي ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه! فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه، فقال: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب! فاجتمعوا إليه فقال:
«أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك! أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فنزلت هذه السورة
المكية بالإجماع: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) . كذا قرأ الأعمش وعبد الله (ابن مسعود) وأبيّ، إلى آخر السورة، وقرأ حفص: وَتَبَّ أي الأول دعاء عليه، والثاني: خبر عنه. والسورة هي:(3/2953)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
«1» «2» «3» «4» [المسد: 111/ 1- 5] .
المعنى: هلكت يدا أبي لهب (وكنّي بذلك لحمرة في وجهه) وخسرت وخابت، وهو مجاز عن جملته، أي هلك وخسر، وهذا دعاء عليه بالهلاك والخسران. ثم أخبر الله تعالى عنه: وَتَبَّ أي وقد وقع فعلا هلاكه، فقد خسر الدنيا والآخرة، وأبو لهب:
عم النبي صلّى الله عليه وسلّم، واسمه: عبد العزى بن عبد المطلب، وقد كان كثير الأذى والبغض والازدراء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولدينه، كما تقدم.
وقوله: تَبَّتْ معناه: خسرت، والتباب: الخسران والدمار. وأسند ذلك إلى اليدين من حيث كون اليد موضع الكسب والربح وضم ما يملك، ثم أخبر الله عنه أنه قد تب، أي حتم عليه ذلك.
ثم أخبر الله تعالى عن حال أبي لهب في الماضي، فقال: ما أَغْنى.. أي لم يدفع عنه يوم القيامة ما جمع من المال، ولا ما كسب من الأرباح والجاه والولد، ولم يفده ذلك في دفع ما يحل به من الهلاك، وما ينزل به من العذاب، لشدة معاداته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصدّه الناس عن الإيمان به. والفرق بين المال والكسب: أن الأول رأس المال، والثاني هو الربح. وهذا إخبار عن أن جميع أحواله الدنيوية من مال وولد لم تغن عنه شيئا، حين حتم (أوجب) عذابه بعد موته، وهو ما أخبر الله تعالى عنه في المستقبل في الآخرة بقوله: سَيَصْلى.. أي إن أبا لهب سيذوق حر نار جهنم ذات
__________
(1) هلك وخسر أبو لهب.
(2) سيذوق حرها ولهبها.
(3) تحمله حقيقة في الدنيا، وهي أم جميل، أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان، وزوج أبي لهب.
(4) في عنقها حبل مفتول من ليف.(3/2954)
اللهب المشتعل المتوقد، قال أبو حيان: والسين للاستقبال، وإن تراخى الزمان، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة، وإن تراخى وقته.
وتصلى امرأة أبي لهب معه أيضا النار، وهي أم جميل أروى بنت حرب، أخت أبي سفيان، عمة معاوية بن أبي سفيان. وامرأته: معطوفة على الضمير المرفوع فاعل (سيصلى) دون أن يؤكد الضمير، بسبب الحائل الذي ناب مناب التأكيد.
وكانت أم جميل هذه مؤذية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بلسانها وغاية قدرتها. قال ابن عباس: كانت تجيء بالشوك، فتطرحه في طريق النبي صلّى الله عليه وسلّم وطريق أصحابه ليعقرهم، فبذلك سميت حمالة الحطب. فهي حقيقة كانت تحمل أنواع الحطب والأشواك للإيذاء. وقيل: إن قوله تعالى: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ استعارة لذنوبها التي تحطبها على نفسها لآخرتها. وقيل: المراد أنها كانت تمشي بالنميمة، فيقال للمشّاء بالنمائم، المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي يوقد بينهم النائرة، ويورّث الشر. وهذا رأي الكثيرين.
ولون العذاب أو صفته ما عبر الله عنه بقوله: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) أي في عنقها حبل مفتول من الليف، من مسد النار، أي مما مسّد من حبالها، أي فتل من سلاسل النار، وقد صورها الله تعالى، في حالة العذاب بنار جهنم بصورة حالتها في الدنيا عند النميمة، وحينما كانت تحمل حزمة الشوك وتربطها في جيدها، ثم تلقيها في طريق النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأن كل من أجرم في الدنيا يعذب بما يجانس حاله في جرمه. قال ابن عباس وآخرون: الإشارة إلى الحبل حقيقة، وهو الذي ربطت به الشوك وحطبه. قال السدي: والمسد: الليف.
ولما سمعت أم جميل هذه السورة، أتت أبا بكر، وهو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، وبيدها فهر (حجر) فقالت: بلغني أن صاحبك هجاني، ولأفعلن وأفعلنّ،(3/2955)
وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال لها: هل ترين معي أحدا؟ فقالت: أتهزأ بي؟ لا أرى غيرك.
قال سعيد بن المسيب: كانت لأم جميل قلادة فاخرة، فقالت: واللات والعزى لأنفقنها في عداوة محمد، فأعقبها الله حبلا في جيدها من مسد النار.
هذا اللون من العنفوان والاستكبار، وشدة العناد والإيذاء، الصادر من أبي لهب وزوجته، منشؤه تراكمات الجهالة والوثنية والتقاليد الموروثة، والحرص على الزعامة والسيادة. ولو كان عند أبي لهب وامرأته وأمثالهما عقل واع، وعلم كاف، وحظ من التحضر والتمدن، لما كان لهما مثل هذا الموقف من داعية الهدى والرشاد، والإنقاذ والنجاة.
وقد استنبط بعض علماء أصول الفقه من آية سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) جواز التكليف بما لا يطاق، لأن أبا لهب مكلف أن يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ومكلف أن يؤمن بهذه السورة وصحتها، فكأنه قد كلف أن يؤمن، وأن يؤمن بأنه لا يؤمن، قال الأصوليون: ومتى ورد تكليف ما لا يطاق فهي أمارة من الله تعالى أنه قد حتم عليه عذابه، أي عذاب ذلك المكلف، لقصة أبي لهب.(3/2956)
تفسير سورة الإخلاص
التوحيد والتنزيه
إن المبدأ الأساسي في الاعتقاد: هو إعلان توحيد الله وتنزيهه عما لا يليق به، والإقرار باللسان، والتصديق بالقلب، فهذا هو منطق الإيمان وجوهره، فمن لم يؤمن بوحدانية الله، وأنه الإله والرب الذي لا شريك له، ولا نظير ولا مثيل، لم يكن من أهل الدين على الإطلاق، مهما حاول تعويض ذلك بشيء من الأوهام والطقوس والأقوال. لذا كانت سورة الإخلاص المكية المسماة أيضا بالأساس معبرة عن ركن العقيدة، وكانت تعدل ثلث القرآن، لأن أصول التشريع الإلهي ثلاثة:
التوحيد، وتقرير الحدود والأحكام، وبيان الأعمال، أي العقيدة، والشريعة، والممارسة.
أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن رجلا سمع رجلا يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) يرددها، فلما أصبح، جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالّها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن» .
ومضمونها يقتضي الإخلاص في عبادة الله وحده والتوجه إليه وحده. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «تفكروا في كل شيء، ولا تتفكروا في ذات الله عز وجل» .
وهذه السورة هي:(3/2957)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
«1» «2» «3» [الإخلاص: 112/ 1- 4] .
أخرج أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن أبي بن كعب رضي الله عنه: أن المشركين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نسب ربه- تعالى عما يقول الجاهلون- فنزلت هذه السورة.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عدي والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود دخلوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا له: يا محمد، صف لنا ربك وانسبه، فإنه وصف نفسه في التوراة ونسبها، فارتعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى خرّ مغشيا عليه، ونزل عليه جبريل عليه السّلام بهذه السورة:
سورة الإخلاص.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية، وعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: قالت الأحزاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: انسب لنا ربك، فأتاه الوحي بهذه السورة.
والمعنى: قل أيها الرسول لمن سألك عن صفة ربك ونسبته: هو الله أحد، أي واحد فرد في ذاته وصفاته، لا شريك له، ولا نظير، ولا عديل، ليس كمثله شيء، وليس مركّبا ولا متعددا، وهُوَ مبتدأ أول، واللَّهُ مبتدأ ثان، وأَحَدٌ خبره، والجملة: خبر المبتدأ الأول، والتصدير بضمير الشأن هُوَ للتنبيه على فخامة الكلام الآتي، وبيان خطورته وروعته، لأن الضمير يدعوك إلى ترقب ما بعده.
فإذا جاء تفسيره وتوضيحه، تمكن في النفس تمكنا تاما، ولم يقل (الله الأحد) لأن المقصود إثبات أن الله جل جلاله واحد، ليس متعددا في ذاته، فلو قيل: (الله الأحد) لأوهم التعدد، والمقصود نفي التعدد الذي كان المشركون يعتقدونه.
والله هو الصمد: أي المقصود وحده في قضاء الحوائج، لأنه القادر على تحقيقها.
__________
(1) واحد في ذاته وصفاته وأفعاله.
(2) المقصود وحده في قضاء الحوائج.
(3) مكافئا ومماثلا.(3/2958)
فالصمد: هو الذي يصمد إليه في الحوائج، أي يقصد، وصمد من باب نصر، أي قصد.
والمعنى المراد: هو الله الذي يقصد إليه كل مخلوق، لا يستغني عنه أحد، وهو الغني عنهم. وهذا لإبطال اعتقاد المشركين العرب وأمثالهم، بوجود الوسائط والشفعاء. قال ابن عباس في تفسير الصمد: يعني الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، وهو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته، لا تنبغي إلا له، ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار.
وليس لله مصدر ولا ذرية فهو لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) أي إنه سبحانه لم يصدر عنه ولد، ولم يصدر هو عن شيء، لأنه لا يجانسه شيء، ولأنه قديم غير محدث، لا أول لوجوده، وليس بجسم. وهذا نفي للشبه والمجانسة، ووصف بالقدم (الأزلية) والأولية، ونفي الحدوث. بل ونفي النهاية والفناء، كما في آية أخرى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 57/ 3] .
ثم إن الجملة الأولى لَمْ يَلِدْ ذات هدف مزدوج، فهي نفي لوجود الولد لله، ورد على المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وعلى اليهود القائلين:
عزير: ابن الله، وعلى النصارى الذين قالوا بالتثليث، وبأن المسيح ابن الله، وعلى المانوية القائلين بألوهية النور والظلمة، وعلى الصابئة الذين يعبدون النجوم. وكذلك الجملة الثانية مزدوجة الأثر: نفي لوجود الوالد، وسبق العدم، بمعنى أنه لم يكن غير موجود ثم وجد.(3/2959)
ثم نفى الله تعالى عن ذاته مشابهة الحوادث فقال: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) أي ليس لله أحد يساويه، ولا يماثله، ولا يشاركه، وهذا متعدد الهدف، فهو نفي لوجود الصاحبة، وإبطال لما يعتقد به المشركون العرب، من أن لله ندّا في أفعاله (والند: النظير والمثيل) حيث جعلوا الملائكة شركاء لله، والأصنام والأوثان أندادا لله تعالى. فهذه السورة تتضمن أن الله واجب الوجود، ويحتاج إليه كل شيء موجود، وهو منزه عن كل ما لا يليق به، وليس كمثله شيء.
ولهذه السورة نظائر أخرى، منها آية: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام: 6/ 101] . أي إنه مالك كل شيء وخالقه، فكيف له من خلقه نظير؟!.
جاء في صحيح البخاري: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم» .(3/2960)
تفسير سورة الفلق
التعوذ من شر الخلق
الله تعالى ملجأ كل المخلوقات، فهو الذي يمنع الشر والسوء، ويحمي من كل أذى، ويعافي كل مبتلى إن شاء. وقد علّمنا كيفية اللجوء إليه في الأزمات المستعصية، والتخلص من الأوهام والتخيلات، ومن تغوّل مردة الجن والشياطين، وذلك في سورة الفلق المكية في قول، والصحيح أنها مدنية، لأن اليهود سحروا النبي عليه الصلاة والسّلام في المدينة، وكذا سورة الناس مدنية على الصحيح، فبعد أن شرح الله تعالى أمر الألوهية في السورة التي سبقتها وهي سورة الإخلاص، جاء بهذه السورة شرحا لما يستعاذ منه بالله تعالى، من الشر الذي في مراتب العالم ومراتب مخلوقات الله.
وسورة الفلق والسورة التي بعدها وهي سورة الناس، نزلتا معا، كما في الدلائل للبيهقي، فلذلك قرنتا مع ما اشتركنا فيه من التسمية بالمعوذتين، ومن الافتتاح بقل أعوذ.
أخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنزلت علي الليلة آيات لم أر مثلهن قط: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس» .
وسورة الفلق هي:(3/2961)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
«1» «2» «3» «4» «5» [الفلق: 113/ 1- 5] .
نزلت هذه السورة- كما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها- في قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والنفاثات: بناته اللواتي كن ساحرات، فسحرن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعقدن له إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله تعالى إحدى عشرة آية بعدد العقد، هي المعوذتان، فشفي النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والنّفث: قيل: هو شبه النفخ دون تفل ريق، والأصح أنه مع الريق. وهذا النفث: هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور، فيؤذى بذلك.
وقصة هذا السحر:
أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم- ولكن لم يؤثر السحر فيه وعوفي منه- سحره في جفّ (قشر الطلع) فيه مشاطة رأسه صلّى الله عليه وسلّم، وأسنان مشطه، ووتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغروز بالإبر، فأنزلت عليه المعوذتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد صلّى الله عليه وسلّم في نفسه خفّة (نشاطا) حتى انحلت العقدة الأخيرة، فقام، فكأنما نشط من عقال. وجعل جبريل عليه السّلام يرقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقول: «باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر حاسد وعين، والله يشفيك» .
وأنكر بعض المعاصرين هذه القصة، ورأى أنها من مفتريات اليهود، ليشككوا الناس في النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليلصقوا به السحر، لأن الله تعالى يقول عن رسوله:
__________
(1) ألجأ إلى الله رب الفلق: كل ما يفلقه الله من النبات وعيون الماء والمطر والولد.
(2) الليل المظلم المشتد ظلامه.
(3) دخل ظلامه في كل شيء. [.....]
(4) السواحر، جمع نفاثة، والنفث عادة: النفخ مع ريق.
(5) جمع عقدة: وهي ما يعقد من حبل أو خيط ونحوهما.(3/2962)
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 5/ 67] ، ويقول: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:
15/ 95] .
المعنى: قل أيها النبي: ألجأ إلى الله، وأستعيذ برب الصبح، لأن الليل ينفلق عنه، وبرب كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله أو انفلق عن غيره، من الحيوان، والنبات، والحب، والنوى، والمطر، والولد، وكل شيء يفلقه الله. وأعوذ بالله تعالى خالق الكائنات من شر كل ما خلقه الله من جميع مخلوقاته. وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة الظلمة عن وجه الأرض، قادر على دفع ظلمة الشرور والآفات والحسد والسحر والعين ونحو ذلك عن الإنسان.
أخرج الترمذي وحسنه، والبيهقي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعوذ من عين الجان، ومن عين الإنس، فلما نزلت سورتا المعوذتين أخذ بهما وترك ما سوى ذلك» .
وأخرج مالك في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتكى، يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، فلما اشتد وجعه، كنت أقرأ عليه، وأمسح بيده، رجاء بركتهما» .
ثم بعد تعميم الاستعاذة من جميع المخلوقات، خص بالذكر ثلاثة أشياء، لأنها أعظم الشرور وهي:
- وأعوذ بالله من شر الليل إذا أقبل، ودخل ظلامه في كل شيء، وغشّى ما يحيط به، لأن في الليل مخاوف ومخاطر من سباع البهائم، وهوام الأرض، وأهل الفسق والفساد.
- وأعوذ بالله من شر النفوس أو شر الساحرات، لأنهن كن ينفثن (أي ينفخن) في عقد الخيوط، حين يسحرن بها. فالنفاثات: صفة للنفوس رجالا أو نساء.(3/2963)
والنفث: النفخ مع ريق، كما قال الزمخشري. وقيل هو شبه النفخ، يكون في الرقية، ولا ريق معه، فإن كان بريق فهو تفل، والأول هو الأصح.
- وأعوذ بالله من شر كل ذي شر، ومن شر كل حاسد إذا حسد، والحاسد: هو الذي يتمنى زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود.
قال قتادة: من شر عينه ونفسه، يريد السعي الخبيث والإذاية كيف قدر، لأنه عدو مجدّ ممتحن.
هذه السورة رقية ناجعة تفيد كل إنسان، لوقايته من الشرور، وحفظه من السوء، وتخلصه من الحسد والسحر والعين، وغير ذلك، والله على كل شيء قدير.(3/2964)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)
تفسير سورة الناس
الاستعاذة من شر الشياطين
على الرغم من تميز الإنسان بالعقل والفكر، والمحاكمة وموازنة الأمور، فإنه لا سيما العامي، يظل ضعيفا، تتغلب عليه الأهواء، والشياطين من الإنس والجن، فينقاد لها، وتهيمن عليه فيرتجف منها، وتسيطر عليه، فلا يستطيع الفكاك منها إذا لم يلجأ لربه، أو يعتمد على إيمانه وصلته بالله تعالى. وقد علّمنا الله تعالى طريق الاستعاذة، تفضلا منه ورحمة في سورة الناس التي هي على الصحيح كالفلق مدنية وليست مكية، قال ابن عباس وقتادة وجماعة عن سورة الفلق: إنها مدنية، قال الألوسي: وهو الصحيح، لأن سبب نزولها سحر اليهود، وهم إنما سحروه عليه الصلاة والسّلام بالمدينة، كما جاء في الصحاح، فلا يلتفت لمن صحح كونها مكية، وكذا الكلام في سورة الناس، قال قتادة: هي مكية، والصحيح ما قال ابن عباس وغيره: هي مدنية، وهذا نصها:
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
«1» «2» «3» «4» [الناس: 114/ 1- 6] .
__________
(1) التجئ وأحتمي.
(2) اسم من أسماء الشيطان، فهو الذي يوسوس للناس في صدورهم أحاديث السوء.
(3) صيغة مبالغة، من عادته أن يخنس، أي يتأخر، وإذا زجر انزجر ورجع.
(4) بيان للوسواس، والجنة:
الجن المستتر الذي لا يعلم به إلا الله.(3/2965)
قل أيها الرسول: ألجأ وأستعين بالله مربي الناس ومتعهدهم بعنايته ورعايته وخالقهم، ومدبر أمرهم، ومصلح أحوالهم، مالك الناس ملكا تاما، وله السلطان القاهر، وهو الإله المعبود الذي يعبده الناس، واسم الإله: خاص بالله، لا يشاركه فيه أحد. وأما الملك: فقد يكون إلها وقد لا يكون.
وهذه صفات ثلاث لله عز وجل: الربوبية، والملك، والألوهية، فهو رب كل شيء، ومليكه، وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة عبيد له. وإنما قدم الربوبية لمناسبتها للاستعاذة، فهي تتضمن نعمة الصون والحماية والرعاية، ثم ذكر الملكية، لأن المستعيذ لا يجد عونا له ولا غوثا إلا مالكه، ثم ذكر الألوهية، لبيان أنه المستحق للشكر والعبادة دون سواه.
والسبب في تكرار لفظ النَّاسِ هو مزيد البيان والإظهار، والتنويه بشرف الناس، فإنهم مخلوقات الله تعالى. وإنما قال: بِرَبِّ النَّاسِ مع أنه رب جميع المخلوقات، فخص الناس بالذكر للتشريف، ولأن الاستعاذة لأجلهم.
- ألجأ إلى الله تعالى وأحتمي من شر الشيطان ذي الوسوسة، الكثيرة الخنوس، أي الاختفاء والتأخر، بذكر الله تعالى، أو الراجع على عقبه المستتر أحيانا، إذا ذكر العبد الله تعالى وتعوذ، وتذكّر فأبصر، وإذا لم يذكر الله انبسط على القلب، قال ابن عباس في هذه الآية: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل، وسوس، فإذا ذكر الله خنس.
وتذكر الله يفيد التبصر، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 7/ 201] .
وكذلك يخنس الشيطان بلمّة الملك، والحياء يردع، والإيمان يزجر بقوة، فتخنس العوارض المتحركة، والشهوات العارمة، والغضب يسكن، بذكر الله تعالى. وقد(3/2966)
سلط الله تعالى الشيطان على الناس إلا من عصمه الله، للمجاهدة والفتنة والاختبار،
ثبت في الحديث الصحيح أنه: «ما منكم من أحد إلا وكّل به قرينه، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم إلا أن الله أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير» .
وموضع وسوسة الشيطان أوضحه الله تعالى بقوله الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أي الذي يلقي خواطر السوء والشر في القلوب، وإنما ذكر الصدور لأنها تحتوي علي القلوب، والخواطر محلها القلب، كما هو المعهود في كلام العرب.
والذي يوسوس نوعان: جني وإنسي، قال الله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أي إن ذلك الموسوس إما شيطان الجن، فيوسوس في صدور الناس كما تفيد الآية المتقدمة، وإما شيطان الإنس، ووسوسته في صدور الناس أنه يري نفسه كالناصح المشفق، فيوقع في الصدر كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة، فيجعله فريسة وسوسة الشيطان الجني، وهذا يدل على أن الوسواس قد يكون من الجن، وقد يكون من الناس.
وقوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أي من الشياطين، ونفس الإنسان، ووسوسة الناس:
إنما تكون بأن يوسوس البشر بالخداع، والدعوة إلى الباطل، فهو في ذلك كالشيطان.
لكن ينبغي أن ندرك أن وسوسة الشيطان ليست قهرية، وإنما بسبب استجابة الإنسان واختياره لها، فقد يختار الإصغاء لوسوسة الشياطين، وقد يحذر عداوتهم ووسوستهم، كما جاء في آية أخرى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 17/ 65] .(3/2967)