وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
المعصية، والله سميع لدعاء المخلصين الملتجئين إليه، عليم بصدق إيمانهم وبأحوالهم وما يصلحهم.
وماذا كانت النتيجة في المستوى الرسمي، لقد ظهر للملك وامرأته من المصلحة والرأي بعد شيوع الخبر والاتهام، وبعد معرفة براءة يوسف، وظهرت الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته، ظهر لهم بعد كل هذا أن يسجنوه لأجل غير معلوم، لإسكات الفتنة ونسيان التهمة التي لوّثت بها امرأة الملك. وكان هذا الخير تمهيدا لعودة يوسف ملكا لمصر وحاكما لها، والله يفعل ما يشاء ويختار.
قصة رفاق يوسف في السجن
إن مسرح الأحداث الجسام التي يتعرض لها الأنبياء لا يكاد يوجد له نظير في التاريخ، فهذا يوسف عليه السّلام يزجّ به في غياهب السجون، وهو العفّ البريء البعيد عن التّهمة، ويعيث الجناة المردة الفساد في الأرض، ويناصرهم بعض الناس، لأنه مع الأسف يكثر أعوان الشّر، ويقلّ أعوان الخير. وكان سجن يوسف سببا قويّا في دعوة السجناء إلى عبادة الله وحده وترك الوثنية، مستعينا بما عليه من الصلاح والتقوى، ومعبّرا الرؤيا لمن رآها، فتأتي مطابقة للواقع، فيزداد المسجونون ثقة به وحبّا وإكبارا، وهذه هي قصة رفاقه في السجن، قال الله تعالى:
[سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 40]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)
«1»
__________
(1) عنبا يؤول إلى الخمر عن طريق المجاز.(2/1106)
«1» [يوسف: 12/ 36- 40] .
رأت سلطة مصر المصلحة في سجن يوسف، فسجنوه، ودخل معه السجن فتيان مملوكان للملك، أحدهما ساقيه، والآخرة خبّازه، لتمالئهما على سمه في طعامه وشرابه، فرأيا رؤيا، فقال السّاقي: إني رأيت في المنام أني أعصر عنبا ليصير خمرا، وقال الخبّاز: إني رأيت أني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه، فقالا ليوسف:
أخبرنا بتأويل ما رأينا، وهل يقع ذلك؟ إننا نعلم أنك من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، فدعاهما يوسف لتوحيد الإله، وترك عبادة الأصنام أولا.
ثم قال لهما قولا يدلّ على أنه نبي صادق: لا يأتيكما طعام في يومكما إلا أخبرتكما به قبل وصوله إليكما، وهذا من تعليم الله إياي بالوحي لا بالكهانة والتنجيم، وسبب الوحي أنني اجتنبت ملّة الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وهم الكنعانيون وأمثالهم في فلسطين، والمصريون عبدة الآلهة كالشمس والعجل وفرعون. واتّبعت ملّة آبائي الأنبياء والمرسلين: إبراهيم وإسحاق ويعقوب الدّعاة إلى التوحيد الخالص. وكلامه عن ترك الكفر واتّباع مبدأ التوحيد اشتغال عن شدة مصير رائي الخبز، وأن رؤياه تؤذن بقتله.
ثم قرر يوسف منهج الأنبياء عامة، فقال: ما صح لنا وما ينبغي لنا معشر الأنبياء
__________
(1) المستقيم.(2/1107)
أن نشرك بالله، أي شيء كان، من ملك أو إنس أو جنّ، ذلك الإقرار بتوحيد الله وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو من فضل الله علينا، حين هدانا إليه، ومن فضل الله على الناس بإرسالنا إليهم، ننبّههم إلى الصواب ونرشدهم إليه، ونبعدهم عن طريق الضلال، ولكن أكثر الناس لا يشكرون نعمة الله وفضله، فيشركون بالله إلها آخر، ولا يقدّرون نعمة إرسال الرّسل إليهم، فمعنى قوله: لا يَشْكُرُونَ أي الشكر التام الذي فيه الإيمان.
يا رفاق السجن، هل القول بتعدد الآلهة والأرباب المتفرقين في الذوات والصفات خير وأجدى وأنفع، أو الإيمان بالله الواحد الأحد الغلاب القهار، الذي لا يحتاج لغيره، ويقهر بقدرته وإرادته كل شيء.
إن تلك الآلهة التي تعبدونها هي مجرد أسماء فارغة، حين سميتم أصنامكم آلهة، فليست عبادتكم لإله إلا باسم فقط، لا بالحقيقة والواقع، ولم ينزل الله بها حجة أو برهانا، وما الحكم والتّصرف النافذ والمشيئة والملك كله إلا لله، وليس لأصنامكم التي سميتموها آلهة من الحكم والأقدار والأرزاق شيء، فكيف تصح عبادتها وإطاعة الناس لها، إنها تسمية لا دليل عليها من عقل ولا نقل سماوي. والله سبحانه الخالق الرازق المهيمن القادر هو الذي أمر ألا تعبدوا وتطيعوا إلا إياه سبحانه، وهذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له، هو الدين المستقيم الذي أمر الله به، وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبّه ويرضاه.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك هو الدين الحق، الذي لا عوج فيه، ولهذا كان أكثرهم مشركين، كما قال الله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) [يوسف: 12/ 103] .(2/1108)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
وإن أهل الحق من الأنبياء والمصلحين هم المصرّون على توحيد الله وعبادته والتزام منهجه في العبادة والمعاملة والأخلاق القويمة.
أمثلة من تأويل يوسف الرّؤيا
كثر تعبير يوسف عليه السلام الرؤيا في السجن، وأبرز تلك التأويلات تعبير رؤيا صاحبيه في السجن، وتأويل رؤيا ملك مصر.
أما تأويل رؤيا صاحبي يوسف في السجن، فهو كما قال الله تعالى:
[سورة يوسف (12) : الآيات 41 الى 42]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
«1» [يوسف: 12/ 41- 42] .
نادى يوسف عليه السلام بقوله: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ استعدادا لسماع الجواب، فقال للسّاقي الذي رأى أنه يعصر عنبا يؤول إلى الخمر: إنك تسقي سيدك الخمر كما كنت تفعل قبل السجن بحسب العادة، وهذا دليل على براءته من تهمة الاشتراك في تسميم الملك.
وأما الآخر: وهو الخباز الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، فتأكل جوارح الطير كالنّسر والعقاب من رأسه، أي إنه يقتل ويصلب.
ثم أخبرهما يوسف عليه السلام عما علمه بتعليم الله تعالى: أن الأمر قد قضي، ووافق القدر، ولا مناص منه. وقوله: تَسْتَفْتِيانِ أي تسألان عن المشكل، والفتوى جوابه.
__________
(1) أي سيّدك.(2/1109)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
ثم قال يوسف عليه السلام خفية للذي ظنّ أي تيقّن أنه ناج وهو السّاقي، دون علم الآخر: اذكر قصّتي عند سيّدك وهو الملك، لعله يخرجني من السجن بعد علمه ببراءتي، وهذا من قبيل الأخذ بالأسباب الظاهرية المطلوبة عادة وشرعا، للنجاة والإنقاذ وإطلاق السراح. فأنساه الشيطان تذكير الملك بقصة يوسف، لئلا يخرج نبي الله يوسف من السجن، فيدعو إلى عبادة الله وتوحيده ومطاردة وساوس الشيطان، فلبث يوسف في السجن منسيا بضع سنوات، أي من الثلاث إلى التّسع، وكل ذلك ليتم مراد الله، فبقي في السجن سبع سنين، وعوقب من الله بخمس أخرى لقوله:
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فكانت مدة سجنه اثنتي عشرة سنة.
ثم رأى ملك مصر رؤيا أخرى كانت سببا لخروج يوسف عليه السلام معزّزا مكرّما، حكى القرآن الكريم هذه الرؤيا بقوله تعالى:
[سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» »
[يوسف: 12/ 43- 49] .
__________
(1) أي هزيلة ضعيفة.
(2) تعلمون تأويلها.
(3) أي مجموع أخلاط من الأحلام الزائفة الكاذبة.
(4) أي تذكر.
(5) أي بعد مدة من الزمان.
(6) أي متتابعة. [.....]
(7) تخبّئونه من البذور.
(8) يمطرون.
(9) ما شأنه أن يعصر كالزيتون ونحوه.(2/1110)
هالت الملك الأعظم في مصر هذه الرؤيا، فطلب تفسيرها، ومضمونها أن سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس، أكلتهن سبع بقرات هزيلات، وسبع سنبلات خضر انعقد حبّها، غلبتها سبع أخر يابسات آن حصادها، فالتوت عليها.
فقال الملك للملأ من الكهنة والعلماء: عبّروا علي هذه الرؤيا، إن كنتم تعلمون تعبير الرؤيا، وبيان معناها. فقالوا: هذه شوائب وأخلاط من الخواطر والخيالات تتراءى للنائم في عقله، ولا معنى لها، ولسنا عالمين بتأويل أمثالها لو كانت صحيحة.
وحينئذ تذكّر ساقي الملك الذي نجا من الموت من صاحبي يوسف في السجن، وكان تذكّره بعد نسيان، فقال للملك والملأ أشراف القوم: أنا أخبركم بتأويل هذا المنام، فابعثوني إلى يوسف الصّدّيق الموجود حاليا في السجن. فأرسلوه فجاء فقال:
يا يوسف، أيها الرجل الكريم المصداق في أقواله وأفعاله، الصدوق العالم الخبير بتعبير الأحلام: أفتنا في رؤيا الملك، لعل الله يجعل لك مخرجا. فقصّ عليه خبر البقرات الهزيلات اللاتي يأكلن البقرات السّمان، وسبع سنبلات خضراوات وأخر يابسات، لعلي أعود إلى الناس ليعلموا حقيقة هذه الرّؤيا.
فأجابه يوسف من غير لوم ولا عتاب، ومن غير اشتراط للخروج من السجن:
بأنه يأتيكم سبع سنوات خصبة متوالية، فما حصدتم فاتركوه في سنبله لئلا يأكله السوس، إلا القدر القليل الكافي للأكل الضروري، فهذه السنوات السبع هي البقرات السّمان والسّنابل الخضراء السّبع. ثم يأتي بعد ذلك سبع سنين جدباء يأكل أهلها كل مدّخرات السنوات السابقة إلا قليلا مما تدّخرون للبذر.
ثم يأتي من بعد تلك السنوات الأربع عشرة عام يهطل فيه الغيث وهو المطر، وتكثر الغلال، ويعصر الناس ألوان العصير من زيت الزيتون وسكر القصب وشراب العنب والتمر ونحوها.(2/1111)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
وهذا الإخبار من مغيبات المستقبل من وحي الله وإلهامه، لا مجرّد تعبير للرّؤيا، فهو بشارة في العام الخامس عشر بعد تأويل الرّؤيا بمجيء عام مبارك خصيب، كثير الخير، غزير النّعم، وهو إخبار من جهة الوحي الإلهي. ولا يكون ذلك إلا لنبيّ أو رسول، فتكون النّبوة والرّسالة خيرا عظيما للبشر في الدين والدنيا.
طلب الملك مواجهة يوسف عليه السّلام
بعد أن عبّر يوسف عليه السّلام المقصود من رؤيا ملك مصر، كانت النتيجة الطبيعية المنتظرة عند عقلاء الناس وحكمائهم أن يطلب هذا الملك مواجهة يوسف السجين الذي له هذه المقدرة الفائقة في تعبير الأحلام، فلم يستجب يوسف عليه السّلام للطلب، وأراد إعلان براءته وعفّته وتعرّضه للظلم في السجن مدة سبع سنوات، تلاها خمس أخرى عقابا من الله لقوله لساقي الملك: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فصارت مدّة سجنه اثنتي عشرة سنة، فطالب بفتح ملفّ النّسوة اللاتي قطّعن أيديهن وإظهار الحق في هذه القضية. وهذا ما تحدثت عنه الآيات التالية:
[سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 52]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)
«1» «2» «3» [يوسف: 12/ 50- 52] .
طالب الملك بإحضار يوسف من السجن، حتى يتحقق بنفسه صدق ما تشير إليه
__________
(1) أي ما شأنكن وأمركن العظيم.
(2) تنزيها لله وتعجّبا من عفّة يوسف عليه السّلام.
(3) أي ظهر الحق وثبت واستقر(2/1112)
الرؤيا، لأنه ليس الخبر كالعيان. وهذا الطلب يدل على فضيلة العلم وعلى منزلة العلماء الذين يستشارون في مهام الأمور، فكان مقابل هذا مطالبة يوسف عليه السّلام التحقيق في تهمة امرأة العزيز له، وسبب الزّج به في السجن.
امتنع يوسف من الاستجابة لرسول الملك بمواجهته وإخراجه من السجن، وإحضاره له، وقال له: ارجع إلى سيدك، فاسأله عن حال النّسوة اللاتي جرحن أيديهن، لأني لا أريد أن آتيه، وأنا متّهم بمسألة سجنت من أجلها، واطلب من الملك أن يحقق في تلك القضية قبل أن آتيه، ليعرف حقيقة الأمر، إن ربي عزّ وجلّ العالم بخفايا الأمور عليم بكيد النساء وتدبيرهن وما دبّرن لي من كيد.
فجمع الملك النّسوة اللاتي قطّعن أيديهن عند امرأة العزيز، فقال مخاطبا لهن كلهن، وهو يريد امرأة العزيز وزيره الأول: ما شأنكن وخبركن حين راودتن يوسف عن نفسه، يوم الضيافة، قلن: حاشا لله، أي معاذ الله أن يكون يوسف أراد السوء أو يكون متّهما، والله ما علمنا عليه سوءا في تاريخه الطويل.
وقالت امرأة العزيز حينئذ: الآن تبيّن الحق وظهر بعد خفائه، أن راودت يوسف من نفسه، لا هو، فامتنع واستعصم، وإنه لصادق في قوله، لم يكذب أبدا. ثم أردفت قائلة: ذلك الاعتراف مني بالحق، ليعلم يوسف أني لم أخنه أثناء غيبته بأن أكذب عليه، أو أرميه بذنب هو بريء منه، والمراد أن توبتي وإقراري ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وليعلم أن الله تعالى لا يهدي كيد الخائنين، أي لا يسدده ولا ينجحه، بل يبطله ويبدد أثره، فهذا من كلام امرأة العزيز.
وقال جماعة من أهل التأويل في آية: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) : هذه المقالة هي من يوسف عليه السّلام، أي، ذلك ليعلم العزيز سيدي أني لم أخنه في أهله، وهو غائب، وليعلم أيضا أن الله تعالى لا يهدي(2/1113)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
كيد خائن، ولا يرشّد سعيه، أي لا يكمله، ولا يمضيه على طريق إصابة أو صواب.
وفي هذا تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانة زوجها، وتعريض بزوجها في خيانته أمانة الله، حين ساعدها بعد ظهور الآيات المصدقة له على حبسه.
وعلى أي حال، سواء أكانت المقالة من يوسف عليه السّلام أم من امرأة العزيز، فهي تقرّر مبدءا عظيما أو قاعدة صلبة: وهو أن الواجب يقضي بحفظ الأمانات والعهود، وصون حرمة الغائب، سواء كان زوج المرأة وهو عزيز مصر، أو كان يوسف عليه السّلام، فإن الدفاع عن الغائب في مجلس أمر توجبه المروءة والحق وحفظ العهد والميثاق، والمبدأ الثاني: هو أن الله تعالى لا يسدّد عمل خائن، ولا يكمله ولا يحقق غاية أو هدفا، وهذا تطمين لأولئك المظلومين أو المستضعفين المقهورين، الذين يتولى الله تعالى مناصرتهم والدفاع عنهم، وحمايتهم من الظلم والسوء في النهاية، كما جاء في آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) [الحج: 22/ 38] .
تولّي يوسف عليه السّلام قيادة الحكم في مصر
أدانت زليخة امرأة العزيز نفسها، واعترفت بالحق والواقع الذي صدر منها، وهذه فضيلة وصراحة وجرأة، وتبيّن للملك براءة يوسف وعفّته وسجنه بغير حق، كما تبيّن له أمانته، وصبره وجلده، وتيقن حسن خلاله، وطيب فعاله، فولاه مقاليد الأمور في مصر، وهذا دليل الحكمة والوعي والرشد، وكان ذلك تمهيدا لارتقاء يوسف أعلى المنازل وتحقيق مراد الله تعالى في خضوع إخوته له واحتياجهم إليه. قال الله تعالى مبيّنا هذه الأحوال:
[سورة يوسف (12) : الآيات 53 الى 57]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)(2/1114)
«1» «2» [يوسف: 12/ 53- 57] .
توّجت امرأة عزيز مصر أقوالها واعترافاتها أمام الملك بقولها المعبّر عن ضعف الإنسان وتورّطه بالمساوئ، وهو أنني لئن برّأت يوسف، فما أبرئ نفسي من الزّلل والخطأ، إن النفس ميّالة بالطبع إلى الشهوات والأهواء. وهو اعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر عادة من الشهوات، كأنها قالت: وما هذا ببدع ولا ذلك بنكير على البشر، فأبرئ أنا منه نفسي، والنفوس أمّارات بالسوء، مائلة إليه، إلا النفوس التي يرحمها الله، فيحميها من التورّط في الفواحش، وإن الله ربّي غفّار للذنوب، رحيم بالعصاة إذا تابوا وأنابوا إلى الله.
هذا قول جمهور المفسّرين، ويرى بعضهم أن هذا من قول يوسف عليه السّلام، لتذكّره ما كان هم به.
وأمام هذا الإعلان الصريح أمام الملك، قال: ائتوني بيوسف من السجن، أجعله من خلصائي ومستشاريّ، فلما خاطبه الملك واختبره، ورأى فضله وعلمه، ولمس أدبه وخلقه، قال له: إنك اليوم عندنا ذو مكانة ومنزلة، وموضع ثقة وأمانة، تؤتمن على كل شيء في شؤون الحكم وإدارة البلاد.
فقال يوسف للملك: اجعلني أيها الملك على مخازن الأرض التي تخزن فيها الغلال، أشرف عليها وأتصرّف بها، فأنقذ البلاد من المجاعة التي تهدّد أهلها، إني خازن أمين، ذو علم وبصيرة بما يتولاه. وهذا دليل على جواز المطالبة بالعمل،
__________
(1) أي ذو مكانة ومنزلة ومؤتمن على كل شيء.
(2) يتخذ منها مباءة ومنزلا.(2/1115)
حرصا على انتشار العدل من يوسف عليه السّلام، وإنقاذا لأوضاع البلاد وتحقيق مصالح العباد. والخزائن: لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره.
فأجابه الملك إلى طلبه، وجعله وزير المالية والخزانة، وأطلق له سلطة التصرف في شؤون الحكم، لرجاحة عقله وخبرته وحسن تصرّفه.
وتنفيذا لأمر الله وتقديره ومراده، وبيانا لجميل صنع الله بعباده وبنبيّه يوسف، ومثل هذا الإنعام الذي أنعم الله به على يوسف في تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السجن، أقدره الله على ما يريد، وجعل له مكانة ومنزلة في أرض مصر، وانتقل من حال العبودية إلى الملك والسلطان، والنفوذ والتفوق، يتبوأ في بلاد مصر المكانة العالية، والله سبحانه يصيب برحمته وإحسانه ونعمه من يشاء من عباده، ولا يضيّع في الدنيا والآخرة ثواب الذين يحسنون أعمالهم.
ولكن ثواب الآخرة للمؤمنين الأتقياء، وهو الظفر بجنان الخلد، خير وأعظم وأكثر من خير الدنيا وما فيها من مظاهر العزّ والسّلطان، والمال والزينة والرفعة.
وهذا يدلّ على أن ما ادّخره الله لنبيّه يوسف عليه السّلام في الآخرة أعظم مما أنعم عليه من التّصرف والنفوذ في الدنيا. ومن جمع الله له السعادتين في الدنيا والآخرة، كان فضل الله عليه أكثر، وعطاؤه أتم، للقيام بالطاعة، وترك المعصية.
ويدلّ هذا أيضا على أن إحسان الإنسان لعمله، والتزامه الطاعة لا يضيع عند الله، ولكن حال الآخرة أحمد، وأحرى أن يتخذ غرضا ومقصدا، وحال يوسف في الآخرة خير من حاله العظيمة في الدنيا.
وكل ذلك مرهون بالتّقيّد بالإيمان الصحيح، والتقوى والاستقامة، لأن الإيمان أساس لقبول العمل الصالح. والتقوى برهان الصدق، وثمرة الإيمان. والاستقامة دليل الرشد والعقل والحكمة. ومن كان ذا إيمان واعتقاد سليم، واتقى الله ربّه(2/1116)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
بالتزام ما أمر واجتناب ما نهى، واستقام على هذه الحال، كان أسعد الناس في الدنيا والآخرة. وفضل الله ورحمته وعدله وإحسانه شأن عام على كل العباد، وله مزيد من الخصوصية لأولياء الله الذين امتلأت قلوبهم خشية لله، وتفانت في إرضاء الله بالإقبال على الطاعة، وامتنعت من جميع أوضاع الانحراف والتقصير، واستمرت على هذا المنهج الحكيم. ولا غرابة في أن يهيئ الله لبعض عباده عزّا وسؤددا في الدنيا، بعد مهانة ومذلّة، وأن يمتّعهم بأفضال إلهية لا تنقطع في الآخرة، فتتحقق لهم سعادة الدارين، وتلك هي النعمة العظمى.
شراء القمح من مصر
في السنوات السّبع الثانية التي عم فيها القحط والجدب، لا مصر وحدها، وإنما بلاد الشام أيضا، لم يجد أولاد يعقوب عليه السّلام، إخوة يوسف بدّا إلا التوجّه لأرض مصر لشراء القمح والقوت منها، لما بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه. فسافروا إلى مصر ليتم اللقاء بين يوسف وإخوته، قال الله تعالى واصفا هذا اللقاء الأول:
[سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 62]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
«1» «2» «3» [يوسف: 12/ 58- 62] .
__________
(1) أي أوفى لهم الكيل وحملهم الطعام، أي القمح الذي جاؤوا لطلبه من عنده. والجهاز: ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع وكل ما يحمل. ومنه جهاز العروس وجهاز الميت.
(2) ثمن ما اشتروه.
(3) أوعيتهم.(2/1117)
قال السدي وغيره: سبب مجيئهم أن المجاعة التي أنذر بها يوسف أصابت البلاد التي كان بها يعقوب. روي أنه كان في العربات من أرض فلسطين بغور الشام.
لقد قدم أولاد يعقوب من فلسطين إلى مصر، فلما دخلوا على الوالي يوسف، وهو في مكانته ومنزلته العالية، عرفهم حين نظر إليهم لأن ملامح الكبار لا تتغير كثيرا، وهم له منكرون، لا يعرفونه، لمفارقتهم له وهو صغير، وباعوه لقافلة السّيارة العابرة المسافرين، والملامح في حال الصّغر تتغير كثيرا مع النمو والكبر، ولأنهم قدّروا هلاكه، ولم يفكّروا لحظة أن يوسف سيصير في هذه المنزلة، وهذه توقّعات منتظرة بحسب التقدير البشري العاجز الذي ينسى فيه الإنسان أن لله تعالى القدرة على صنع العجائب، وإيجاد ما لم يكن في الحسبان.
وأكّد هذا التّجاهل وعدم معرفة يوسف من إخوته: الكلام الذي دار بين يوسف وإخوته، حيث سألهم عن سبب مجيئهم وهو القدوم للميرة وحمل الطعام، وسألهم عن بلادهم وأهلهم وأبيهم وجميع أولاده، فأخبروه بأنهم اثنا عشر ولدا، هلك أصغرهم في البرية، وبقي شقيقه عند والده ليتسلى به ويعينه على أحوال المعيشة، فأمر يوسف بإنزالهم منزلا كريما، وبإكرامهم كرما عظيما.
ولما أوفى لهم الكيل، وحملهم من القمح عشرة أحمال، وزادهم حملين لأبيهم وأخيهم، قال: ائتوني في المرة القادمة بأخيكم من أبيكم وهو بنيامين، ألا ترون أني أتم لكم الكيل الذي تريدون دون بخس، وأزيدكم عليه، وأنا خير المنزلين المضيفين للضيوف. وكان قصده من ذلك ترغيبهم في الرجوع إليه.
وأخبرهم سلفا أنه إن لم تأتوا بأخيكم بنيامين في المرة الثانية، فليس لكم عندي ميرة طعام، ولا تدخلون بلادي. وقوله: وَلا تَقْرَبُونِ نهي لفظا ومعنى، معناه ألا يقربوا له بلدا ولا طاعة.(2/1118)
فأجابوه: سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي سنجتهد في طلبه من أبيه، ونحاول إقناعه بذلك برفق، وإنا لفاعلون ذلك لا محالة بمشيئة الله، ونحن حريصون على مجيئه إليك بكل إمكاناتنا، لتعلم صدقنا فيما نقول.
روي أن يوسف عليه السّلام استوفى في تلك السنين الجدباء أموال الناس ثم أملاكهم، فلم يبق لأحد في أرض مصر ومزارعها ملك. وظاهر كل ما فعله يوسف مع إخوته أنه بوحي وأمر إلهي، وإلا فكان برّ يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه، لكن الله تعالى أعلمه بما يصنع، ليكمل أجر يعقوب ومحنته، ويتبين سبب محبّته ليوسف، وتتفسّر الرّؤيا الأولى، بسجود أحد عشر كوكبا له.
وقال يوسف لفتيانه، أي لغلمانه وخدمه: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي اجعلوا البضاعة التي اشتروا بها الطعام، وقدموا بها للميرة، معاوضة أو بيعا، في أمتعتهم التي لهم من حيث لا يشعرون، لعلهم عند رجوعهم إلى أهلهم وبلادهم يعرفون حق ردّها وتكرمتها، فيرغبون فينا، ويرجعون إلينا حينئذ، أي بعد العودة إلى أهلهم وفتح أمتعتهم. والإنسان عادة يسرّ بأخذ الشيء مجانا، وبردّ البضاعة التي دفعها ثمنا. وهذا إغراء واضح بالعودة، وتحقيق للغاية الكبرى، وهي لقاء يوسف مع جميع أسرته، أبيه وخالته وإخوته. وهو أسلوب ناجح، وعمل طيب ازدان به حسن الاستقبال والضيافة الكريمة، والوداع المؤثر الذي لا ينسى، من قبل يوسف عليه السّلام لإخوته الكبار، الذين أساؤوا إليه بإلقائه في البئر، فقابل الإساءة بالإحسان، وهو خلق الأنبياء والأصفياء والأولياء الكرام.(2/1119)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
بنيامين مع إخوته إلى مصر
محنة جديدة يتعرّض لها يعقوب عليه السّلام بإرسال ابنه الآخر بنيامين شقيق يوسف عليه السّلام مع إخوته إلى مصر في الرحلة الثانية لجلب الطعام، وربما كانت هذه المحنة أشدّ على يعقوب لأنه فقد الأنيس الجليس والحبيب الأثير من أولاده، ولكن ليتم مراد الله وقدره والتسليم لحكمه، ويتمهّد الطريق للقاء الأسرة الكريمة في بلاد مصر. وهذا ما قصّه القرآن الكريم في حديث مؤثّر محزن، قال الله تعالى:
[سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 66]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [يوسف: 12/ 63- 66] .
عرض إخوة يوسف على أبيهم في هذه المرة ما حدث معهم بكل أمانة وصدق مع عزيز مصر حين شراء القمح، فقالوا له: يا أبانا منع عنا عزيز مصر إعطاء الطعام وكيله لنا في المستقبل، فإن لم ترسل معنا أخانا بنيامين، لا نكتل، فأرسله معنا لجلب الطعام بقدر عددنا، وإنا له لحافظون من كل مكروه وسوء في الذهاب والإياب، فلا تخف عليه، فإنه سيرجع إليك بمشيئة الله، ونوفي للعزيز الذي أكرمنا بما شرط علينا.
قال يعقوب الشيخ الحزين عليه السّلام المتألّم من فراق بنيامين، لما رأى من المصلحة: كيف أئتمنكم عليه؟ وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم، وعاهدتموني
__________
(1) أي إخوة يوسف.
(2) رحالهم.
(3) ما نطلب من الخير والإحسان بعد ذلك؟ [.....]
(4) نجلب لهم الطعام من مصر.
(5) عهدا مؤكّدا باليمين.
(6) تغلبوا.
(7) مطلق رقيب.(2/1120)
وضمنتم حفظه، ولكني مع قلة طمأنينتي، أفوض أمري إلى الله ربّي، وأثق به، وأتوكّل عليه، وهو أرحم الرّاحمين بي، وسيرحم كبري وضعفي وتعلّقي بولدي، وأرجو الله أن يرحمني بحفظه، وأن يردّه علي، ويجمع الشّمل. وهذا استسلام من يعقوب عليه السّلام وتوكّل عليه، وذلك موقف الأنبياء النابع من الإيمان العميق والاطمئنان لربّ العالمين، وهو موقف يتأسى به أهل الإيمان.
وزاد الإغراء بإرسال بنيامين أن الإخوة لما فتحوا أمتعتهم وأوعية طعامهم، وجدوا بضاعتهم من النقود ثمن الطعام قد ردّت إليهم، وتلك فعلة يوسف عليه السّلام الذي أمر بوضعها في رحالهم، وقالوا على الفور: يا أبانا ماذا نريد زيادة على هذا الإكرام والإحسان من ملك مصر، كما حدّثناك، فما تعدّينا، فكذبنا على هذا الملك، ولا في وصف إجماله وإكرامه، هذه البضاعة مردودة، ونأتي بالميرة (الطعام) إلى أهلينا من مصر، ونحفظ أخانا، بنيامين بعنايتنا ورعايتنا، فلا تخف عليه، ونزداد مكيال بعير لأجله، وذلك الحمل الزائد أمر يسير على هذا الحاكم السّخي، الرّحيم إذا أخذنا أخانا معنا.
قال يعقوب مريدا التّوثق من أولاده، وقد تذكر ماضي يوسف ومحنته: لن أرسل بنيامين معكم حتى تعاهدوني عهدا موثّقا باليمين، لتعودنّ به على أي حال كنتم، إلا في حال يمتنع ذلك عنكم بأن تهلكوا وتموتوا أو تغلبوا على أمركم وتقهروا جميعا، ولا تقدرون على تخليصه، فقوله سبحانه: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ لفظ عام لجميع وجوه الغلبة والقسر، أي تعمّكم الغلبة من جميع الجهات، حتى لا تكون لكم حيلة ولا وجه تخلّص، وكأن هذا استشعار من بعد عما يتم، ولكن لا بآلة، وإنما بفيض النّبوة.
فلما آتوه، أي عاهدوه وأعطوه موثقهم، أي عهدهم المؤكد باليمين، قال(2/1121)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
يعقوب: الله على ما نقول جميعا وكيل، أي شهيد رقيب، حفيظ مطّلع، وأفوض أمري إليه.
ويلاحظ أن يعقوب عليه السلام قد توثق في هذه القصة، وأشهد الله تعالى، ووصّى بنيه، وأخبر بعد ذلك بتوكّله على الله، ولكنه توكّل مقترن بالأسباب واتّخاذ الاحتياط والقيام بالواجب والسعي الداخل في حدود القدرة البشرية، وتلك هي غاية التوكّل الصحيحة، ومردّ الأمر في النهاية بعد السّعي إلى الله فاعل الأشياء ومحقّق النتائج بحكمة وإرادة وعدل.
وصيّة يعقوب لأولاده عند الدخول على حاكم مصر
تظلّ وصايا الأنبياء وسيرتهم نبراسا للقدوة الحسنة والسيرة العملية في حياة الإنسان، لأنهم لا يفعلون شيئا إلا بوحي أو إلهام من الله تعالى، ولا يكون توجيههم وتبليغهم دعوة الله وشرعه إلا لخير الإنسان وإسعاده، وتحقيق أكبر نفع أو مصلحة له، ولو على المدى البعيد، فلا يكون النفع آنيا، كما أن في هذا التوجيه النّبوي حماية للإنسان من ألوان المكاره والسوء، وتجنّب الوقوع في المهاوي والعثرات والمزالق، وهذا لون مرغوب من الوصايا، وهو وصية يعقوب لأولاده، وهي الدخول من أبواب متفرقة، ليروا مدى العناية والاستقبال لكل واحد منهم من حاكم مصر، أو لئلا يحسدهم الحسّاد، وترمقهم الأعين معجبين بالعدد الكثير من الإخوة والرجال. قال الله تعالى مخبرا عن هذه الوصية:
[سورة يوسف (12) : الآيات 67 الى 68]
وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)(2/1122)
[يوسف: 12/ 67- 68] .
روي أن أولاد يعقوب، لما ودّعوا أباهم، قال لهم: «بلّغوا ملك مصر سلامي، وقولوا: إن أبانا يصلّي عليك، ويدعو لك، ويشكر صنيعك معنا» . والصلاة معناها هنا الدعاء بالرّفعة والمنزلة العالية وبالمغفرة والفضل الإلهي.
وقال يعقوب لأولاده: يا بنيّ لا تدخلوا مصر من باب واحد، وادخلوا من أبواب متفرقة لأنهم كانوا أهل جمال وكمال، لئلا تصيبهم العين، والعين قد تكون سببا في المهالك.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح: «العين حقّ»
أي شيء ذو أثر موجود عند الناس،
وفي خبر آخر: «إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر» «1» .
والعين لا تضرّ إذا برّك العائن، فيقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه. وإذا أصاب العائن ولم يبرك، يؤمر بالاغتسال، ويجبر على ذلك إن أباه.
وتابع يعقوب وصيته ومفادها: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. الآية، أي وما أدفع عنكم بوصيتي وتدبيري من قضاء الله شيئا لأنه لا يغني حذر من قدر، وإن كنا مأمورين باتّخاذ وسائل الحيطة والحذر، لقوله تعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النّساء: 4/ 102] أخذا بالأسباب العادية الظاهرية، وليس دفعا للقدر، وتحدّيا للقضاء.
ويظل إنفاذ الحكم وتدبير الأمر لله وحده، لذا قرن يعقوب كلامه السابق: بأن الحكم لله وحده، وعليه وحده توكّلت، وبه وثقت، وعليه تعالى فليتوكل المتوكلون، دون أن يعتمدوا في تحقيق النتائج على أنفسهم وأمثالهم من البشر ذوي الإمكانات المحدودة والقدرات البسيطة أمام قدرة الله الفائقة.
__________
(1) ذكره ابن حبّان في المجروحين والقيسراني في تذكرة الموضوعات.(2/1123)
ولما دخل أولاد يعقوب مصر التي كان لها أبواب أربعة، من حيث أمرهم أبوهم، من أبواب متفرقة، ما كان توجيه يعقوب على هذا النحو يفيدهم شيئا قطّ، إذا أصيبوا بسوء، ولا يردّ عنهم قدرا لأنه لو قضي أن تصيبهم عين، لأصابتهم مفترقين أو مجتمعين. وإنما طمع يعقوب أن تصادف وصيته ورجاؤه قدر السلامة، فوصّى، وأن يظهر شيئا في نفسه، وهي شفقته عليهم، وتلك رغبة أو حاجة ذاتية في نفس يعقوب أراد إظهارها.
ثم أثنى الله عزّ وجلّ على يعقوب بأنه لقّن ما علّمه الله من هذا المعنى، وهو يعلم بأن الحذر لا يمنع من القدر لتعليم الله إياه بالوحي، ولكن أكثر الناس وهم المشركون والكفار لا يعلمون ذلك، أي لا يعلمون مثل ما علم يعقوب عليه السّلام، ولا يدركون كيف أرشد الله أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة، ومن تلك العلوم: الأخذ بالأسباب الظاهرة، وتفويض الأمر لله تعالى.
والخلاصة: نحن البشر مأمورون باتخاذ الاحتياطات والأسباب الظاهرية، ونفوّض الأمر في تحقيق النتائج إلى الله تعالى، مع ثقتنا التامّة بعدله وفضله ورحمته وإحسانه، ومع توكلنا عليه سبحانه في إنجاز الأمور وتفويض المشيئة لله تعالى.
لقاء الأخوين يوسف وبنيامين
لم يطلب يوسف عليه السّلام الإتيان بأخيه بنيامين إلا لإبقائه عنده، تمهيدا لجمع الشّمل ولمّ الأسرة، والعيش مع الشيخ الكبير يعقوب عليه السّلام الذي اعتصر الأسى قلبه بفقد يوسف، ثم تلاه بنيامين. وتمت الخطة بكيد يسّره الله ليوسف عليه السّلام، واستسهل الأمر على ما فيه من رمي أبرياء بالسرقة، وإدخال الهمّ على(2/1124)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
يعقوب عليه السّلام وعليهم، لما علم في ذلك من الصلاح في الآجل، وبوحي لا محالة، وإرادة من الله محنتهم بذلك. وهذا محكي في القرآن، قال الله تعالى:
[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 76]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [يوسف: 12/ 69- 76] .
هذا ما حدث في الرحلة الثانية لأولاد يعقوب من فلسطين إلى مصر لجلب الطعام، فقد ضمّ يوسف عليه السّلام أخاه بنيامين واختلى به، وأطلعه على شأنه، وعرفه أنه أخوه، وقال له: لا تبتئس أي لا تأسف ولا تحزن على ما صنعوا بي، وأمره ألا يطلع إخوته على ما أسرّ به إليه، وتواطأ معه أن يبقيه عنده معزّزا مكرّما.
فلما جهّزهم يوسف بجهازهم، أي لما أعدّ لهم الطعام، وحمّل لهم أبعرتهم طعاما، أمر بعض فتيانه (غلمانه أو خدمه) أن يضع السّقاية (الصّواع أو مكيال الطعام من فضة أو ذهب) في رحل أخيه بنيامين، دون علم أحد.
__________
(1) ضمّ إليه شقيقه بنيامين.
(2) فلا تحزن.
(3) المراد به مكيال الطعام، وهو صواع الملك.
(4) نادى مناد.
(5) القافلة.
(6) مكياله.
(7) كفيل.
(8) أي علمناه الحيلة وأوحينا إليه طريقة أخذ أخيه.
(9) أي قانونه ونظامه. [.....](2/1125)
ثم أذّن مؤذّن، أي نادى مناد حينما عزموا على الخروج: أيتها العير، أي يا أصحاب العير، إنكم قوم سارقون، فقفوا، فبهتوا وذهلوا. ثم التفتوا للمنادي، وقالوا: أي شيء تفقدونه؟ فأجابوهم: نفقد صواع الملك الذي يكيل به، ولمن أتى به حمل بعير من القمح، وأنا به زعيم، أي كفيل ضامن. مما يدلّ على مشروعية الجعالة أو الوعد بالجائزة.
قال إخوة يوسف بعد اتّهامهم بالسرقة: والله لقد خبرتمونا في المرة الأولى، وعلمتم علم اليقين أننا ما جئنا لنفسد في أرضكم بالسرقة أو غيرها من التّعدي على حقوق الناس، ولم نكن يوما ما سارقين، فليست سجايانا على هذه الصفة.
فقال فتيان يوسف: فما جزاء السارق إن كان فيكم، إن كنتم كاذبين في نفي التّهمة عنكم؟ فأجابوا: جزاؤه في شرعنا أخذ من وجد في رحله، ومثل هذا الجزاء نجزي الظالمين للناس بسرقة أموالهم في شريعتنا أن يسترقّوا، أي أن يتملّك السّارق كما تملك هو الشّيء المسروق. وهي شريعة إبراهيم ويعقوب عليهما السّلام، وهذا مراد يوسف. وإتماما لتنفيذ الخطة، بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه للتورية وحتى لا يتّهم، ثم استخرج السّقاية من وعاء أخيه بنيامين، فأخذه منهم بمقتضى اعترافهم، وإلزاما لهم بمقتضى شريعتهم.
ومثل ذلك الكيد، أي التدبير الخفي، كدنا ليوسف، أي دبّرنا له في الخفاء، وأوحينا إليه أن يفعل لأخذ أخيه، وهذا من الكيد المشروع، لما فيه من المحبة والمصلحة المطلوبة، وهي حيلة مشروعة، يترتب عليها خير ومصلحة في المستقبل، دون إضرار أحد. ولولا هذا التدبير ما كان يتمكّن يوسف عليه السّلام من أخذ أخيه في نظام أو قانون ملك مصر، الذي لا يبيح استرقاق السارق، وكان يوسف يعلم بشريعة يعقوب، فما كان ليأخذ أخاه في نظام الملك في حال من الأحوال إلا في حال(2/1126)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
مشيئة الله، فإنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، مما يدلّ على أن تلك الحيلة مشروعة مأذون بها من الله العلي الحكيم.
وفوق كل عالم من هو أعلم منه، والمعنى: أن البشر في العلم درجات، فكل عالم لا بدّ من وجود من هو أعلم منه، فإما من البشر، وإما الله عزّ وجلّ. قال الحسن البصري: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عزّ وجلّ. فإذا كان إخوة يوسف علماء، فإن يوسف كان أعلم منهم.
الحوار الحادّ بين يوسف وإخوته، وبينهم وبين أبيهم
تفجّرت الأزمة الخانقة بين أولاد يعقوب في مصر، وبينهم وبين أبيهم في فلسطين، ووقعوا في كمين أو فخ شائك، وظهرت الطبائع على حقيقتها، بالرغم من كون الأولاد أبرياء من السرقة، والملك يعرف ذلك. لكن الحادث أغاظهم، وبدأت الاتّهامات الباطلة ومخاوف اللقاء مع الأب، وما يتعرّض له من ألم وأسى جديد حين عودتهم من دون بنيامين. فماذا فعلوا في ساحة الاتّهام؟ قال الله تعالى واصفا وقائع الحوار وصدمة يعقوب وشكواه إلى الله وصبره.
[سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 87]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81)
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86)
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)
«1» «2» «3»
__________
(1) نعتصم بالله.
(2) يئسوا من إجابته.
(3) انفردوا عن الناس يتناجون ويتشاورون.(2/1127)
«1» «2» «3» »
«5» «6» «7» «8» «9» «10» [يوسف: 12/ 77- 87] .
عبّر إخوة يوسف عن طبعهم ونظرتهم السّيئة نحو يوسف، فاتّهموه بالسّرقة وهو صغير، وأن الأخوين سارقان، فقالوا: إن يسرق بنيامين الصواع، فقد سرق أخوه يوسف من قبل، فهما في العادة والطبع سواء. وقصة سرقة يوسف في الصغر: أن عمته ربته، فلما شبّ أراد يعقوب أخذه منها، فولعت به، وأشفقت من فراقه، فأخذت منطقة إسحاق المتوارثة عندهم، فنطّقته بها من تحت ثيابه، ثم صاحت وقالت: إني قد فقدت المنطقة، ويوسف قد خرج بها، ففتّش فوجدت عنده، فاسترقّته- حسبما كان في شرعهم- وبقي عندها حتى ماتت، فصار عند أبيه.
فأسر يوسف الحزازة التي حدثت في نفسه من قولهم، ولم يظهر ما في نفسه من مؤاخذتهم بمقالتهم، بل صفح عنهم، وقال لهم في نفسه دون إعلان: أنتم شرّ مكانا
__________
(1) القافلة.
(2) زيّنت.
(3) يا حزني الشديد.
(4) أصابتها غشاوة.
(5) مملوء غيظا على أولاده.
(6) لا تفتأ ولا تزال.
(7) مشرفا على الهلاك.
(8) أشدّ غمي.
(9) تعرفوا عنه.
(10) رحمته وفرجه.(2/1128)
ومنزلة ممن تتهمونه بالسّرقة لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم، وطرحتموه في البئر، لإهلاكه والتخلص منه. والله أعلم بما تذكرون وتصفون.
ثم استشفعوا لدى يوسف قائلين: يا أيها العزيز، إن له أبا شيخا كبيرا، هرما، يحب هذا الولد حبّا شديدا، فخذ أحدنا بدله، إنا نراك من المحسنين لنا في عطائنا وضيافتنا، بل وفي جميع أفعالك معنا ومع غيرنا.
قال: نعوذ بالله ونلجأ إليه أن نأخذ غير من وجدنا الصواع عنده، فإنا إن فعلنا ذلك كنا من جملة الظالمين، لأن ذلك أخذ بريء بمتهم. والمراد أن الله أمرني بما فعلت، واحتبست بنيامين لمصلحة في ذلك.
فلما يئس إخوة يوسف من إطلاق سراح أخيهم بنيامين الذي التزموا وعاهدوا أباهم أن يردوه إليه، اعتزلوا الناس يناجي بعضهم بعضا، فقال كبيرهم شمعون رأيا وتدبيرا وعلما، وإن كان روبيل أسنّهم: ألم تعاهدوا أباكم بردّ بنيامين، وكنتم سابقا قد فرطتم بيوسف، فلن أغادر أرض مصر أبدا، حتى يأذن لي أبي، أو يحكم الله لي بأن يمكنني من أخذ أخي بنيامين، والله خير الحاكمين بالحق والعدل، ارجعوا إلى أبيكم، وقولوا له: يا أبانا لقد سرق ابنك صواع الملك، فاسترقّه عزيز مصر، وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمناه وشاهدناه، ولم نعلم بالغيب أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق بردّه. واسأل يا أبانا أهل القرية التي كنا فيها وهي مصر، واسأل أصحاب العير الذين كانوا يأتون بالميرة (الطعام) معنا، ونحن صادقون فيما أخبرناك به.
قال يعقوب: بل زيّنت لكم أنفسكم أمرا آخر أردتموه، وكيدا جديدا فعلتموه، فأصبر صبرا جميلا: وهو الذي لا جزع ولا شكاية فيه لأحد غير الله، لعل الله أن يأتيني بأولادي الثلاثة جميعا، إن الله عليم بحالي، حكيم في فعله وقضائه وقدره.
وأعرض بوجهه عن أولاده وجعل يتفجع ويتأسّف، وأصيبت عيناه بغشاوة بيضاء(2/1129)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
حجبت الرؤية بسبب الحزن الشديد، ولكنه كظم غيظه، وحبس همه في نفسه وصدره، فقال أولاده له: والله لا تزال تذكر يوسف، حتى تقع في مرض مشرف على الهلاك، أو تكون من الهالكين الميتين. قال: لا أشكو بثّي أي ما انطوت عليه نفسي، وحزني إلا إلى الله وحده، وأعلم من الله ما لا تعلمون، أي أرجو منه كل خير وفضل. يا أولادي، اذهبوا إلى مصر، وتعرّفوا أخبار يوسف وأخيه بنيامين، ولا تيأسوا من رحمة الله وفرجه، إنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون الجاحدون قدرة الله وحكمته ورحمته.
لقاء التّعارف الفريد
لقد نجحت خطة يوسف عليه السّلام في استدراج مجيء إخوته وأسرته مرة بعد مرة، فهو بتعليم الله له وإرشاده، يسير على خطة محكمة، ومنهج متقن، وإخوته لجهلهم وتفريطهم وتآمرهم السابق على يوسف، لم يدركوا شيئا من هذه الخطة إلا في مرة ثالثة قدموا بها من فلسطين إلى مصر، وبعد أن رقّ قلب يوسف لاستعطافهم واسترحامهم، وحدثت المفاجأة العجيبة حيث عرّفهم يوسف بنفسه، وتم اجتماع الإخوة الاثني عشر في بيت يوسف وسلطانه، فاعترفوا بالذنب السابق، وقابلهم يوسف النّبي بالعفو والصفح عنهم، وتجدد الحبّ الأخوي، وتهيأ الجو لاستقبال الوالد يعقوب عليه السّلام. قال الله تعالى واصفا هذا اللقاء الأخوي والتعارف الفريد في التاريخ:
[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 93]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
«1» «2»
__________
(1) الهزال من شدّة الجوع. [.....]
(2) بأثمان رديئة كاسدة.(2/1130)
«1» «2» «3» [يوسف: 12/ 88- 93] .
أمر يعقوب عليه السلام أن يذهب أولاده إلى أرض مصر التي جاؤوا منها، وتركوا أخويهم: بنيامين وروبيل، وأن يستقصوا أخبار يوسف وأخيه، فساروا من أرض الشام ووصلوها، فلما دخلوا على يوسف عليه السّلام أرادوا اختباره وإثارة عواطفه بذكر سوء حالهم وتضرّعهم له، وكان أبوهم يرجح أن هذا العزيز في مصر هو يوسف، فقالوا له: أيها العزيز العادل الرحيم، قد مسّنا وأهلنا الضّرّ، أي الجوع والمسغبة التي كانوا بسبيلها، ووضع أخيهم الذي أهمّ أباهم وغمّ جميعهم، وجئنا ببضاعة مزجاة، أي قطعة من المال ناقصة غير تامة، يتسامح في أخذها، وهي قليلة لا تروج إلا بالدفع وطول العرض وحسنه. فإن الدراهم المدفوعة إذا كانت نازلة القدر تحتاج أن يعتذر معها ويشفع لها، فهي مزجاة، فأتم لنا الكيل كما كنت تفعل، فقد عودتنا الجميل، وتصدّق علينا بالزائد، إن الله يجزي المتصدقين، ويكافئهم على أعمالهم. وكانت الصدقة بالفرق بين الدراهم الجياد وهذه المزجاة. وقالوا هذا تجوّزا واستعطافا منهم في البيع.
فقال يوسف عليه السّلام لما أخبروه بما مسّهم وأهلهم الضّرّ، واستعطفوه، فرقّ قلبه ورحمهم، قال لهم مستفهما عن استقباح فعلهم السابق بيوسف: هل علمتم قبح
__________
(1) فضّلك الله علينا.
(2) لا لوم عليكم.
(3) مبصرا من شدّة السرور.(2/1131)
ما فعلتم بيوسف وأخيه بنيامين من التفريق بينهما في الصّغر، وألقيتم يوسف في البئر وعرضتموه للهلاك، وما عاملتموه به من معاملة خشنة قاسية، حال كونكم جاهلين قبح ما فعلتم، من عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم والقرابة، وذلك جهل المعصية، أو جهل الشباب وقلّة الحنكة، وكأنه ببشره وتبسّمه لقّنهم الجواب، وقرّبهم من الظّن القوي أنه يوسف.
فخاطبوه مستفهمين استفهام تقرير وتثبّت ومعرفة: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ فقد عرفوه بعلامات كانت فيه. فقال على الفور: أنا يوسف المظلوم العاجز الذي نصرني الله، وحفظني، وصيّرني إلى ما ترون، وهذا أخي بنيامين الذي فرّقتم بيني وبينه، فكان مظلوما أيضا كما كنت، ثم صار منعما عليه من قبل الله تعالى، كما ترون. قد أنعم الله علينا بالاجتماع، بعد الفرقة وبعد طول المدة، وأعزّنا في الدنيا والآخرة، إنه من يتق الله في ترك المعصية، ويصبر على المحن التي يتعرّض لها كالرّمي في البئر والسجن، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا في الدنيا والآخرة. وهذه شهادة من الله عزّ وجلّ بأن يوسف من المتقين الصابرين المحسنين.
أجابوه إعلانا للحق واعترافا له بالفضل: والله لقد فضّلك الله علينا، وآثرك بالعلم والحلم والخلق، والسلطان والسعة، والنّبوة والرّسالة، وإن كنا مخطئين مذنبين في حقّك، فقال يوسف بعد هذا الاعتذار والتوبة، معلنا الصفح والعفو عنهم: لا لوم ولا تعيير ولا توبيخ أو تأنيب لأحد منكم فيما صنعتم، يغفر الله لكم ذنوبكم وظلمكم، وهو أرحم الراحمين لمن تاب إليه وأناب إلى طاعته. وهذا مثل عال في العفو الجميل والصفح الكريم، فعل نبينا عليه الصّلاة والسّلام مثله مع أهل مكة بعد فتحها، مستشهدا بقول يوسف نفسه.
ثم جاءت معجزة القميص، قال يوسف لإخوته: اذهبوا بقميصي هذا، فألقوه على(2/1132)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
وجه أبي، يعد بصره إليه بعد أن عمي بسبب شدة الحزن، وأتوني بجميع أهليكم من الرجال والنّساء والأولاد، وكانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا. وكان هذا كله بوحي وإعلام من الله تبارك وتعالى. ويروى أن هذا القميص كان لإبراهيم عليه السّلام، حين كساه الله إياه بعد خروجه من النار.
معجزة القميص
يختلف أفق النّبوة غير المعتاد عن الأحوال المعروفة المعتادة للناس، فإن في النّبوة أعمالا خارقة للعادة، تسمى معجزات، وكانت معجزة قميص يوسف من أبهر المعجزات النّبوية في تاريخ الرّسل، وكان الخبر العجيب من يعقوب عليه السّلام أنه يشمّ ريح يوسف ابنه المفقود من زمان طويل. وتحقّقت نبوءة يوسف وأبيه يعقوب، وتمت الفرحة الغامرة باكتشاف وجود يوسف عليه السّلام، وأنه ما زال حيّا، وأنه ذو مكانة وسلطان، وعمت البهجة والسرور أرض مصر وفلسطين معا، وكان البشير المبشر بهذا هو الابن الأكبر ليعقوب، وهو يهوذا الذي اعتصم بمصر، والذي كان قد جاء بقميص الدم. وصف القرآن المجيد هذه المعجزة في قوله سبحانه:
[سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 98]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
«1» «2» «3» [يوسف: 12/ 94- 98] .
__________
(1) فارقت القافلة العريش في مصر.
(2) أي تنسبوني إلى الفند: وهو ضعف العقل أو الخرف، أي تسفهوني أو تكذبوني.
(3) انحرافك عن الصواب.(2/1133)
أحسّ يعقوب عليه السّلام برائحة يوسف ابنه الحبيب، وأشعره الله به، حين أقبل به إليه ابنه الأكبر يهوذا من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية، إذ حملته إليه ريح الصّبا، فلما خرجت إبل أولاده من مصر، وانفصلوا عنها، قال يعقوب- وهو النّبي الرسول الصادق- لأهله: إني لأشمّ رائحة يوسف وقميصه، لولا أن تنسبوني إلى الفند (أي الخرف وضعف العقل) والكبر.
أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال: لما خرجت العير، هاجت ريح، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف، فقال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام. قال الإمام فخر الدين الرازي: والتحقيق أن يقال:
إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات لأن وصول الرائحة من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة، فيكون معجزة ليعقوب عليه السّلام على الأظهر أو الأقرب.
وهذا هو الراجح بتقدير الله وإرادته وقدرته حيث يطلع أنبياءه على عجائب الأمور على سبيل إظهار المعجزات على أيديهم.
قال الحاضرون في مجلس يعقوب له: والله، إنك لفي ضلالك القديم أي حيرتك أو خطئك القديم الذي طال أمده، بظنّك أن يوسف حيّ يرزق، ويرجى لقاؤه.
وليس هو بالضّلال الذي هو في العرف ضدّ الرشاد لأن ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به. وكان حزن يعقوب قد تجدّد بقصة بنيامين، فلذلك يقال له:
ذو الحزنين.
فلما أن جاء البشير المبشّر، وهو يهوذا، يحمل قميص يوسف، مبشّرا له ببقائه حيّا، هو وأخوه بنيامين، ألقاه على وجه يعقوب، فانقلب فورا بصيرا كما كان، من شدّة الفرح. وتلك معجزة أخرى، وقال يعقوب حينئذ لمن حوله: ألم أقل لكم يا(2/1134)
أولادي، إني أعلم من الله أشياء لا تعلمونها. ألم أقل لكم حين ذهبتم إلى مصر:
ابحثوا عن يوسف، ولا تيأسوا من روح الله ورحمته، وإني لأعلم يقينا أن الله تعالى سيردّ يوسف إلي.
وحين ذاك قال الأولاد لأبيهم يعقوب مترفّقين معتذرين: اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي اطلب من الله أن يغفر لنا ذنوبنا، فإنا كنا مذنبين عاصين، وقد تبنا وندمنا على ما فعلنا معك ومع أخوينا: يوسف وبنيامين.
روي أن يوسف عليه السّلام لما غفر لإخوته، وتحقّقوا أيضا أن والدهم يعقوب يغفر لهم، قال بعضهم لبعض: ما يغني عنا هذا، إن لم يغفر الله لنا، فطلبوا حينئذ من يعقوب أن يطلب لهم المغفرة من الله تعالى، واعترفوا بالخطإ.
فقال لهم يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي أي في المستقبل القريب، في وقت السّحر آخر الليل، لأنّ ربي غفور ستّار للذنوب، رحيم بالعباد. وهذا الوقت- وقت السّحر- هو وقت يجاب فيه الدعاء، لقوله تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آل عمران:
3/ 17] .
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي والموطأ والإمام أحمد (أي الجماعة ما عدا النّسائي) عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل ربّنا كل ليلة إذا كان الثلث الآخر- أي من الليل- إلى سماء الدنيا، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له؟» .
وروى ابن عباس- فيما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ- عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أخّرهم يعقوب، حتى تأتي ليلة الجمعة» .
والتوفيق بين الرّأيين: أنه أخّرهم لسحر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء، وهو رأي أكثر المفسّرين.(2/1135)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
اللقاء المبارك لأسرة يعقوب كلها
كانت قصة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته من العجائب، وتمت فصولها ومشاهدها على مدى طويل، لتعليم الناس وإرشادهم إلى ضرورة التصديق أولا بأخبار الأنبياء الذين يخبرون عن الله بالوحي، وإلى لزوم الاعتصام بالإيمان بالله عزّ وجلّ، وبالصبر الجميل على الأحداث، وإلى تفويض الأمر لله تعالى دون تعجيل بالثأر أو الانتقام أو اقتراف الخطأ والذنب، كما حدث من إخوة يوسف. وأدّت فصول هذه القصة إلى الهدف المرجى، وهو لقاء الأسرة اليعقوبية لقاء كريما مباركا فيه، وذلك في المرة الرابعة من رحلات أولاد يعقوب إلى مصر، وتم في هذا اللقاء تأويل رؤيا يوسف من قبل بسجود أحد عشر كوكبا له، وهم أهله وإخوته، قال الله تعالى موضحا هذا التأويل وذلك اللقاء العظيم:
[سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 100]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
«1» «2» «3» [يوسف: 12/ 99- 100] .
بعد أن طلب يوسف عليه السّلام من إخوته أن يأتوه بأهله أجمعين، فرحلوا من بلاد كنعان- فلسطين- إلى مصر، للإقامة معه فيها، فحضر يعقوب أبوه وخالته وإخوته وأسرهم، فلما أخبر يوسف عليه السّلام باقترابهم من أرض مصر، خرج لتلقّيهم ومعه الأمراء وأكابر الناس، فلما دخلوا على يوسف في أبهة الملك
__________
(1) ضمهما إليه.
(2) البادية.
(3) حرّش وأغرى.(2/1136)
والسلطان، ضمّ إليه أبويه وعانقهما، على ما رجح ابن جرير، أو أباه وخالته لأن أمه كانت قد ماتت، فتزوج يعقوب بهذه الخالة.
وقال يوسف لأسرته جميعا: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أي تمكّنوا واسكنوا واستقرّوا في بلاد مصر، بمشيئة الله، آمنين على أنفسكم وأموالكم وأهليكم، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
ورفع يوسف أبويه على سرير ملكه، بأن أجلسهما معه، تكريما لهما، وسجد له الإخوة الأحد عشر والأبوان سجود تحية وإكرام له، لا سجود عبادة وتقديس، وكان سجود الانحناء هو تحية الملوك والعظماء في زمنهم.
وبعد هذه التحية قال يوسف: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ أي إن هذا السجود هو تأويل رؤياي القديمة حال صغري، وهي: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 12/ 4] . وتأويل رؤياي: ما آل إليه الأمر.
إن تلك الرؤيا العجيبة الغريبة، أصبحت حقيقة واقعة، وصحيحة صدقا فإن رؤيا الأنبياء حقّ ثابت، فكما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده إسماعيل، صارت سببا لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة والواقع، فكذلك صارت هذه الرؤيا ليوسف سببا لوجوب ذلك السجود: سجود التّحية.
وأضاف يوسف قائلا: وقد أحسن الله تعالى إلي وأفاض علي من نعمه وأفضاله، وعبّر بقوله: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي أي أوقع وناط إحسانه بي، إذ أطلق سراحي من السجن، ورزقني الملك، وجاء بكم من البادية، وكانوا أهل بادية وماشية وشظف عيش، فنقلكم من الشقاوة إلى النعمة، ومن البادية لسكون الحاضرة والمدينة ذات الترف والسعة والرفاه.
ولم يذكر يوسف قصة إخراجه من البئر، تكريما لإخوته، وحفظا لحيائهم،(2/1137)
وحدث كل هذا من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، أي فعل فعلا أفسد به، وأغوى وأساء العلاقة بيني وبين إخوتي، ونسب النّزغ للشيطان لأنه سبب الإفساد.
وإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبيّن حسن موقع النّعم لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء، فهي أحسن موقعا. وأما نزغ الشيطان فهو حقيقة واقعة
لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه البخاري عن أبي هريرة-: «لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري، لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار» .
والمعنى: يرمي به في يده ويحقق ضربته. ومن رواه «ينزغ» فمعناه الإغراء، أي يزيّن له الشيطان تحقيق الضربة.
ثم قال يوسف: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أي إن الله إذا أراد أمرا، قيّض له أسبابا، وقدّره ويسّره، إنه هو العليم بمصالح عباده، الحكيم في أقواله وأفعاله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده.
نهاية قصة يوسف والعبرة منها
تضمنت قصة يوسف عليه السّلام مجموعة من المبادئ الاعتقادية والأخلاقية والدينية، كوّنت همزة وصل وجسور التقاء بين رسالة يوسف ورسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، أساسها شكر النعمة لخالق الأرض والسماء، ومبناها الإيمان بالغيب، وفيها براهين لإثبات وجود الله تعالى وتوحيده تقوم على أساس التّفكر والتأمل في آيات الله الكونية، وتتضمن وصف أكثر الناس بعدم الإيمان، وتهديدهم بإتيان العذاب أو مجيء القيامة، مما يجعل دعوة خاتم الأنبياء تقوم على هذه الأسس القديمة القويمة، وعلى الإقناع والعقل والتبصّر في الأمور، وإثبات توحيد الله، ورفض الشّرك والوثنية. وصف الله تعالى هذه الجسور بين رسالات الأنبياء بقوله تعالى:(2/1138)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
[سورة يوسف (12) : الآيات 101 الى 108]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105)
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
«1» «2» «3» «4» «5» [يوسف: 12/ 101- 108] .
ختمت قصة يوسف بخاتمة مؤثرة تصلح عبرة للملوك والحكام، حيث جمع الله ليوسف بين الملك والسلطة، والنّبوة، وأنعم عليه بنعم كثيرة نقلته من السجن والبئر إلى عزّة الإدارة والحكم والسلطة في مصر، فبادر إلى شكر ربّه، بهذا الدعاء الجامع الذي سأل الله فيه أن يجزل له ثواب الآخرة كما أجزل له العطاء في الدنيا. فقال: يا ربّ، قد آتيتني ملك مصر، وعلّمتني بعض التأويلات للأحاديث وتعبير الرّؤيا، ومعرفة أسرار كلامك. يا ربّ يا فاطر السماوات والأرض (أي خالقهما ومبدعهما في أبدع نظام وأحكم ترتيب) أنت ناصري ومتولّي أمري في الدنيا والآخرة، توفّني مسلما خاضعا لك منقادا لأمرك، وألحقني بالصالحين من آبائي: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فأنت الرحيم الكريم، القادر على كل شيء.
ذلك الإيراد لقصة يوسف عليه السّلام وأخباره من أخبار الغيب التي أوحاها الله لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن موجودا في وقت أحداثها، ولا مشاهدا لها، حين عزم
__________
(1) يا مبدع.
(2) عزموا على الكيد ليوسف.
(3) كم من آية أي كثير.
(4) أي نقمة تغشاهم أو عقوبة تحيط بهم. [.....]
(5) فجأة.(2/1139)
إخوة يوسف على إلقائه في البئر، وهم يمكرون به، أي يدبّرون شيئا به وبأبيه، وإنما ذلك من تعليم الله تعالى له.
علما بأنه ليس أكثر الناس بمصدّقين بدعوتك ورسالتك يا محمد، ولو كنت حريصا على إيمانهم، لتصميمهم على الكفر وعنادهم. وما تسأل منكري نبوّتك يا محمد على تبليغ الرسالة ونصحهم ودعوتهم إلى الخير والرّشد أجرا ولا عوضا، وإنما تفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله وإفادة خلقه، فما عليهم بعد هذا البيان إلا قبول دعوتك، فإن هذا القرآن الذي أرسلك به ربّك هو محض تذكير وموعظة لكل العالمين من الجنّ والإنس.
والسبب في أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين: أنهم في غفلة عن التفكّر في الآيات الكونية والدلائل الدّالة على وجود الله الصانع وتوحيده، وكمال علمه وقدرته، في أنحاء السماوات والأرض من الكواكب والنجوم، والجبال والسهول، والبحار والنباتات والأشجار، والأحياء والأموات، يمرون على تلك الآيات والدلائل ويشاهدها أكثرهم، وهم غافلون عنها، لا يتفكرون بما فيها من عبر وعظات، وكلها تشهد بوجود الله ووحدانيته.
وما يكاد يؤمن أو يصدّق أكثر المشركين بوجود الله إلا وهم ملازمون للشّرك، عاكفون على عبادة الأصنام والأوثان. هذه الآية نزلت بسبب قول قريش في الطّواف والتّلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. فأنذرهم الله بقوله: أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتشملهم، أو يأتيهم يوم القيامة فجأة، وهم لا يحسّون أو لا يشعرون بذلك. وهذا كما في آية أخرى فيها إنذار وتوبيخ وتهديد: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ(2/1140)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)
[الأعراف: 7/ 97- 99] .
ثم أمر الله نبيّه أن يعلن مضمون دعوته للثّقلين: الإنس والجنّ بأن طريقته التي يتّبعها، ودعوته إلى توحيد الله، يدعو فيها هو أتباعه على تبصّر ويقين، وتأمّل وإقناع، وبرهان ساطع وحجة دامغة، وسبحان الله، أي أنزّه الله وأقدّسه من أن يكون له شريك أو نظير، وأنا بريء من جميع المشركين على اختلاف أنواعهم.
والخلاصة: إن آية قُلْ هذِهِ سَبِيلِي إشارة إلى دعوة الإسلام والشريعة الإلهية بأسرها.
العبرة من القصة القرآنية
يتذرّع أعداء الرّسالات الإلهية بذرائع واهية وشبهات قديمة من أجل تسويغ ضلالهم وكفرهم، والتماس العذر لسلوكهم ومنهاجهم، ومن شبهاتهم إنكارهم بشرية الرّسل، وأن الرسول في زعمهم ينبغي أن يكون ملكا نورانيّا، كما حكى القرآن عنهم: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصّلت: 41/ 14] . ونسوا ما يرون في الكون من آيات دالّة على صدق الرّسل، وثبوت الوحي الإلهي لهم. فإذا ما أصرّوا على كفرهم جاءهم العذاب الشامل. وعلى الناس أن يدركوا أن في إيراد القصص القرآنية عبرة وعظة لذوي العقول، وليس حديثا مفترىّ أو مكذوبا. وهذا ما أبانته الآيات التالية:
[سورة يوسف (12) : الآيات 109 الى 111]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)(2/1141)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [يوسف: 12/ 109- 111] .
الآية الأولى:.. إِلَّا رِجالًا ... تتضمن الرّد على مستغربي إرسال الرّسل من البشر، كالطائفة التي قالت: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 17/ 94] ، وكالطائفة التي اقترحت ملكا وغيرهما. والمعنى: وما أرسلنا يا محمد من قبلك رسلا إلا رجالا، لا ملائكة ولا إناثا، فهم من العنصر البشري القوي الكامل، وكانوا من أهل المدن مدنيّين، لا أعرابا من البوادي، وكنا ننزل عليهم الوحي والتشريع. وهذا يدلّ على أن الرّسل من البشر، لا من الملائكة، ومن أهل المدن المتحضّرين لا من البدائيين، ومن الذّكور الرجال، لا من النّساء، فلم تكن امرأة قطّ نبيّا ولا رسولا، ولم يبعث الله رسولا من أهل البادية، لأن فيهم عادة الجهل والجفاء، ولتتبعهم المدن الأخرى، ولأن أهل المدن أرقّ طبعا وأكثر خبرة وتلطّفا من أهل البوادي.
ثم هدّد الله المشركين على تكذيبهم بالرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، أفلم يسر هؤلاء المكذّبون لك يا محمد في الأرض، فينظروا ويروا كيف كان مصير الأمم المكذّبة للرّسل، كيف دمّر الله عليهم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم السّلام، وللكافرين أمثال تلك الألوان من العذاب، فإن عاقبة الكافرين الهلاك، وعاقبة المؤمنين النّجاة. ثم حضّ الله تعالى على العمل للدار الآخرة والاستعداد لها، فهي خير للذين خافوا لقاء الله، فلم يشركوا به ولم يعصوه، فهي أفضل من دار الدنيا لأولئك المشركين المكذّبين
__________
(1) يئسوا من النّصر.
(2) توهّم الرّسل.
(3) كذبهم رجاؤهم النّصر في الدنيا.
(4) عذابنا.
(5) عظة.
(6) يختلق.(2/1142)
بالرّسل، أجهلتم أيها الناس الضّالّون المكذّبون بالآخرة، فلا تعقلون مصائركم، فإنكم لو عقلتم ذلك، لآمنتم واستقمتم.
ثم بشّر الله نبيّه بالنّصر بإخباره بسنّة إلهية دائمة: وهي مجيء النصر الإلهي للرّسل عليهم السّلام، عند اشتداد الأزمة وانتظار الفرج الرّباني، وتيقن الرّسل أن المشركين كذبوهم تكذيبا لا إيمان بعده، وصمموا على ذلك، وألا انحراف عنه، وتكون العاقبة هي الإتيان بنصر الله فجأة، فينجّي الله من يشاء، وهم النّبي والمؤمنون معه، ويحلّ العقاب بالمكذّبين الكافرين، ولا يردّ بأس الله، أي لا يمنع عقاب الله وبطشه عن القوم الذين أجرموا، فكفروا بالله، وكذّبوا رسله. وهذا تهديد ووعيد لكفار قريش وأمثالهم، لإعراضهم عن الإيمان بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم وبدعوته، وبما أنزل الله من القرآن المجيد لأن في قوله تعالى: وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا أي عذابنا وعيدا بيّنا، وتهديدا صريحا لمعاصري محمد عليه الصّلاة والسّلام.
ثم أبان الله تعالى الهدف العام من قصص القرآن الكريم، فلقد كان في سرد أخبار الأنبياء المرسلين مع أقوامهم، وإنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين عبرة وعظة وذكرى لأولي العقول السّوية، والأفكار الصحيحة، ولم يكن هذا القرآن المبين لقصة يوسف وغيرها حديثا مختلقا مكذوبا من دون الله لأنه كلام أعجز البلغاء والفصحاء، وإنما هو كلام الله من طريق الوحي والتّنزيل، لتصديق ما تقدمه من الكتب السماوية في صورتها الأولى الصحيحة، كالتّوراة والإنجيل والزّبور، أي تصديق ما جاء فيها من عند الله من الصحيح والحق، ونفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، فالقرآن مصدق أصولها الصحيحة، وهو أيضا مهيمن عليها، وحارس لها. وفي القرآن أيضا تفصيل كل شيء من العقائد والأحكام والحلال والحرام، والمحبوب والمكروه، والأمر والنّهي، والوعد والوعيد، وهو أيضا هدى وإرشاد للعالمين إلى طريق الحق والاستقامة، وهو كذلك رحمة عامّة من الله ربّ العالمين للمؤمنين في الدنيا والآخرة.(2/1143)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
تفسير سورة الرّعد
أدلّة قدرة الله تعالى
تعدّدت البراهين الدّالة على قدرة الله تعالى من إنزال القرآن المجيد، وإبداع السماوات والأرض، وتدبير الخلق، وتسخير الشمس والقمر، وإيجاد أنواع الجبال والأشجار والزروع والثمار وكروم العنب وبساتين النّخيل ذات الطعوم والألوان المختلفة. وهذه أدلّة حسّية مشاهدة تثبت القدرة الإلهية لمن كان له عقل أو فكر أو سمع أو بصر، أشار إليها القرآن في آيات ومناسبات متعددة، كما في مطلع سورة الرّعد المدنيّة:
[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
«1» «2» «3» »
«5» «6» «7» [الرّعد: 13/ 1- 4] .
__________
(1) بغير دعائم.
(2) بسطها في مرأى العين.
(3) جبالا ثوابت.
(4) نوعين.
(5) يغطي الليل ضوء النهار.
(6) أي نخلات من أصل واحد، أو من أصول مختلفة، متماثلات وغير متماثلات.
(7) الثّمر والحبّ. [.....](2/1144)
افتتحت هذه السورة كسورة البقرة بأحرف هجائية للتّنبيه والتّحدي والدّلالة على إعجاز القرآن المتكوّن من حروف هجائية هي مادّة لغة العرب التي يتفاخرون أنهم سادة البيان فيها. وآيات هذه السورة وآيات القرآن كلها آيات عظام القدر والشّأن، أنزلها الله تعالى على قلب نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهي حقّ لا شكّ فيه، تمثّل جميع الشريعة القرآنية، ولكن أكثر الناس لا يصدّقون بالمنزل إليك من ربّك، ولا يقدرون ما في القرآن من سمو التشريع والأحكام، ورعاية المصالح المناسبة لكل عصر وزمان. وهذا إخبار واقعي عن علم إلهي غيبي دالّ على إعجاز القرآن، ينبئ عن أحوال الناس.
وإنزال القرآن مظهر من مظاهر القدرة الإلهية.
ومن مظاهر قدرة الله تعالى وعظيم سلطانه: أنه سبحانه هو الذي خلق السماوات بغير أعمدة نشاهدها بالعين المجردة، ثم استوى الله على أعظم المخلوقات وهو العرش استواء يليق به، وسخّر أي ذلّل الشمس والقمر، وجعلهما طائعين لما أريد منهما من المنافع للناس، من دوران وضياء، وظهور واختفاء، وكل منهما كغيرهما من الكواكب السّيارة يجري لأجل مسمى، أي لمدة معينة، هي نهاية الدنيا ومجيء القيامة، أو أن الشمس تتم دورتها في خلال سنة، والقمر في أثناء الشهر، قال الله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحجّ: 22/ 65] .
يدبّر الله أمر الكون ويصرّفه على وفق إرادته ومقتضى حكمته، فيحيي ويميت، ويعزّ ويذلّ، ويغني ويفقر، ويهيّئ الأسباب للنتائج والمسبّبات، يفصّل الآيات، أي يبيّن الدلائل الدّالة على وجوده تعالى، ووحدانيته، وقدرته، وحكمته وعلمه ورحمته، رجاء أن تتيقّنوا أيها الناس، أو لتعلموا علم اليقين أن القرآن حقّ، وأن الله قادر على البعث والإعادة، والحساب والجزاء يوم القيامة. فالذي قدر على خلق السماوات والأرض وما بينهما، ودبّر نظام الكون والحياة وشؤون الخلق بدقّة(2/1145)
فائقة، قادر على إحياء الموتى، وإعادة الأرواح إلى أجسادها مرة أخرى، وحساب أصحابها.
والله تعالى أيضا هو الذي بسط الأرض وفرشها ومهّدها، وجعل فيها رواسي، أي جبالا شامخة، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون، لسقاية ما فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال، والطعوم والرّوائح. وجعل في كل صنف من أصناف الثمار زوجين اثنين، أي ذكرا وأنثى، ليتم التّلاقح وحمل الثمرات، يغطّي الله ضوء النهار بظلمة الليل، ويطرد ظلام الليل بنور النهار، كما في آية أخرى:
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) [النّبأ: 78/ 9- 11] ، إن في مخلوقات الله، وعجائب خلقه لدلائل وبراهين لمن يتفكّر فيها، ويتأمّل في عظمتها، فيستدلّ بها على وجود الله تعالى، وقدرته، وكمال علمه وإرادته.
ومن الآيات الأرضية أجزاء فيها يجاور بعضها بعضا، ويقترب بعضها من بعض، تربتها واحدة، وماؤها واحد، وهي مع تجاورها مختلفة متغايرة الخواص، فيها بساتين الأعناب، والزروع المختلفة ذات الحبوب المتنوعة للإنسان والحيوان، وفيها أنواع النّخيل المتماثلات وغير المتماثلات صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يسقى كله بماء واحد، ويتغذى بغذاء واحد، ويتفاضل بعضها على بعض في الأشكال والطّعوم ومذاق الأكل، إن في هذا التّفاوت مع وجود مصادر التّشابه لأدلّة باهرة على قدرة الله، لقوم يتدبّرون ويفكّرون فيها ويعقلون أنّ لها خالقا أوجدها ورتّبها. والتّفضيل في الأكل يشمل الأذواق والألوان والملمس وغير ذلك.(2/1146)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
إنكار البعث
من المشكلات الكبرى عند الماديين والملحدين والمشركين إنكار وجود عالم آخر بعد عالم الدنيا، لظنهم أن الإنسان مخلوق مادي بالطبيعة، وينتهي وجوده من العالم بالموت، والموت فناء لا رجعة بعده في زعمهم، قائلين كما حكى القرآن عنهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) [المؤمنون: 23/ 37] .
ونسوا أن الله الذي خلقهم أول مرة قادر على إعادة خلقهم وإحيائهم مرة أخرى، كما جاء في قول الله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الأحقاف: 46/ 33] .
وتعددت ألوان التقريع والتهديد بالعذاب والاستغراب في آي القرآن من مواقف هؤلاء المنكرين ليوم البعث، كما جاء في الآيات التالية:
[سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)
«1» «2» [الرّعد: 13/ 5- 7] .
المؤمن في هذا العالم مطمئن مستقر مرتاح، والكافر قلق متردد يحس بالضيق ويشعر بالمرارة والتأنيب الداخلي، فلا عجب أن يصدر من الكفار حماقات ومكابرات وألوان من العناد، فتراهم كما تصور هذه الآيات، بالإضافة لإنكارهم البعث والقيامة، يستعجلون العذاب والانتقام في الدنيا، ويطالبون بآيات تعجيزية.
__________
(1) القيود أو أطواق الحديد.
(2) أي عقوبات أمثالهم من المكذبين.(2/1147)
لذا بدئت هذه الآيات بأنه إن تعجب أيها الرسول النبي من تكذيب المشركين لك، وعبادتهم مالا يضر ومالا ينفع من الأصنام، مع ما يشاهدونه في واقعهم من آيات الله الكونية الدالة على قدرته التي لا حدود لها، فالأدعى للعجب والأغرب تكذيبهم بالبعث والقيامة، وقولهم: هل تمكن الإعادة بعد الفناء، أو التفتت ترابا؟ وهل يمكن أن نعود لخلق جديد؟! فحكم الله تعالى عليهم بأحكام ثلاثة لا نجدها في غير هذه الآيات:
الحكم الأول: أنهم أولئك الكافرون الذين جحدوا بربهم وكذبوا رسله، وتمادوا في عنادهم وضلالهم، لأن إنكار قدرة الله تعالى إنكار لوجوده ووحدانيته.
والحكم الثاني: وصف لأحوال عذابهم، فهم أولئك المقيدون بالسلاسل والأغلال، يسحبون بها سحبا في غاية القهر والذل والمهانة.
والحكم الثالث: زجهم في نار جهنم، أولئك هم أصحاب النار خالدون فيها في الآخرة، ملازمون لها، يمكثون فيها على الدوام، لا يحولون عنها ولا يزولون، بسبب كفرهم، وإنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول.
ولم يقتصر إنكارهم على عذاب الآخرة، وإنما تهكموا وأنكروا أيضا عذاب الدنيا، فقال الله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي ويستعجلك هؤلاء المكذبون بالعقوبة في دار الدنيا، وهذا غاية الحماقة والتحدي والإمعان في الكفر، فهم يكذبونك أيها النبي بالعذاب الذي أنذرتهم به استهزاء، قبل الحسنة من الإمهال أو الإيمان، والسلامة والعافية من البلاء.
علما بأن هناك أمثلة واقعية يعرفونها، فقد خلت من قبلهم المثلات، وأوقعنا أنواع النقم، وشدائد العقاب بالأمم الخالية، وجعلناهم عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن اتعظ. وهذا تبيين لخطئهم في أن يتمنوا المصائب، ويطلبوا إنزال أو إسقاط جزء من(2/1148)
السماء، أو إرسال حجارة تمطر عليهم، ولو كان ذلك لم يحدث قط، لكان لهم العذر.
ثم فتح الله لهم باب الأمل، ورجّاهم بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أي إن الله تعالى صاحب عفو وصفح وستر للناس على ذنوبهم في الآخرة، مع أنهم ظلموا أنفسهم، وأخطئوا بالليل والنهار، ولكن الله حليم رؤف بالناس، فهو سبحانه يمهل مع ظلم الكفرة، ويعفو عند التوبة، وهو أيضا شديد العقاب للعصاة الذين أصروا على الكفر والعصيان.
قال ابن المسيب: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا عفو الله لما تمنى أحد عيشا، ولولا عقابه لا تكل كل أحد» .
وقال ابن عباس: «وليس في القرآن أرجى من هذه الآية» .
ث م ازداد إمعان المشركين في الكفر والعناد، فطلبوا معجزات مادية على وفق هواهم، وميولهم، وقالوا: لولا يأتينا محمد بآية حسية من ربه، كما أرسل الأولون، مثل عصا موسى، وناقة صالح، ومائدة عيسى، فيجعل لنا جبل الصفا ذهبا، وأن يزيح عنا الجبال، ويجعل مكانها مروجا وأنهارا. فرد الله عليهم متجاوزا مطالبهم، بأن النبي مجرد منذر لقومه من العذاب، وهاد للخير والسداد، ولكل قوم داعية من الأنبياء، يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى الدين الحق، وسبيل الخير والرشاد، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 35/ 24] .
علم الغيب
هناك صفات تختصّ بالله عزّ وجلّ، لا يعلم بها البشر، ولا يقدرون على علمها، بسبب كون عقولهم محدودة، وأفكارهم قاصرة، ومن أهم تلك الصفات التي تحدّى الله بها البشر، وأثبت عجزهم وضعفهم: هو علم الغيب في المستقبل القريب أو(2/1149)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
البعيد، فالله سبحانه عالم الغيب (ما وراء الطبيعة) والشهادة (عالم المحسوسات المرئية والمسموعة) ليكون ذلك دليلا على ألوهية الله ووحدانيته، دون شريك ولا منافس أو معارض أو شبيه ونظير، قال الله تعالى مبيّنا بعض مظاهر علمه الغيبي:
[سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الرّعد: 13/ 8- 11] .
أبانت هذه الآيات تمام علم الله تعالى وعلمه بدقائق الأشياء وعظائمها، فهو سبحانه يعلم ما في بطون الأجنّة من ذكورة وأنوثة، ووحدة وتعدّد، وأوصاف وخصائص، وآجال لها، وكل ما يطرأ على ما في الأرحام من بدء تخلّق الحمل، وولادة، وهو ما تغيض به الأرحام، أي ما تنقصه في زمن أو جسم، وما تزداد من نموّ الجنين ومدة مكثه في البطن ووقت ولادته، وكل شيء يدخله التقدير، عند الله تعالى، بأجل معيّن، وبمقدار محدد، لا يزيد عنه ولا ينقص. وجمهور المتأوّلين على أن غيض الرحم إرسال الدّم على الحمل. وقال الضّحاك: غيض الرّحم: أن تسقط المرأة الولد، والزيادة: أن تضعه لمدة كاملة، تامّا في خلقه. ودلّ الإحصاء العلمي على أن الجنين لا يزيد بقاؤه في بطن أمه عن 305 أو 308 أيام.
والله سبحانه عالم الغيب، أي ما غاب عن الإدراكات، وعالم الشهادة: ما
__________
(1) ما تنقصه.
(2) بقدر لا يتعدّاه.
(3) العظيم الأعظم.
(4) المستعلي على كل شيء.
(5) ظاهر ذاهب.
(6) أي له تعالى ملائكة تتعاقب على حفظ الإنسان ورعايته وكتابة أقواله وأفعاله.
(7) أي بأمر الله وتقديره.
(8) ناصر أو ولي أمر.(2/1150)
شوهد من الأمور، وهو الكبير الأكبر من كل شيء، المتعال على كل شيء، قد أحاط بكل شيء علما، أي شمل علمه كل شيء، وقهر كل شيء، فخضعت له الرّقاب، وذلّ له العباد طوعا وكرها.
والآية تشمل علم الله بالجزئيات والمفردات والدقائق، وتشمل علم الله بمقادير الأشياء وحدودها، وما يتخصص به كل شيء من أوصاف، ويعلم أشياء خفية لا يعلمها إلا هو، وهو ما غاب عن الحس، وما حضر من المحسوسات.
والله تعالى عالم علما تامّا بأحوال جميع مخلوقاته، سواء ما أسرّوه منها وأخفوه، أو ما أعلنوه وأظهروه، وما هو مختف في ظلام الليل في قعر البيت وجوانبه، وما هو ظاهر ماش بسرعة في ضوء النهار، فإن كلاهما في علم الله على السواء. فكل ما هو بالليل في غاية الاختفاء، وما هو متصرّف بالنهار، ذاهب لوجهته، سواء في علم الله تعالى وإحاطته بهما.
ولله تعالى وسائل تخزين للمعلومات والمعارف وهم الملائكة الحفظة على العباد أعمالهم، والحفظة لهم، فمن حكمته ورحمته تعالى أن جعل للإنسان ملائكة حفظة، يتعاقبون على حفظ الإنسان في الليل والنهار، لحمايته وصونه من المضارّ والطوارئ الجسام، وملائكة آخرون يتعقّبون أعمال العباد ويتّبعونها بالحفظ والتّدوين وكتابة كل ما يصدر عنهم من خير أو شرّ. فالمعقّبات: الجماعات التي يعقب بعضها بعضا، وهم الملائكة.
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربّهم وهو أعلم بهم:
كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلّون، وأتيناهم وهم يصلّون» .
ثم أوضح الله تعالى مبدءا إلهيّا عظيما: وهو أنه لا عقاب بدون جريمة، فقال:
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ... أي إن الله لا يبدّل ما بقوم من(2/1151)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
نعمة وعافية، وراحة وسلامة، فيزيلها عنهم إلا بتغيير ما بأنفسهم، بأن يصدر منهم الظلم والعصيان والفساد وارتكاب الشرور والآثام.
وإذا أراد الله تعالى بقوم سوءا من فقر أو مرض أو احتلال وغير ذلك من أنواع البلاء، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم، وما لهم من غير الله تعالى ناصر يلي أمورهم، ويدفع عنهم الضّرر، فلا أحد يجلب لهم النفع، ويدفع عنهم الضّرّ. وهذا دليل واضح على أن الله قادر على كل شيء، ومتمكّن من إيقاع العذاب بالناس في أي زمن ومكان، فليس من الحكمة والمصلحة في شيء استعجال العذاب، فلكل أجل كتاب، ولكل عمل ميعاد. والشّر والخير بمنزلة واحدة، إذا أرادهما الله بعبد لم يردّ، وهذا تخويف وإنذار.
قدرة الله تعالى
أقام الله تعالى في قرآنه أدلّة واضحة قاطعة على قدرته وحكمته، منها نعمة وإحسان أحيانا، ومنها عذاب ونقمة وقهر أحيانا أخرى، والتّردد بين الحالين: حال النعمة وحال النقمة دليل على الشمول والعموم، لكل حال من الأحوال، ليعرف العبد أن الله ربّ العالمين صاحب السلطان المطلق، والإرادة النافذة التامّة في كل أمر من الأمور، وفي كل شأن من الشؤون. والتذكير بهذا لفت نظر إلى أن الله تعالى لا يغيب وجوده وتأثيره عن أي شيء. قال الله تعالى مبيّنا هذا التّلازم بين الوجود الإلهي في جميع الأشياء وبين مختلف الأشياء:
[سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 15]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)
«1»
__________
(1) المحملة بالماء.(2/1152)
«1» «2» «3» «4» «5» [الرّعد: 13/ 12- 15] .
هذه ألوان ملموسة محسوسة من مظاهر وآثار القدرة الإلهية، وتنبيه عليها وتذكير بها، فالله بإرادته وتدبيره يري الناس ظاهرة البرق والرّعد، تخويفا وتحذيرا، أما البرق: فهو ما يرى من النّور اللامع ساطعا من خلال السحاب، بسبب تقارب سحابتين في الشحنة الكهربائية، فيحدث الخوف من صواعق البرق، ويظهر الطمع في المطر. والله سبحانه هو الذي يوجد السّحب المحملة المترعة بالماء، فهي ثقال ببخار الماء وما يعقبه من أمطار.
وأما الرّعد: فهو الصوت المسموع خلال السحاب بسبب احتكاك الأجرام السماوية، وتصادم سحابتين مختلفي الشحنة الكهربائية. والرعد بصوته الهادر المخيف يسبح الله تعالى وينزهه، ويعلن بلسان الحال خضوعه لله، وانقياده لقدرته وحكمته.
وتسبّح الملائكة ربّهم وتنزهه عن الصاحبة والولد، لما يرون من جلال الله وهيبته.
روى الإمام أحمد والبخاري في الأدب وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه كان إذا سمع الرّعد قال: «اللهم لا تهلكنا بغضبك، ولا تقتلنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» .
فالرّعد والبرق إما بشير خير أو نذير شرّ.
والله تعالى يرسل الصواعق للتّنبيه على القدرة والتّذكير بالنقمة، ينتقم الله بها
__________
(1) أي القوة وأخذ الأعداء.
(2) لله دعوة الحق وهي كلمة التوحيد.
(3) ينقاد ويخضع. [.....]
(4) أول النهار.
(5) آخر النهار.(2/1153)
ممن يشاء. وسبب الصواعق: أن السّحب قد تمتلئ بكهربة شديدة، والأرض بكهربة أخرى مخالفة، فإذا قاربت السّحب من الأرض، حصل احتكاك كهربائي تنشأ عنه صاعقة، إذا صادفت شيئا أحرقته. فالله يصيب بالصواعق من يشاء، وعلى الرغم من هذه الأدلة الدالة على قدرة الله وألوهيته، يجادل الكفار، ويشكّون في عظمة الله تعالى وفي توحيده، والله سبحانه هو شديد المحال، أي شديد القوة والأخذ، وهو قادر على مكايدة الأعداء، وعلى إنزال العذاب في أي وقت يشاء.
ولله وحده دعوة الحق، أي لا إله إلا الله أي التوحيد، وله دعوة العباد بالحق، ودعوة الصدق والدعاء والتّضرع، لا لغيره من الأصنام والأوثان، والملائكة والبشر الذين اتّخذهم الناس آلهة، فدعاء غير الله من الأوثان باطل.
والذين يدعون الأصنام والأوثان والمعبودات الباطلة: لا يجيبونهم إطلاقا، ولا يستجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء، ولا يحقّقون لهم نفعا، ولا يدفعون عنهم ضرّا. وما استجابتهم إلا كاستجابة الماء لمن بسط كفّيه إليه من بعيد، ليشرب منه وهو عطشان فهو لا يبلغ فمه أبدا. وليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في خسار وضياع وبطلان لأن دعاءهم لهم غير مجاب، كما أن دعاءهم الله غير مجاب أيضا لأنهم مشركون، وتكون إجابة الأصنام ونحوها والانتفاع بها غير واقعة.
ومن كمال الله وقدرته وتسخير الأشياء له فقط أنه يسجد له أي يخضع وينقاد له كل شيء طوعا من المؤمنين والملائكة في حال الشّدة والرّخاء، وكرها من الكافرين في حال الشّدة، بل كل شيء في الكون خاضع منقاد لله الخالق الموجد، طواعية واختيارا أو قهرا وإكراها. وكذلك تسجد وتخضع لله ظلال الأشياء كلها بالغدوّ والآصال، أي في الصباح الباكر، وفي المساء المتأخّر.
والسّجود لله دالّ على الرّبوبية، فلا يستحقّ العبادة سوى الله تعالى. قال مجاهد:(2/1154)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
«ظلّ الكافر يسجد طوعا وهو كاره» وقال ابن عباس: «يسجد ظلّ الكافر حين يفيء عن يمينه وشماله» .
وجود الله ووحدانيته
لا سبيل للعقلاء إلا الإقرار أو الاعتراف بوجود الله وتوحيده، فلو تأمّل الإنسان بفكر هادئ، وموازنة بسيطة بين الأشياء، وحال الكون، لأدرك في النهاية الحتمية، أن الله موجود متصرّف في العالم، قادر على كل شيء، واحد لا إله غيره، ولا سلطان في السماوات والأرض لأحد سواه. وعلى الرغم من أن الله تعالى يسجد له جميع من في السماوات والأرض ويخضع لقدرته وعظمته، فإن عبدة الأصنام ينكرون الوحدانية، فناقشهم القرآن لإثبات وحدانية الألوهية والرّبوبية، حتى لا يجدوا مناصا من إعلان التصديق بها، قال الله تعالى واصفا هذا النقاش:
[سورة الرعد (13) : آية 16]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)
[الرّعد: 13/ 16] .
إن من أبسط الأمور والبديهيات أن الله وحده هو خالق السماء والأرض وما فيهما، وكل شيء في الوجود يعلن أنه مربوب لله، خاضع لسلطانه. ومع هذا جاء السؤال للتقرير والتثبيت، يأمر الله رسوله بسؤال المشركين، من خالق السماوات والأرض؟ وبما أن السؤال عن أمر وتقرير الجواب عنه واضح كل الوضوح، لا مجال لأحد بدفعه والجدال فيه، وإلزام الحجة به، جاء الجواب من غير انتظار:
الله هو ربّ السماوات والأرض، كما قال تعالى في آية أخرى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 31/ 25] . وقل لهم: آن لكم إذن أن تقولوا:(2/1155)
الله خالقهما وربّهما ومدبّرهما، وهو الإله الواحد فيهما لا ندّ له ولا شريك ولا نظير.
ثم أمر الله رسوله أن يقول للمشركين بعد هذا التقرير وإثبات ألوهية الله ووحدانيته: فلم اتّخذتم لأنفسكم من دون الله معبودات جوفاء هي جمادات، لا حركة فيها ولا عقل ولا وعي، ولا تفعل شيئا، ولا تمنع شيئا؟ ومع ذلك تجعلونها أنصارا؟! وإذا كانت تلك الآلهة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا، فهي لا تملك لعابديها بطريق الأولى نفعا ولا ضرّا. فهل يستوي من عبد هذه الآلهة المزيفة مع الله الخالق القادر، ومن عبد الله وحده لا شريك له، فهو على نور من ربّه، وهو البصير المتفتح على الأشياء، المدرك حقائق الأمور. وأما من عبد غير الله فهو أعمى القلب والبصيرة، فاقد العقل والوعي، وهو في ظلمات يتخبّط، وفي متاهات يدور.
وكيف يتساوى الأعمى الذي لا يبصر شيئا، والبصير الذي يدرك الحق، ويهدي الأعمى إليه، وهل يعقل أن تتساوى الظلمات الدامسة العمياء، والنّور الأبلج الواضح، وما مثل الكافر إلا كالأعمى والكفر كالظّلمات، وأما مثل المؤمن فهو كالبصير المدرك، والإيمان كالنّور المبين الذي يضيء الآفاق ودروب الحياة.
ثم قال تعالى: أَمْ جَعَلُوا أي بل جعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرّبّ وتماثله في الخلق، فيتشابه خلق الشركاء بخلق الله، وهذا محض الباطل، ومجرد الوهم القاتم، فإن معبودات المشركين إذا زعموا أنها تخلق شيئا، وهم يعبدونها، فإنهم ضالّون مخطئون، إنهم لا يخلقون شيئا، وهم يخلقون، فكيف يشركونها في العبادة؟
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون. هل رأوا خلقا لغير الله، فحملهم ذلك ودعاهم اشتباهه بما خلق الله، على أن جعلوا إلها غير الله؟!(2/1156)
ليس الأمر كما زعموا، فإن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه، ولا يماثله شيء، ولا ندّ له ولا وزير، ولا نظير ولا شبيه، ولا والد له ولا ولد ولا صاحبة، وهؤلاء المشركون عبدوا آلهة مزيّفة عاجزة، وهم معترفون أنها مخلوقة لله، وهم عبيد له، بإقرارهم وقولهم كما حكى القرآن عنهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزّمر: 39/ 3] . ثم أمر الله نبيّه محمدا عليه الصّلاة والسّلام أن يعلن بكل فصاحة عن صفات الله تعالى في أنه خالق كل شيء، خالق السماء والأرض، والإنسان والحيوان، والأشياء الحيّة والجامدة، وهو الإله الواحد، الغالب على كل شيء، فكيف تعبدون أصناما لا تنفع ولا تضرّ؟!
مثل الحقّ والباطل
على الرغم من أن الحقّ قوي واضح ومطابق للواقع، والباطل واه ضعيف مغاير للواقع، فإن بعض الناس- جهلا وحماقة منهم أو ضعف إدراك أو مكابرة وعنادا، أو تأثّرا بأهواء وميول ومصالح معينة- يتنكرون للحق والإيمان وأهل كلّ منهما، ويؤازرون الباطل والضّلال والشّك في الدين والإيمان وحقائق كلّ منهما بسبب سوء الاستعداد وتأييد الانحراف والميل مع أهواء الشيطان. ولقد أحسن القرآن العظيم حين جعل مثل الحق وأهله في ثباته وبقائه وشبّهه بالماء النازل من السماء، الذي ينفع الأرض والناس، وشبّهه أيضا بالمعدن الذي ينتفعون به في صياغة الحلي المعتاد واتّخاذ الأواني والآلات المختلفة، وجعل مثل الباطل في اضمحلاله وفنائه وسرعة زواله وانعدام منفعته، وشبّهه بزبد السّيل أو رغوته الذي يرمي به، وزبد المعدن أو شوائبه، الذي يطفو فوقه إذا أذيب. قال الله تعالى:(2/1157)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
[سورة الرعد (13) : الآيات 17 الى 19]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19)
«1» «2» «3» «4» «5» [الرّعد: 13/ 17- 19] .
هذه الآيات مثال واضح للحقّ والباطل، والإيمان والكفر، والشّك في الشّرع واليقين به، والحقّ هو القرآن والإيمان في ثباته ونفعه، والباطل هو الكفر في الاضمحلال والفناء. ومثل الحق كالمطر النازل من السماء الذي تسيل منه الأودية غزارة وضعفا بحسب صغرها وكبرها أو مقدارها، والقلوب كهذه الوديان تتفاوت في استيعاب الإيمان سعة وضيقا، وهذا هو الثابت النافع، وأما زبد السّيل الطّافي فوقه، فهو مثل الباطل في زواله وانعدام نفعه.
والمثل الثاني: هو أن الحقّ كالمعدن النافع من ذهب أو فضّة ونحوهما من المعادن التي يستفاد منها فوائد كثيرة، والباطل: هو ما يعلو تلك المعادن من شوائب وأخلاط طافية عند انصهارها أو إذابتها في النار.
وعقّب الله تعالى على المثلين بقوله: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي إن التشبيه المذكور مثل الحقّ والباطل إذا اجتمعا، فالحق في استقراره ونفعه كالماء المستقرّ النافع، وكالمعدن النّقي الصّافي. والباطل في زواله وعدم نفعه كالرغوة التي يقذفها السّيل على جوانبه، وكشوائب المعدن التي يطرحها ويتخلّص منها عند انصهاره،
__________
(1) بمقدارها.
(2) الزّبد: الرّغوة. ورابيا: مرتفعا.
(3) الخبث الطّافي عند إذابة المعادن.
(4) مرميا به مطروحا.
(5) بئس المستقرّ جهنم.(2/1158)
فيبقى الحقّ ويثبت، ويزول الباطل ويتبدّد. وما أجمل وأحكم هذا التشبيه وبيان النتائج، فأما الزّبد الطّافي فوق الماء فيزول ويقف على جانبي السّيل وفوق قدور المراجل، وأما النافع من الماء والمعدن فيبقى مستقرّا في الأرض، فيشرب الإنسان والحيوان والنبات والزرع من الماء، وتستفيد البشرية من المعادن الصافية بالحلي والصناعات المختلفة.
وعقّب الله تعالى على استقرار النافع وتبدّد الضّار بقوله: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي إنه تعالى كما بيّن لكم هذه الأمثال، فكذلك يضربها بيّنات واضحات، لإيضاح الفارق المتميّز بين الإيمان والكفر، والحق والباطل.
والقرآن الكريم يجسّد الحق ونور الإيمان بإحياء القلوب، كما يحيي الماء الأرض بعد موتها ويبسها، وكما ينفع المعدن النّقي الناس في منافع كثيرة. وأما الكفر والضّلال والشّرك، فهو عديم النفع سريع الزوال، ويتبدّد فورا. وما ضرب هذا المثل إلا لخير الإنسان الذي كرّمه الله بالعقل ليختار النافع وهو الإيمان، ويترك الضّارّ المتلاشي وهو الكفر، فيكثر أهل الحق والإيمان بالحق والنّور، ويضعف أهل الضلال والكفران بالباطل والظلام.
ثم ذكر الله تعالى مصير أهل الحق وأهل الباطل، ومآل السعداء والأشقياء، ترغيبا وترهيبا، فقال: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى أي إن الذين يطيعون الله ورسوله، وينقادون لأوامره، ويصدّقون أخباره، لهم الجزاء الحسن ونعيم الجنة، والخلود الأبدي في دار النعيم. والذين لم يستجيبوا لربّهم، فلم يطيعوا الله ورسوله، لا ينفعهم الفداء في الآخرة بجميع ما في الدنيا من أموال وأضعاف ما فيها، فلا يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ومثله معه. ولو كان لهم كل ما في الدنيا، وقدّموا فداء من العذاب، لا يتقبّله الله منهم على الإطلاق. أولئك الذين(2/1159)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
لم يطيعوا الله، لهم سوء الحساب والعذاب، ومرجعهم إلى النار ومستقرّهم فيها، وبئس المستقرّ والفراش تلك النار الموقدة التي تفوق بحرارتها كل ما عرفته البشرية من أفران عادية وذرّية عالية التّوتر تصهر كل شيء.
بعد هذا البيان الرهيب والواضح سلفا لا يستوي من يعلم أن المنزل إليك من ربّك يا محمد هو الحقّ الثّابت الذي لا شكّ فيه، فأخباره وشرائعه كلها حقّ وعدل، لا يستوي هذا ومن لم يصدّق برسالتك يا محمد، وكان أعمى لا يبصر الحق ولا يدرك المصلحة الحقيقية، ولا يختار ما فيه خير وهداية، وسعادة وإنقاذ. قال تعالى:
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) [الحشر:
59/ 20] .
الأوصاف الاجتماعية لأولي الألباب
عني القرآن الكريم بتربية الفرد والجماعة تربية فاضلة متماسكة، يعود خيرها وانعكاساتها على الناس جميعا، لأن القرآن والإسلام رسالة إصلاح وإنقاذ، وتقدّم وبناء، وعطاء وإحسان. وكل من يسهم في هذا البناء الاجتماعي للأمة فهو ترجمان القرآن والإيمان الصحيح، وكل من يشذّ أو ينحرف أو يسيء لأسرته ومجتمعة، فهو تلميذ الشيطان وعدو الأمة، لذا وصف الله أهل الإيمان والاستقامة بأنهم أولو الألباب والعقول الرشيدة، ووصف أهل الضّلال والانحراف بأنهم ذوو الجهالة والحماقة، فقال الله تعالى:
[سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 24]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)(2/1160)
«1» «2» [الرّعد: 13/ 20- 24] .
يصف الله تعالى في هذه الآيات أولي الألباب الذين يسّرهم للإيمان برسالة النّبي والقرآن، واعتقدوا أن ما أنزل الله هو الحقّ بالصفات التالية:
1- الوفاء بالعهد: فالمؤمنون الصادقون يوفون بما عاهدوا الله عليه من الإيمان بربوبيّته وبالمواثيق والعهود كلها بينهم وبين ربّهم، وهي أوامر الله ونواهيه التي وصّى بها عبيده، وهذا يشمل جميع الفرائض والواجبات والشرائع والأحكام والآداب والأخلاق، والامتناع عن جميع المخالفات والمعاصي.
2- عدم نقض الميثاق: أي إنهم يلازمون أداء الأوامر واجتناب النّواهي مدى الحياة، ولا يخلّون بواجبات العهد والتزاماته، ولا ينقضون أي بند من بنود العهد الإيماني مع ربّهم، ولا بالعقود التي يبرمونها مع الناس من بيع وشراء وإيجار واستئجار وشركة ونحوها، على عكس ما نشاهده اليوم أن كثيرا من الناس، يبرمون العقود مع غيرهم، ويتّفقون على الشروط، ثم يتحلّل الواحد منهم من العقد كله أو بعضه، ضاربا بكلامه الذي التزم به عرض الحائط. وهذا اللون من نقض العقد أو فسخه ينقلهم من حديقة الإيمان ونور الحقّ والقرآن إلى دائرة النفاق الاجتماعي،
قال عليه الصّلاة والسّلام- فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما-: «آية المنافق ثلاث:
إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» .
3- صلة ما أمر الله بوصله: من حقوق الله ومؤازرة النّبي والقرآن، وحقوق العباد التي من أهمها وأولاها: صلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، والمحتاجين
__________
(1) يدفعون.
(2) عاقبتها المحمودة وهي الجنات.(2/1161)
والفقراء لأن من شأن المؤمن أن يعمّ خيره ويدوم نفعه، ويؤدي واجبه نحو غيره لإرضاء ربّه، دون أن يقصد نفعا مادّيا لنفسه أو طمعا في مال أو جاه أو وظيفة، فإن الله ربّ العباد هو الميسّر للخير والمانع من الشّر، والعبد مجرد أداة ووسيلة.
4- الخوف من الله وخشية عذابه: أي إن أولي الألباب هم الذين يخافون ربّهم فيما يأتون، وما يتركون من أعمال، ويراقبون الله في السّرّ والعلن، يخلصون النّية والقصد لوجه الله، ويحذرون من شدّة العذاب، وسوء الحساب في الآخرة لأن عاقبة ذلك وخيمة وهي الزّج في نيران جهنم.
5- الصّبر: يصبر العاقل الرشيد على طاعة ربّه، واجتناب معصيته لأن في الطاعة عزّ النفس ونجاتها، وفي المعصية الذّلّ والانكسار، والندم والخسران. ويشمل الصبر لوجه الله جميع الأحوال من الرّزايا والأسقام والعبادات.
6- إقام الصّلاة المفروضة: فالعقلاء هم الذين يؤدّون ما أوجب الله عليهم من الصلاة كاملة الأركان تامّة الشروط والأوصاف، مع خشوع القلب لله، وخضوع النفس لربّ العباد.
7- الإنفاق في وجوه الخير: إن المؤمنين الصادقين هم الذين ينفقون بعض أموالهم في السّر والعلن في مرضاة الله، من غير قصد الشهرة والرّياء، والتّباهي والسّمعة، ويفعلون ذلك بقصد التقرب إلى الله، وجب الخير، والرفاه لعباد الله جميعا، من غير تفرقة بين مؤمن وغير مؤمن لأن الإنسان يتخلّق بأخلاق الله في إمداد العباد بالرّزق، سواء آمنوا أو كفروا. وذلك هو السّمو بذاته والرّفعة بعينها.
8- مقابلة الإساءة بالإحسان: إن المؤمن الصادق هو الذي يترفّع عن الأخذ بالثّأر والانتقام، ويردّ السّيئة ويدفعها بالحسنة، فيقابل الجهل بالحلم، والأذى بالصبر، والضّرر بالنّفع، والإساءة بالعفو والصّفح وكظم الغيظ.(2/1162)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
هؤلاء العقلاء (أولو الألباب) الموصوفون بالصفات السابقة، هم لا غيرهم لهم العاقبة الحسنة والسعادة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا ينتصرون على الأعداء، وفي الآخرة يدخلون الجنة بفضل من الله وإحسان. تلك العاقبة الحسنى هي الظفر بجنان الخلد، التي يقيم فيها الصالحون والأنبياء والمرسلون، يدخلونها هم وصالحو المؤمنين من آبائهم وأجدادهم وفروعهم وذرّياتهم، يتنعّمون بخيراتها. وتدخل عليهم الملائكة من أبواب الجنة المختلفة تحييهم وتسلّم عليهم قائلين لهم: سلام دائم عليكم، ورحمة سابغة من ربّكم، بسبب صبركم في دنياكم على الطاعة، وتجنّب المعصية، والرّضا في المصاب بالقضاء والقدر، والحمد والشكر على نعم الله، فنعم عقبى الدنيا الجنة. وما أسعد العمال الذين أحسنوا العمل، وأتقنوا الصنعة، إذا ظفروا بالجزاء الحسن: من تقدير وحبّ، وسمعة واحترام، ومكافأة مجزية، تجعلهم راضين رضا كاملا في نفوسهم، مطمئنين مرتاحي البال والضمير لأن غيرهم قدّر عملهم.
أوصاف الأشقياء
واقع الحياة الدنيا وأحوال الناس فيها عجيب غريب، فمنهم أهل الحق والاستقامة وهم السعداء بالفعل، ومنهم أهل الباطل والانحراف، وهم الأشقياء بالفعل، وكل امرئ بما كسب رهين، وبحسب ما يزرع كل إنسان يحصد في الدنيا والآخرة، فمن زرع نباتا طيّبا، استفاد منه وأفاد الآخرين، ومن زرع نباتا خبيثا، أضرّ نفسه وأضرّ الآخرين، ولا غرابة بعدئذ أن يجازى المحسنون أعمالهم بجنان الخلد، ويجازى الأشرار والفجّار بنيران الجحيم، وذلك هو مقتضى العدل. وقد وصف الله تعالى أهل الشقاوة بما يأتي:
[سورة الرعد (13) : الآيات 25 الى 29]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)(2/1163)
«1» «2» «3» «4» «5» »
[الرّعد: 13/ 25- 29] .
وصف الله تعالى في الآية الأولى الأشقياء بصفات ثلاث وهي:
1- نقض عهد الله: أي إنهم ينكثون بعهد الله الذي ألزم عباده به وأمرهم بفعله، سواء فيما يتعلق بالإيمان بوجود الله ووحدانيته وقدرته وعلمه وإرادته، أو بالإيمان بالأنبياء والرّسل والكتب المنزلة من عند الله، أو يتعلق بحقوق الناس.
2- قطع ما أمر الله به أن يوصل: أي قطع كل ما أوجب الله وصله، من الإيمان بالله وبرسله وكتبه، وقطع الرحم والقرابة، وعدم صلة المؤمنين وأصحاب الحقوق.
روي: «إذا لم تمش إلى قريبك برجلك، ولم تواسه بمالك، فقد قطعته» .
3- الإفساد في الأرض: أي ويفسدون في الدنيا بأعمالهم الخبيثة، من الظلم والجور، والدعوة إلى غير دين الله، وخيانة الأمانة، وتخريب الديار، وإفساد الأخلاق، وإثارة الفتن والضّلالات، وإيقاد نيران الحروب ظلما وعدوانا.
أصحاب هذه الصفات يستحقون اللعنة، أي الطّرد من رحمة الله والإبعاد من خيري الدنيا والآخرة، ولهم سوء العاقبة والمآل، وهو عذاب جهنم.
ثم أبان الله تعالى أن تقدير الأرزاق في الدنيا بين العباد منوط بإرادة الله وحكمته، لأن الدنيا دار امتحان، وليس لها قيمة تذكر عند الله تعالى، فقد يبسط
__________
(1) عاقبتها السيئة هي النار.
(2) يضيّقه على من يشاء.
(3) المتاع: ما يتمتع به مما لا يبقى.
(4) رجع بقلب إلى الله.
(5) عيش طيب. [.....]
(6) مرجع.(2/1164)
الله الرّزق للكافر، ويقتّره على المؤمن، وذلك لا يدلّ على تكريم الكافر وإهانة المؤمن، فإن سعة الرزق قد تكون دليلا على التّورّط والاستدراج والإضرار، وتضييق الرزق قد يكون زيادة في الأجر والثواب. والمعنى إن هذا كله بمشيئة الله، يهب الكافر المال ليهلكه به، ويقدره على المؤمن ليعظم بذلك أجره وذخره. لهذا عاب الله الأغنياء الأشقياء وحقّر شأنهم وشأن أموالهم، فلا يصح لهم أن يفهموا أن زيادة الرزق والغنى ووفرة المال لكونهم يستحقون ذلك، وإنما قد يكون ذلك تعذيبا لهم، فإذا فرح المشركون والكافرون فرح بطر وتكبّر بالحياة الدنيا ومتعها، وجهلوا ما عند الله من الخير الدائم الخالد في الآخرة والسعادة الأبدية، فإن فرحتهم يعقبها الغصّة والألم، لأن الحياة الدنيا في ميزان الآخرة مجرد متاع زائل، وشيء قليل ذاهب، يزول بسرعة كالبرق الخاطف، لمن تأمل ووعى.
روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما الدّنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم يرجع، وأشار بالسّبابة» .
وقد يتمادى أهل الثروة والطغيان فيطالبون بمطالب مادّية تعجيزية لا فائدة منها، مثلما فعل مشركو مكة الذين اغتروا بمتاع الحياة الدنيا، وطمست المادة وحبّ الدنيا قلوبهم ومشاعرهم، فاقترحوا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم إنزال آيات مادّية غريبة كإسقاط السماء عليهم كسفا، أي قطعا، أو تسيير جبال مكة من أماكنها، وجعل البطاح محارث وبساتين ومغارس، وإحياء الماضين والأسلاف، علما بأن مثل هذه المقترحات لا تكون عادة إلا إذا أراد الله تعذيب قوم، فردّ الله عليهم بأن نزول هذه الآيات لا يؤدي بالضرورة إلى إيمانهم ولا هداهم، وإنما الأمر بيد الله يضلّ من يشاء بسبب علمه بفساد الضّال، ويهدي من يشاء إلى طاعته والإيمان به بسبب إيمانه بالآيات الدّالة على حقيقة الإيمان، وإنابته لطاعة الرحمن.(2/1165)
إن هؤلاء الذين يستحقون الهداية هم الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، وسكنت قلوبهم إلى توحيد الله ووعده، وسرّوا بذكر الله واطمأنت قلوبهم إلى ربّهم، ورضوا بالثواب الإلهي والفضل والإحسان الرّبّاني، ولم يشكّوا بشيء من أصول الإيمان، ولم يتبرموا أو يستخطوا على مراد الله وقدره، وتلك هي السعادة الحقيقية: سكون القلب، وهدوء البال، والبعد عن القلق والاضطراب مصدر أكثر الأمراض، ألا بذكر الله تطمئن القلوب وتهدأ، وتلتزم باليقين ويستقرّ فيها الإيمان الكامل، وتفيض بنور الإيمان، وتشعر براحة النفس.
إن هؤلاء المؤمنين الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان الصحيح وبرد اليقين، وعملوا صالح الأعمال بأداء الفرائض وترك المعاصي لهم العيش الطيب الهنيء، والنعمة والخير، وحسن المرجع والثواب، وهذا هو المراد بقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) [الرعد: 13/ 29] . والمآب: المرجع والمآل. وكلمة (طوبى) إما اسم أو مصدر، فهي اسم شجرة في الجنة، أو هي بمعنى الخير والنعمة والغبطة والعيش الطّيب للمؤمنين.
النّبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن الكريم
إن علاقة الرّسل عليهم السّلام بأقوامهم علاقة صعبة وشائكة ودقيقة، لأن أولئك الأقوام قوم عتاة أشداء، وتوارثوا عادات معينة، وألفوا البدائية والفوضى وممارسة الأهواء والشهوات، والأنبياء والرّسل ذوو رسالة إصلاحية شاملة في العقيدة والشريعة والآداب القويمة، يريدون أن ينقلوا الأقوام من همجيات أفعالهم إلى نور المعرفة والإيمان والمدنية والنور، وذلك الانتقال يحتاج لجهود كبيرة وتضحيات جسمية، فيقع الصّراع والتّحدي بين النّبي وقومه، وهكذا كانت الحال مع رسول(2/1166)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
الله صلّى الله عليه وسلّم ومشركي قريش في مكة المكرمة: حال قائمة على الصّراع الحادّ والتّحدي، كما وصف الله في الآيات التالية:
[سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 32]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)
«1» «2» «3» «4» [الرّعد: 13/ 30- 32] .
لقد أبان الله تعالى في هذه الآيات قيمة وأهمية إرسال النّبي صلّى الله عليه وسلّم وقيمة ما أرسل به وعظمة القرآن الكريم المنزل عليه، فمثل ذلك الإرسال للأنبياء السابقين أرسلناك أيها الرسول محمد إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات، كما قال الزمخشري، ومهمتك في هذا الإرسال واضحة، أرسلناك بكتاب تبلّغه للناس وتقرؤه عليهم، كما أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك، ولما كذّب الرّسل، انظر كيف نصرناهم وجعلنا العاقبة لهم، ولأتباعهم في الدنيا والآخرة. وأما المرسل إليهم فكانوا يكفرون بالرّحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، لا يقرّون به، ولا يشكرون نعمه وفضله، وأخطر ما يقولون: إن لله شريكا، فكان الرّد المأمور به عليهم: قل لهم أيها الرسول: إن الرّحمن الذي تكفرون به، أنا مؤمن به معترف، مقرّ له بالرّبوبية والألوهية، فهو متولّي أمري وخالقي، لا إله غيره ولا معبود سواه، توكّلت عليه في جميع أموري، وفوّضتها إليه، وإليه أرجع وأنيب، فإنه لا يستحقّ ذلك أحد سواه.
__________
(1) إلى الله مرجعي.
(2) يعلم ويتبين.
(3) داهية تقرعهم بالبلايا.
(4) أمهلت.(2/1167)
ثم بيّن الله تعالى عظمة القرآن وفضله على سائر الكتب المنزلة قبله، فلو كان هناك في الكتب الماضية كتاب تسيّر بتلاوته الجبال عن أماكنها، أو تقطّع به الأرض وتشقق وتجعل أنهارا وعيونا، أو تكلّم به الموتى في قبورهم لإحيائهم بقراءته، لكان هذا القرآن هو المتّصف بتلك الصفات، دون غيره، بل هو الأولى، لما فيه من الإعجاز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لاشتماله على الآيات الكونية الدّالة على وجود الله، والشرائع والأحكام المنظمة لعلاقات الناس، والكفيلة بإسعادهم في الدّارين.
وكان هذا الوصف ردّا على مشركي قريش الذين طالبوا بآية تعجيزية مادّية تثبت نبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن الشعبي قال: قالت قريش لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت نبيّا كما تزعم، فباعد جبلي مكة أخشبيها (جبلين فيها) هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة، حتى نزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى، حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة، حتى نذهب ونجي، في ليلة، كما زعمت أنك فعلته، فنزلت هذه الآية.
ردّ الله عليهم بقوله: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أي بل مرجع الأمور كلها إلى الله عزّ وجلّ، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو صاحب الأمر والإرادة في إنزال الآيات المادّية وغيرها، وهو القادر على كل شيء.
أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً أي ألم يعلم (أي أن ييأس في لغة هذيل بمعنى يعلم) المؤمنون أن الله قادر لو شاء على هداية الناس جمعيا إلى الإيمان بالقرآن، أو أن ييأس بمعناها المعروف من اليأس، والمعنى: أفلم ييأس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة، مع العلم بأن الله لو شاء لهدى الناس جميعا.
ثم أخبر الله تعالى عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من(2/1168)
سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغزواته، من القتل والأسر وأخذ الأموال، أو تحلّ القارعة الدّاهية قريبا من ديارهم، فتصيب من حولهم ليتّعظوا ويعتبروا، حتى يأتي وعد الله أي حتى ينجز الله وعده لك أيها الرسول فيهم، بنصرك عليهم، إن الله ينجز وعده الذي وعدك به حتما، ولا يتخلف الله الميعاد، بالنصر عليهم. وهذه هي حال الكفار أبدا إلى يوم القيامة، حتى يتّعظوا ويقلعوا عن كفرهم.
ثم أورد تعالى آية تأنيس ومواساة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، مفادها: لا يضيق صدرك يا محمد بما ترى من قومك وتلقى منهم، فليس ذلك ببدع ولا نكير، فإن كذّبك بعض قومك، واستهزأ بك المشركون منهم، وطلبوا آيات منك عنادا ومكابرة، فاصبر على أذاهم، فلك في الرّسل المتقدمين أسوة، حيث أنظرت أولئك الكافرين وأجّلتهم مدة من الزمان، ثم أوقعت بهم العذاب، فانظر كيف كان عقابي لهم حين عاقبتهم. وقوله سبحانه: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ تقرير وتعجيب، وفي ضمنه وعيد للكفار المعاصرين لمحمد عليه الصّلاة والسّلام، ولكل من جحد برسالته وأعرض عن دعوته إلى يوم القيامة.
من الأحقّ بالعبادة؟
إن الحرب المركزة والعنيفة الشعواء على الشّرك والوثنية في منهج الإسلام وجميع الأديان، إنما كانت من أجل إنهاء هذه الظاهرة الشاذة التي لا تتفق مع العقل السّوي والكرامة الإنسانية، ولتوجيه الإنسان نحو ما ينفعه ويدفع عنه الضّرّ بالفعل، وليترفع عن عبادة ما لا ينفع ولا يضرّ بحال من الأحوال، وهذا يحقق سموّ الإنسان. لذا وبّخ القرآن الكريم أولئك المشركين الوثنيين الذين عبدوا جمادات صماء، لا حركة فيها ولا حياة، ولا تفيد شيئا، ولا تمنع شرّا، فقال الله سبحانه:(2/1169)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
[سورة الرعد (13) : الآيات 33 الى 35]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35)
«1» «2» [الرّعد: 13/ 33- 35] .
هذا لون من النّقاش والحجاج الهادئ مع المشركين يتضمن توبيخا لهم وتعجيبا من عقولهم، ونفي الدليل النقلي والدليل العقلي على استحقاق تلك الشركاء أي لون من العبادة. والمعنى: إن الله مطّلع على كل نفس، عالم بما يكسب كل إنسان من أعمال الخير والشّر، ولا يخفى عليه خافية، قادر على كل شيء، فكيف يجعلون القادر العالم، كمن لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرّا، وكيف يتّخذونه ربّا يطلبون منه النّفع ودفع الضّرر، والمراد نفي المماثلة المطلقة. وقوله سبحانه: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ معناه: أفمن هو هكذا أحقّ بالعبادة أم الجمادات التي لا تضرّ ولا تنفع؟! كيف يقبل الوثنيون بشيء من التّفكر والتّأمل عبادة الأوثان، وكيف يتخذون شركاء لله، عبدوها معه، من أصنام ونحوها، عاجزة مخلوقة لا شيء لديها من مقومات الفاعلية والحركة؟! وهذا يستتبع توبيخا وتحدّيا لهم، كما في قوله سبحانه: قُلْ سَمُّوهُمْ.. أي صفوهم لنا، وأعلمونا بهم، واكشفوا عنهم حتى يعرفوا، فإنهم لا حقيقة لهم، وليسوا أهلا للعبادة، لعدم تصوّر أي نفع منهم أو دفع ضرّ أو جلبه منهم، أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ يراد به: أتخبرونه بشركاء معبودين لا وجود لهم لأنه
__________
(1) حافظ.
(2) ثمرها المأكول دائم لا ينقطع.(2/1170)
لو كان لها وجود في الأرض، لعلمها الله الذي لا تخفى عليه خافية، وهذا نفي لوجودها، والاستفهام استفهام توبيخ. وهو إضراب عن قولهم وتقرير مضمونه: هل تعلمون الله بما لا يعلم؟! وكلمة أَمْ بمعنى بَلْ وألف الاستفهام، على مذهب سيبويه.
بل أتسمّونهم شركاء بظنّ ظاهر أجوف من القول أنهم ينفعون ويضرّون، أم بباطل من القول، والمعنى: إنما عبدتم هذه الأصنام بظنّ منكم أنها تنفع وتضرّ، وسميتموها آلهة، وهو ظنّ فاسد، ووصف باطل، وتصوّر خطأ محض، لا أساس له من الصحة والواقع. هل يريدون تجويز ذلك بظاهر من الأمر؟ لأن ظاهر الأمر فيه التباس وموضع احتمال؟ وما لم يكن إلا بظاهر من القول فقط، فلا شبهة له.
بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ الواقع أنه لا فائدة من نقاش المشركين ومحاجتهم، فإنهم قوم زيّن لهم كفرهم وكيدهم وسخفهم، وهو ما هم عليه من الضّلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار. ومَكْرُهُمْ لفظ يعمّ أقوالهم وأفعالهم المناقضة للشرع. وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ أي وتأكيد للواقع أنهم صرفوا عن سبيل الحقّ وسبيل الله والدّين الأقوم، بما زيّن لهم من صحة ما هم عليه.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ومن يخذله الله لكفره وعصيانه وضلاله، فماله من أحد يوفقه إلى الهداية وسلوك طريق النجاة والسعادة.
ثم جاءهم الوعيد الإلهي الرهيب والإنذار بالجزاء الشديد، وهو أن لهم عذابا مؤلما في الدنيا بأيدي المؤمنين، بالقتل والأسر والذّلّ والدّمار، والبلاء ألوان:
المصائب في أجسامهم وغير ذلك، ولهم عذاب الآخرة وهو الاحتراق في نيران الجحيم الذي هو أشدّ وأصعب وأنكى من عذاب الدنيا، وليس لهم ساتر يقيهم أو يحميهم من ذلك العذاب.(2/1171)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
وأما أتقياء المؤمنين المبتعدين عن كل ألوان الشّرك، فلهم ثواب الجنة ذات الجمال المطلق والراحة الأبدية، ونعت الجنة أو وصفها الذي يشبه المثل في الغرابة، تلك الجنة التي وعدها الله للمتقين ذات أنهار تجري في أنحائها وجوانبها، وحيث شاء أهلها، يفجّرونها تفجيرا، ويوجّهونها حيث أرادوا، ما يؤكل فيها من المطاعم والمشارب دائم مستمر لا ينقطع، وكذلك ظلّها دائم، لا ينسخ ولا يزول، فليس فيها شمس ولا حرّ ولا برد، تلك الجنة هي عاقبة ومصير أهل التقوى، وعاقبة الكافرين النار، بسبب كفرهم وذنبهم. والمراد أن ثواب المتقين منافع خالصة عن الشوائب، موصوفة بصفة الدوام. والآية إطماع للمؤمنين المتّقين، وإقناط للكافرين، قال الله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) [مريم: 19/ 63] . وقال سبحانه:
وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزّخرف: 43/ 71] .
موقف أهل الكتاب والمشركين من نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم
كان المعارضون لدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم فريقين: فريق المؤمنين المؤيدين، وفريق الجاحدين المنكرين الذين يتمسكون بشبهات واهية وأعذار ساقطة، لتسويغ انحرافهم بتأويلات لا يمكن قبولها أو الحماس لها، فاستحقت أن تطوى من تاريخ الفكر والعلوم. وهكذا أصبحت أفكارهم منقولة على سبيل التعجب من انحدار العقل البشري، والاتّعاظ من آفة الضلال التي تعصف بأصحابها وتهوي بهم في دركات الجحيم. قال الله تعالى واصفا موقف بعض أهل الكتاب والمشركين المعترضين على تصرّفات النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأحكام دينه:
[سورة الرعد (13) : الآيات 36 الى 39]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)(2/1172)
«1» «2» [الرّعد: 13/ 36- 39] .
هذه الآيات وصف لأحوال المعاصرين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، فهناك مؤمنو أهل الكتاب الذين يفرحون بما ينزل على النّبي صلّى الله عليه وسلّم في القرآن من تصديق شرائعهم وما يألفونه من أحكام ربّهم، وهم جماعة من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وسلمان الفارسي وجماعة، من نصارى الحبشة واليمن ونجران، وعددهم ثمانون رجلا.
وهناك جماعة أخرى من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمجوس الذين تحزّبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مثل كعب بن الأشرف اليهودي والسيد والعاقب أسقفي نجران وأتباعهم، هؤلاء ينكرون بعض ما جاءك أيها النّبي من الحقّ، وهو ما لم يوافق شرائعهم أو ما حرّفوه منها.
فجاء الرّد الإلهي عليهم، وأمر الله تعالى رسوله أن يطرح اختلافهم، وأن يصدع بأنه إنما أمر بعبادة الله، وترك الإشراك والدعاء إليه، واعتقاد المآب إليه، وهو الرجوع عند البعث إلى الله يوم القيامة. وهذا إعلان صريح بأن دعوة الإسلام تقوم على مبدأ التوحيد ورفض الشّرك، وإثبات البعث والحساب يوم القيامة.
ثم أوضح الله تعالى منهج القرآن وأسلوبه في الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالله، بأسلوب عربي فصيح، واضح، سهل الفهم، وقريب التّلقي. فكما أرسلنا قبلك المرسلين أيها النّبي، وأنزلنا عليهم الكتب، كذلك سهلنا عليهم في ذلك وتفضّلنا في
__________
(1) إلى الله مرجعي للجزاء.
(2) اللوح المحفوظ وعلم الله الواسع.(2/1173)
تفصيل أصول الاعتقاد، فأنزلنا عليك القرآن الكريم محكما لا زيغ فيه، معربا بلسان قومك: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا.. ليسهل عليهم فهمه وحفظه، ويبين لهم الأمور، ويفصل بين الحقّ والباطل، فيوضح الحلال والحرام، والشرائع والأحكام والأنظمة المؤدية لسعادة الدنيا والآخرة. والحكم في قوله تعالى: حُكْماً عَرَبِيًّا: ما تضمنه القرآن من المعاني بلغة العرب الفصحى.
ولئن اتّبعت يا محمد- على سبيل الافتراض- آراء تلك الفرق الضّالة، وهذا يتناول المؤمنين إلى يوم القيامة، مثل مجاملتهم في باطل عقائدهم وأهوائهم، بعد ما عرفت الحق، وجاءك العلم الصحيح، فليس لك ناصر ينصرك من الله، ولا حافظ ولا مانع يمنع عنك العقاب، وينقذك من العذاب. وهذا وعيد شديد لأهل العلم أن يتّبعوا سبيل أهل الضّلالة، بعد ما عرفوا الدين الحق، وهو أيضا حسم وقطع لأطماع المعارضين الكفرة في إقرار ما هم عليه، وتهييج للمؤمنين للثبات على دينهم.
ثم ردّ الله تعالى على طعن اليهود والمشركين بتعدّد زوجات النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومضمون الرّد: كما أرسلناك يا محمد رسولا بشرا، كذلك جعلنا الأنبياء المرسلين قبلك من البشر، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق ويتزوجون النساء، وينجبون الذّرّية والأولاد، فليس شأنك بدعا جديدا، فقد تقدّم هذا في الأمم، ثم زجر المقترحين من قريش بإنزال الملائكة، المتعجبين من كون الرسول بشرا، بأنه ليس في وسع النّبي محمد وغيره أن يأتي بمعجزة خارقة للعادة إلا بإذن وتمكين من الله، ليس ذلك إليه، بل إلى الله عزّ وجلّ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولكل حادث أو كتاب أو كائن وقت معين وزمن محدد، ولكل وقت حكم يقرر على العباد، بحسب المصالح والأحوال يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ أي يبدل في الأشياء وينقلها كغفر الذنوب بعد تقريرها، ونسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها، وعند الله أصل الكتاب(2/1174)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
الدائم: وهو اللوح المحفوظ وعلم الله الشامل الذي لا يتغير في حقّه، وإن تبدّل في حقّ بني آدم، فتلك الأشياء المقدرة في الأزل، التي دونت في أم الكتاب، لا يصح فيها محو ولا تبديل لأن القضاء سبق بها وهي ما استقرّ في نهاية الأمر، وإن تغيّرت مسيرته. فأمّ الكتاب: هو ديوان الأمور المخزونة التي سبق القضاء فيها بما هو كائن من غير تبديل.
الأمر بتبليغ الرّسالة
لكل رسول من الرّسل الكرام مهمة واضحة ووظيفة محددة، من أجل صالح البشرية، وتصحيح مسيرتها، ووضع الأنظمة الملائمة لحياتها، وإذا تحققت هذه المهمة أو الوظيفة، أصبح مضمونها حجة على البشر، ووجب عليهم العمل بها، والتزام ما جاء فيها، لخيرهم وإسعادهم. وفي عالم الآخرة: الحساب والجزاء على ما يقدمه الناس من خير أو شرّ، ولا ينفع مكر أو كيد، أو إنكار وإهمال، أو هروب من المسؤولية. قال الله تعالى:
[سورة الرعد (13) : الآيات 40 الى 43]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
«1» [الرّعد: 13/ 40- 43] .
يحدّد الله تعالى في هذه الآيات موقف الرسول صلّى الله عليه وسلّم من ألوان طلبات المشركين
__________
(1) لا رادّ ولا مبطل له.(2/1175)
العنادية، تبيانا للواقع، وتهدئة لنفس النّبي، ووعدا بنصره. وهذا الموقف يتجلى في أنه إن أريناك يا محمد في حياتك بعض وعيد المشركين من خزي ونكال، أو توفيناك قبل إرادتك ذلك، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربّك، فمهمتك تبليغ رسالة الله، وقد فعلت ما أمرت به، وليس عليك تحقيق النتائج والتوصل إلى صلاحهم، وعلينا حسابهم ومجازاتهم على ما قدموا من خير أو شرّ. وقوله سبحانه: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ بتخصيص البعض بالذّكر: مفهومه أن الأعمار تقصر عن إدراك جميع ما تأتي به الأقدار، مما يوعد به الكفار، وأن فتوحات المسلمين تأتي في المستقبل.
ألم ير أولئك المشركون في مكة أن الله يأتي إلى أرض الكفر، فينقصها شيئا فشيئا، ويفتحها المسلمون تدريجا، أرضا بعد أرض، ويتحقق لهم النصر، وتتسع أرض الإسلام على التوالي، حتى يعمّ الدنيا. والله يقضي القضاء المبرم، ولا يردّ حكمه النافذ، وليس لأحد أن يتعقّب أحكام الله، أي ينظر في أعقابها، فيناقشها أو يبطلها، وينظر أهي مصيبة أم لا؟ والله محاسب عباده قريبا في الآخرة، وعقابه آت لا محالة، فلا تستعجل عقابهم أيها النّبي، فإن الله محاسبهم ومعذّبهم في الآخرة بعد أن عذّبهم في الدنيا بالقتل والأسر والهزيمة. وسرعة حساب الله واجبة لأنها بالإحاطة والشمول، وليست بعدد قليل أو كثير.
وأما مكائد قومك قريش أيها النّبي فاصبر عليها ولا تأبه بها، فلقد مكر الكفار السابقون برسلهم، وأرادوا طردهم من بلادهم، وعذّبوهم، كما فعل النمرود بإبراهيم، وفرعون بموسى، واليهود بعيسى، وكما فعلت عاد وثمود وإخوان لوط، فمكر الله بهم، أي أحاط بمكرهم وأحبط خططهم وتدابيرهم. والمكر: ما يتمرّس بالإنسان، ويسعى عليه، سواء علم بذلك أو لم يعلم. وقوله سبحانه: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ(2/1176)
جَمِيعاً
أي العقوبات التي أحلّها بهم، وسماها مكرا على ما عرف: تسمية المعاقبة باسم الذنب، كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 2/ 15] .
وفي قوله تعالى: يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ تنبيه وتحذير في طيّ إخبار، والمعنى:
أن الله تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر، وسيجزي كل عامل بعمله، فينصر أولياءه، ويعاقب الماكرين. ثم توعّدهم الله سبحانه بقوله: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ
أي سيتحقق الكفار لمن تكون العاقبة المحمودة والنهاية الحسنة من الفريقين:
المؤمنين والكافرين، حيث تكون تلك العاقبة لأتباع الرّسل في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا النصر، وفي الآخرة الجنة.
ثم ردّ الله على منكري نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم بقوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا.. أي يقول الجاحدون النّبوة: لست نبيّا مرسلا من عند الله، تدعو الناس لعبادة الله وحده، وهجر الأصنام والأوثان، وترك الظلم والفساد. فقل يا محمد:
حسبي الله وكافيني أنه شاهد لي بصدق رسالتي، ومؤيد دعوتي، بما أنزله علي من القرآن المعجز، ومن الآيات البيّنة الدالة على صدقي. وكفاني أيضا بعد شهادة الله:
شهادة علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام اليهودي وأصحابه وتميم الداري وسلمان الفارسي، بما وجدوه لديهم في التوراة والإنجيل من بشارة برسالتي، وأوصاف لا تنطبق على من سواي.(2/1177)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
تفسير سورة إبراهيم
نعمة القرآن ولغة كل رسول
إنزال القرآن الكريم أعظم نعمة على الإنسانية في تاريخها الطويل لأنه كلام الله تعالى، ودستور العقيدة والشريعة ومنهاج الحياة والآداب والأخلاق، ولولا هذا القرآن لكان الناس في عماية (غواية) وضلال وجهالة، فبالقرآن وحده عرف كل إنسان ربّه، وثاب إلى رشده، وتربّت النفوس في مدرسة القرآن، فصارت من طراز آخر على منهج الحق واليقين والإحسان.
وكان من فضل الله على العرب أن أنزل القرآن المجيد بلغتهم العربية، كما أرسل كل رسول بلسان قومه، ليفهموا رسالته ويتّبعوا دعوته، قال الله تعالى مبيّنا هذه النعمة العظمى في مطلع سورة إبراهيم المكّية:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [إبراهيم: 14/ 1- 4] .
__________
(1) بتوفيقه لهم.
(2) الغالب.
(3) المحمود المثنى عليه.
(4) هلاك. [.....]
(5) يختارون ويؤثرون.
(6) يطلبونها معوجة.(2/1178)
افتتحت هذه السورة بالحروف المقطعة كسورة البقرة وأمثالها للتّنبيه والتّحدي وتذكير العرب بأن هذا القرآن كلام من عند الله، بدليل أنه مكوّن من حروف لغتهم ومادة كلامهم، وهم عاجزون عن الإتيان بمثله.
والقرآن كتاب كريم أنزله الله رب العالمين، على رسوله الأمين، لإخراج الناس من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الإيمان الحق والهدى والرشاد، بتوفيق الله وتيسيره وإذنه، وبواسطة الداعية والمبلّغ له، وهو النّبي صلّى الله عليه وسلّم، يبلّغ شريعة الله، ويرشد إلى الطريق القويم، طريق الله القوي الغالب القاهر المدرك، المحمود في جميع أفعاله وأقواله، وشرعه وخبره.
فحقيقة الهداية: إنما هي راجعة لله بالاختراع والإيجاد، والرسول مشارك في التوجيه والإنذار والدعوة إلى سبيل الهداية. وقوله سبحانه عن نبيّه لِتُخْرِجَ النَّاسَ تشريف للنّبي صلّى الله عليه وسلّم. وعم النَّاسَ إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق والعالم كله، فبعثته عامة للأحمر والأسود، كما ثبت بالتواتر وبآيات كثيرة من القرآن، وبما شاهده الصحابة وآل البيت الكرام.
وكلمة الظُّلُماتِ استعارة للكفر، وكلمة النُّورِ استعارة للإيمان وطريق طاعة الله ورحمته، على سبيل التشبيه والمماثلة. وكلمة بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بعلمه وقضائه وتمكينه لهم.
وإنزال القرآن من عند الله العزيز الحميد، وهما صفتان لائقتان في هذا الموضع، للدلالة على قدرة الله، واستيجاب الحمد على نعمة الإنزال على العالم كله، في هدايتهم، ومن أدلة القدرة الإلهية: أنه سبحانه له كل ما في السماوات والأرض خلقا وملكا وعبيدا وتصريفا وتدبيرا، وويل، أي هلاك وعذاب شديد يوم القيامة للكافرين برسالتك أيها النّبي، الذين جحدوا بوحدانية الله. وهذا وعيد وإنذار وتهديد.(2/1179)
ووصف الله تعالى هؤلاء الكافرين الجاحدين بالرسالة النّبوية بصفات ثلاث:
- فهم الذين يحبّون الدنيا ويؤثرونها على الآخرة، ويعملون للدنيا ومتعها فقط.
- وهم الذين يمنعون من اتّباع الرّسل ويعرقلون مسيرة الإيمان بالله والقرآن والنّبي.
- وهم يحبّون أن تكون سبيل الله معوجة مائلة عن الحق، لتوافق أهواءهم.
وسبيل الله: طريقة هداه وشرعه الذي جاء به رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
أولئك الجاحدون الموصوفون بتلك الصفات السابقة في ضلال بعيد عن الحق، وفي جهل عميق، لا يرجى منهم عودة إلى الصلاح والفلاح.
وإذا كانت مقاصد القرآن هذه وهي التنوير والهداية، فإن الله يسّر سبيل معرفتها للعرب حاملي رسالة الإسلام لتبليغها للعالم بجعل القرآن بلغتهم العربية لفهمه وإدراك غاياته ومعرفة شرائعه وأحكامه، كما أن من لطف الله وإحسانه أن يرسل كل رسول بلغة قومه، ليقع التّكلم بالبيان والعبارة المفهومة، ثم يكون غير أهل تلك اللغة أتباعا في التبيين لأهل اللسان، وهذه ضرورة متعيّنة إذ لا يعقل كون الكتاب الإلهي بكل لغات العالم.
وبعد هذا البيان وإقامة الحجة على الناس، يكون الناس فريقين: فريق الضّلال لإصراره على الكفر واجتراح السّيئات، وفريق الهداية لمبادرته إلى الإيمان، وتقتصر مهمة الرّسول على التّبليغ والبيان، وأما إيجاد الهداية والوقوع في الضّلال فهو بيد الله، ينفذ فيه سابق قضائه، ويعمل بمقتضى حكمته التي لا تعلّل، ولا يعترض عليها، ولا يفعل الله شيئا إلا بسابق علمه بحال كل إنسان، فيوفّقه للهداية أو يحجبه عنها، وهو سبحانه القوي الذي لا يغلب، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو الحكيم في صنعه وأفعاله.(2/1180)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
وما أوضح وأحكم قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أي إن الإرسال للبيان، لا للإضلال أو الإيقاع في المتاهات.
مهمة موسى عليه السلام
الأنبياء والرّسل عليهم السلام هم الصفوة المختارة، والفئة العليا من البشر، وهم أشدّ الناس إخلاصا لربّهم، وحبّا لأقوامهم، فيحرصون أشد الحرص على هدايتهم، وإنقاذهم وتصحيح عقائدهم وأخلاقهم، وتقويم طبائعهم وتهذيب نفوسهم، فاستحقّوا من الله الرّضوان، وبوّأهم أعلى منازل الجنان. وكان موسى عليه السّلام أحد الخمسة أولي العزم، الذي دأب على إرشاد قومه إلى طريق الحق والاستقامة على طاعة الله، وذكّرهم بنعم الله الكثيرة عليهم ليتّعظوا، وحذّرهم من عاقبة المخالفة والعصيان، وأعلمهم أن منفعة الطاعة تعود عليهم، وأن الله غني عن العالمين. قال الله تعالى واصفا جهود موسى في أداء رسالته:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
«1» «2» «3» «4» [إبراهيم: 14/ 5- 8] .
هذه لوحة مشرّفة لقافلة الإيمان ومسيرة الحق، يتصدّرها موسى عليه السّلام،
__________
(1) يذيقونكم.
(2) يبقونهم أحياء للخدمة.
(3) اختبار.
(4) أعلم من غير شبهة.(2/1181)
موصولة النّسب والمتابعة إلى نبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام، فكما أرسل الله نبيّه محمدا بالهدى ودين الحق، وأنزل الله عليه القرآن لإخراج الناس من الظّلمات إلى النّور، كذلك أرسل نبيّه موسى إلى بني إسرائيل بالآيات التّسع «1» لإخراجهم من الظّلمات إلى النّور، داعيا إياهم إلى الخير، والانتقال من دائرة الظّلمة والجهل إلى نور المعرفة والهدى والإيمان الحق.
وذكّرهم ووعظهم بأيام الله، أي وقائعه ونقمه التي أحلّها بالأمم الكافرة الظالمة قبلهم، وبتعديد نعم الله عليهم وعلى غيرهم من أهل طاعة الله، إن في ذلك التذكير لدلائل واضحة على وحدانية الله وقدرته، وبيّنات وعبرا لكل كثير الصبر على الطاعة والبلاء، مؤمن ناظر لنفسه، شكور في حال النعمة والرخاء. والتعبير عن النّعم والنّقم بأيام الله: تعظيم لهذه الكوائن المذكّر بها.
ألحّ موسى عليه السلام على قومه الإسرائيليين أن يتذكروا عظائم النّعم الإلهية عليهم، ونجاتهم من النّقم، حيث أنجاهم من ظلم آل فرعون وما كانوا يذيقونهم من ألوان وآلام العذاب والإذلال، وتكليفهم بالشّاق من الأعمال، وكانوا فوق ذلك يذبّحون أبناءهم المولودين الصّغار، خوفا من ظهور ولد إسرائيلي يكون سببا في تدمير ملك فرعون، بحسب تفسير رؤيا فرعون مصر، وكانوا يتركون الإناث أحياء ذليلات مستضعفات، للمتعة والخدمة والمهانة، وفيما ذكر اختبار عظيم من الله لهؤلاء القوم الأشرار، سواء في حال النقمة، أو في حال النعمة، ليعرف مدى شكر الإنسان منهم ومدى كفره وجحود نعمة الله عليه، كما قال الله تعالى في بيان منهاج اختبار البشر:
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) [الأنبياء: 21/ 35] .
__________
(1) الآيات التّسع: هي الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدّم، والعصا، ويده البيضاء، والسنون والقاحلة في بواديهم، والنقص في الثمرات في قراهم.(2/1182)
وأبان موسى عليه السّلام لقومه منهاج الإله الحق في إمداد البشر بالنّعم، وإرهابهم بالنّقم، وإنذارهم بالعذاب، فلقد أعلم الله علما مقترنا بإنفاذ وقضاء قد سبقه: أنكم يا بني إسرائيل أي وغيركم، لئن شكرتم نعمة الله عليكم ليزيدن لكم النّعم، ويديمها عليكم، ولئن جحدتم النّعم وسترتموها، فلم تؤدّوا حقّها من الشكر، ومقابلتها بالوفاء والطاعة، فإن عقاب الله أليم، شديد التأثير والألم، في الدنيا بزوال النّعم وسلبها عنكم، وفي الآخرة بالعقاب على كفران النعم.
جاء في الحديث الثابت الذي رواه الحاكم عن ثوبان: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» .
ثم هدّد موسى قومه ووبّخهم بقوله: إن تجحدوا نعمة الله عليكم أنتم وجميع من في الأرض من الثّقلين: الإنس والجنّ، فإن الله غني عن شكر عباده، وهو المحمود بكل حال، حتى وإن كفر به من كفر، كما قال الله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزّمر: 39/ 7] .
وإيراد هاتين الصّفتين لله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ اللتين وصف بهما نفسه تبارك وتعالى في آخر الآية: يتضمن بيان عظمة الله تعالى، وتحقير المخاطبين العصاة وتوبيخهم على المخالفة وجحود النّعمة، فالله متّصف بصفة توجب المحامد كلها دائما، كذلك في ذاته، لم يزل ولا يزال، وكفر بعض الناس بإله هذا حاله: غاية التّخلف والخذلان، وإغراق في الضّلال والبعد عن الحق.
بعض ألوان التّذكير بأيام الله
أغلب الناس لا يكتفون بالأمور النظرية، والتهديدات الشفهية، وإنما يحتاجون إلى الأدلة الحسّية والأمثال الواقعية، والتجارب الفعلية، لذا لم يكتف القرآن الكريم والرّسل المصلحون بتوجيه الإنذارات، وإنما من أجل التصديق بواقعيتها يقينا(2/1183)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
وحسّا، قرن هذا التوجيه بالتذكير بأيام الله ووقائعه في الانتقام من الأمم الكافرة الظالمة، فقال الله سبحانه مبيّنا خطابه العام لقوم النّبي صلّى الله عليه وسلم وسائر الأمم:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 12]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
«1» «2» «3» «4» [إبراهيم: 14/ 9- 12] .
هذا تذكير بأحوال الأمم السابقة الذين كذبوا بكل وقاحة وجرأة برسالات الرّسل، وتذكير أيضا بدور هؤلاء الرّسل في محاولة إقناع أقوامهم بتوحيد الله وقدرته وسلطانه وتصرّفه في كل شيء، وبحاجة البشر إلى التوكّل على الله والتفويض لمشيئته.
ومفاد هذا التذكير والخطاب العام: ألم يأتكم يا أهل مكة وأمثالكم خير الأقوام السابقين من قبلكم، وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذّبة للرّسل، مما لا يحصي عددهم إلا الله عزّ وجلّ. قال ابن عباس: «كان بين زمن موسى وبين زمن نوح قرون ثلاثون لا يعلمهم إلا الله» .
جاءت هذه الأقوام رسلهم بالمعجزات والأدلة الواضحة على توحيد الله وصدق
__________
(1) عضّوا أناملهم تغيّظا.
(2) موقع في الريبة.
(3) أي مبدعها على أكمل نظام.
(4) حجة تدلّ على صدقكم.(2/1184)
رسالاتهم، ولكن هؤلاء الأقوام اغتاظوا من الرسل وعادوهم وبالغوا في تكذيبهم والنفرة منهم، وقالوا للرّسل تعنّتا وعنادا وتبجّحا: إنا كفرنا بما أرسلتم به من الآيات الدالة على صدق رسالتكم.
فقالت لهم رسلهم: أفي وجود الله ووحدانيته شك؟ إن الفطرة والعقل يقرّان بذلك، والواقع والحسّ يؤيّدان هذا، فكيف تشكّون بالله؟ والله هو مبدع السماوات والأرض وخالقهما على غير مثال سابق.
والله تعالى عدا كونه خالقا موجدا هو كامل الرحمة، يدعوكم إلى الإيمان الكامل به، من أجل أن يغفر لكم في الآخرة ذنوبكم، ويؤجّلكم في حياتكم إلى وقت محدد في علم الله تعالى، وهو منتهى العمر، إن آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك والعذاب على كفركم، فردّ الأقوام على رسلهم بردود وشبهات ثلاث وهي:
1- ما أنتم أيها الرّسل إلا بشر مثلنا في البشرية، ولا فضل لكم علينا، فلم تختصون بالنّبوة دوننا؟ وفي هذا استبعاد لبعثة البشر.
2- وأنتم أيها الرّسل تريدون أن نترك ما وجدنا عليه آباءنا، بهذه الدعوة غير الصحيحة.
3- فأتونا بسلطان مبين، أي بحجة واضحة ظاهرة على صدق نبوّتكم، فنحن لا نؤمن إلا بالحسّيات.
فأجابهم الرّسل: لسنا نحن إلا بشر مثلكم، نأكل ونشرب ونمشي في الأسواق، واختصاصنا بالنّبوة أمر متروك لله يتفضّل بها على من يشاء من عباده، وتقليدكم للآباء لا يتفق مع العقل والكرامة الإنسانية، ولا نستطيع الإتيان بمعجزة أو دليل حسّي لإثبات نبوّتنا إلا بإذن الله وإرادته ومشيئته، وعلى جميع المؤمنين الاتّكال على الله في كل أمورهم، لدفع الشّر أو جلب الخير أو الصبر على العداوة.(2/1185)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
وكيف لا نتوكّل على الله نحن معاشر المؤمنين؟! وقد هدانا إلى سبل المعرفة والحق والخير والرشاد، ولنصبرن على ألوان أذاكم لنا بالقول أو بالفعل، وليستمرّ المؤمنون، ويثبتوا على توكّلهم على الله، وليثقوا به، وليتحملوا كل أذى في سبيل مرضاته، ففي ذلك الخير كله والنّجاة الأبدية في عالم الآخرة.
تهديد الأقوام لرسلهم
لقد تعرّض الرّسل الكرام في التاريخ من أقوامهم المرسلين إليهم لأسوإ أنواع المعاملة، وأقسى الكلام، والتهديد بالطرد أو الإبعاد من البلاد أو الإعادة إلى الوثنية الموروثة والجاهلية الفوضوية، معتمدين في هذا التهديد على مالهم من قوة وسلطان ونفوذ، إما بسبب الكثرة العددية والأتباع أو الثروة والمال، أو الجاه والظلم الطبقي، ويستغلون ضعف الدّعاة إلى الله وقلّة أتباعهم، إلا أن العبرة بالنتائج، ففي نهاية الأمر تكون الغلبة والتفوق والنصر لأهل الحق والإيمان، والهزيمة والمذلّة لأهل الكفر والباطل والضلال. وهذه صورة الفريقين في القرآن الكريم:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 18]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)
«1» «2» «3» «4» «5» «6»
__________
(1) استنصر الرّسل بالله على الظلمة.
(2) خسر كل متعاظم متكبّر.
(3) معاند للحق. [.....]
(4) ما يسيل من أجساد أهل النّار.
(5) يتكلف بلعه لحرارته.
(6) يبتلعه لشدة كراهته.(2/1186)
«1» [إبراهيم: 14/ 13- 18] .
حينما انهزم أهل الضّلال في النّقاش والحجاج العقلي أمام رسلهم، لجؤوا إلى التهديد والوعيد والإيذاء بالقول والفعل، وتوعّد الرّسل إما بالطّرد والإبعاد من بلادهم، وإما بالعودة إلى الوثنية الملّة الموروثة عن الآباء والأجداد، فأوحى الله لرسله قائلا لهم: لنهلكنّ الظالمين المشركين، ولنسكننكم أنتم وذرّيتكم أرضهم وديارهم من بعد هلاكهم، عقوبة لهم على تهديداتهم، ذلك الإعلان للحكم الموحى به بإهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم، لمن خاف موقفه بين يدي ربّه، وهاب وعيده بالعذاب والعقاب.
ثم أبان الله تعالى بقوله: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) أي إن الرّسل سألوا إنفاذ الحكم بنصرهم وتعذيب الكفرة، فأجابهم ربّهم لما طلبوا، ولم ينجح كل جبّار، أي متعظم في نفسه، لا يرى لأحد عليه حقّا، معاند للحق، منحرف عنه، فهو عنيد، أي يعاند ولا ينقاد للحق، ولا ينصاع لنداء الله بالإيمان.
وكان أمام هذا الجبار العنيد جهنم بانتظاره، بعد حذره وتحفظه، ويسقى في النار من ماء صديد، أي مما يسيل من أجساد أهل النار من قيح ودم، فهو ليس بماء في الحقيقة، وإنما ماؤه هذا الصديد المتغير الذي يخرج من الجوف. يتحسّاه جرعة بعد جرعة، ولا يكاد يبتلعه، لكراهته، وسوء طعمه ولونه وريحه، مما يدل على التّألم حين ابتلاعه، كما جاء في آية أخرى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد: 47/ 15] .
ويروى أن الكافر يؤتى بالشربة من شراب أهل النار، فيتكرهها، فإذا أدنيت منه، شوت وجهه، وسقطت فيها فروة رأسه، فإذا شربها قطّعت أمعاءه.
__________
(1) شديد الهبوب.(2/1187)
ويأتيه ألم الموت، وشدة نزع الروح من كل مكان، من غير إبقاء شعرة في بدنه، ولا يراح بالموت، فلا يموت، كما جاء في آية أخرى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر: 35/ 36] .
وله من وراء ذلك كله عذاب غليظ، أي شديد صعب مؤلم، أشد غلظة مما سبقه، وهو دائم غير منقطع.
ويتأسف الكفار على أعمالهم الصالحة في الدنيا التي ضاعت هدرا، ولم تنفعهم في الآخرة، ويكون لهم مثل أو صفة عجيبة، فالذين كفروا أعمالهم الصالحة من صدقات وصلة أرحام وبرّ والدين، كمثل الرماد الذي اشتدت به الريح العاصفة، في يوم عاصف، أي ذي ريح شديدة قوية عاتية، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا، إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد، في يوم القيامة، ذلك هو الضلال البعيد، أي ذلك السّعي والعمل على غير هدى ولا استقامة ولا إيمان:
مغرق في البعد عن الحق والنجاة، حتى فقدوا ثوابه، لفقدهم شرط قبوله: وهو الإيمان. وشبّهت أعمال الكفار ومساعيهم- في فسادها وقت الحاجة وتلاشيها- بالرماد الذي تذروه الرياح وتفرقه، لشدّتها حتى لا يبقى لها أثر، ولا يجتمع منه شيء.
وتبديد ثمرة أعمال الكفار مقرر في القرآن الكريم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) [الفرقان: 25/ 23] .
حوار أهل النار
أوضح الله تعالى في قرآنه صورة متوقعة بين أهل النار وهي الجدال والحوار الحادّ بين الضعفاء والمستكبرين، وبين الأتباع والسادة، يدلّ على النّدم الشديد والتّأسف العميق، لما آل إليه الفريقان من عذاب شديد، بسبب قصر النظر وضعف الإدراك(2/1188)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
وقلّة الوعي، واتّباع الأهواء والشهوات، على الرغم من إقامة الأدلة القاطعة على وضوح الرؤية والمصير، وعلى قدرة الله ووجوده ووحدانيته، وتتابع، التحذيرات والتهديدات بتبدّل الأوضاع وانقلاب الأحوال. قال الله تعالى واصفا هذا الوضع:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 21]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)
»
«2» [إبراهيم: 14/ 19- 21] .
أخبر الله تعالى عن قدرته في إعادة الأرواح للأبدان وبعث الناس أحياء من القبور يوم القيامة، بدليل قدرته على خلق السماوات والأرض وما فيها من كواكب ومجرّات ونجوم ذات أحجام تبلغ مئات الملايين من المساحات. فمن قدر على هذا الخلق البديع، قادر على إفناء الناس والإتيان بخلق جديد، ومخلوقات ذات صفات مختلفة. ومعنى كون السماوات والأرض مخلوقة بالحق، أي بما يحق في وجوده، من جهة مصالح عباده، وإنفاذ سابق قضائه، للإدلال على وجود الخالق وعلى قدرته. ثم توعّد الله تبارك وتعالى بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ أي إن يرد الله يعدمكم ويطمس آثاركم، ويأت بمخلوقات أخرى جديدة من بني آدم أو غيرهم، وليس ذلك على الله بممتنع.
وبعد جمع الناس في المحشر وبعثهم من القبور، وبروزهم أمام الله جميعا في ساحة واحدة، وموقف حساب واحد، تظهر الحقيقة الناصعة، ويبدو الندم الذي يأكل الأكباد، ويشتدّ الحوار والجدال بين أهل النار، فيقول الضعفاء، أي الأتباع، للسادة القادة المستكبرين في الرأي والمواقف المعاندة والتّنكّر لعبادة الله: إنا كنا لكم
__________
(1) خرجوا من القبور للحساب.
(2) أي منجى ومهرب.(2/1189)
تابعين، مقلّدين في الأعمال، نأتمر بأمركم، ونفعل فعلكم، فكفرنا بالله، وكذّبنا الرّسل، وهجرنا كلام الله متابعة كلام الله متابعة لكم وتأثّرا بآرائكم، فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء، أي هل أنتم تدفعون عن اليوم بعض عذاب الله، كما كنتم تعدوننا وتمنّوننا؟! فأجابهم المستكبرون القادة: لو هدانا لله لدينه الحق، ووفقنا لاتّباع أوامره، وأرشدنا إلى الخير، لهديناكم وأرشدناكم إلى سلوك الطريق الأقوم، ولكنه لم يهدنا، فحقت كلمة العذاب على الكافرين.
ثم أعلنوا يأسهم من النجاة فقالوا: ليس لنا خلاص ولا منجى مما نحن فيه، سواء صبرنا على العذاب، أو جزعنا وتضجرنا منه، فيكون الصبر والجزع سواء، فلا نجاة لنا من عذاب الله تعالى.
عن محمد بن كعب أن أهل النار يقولون: إنما نال أهل الجنة الرحمة بالصبر على طاعة الله تعالى، فلنصبر، فيصبرون خمس مائة سنة، فلا ينتفعون، فيقولون:
فلنجزع، فيضجّون ويصيحون، ويبكون خمس مائة سنة أخرى، فلا ينتفعون، فيقولون هذا القول الذي في الآية: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ.
وظاهر الآية أنهم يقولون ذلك في موقف العرض، وقت البروز، بين يدي الله تبارك وتعالى.
ويتكرر هذا الحوار بعد دخول الكفار في النار، كما قال الله تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) [غافر: 40/ 47- 48] .(2/1190)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
وإيراد هذا الحوار سلفا في الدنيا ليكون حافزا على العظة والعبرة، وتحذيرا للناس من الوقوع فيه قبل أن يفوت الأوان، وييأس كل واحد من النجاة.
حوار آخر بين الشيطان وأتباعه
يجري حوار حاد يوم القيامة بين فئتين من أهل الضلال: بين الضعفاء الأتباع، وبين المتبوعين السادة، كما تقدم، وبين الشيطان وأتباعه من الإنس، نبّه الله تعالى سلفا في قرآنه على بنود هذا الحوار بنوعيه ليحذر العاقل، ويتجنّب الانزلاق من دعاة السوء، وهذا الحوار الثاني أضعف من الحوار الأول لأنه يشتمل على تبرؤ الشيطان من وساوسه، أما الحوار الأول فيتذرع فيه السادة خطأ بأن الله لم يهدهم إلى سواء الصراط. ويستوي الفريقان بتبرؤ المتبوعين من الأتباع. وصف القرآن الكريم مضمون حوار الشيطان مع أتباعه:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 22 الى 23]
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)
«1» «2» «3» [إبراهيم: 14/ 22- 23] .
هذا تصريح خطير بضعف كيد الشيطان ووساوسه، وبكذبه وخيانته في الدنيا، واعترافه بتحمّل أتباعه مسئولية ذنبهم وخطيئتهم، فإنهم هم الذين استجابوا لدعوة الشيطان من غير وجود سلطان له عليهم، فهو أي إبليس يقوم خطيب السوء، ولكنه
__________
(1) تسلط.
(2) بمغيثكم من العذاب.
(3) بمغيثي من العذاب.(2/1191)
صادق بهذه الآية فيما يقول يوم القيامة. على عكس حوار البشر الضعفاء مع سادتهم، كان للسادة نوع من السلطة والنفوذ على أتباعهم، وكانوا أيضا مخطئين في الفهم والإدراك.
والمراد بالشيطان هنا: إبليس الأقدم نفسه، قال لأتباعه بعد أن تم القضاء بين العباد، فأدخل الله المؤمنين الجنة، وأسكن الكافرين النار: إن الله وعدكم بالبعث والجزاء وعد الحق الثابت الأكيد على ألسنة رسله، وأما أنا فوعدتكم ألا بعث ولا جزاء، ولا جنّة ولا نار، فأخلفتكم موعدي، إذ لم أقل إلا باطلا من القول وزورا.
ولم يكن لي عليكم فيما دعوتكم إليه سلطان، أي غلبة وقدرة وملك، أي ما أكرهتكم على شيء ولا خوّفتكم بقوة مني، بل عرضت عليكم شيئا، فأتى رأيكم عليه. فلا تلوموني، أي لا ذنب لي، ولوموا أنفسكم في سوء نظركم وقلة تثبتكم، فإنكم إنما أتيتم وصرتم أتباعي عن بصيرة منكم وتكسب ومصلحة، فأنتم الذين أسرعتم إلى إجابتي باختياركم، فيكون الذنب ذنبكم، لكونكم لم تسمعوا إلى دعاء ربكم الذي دعاكم دعوة الحق بالحجج والبينات، فخالفتم مقتضى العقل والحكمة والبرهان الداعي إلى الصواب.
ما أنا بمصرخكم ولا أنتم بمصرخي، أي ما أنا بمغيثكم ولا نافعكم ولا منقذكم من العذاب، وما أنتم بمغيثّي لا نافعيّ بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال.
ويتابع الشيطان إبليس خطابه لأتباعه بقوله: إني كفرت، أي إني أنكرت وجحدت اليوم إشراككم إياي من قبل في الدنيا مع الله تعالى في الطاعة التي ينبغي أن يفرد الله بها. إن الظالمين، أي الكافرين في إعراضهم عن الحق، واتباعهم الباطل، لهم عذاب مؤلم.(2/1192)
والمقصود كما تبين: تنبيه الناس إلى تبرؤ الشيطان من وساوسه في الدنيا، وحضهم على الاستعداد ليوم الحساب، وتذكر أهوال الموقف يوم القيامة. وهذا حال الأشقياء.
وتذكيرا بأحوال السعداء، أتبع الله تعالى ذلك ببيان ما يلقونه من فضل إلهي في موقف الحساب والجزاء بين يدي الله تعالى، فقال سبحانه: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي ويدخل الملائكة الذين صدّقوا بالله ورسوله، وأقروا بوحدانيته، واتبعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، يدخلونهم جنات (بساتين) فيها الأنهار الجارية في كل مكان، وهم ماكثون فيها إلى الأبد، لا يحوّلون عنها ولا يزولون منها، بإذن ربهم، أي بتوفيقه وفضله وأمره. وتحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم، والإذن هنا عبارة عن القضاء والإمضاء. وتحية السلام من الملائكة تكريم للمؤمنين والمؤمنات، كما جاء في آيات أخرى، منها: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 39/ 73] .
والسلام: رمز الأمان والاطمئنان، والإشعار بالنعمة والاستقرار، وإفادة الرضا والقبول من الله، والإظلال بالرحمة والفضل الإلهي.
الكلمة الطّيّبة والكلمة الخبيثة
الكلمة أمانة، والمقصد الأسمى من التشريع الإلهي والوحي الرّباني: هو تهذيب الإنسان وتربيته، بالقول والفعل، فقوله أو كلامه ينبغي أن يكون طيّبا ليّنا مجاهرا بالحق، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، وفعله يلزم أن يكون صالحا حسنا، يتفق مع أوامر الله تعالى، ويكون للكلمة الطيبة تأثير السّحر في النفس، ومفعولها دائم شامل، يصدر عنها كل فضيلة وخير وإحسان، وأما الكلمة الخبيثة فلها مردود(2/1193)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
عكسي وتأثير سلبي، تضرّ ولا تفيد، وهي كالوباء، ولا خير فيها ولا بقاء. والله سبحانه يثبّت أهل الحق، ويضلّ أصحاب الظّلم والجور، قال الله تعالى واصفا ومقارنا بين الكلمة الطيّبة كلمة الحق، والكلمة الخبيثة: كلمة الباطل ومبيّنا مثل كلّ منهما:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
«1» «2» «3» [إبراهيم: 14/ 24- 27] .
هذه مجموعة من المعارف المتعلقة بالكلام وضرب الأشباه والأمثال لكل نوع منه، سواء أكان كلاما حسنا وحقّا ثابتا، أم كلاما سيّئا وباطلا زائلا. وهو تشبيه المعنويات بالحسّيات المشاهدات، لترسيخ المعاني في الأذهان، كما هو الشأن في بيان القرآن الوصفي البليغ المحكم. والمعنى:
ألم تعلم أيها المخاطب العاقل كيف ضرب الله لك مثل الكلمة الطيّبة ومثل الكلمة الخبيثة، إن الكلمة الطيّبة وهي كلمة الحق والتوحيد والإسلام ودعوة القرآن كالشجرة الطيبة وهي النخلة ذات الأوصاف الأربعة:
- فهي شجرة طيبة الرائحة والطعم والمذاق، جميلة المنظر والشكل. وطيبة المنفعة، يستلذّ بها الآكل، وينتفع بها الإنسان نفعا شاملا.
- وأصلها ثابت، أي راسخ باق متمكّن في الأرض، لا ينقلع، يدوم صيفا وشتاء.
__________
(1) تعطي ثمرها المأكول.
(2) اقتلعت من أصلها.
(3) استقرار.(2/1194)
- وفرعها في السماء، أي شامخة مرتفعة في الجو الأعلى، بعيدة عن العفونات الأرضية، خالية عن الشوائب.
- تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها، أي تثمر في أدوار متعاقبة، كل وقت وقّته الله لإثمارها، بإرادة ربّها وإيجاده، وذلك في كل عام مرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: الكلمة الطّيبة: هي (لا إله إلا الله) مثّلها الله بالشجرة الطّيّبة، وهي النّخلة في قول أكثر المتأوّلين، فكأن هذه الكلمة أصلها ثابت في قلوب المؤمنين، وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكية، وما يتحصل منها من عفو الله ورحمته، هو فرعها يصعد في السماء من قبل العبد، ويتنزل منها من قبل الله تبارك وتعالى، وهي نافعة في كل وقت.
وهكذا يضرب الله الأمثال للناس، فإن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير، وعظة، وتصوير للمعاني، وما أرسخ تشبيه المعنويات والمعقولات بالحسيات المشاهدة.
وبعضهم جعل المؤمن هو مثل الشجرة الطّيبة، فهو في جميع أيامه في عمل، وإذا كانت الشجرة لا تخلّ بالإتيان بالأكل أو الثمر في الأوقات المعلومة، فكذلك هو المؤمن لا يخلّ بما يسّر له من الأعمال الصالحة. وهذا مقبول فأصحاب الكلمة الطيّبة هم المؤمنون.
ومثل الكلمة الخبيثة، أي صفتها وهي كلمة الكفر وما قاربها من الكلام السوقي في الظلم ونحوه، كشجرة خبيثة وهي شجرة الحنظل أو الثوم، وتتصف بأوصاف ثلاثة هي:
- أنها خبيثة الطعم، ضارّة الرائحة.
- وأنها اقتلعت واستؤصلت، وليس لها أصل ثابت ولا عرق دائم.(2/1195)
- وليس لها استقرار ولا دوام، وتقلبها الريح بعد اقتلاعها.
وأصحاب الكلمة الخبيثة هم الكافرون والعصاة، فالكافر لا يستقر بيده شيء، ولا يغني عنه كفره، كهذه الشجرة التي يظن من بعد أنها شيء نافع، وهي خبيثة الثمرة، غير باقية.
وأصحاب الكلمة الطّيبة: هم الفائزون بمرادهم في الدنيا. والله تعالى يثبّت أهل الإيمان بكلمة الإخلاص والنجاة من النار: (لا إله إلا الله) والإقرار بالنّبوة، يثبّتهم الله في الدنيا، أي مدة حياة الإنسان، ووقت السؤال في القبر بأن يخلق الله للإنسان في قبره إدراكات وتحصيلا. وفي يوم القيامة يثبّتهم عند العرض على الله. والتثبيت بحمايتهم من التّعرض للفتنة في دينهم في دار الدنيا، وبالتصريح بصحة المعتقد دون تلعثم ولا تحيّر من أهوال الحشر يوم القيامة. وكل هذا جائز في قدرة الله تعالى.
ويضلّ الله الظالمين أي يمنع الله الكافرين عن الفوز بثوابه، أو يتركهم وضلالهم لعدم استعدادهم للإيمان، وتجاوبهم مع الأهواء والشهوات.
ولله المشيئة المطلقة في الفريقين، يفعل الله ما يشاء، من هداية بعض وإضلال بعض، عملا بماله من حق الملك والسلطان.
والخلاصة: إن الآيات دعوة قوية صريحة للإيمان، وتحذير ورفض للكفر والضّلال.
أفعال الكفار والمؤمنين ومصير كلّ
إن رسالة القرآن رسالة تصحيح وتقويم، ونصح وإرشاد، وتحذير وترهيب، فترى آيات القرآن تحمل حملة عنيفة شديدة على الكفر وأهله، وما يصدر عنهم من أفعال ضارّة بأنفسهم وأمّتهم، وما يستحقونه من عذاب وعقاب في النار، وفي الواجهة(2/1196)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
الأخرى تمدح الإيمان والمؤمنين، وتزكّي أعمالهم الصالحة، وتدعوهم دائما إلى فعل الخير الفردي والجماعي، وتعدهم بجنان الخلد والعاقبة الطيبة، وهذا أنموذج للحالتين، قال الله تعالى:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 31]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)
«1» «2» «3» «4» [إبراهيم: 14/ 28- 31] .
هذا في الآية الأولى تنبيه على مثال عملي من الظالمين، حيث بدّلوا شكر نعمة الله كفرا، كقوله سبحانه: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) [الواقعة: 56/ 82] .
ونعمة الله المشار إليها في هذه الآية: هو محمد عليه الصّلاة والسّلام ودينه. أنعم الله به على قريش، فكفروا النعمة، ولم يقبلوها، وتبدّلوا بها الكفر، والمراد بالذين كفروا: قريش جملة، بحسب ما اشتهر من حالهم.
الآيات دعوة إلى التعجب من أمر كفار مكة وأمثالهم، الذين صدرت منهم أفعال عجيبة غريبة:
أولها- أنهم بدّلوا شكر نعمة الله كفرا وجحودا، وتسّببوا في إنزال قومهم الذين شايعوهم وأطاعوهم في الضّلال والتّبديل دار البوار، أي الهلاك في الآخرة الذي لا مثيل له، وهو إصلاؤهم وإدخالهم في نار جهنم، وبئس المستقرّ قرارهم.
وثانيها- أنهم جعلوا لله أندادا، أي اتّخذوا لله شركاء عبدوهم معه، ودعوا الناس إلى عبادة الشركاء من الأصنام والأوثان.
__________
(1) دار الهلاك.
(2) يدخلونها. [.....]
(3) أمثالا يعبدونها.
(4) الخلال: المخالّة والصّداقة. من خالّك: إذا وادّ وصافي.(2/1197)
وثالثها- أنهم اتّخذوا الشركاء ذات الصفة الوثنية، لتكون عاقبة أمرهم وصيرورته إضلال من شايعهم واتّبعهم، وصرفهم عن دين الله، وإبقاءهم في مستنقع الكفر والضّلال.
والأنداد جمع ندّ: وهو المثل والشّبيه المناوئ، والمراد الأصنام. واستوجب هذا كله أن يهدّدهم الله ويتوعّدهم بقوله: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ أي استمتعوا بما قدرتم عليه من نعيم الدنيا، فإن جزاءكم ومصيركم إلى النار، كما قال الله تعالى في آية أخرى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) [لقمان:
31/ 24] .
ونظير هذه الآية في التهديد: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصّلت: 41/ 40] وقوله سبحانه:
قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ [الزّمر: 39/ 8] .
وبعد هذا التهديد للكفار، أمر الله نبيّه بأن يبلّغ الناس ويأمرهم بإقام الصلاة التي هي صلة بين العبد وربّه وأجلّ العبادات البدنية، ويأمرهم أيضا في سبيل المجتمع بالإنفاق في سبيل الله الذي هو عبادة مالية، وذلك مما رزقهم الله، بأداء الزكوات، والنفقة على الأقارب، والإحسان إلى الأباعد، والتّصدق على المحتاجين.
وإقامة الصلاة: أداؤها مستكملة الأركان والشروط، مع المحافظة على وقتها، والخشوع لله في جميع أجزائها.
ويكون الإنفاق مما رزق الله، في السّر (أي في الخفاء) وفي العلانية جهرا، قال البيضاوي: والأحب إعلان الواجب (أي في النفقة) وإخفاء المتطوع به.
وتكون المبادرة للصلاة والإنفاق وغيرهما من الطاعات، للخلاص بالأنفس والنّجاة من الهلاك، من قبل أن يأتي يوم القيامة، الذي لا بيع فيه ولا تجارة ولا فدية، ولا تنفع فيه صداقة ومخالّة، للصّفح والعفو والإنقاذ من العذاب، بل إنه يوم(2/1198)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
تكون فيه العدالة المطلقة والقسط، والقصاص من الظلمة وإنصاف الحقوق وردّها إلى أصحابها، كما قال الله تعالى في آية أخرى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحديد: 57/ 15] وقوله سبحانه: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) [البقرة: 2/ 123] .
وكل ما فيه مسارعة إلى الطاعة والتّقرب من الله ومرضاته: فيه الخير والسعادة للإنسان. وكل تباطؤ أو تقصير أو إهمال أو ترك لعبادة الله وطاعته: شرّ للإنسان ودمار وهلاك وتضييع للمصلحة بالخلود الأبدي في جنّات النّعيم.
التّذكير بآلاء الله والتّنبيه على قدرته
يتعهّد الله تعالى بفضله ورحمته عباده بين الفينة والأخرى، فيذكّرهم بما أنعم عليهم من نعم كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، ليحملهم على الشكر والطاعة، وينبّههم على قدرته التي فيها إحسان إلى البشر، لتقوم الحجة عليهم من وجهين. وهذا كله دليل قاطع على وجود الله ووحدانيته، وسلطانه وتصرّفه في الكون والأنفس، مما يوجب على العباد الإيمان بربّهم، والثّقة بوعده، وشكر إحسانه ونعمه. قال الله تعالى معدّدا آلاءه ومذكّرا بقدرته:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
«1» «2» [إبراهيم: 14/ 32- 34] .
__________
(1) دائمين.
(2) لا تطيقوا عدّها.(2/1199)
أورد الله تعالى في هاتين الآيتين عشرة أدلة على وجوده وقدرته وهي:
- خلق السماوات: فالله هو خالق السماوات سقفا محفوظا مزيّنا بالكواكب.
- وخلق الأرض فراشا ممهّدا للعيش، وأقام فيها المنافع الكثيرة.
- وأنزل المطر من السّحاب، فأحيا به الأرض بعد موتها، وأنبت به الزرع والشجر، وأخرج الأثمار والأرزاق المختلفة ذات الألوان والطّعوم والرّوائح والمنافع المتباينة. والتذكير هنا بالثمار النافعة، أما ما كان منها سمّا أو ضارّا فيسقط، وهذا أيضا نعمة أخرى.
- وسخّر لكم الفلك، أي ذلّل لكم السفن، بتعليم صنعها، وتسييرها على وجه الماء من بلد لآخر للركوب والحمل، بإذن الله ومشيئته.
- وسخّر لكم الأنهار، أي فجّر لكم ينابيع الماء الجاري في الأنهار، ويسّر توزيعها وتفرعها لسقي أكبر مساحة من الأرض والشجر والزرع.
- وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين، أي ذلّلهما وجعلهما يسيران في حركة دائمة، لدوام الخدمة والعمل. فهما دائمان في الطلوع والغروب وما بينهما من توفير منافع للناس لا تحصى كثرة، يفيدان على الدوام لإصلاح حياة الإنسان والحيوان والنبات والزروع والأشجار والثمار.
- وسخّر لكم الليل والنهار، أي جعلهما يتعاقبان ويتعارضان في وصال دائم، فمرة يطول الليل، كما في الشتاء، ومرة يطول النهار، كما في الصيف، ويقصر الآخر، وعلى العكس، وفي هذا التعاقب والتفاوت طولا وقصرا في الليل والنهار تحقيق الفائدة والخير للإنسان، فالليل للنوم والسكن فيه، وللراحة وقطع الأعمال، والنهار للسّعي والكسب والمعاش والتّقلب في شؤون الدنيا.(2/1200)
- وآتاكم من كل ما سألتموه، أي أعطاكم يا جنس البشر سؤلكم وحقّق مطلبكم، من كل ما شأنه أن يسأله الإنسان وينتفع به، ولا يطرد هذا في واحد من الناس، وإنما تفرقت هذه النعم في البشر، فهم الأسرة الكبرى الذين ينتفعون بنعم الله، موزعة بحكمة إلهية، ونسب حسابية على وفق المصلحة التي يعلم بها الله لكل إنسان.
ومقتضى هذا أن النّعم كثيرة ومتنوعة ومتجدّدة أيضا، في الزمان والمكان. وهذا ما نشاهده في عصرنا الحاضر حيث امتلأت ساحات الحياة بألوان من النّعم في النفس والمنزل والشارع ومجالات العمل المختلفة.
لذا قال الله تعالى بعدئذ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي إن أردتم أيها البشر تعداد نعم الله المنعم بها عليكم لا تستطيعون حصرها وتحديدها وإحصاءها لكثرتها، وعظمها في الحواس والقوى، وإيجادها من العدم، إلى هداية الإيمان، ومدد الأرزاق المتواصلة.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ: أي إن الإنسان مع الأسف لا يقدّر النعمة ويظلمها بإغفال شكرها، والجحود بها، وعدم مقابلتها بالوفاء والعرفان. وهاتان الصفتان: الظلم والكفر موجودتان في الوسط الإنساني، قائمتان في كل إنسان، فإن كانت هذه الخلال من جاحد فهي بصفة، وإن كانت من عاص فهي بصفة أخرى، كما ذكر العلامة ابن عطية في تفسيره العظيم، فيكون الناس متفاوتين في اقتراف الظلم والكفر، فهناك من يلازم هاتين الصّفتين، وهناك من يصدر منه نسبة معينة منهما، والسعيد من تخلّص منهما بصفة نهائية تامّة.(2/1201)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
دعاء إبراهيم عليه السّلام في البيت الحرام
يلجأ الإنسان عادة للدعاء إما لدفع ضرر أو لجلب نفع، وهذا دليل على حاجة الإنسان لربّه، وإقرار بعبوديته له، واعتراف بربوبية الله وتوحيده، وإشعار بعظمة الله وقدرته، وتوجّه من الضعيف العاجز إلى صاحب السلطان المطلق والهيمنة التامة على المخلوقات. لكن قد يكون الدعاء تشريعا كدعاء إبراهيم عليه السّلام وهو مستقبل البيت الحرام، الذي كان فيه دلالة على مكانة البلد الحرام مكة، وسوء عبادة الأصنام، وإبانة لحقيقة الاعتقاد، وشكر على نعم الله، وطلب المغفرة منه لنفسه ووالديه والمؤمنين. وهذا إظهار للإخلاص، ومحبة أهل الإيمان، وتعظيم أماكن الشعائر الدينية. قال الله تعالى مدوّنا على الدوام شمول هذا الدعاء:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)
«1» «2» [إبراهيم: 14/ 35- 41] .
تكرّرت كلمة رَبِّ في هذا الدعاء لإبراهيم الخليل عليه السّلام ثلاث مرات، للدلالة على الصّلة الخاصة بالله والعجز والضعف أمام الله، وشدّة الحاجة إليه.
__________
(1) أبعدني.
(2) تسرع إليهم شوقا.(2/1202)
وتكرّرت كلمة رَبَّنا في هذه الآيات أربع مرات لتعظيم الله وتقديسه. وكان هذا الدعاء الشامل تشريعا وتعليما، وتذكيرا من الله تعالى للمؤمنين والمشركين في مكة وغيرها بمكانة مكة والبيت الحرام فيها، وبوجوب تطهيرها من الأصنام والأوثان، وقيام ذرّية إبراهيم فيها بإقام الصلاة، والالتفات إلى تهيئة الأرزاق والثمرات فيها للانصراف للعبادة وشكر النعمة الإلهية، والله عليم بأحوال عباده كلها، السّري منها والعلني، وكانت الخاتمة طلب إجابة الدعاء، والمغفرة الشاملة لأهل الإيمان. أول صيغة هذا الدعاء: طلب إبراهيم عليه السّلام جعل مكة بلدا ذا أمان واطمئنان واستقرار لتصفو للعبادة، وكيلا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد.
وقد أجاب الله الدعاء، فكانت مكة بلدا آمنا على الدوام للإنسان والطير، والنبات والشجر.
والطلب الثاني في هذا الدعاء: جعل العبادة خالصة لله تعالى على منهج التوحيد، واجتناب عبادة الأصنام، والأصنام هي المنحوتة على خلقة البشر، وما كان منحوتا على غير خلقة، فهي أوثان. وكانت هذه الأصنام سببا للضلال، وعرضة للإضلال والغي، وسوء الأعمال وانحدار مستوى الكرامة الإنسانية. فمن صدّق إبراهيم عليه السّلام في دينه واعتقاده وسار على منهجه في الإيمان بالله والتوحيد الخالص لله، فإنه على سنّة إبراهيم وطريقته. ومن خالفه وعصاه فهو ليس على ملّة إبراهيم، وأمره إلى الله الغفور الرحيم، وهذه شفاعة في العصاة غير الكفار.
وفي الطلب الثالث: إعلام من إبراهيم عليه السّلام أنه أسكن بعض ذرّيته عند البيت الحرام، في واد غير ذي زرع، لإقامة الصلاة، وجعله محرّما ليتمكّن أهله من العبادة، فاجعل يا ربّ بعض القلوب تحنّ إليه، وتهفو وتميل إلى رؤيته، وأمدّهم برزق الثمار الموجودة في سائر الأقطار، حتى لا يلتفتوا إلى شيء منها، ويكون ذلك(2/1203)
عونا لهم على طاعة الله والتّفرغ لها، فيكون ذلك سببا لشكر الله على جزيل نعمته وفيض فضله ورحمته.
وإبانة لعنصر الإخلاص ضمّن إبراهيم عليه السلام دعاءه بإظهار أن ربّه عليم بقصده في دعائه، وهو التوصل إلى رضاه والإخلاص له، وأن الله يعلم بجميع أحوال العباد ومصالحهم، ويعلم بالأشياء كلها ظاهرها وباطنها لا يخفى عليه شيء منها في الأرض ولا في السماء، فلا حاجة لتحديد المطالب الجزئية، وإنما تدعو الله لإظهار العبودية لله، وبيان الافتقار لرحمته والحاجة لفضله.
والطلب الرابع في الدعاء: إظهار الحمد والشكر لله على إنعامه بولدين لإبراهيم:
إسماعيل وإسحاق، في وقت الكبر، علما بأن الله سامع الدعاء من كل داع، مجيب من تضرّع إليه.
والطلب الخامس في هذا الدعاء: التوفيق لإقامة الصلاة من إبراهيم عليه السّلام ومن ذرّيته، ورجاء إجابة هذا الدعاء كله.
والطلب السادس في دعاء إبراهيم: طلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات في يوم الجزاء والحساب على الأعمال كلها خيرها وشرها، وهذا دليل المحبة لجميع أهل الإيمان.
وكل هذه الأدعية تعليم لنا بأن ندعو بها، ونداوم على التوجّه بها إلى الله ربّنا.
التّذكير بأهوال القيامة
لا شكّ في عقيدة أهل العقل والإيمان بوجود عالم آخر بعد الدنيا، هو عالم القيامة، المشتمل على أحداث جسام وأهوال عظام، وتصفية للحساب الشامل(2/1204)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
للعباد، فيكون التذكير بيوم القيامة وما فيه من مشاهد ضرورة دينية تشريعية، ينبغي أن يشتمل القلب عليها، ويستعدّ العبد للقاء ربّه في هذا اليوم الرهيب. وهذا ما تفضّل الله ببيانه في هذه الآيات الشريفة:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 46]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)
«1» «2» «3» «4» [إبراهيم: 14/ 42- 46] .
هذه الآيات بجملتها فيها وعيد للظالمين، وإيناس للمظلومين. وتتضمن قرارا حتميّا بأن الله مطّلع على أعمال الظالمين الكافرين، غير غافل عنها، وإنما هو يمهلهم ويؤخرّهم للحساب على أعمالهم في الوقت المناسب، وفي اليوم الحاسم الموصوف بالصفات الآتية:
- أنه يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، أي شديد الأهوال، ومن شدّتها تظل فيه الأبصار مفتوحة، لا تطرف ولا تغمض، من شدة الفزع والحيرة والدهشة.
- ويأتي الناس فيه من قبورهم مهطعين، أي مسرعين إلى المحشر بالذّل والهوان، لشدة خجلهم من سوء الاعتقاد والأفعال والأقوال.
- ويكونون فيه أيضا مقنعي رؤوسهم، أي رافعي رؤوسهم، ينظرون في ذلّ وخشوع، ولا يلتفتون إلى شيء، كأن رؤوسهم يابسة محنّطة.
__________
(1) ترتفع دون أن تطرف.
(2) مسرعين إلى الدّاعي بذلّ.
(3) رافعيها ناظرين للإمام.
(4) خالية من الفهم.(2/1205)
- ولا يرتدّ إليهم طرفهم، أي لا يرجع إليهم تحريك الأجفان، بل تظل أبصارهم شاخصة، مفتوحة، تديم النظر، لا يطرفون ولا يغمضون، لشدة الهول والفزع.
والمراد دوام الشخوص والنظر.
- وتكون أفئدتهم هواء، أي تصير قلوبهم خاوية خالية، لا شيء فيها من القوة، مضطربة، لكثرة الخوف. والمراد أن قلوب الكفار في يوم القيامة تكون خالية من الخواطر والآمال والسرور، لعظم الحيرة والدهشة، لما رأوه من عقاب، وما ينتظرهم من عذاب.
ثم جاء الإنذار الإلهي المقصود به تلافي الأسباب المؤدية للعذاب، ومضمونه:
وخوّف أيها النّبي الناس جميعا من أهوال عذاب القيامة، حين يأتي العذاب، ويقول الذين ظلموا أنفسهم حين معاينة العذاب هلعا واضطرابا: ربّنا ردّنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى وقت قريب آخر، قريب العودة إليك، نتدارك فيه ما فرّطنا في الدنيا، من إجابة دعوتك إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لك، واتّباع رسلك فيما أرسلتهم به.
فردّ الله تعالى عليهم موبّخا: أولم تكونوا حلفتم من قبل هذه الحالة، حينما كنتم في الدنيا: أنكم إذا متم لا زوال لكم عما أنتم عليه، وأنه لا بعث ولا معاد ولا جزاء، فكنتم تنكرون القيامة والحساب، وتزعمون أنه لا انتقال لحياة أخرى.
والحال أنكم سكنتم أو أقمتم في مساكن الظالمين أنفسهم المفسدين في الأرض، ورضيتم بأفعالهم وصاحبتم الظالمين الكافرين، وسرتم مسيرتهم، ورأيتم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقاب لتكذيبهم وجحودهم وصدودهم عن دعوة الحق، وعاينتم آثار عذابهم، وضربنا لكم الأمثال والعبر، وهو أن الله قادر على الإعادة، كما قدر على ابتداء الخلق، وهو قادر على العذاب المؤجل، كما قدر على العقاب المعجّل، ولكنكم لم تتعظوا ولم تعتبروا.(2/1206)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
والحال أيضا أنه لم تتغير حالكم عن حال من سبقكم، فإنهم مكروا مكرهم جهد طاقتهم في إبطال الحق وتقرير الباطل ومعارضة الرّسل، وعند الله العلم بمكرهم وتدبيرهم، وأن الله سيجازيهم على مكرهم، الجزاء العادل، والحساب الشديد، وإن كان مكرهم شديدا، أي كافيا لتذهب به عظائم الأمور، ويصلح لزحزحة الجبال عن أماكنها. ومعنى الآية: تعظيم مكرهم وشدته.
الجزاء العادل يوم القيامة
إن وجود يوم القيامة من أجل إقامة الحق المطلق والعدل الشامل، فإذا تشكك المشككون بوجود هذا اليوم، فإنهم مخطئون لأنهم يعارضون الحقيقة، ويصادمون الحكم العقلي الصائب في أنه لا بد من يوم يتحقق فيه التناصف، فيعاقب الظالم وينتصف المظلوم، لذا أنذر الله تعالى الناس قاطبة بهذا اليوم الذي ينتظرهم، ليجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وهو يوم تتغير فيه معالم السماوات والأرض. قال الله تعالى واصفا هذا اليوم:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 47 الى 52]
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
«1» «2» «3» «4» «5» [إبراهيم: 14/ 47- 52] .
هذه الآيات تثبيت للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ولغيره من أمّته، ولم يكن النّبي ممن يحسب مثل
__________
(1) مقرونا بعضهم مع بعض.
(2) القيود.
(3) ثيابهم.
(4) تغطيها. [.....]
(5) تبليغ كاف في العظة.(2/1207)
هذا، ولكن خرجت العبارة هكذا لأن النّبي قائد الأمة، فيبدأ بخطابه. والمراد بها الزجر واستئصال الشّك في مجيء القيامة. والمعنى: لا تظنّن أيها الرسول أن الله مخلف رسله وعده، بل هو منجز لهم ما وعدهم به. ويراد بهذا الخبر زرع الثقة بوعد الله بنصر المؤمنين وتعذيب الظالمين، كما جاء في آية أخرى كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) [المجادلة: 58/ 21] . وبعبارة أخرى:
لا تحسب يا محمد- أنت ومن اعتبر بالأمر من أمّتك- وغيرها أن الله لا ينجز وعده في نصر رسله، وإظهارهم على أعدائهم، ومعاقبة من كفر بهم في الدنيا والآخرة، فإن الله عزيز قوي لا يمتنع منه شيء، ذو انتقام من الكفرة، ولا سبيل إلى عفوه عنهم.
ثم أخبر الله تعالى عن وقت انتقامه من أعدائه، وهو اليوم الذي تبدّل فيه الأرض غير الأرض، فتصبح على غير الصفة المألوفة، وتبدل أيضا السماوات غير السماوات. أما الأرض الحالية فتصبح كالدخان المنتشر، وأما السماوات فتتبدّد وتزول كواكبها وشمسها وقمرها، وتسقط وتتلاشى. وفي ذلك اليوم يبرز الناس في فضاء واحد، وتخرج الخلائق جميعها من القبور، انتظارا لحكم الله الواحد، الذي قهر كل شيء وغلبه، كما في آية أخرى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:
40/ 16] . وفي هذا تهويل وتخويف.
ولما وصف الله تعالى ذاته بكونه قهارا، وصف عجز الناس أمامه، وذكر من صفاتهم:
- كون المجرمين مقرنين في الأصفاد، أي جعل الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم مقيّدين بعضهم إلى بعض في الأغلال أو القيود، يجمع الله بين النظراء المتماثلين في الجرم، كل صنف مع نظيره.(2/1208)
- وسرابيلهم من قطران، أي قمصهم وثيابهم وجلود أهل النار تطلي بالقطران، حتى تصبح الجلود كالسرابيل.
- وتغشى وجوههم النار، أي تحيط النار بأجسادهم. وإنما ذكرت الوجوه لأنها أشرف الأعضاء وأعزّها.
وأنفذ على المجرمين هذا العقاب، ليكون في ذلك جزاء المسيء على إساءته، ويجازى المحسن أيضا بإحسانه خيرا. وفي هذا عدل تام، حيث يجازى كل شخص بما يليق بعمله وكسبه من خير أو شرّ، كما في قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النّجم: 53/ 31] .
والله سريع الحساب، يحاسب جميع العباد بسرعة فائقة، وذلك في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، كما جاء في الحديث لأن الله تعالى محيط علمه بدقيق أمور الخلائق وجليلها، لا إله غيره.
قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في وقت واحد مع كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم في وقت واحد.
هذا القرآن والوعيد الذي تضمنه: تبليغ للناس وكفاية في الموعظة، ومعنى الآية:
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ: هذا ذو بلاغ للناس، وهو ليكون منذرا للناس بالعقاب، ومحذّرا من العذاب، وليستدلّوا بما في القرآن من حجج ودلالات على أنه لا إله إلا هو، وليتذكر ويتّعظ به ذوو العقول، فيكون لهذا البلاغ ثلاث فوائد: وهي التخويف من عذاب الله، والاستدلال به على وجود الخالق ووحدانيته، والاتعاظ به وإصلاح شؤون الإنسان. سئل بعضهم: هل لكتاب الله عنوان؟ فقال: نعم، قيل: وأين هو؟
قال: قوله تعالى:
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) [إبراهيم: 14/ 52] .(2/1209)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
تفسير سورة الحجر
لا عقاب قبل البيان الإلهي
ليس في ميزان الشّرع والعقل عقاب أحد قبل بيان التّكليف، والإنذار قبل العذاب لأن المكلف بشيء يحتاج لفترة يتمكن بها من تنفيذ الخطاب التكليفي، وفي تلك الفترة يظهر كونه طائعا أو عاصيا. وهذا منهاج القرآن في كل أمّة، لم يهلكها بسبب فواحشها قبل إنزال كتاب إلهي، يطالبها بأن تفعل الخير، وتتجنب الشّر، وتعمل المعروف، وتحذر المنكر. وهذا ما نجده واضحا في مطلع سورة الحجر في قوله تعالى:
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)
«1» «2» «3» [الحجر: 15/ 1- 5] .
ابتدأت سورة الحجر كغيرها من بعض السور بالحروف المقطعة الر بقصد التّنبيه وتحدّي العرب أهل البلاغة والفصاحة بأن يأتوا بمثل القرآن أو بعضه، علما بأنه مكوّن من هذه الحروف الهجائية التي تتركّب منها لغتهم.
__________
(1) ربّ للتقليل و (ما) زائدة.
(2) اتركهم.
(3) أجل مقدّر.(2/1210)
لذا اقترنت هذه الحروف غالبا بالكلام عن القرآن: لتلازم الأمرين معا، فأخبر سبحانه أن آيات القرآن الكريم في هذه السورة وغيرها، هي آيات الكتاب الكامل في كل شيء، وآيات البيان الفصيح المعجز، مما يدلّ على أن القرآن المبين هو الكتاب الجامع للكمال، والغرابة في البيان، كما قال الزمخشري رحمه الله.
ولكنّ الكفار والمشركين سيندمون حتما يوم القيامة على ترك الإيمان بالقرآن، وعلى ما كانوا عليه في الدنيا من كفر وضلال، ويتمنّون لو كانوا في الدنيا مسلمين مؤمنين، كما في آية أخرى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) [الأنعام: 6/ 27] .
فعند دخول الكفار النار، ومعرفتهم بدخول المؤمنين الجنّة، يودّون لو كانوا مسلمين، فينجون النجاء الذي مانعة أن لم يكونوا مسلمين. فإن النجاة في الآخرة بالإيمان والإسلام وحده دون غيره.
وإذا كان هذا حال الكفار، فهم بأشد الحاجة إلى التذكير والتنبيه، فكان مناسبا إيراد الوعيد والتهديد، فقال الله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا أي اترك يا محمد الكفار في ملاهيهم وتمتّعهم باللذات في دنياهم، يأكلون كما تأكل الأنعام، وتلهيهم الآمال عن التوبة والإنابة، أو عن الآخرة، وأجل الموت، فسوف يعلمون عاقبة أعمالهم وأمرهم، ثم ختمت الآية بوعيد ثان، وهو قوله تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ قال بعض العلماء كما ذكر الطبري: الوعيد الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين؟! ومعنى قوله تعالى: وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ أي يشغلهم أملهم في الدنيا، والتزيد فيها عن النظر والإيمان بالله ورسوله.
ثم جاء البيان الإلهي العظيم، والاعلام بأنه لا عقاب قبل بيان، ولا عذاب قبل(2/1211)
إنذار وكتاب إلهي، فقال سبحانه: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) أي لا تستبطئن هلاكهم، فليس من قرية أهلكت إلا بعد قيام الحجة عليهم، وإبلاغهم طريق الرّشد والحق، ولم يكن الهلاك إلا بأجل مقرر محدود، وكتاب واضح الشرائع والأحكام، وإنذار سابق بالعذاب، حتى تترك الفرصة لهم بالعدول عن عصيانهم، ومبادرتهم إلى سلوك جادة الاستقامة.
والمقصود بالآيات: أنه لو شاء الله، لعجّل العذاب للكفار المستكبرين، ولكن اقتضت حكمته إمهالهم لعلهم يتوبوا، فإن لكل أمّة أجلا معيّنا، لا تأخير فيه ولا تقديم، والله تعالى يمهل ولا يهمل.
وهذا تنبيه وتحذير شديد لأهل مكة وأمثالهم، وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشّرك والعناد والإلحاد الذي يستحقّون به الهلاك، كما قال ابن كثير.
وأما الناس اليوم وربما في المستقبل، على الرغم من تقدم العقل البشري ونضجه، واكتشاف آفاق العلوم والمعارف الكونية، فإنهم فيما يتعلّق بالدين ما يزالون متأثّرين بالتقاليد الموروثة، وبالبيئات المعايشة، وبما يوجّههم إليه رجال الدين وسدنة الإرث القديم. ولكن التّمسك بالتقليد وإهمال دور العقل مرفوض في ميزان الحق والمسؤولية والحساب الإلهي في الدنيا والآخرة.
الرّد على مطاعن المشركين بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم
على الرغم من أن انتقادات المشركين وهم كفار قريش حول القرآن والرسول واهية ساقطة وسخيفة، فإنها كانت خطيرة تستوجب الإبطال والرّدع والتّوبيخ، لأنها لا تستند إلى منطق صحيح، ولا لحجة مقبولة، فضلا عن أنها تصادم الآداب والأعراف والواقع المشاهد، فهم يتّهمون النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون والسفاهة، ويطالبون(2/1212)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
بإنزال الملائكة، ويستهزئون بكل رسول جاءهم، فكانوا في هذا كله أغبياء حيارى عمي البصر والبصيرة. وهذا ما حكاه القرآن العظيم في قوله تعالى:
[سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 15]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
«1» «2» «3» «4» »
«6» «7» «8» «9» «10» [الحجر: 15/ 6- 15] .
القائلون هذه المقالة من كفار قريش: هم عبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة من صناديد قريش. إنهم قالوا استهزاء وتهكّما: يا أيها الذي تدّعي نزول القرآن عليك، إنك متّصف بالجنون، حينما تدعونا إلى اتّباعك، وترك ما وجدنا عليه آباءنا، فلا نقبل دعوتك.
لوما بمعنى لولا، أي لو كنت ما تدّعيه حقّا وصدقا، فهلا تأتينا بالملائكة يشهدون لك بالصدق وبصحة ما جئت به، وتأييد إنذارك، إن كنت صادقا في ادّعاء النّبوة.
فأجابهم الله تعالى بأننا لا ننزل الملائكة إلا بحق وحكمة ومصلحة نعلمها، أي كما يجب ويحقّ من الوحي والمنافع التي نراها للعباد، من رسالة أو عذاب، لا
__________
(1) هلا تأتينا.
(2) على وجه الحكمة.
(3) مؤخّرين.
(4) القرآن.
(5) أي فرق وجماعات السابقين.
(6) ندخله مستهزأ به.
(7) مضت عادة الله بإهلاك المكذبين.
(8) يصعدون.
(9) سدت ومنعت عن الرؤية.
(10) أصابنا محمد بسحره. [.....](2/1213)
بحسب اقتراح الكافر، ولا باختيار معترض. وعادة الله في الأمم أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في أثرها إن لم يؤمنوا، وكأن الكلام: ما ننزل الملائكة إلا بحقّ واجب، لا باقتراحكم، ثم لو نزلت الآية لم ينظروا أو لم يمهلوا بعد ذلك بالعذاب، أي لم يؤخّروا. وهذا ردّ على مقالة المشركين الأولى المطالبة بإنزال الملائكة.
ثم ردّ الله تعالى على مقالتهم الثانية التي تتضمن اتّهام النّبي بالجنون، بقوله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) .
أي إن الله تعالى هو الذي أنزل القرآن على الرسول النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ونحن نحفظه ونصونه من التّبديل والتغيير الذي جرى في سائر الكتب المنزلة، وهو تبديل اللفظ، لا مجرد التأويل. وهذه الآية بمعنى قوله تعالى عن القرآن: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) [فصّلت: 41/ 42] .
ثم آنس الله تعالى نبيّه وسرّى عنه وعرض له أسوة، وهي لا يضيق صدرك يا محمد بما يفعله قومك من الاستهزاء واتّهام الجنون وغير ذلك، فقد تقدم منا إرسال الرسل للأمم الماضية في شيعها وطوائفها وفرقها، وكانت سيرتهم الاستهزاء بالرسل والتكذيب والكفر برسائلهم الإلهية.
وهذا الاستهزاء أو الشّرك ونحوه من التكذيب أجراه الله في قلوب المجرمين الذين عاندوا، وتكبّروا عن اتّباع الهدى، ومثل ذلك التكذيب والكفر الذي أدخلناه في قلوب المجرمين السابقين، ندخله في قلوب المجرمين الجدد، وهم لا يؤمنون بالرّسل، وأصبح ذلك سنّة وعادة متّبعة في الماضين على هذه الوتيرة، التي استوجبت تدمير كل من كذب الرّسل، وإنجاء الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة، وسنفعل بالمجرمين اللاحقين كما فعلنا بالسابقين.
ثم أخبر الله تعالى عن شدة عناد- قريش وكفرة العصر بأنه لو فتحنا على هؤلاء(2/1214)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
المعاندين بابا من السماء، فجعلوا يصعدون فيه، أن تصعد فيه الملائكة، لما صدّقوا بذلك، بل قالوا: إنما منعت وسدّت أبصارنا من الرؤية والإبصار، وقد شبّه علينا، واختلطت الأمور في أذهاننا، وأصبحنا لا نرى إلا أخيلة، كالقوم المسحورين، سحرنا محمد بآياته، كما في آية أخرى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) [الأنعام: 6/ 7] .
وخلاصة المعنى: بلغ من عناد المشركين في مكة وأمثالهم أنهم لو صعدوا في السماء حقيقة، ورأوا الآيات عيانا، لقالوا: هذه أوهام وأخيلة، وقد سحرنا محمد، وهذا منتهى العناد والإعراض. وتشير الآية إلى وجود الظلام في الفضاء الخارجي.
بعض مظاهر قدرة الله تعالى
يتكرر التّذكير ببعض مظاهر قدرة الله تعالى في آيات القرآن، لا سيما في حال وصف عناد الكفرة والمشركين وتهديدهم بالعذاب، وإنذارهم بالعقاب، فإن الله قادر على كل شيء، وهذا يدعو العقلاء إلى التزام جادة الاستقامة، والزحزحة عن مواقف الكفر وتكذيب الرّسل، ففي الكون أرضه وسمائه عبر منصوبة تدعو للإيمان.
وكفر الكافرين وإعراضهم عنها، أي عن العبر والآيات إصرار منهم وعتوّ، قال الله تعالى مبيّنا بعض آيات قدرته:
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
«1» «2» «3» «4» «5» «6»
__________
(1) منازل للكواكب السّيارة.
(2) مطرود من الرحمة.
(3) سرق المسموع من السماء.
(4) أدركه ولحقه.
(5) شعلة نار ظاهرة للعيان.
(6) بسطناها للانتفاع بها.(2/1215)
«1» «2» «3» «4» «5» [الحّجر: 15/ 16- 25] .
هذه آيات تذكّر الكافرين بكمال قدرة الله تعالى، وأدلة وحدانيته في السماوات والأرض، وهي مبدوءة بالقسم الإلهي، أي والله لقد أوجدنا في السماء نجوما عظاما من الكواكب الثوابت والسيارات، ذات بروج: أي منازل، والمراد هنا منازل الشمس والقمر والنجوم السّيارة، وزيّنا السماء للناظرين المتأمّلين فيها. ومنعنا الاقتراب من السماء، كل شيطان رجيم، أي مرجوم بالشّهب، كما دلّت الأحاديث الصّحاح. لكن من استرق السمع وحاول معرفة الأسرار الإلهية، فإنه يدمّر بشهاب واضح، أي بجزء منفصل من الكوكب، وهو نار مشتعلة، فتحرقه. ودلّت الأحاديث على أن الرجم كان في الجاهلية، ولكنه اشتدّ في وقت الإسلام، وحفظت السماء حفظا تامّا.
وجعل الله تعالى الأرض في مرأى العين ومن أجل التمكن من الانتفاع ممدودة الطول والعرض، ممهدة للانتفاع بها، وثبّت الله الأرض بإلقاء الجبال الرواسي في جوانبها المختلفة، كيلا تضطرب بالإنسان، وأنبت الله في الأرض الزروع والثمار المناسبة، المقدرة بميزان معلوم، فقوله تعالى: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي أوجدنا فيها كل شيء مقدّر بقدر معلوم، موزون بميزان الحكمة، مقدّر محدّد بقصد وإرادة.
__________
(1) جبالا ثوابت.
(2) مقدر بحكمة.
(3) أرزاقا للعيش.
(4) مصادر إمداده.
(5) حوامل للسحاب وملقحات للأشجار.(2/1216)
وجعل الله في الأرض معايش، أي أعدّ للناس أسباب المعيشة والحياة الملائمة، من غذاء ودواء، ولباس وماء ونحو ذلك، وجعل فيها أيضا الخدم والدّواب والأنعام التي لستم أيها العباد برازقين لها، وإنما يرزقها الله وإياكم.
ثم أخبر الله تعالى أنه مالك كل شيء، وأن كل شيء يسير سهل عليه، وعنده خزائن الأشياء من جميع الأصناف، من نبات ومعادن، ومخلوقات لا حصر لها، فكل ما ينتفع به الناس في الكون، الله قادر على تكوينه وإيجاده، ولا يعطيه ولا يمنحه إلا بمقدار معلوم.
وأرسل الله الرياح الخيرة تحمل السّحب المشبعة بالرطوبة لإنزال الأمطار، وجعل الرياح واسطة لتلقيح الأشجار، بنقل طلع الذكور ولقاحها للإناث، ليتكون الثمر، كما يسوق الله الغيوم بالرياح لإنزال الأمطار التي تسقى بها الزروع والثمار والمواشي، كما قال الله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 21/ 30] .
ومن أعظم النّعم أن الله تعالى خازن الأمطار في السّحب وجوف الأرض، وليس البشر بخازنين ولا حافظين له، وينزله الله ويحفظه في الأرض، ويجعله ينابيع، ولو شاء الله تعالى لغوّره وذهب به في أعماق الأرض، ولكن من رحمته أبقاه للناس طوال السنة.
ومن عظيم قدرة الله: إحياء الخلق من العدم ثم إماتتهم ثم بعثهم أحياء، وينفرد الله حينئذ بإرث الأرض ومن عليها، والله يعلم كل من تقدّم وهلك من لدن آدم عليه السّلام، ومن هو حيّ، ومن يتأخر وجوده إلى يوم القيامة. ثم إن الله يحشر الناس ويجمعهم إليه جميعا يوم القيامة، ليحاسبهم، إنه سبحانه حكيم يضع الأشياء في محالّها ويتقنها، واسع العلم، أحاط علمه بكل شيء. وكل ذلك دليل على قدرة الله تعالى وتوحيده وإيجاب عبادته.(2/1217)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
بدء خلق آدم عليه السّلام وتكريمه
أقام الله تعالى أدلّة حسّية مشاهدة على قدرته وتوحيده وعبادته، منها خلق السماوات والأرض، كما تقدّم، ومنها خلق الإنسان من طين، حين بدأ خلقه بآدم عليه السّلام، ومنها خلق الجنّ من النّار. وتكريما للجنس الإنساني أمر الله تعالى الملائكة جميعا وإبليس بالسجود لآدم سجود تحية وتعظيم، لا سجود عبادة وتأليه، وهذا دليل التكريم والتقدير، قال الله تعالى مبيّنا تلك القصة:
[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 33]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
«1» «2» «3» «4» [الحجر: 15/ 26- 33] .
هذا دليل آخر على قدرة الله تعالى، فكما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما، بدأ خلق الإنسان، أي جنسه من طين، والمراد: آدم عليه السّلام، والأهم الأعظم هو نفخ الروح وإبداع الخلق، وأما المادة التي دبّت فيها الحياة بالروح فهي التراب الذي عبّر الله عنه مرة بالطين ومرة بالصلصال كالفخار، ومرة بالطين اللازب، للدلالة على مراحل الخلق، فقد بدأ الله خلق آدم أولا من تراب، ثم من طين، ثم من صلصال، أي من طين جاف يابس، ومن حمأ مسنون، أي من طين أسود متغير منتن.
ودليل آخر على القدرة الإلهية: أن الله تعالى خلق الجنّ أي جنس الشياطين من نار شديدة الحرارة، هي نار السّموم، قبل خلق آدم. قال ابن مسعود: هذه السموم
__________
(1) أي من طين يابس.
(2) أي من طين أسود متغير.
(3) هي النار الشديدة الحرارة. [.....]
(4) امتنع تكبّرا.(2/1218)
جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجانّ. وقالت عائشة فيما روى مسلم وأحمد: «خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجانّ من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» . وهذا مأخوذ من قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) [الرّحمن: 55/ 14- 15] .
وهذا إشارة إلى برودة طبع الإنسان، وحرارة طبيعة الجنّ. والمراد بهذه الخلقة:
إبليس أبو الجنّ. سئل وهب بن منبّه عن الجنّ، فقال: هم أجناس، فأما خالص الجنّ فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون، ومنهم أجناس تفعل هذا كله، منها السعالي والغول وأشباه ذلك.
ثم أراد الله تعالى تشريف آدم أبي البشر عليه السّلام وإكرامه، فأمر الملائكة بالسّجود له: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) ومعنى الآيات:
اذكر أيها الرسول لقومك حين أمرت الملائكة الموجودين قبل خلق آدم بالسجود له، بعد اكتمال خلقه وإتقانه وتسوية أجزائه على ما يجب، من طريق إحيائه بنفخ الروح من الروح التي هي لي، فقوله: مِنْ رُوحِي إضافة خلق وملك إلى خالق مالك، أي بدأت خلقه من روحي، ولفظ الروح هنا للجنس، ولفظة فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ تقوّي أن سجود الملائكة إنما كان كالمعهود من السجود عندنا، لا أنه خضوع وتسليم وعبادة.
وامتثل الملائكة أمر الله، فسجدوا كلهم جميعا، أي مجتمعين دفعة واحدة، لم يبق منهم أحد، وجميعهم سجد في موضع واحد، إلا إبليس فإنه تخلّف عن السجود لآدم، حسدا وكفرا، وعنادا واستكبارا، وافتخارا بالباطل لأنه في زعمه خلق من نار تتصف بالسّمو والارتفاع، وآدم خلق من تراب موصوف بالركود والخمود والانخفاض. وأدى به الغرور إلى عصيان الأمر الإلهي بأنه خير من آدم، فإنه خلق من(2/1219)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
النار، وآدم من الطين، والنار أشرف من الطين، والأعلى لا يعظم الأدنى، وذلك قياس فاسد لأن خيرية المادة لا تعني خيرية العنصر، بدليل أن الملائكة من نور، والنور خير من النار. وغرور إبليس مشتمل أيضا عدا الكبر على جهل بأن آدم امتاز باستعداد علمي وعملي لتلقي التكاليف، وتقدم الكون وعمارة الأرض.
لذا عاقبه الله بالطرد والإخراج من الجنة، كما سيأتي بيانه، وسجّل إبليس على نفسه المعصية الدائمة، وكأنه قال: «وهذا جور» وأحسّ بالنزعة الطبقية، وبأن هناك تفاوتا في درجات المخلوقين، منهم الفاضل، ومنهم المفضول، ولكن الله تعالى سوّى بين جميع المخلوقات في الفضائل، فكلهم أمام الله سواء، والرّب سبحانه وتعالى وحده هو المتميّز الأعلى من الجميع.
قصة طرد إبليس من الجنّة
كان الجزاء العادل من الله تعالى على عصيان إبليس أوامر ربّه، وإصراره على ذلك: هو الطّرد من الجنّة دار النعيم لأنه لا يعقل أن يحظى أحد بالخلود في دار النعيم، مع تمرّده وعصيانه ومخالفته أمر المنعم عليه. وأدمن إبليس على المعصية ومعارضة الله، فأصّر على إغواء البشر وإضلالهم بسبب غوايته وضلاله، فصار ممثلا عنصر الشّر المحض، وعدو الإنسان إلى يوم القيامة. وهذا ما سجّلته الآيات التالية:
[سورة الحجر (15) : الآيات 34 الى 44]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)
لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
«1» «2» «3»
__________
(1) مطرود من رحمة الله.
(2) الإبعاد مع السّخط.
(3) أي أمهلني.(2/1220)
«1» «2» «3» «4» [الحجر: 15/ 34- 44] .
استحقّ إبليس بعصيان أمر الله الطرد والإبعاد من الجنة، وهي وإن لم تذكر في هذه الآية، فالقصة تتضمنها، أمره الله بالخروج منها، وجعله مرجوما، أي مطرودا مبعدا، لا يستحق الإكرام والمنزلة العالية. وصبّ الله تعالى عليه اللعنة، أي الطّرد من رحمته إلى يوم القيامة، فهو آخر من يموت من الخلق.
فلما تلقى إبليس هذا الجزاء، طلب الإمهال إلى يوم البعث من القبور، وحشر الخلق ليوم الحساب، إمعانا في الكيد لآدم، وحسدا له ولذرّيته. فأجاب الله طلبه، وأخّره إلى يوم الوقت المعلوم، وهو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق. وقوله المتكرّر: رَبِّ إقرار بالرّبوبية والخلق.
فلما تحقق إبليس الانتظار ليوم البعث قال: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي أقسم بالإغواء الذي قدرته علي وقضيت به، لأزينن لذرّية آدم الشّهوات والمعاصي والأهواء في الأرض، وأحبّب لهم المعاصي، وأرغّبهم فيها أجمعين دون أن أترك أحدا، إلا المخلصين من عبادك، الذين أخلصوا لك في الطاعة والعبادة والتقوى والإيمان بك وبرسولك.
ردّ الله تعالى على إبليس مهدّدا ومتوعّدا بقوله: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الطريق في العبودية أو الإخلاص إلي مستقيم، يؤدي إلى كرامتي وثوابي، والعرب
__________
(1) لأوقعنهم في الغواية والضّلال.
(2) الذين أخلصتهم لطاعتك.
(3) تسلّط وقدرة.
(4) فريق معين.(2/1221)
تقول: «طريقك في هذا الأمر على فلان» أي إليه يصير النظر في أمرك، وهذا خبر يتضمن وعيدا.
ثم ابتدأ الله الإخبار عن سلامة عبادة المتّقين من إبليس، وخاطبه الله تعالى بأنه لا حجة له عليهم، ولا سلطان ولا قدرة، فإن عبادي المؤمنين المخلصين أو غير المخلصين، الذين قدّرت لهم الهداية، لا سلطان لك على أحد منهم، ولا سبيل لك عليهم، ولا وصول لك إليهم، لكن الذين اتّبعوك يا إبليس من الضّالّين المشركين باختيارهم، فلك عليهم سلطان، بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنّهي، كما قال تعالى: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) [النّحل:
16/ 100] .
وإن جهنم موعد جميع من اتّبع إبليس، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 11/ 17] . ثم أخبر الله سبحانه أن لجهنّم سبعة أبواب، قد خصص لكل باب منها جزء مقسوم وعدد معلوم من أتباع إبليس، يدخلونه، لا محيد لهم عنه، وكل واحد يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بقدر عمله.
وفي تفسير الأبواب السبعة قولان: قول: إنها سبع طبقات، بعضها فوق بعض، وتسمى تلك الطبقات بالدّركات، والأبواب السبعة كلها في جهنم على خط استواء، وقول آخر: إنها سبعة أقسام، ولكل قسم باب، أعلاها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السّعير، ثم سقر، ثم الجحيم، وفيه أبو جهل، ثم الهاوية، وتكون الأبواب على هذا القول بعضها فوق بعض، أي إن النار إما ذات أجنحة وأقسام، والأبواب متوالية صعودا ونزولا، أو إن النار قسم واحد ذو دركات، وأبوابها السبعة مداخل لها، عافانا الله من النار، وتغمّدنا برحمته بمنّه وكرمه.(2/1222)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
جزاء المتّقين يوم القيامة
سار المنهج القرآني في تربية الأفراد والشعوب على أساس الجمع بين الترغيب والترهيب، ومن أمثلة هذا المنهج: أن الله تعالى يذكر عادة ما أعد لأهل الجنة، وما أعد لأهل النار، ليظهر التّباين، ويقارن الإنسان العاقل بين العاقبتين، فيقبل على العمل الصالح المؤدي للجنة، ويجتنب العمل السّيئ المؤدي للنار، والخير في الحالتين للإنسان. فهل بعد هذا عذر لمقصّر أو عاص أو مسيء؟! قال الله تعالى مبيّنا جزاء المتقين بعد بيان جزاء الفاسقين والعصاة من أتباع الشيطان:
[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 50]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
«1» «2» [الحجر: 15/ 45- 50] .
نزلت هذه الآية: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) فيما
أخرجه الثعلبي عن سلمان الفارسي: أنه لما سمع قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) فرّ ثلاثة أيام هاربا من الخوف، لا يعقل، فجيء به للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله فقال: يا رسول الله، أنزلت هذه الآية: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) فوالذي بعثك بالحق، لقد قطّعت قلبي، فأنزل الله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) .
وأما آية: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فنزلت في أبي بكر وعمر، اللذين كانا بين قبيلتيهما بني هاشم وبني عدي عداوة وغلّ الجاهلية. وهذا في شأن الدنيا.
هذه الآيات تصوّر لنا مصير المتّقين، وهم الذين اتّقوا عذاب الله ومعاصيه،
__________
(1) حقد، عداوة.
(2) أي عناء وتعب.(2/1223)
وأطاعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، فلم يتأثروا بوساوس إبليس، جزاؤهم أنهم في جنّات، أي بساتين ذات ثمار دائمة، وظلال وارفة، وتتفجر من حولهم عيون هي أنهار أربعة: من ماء، ولبن، وخمر غير مسكرة، وعسل مصفى، دون تنافس عليها.
ويقال لهم من الملائكة: ادخلوا هذه الجنات سالمين من الآفات، آمنين من كل خوف وفزع، ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء.
ويتفضّل الله على عباده المتّقين، فينزع كل ما كان في صدورهم في الدنيا من حقد وعداوة، وضغينة وحسد، حالة كونهم إخوانا متحابّين متصافين جالسين على سرر متقابلين، لا ينظر أحدهم إلا لوجه أخيه، ولا ينظر إلى ظهره، فهم في رفعة وكرامة وطمأنينة ومحبة. ونزع الغل والحقد في الآخرة: إنما يكون بعد استقرارهم في الجنة، كما جاء في بعض الأحاديث.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ.
ومن أفضال الله ورحمته أيضا أنه لا يصيب المؤمنين في الجنات تعب ولا مشقة، ولا أذى لأنه لا حاجة لهم إلى السّعي والتّعب في جلب المعايش، لتيسير كل ما يشتهون أمامهم دون جهد.
وهم كذلك ماكثون في الجنات، خالدون فيها أبدا، لا يخرجون منها، ولا يحوّلون عنها.
جاء في الحديث الثابت: «يقال: يا أهل الجنة، إن لكم أن تصحّوا فلا تمرضوا أبدا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تقيموا فلا تطغوا أبدا» .
وتتلخص هذه النّعم والمنافع بثلاثة أشياء: الاطمئنان والتكريم، والصفاء من الشوائب المؤذية مادّيا ومعنويا، والدوام والخلود بلا زوال. ولا بدّ أن يعلم الناس(2/1224)
أن الله سيجازي بالمغفرة والرحمة، كما يجازي بالعذاب، فقال: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) .
أخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفر من أصحابه يضحكون، فقال: «أتضحكون، وذكر الجنّة والنار بين أيديكم، فنزلت هذه الآية:
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) .
أي أخبر يا محمد عبادي أني ذو مغفرة ورحمة، وذو عذاب أليم. وهذا جمع بين مقامي الرجاء والخوف، فالله تعالى يستر ذنوب من تاب وأناب، فلا يفضحهم ولا يعاقبهم، وإنما يرحمهم فلا يعذّبهم بعد توبتهم، وهذا يشمل المؤمن الطائع والعاصي.
والعذاب المؤلم الشديد الوجع لمن أصرّ على الكفر والمعاصي، ولم يتب منها. وهذا تهديد وتحذير من اقتراف المعاصي، بعد الوعد بالجنة، لمن آمن وتاب وعمل صالحا.
قصة ضيف إبراهيم عليه السّلام
يتلقّى الأنبياء عليهم السّلام الوحي عن ربّ العزة إما بواسطة جبريل عليه السّلام، وإما بالرّؤيا الصادقة في النوم، وإما عن طريق ملائكة مع جبريل يأتون بصفة بشر، يتعرّف عليهم النّبي بعد حوار وسؤال وجواب ليعرف حقيقة القادمين عليه. وهذا التنويع في إنزال الوحي إيناس للنّبي، وتسهيل عليه في معرفة الحكم أو الخبر الإلهي. ومن هذه الأحوال مجيء وفد من الملائكة، بصفة ضيوف على إبراهيم الخليل عليه السّلام، يتراوح عددهم بين ثلاثة واثني عشر ملكا، منهم جبريل عليه السّلام لتبشير إبراهيم في سنّ الكبر بغلام عليم، ولإخباره بإهلاك قوم لوط، ولوط ابن أخي إبراهيم عليهما السّلام. وصف الله تعالى هذه الضيافة بقوله:(2/1225)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 56]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56)
«1» «2» »
[الحجر: 15/ 51- 56] .
تتضمن قصص الأنبياء أخبارا عديدة، منها الوعد والوعيد، ومنها زفّ البشارة بأمر كريم أو عجيب، وهذه إحدى القصص الطريفة للملائكة الكرام ببشارة إبراهيم عليه السّلام حال الكبر بإنجاب غلام عليم، أي ذي علم كثير إذا بلغ، هو إسحاق، لقوله تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود: 11/ 71] .
بدأ الخطاب الإلهي في هذه القصة بأمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بإخبار قومه عن قصة ضيف إبراهيم، أي عن أصحاب إبراهيم لأن كلمة (ضيف) هنا مصدر وصف به وفد الملائكة، وتطلق على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، أو أن هذا المصدر عومل معاملة الأسماء، ككلمة (رهن) ونحوه. والمراد بالضيف هنا:
الملائكة الذين جاؤوا لإهلاك قوم لوط، وبشّروا إبراهيم عليه السّلام بالولد الجديد حين الكبر، وكان إبراهيم يكنى (أبا الضيفان) فقالوا حين دخلوا عليه: سلاما، أي سلاما من الآفات والآلام والمخاوف.
فقال إبراهيم للضيوف: إنا خائفون منكم، لدخولهم عليه بلا إذن، أو لامتناعهم من الأكل، حين قدّم لهم عجلا سمينا حنيذا (أي مشويا بالحجارة المحماة) فلم ير أيديهم تمتدّ للأكل، وكان عندهم العلامة المؤمّنة هي أكل الطعام، وتلك هي علامة دائمة في الدهر أمنة للنّازل والمنزول به. فيكون الامتناع من الطعام دليلا على أن
__________
(1) أضيافه الملائكة.
(2) خائفون.
(3) الآيسين من الولد أو الخير.(2/1226)
الضيوف يبيّتون شرّا، كما جاء في قوله تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود: 11/ 70] .
فأجابوه بقولهم: لا تَوْجَلْ أي لا تخف، إنا نبشّرك بغلام عليم، أي أتينا لبشارتك بميلاد غلام ذي علم وفطنة وفهم لدين الله لأنه سيكون نبيّا، وهو إسحاق عليه السّلام، وذلك بعد مولد إسماعيل بمدة، وقول إبراهيم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [إبراهيم: 14/ 39] .
أجاب إبراهيم متعجّبا مستبعدا من مجيء ولد حال كبره وكبر زوجته، ومتحقّقا من الوعد: أبشّرتموني بذلك بعد أن أصابني الكبر، فبأي أعجوبة تبشّرون أو تبشّرونني، فذلك غير متصوّر في العادة، وليس ذلك نفيا لقدرة الله تعالى في خلق العجائب.
فأجابه الملائكة مؤكّدين بشارتهم: قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي إننا بشّرناك بما هو حقّ ثابت، فأبشر بما بشّرت به، ودع غير ذلك، فهو صنع الله، ووعده الذي لا يتخلف، فلا تكن من القانطين اليائسين، فالذي أوجد الإنسان من التراب من غير أب ولا أم، قادر على إيجاد الإنسان من أي شيء أراد، كأبوين عجوزين.
ردّ إبراهيم عليه السّلام مؤكّدا إيمانه بقدرة الله تعالى وأنه ليس قانطا يائسا، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك، ولا يقنط ولا ييأس من رحمة الله إلا القوم الضّالون، أي المخطئون طريق الصواب. والقنوط: أتم اليأس.
هذه القصة تعلّمنا أدب الضيف، وأسلوبه في الأخبار، وزفّ البشرى، وأن الله قادر على كل شيء، فهو الخالق القادر على تمكين الزوجين من الإنجاب، حتى في سنّ الكبر وفي الوقت غير المعتاد.(2/1227)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
إخبار الملائكة إبراهيم بإهلاك قوم لوط
الصّلة النّسبية معروفة بين إبراهيم ولوط عليهما السّلام، فلوط هو ابن أخي إبراهيم، وكان بينهما تعاون في الدعوة إلى توحيد الله وهجر عبادة الأصنام، لذا أراد الله إخبار إبراهيم أولا بما جرى به الحكم والقضاء الإلهي، من إهلاك قوم لوط، لارتكابهم الفواحش وتكذيبهم رسولهم لوطا عليه السّلام، وتم هذا الإخبار عقب تبشير الملائكة إبراهيم بولادة ابنه إسحاق في سنّ الشيخوخة والكبر، قال الله تعالى واصفا مضمون الخبر بإهلاك الفاعلين فعل قوم لوط:
[سورة الحجر (15) : الآيات 57 الى 65]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [الحجر: 15/ 57- 65] .
بعد أن تأكّد إبراهيم عليه السّلام من كون ضيوفه ملائكة أثناء بشارتهم له بولادة إسحاق حال الكبر، سألهم عن أمرهم بسبب مجيئهم مختفين، وإحساسه بأنهم جاؤوا لأمر خطير، فقال: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. والخطب لفظة تستعمل في الأمور الشداد، أي ما شأنكم وما الأمر الذي أرسلتم به غير البشرى بالولد أيها الملائكة المرسلون، كأنه فهم من قرائن الأحوال أن لهم مهمة أصلية غير البشرى، لأن البشرى كما حدث لزكريا ومريم يكفيها واحد.
فأجابوه بأنا أرسلنا إلى قوم مجرمين مشركين هم قوم لوط لإهلاكهم، وهم أهل
__________
(1) فما شأنكم. [.....]
(2) قضينا.
(3) أي الباقين في العذاب.
(4) الآل: القوم الذين يؤول أمرهم إلى المضاف إليه.
(5) لا أعرفكم.
(6) يشكّون.
(7) بطائفة منه.(2/1228)
مدينة سدوم الذين بعث فيهم لوط عليه السّلام، والذين كانوا يتعاطون المنكر، ويأتون الرجال شهوة من دون النساء، فاستحقّوا أن يوصفوا بالمجرمين، والجرم:
الذي يجرّ الجرائم ويرتكب المحظورات.
ثم أخبر الملائكة إبراهيم أنهم سينجّون آل لوط جميعهم من بينهم، إلا امرأته، أي امرأة لوط التي كانت متواطئة مع قومها، فإنها ستكون من الغابرين، أي الباقين مع الكفرة الهالكين، فإنا مخلّصو جماعة لوط المؤمنين من العذاب- عذاب الاستئصال- وقوله تعالى: قَدَّرْنا أي بتقدير الله تعالى أن امرأة لوط من الباقين في العذاب، ونسب الملائكة ذلك لأنفسهم، باعتبارهم المنفّذين لأمر الله تعالى.
ثم بعد إبراهيم ذهب الملائكة إلى لوط عليه السّلام، فلما وصلوا إليه، أخبروه بأنهم مرسلون لعذاب قومه، فلم يعرفهم لوط لأول وهلة كما حدث لإبراهيم، فقال لهم: إنكم قوم منكرون، أي غير معروفين لدي، تنكركم نفسي، وأخاف أن تباغتوني بشرّ، فمن أي الأقوام أنتم؟ فأجابوه: لقد جئناك بما يسرّك، وهو عذاب قومك وإهلاكهم وتدميرهم، الذي كانوا يشكّون في وقوعه بهم، ويكذبونك فيه قبل مجيئه.
ولقد أتيناك بالأمر المحقّق واليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه، وهو تعذيب قومك، وإننا لصادقون فيما أخبرناك به من هلاكهم، ونجاتك مع أتباعك المؤمنين.
وبما أن إيقاع العذاب المدمر ليس أمرا سهلا، أكّد الملائكة قولهم للوط بثلاثة تأكيدات، فقالوا: إنا جئناك بما كانوا فيه يمترون أي يشكّون، وأتيناك بالحق، وإنا لصادقون في هذا الخبر.
وتمهيدا لتنفيذ العذاب، قال الملائكة للوط عليه السّلام: سر بأهلك بعد مضي جزء من الليل، وأهله: ابنتاه فقط، وامش وراء أهلك ليكون أحفظ لهم ولا يبقى(2/1229)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
منهم أحد، ولا يلتفت منكم أحد إلى الوراء إذا سمعتم الصيحة بالقوم، حتى لا يشفقوا على بلادهم وأقوامهم حين معاينة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها، وسيروا بأمر ربّكم غير ناظرين وراءكم، إلى بلاد الشام فإنها مأمنكم ومكان نجاتكم.
وتصوير هذه الإنذارات والإعدادات للعذاب يغني عن رؤية حالة الدمار والهلاك الواقع، ويزرع في القلب الخوف والهلع الشديد، ويوجب على النّاجين مزيد الحمد والشكر، ويردع أهل الجريمة مما يساورهم من صنوف الاجرام، إذا عرفوا ما يحلّ بالمجرمين في دار الدنيا قبل عذاب الآخرة.
العذاب الواقع بقوم لوط
يغفل أهل الاجرام عادة عن الجزاء والعقاب الذي يلقونه، بسبب انغماسهم في الشهوات والأهواء، وظنهم أن العذاب لن يطالهم، وأنهم سيفلتون من العقاب، وكل ذلك من وسواس الشيطان وضعف الوعي وقلة الإدراك، والحماقة وسوء التقدير، لكن العقاب حق وعدل يأتي في الوقت المناسب بعد اليأس من الصلاح، وهذا ما حدث لقوم لوط، فإنهم أفرطوا في ارتكاب الفواحش، وبالغوا في تكذيب الرسول لوط، وأصرّوا على الغلوّ في الكفر والضلال، فكان التقدير الإلهي لهم بالمرصاد، وهذا ما وصفه القرآن الكريم للعبرة والاتّعاظ، قال الله تعالى:
[سورة الحجر (15) : الآيات 66 الى 77]
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
«1» «2» «3»
__________
(1) أي أوحينا إلى لوط عليه السّلام أمر الهلاك.
(2) آخرهم أي جميعهم.
(3) داخلين في الصباح.(2/1230)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الحجر: 15/ 66- 77] .
هذا حكم الله وقضاؤه، وتدبيره وعقابه الحقّ العادل، لقوم دأبوا على الفحش وقلّة الحياء، ومعاداة الرّسل والأنبياء. وهو تدبير سريع التنفيذ، لذا أخبر الله نبيّه لوطا وأوحى إليه أن أمر هلاك قومه مقضي قضاء مبرما، وهو ماض حتما، وأن العذاب يشمل أول القوم وآخرهم، وهو عذاب الاستئصال في وقت الصباح.
وألفاظ الآية: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ دالّة على الاستئصال والهلاك التّام.
ومما زاد في أمر جريمة فاعلي اللواط في سدوم فحشا واستهجانا: أنهم حين علموا بأضياف لوط الرائعي الجمال، المتميزة وجوههم بالصباحة والإشراق، جاؤوا مسرعين مستبشرين بهم فرحين، أملا وطمعا في ارتكاب الفاحشة معهم.
فقال لهم لوط: إن هؤلاء ضيوف، فلا تفضحوني بارتكاب ما يؤدي إلى العار معهم، والضيف يجب إكرامه، واتّقوا الله ولا تخزوني، أي وخافوا عذاب الله، ولا تذلّوني وتخجلوني بإذلال ضيفي، وإهانته، فإن الإساءة إليه وإهانته إساءة وإهانة لي.
فأجابوه قائلين: ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة، ونهيناك أن تضيف أحدا؟! فأجابهم لوط مرشدا لهم: تزوجوا بنساء الأمّة اللاتي أباحهن الله لكم، وتجنّبوا إتيان الرجال، إن كنتم فاعلين ما آمركم به، منتهين إلى أمري. والمراد بقوله:
__________
(1) أي نساء الأمة من طريق الزواج.
(2) قسم من الله بالنبي.
(3) أي يترددون.
(4) أي وقت شروق الشمس.
(5) طين متحجر. [.....]
(6) المعتبرين المتأملين.(2/1231)
هؤُلاءِ بَناتِي ليس إباحة البنات مطلقا، وإنما المراد التّزوج بنساء قومه لأن الرسول في القوم كالأب لهم. ومن فسّر كلمة بَناتِي ببنات صلبه، أراد ذلك على طريق المجاز، كما تقول لإنسان تراه يريد قتل آخر: «اقتلني ولا تقتله» . فإنما ذلك على جهة التشنيع عليه، واستدعاء الحياء منه، وحمله على العدول عن إجرامه، وهذا كله من مبالغة القول الذي لا يدخله معنى الكذب.
ثم أقسم الله بقوله: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) أي أقسم بحياتك وعمرك أيها الرسول- وفي هذا تشريف عظيم للوط- إنهم في غوايتهم يتحيّرون، وفي ضلالتهم يتردّدون أو يلعبون.
فنزلت فيهم صيحة جبريل عليه السّلام، وهي ما جاءهم من الصوت القاصف المرعب، عند شروق الشمس، فجعلت القرية أو المدينة عاليها سافلها، أي انقلبت في الأعماق، وانقلب القوم فيها، وأنزل الله تعالى عليهم حجارة من طين متحجر طبخ بالنار وهو السّجيل. لقد اقتلع جبريل عليه السّلام المدينة بجناحه ورفعها، حتى سمعت ملائكة السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب، ثم قلبها، فمن سقط عليه شيء من ردم المدينة مات، ومن أفلت منهم أصابته حجارة من سجّيل: وهي الحجارة المطبوخة من الطين كالآجرّ ونحوه.
إن في هذا الصنيع بقوم لوط من الهلاك والدمار، وإنجاء لوط وأهله المؤمنين لدلالة وعبرة للناظرين المتأمّلين المعتبرين، وإن مدينة سدوم التي أصابها هذا العذاب لهي طريق واضحة للمسافرين المارّين بها، فما تزال آثارها باقية إلى اليوم، في وادي الأردن. وفي ذلك أيضا لدلالة واضحة للمؤمنين بالله ورسله بأن العذاب انتقام من الله لأنبيائه.(2/1232)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
قصّة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر
تتوالى الإنذارات والتحذيرات للناس حتى يؤمنوا، ويتخلّوا عن الكفر، وتتكرر أحداث قصص الأنبياء مع أقوامهم الغابرين، ليعلم الجاحدون الكافرون أن العذاب والعقاب الدّنيوي والأخروي سينزل بهم دون شفقة ولا هوادة، وليتّعظ العقلاء من تلك الأحداث الرّهيبة، فيبادروا إلى إعلان إيمانهم بالله الواحد الأحد، ويستقيموا على الجادة المستقيمة، فيظفروا بعزّ الدنيا وسعادة الآخرة. وهاتان قصّتان متعاقبتان بعبارات موجزة لتحقيق العبرة من أقرب الطرق، وهما قصّتا أصحاب الأيكة قوم شعيب، وأصحاب الحجر قبيلة ثمود قوم صالح. قال الله تعالى:
[سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 86]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)
«1» «2» «3» [الحجر: 15/ 78- 86] .
القصة الأولى في هذه الآيات: قصة أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب علما بأن مدين وأصحاب الأيكة بعث الله إليهما شعيبا عليه السّلام، لقد كان هؤلاء القوم ظالمين بشركهم ووثنيتهم، وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان، فعاقبهم الله، وانتقم منهم جزاء كفرهم وظلمهم، بيوم الظّلّة: وهو تسليط الحرّ عليهم سبعة أيام، ثم أرسل الله عليهم سحابة، فاستظلّوا تحتها، فاضطرمت عليهم نارا،
__________
(1) الأيكة: الغيضة والشجر الملتفّ المخضّر، ومن شجر السّدر ونحوه.
(2) أي بطريق واضح، وإنهما: يعود الضمير على قرى قوم لوط والأيكة.
(3) أصحاب الحجر: هم ثمود، والحجر: واد بين المدينة والشام، كانوا يسكنونه.(2/1233)
فأحرقتهم. قال الطبري: بعث شعيب إلى أمّتين كفرتا، فعذّبهم الله بعذابين مختلفين:
أهل مدين عذّبوا بالصيحة، وأصحاب الأيكة عذّبوا بالظّلّة.
وإن كلّا من قرى قوم لوط، وبقعة أصحاب الأيكة، لبطريق واضح، يسلكه الناس في سفرهم من الحجاز إلى الشام. وكلمة (إمام) أي الشيء الذي يهتدى به ويؤتم، كخيط البناء، والطريق، والكتاب المفيد، أو قياس الصانع، أو الرجل المقتدى به.
وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي إنّ، فكلمة (إن) هنا هي المخففة من الثقيلة على مذهب البصريين.
والقصة الثانية في هذه الآيات: هي قصة أصحاب الحجر، والحجر مدينتهم، وهي ما بين المدينة وتبوك، لقد كذبوا رسولهم ثمود، وعبّر عنه بكلمة الْمُرْسَلِينَ لأن تكذيب رسول واحد تكذيب الجميع لاتّفاق أصول دعوتهم في التوحيد وعبادة الله، ومكارم الأخلاق والفضائل، وتجنّب الرّذائل.
وكان قوم ثمود ممن أنعم الله عليهم، فأعطاهم من الآيات والدلائل ما يدلّهم على صدق نبوّة صالح عليه السّلام، كالناقة التي أخرجها الله من صخرة صماء، بدعاء صالح عليه السّلام، فأعرضوا عنها، ولم يعتبروا بها، وبادروا إلى عقرها.
وكانت لهم بيوت ينحتونها في الجبال، صاروا بها آمنين من الأعداء، من غير خوف، لقوّة إحكامها، وهي ما تزال مشاهدة على الطريق إلى تبوك.
فلما عتوا عن أمر ربهم، وبغوا، وعقروا الناقة، أخذتهم صيحة الهلاك في وقت الصباح، من اليوم الرابع للإنذار بالعذاب، كما قال الله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: 11/ 65] .
فما نفعتهم الأموال والديار حين حلّ بهم العذاب، ولم يستفيدوا من مكاسبهم(2/1234)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
وزروعهم وثمارهم، ولكنّ هؤلاء المكتسبين للدنيا، الذين لم يغن عنهم اكتسابهم، ليسوا في شيء، فإن السماوات والأرض وجميع الأشياء لم تخلق عبثا ولا سدى، وإنما خلقت بالحقّ، ولواجب مقصود، وأغراض لها نهايات، من عذاب ونعيم. وإن الساعة (القيامة) آتية على جميع أمور الدنيا، فلا تهتم يا محمد بأعمال قومك، فإن الجزاء لهم بالمرصاد، فاصفح عن أعمالهم، من غير عتب ولا تعرّض، وهذا يقتضي مهادنة.
ثم آنس الله نبيّه وسرّى عنه في آخر الآيات بأن الله تعالى يخلق ما شاء لمن شاء، ويعلم تعالى وجه الحكمة في ذلك، لا هذه الأوثان التي تعبدونها. وهذا تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة (القيامة) فإنه سبحانه خالق كل شيء، عليم بكل أجزاء الأجساد المتفتتة، والجميع صائرون إليه، محاسبون بين يديه.
توجيهات إلهيّة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم في تبليغ الدّعوة
اقتضت حكمة الله وخطّته أن يصفح النّبي صلّى الله عليه وسلّم صفحا جميلا عن أذى قومه ويعاملهم معاملة سلمية وادعة آمنة، بالرغم من كثرة المضايقات، واستدامة الإيذاء والإضرار، ومقابل هذا الصفح الجميل: إنعام الله على نبيّه بألوان النّعم الكثيرة المتوّجه بإنزال السّبع المثاني (الفاتحة) والقرآن العظيم عليه، فهو المعجزة الخالدة والمفخرة الدائمة، قال الله تعالى واصفا هذه النّعم وواضعا توجيهات للنّبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في تبليغ دعوته:
[سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 93]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93)
«1»
__________
(1) هي الفاتحة، التي تثنى وتكرّر قراءتها.(2/1235)
«1» «2» «3» [الحجر: 15/ 87- 93] .
يمتن الله تعالى على نبيّه، فيذكر له، تالله لقد أعطيناك وأنزلنا عليك أيها الرسول السّبع المثاني والقرآن العظيم. والسّبع المثاني على الراجح: هي الفاتحة المكونة من سبع آيات، تثنى وتكرر في كل ركعات الصلاة، والبسملة هي الآية السابعة، وقد خصّ الله أهل القرآن بها.
أخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّ القرآن هي السّبع المثاني والقرآن العظيم» . وخرّج التّرمذي من حديث أبي هريرة بلفظ آخر: «الحمد لله: أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسّبع المثاني» .
وترتيبا على هذا العطاء الإلهي السّخي العظيم لا تطمح أيها الرسول إلى ما متّعنا به أصنافا من الناس: وهم الأغنياء بزينة الحياة الدنيا ومتعها، فمن وراء ذلك عقاب شديد، واستغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية، وفاخر بما أوحي إليك، وقدّر عظمة نعمة الله عليك، ولا تنظر إلى الدنيا وزينتها، ولا تتأسّف على المشركين إذا لم يؤمنوا، لتقوية الإسلام والمسلمين، ولا لهلاكهم، وألن جانبك وتواضع للمؤمنين، ولا تجافهم ولا تقس عليهم، واصرف وجهك وعنايتك لمن آمن بك، كما جاء في آية أخرى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 3/ 159] .
ثم أمر الله نبيّه بإعلان مهمته وهي الإنذار المبين، فقال له: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
__________
(1) تواضع.
(2) هم في قول: أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم، وجزءوه أعضاء، آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
(3) أي جعلوه أقساما وأعضاء.(2/1236)
أي قل يا محمد للناس: إني منذر ومخوف من عذاب أليم شديد الوجع، أنذر كل من كذّب برسالتي وأعرض عن دعوتي، وتمادى في غيّه وضلاله، حتى لا يتعرّض لانتقام وتعذيب من الله كما فعل بالأمم المتقدمة.
وحدّد الرسول صلّى الله عليه وسلّم جهة الإنذار وعيّن المنذرين، وهم أهل الكتاب الذين فرّقوا دينهم، واقتسموا القرآن إلى أجزاء، فآمنوا ببعضه الموافق للتوراة والإنجيل، وكفروا ببعضه المخالف لهما، فاقتسموه إلى حقّ وباطل، وهم أيضا القرشيّون الذين اقتسموا طرق مكة، يصدّون الناس عن الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعددهم حوالي أربعين، أو ستة عشر رجلا، بعثهم الوليد بن المغيرة أيام موسم الحج، فاقتسموا طرق مكة يقولون لمن يسلكها: لا تغتروا بالخارج منّا، والمدّعي للنّبوة، فإنه مجنون، وكانوا ينفّرون الناس عنه واصفين إياه: بأنه ساحر، أو كاهن، أو شاعر، فأنزل الله تعالى بهم خزيا، فماتوا شرّ ميتة، هؤلاء الفريقان: الكتابيّون والقرشيّون هم الذين جعلوا القرآن عضين، أي أجزاء متفرّقة، آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وجعلوا القرآن سحرا وشعرا وكهانة، أي صيّروه بألسنتهم ودعواهم.
وكان جزاؤهم وعيدا محضا، يأخذ الله كل أحد منهم بحسب جرمه وعصيانه، يسألهم الله سؤال توبيخ وتأنيب عن أقوالهم وأعمالهم، ويجازيهم على أفعالهم الجزاء التّام. فالكافر يسأل عن (لا إله إلا الله) وعن الرّسل، وعن كفره وقصده. وكذلك يسأل المؤمن العاصي عن تضييع القرآن، ويسأل الإمام عن رعيّته، وكل مكلف عما كلّف القيام به، فيكون الضمير في قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) ضميرا عامّا يشمل جميع الناس المؤمنين والكافرين، كلّ بحسب جرمه وعمله. ويكون الإنذار أيضا لجميع الناس، سواء من اقتسم الكتاب الإلهي وجزّأه، فآمن ببعضه وكفر بالبعض الآخر، ومن ضيّع القرآن، فأخذ ببعضه وترك البعض الآخر.(2/1237)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
الجهر بالدّعوة الإسلامية
كانت الدعوة الإسلامية في مبدأ الأمر سرّية إلى حدّ ما، خشية الأذى، وتخلّصا من مضايقات القرشيين في مكة، الذين وقفوا بالمرصاد أمام نشر الدعوة الجديدة، وتفنّنوا في أنواع الأذى بالمؤمنين المستضعفين، ثم أمر الله نبيّه بالجهر بدعوته، وإعلانها، مهما كانت الظروف والصّعاب لأن الله تعالى عاصم نبيّه من السوء، وكاف له من شرور المعادين المستكبرين، وملحق الدمار والهلاك بالآفات بكل من قاوم الدعوة، وحاول تطويقها وصدّ الناس عنها، قال الله تعالى واصفا هذه المرحلة الجديدة من إعلان الدعوة:
[سورة الحجر (15) : الآيات 94 الى 99]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
«1» «2» [الحجر: 15/ 94- 99] .
نزلت آية: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) كما
أخرج البزار والطّبراني عن أنس بن مالك قال: مرّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبريل، فغمز جبريل بأصبعه، فوقع مثل الظفر في أجسادهم، فصارت قروحا حتى نتنوا، فلم يستطع أحد أن يدنو منهم، فأنزل الله:
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) .
صبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم كثيرا على أذى قومه وعداوتهم، ولكن الله تعالى الذي أمره بإنذار هؤلاء الجاحدين، وهدّدهم بالحساب العسير، أمره بعدئذ بالجهر بتبليغ دعوته للجميع، ومواجهة المشركين دون أي تحسّب من أذى أو صدود، أو تخوّف منهم،
__________
(1) فاجهر به.
(2) الموت المتيقن وقوعه.(2/1238)
فإن الله عاصمه وحافظه منهم. وما عليه إلا الإعراض عن زمرة صناديد المشركين الذين يريدون الصّدّ عن آيات الله تعالى. وهذا لون من المهادنة.
ثم أعلم الله تعالى نبيّه أنه كفاه المستهزئين به من كفار مكة ببوائق ومهالك من الله أصابتهم، لم يسع بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا تكلف فيها مشقّة. وكان المستهزئون العتاة خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن قيس من خزاعة وأمّه غيطلة.
وكان هؤلاء المستهزئون مشركين، فوصفهم الله بقوله: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) أي إنهم الذين يتّخذون إلها آخر مع الله، زورا وبهتانا، فيشركون به من لا يضرّ ولا ينفع، فسوف يجدون عاقبة أمرهم، ومآل شركهم، ومصير كفرهم. وهذا تهديد ووعيد لهم بسوء المصير، لعلهم يرتدعون، ويؤمنون بالله الواحد الأحد.
ثم واسى الله نبيّه عما يصيبه من أذى المشركين، فأوحى إليه: إنا لنعلم يا محمد أنك تتأذى من سخرية المشركين وشركهم، ويحصل لك ضيق صدر وانقباض، فلا يمنعك ذلك عن إبلاغ رسالة ربّك، وتوكّل عليه، فإنه كافيك وناصرك عليهم، ولا تأبه بما يقولون، فإن صاحب الرسالة يتجاوز العقبات، ولا يأبه بالصّعاب مهما كانت قاسية.
وتقوية لنفس النّبي صلّى الله عليه وسلّم وتعزيز صلته بربّه، أمره الله بمواظبة السّجود والعبادة التي هي الصلاة والأذكار، من تسبيح وتحميد وتهليل، فذلك كفيل برفع المعنويات، وثبات القلب، وقوة العزيمة، ومواصلة الجهاد الدّعوي إلى الله وحده، والأمر بمتابعة العبادة حتى يأتيه اليقين، أي الأمر المتيقّن وقوعه وهو الموت، وهذه الغاية معناها مدة الحياة.(2/1239)
ولقد ذكر الله من أجزاء الصلاة: حالة القرب من الله تعالى وهي السجود، فهو أكرم حالات الصلاة وأجدرها بنيل الرحمة.
جاء في الحديث الثابت الذي رواه الإمام أحمد: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر صلّى»
أي فزع إلى الصلاة عند اشتداد الأمر، وهذا منه عليه الصّلاة والسّلام أخذ بهذه الآية.
وتدلّ الآية على أن علاج ضيق الصدر، وتفريج الهموم والكروب والمصائب: هو التسبيح، والتقديس، والتحميد، والإكثار من الصلاة،
روى الإمام أحمد عن ابن عمار أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تعالى: يا بن آدم، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخرة» .
إن الصلاة تقوّي الصّلة بالله، وتعزّز الإيمان واليقين، وتزرع في القلب الطمأنينة والسكون: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي.. [إبراهيم: 14/ 40] .(2/1240)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
تفسير سورة النّحل
إثبات القيامة ونزول الوحي
يقوم الدين الإلهي على إثبات عقائد جوهرية ضرورية: هي التوحيد لله، والبعث أو القيامة، والوحي، والنّبوة أو الرّسالة، أما التوحيد فهو أساس الاعتقاد بالله ربّا واحدا وإلها فردا لا شريك له، وأما البعث أو القيامة فهو عالم الغيب، ومستقبل الدهر، ومجمع الناس ليوم الحساب، وأما الوحي الإلهي فهو همزة الوصل بين الله والعباد لتصحيح مسيرة الإنسان ووضع دستور الحياة للفرد والأمة، وأما النّبوة أو الرسالة، فهي وسيلة التّلقي للوحي الإلهي وإبلاغه للناس، ومجادلتهم، وإقناعهم بأصول العقيدة، ومنهج العبادة، وتصحيح المعاملة، والتزام الأخلاق الكريمة. وفي مطلع سورة النّحل التي تسمى سورة النّعم بسبب ما عدّد الله فيها من نعمه على عباده، وهي مكّية: تصريح وجيز بوقوع القيامة حتما، وتوحيد الله وتقواه، وإنزال الوحي على الرّسل بوساطة الملائكة، قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
«1» «2» [النّحل: 16/ 1- 2] .
__________
(1) تعاظم بذاته وصفاته.
(2) بالوحي.(2/1241)
سبب نزول هذه الآية: أن المشركين كانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قيام الساعة، أو إهلاك الله تعالى إياهم، كما فعل يوم بدر استهزاء وتكذيبا، ويقولون: إن صحّ ما يقوله، فالأصنام تشفع لنا، وتخلّصنا منه، فنزلت. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: أَتى أَمْرُ اللَّهِ ذعر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزلت: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فسكنوا.
موضوع الآية الأولى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ: إعلان أن الأمر الموعود به، وهو قيام الساعة، متحقّق حادث لا محالة، وأنه تعالى منزه عن الشريك والولد، فهو إله واحد لا شريك له. وموضوع الآية الثانية: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ: الإخبار بأن نزول الوحي بوساطة الملائكة، والتّنبيه على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمال القوة العملية، وأن النّبوة عطاء إلهي محض. والمراد من قوله سبحانه: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا معرفة الحق لذاته، وأما المراد من قوله تعالى: فَاتَّقُونِ فهو معرفة الخير لأجل العمل به.
لقد استعجل الكفار المشركون ما وعدوا به من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم استهزاء وتكذيبا بالوعد، فقيل لهم: أَتى أَمْرُ اللَّهِ قال فيه جمهور المفسرين: إنه يريد القيامة، وفيه وعيد للكفار. وعبّر عن وقوع القيامة بلفظ الماضي أَتى على جهة التأكيد أي للدلالة على التّحقق وثبات الأمر كأنه لوضوحه والثقة به وقع، وصار من الأحداث الماضية. ولم يكن هناك استعجال إلا ثلاثة أمور: اثنان منها للكفار في القيامة والعذاب، والثالث للمؤمنين في النصر وظهور الإسلام.
والمعنى: لما لم تقع القيامة بنحو سريع كما أخبر النّبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم قومه المشركين، نسبوه إلى الكذب، فأجابهم الله تعالى: قد حصل أمر الله وحكمه، ووجد من الأزل إلى الأبد، وتحقّق بنزول العذاب، إلا أن تنفيذ الأمر بإقامة القيامة(2/1242)
لم يحصل، لأن الله تعالى خصّص له وقتا معلوما بمقتضى علمه وحكمته وإرادته.
وهذا الخبر يتضمن تهديدا للكفار على كفرهم، وإعلاما لهم بقرب العذاب والهلاك.
فما عليكم أيها الناس إلا أن تؤمنوا بوجود الله ووحدانيته، سبحانه وتعالى عما يشركون، أي تنزه الله، وتعاظم عما ينسبون له من الولد والشّريك، وعبادة الأوثان والأنداد، وهذا إبطال لما عقدوا عليه الآمال من شفاعة الأصنام، فهو وهم خادع وسراب فارغ.
وعليكم أيضا أيها البشر ألا تستعجلوا القيامة، ولا تكذبوا النّبي ووعده ولا تستهزئوا بما قال، فإن نبوّة النّبي ثابتة يقينا، والله تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره، أي بالوحي المأمور به، على من يشاء من عباده الذين اصطفاهم واختارهم للرسالة وهم الأنبياء والرسل، ولا يكون نزول الوحي إلا بأمر الله تعالى، وأنه يحصل بوساطة الملائكة. ومهمة الرّسل إنذار الكفار وإعلامهم بأنه لا إله إلا الله، فهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا ندّ ولا نظير، فاتّقوا أيها الناس عقاب الله، ومخالفة أمره، وعبادة غيره.
لقد أجابت هاتان الآيتان عن شبهات ثلاث للمشركين: قيام الساعة، ونزول العذاب، والشّرك والشّركاء، والنّبوة والوحي.
براهين قدرة الله تعالى
هناك في الكون المشاهد أدلة قاطعة على صفات الربوبية، فمن اتصف بها ثبتت له صفة الألوهية، ومن خلا منها لم يستحق وصفه بالرب أو الإله، وإننا لأول وهلة أو نظرة متأملة نجد أن من اتصف بالحياة والعلم والقدرة والإرادة النافذة يحق له أن يخلق ويخترع ويعيد، وهذه هي صفات الرب، عز وجل، بخلاف الشركاء المزعومين(2/1243)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
تألها، لا يحق لهم شيء من صفات الربوبية، لانعدام صفة الحياة الدائم والعمل الشامل والقدرة الكاملة والإرادة النافذة، وهذا ما نجده مصرحا به في آيات القرآن التالية:
[سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 9]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
«1» «2» «3» «4» »
«6» «7» «8» «9» «10» «11» [النّحل: 16/ 3- 9] .
هذه مظاهر الإبداع الإلهي، أبدع الله تعالى العالم العلوي وهو السماوات والعالم السفلي وهو الأرض ومحتوياتها، فذلك تنبيه على قدرة الله تعالى، خلقها الله بالحق، أي بالواجب اللائق، وبالحكمة والتقدير المحكم، لا عبثا، ولا مصحوبة بالخلل والنقص، فتنزه الله عن المعين والشريك، لعجز ما سواه عن خلق شيء، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا الربوبية سواه.
وأبدع الله تعالى خلق الجنس الإنساني، وكان هناك فارق واضح بين بدء الخلق واكتماله، ليظهر الفرق بينهما بقدرة الله، خلق الله الإنسان من نطفة مهينة ضعيفة، ثم صار خصما واضح الخصومة لربه، فتراه يجادل في توحيد الله وشرعه ويقول:
مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 36/ 78] نزلت هذه الآية لقول أبي بن خلف،
__________
(1) مني.
(2) شديد الخصومة بالباطل. [.....]
(3) الإبل والبقر والغنم والمعز.
(4) ما تتدفئون به من البرد.
(5) تجمل وتزين.
(6) وقت الرواج مساء ووقت التسريح صباحا.
(7) أمتعتكم الثقيلة.
(8) بمشتقها.
(9) بفعل مقدر أي وجعلناها زينة.
(10) بيان الطريق القويم.
(11) من السبيل مائل عن الحق.(2/1244)
حين جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعظم رميم، فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رمّ- أي بلي-؟ وقوله سبحانه في وصف الإنسان: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ إشارة إلى تعديد نعمة الذهن والبيان على البشر.
ومن مظاهر قدرة الله الشاملة وإنعامه على عباده أنه سبحانه خلق لهم الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وكان للناس فيها جمال في النظر وزينة حين سروحها إلى المراعي، ووقت رواحها ورجوعها عشاء منها، وهي بأصوافها وأوبارها وجلودها واسطة الدفء أي السخونة، وفيها منافع كثيرة أخرى بالأكل من ألبانها ولحومها، وبعون الإنسان بركوبها ونقل الأحمال على بعضها.
فهي تحمل أثقال الناس، أي أمتعتهم من مكان إلى آخر، حيث توجهوا بحسب اختلاف أغراضهم، ويعجزون عن نقلها وحملها إلى بلد آخر، لا يبلغونه إلا بشق الأنفس، أي بمشقة شديدة وعناء كبير، إن ربكم الذي سخّر لكم هذه الأنعام وذلّلها لكم كثير الرأفة والرحمة بعباده، حيث جعل هذه الأنعام لكم مصدر خير كبير ورزق وفير، وأداة نفع وجلب مصلحة.
ومن مظاهر قدرة الله أيضا أنه خلق الخيل «1» والبغال والحمير للركوب عليها والتزيّن والمفاخرة بها، ويتجدد الخلق كذلك، فهو سبحانه يخلق للناس غير هذه الحيوانات ويلهمهم صناعة وسائل نقل كثيرة مما نشاهده من النّعم الحديثة من قطارات وطائرات وسفن وسيارات وغيرها. مما لا يعلم به الإنسان، فإن مخلوقات الله تعالى من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر، بل ما يخفى عنه أكثر مما يعلم، وقد روي أن الله تعالى خلق ألف نوع من الحيوان، منها في البر أربع مائة، وبثّها بأعيانها في البحر، وزاد فيه مائتين ليستا في البر.
__________
(1) سميت الخيل خيلا لاختيالها في المشية.(2/1245)
ثم قال الله تعالى مضيفا نعمة أخرى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ «1» وهذه من أجلّ نعم الله تعالى، أي على الله تقويم طريق الهدى وتبيينه، بإقامة الأدلة، وبعث الرسل، وذلك تفضّل وتكرم من الله ببيان الطريق الواضحة الموصلة إلى الحق والخير، ومن الطرق المخلوقة للعبرة والامتحان طرق جائرة حائدة عن الاستقامة، مؤدية إلى الضلالة، وعلى العاقل أن يكون حذرا منها، غير متورط بها.
ولو شاء الله لهدى الناس جميعا إلى ما يحبه ويرضاه، أي لو شاء لخلق الهداية في قلوب جميع الناس، ولم يضل أحد. ولكن الله سبحانه لم يفعل ذلك لترك الحرية للبشر، يختارون الطريق التي يرونها، فيكون الحساب على هذا الاختيار والعمل بموجبه.
براهين أخرى على قدرة الله تعالى
لم يكتف القرآن الكريم بإيراد بعض الأدلة على قدرة الله تعالى، وإنما من أجل تقرير العقيدة وتمكينها في القلب، أورد الله سبحانه أدلة وبراهين أخرى كثيرة على قدرته الخارقة، لإثبات ألوهيته وربوبيته ووحدانيته، كيلا يبقى عذر لأحد في إنكار وجود الله، وسلطته الشاملة، وتفرده بإمداد النعم، والأفضال على بني الإنسان.
وهذه الآيات: آيات كونية فيها تعداد نعمة الله في المطر والزرع والنبات والثمار، وتبيان منافع الليل والنهار والكواكب والنجوم، وخلق أشياء كثيرة في الأرض اليابسة وفي البحار والمحيطات المائية، وتسخير السفن التي تجري فيها، وإلقاء ثوابت الجبال في الأرض وتفجير الأنهار فيها، وفتح الطرق في أنحائها وإقامة الأمارات والعلامات والنجوم على السير ليلا في آفاقها، قال الله تعالى:
__________
(1) السبيل: تذكر وتؤنث.(2/1246)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
[سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 16]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
«1» «2» «3» «4» «5» [النّحل: 16/ 10- 16] .
هذه جملة عظيمة من النعم الإلهية تدل على وجود الله ووحدانيته وقدرته وفضله وكرمه، وأول هذه النعم: إنزال المطر من السماء، أي السحاب، يستقي منه الإنسان والحيوان شرابا عذبا سائغا، ويسقي الأرض، فينبت عن هذا السقي الشجر والنبات مطلقا، لرعي الأنعام. ينبت الله بالمطر الزرع وشجر الزيتون والنخيل والعنب، ومن كل الثمار المختلفة اللون والنوع والطعم والمذاق والرائحة، إن في ذلك المذكور من إنزال الماء والإنبات لدلالة واضحة على وحدانية الله، لقوم يتفكرون في تلك الأدلة لأنه لا مبدع ولا موجد لها غير الله الخالق الأحد.
وهناك أدلة أخرى على قدرة الله من الآيات الكونية المشاهدة، وهي تعاقب الليل والنهار للاستراحة والعمل، ودوران الشمس والقمر، للإنارة والنفع، وتزيين السماء بالنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السماوات، نورا وضياء، أي إن هذه المخلوقات مسخرات مذللات على نحو ينتفع به البشر من السكون في الليل، والمعايش
__________
(1) أي ترعون.
(2) خلق.
(3) جواري فيه. [.....]
(4) جبالا ثوابت.
(5) أي خوف أن تضطرب وتميل بكم.(2/1247)
والمكاسب بالنهار، ومنافع الشمس والقمر للإنسان والنبات أكثر من أن تحصى، والنجوم هدايات وأضواء، إن في ذلك المذكور لدلالات واضحات لقوم يعقلون أسرارها، ويدركون فوائدها.
وفي الأرض عجائب، خلق الله فيها للناس أشياء مختلفة الألوان والأشكال والمنافع والخواص، من نباتات ومعادن وجمادات وحيوانات، إن في ذلك المذكور لدلالات على قدرة الله لقوم يتذكرون آلاء الله ونعمه، وأفضاله ومواهبه، فيشكرونه عليها. ومن نعم الله تعالى أيضا تذليله البحر للناس، وتيسيره للركوب فيه، وإباحته الأسماك المختلفة المستخرجة منه، واستخراج الحلي واللآلئ منه للبس والزينة، والاستفادة من المرجان، وعبور الفلك (السفن) فيه جيئة وإيابا، وطلب فضل الله ورزقه بالتجارة فيه، مما يوجب شكر نعمه وإحسانه على الناس بما يسّره لهم في البحار. وفي الأرض نعم كثيرة، أهمها ثلاث:
وهي تثبيت الأرض بالجبال الراسيات، كيلا تضطرب الأرض وتتحرك بأهلها، وإجراء الأنهار على وجه الأرض لتيسير الانتفاع بها، ففيها حياة الإنسان والحيوان والنبات، وإيجاد الطرق والمسالك التي تسهّل العبور والانتقال من أرض إلى أخرى، ومن بلد إلى غيره.
وفي الأرض أيضا علامات مخصوصة ومعالم طرق تشير إلى المواقع والبلدان، وهي الجبال والهضاب والرياح ونحوها التي يستدل بها المسافرون برا وبحرا، ويهتدي الناس في ظلام الليل بالنجوم. قال ابن عباس: العلامات: معالم الطرق بالنهار، والنجوم هداية بالليل.
وفي الجملة، أثبتت الآيات وجود الله ووحدانيته أولا بأجرام السماوات، وثانيا ببدن الإنسان، وثالثا بعجائب مخلوقات الحيوان، ورابعا بعجائب طبائع النباتات،(2/1248)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
وخامسا بأحوال العناصر وأولها عنصر الماء، وسادسا بعالم البحار والمحيطات وما فيها من عجائب، وسابعا بالجبال والأنهار والطرق في الأراضي، وثامنا بالنجوم المضيئة في الظلمات.
الله الخالق العالم
تظل قوى البشر وعلومهم مهما كانت عاجزة ضعيفة محدودة أمام قدرة الله، وعلمه الشامل للسر والعلن، والظاهر والباطن، فالله سبحانه هو المبدع الخالق الموجد للأشياء من العدم دون أن يسبق بشيء موجود، وأما الإنسان فقدرته لا تتجاوز تركيب الأشياء الموجودة والاستفادة من خواص المادة القائمة، والله عز وجل يعلم السر وأخفى الحاضر والمستقبل، ويعلم جميع ما في السماوات والأرض من أحوال الكائنات، وعلم الإنسان مقصور على بعض الظواهر المحيطة به، وعلى ما هو حاضر غير غيبي، وتفرّد الله بالقدرة الخلاقة المطلقة والعلم الذي لا حدود له دليل على ألوهيته، وعلى أن العاجز عن الخلق لا يستحق التأليه ولا العبادة، وهذا ما صرحت به الآيات التالية:
[سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 23]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
«1» «2» [النّحل: 16/ 17- 23] .
__________
(1) لا تحصروها.
(2) أي حقا أو لا محالة.(2/1249)
إن خواص الألوهية: هي الخلق والإبداع، وعلم السر والعلن، والحياة الأبدية دون أن يسبق الإله بشيء، ولا ينتهي عند حد، وهذه الآيات تذكر هذه الخواص، للإدلال على عظمة الله، وأنه لا يستحق العبادة والتقديس سواه، دون ما عداه من الأصنام والأوثان وغيرها التي لا تخلق شيئا، بل هي مخلوقة، أفمن يخلق الأشياء كمن لا يخلقها ويعجز عن إيجادها، أفلا تعتبرون وتتعظون أيها الناس؟! فإن معرفة ذلك لا تحتاج إلى تدبر وتفكر ونظر. ويستمر خلق الأشياء للناس بإيجاد النعم وأنواع الإحسان، وإن أردتم أيها البشر تعداد نعم الله وحسابها، لم تستطيعوا إحصاءها وضبط عددها، فإن نعم الله كثيرة دائمة، وفضله لا ينقطع في كل دقيقة من الأحوال، وهو سبحانه كثير المغفرة يتجاوز عن السيئات وعن التقصير في شكر النعمة، رحيم بالعباد، ينعم عليهم مع استحقاقهم للحرمان بسبب جحودهم وكفرهم.
إن قدرة الله على الخلق والإبداع هي أولى خواص الإله الحق، ودليل وجود الله، والخاصية الثانية هي أن الله يعلم الضمائر والسرائر، كما يعلم الظواهر، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، والظاهر والباطن.
وأما الأصنام وأمثالها من المخلوقات، فلها ثلاثة أوصاف، هي أنها لا تستطيع خلق شيء، بل هي مخلوقة، وهي جمادات لا أرواح فيها ولا حياة لها أصلا، أما الإله فهو الحي الدائم الذي لا يطرأ عليه موت أصلا، وتلك الأصنام لا تدري متى يبعث عبدتها من القبور، ومتى تقوم الساعة، فكيف يرتجى منها نفع أو تستطيع منع ضرر ما؟! وإذا كانت الأصنام وجميع المخلوقات لا تستحق التأليه لفقدها خواص الألوهية،(2/1250)
فإن الله تعالى هو إلهكم جميعا أيها الناس، وهو إله واحد، لا إله إلا هو، وهو المعبود الذي يستحق العبادة والطاعة بحق، ولا شريك له ولا ندّ ولا نظير، والإله يوم القيامة واحد أيضا. وفي هذا توعّد، فالذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرون وجودها، ولا يؤمنون بوحدانية الله، قلوبهم منكرة لتوحيد الله، وهم مستكبرون عن رفض معتقدهم فيها، وترك طريقة آبائهم في عبادتها، وهم يجمعون بين التكذيب بالله تعالى وبالبعث، لأن من صدّق بالبعث من القبور، فمحال أن يكذّب بالله تبارك وتعالى.
وختم الله هذه الآيات التي تسفّه عقول المشركين وتوبّخهم على شركهم بتهديد ووعيد على أعمالهم، فقال الله: لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أي حقا إن ربك القدير العليم يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون وغيرهم وما يعلنون، ويعلم إصرارهم على كفرهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء، إنه سبحانه يمقت ويجازي المستكبرين عن التوحيد، بل وكل مستكبر، إنه يعاقبهم ويجازيهم على أعمالهم، وقوله سبحانه: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وعيد عام في الكافرين والمؤمنين، يأخذ كل واحد منهم بقسطه. جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن ابن مسعود: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر.»
صفات المستكبرين
إن كل من يتنكر لعبادة الله جل جلاله، ويعرض عنها هو ممن اتصف بالاستكبار والغرور، والحماقة والجهل، وشأن المستكبرين البعد عن دائرة الحق والخروج عن دواعي المنطق والعقل، والاسترسال في الغواية والأهواء، ومصادمة الحقائق، ولو تأمل المستكبرون من كفّار مكة وأمثالهم حقيقة القرآن، وترفعوا عن(2/1251)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
الغرور، لكان خيرا لهم، ولو تفكروا في مستقبل الحياة بشيء من التعقل وبعد النظر، لبادروا إلى الإذعان لأوامر الله وعبادته وإعلان وحدانيته. قال الله تعالى مبينا أمراض هؤلاء المستكبرين وشبهاتهم الباطلة:
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [النّحل: 16/ 24- 29] .
تذكر هذه الآيات شبهات الذين لا يؤمنون بالآخرة، وينكرون النبوة، وهم مكذبون مستكبرون، والشبهة الأولى الخطيرة هي طعنهم في القرآن بأنه أساطير الأولين، أي أباطيل وترّهات القدماء. فإذا قيل لهؤلاء المتكبرين المكذبين الكافرين بالآخرة، وهم كفار مكة وأمثالهم: أي شيء أنزل ربكم؟ قالوا معرضين عن الجواب: لم ينزل شيئا، إنما هذا الكلام المتلو علينا أكاذيب وخرافات المتقدمين.
والسائل هو من بعض المشركين كالنضر بن الحارث وأمثاله من أعداء القرآن. إنهم بوصفهم القرآن بالأساطير يؤول أمرهم ويصير قولهم لتحمّل أوزارهم وآثامهم كاملة غير منقوصة يوم القيامة، وتحمل أوزار الذين يتّبعونهم جهلا بغير علم، فلا يعلمون.
__________
(1) أباطيلهم المسطرة في كتبهم.
(2) آثامهم.
(3) الدعائم.
(4) يذلهم بالعذاب.
(5) تخاصمون وتعادون الأنبياء فيهم.
(6) الذل والهوان.
(7) العذاب.
(8) أظهروا الاستسلام.
(9) مأواهم.(2/1252)
أنهم وقعوا في الضلال، بتقليدهم زعماء الكفر، ألا بئس شيئا يحملونه من الذنب ذلك الذي يفعلون.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس حديثا نصه: «أيما داع دعا إلى ضلالة، فاتّبع، فإن عليه مثل أوزار من اتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى هدى، فاتّبع، فله مثل أجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيء» .
وهناك شبه بين الكفار القدامى والكفار الجدد في عصر النبوة، فلقد مكروا جميعا لدين الله ورسله، واحتالوا لإطفاء نور الله، فأهلكهم الله تعالى في الدنيا، بتدمير مبانيهم من قواعدها، وإسقاط السقوف عليهم من فوقهم، وإبطال كيدهم، وإحباط أعمالهم، وإطباق العذاب عليهم من كل جانب، من حيث لا يحسون بمجيئه ولا يتوقعون حدوثه، قال ابن عباس: الإشارة ب الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى نمرود الذي بنى الصرح ليصعد به إلى السماء على زعمه، فلما أفرط في علوه، وطوّله في السماء فرسخين- على ما حكى النقاش- بعث الله عليه ريحا فهدمه، وخر سقفه عليه وعلى أتباعه، وهذا أيضا يشمل جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر، ونزلت به عقوبة من الله تعالى.
هذا عذابهم في الدنيا، ولهم عذاب آخر وهو أنه يوم القيامة يخزيهم، ويظهر فضائحهم، ويذلّهم إذلالا دائما، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى تقريعا لهم وتوبيخا:
أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي أين شركائي في زعمكم، أين آلهتكم التي عبدتموها من دوني وكنتم تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم؟ أحضروهم ليدفعوا عنكم العذاب.
قال العلماء المقرّون بالتوحيد لله: إن الذل والفضيحة والعذاب محيط اليوم بالكافرين الذين كفروا بالله، وأشركوا به ما لا يضرهم ولا ينفعهم. وهؤلاء(2/1253)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
الكافرون تتوفاهم الملائكة وتقبض أرواحهم، حالة كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي والتعريض للعذاب، ولكن لما حضرهم الموت وعاينوا العذاب، أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين: ما كنا مشركين بربنا أحدا، وما كنا نعمل شيئا من السيئات، فكذبهم الله في قولهم ورد عليهم بقوله: بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي لقد عملتم السوء كله وأعظمه، والله عليم بأعمالكم، فلا فائدة في إنكاركم، والله يجازيكم على أعمالكم، فادخلوا أبواب جهنم للاستقرار فيها، وذوقوا عذاب إشراككم بربكم، وأنتم خالدون ماكثون فيها إلى الأبد، وساء المقر مقر دار الهون، ومقام المتكبرين عن آيات الله تعالى واتباع رسله.
صفات المتقين وجزاؤهم
بعد أن ذكر الله تعالى صفات المكذبين بالقرآن، المستكبرين عن آياته، ذكر للمقارنة والموازنة صفات المؤمنين الذين يصدقون بالوحي الإلهي، وبالجزاء المرتقب في الدنيا والآخرة، بالإسعاد في الحياة، والظفر بمنازل الخيرات ودرجات السعادة في جنان عدن، والأشياء تتميز بأضدادها، فإذا كان جزاء المتكبرين عن عبادة الله والتصديق بما أنزل على رسله هو نيران جهنم، فإن جزاء المتقين الممتثلين أوامر الله هو نعيم الجنان، فيظهر الفرق جليا بين الفريقين، ويتميز المحسنون من الأشرار، وهذا ما أبانته الآيات التالية:
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
[النّحل: 16/ 30- 32] .(2/1254)
لما وصف الله تعالى مقالة الكفار الذين قالوا عن القرآن: إنه أساطير الأولين، عادل ذلك ببيان مقالة المؤمنين أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأوجب لكل فريق ما يستحق، لتباين المنازل بين الكفر والإيمان.
وإذا قيل لأهل التقوى والإيمان بالله ورسوله والمحسنين أعمالهم: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالوا: أنزل الله في الوحي على نبينا خيرا، من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا، ونعيم في الآخرة، بدخول الجنة، ودار الآخرة خير من دار الدنيا، ونعمت الدار دار المتقين الذين أطاعوا الله واجتنبوا نواهيه.
أخرج الإمام أحمد ومسلم عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيعطى بحسناته في الدنيا، فإذا لقي الله عز وجل يوم القيامة، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا» .
والسائل للمتقين: هم الوافدون من المشركين على المسلمين في أيام المواسم والأسواق، فكان الرجل يأتي مكة، فيسأل المشركين عن محمد وأمره، فيقولون: إنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين، ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه، فيقولون: أنزل خيرا.
ثم وصف الله دار المتقين بأنها جنات عدن، أي إقامة، تجري بين أشجارها وقصورها الأنهار، ونعيمها دائم ميسّر غير ممنوع، وللمحسنين في الدنيا ما يتمنون ويطلبون في الجنات، كما قال الله تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزخرف: 43/ 71] وهذا جزاء التقوى والمتقين، ومثل ذلك الجزاء الطيب، يجزى الله كل من آمن به واتقاه، وتجنّب الكفر والمعاصي، وأحسن عمله، وهذا حث على ملازمة التقوى، وإغراء للمتقين بالاستزادة من أعمال الخير.(2/1255)
وحال المتقين عند الاحتضار أو الموت على عكس حال الكفار والمشركين، تقبض الملائكة أرواحهم طاهرين طيبين من الشرك والمعصية وكل سوء، وتسلّم عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة عند قبض الأرواح، تقول لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي سلام عليكم من الله، وأمان لا خوف، وراحة لا مكروه، ادخلوا الجنة التي أعدها لكم ربكم بسبب أعمالكم الطيبة وأفعالكم الخيرة الحسنة، ولما بشرتهم الملائكة بالجنة، صارت الجنة كأنها دارهم، وكأنهم فيها، وهي خاصة بهم، لا يشاركهم فيها غيرهم، وهذا مثل الوارد في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) [فصّلت: 41/ 30] .
وقوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ عبارة عن صلاح حالهم واستعدادهم للموت، وهذا بخلاف ما قال الله تعالى في الكفرة: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي بالكفر والشرك والضلال. و (الطيب) : هو الذي لا خبث معه، ومنه قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزّمر: 39/ 73] .
وقوله سبحانه: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعبير عن قانون العدل، حيث جعل الله الأعمال أمارة لإدخال العبد الجنة، ولا يتعارض هذا مع
الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما: «لا يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» .
فهذا تعبير عن مقتضى الرحمة التي هي فوق العدل، ومن الرحمة أن يوفق الله العبد إلى أعمال برّة.
والقصد من الحديث نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة، وإنما دخول الجنة بمحض فضل الله وإحسانه وتعميم رحمته.(2/1256)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
تهديد المشركين بالعقاب
لقد كان مشركو مكة في أشد حالات العناد ومقاومة دعوة الرسول، والتحدي لأمره، دون مبالاة بعذاب إلهي، أو عقاب خطير، وكأنهم لم يتعظوا بأحداث الأقوام الغابرة الذين أنزل الله بهم ألوانا من عذاب الاستئصال، للعبرة والعظة، وحاولوا تعطيل إرادتهم ودورهم في اختيار الإيمان، ونسبوا الشرك لإرادة الله، وهو مجرد وهم وافتراء، ونسبة للأمور لغير مصدرها الصحيح، وهذه آيات كريمة تصور مواقف المشركين وتماديهم في الباطل:
[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 35]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)
«1» [النّحل: 16/ 33- 35] .
هدد الله تعالى بهذه الآيات المشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا، ومضمون التهديد: ما ينتظر كفار مكة وأمثالهم في التصديق بنبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ظالمي أنفسهم، أو أن يأتيهم أمر ربك بعذاب الاستئصال في الدنيا، كإرسال الصواعق أو الزلازل، أو قيام الساعة، وما يتعرضون له من الأهوال. وهذا وعيد شديد، يقصد به حثهم على الإيمان بالله ورسوله قبل نزول العذاب. وهذا الموقف المعاند له شبيه بفعل أسلافهم من الأمم، الذين عوقبوا بحق، وليس ظلما بوضع العقاب في غير موضعه، ولكنهم هم الذين
__________
(1) أحاط. [.....](2/1257)
ظلموا أنفسهم، بكفرهم بالله تعالى، وميلهم لعبادة الأصنام والأوثان. إنهم ظلموا أنفسهم، أي آذوها بفعلهم نفسه، وإن كانوا لم يقصدوا ظلمها ولا إذايتها.
لقد أصابهم جزاء عملهم في الدنيا والآخرة، ونزل بهم العقاب، وأحاط بهم العذاب، جزاء بما كانوا به يستهزئون، بالسخرية من الرسل حين توعدوهم بعقاب الله تعالى. فقوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فيه محذوف، يدل عليه الظاهر من الكلام، تقديره: جزاء بما كانوا يكسبون أو يستهزئون.
والآية تتضمن شبهة أخرى لمنكري النبوة الذين طالبوا بإنزال ملك من السماء، يشهد على صدق رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، بعد شبهة الزعم بأن القرآن أساطير الأولين. ثم أجاب الله تعالى عن شبهة ثالثة لمنكري النبوة، تصور جدلا من الكفار، وذلك أن أكثرهم كانوا يعتقدون وجود الله تعالى، وأنه خالقهم ورازقهم، ولكنهم زعموا أن شركهم بإرادة الله، فقالوا: يا محمد، نحن من الله بمرأى في عبادتنا الأوثان، واتخاذها زلفى تقرب إلى الله، ولو كره الله فعلنا لغيّره منذ مدة، إما بإهلاكنا، وإما بهدايتنا، ولو شاء الله الإيمان لآمنا، فكل من الإيمان والكفر من الله، ولا فائدة في مجيء الرسول، ويكون القول بالنبوة باطلا، ومقصودهم بهذا الطعن بالنبوة.
وهذا الزعم أعلنه المشركون حينما لزمتهم الحجج الدامغة، وأفلسوا عن إيراد الجواب المعقول، وأضافوا قائلين: لو شاء الله ما حرّمنا بعض المواشي، كالبحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك مما حرّموه، فيكون قولهم شاملا أمرين: أنهم لو شاء الله ما عبدوا هم ولا آباؤهم غير الله، ولا حرموا شيئا حال كونه من دون الله، والمراد ما حرموا شيئا مستقلين بتحريمه.
ثم جاء الرد القاطع من الله على هذا الموقف الذي لا يتفق مع العقل والحقيقة في شيء، ومضمون الرد: هو أن الله تعالى ينهى عن الكفر ولا يرضاه لعباده، وقد(2/1258)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
تذرع من قبلهم من الأمم بهذه الذريعة، وسبقهم إلى هذه النزعة الأولون من الكفار، والأمر ليس على ما ظنّوه من أن الله تعالى إذا أراد الكفر لا يأمر بتركه، بل قد أقام الله الأدلة لعباده، على صحة الإيمان والاعتقاد، وأرسل الرسل منذرين، وليس عليهم إلا البلاغ الواضح، وليس عليهم الهداية، والله تعالى لا يجبر أحدا على الهداية أو الضلالة، وإنما يختار الإنسان لنفسه ما يريد، والله سبحانه خلق للإنسان قدرة الاختيار، فلا يصح الاحتجاج بمشيئة الله، بعد أن خلق للناس من قدرة الاختيار ما يكفي.
إن التذرع بمشيئة الله لتسويغ الشرك والانحراف والعصيان شيء باطل، وعلم الله بوقوع الكفر وإرادته في وقوعه من إنسان شيء آخر لا صلة له بأصل الاختيار، فإن كل إنسان مسئول عما يفعل ويختار، وهو يجهل مراد الله، فكان عليه التزام أوامر الشريعة واجتناب نواهيها، ولا يصح له الادعاء بأن الكفر والضلال داخل في مراد الله وعلمه.
مهمة الرسل في الأمم
تعدد إرسال الرسل في الأمم المختلفة، لمهمة مشتركة جوهرية، هي الدعوة إلى عبادة الله، وترك عبادة الأوثان، والإيمان بالبعث واليوم الآخر، وقد جاهد الأنبياء والرسل في إثبات هذه الأصول والمعتقدات، وبيان الأمور المختلف فيها، وتقرير الإرادة الإلهية النافذة التي توجد كل شيء بأمر الله وكلمته التكوينية، وهي: كُنْ فَيَكُونُ.
فآمن جماعة بهذه العقائد وضل آخرون، فخسروا الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال:
[سورة النحل (16) : الآيات 36 الى 40]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)(2/1259)
«1» «2» «3» [النّحل: 16/ 36- 40] .
أبانت هذه الآيات عموم بعثة الرسل لكل الأمم، فكانت سنة الله في خلقه إرسال الرسل إليهم، وتضمنت رسالاتهم الدعوة لعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة الطاغوت: وهو كل ما عبد من دون الله من الأوثان والأصنام، والبشر والكواكب، والشيطان وغيرها. فمن الأقوام من آمن وهداهم الله إلى الحق، ووفّقهم لتصديق الرسل، ففازوا ونجوا، ومنهم من كفر بالله وكذبوا رسله، وضلّوا الطريق، فعاقبهم الله تعالى. أما من هداه الله، فإنه نظر ببصيرته وسار في طريق الخير، وأما من حقت عليه الضلالة، وهي المؤدية إلى النار حتما أو إلى عذاب الله في الدنيا، فإنه أعرض عن الحق وكفر واختار طريق الشر.
ثم أحال الله في توجيه علم الفريقين على الطلب في الأرض، فاسألوا أيها البشر عمن خالف الرسل، وكذب الحق، كعاد وثمود، كيف أهلكهم الله بذنوبهم، وانظروا كيف كان مصير المكذّبين رسلهم، لتعتبروا بعاقبتهم.
ثم آنس الله تعالى رسوله وواساه عما يقابل من جحود قومه، فقال له: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي: إن حرصك على هداية قومك لا ينفع، فإنها أمور محتومة، ولا يفيدهم حرصك إذا كان الله قد
__________
(1) كل معبود باطل.
(2) ثبتت.
(3) أوكدها.(2/1260)
أراد إضلالهم بسوء اختيارهم، والله لا يهدي من قضى بإضلاله، وأساء الاختيار، وليس لمن اختاروا الضلالة ناصرون ينقذونهم من عذاب الله وعقابه لأن أساس الحساب على الإيمان والكفر هو الاختيار، لا الإكراه والإلجاء.
ثم رد الله تعالى على شبهة خطيرة لمنكري النبوة، وهي إنكار البعث والحشر والنشر والحساب، فلقد أقسم المشركون كفار قريش واجتهدوا في الحلف، وأغلظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت، أي إنهم استبعدوا البعث، وكذبوا الرسل في إخبارهم إياهم به، لأن الميت يفنى ويزول. ذكر أن رجلا من المسلمين جاور رجلا من المشركين، فقال في حديثه: «لا والذي أرجوه بعد الموت» فقال له الكافر: «أو تبعث بعد الموت؟» قال: «نعم» فأقسم الكافر مجتهدا في يمينه أن الله لا يبعث أحدا بعد الموت، فنزلت الاية بسبب ذلك. وقوله تعالى: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ معناه بغاية جهدهم.
ردّ الله تعالى عليهم بقوله: بَلى فأوجب بذلك البعث، وقرر وقوعه ثم أكده بمصدرين مؤكدين بقوله: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أي بلى، سيكون ذلك، ووعد به وعدا حقا لا بد منه، ولكن أكثر الناس لجهلهم بقدرة الله خالفوا الرسل، ووقعوا في الكفر، وأكثر الناس في هذه الآية: هم الكفار المكذبون بالبعث. والبعث من القبور مما يجوّزه العقل، وأثبته خبر الشريعة على لسان جميع النّبيين.
وحكمة الله في البعث والمعاد هي ليبين الله للناس الحق الذي يختلفون فيه، ويقيم العدل المطلق، فيميز بين الخبيث والطيب، والعاصي والطائع، وقوله سبحانه:
لِيُبَيِّنَ متعلق بقوله: بَلى أي بلى يبعث ليبين، وليعلم الكافرون الذين أنكروا البعث والجزاء أنهم كانوا كاذبين في أيمانهم وأقوالهم وادعائهم أنه لا يبعث الله من يموت.(2/1261)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
وقضية البعث سهلة مرجعها لقدرة الله تعالى الشاملة لكل شيء، فالله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، إذا أراد شيئا من بدء الخلق والإعادة وبعث الأموات والمعاد، فإنما يتم بالأمر به مرة واحدة، فيكون كما يشاء الله، دون عناء ولا تردّد، ولا بطء ولا تكلف، كما قال سبحانه: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) [القمر: 54/ 50] .
حال مؤمني مكة في بدء الدعوة
(المهاجرون إلى الحبشة) كان الصراع شديدا وعنيفا في مكة المكرمة في بدء الدعوة الإسلامية، بين كفار مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت، وبين مؤمني مكة المعارضين لهم، وهم الذين هاجروا إلى الحبشة، إيثارا للسلامة، وبعدا عن الأذى والاضطهاد، فالكفار أنكروا البعث والقيامة، والمؤمنون آمنوا بكل ما جاء به الإسلام، وصبروا على إيذاء المشركين، وضحوا بأنفسهم وأموالهم وديارهم من أجل إعلاء كلمة الله. وقد أشاد القرآن بهم في الآيات التالية:
[سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 44]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
«1» «2» «3» [النّحل: 16/ 41- 44] .
__________
(1) لننزلنهم.
(2) الحسنة: عامة في كل أمر مستحسن يناله ابن آدم، ويشمل النصر على العدو، وفتح البلاد وتحقيق الآمال.
(3) كتب الشرائع.(2/1262)
الصحيح في سبب نزول هذه الآية: وَالَّذِينَ هاجَرُوا.. في المهاجرين إلى أرض الحبشة في المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية، لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية، وتشمل الآية كل من هاجر أولا وآخرا.
ومما لا شك فيه أن هؤلاء النخبة العالية من السابقين إلى الإسلام، لهم فضل كبير ومنزلة عظيمة، لمبادرتهم إلى الإيمان بدعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم في مبدأ الأمر، حيث قل الأتباع، وكثر الأعداء، واستبد الأقوياء بالضعفاء، وألجؤوهم إلى الفرار بدينهم، والهجرة من أوطانهم، انتصارا لمبدأ التوحيد، وإعلاء لكلمة الله، لذا استحقوا الخلود في تاريخ الأمة، وهو المراد بكلمة الحسنة عند بعض المفسرين، فهي لسان الصدق الباقي عليهم في غابر الدهر.
وكان جزاء هؤلاء المهاجرين عند ربهم إنزالهم في الدنيا منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب، فتكون الحسنة التي أنعم الله بها عليهم: هي المنزلة الطيبة، والمسكن المرضي، والموطن الأصلح وهو المدينة، كما قال ابن عباس والشعبي وقتادة. وقال مجاهد:
هي الرزق الطيب، قال ابن كثير: ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم، فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا، فإن من ترك شيئا لله، عوضه الله بما هو خير له منه، وكذلك أصبحوا سادة العباد والبلاد. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ. أي:
وثوابهم في الآخرة على هجرتهم أعظم مما أعطاهم الله في الدنيا، لأن ثوابه هو الجنة ذات النعيم الدائم الذي لا يفنى، ولو علم الكفار أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين المهاجرين، في أيديهم، الدنيا والآخرة، لرغبوا في دينهم.
لقد استحق هؤلاء المهاجرون هذه المنزلة العالية لأنهم صبروا على أذى قومهم، وعلى مفارقة الوطن المحبوب، وهو حرم الله مكة، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في(2/1263)
سبيل الله، وعناء السفر ومتاعب الغربة، وتوكلوا على ربهم، وفوضوا أمورهم إليه، فأحسن عاقبتهم في الدنيا والآخرة.
وكان من بين هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة أشراف المسلمين: عثمان بن عفان وزوجه رقية بنت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وجعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول، وأبو سلمة ابن عبد الأسود، في جماعة قريب من ثمانين، ما بين رجل وامرأة، صدّيق وصدّيقة رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم رد الله تعالى على شبهة كفار قريش في بشرية الرسل، حيث استبعدوا أن يكون البشر رسولا من الله تعالى، فأعلمهم الله مخاطبا رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أنه لم يرسل إلى الأمم إلا رجالا أوحى إليهم، ولم يرسل ملكا ولا غير ذلك. وقل لهم يا محمد:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي أسألوا أحبار اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، فإنهم يخبرون بأن الرسل من البشر.
لقد أرسل الله الرسل بالحجج والدلائل التي تشهد لهم بصدق نبوتهم، وبالكتب المشتملة على التشريع الرباني، وهي الزّبر، أي الكتب، وكما أنزلنا الكتب إلى من قبلك يا محمد، أنزلنا إليك القرآن، لتبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم من الشرائع والأحكام والحلال والحرام وقصص الأنبياء والأمم الماضية التي أبيدت لتكذيبها الرسل، ومن أجل أن يتفكروا وينظروا في حقائق الكون وأسرار الحياة وعبر التاريخ، فيهتدون ويفوزون بالنجاة في الدارين.
وهذه حقيقة تشريعية وواقعية، فإن من آمن برسل الله الكرام، وبالكتب الإلهية المنزلة، وعمل بما أنزل الله، حظي بسعادة الدنيا والآخرة، وتلك هي النعمة العظمى والغاية الكبرى للإنسان العاقل.(2/1264)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
تهديد الله أهل مكة الذين عادوا الإسلام
لا يتعجل الله سبحانه عادة بعقاب الكفار على كفرهم وظلمهم، وإنما يعطيهم الفرصة الكافية للنظر والتأمل، ومراجعة الحساب، وامتثال أوامر الله، فينذرهم مرة، ويحذرهم تارة، ويذكّرهم بمصير الظلمة العتاة الذين سبقوهم، وكل ذلك من أجل الحرص على صلاحهم وهدايتهم وتمكينهم من العودة القريبة لجادة الاستقامة وسلوك الطريق الأقوم، وهذا المنهج تقرره الآيات الكريمة التالية:
[سورة النحل (16) : الآيات 45 الى 50]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
»
«2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [النّحل: 16/ 45- 50] .
هذه آية تهديد لأهل مكة، في قول الأكثرين، ومعناها: أفأمن الكفار العصاة الذي يعملون السيئات ويمكرون بالناس في دعائهم إلى الضلال، ويسيئون إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويحاولون صد الناس عن الإيمان بدعوته، وهم أهل مكة، هل أمنوا أحد أمور أربعة؟
- أن يخسف الله بهم الأرض، كما فعل بقارون.
- أو أن يعجل الله لهم العذاب فجأة من حيث لا يشعرون به، كما صنع بقوم لوط.
__________
(1) يغيّب.
(2) أسفارهم.
(3) فائتين من عذاب الله بالهرب.
(4) أي مع تخوف وتوقع للبلايا، أو تنقص في الأموال والأنفس والثمرات.
(5) جسم له ظل.
(6) تنتقل من جانب لآخر.
(7) منقادة لحكم الله.
(8) أي صاغرون منقادون. [.....](2/1265)
- أو يأخذهم في تقلّبهم في الليل والنهار وفي أسفارهم ومتاجرهم واشتغالهم بالمعايش والمكاسب والملهيات، فلا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه.
- أو يأخذهم على جهة التخوف: وهو التنقص في الأموال والأنفس والثمرات، فإن الله تعالى لم يعجل بعذابهم، ولم يعاجلهم بالعقوبة لأنه رؤف رحيم بعباده، فترك لهم فرصة يتمكنون من تلافي التقصير، واستدراك الأخطاء، والعدول عن الضلال.
جاء في الحديث الصحيح: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم» .
وهذه الإنذارات تتطلب التذكير بقدرة الله الشاملة والخارقة، لذا جاء التذكير بإبداع المخلوقات السماوية والأرضية، وهي ألم ينظر هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من شيء له ظل، من جبل وشجر وبناء وجسم قائم، تتميل ظلاله «1» من جانب إلى جانب، ذات اليمين وهو المشرق، وذات الشمال وهو المغرب، بكرة وعشيا، أي في الغداة أول النهار، وفي المساء آخر النهار، وتلك الظلال ساجدة لأمر الله وحده، والسجود: الانقياد والاستسلام، وهم صاغرون خاضعون منقادون لله، لأن الظلال تتحول من جهة المشرق إلى جهة المغرب، وهذا الانتقال دليل على القدرة الإلهية، وبعبارة أخرى: أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال، متفيئة عن أيمانها وشمائلها، أي عن جانبي كل واحد منها وشقّيه، ترجع الظلال من جانب إلى جانب، منقادة لله، غير ممتنعة عليه، فيما سخرها له من التفيؤ، كما أن الأجرام المادية في أنفسها صاغرة منقادة لأفعال الله، لا تمتنع.
وهذا في الجمادات، ثم ذكر الله سجود الأحياء، فلله يسجد كل ما في السموات
__________
(1) يتفيأ ظلاله في قراءة الجمهور، وقرأ أبو عمرو وحده: ((تتفيأ)) . قال أبو علي الفارسي: إذا تقدم الفعل المسند إلى مثل هذا الجمع، فالتذكير والتأنيث فيه حسنان.(2/1266)
والأرض من الدوابّ والملائكة، والحال أنهم لا يستكبرون أبدا عن عبادته، وعن أي شيء كلفوا به، فهم في تذلل دائم وخضوع لله تعالى. يخاف هؤلاء الملائكة والدواب الأرضية المخلوقة ربّهم المهيمن عليهم من فوقهم بالقهر والغلبة، ويفعل الملائكة كل ما يؤمرون به، فهم مثابرون على طاعته تعالى، وامتثال أوامره، وترك زواجره، وكذلك المؤمنون يأتمرون بأوامر الله بحسب الشرع وواجب الطاعة، وأما غير المؤمنين من الحيوان فيأتمرون بالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى أمر الله.
والمراد بالفوقية: علو الرتبة والشرف، والقدرة والهيمنة.
إن المقصود من هذه الآيات: هو أنه على أهل مكة الماكرين بالنبي وبالمؤمنين أن يحذروا عقاب الله، فإن الله قادر على تعذيبهم عاجلا أو آجلا، ودليل قدرته وعظمته وكبريائه خضوع كل شيء له في السماوات والأرض، من جماد ونبات وحيوان وإنس وجنّ وملائكة.
وإن تبدل أحوال الكائنات وتغير أوضاعها من زيادة ونمو ونقص، وارتفاع وانخفاض، واتساع وضيق، دليل على أن الله الذي كونها على هذا النحو، أراد بذلك التذكير بالمتصرّف فيها، والمبدّل لأحوالها، وليكون ذلك لخير الإنسان وتمتعه بأوصاف الكمال والجمال الإلهي، لأن ثبات الشيء على حال واحدة مملّ وممجوج، وفي التغير حركة مسلّية وتذكير بقيمة الوقت وحقائق الأشياء.
النهي عن تعدد الآلهة
الدعوة إلى توحيد الله، والنهي عن الشرك والإشراك بالله هو جوهر الدعوات التي جاء بها النبيون في مراحل التاريخ المتعاقبة لأن الشرك باطل ومناف للواقع، وهو وكر الخرافات والأوهام والأباطيل، ويتنافى مع كرامة الإنسان وعزته وصلته(2/1267)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
بربه، فالواجب عبادة الله وحده واتقاؤه، والتماس الخير والنفع، ودفع الشر والضرر منه وحده دون غيره، ولا سيما في أوقات الأزمات والمحن، مع الحفاظ على نعمة الشكر لله دون كفران النعمة بعد توافرها، قال الله تعالى مبينا هذه الأصول:
[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 55]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
«1» «2» [النّحل: 16/ 51- 55] .
هذه الآيات نهي صريح قاطع من الله تبارك وتعالى عن الإشراك به، وتقرير واجب لمبدأ توحيد الله، والالتزام بمقتضياته من عبادته وحده، وشكره على نعمه وأفضاله. ومعناها: لا تتخذوا إلهين اثنين، وكلمة اثْنَيْنِ تأكيد للتنفير من التعدد، أي لا تتخذوا لي شريكا، ولا تعبدوا سواي، فمن عبد مع الله إلها غيره، فقد أشرك به، إنما الله إله واحد، ومعبود واحد، فإياه فارهبوا أيها البشر، وخافوا عقابه بالإشراك وعبادة سواه. ويكون المبدأ الأصيل في الدين: هو أن لا إله إلا الله، وأن العبادة لا يستحقها غيره.
ولما كان الإله الحق واحدا، والواجب لذاته في العبادة واحدا، كان كل ما سواه من الأشياء مما يعقل وما لا يعقل، حاصلا بخلقه وتكوينه وإيجاده، فلله جميع ما في السموات «3» والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، فهو خالقهم ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، وهم عبيده ومملوكوه، وله الدين واصبا، أي له الطاعة والانقياد والملك والعبادة على سبيل الدوام والاستمرار، وبعد أن عرفتم أن إله العالم واحد، وعرفتم
__________
(1) أي له الطاعة والإخلاص دائما واجبا خالصا.
(2) أي تضجون بالدعاء.
(3) السموات هنا: كل ما ارتفع من الخلق في جهة فوق، فيدخل فيه العرش والكرسي.(2/1268)
أن كل ما سواه محتاج إليه في وقت إحداثه وفي وقت بقائه وحياته، فكيف يتقى غير الله أو يرهب غير الله تعالى؟! وإذا كان الواجب ألا يتقى غير الله، فالواجب ألا يشكر غير الله، لأنه ما من نعمة بنا من إيمان وسلامة جسد وعافية، ورزق ونصر ونحو ذلك، إلا وهي من الله عز وجل، ومن فضله وإحسانه.
ومفاد الآية: أن على العاقل ألا يخاف ولا يتقي أحدا إلا الله، وألا يشكر أحدا بحق إلا الله تعالى، لأن جميع النعم من الله عز وجل.
وإذا تعرض الناس لسوء أو ضرر في النفس من مرض أو خوف أو مشقة ونحو ذلك، فإلى الله يلجأون ويضجون بالدعاء والسؤال لتفريج الكرب وإزالة الهم، للعلم بأنه لا يقدر على إزالته إلا الله تعالى.
فإذا كشف الله الضر، وزال الخوف، وتحققت السلامة والنعمة، وانقسم الناس فريقين، فريق منهم بقي على الإيمان والشكر لله، وفريق نسي النعمة، فأشرك بالله غيره في العبادة. وهذا الفريق هم المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالا من شفاء المرضى وجلب الخير ودفع الضر، فهم إذا شفاهم الله مثلا من أمراضهم، عظموا أصنامهم، وأضافوا ذلك الشفاء إليها، وهذا مثار عجب واستغراب، فهم في الشدة يضرعون إلى الله، وفي الرخاء ينسون جانب الله سبحانه.
ويصير أمر هؤلاء المشركين الوقوع في الكفر والضلال، وإن لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، والأظهر أن الكفر هنا كفر النعمة، لذا استحقوا الوعيد والتهديد، فقال الله لهم: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي اعملوا بما شئتم، وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا في الحياة الدنيا، فسوف تعلمون عاقبة تمتعكم، وما ينزل بكم من العذاب، وتدركون حينئذ سوء ما أنتم عليه. وهذا الأمر المراد به التهديد كثير في آيات القرآن(2/1269)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
الكريم، مثل آية: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 18/ 29] . وآية: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا [الإسراء: 17/ 107] . وليس هذا على سبيل التخيير، وإنما يراد به الوعيد والتهديد. ومعنى التمتع في هذه الآية: «فتمتعوا» الاستمتاع والانتفاع بالحياة الدنيا التي مصيرها إلى الفناء والزوال.
والغاية من الآيات: الإقرار الدائم بوحدانية الله، لأنه هو الخالق ومالك السماوات والأرض، فيستوجب العبادة لله وحده، والشكر له وحده، لأنه ما من نعمة على المخلوق إلا والله هو المنعم المتفضل بها، وما من محنة إلا والله هو المفرج للكرب منها، فهو الرؤوف الرحيم بعبده.
عقيدة المشركين في الأصنام والملائكة والبنات
إذا ساء الاعتقاد بالشيء ساء التصرف، وإذا حسن الاعتقاد حسن التصرف، ودليل هذا القانون أن المشركين الوثنيين الذين يعبدون الأصنام والأوثان لا تستند عقيدتهم فيها إلى منطق أو رأي مقبول، وكل ما يستندون إليه هو تقليد الآباء، فهانت أنفسهم وتصرفوا تصرفات بدائية عجيبة لا يدركون فيها سوء فعلهم وانتفاء النفع من أعمالهم، أما المؤمنون الذين آمنوا بالإله الخالق المنعم، فتراهم يفعلون الأفعال بما ينبئ عن حسن التّصرف، ويتّفق مع المنطق والحكمة والواقع، وقد أورد القرآن دليل الشقّ الأول من هذا القانون في الآيات التالية:
[سورة النحل (16) : الآيات 56 الى 59]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59)
«1»
__________
(1) تكذبون على الله.(2/1270)
«1» «2» «3» [النّحل: 16/ 56- 59] .
هذه الآيات تبين فضائح العرب المشركين، وأعمالهم السيئة التي لا يقرها المنطق السوي، لعلهم يرجعون ويثوبون إلى رشدهم، وهنا ألوان ثلاثة من أقوالهم وتصرفاتهم القبيحة:
أولا- أنهم من غير حجة ولا برهان صحيح مقبول يجعلون للأصنام، أي للجمادات نصيبا من رزق الله، حيث يذبحون لأصنامهم، ويهدون إليها الهدايا، ويقسمون لها من الغلات والنتاج، فهم لا يدركون أن الأصنام لا تضر ولا تنفع، وهم بهذا أجهل الجاهلين، مما اقتضى الإنكار عليهم لمصلحتهم في آيات قرآنية كثيرة، منها ما ذكر هنا، ومنها قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (13) . [الأنعام: 6/ 136] .
ثم توعدهم الله تعالى على أفعالهم هذه وأمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقسم لهم أنهم سيسألون عن افترائهم الباطل، وسيجازون عليه أتم الجزاء في نار جهنم، كما جاء في آية أخرى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 15/ 92- 93] .
ثانيا- من قبائح قول الكفار أنهم يقولون: «الملائكة بنات الله» وعبدوها مع الله سبحانه، أي تنزه عن الولد والشريك، كما جاء في آية أخرى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 43/ 19] . فأخطؤوا خطأ كبيرا إذ نسبوا إليه تعالى
__________
(1) أي ممتلئ غما وحزنا.
(2) يستخفي.
(3) أي هوان وذل وبلاء.(2/1271)
الولد، ولا ولد له، ثم أعطوه أخسّ القسمين من الأولاد وهو البنات، وهم لا يرضونها لأنفسهم، لإيثارهم نسبة الذكور إليهم، كما قال الله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)
[النجم: 53/ 21- 22] . أي جائرة. وقوله تعالى:
وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أي إنهم يختارون لأنفسهم البنين، ويأنفون من البنات التي نسبوها إلى الله تعالى.
ثالثا- ومن قبيح أفعال المشركين أنه إذا بشر أحدهم بولادة الأنثى، ظل وجهه مسودّا، أي كئيبا عابسا من الهم، وهو كظيم، أي ساكت من شدة الحزن والهم.
يتوارى من القوم، أي يكره أن يراه الناس، من سوء ما بشّر به وهو الأنثى، وهو متردد بين أمرين: أيمسك المولود الأنثى على هوان وذلّ وعار وكراهة فقر، لأنها لا تغزو كالولد الفتى، أم يدفنها في التراب وهي حيّة، وذلك هو الدس في التراب أو الوأد المعروف المذكور في قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) [التكوير: 81/ 8- 9] . ألا بئس ما قالوا، وما قسموا وما نسبوا لله تعالى، فإن رزق جميع الأولاد والمخلوقات على الله تعالى. والتبشير في أصل اللغة: هو الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه، سواء في حال السرور أو في حال الحزن، وعرفا يستعمل في الخبر السار.
هذه هي الألوان الثلاثة من سوء أفعال المشركين وحكمهم: وهي عبادة الأصنام والتقرب إليها بالذبائح، ونسبة البنات إلى الله، والتبرم والتسخط بولادة الأنثى، وهي نماذج من عقيدة الشرك التي تؤدي بأصحابها إلى مثل هذه القبائح والأحكام الجائرة التي تتنافى مع أصول الحضارة الإنسانية، وتدلّ على انحدار الفكر، وضعف العقل، وفساد الرأي. لذا جاء الإسلام بشرعه يهدم هذه الأفكار، ليقيم بذلك حضارة صحيحة تقوم على التوجه نحو الله وحده لا شريك له، وتحترم الإنسان أيا كان، ذكرا أم أنثى.(2/1272)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
اتصاف المشركين بصفة السوء
على الرغم من انحطاط مستوى الشرك والمشركين، يوازن الله تعالى بين ما هم عليه من أوصاف السوء والشّبه القبيح، وبين ما عليه الرب ذاته من الوصف الأعلى والكمال المستقر المتنزه عن أي شريك أو شبيه أو ولد، ومع هذه المقارنة، يحلم الله على الظلمة من الناس، الذين يكفرون به فلا يعجل بإنزال العقاب عليهم، وإنما يؤخرهم لأجل آخر معين في علمه وتقديره، وحينئذ يأتي العذاب الشديد بعد الإمهال وفوات الأوان من غير استفادة من الفرص الفائتة، وهذا ما وصفته هذه الآيات الكريمة:
[سورة النحل (16) : الآيات 60 الى 62]
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
«1» «2» «3» «4» [النّحل: 16/ 60- 62] .
تصف هذه الآيات مواقف المشركين في الجملة، فهم بعدم تصديقهم بالآخرة وما فيها من حساب وعقاب وجنة ونار، لهم مثل السوء، والصفة التي لا أسوأ منها في القبح، فضلا عن نسبتهم البنات لله تعالى، وكراهة الإناث ووأدهن خشية الفقر أو الإملاق، والإقرار على أنفسهم بالشح البالغ. ولله تعالى الصفة العليا والكمال المطلق، فهو الإله الواحد المنزه عن الولد والوالد والشريك، وهو الغني عن العالمين، والمنزه عن صفات المخلوقين، وهو الجواد الكريم، والبرّ الرؤوف الرحيم، وهو سبحانه العزيز، أي القوي الذي لا يغلب، الحكيم في صنعه الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة السديدة، ووضع الأمور فيما يناسبها.
__________
(1) صفته القبيحة.
(2) أي: الجنة.
(3) حقا أو لا محالة.
(4) أي: متروكون في النار، مقدّمون إليها.(2/1273)
واقتضت رحمته تعالى أن يمهل الكفار، ولا يعاجلهم بالعقاب، ويحلم على سوء تصرفاتهم وظلمهم، فلو أنه يؤاخذهم بذنوبهم ومعاصيهم ويعاقبهم على جرمهم على الفور، ما ترك على ظهر الأرض من دابة، وأهلك جميع دواب الأرض، تبعا لإهلاك بني آدم، ولكنه جل جلاله ستّار غفور رحيم، يؤخرهم إلى أجل مسمى، فلا يعجل لهم العقوبة، لأنه لو فعل ذلك بهم، لما أبقى أحدا.
روى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بلى والله، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم.
فإذا حان أجل العقاب والهلاك والعذاب، وذلك بحسب مقتضى الحكمة، فلا يستأخرون ساعة، ولا يتقدمون قبله، حتى يستوفوا أعمارهم.
روى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة، يرزقها الله العبد، فيدعون له من بعده، فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر» .
ثم يؤكد الله تعالى سوء فعل المشركين حين ينسبون إلى الله ما يكرهون لأنفسهم من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيد الله، وهم يأنفون أن يكون لأحدهم شريك في ماله. ويكذبون في دعواهم أن لهم العاقبة الحسنة في الدنيا، وفي الآخرة، وهي الجنة على هذا العمل. روي أنهم قالوا: إن كان محمد صادقا في البعث، فلنا الجنة بما نحن عليه، فردّ الله عليهم مقالهم بقوله: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي حقّا أن لهم النار التي تحرقهم، وأنهم متروكون فيها، أو معجل بها إليهم، وهم في العذاب باقون.
ومعنى الآية بإيجاز: يجعلون لله المكروه، ويدّعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة،(2/1274)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
كما تقول لرجل: أنت تعصي الله، وتقول- مع ذلك-: إنك تنجو، أي إن ذلك لبعيد مع هذا.
إن مثل هذا التفكير هو شأن المغرورين الحمقى الذين نجدهم في كل زمان ومكان، إنهم مقصرون في طاعة الله تعالى، متجاوزون للحد في معاصي الله، ثم يتأملون أنهم في الجنان، وأنهم ناجون غير محاسبين، وهذه صفة الأبله والأحمق الذي لا يدرك ما يقول.
وعيد المكذبين للرسل
لم يهمل الله أمة من الأمم في بيان طريق إسعادها واستقامتها، فأرسل لهم الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين، ومرشدين إلى الحق والطريق الأقوم، ولكن الأمم في الغالب كذبوا الرسل وعادوا منهج الإصلاح، وصبر الأنبياء في تبيان مهامهم وإيضاح وحي ربهم وكتبه، وردّ الشبهات التي يوردونها، ومجادلتهم بالحسنى وإقناعهم بالكلمة الطيبة، ولم يختلف منهج رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الخطة، وكان له أسوة بمن سبقه، قال الله تعالى مبينا موقف الأمم من الرسل وتبليغ الرسل وحي الله تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 63 الى 64]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
[النّحل: 16/ 63- 64] .
هذه الآية لضرب المثل بالأمم الماضية، تتضمن الوعيد والتهديد لهم ولمن سار على منوالهم، وهي أيضا تأنيس للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعقد المقارنة أو الموازنة بين موقف قومه ومواقف الأمم السابقة، فلا داعي لإيقاع نفسه في دائرة الهموم والأحزان بسبب صدود قومه عن رسالته، وجهالتهم وعنادهم.(2/1275)
والمعنى: والله، لقد أرسلنا رسلا إلى الأمم الخالية من قبلك، فكذبت الأمم رسلها، وحسّن لهم الشيطان أعمالهم من الكفر وعبادة الأوثان، فيكون الشيطان ولي الكفرة المشركين في اليوم المشهود، وهو يوم القيامة وقت الحاجة والفصل، أي إنه قرينهم في النار في هذا اليوم، ويكون للشيطان وأتباعه عذاب مؤلم شديد بسبب اشتراكهم في عصيان الله. والسبب في ذلك: أن أعداء الرسل والهداية الربانية في الأمم السابقة اتخذوا الشيطان ناصرا لهم في الدنيا، بحسب زعمهم، وحسبوا أن الشيطان ينقذهم من العذاب وهو في الواقع يغرهم ويخدعهم ويسوقهم إلى العذاب، فلا تنفعهم ولايته ونصرته.
والعبرة من حكاية هذا الواقع للأمم الماضية تأنيس النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يحزن على تكذيب قومه له، فله أسوة بالمرسلين من قبله، وعليه أن يترك المشركين الذين كذبوا الرسل في غيّهم وضلالهم، فإنما وقعوا فريسة لتزيين الشيطان لهم ما فعلوه.
ولكن العدل الإلهي والرحمة الربانية اقتضيا ألا يكون هلاك وعقاب في الدنيا إلا بعد بيان الحجة وإقامة البرهان على الاعتقاد الحق والإيمان الصحيح، فقال الله سبحانه: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ.. أي: إنما أنزلنا عليك القرآن لهدف واضح، وهو أن تبين للناس الذي يختلفون فيه في العقائد والعبادات، فيعرفوا الحق من الباطل، والقرآن العظيم هو كلمة الفصل، والقرار الحاسم بين الناس فيما يتنازعون فيه، وهو هدى للقلوب الحائرة، والرحمة الشاملة لقوم يصدقون به، ويتمسكون بتعاليمه وشرائعه، ويلتزمون منهجه في الحياة والآداب والأخلاق، ولا يحيدون عن توجيهاته، والعمل في فلكه ومقاصده وغاياته، كما قال الله تعالى في آية أخرى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ(2/1276)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)
[الإسراء: 17/ 9- 10] .
إن مجيء الرسل وإكمال مهمتهم برسولنا وما أنزل الله معهم من الكتاب والحكمة، والشريعة والمنهج، كان الكلمة الفاصلة، والقرار الحاسم في قسمة الناس إلى فريقين: الفريق الأول الذين كذبوا الرسل، لتأثرهم بوساوس الشياطين وإغواءاتهم، وهؤلاء خسروا الدنيا والآخرة.
والفريق الثاني الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وأحسنوا العمل، واستقاموا على أمر الله ومنهاجه، وهؤلاء هم أهل السعادة والطمأنينة، في الدنيا براحة النفس، وفي الآخرة بالخلود الأبدي في جنات النعيم. جعلنا الله من هذا الفريق، وهدى الذين أعرضوا عن هداية الله إلى ما فيه خيرهم ونجاتهم. وهذا يدل على أن الأنبياء جميعا يدعون إلى ناحية الخير والروح في الإنسان، والشيطان دائما يعاند ويستغل ناحية المادة في الإنسان.
ألوان النعم الإلهية
في سورة النحل سورة النّعم عدّد الله تعالى ألوانا من النّعم العظيمة من أجل خير الإنسان وانتفاعه بثمرات الكون، وتضمن هذا التعداد الإرشاد لبيان مظاهر قدرة الله سبحانه، وإثبات وجوده وتوحيده، لأن خلق النّعم وسائر الأفعال الصادرة عن الإنسان إنما هي من الله تعالى، لا من الأصنام وطواغيت الأوثان والمعبودات من دون الله، فهي مخلوقة لا خالقة، وعاجزة غير قادرة على شيء من الإبداع والخلق، قال الله تعالى مبينا هذه البراهين على ألوهيته:
[سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 69]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)(2/1277)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [النّحل: 16/ 65- 69] .
هذه طائفة جليلة من النعم الإلهية لإثبات أمر الربوبية:
وأولها نعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وفي غاية الظهور، لا يخالف فيها عاقل، فالله سبحانه أنزل المطر من السماء، ليكون سببا لحياة الأرض بإنبات الزرع والشجر والثمر، بعد أن كانت الأرض هامدة غبراء غير منبتة، فهي كالميت، فتصبح كالحي بالمطر منبتة مخضرة مهتزة رابية، وهذا واضح ظاهر، لذا ختمت الآية بقوله سبحانه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي إن الأمر لا يحتاج إلى تفكر، ولا نظر قلب، أو تأمل، وإنما يحتاج الإنسان المنبّه إلى أن يسمع القول فقط.
والنعمة الثانية: هي خلق الأنعام، وهي أصناف أربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز، ففيها عبرة وعظة دالة على قدرة الله تعالى، ورحمته، ولطفه بعباده، حيث سخر للبشر هذه الأنعام، يستقون من ألبانها الخالصة من الشوائب، والسائغة الشرب في الحلق، دون غصص، وهي غذاء كامل، لذيذ الطعم، سهل الهضم، خلقها الله، أي الألبان مميزة، غير مختلطة بما جاورها من فرث (زبل يملأ الكرش والأمعاء) ودم محيط بها. كما أن في الأنعام فوائد أخرى كثيرة حيث يستفاد من
__________
(1) لعظة ودلالة على قدرة الله.
(2) أي بطون الأنعام، فالضمير عائد على الجنس، وعلى المذكور، والأنعام: الإبل والبقر والضأن والمعز. [.....]
(3) الفرث: خلاصة المأكول في الكرش والأمعاء.
(4) خمرا ثم حرمت بالمدينة.
(5) أوكارا.
(6) مما يبني الناس من الخلايا.
(7) مذلّلة مسهلة.(2/1278)
أوبارها وأصوافها، ويتخذ بعضها وسائط للركوب والحرث (شق الأرض) ويؤكل لحمها بعد الذبح.
والنعمة الثالثة: هي ثمرات النخيل (التمور) والأعناب التي تؤكل طازجة، ويتخذ منها الدبس والخل، والنبيذ (الخشاف) . أما المسكر منه فحرام، فيما استقر عليه التشريع القرآني، في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 5/ 90] .
فقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً أصبح منسوخا بآية المائدة المذكورة، وصار جميع ما يسكر حراما، قليله وكثيره، ويحد شاربه، وختمت الآية بما يدعو للتأمل والتفكر وهو قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي إن في تلك الأشربة والمآكل لآية واضحة على عظمة الإله الخالق، لقوم يستخدمون عقولهم في النظر والتأمل في الآيات، حيث يحتاج الإنسان إلى وعي وإدراك لعظمة فعل الله، من تحويل الأكل المهضوم إلى لبن سائغ الشراب، وإلى ظهور ثمرة النخيل والعنب من التراب والماء؟!! والنعمة الرابعة: هي نعمة غذاء العسل وشرابه، فالله سبحانه ألهم النحل وركّز في غريزتها وطبعها كيفية بناء الخلايا العجيبة، ذات الأشكال السداسية الهندسية البديعة والمتناسقة، في كهوف الجبال، وأحضان الشجر، وعرائش البيوت والكروم، ثم قيامها بامتصاص رحيق الأزهار والثمار العديدة التي تتجاوز مليون زهرة لصنع كيلو عسل مثلا، وبعد قيامها بهذه العملية تسلك الطريق التي ألهمها الله في صنع العسل، وطلب الثمار المناسبة، والعودة بسلام في طرق تختارها ولا تخطئها لتصل إلى الخلايا، وهي تسير ذللا، أي مطيعة منقادة لما يسّرت له. والعسل شراب مختلف الألوان، فمنه الأبيض والأحمر والزهر والأصفر، وفيه شفاء للناس من كثير من(2/1279)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
الأمراض، إن في ذلك الصنيع لدلالة واضحة على قدرة الله وعجيب خلقه لقوم يتأملون ويتفكرون في صنع الخالق.
أحوال الناس الدالة على قدرة الله
أقام الحق سبحانه وتعالى أدلة كثيرة على وجوده وقدرته ووحدانيته، منها نعمة المطر، وتسخير الحيوان، وإيجاد الزروع والثمار، وخلق النحل لصنع العسل، كما تقدم، ومنها عجائب أحوال الناس من الإيجاد بعد العدم، والشيخوخة والهرم، والإماتة بعد الإحياء، والبعث بعد الموت، والتفاضل في الأرزاق، وشح الناس في إخراج الزكاة للفقراء والمحتاجين، وخلق الزوجات من جنس الأزواج، وإنجاب الذرية والأولاد والأحفاد، ورزق الطيبات، وجحود نعم الله والإيمان بالباطل. قال الله تعالى واصفا هذه العجائب من أحوال الناس:
[سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 72]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
«1» «2» «3» [النّحل: 16/ 70- 72] .
إن تغير العالم وما نشاهده من أحداث وتقلبات كونية وإنسانية لدليل واضح على قدرة الله وألوهيته، وهذا مشهد آخر في الإنسان ذاته، بعد مشهد المطر والنبات والحيوان، يدل على عظمة الله وقدرته وتوحيده، وللإنسان أحوال عجيبة:
__________
(1) أردته وهو الخرف والهرم.
(2) أي فهم في الرزق مستوون.
(3) أولاد أولاد.(2/1280)
أولها: تفاوت مراتب عمره وتدرّجه من مرحلة الطفولة والشباب إلى مرحلة الكهولة والشيخوخة، فالله سبحانه أوجد الناس جميعا، وهم كلهم بنو آدم، بعد أن لم يكونوا شيئا، ثم يتوفاهم حين انتهاء الأجل، ومنهم من يهرم ويصير في أرذل العمر، وهو حال الخرف وقلة الحفظ والعلم، وقد يفقد كل شيء من العلوم التي تعلمها، ويصبح جاهلا كما كان وقت الطفولة، إن الله واسع العلم بكل شيء، عظيم القدرة على كل شيء، فلا يغيب شيء عن علمه، ولا يعجزه شيء أبدا، وربّ من يكون ابن خمسين سنة، وهو في أرذل العمر، وربّ ابن مائة أو تسعين وهو كامل الذاكرة والعقل، وليس في أرذل عمره.
والحال الثانية للإنسان بعد تفاوت الأعمار: هي التفاوت في الأرزاق، فالله تعالى لحكمة جليلة ومصلحة للإنسان نفسه جعل الناس متفاوتين في الأرزاق، فمنهم الغني والفقير والمتوسط، وهذا التفاوت اختبار الأغنياء، وقيامهم بواجب التكافل والتعاون ومساعدة الفقراء، ولكن مع الأسف يحرص الناس على الشح والبخل، فما الذين فضلوا بالرزق وهم السادة الملاك بجاعلي رزقهم شركة على قدم المساواة بينهم وبين أتباعهم، وإذا لم يرضوا بالمساواة، مع غيرهم، وهم أمثالهم في الإنسانية، فكيف يسوون بين الخالق والمخلوق، وبين الخالق وهذه الأصنام التي يجعلونها شركاء مع الله؟! إنهم بهذا يتنكرون للحقائق، ويجحدون النعم الإلهية، فكيف يليق بعقولهم أن يشركوا بالله بعبادة الأصنام، ويجحدون نعم الله عليهم؟! فمن أثبت شريكا لله، نسب إليه بعض النعم والخيرات، فكان جاحدا لكونها من عند الله تعالى؟! والحال الثالثة للإنسان: وجود التزاوج بين الذكر والأنثى، جاعلا الله الزوجات من جنس الأزواج، لتحقيق الأنس والانسجام والائتلاف، وقضاء المصالح،(2/1281)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
وجاعلا الله للزواج ثمرة مباركة محببة لكل إنسان: وهي نعمة إنجاب الأولاد والأحفاد، وأنعم الله على جميع خلقه بطيبات الرزق في الدنيا، من مطعم ومشرب وملبس ومسكن ومركب ونحوها مما يكون لذيذا من الأشياء التي تطيب لمن يرزقها.
ولكن العجب من الإنسان حيث يصدق بعضهم بالباطل، وهو أن الأصنام شركاء لله في النفع والضرر، وأنها تشفع عنده، وأن الطيبات التي أحلها الله لهم كبعض المواشي حرام عليهم، حلال للأصنام، وبعض المستخبثات كالميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح على الأصنام حلال لهم، وهذا يقتضي التوبيخ على تلك الأحكام الباطلة، وهم في هذا كله يجحدون نعم الله الجليلة، وينسبونها إلى غير خالقها من صنم أو وثن، ويسترون نعم الله عليهم، فهم كفرة نعمة وكفرة دين.
مثلان حسّيان للأصنام والأوثان
كانت حملة القرآن الكريم على الأصنام والأوثان عنيفة شديدة، لأنها لا تتفق مع كرامة الإنسان، ولا تنسجم مع العقل السوي، وينبغي تصفيتها من معجم البشرية، والاتجاه نحو عبادة ما ينفع ويمنع الضر، وهو الله الإله الواحد الذي لا شريك له ولا ندّ ولا نظير، لذا استحق الكفار الوثنيون التوبيخ والتأنيب على عبادة الأصنام، كما أنزل الله تعالى في كتابه في الآيات التالية:
[سورة النحل (16) : الآيات 73 الى 76]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)(2/1282)
«1» «2» [النّحل: 16/ 73- 76] .
هذه آيات تقريع للكفار وتوبيخ، وإظهار لفساد نظرهم، وتركيز على مورد الحياة، ورزق الناس، وعلى ما يتوجه سعيهم إليه، واهتمامهم به، فهذه الأصنام لا تملك توفير الرزق لعبدتها، فلا تستطيع إنزال المطر ولا إنبات النّعمة، وعبدة الأوثان يعبدون مع الأسف أشياء من دون الله، لا تملك إنزال رزق من السموات، ولا إخراجه من الأرض، ولا تستطيع فعل شيء، فآية: وَلا يَسْتَطِيعُونَ نفي الملك وتحصيل الملك، ومن لا يملك شيئا وهي الأصنام، ليس في استطاعتها تحصيل الملك، أي: إنها لا تملك شيئا ولا تستطيع تمليك شيء.
والنتيجة لذلك أنكم أيها الوثنيون، لا تجعلوا لله أندادا وأشباها وأمثالا، ولا تشبّهوه بخلقه، فمعنى قوله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ لا تمثّلوا لله الأمثال. وإن الله يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم أيها البشر الوثنيون بجهلكم تشركون به غيره.
وبعد أن نهى الله تعالى عن الإشراك، ذكر مثلين حسيين للأصنام:
الأول- ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً.. المثال هنا عبد بهذه الصفة مملوك لسيّده، لا يقدر على شيء من المال، ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخّر بإرادة سيده، مدبّر، وفي مقابل هذا العبد: رجل موسّع عليه في المال، فهو يتصرف فيه بإرادته، وينفق منه سرا وعلانية، والعبد العاجز: هو مثل الصنم العاجز، والرجل الميسور صاحب المال مثل الإله القادر، وبما أنه لا يستطيع أن يسوّي أحد بين الشخصين:
العبد والحر، ولا يجهل الفرق بينهما، إلا كل غبي، فكيف يسوّى بين الإله القادر
__________
(1) أخرس خلقة.
(2) عبء وعيال.(2/1283)
على الرزق والإنفاق، وبين هذه الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء أصلا؟ إن التسوية بينهما ضرب من الحماقة والجهل والاستحالة، لذا قال الله تعالى بعدئذ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، أي الحمد التام الكامل لله، والثناء الشامل لله، والشكر الجزيل لله المنعم، ولكن أكثر أولئك الكفار الذين يعبدون الأصنام لا يعلمون الحق فيتبعوه، ولا يعرفون المنعم الحقيقي، فيخصونه بالتقديس والعبادة.
والمثل الثاني- وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ.. هذا مثل آخر يؤكد الأول وهو أن الله تعالى ضرب مثلا لنفسه وللوثن وغيره من الآلهة المعبودة مثل رجلين:
أحدهما- أبكم لا ينطق ولا يتكلم بخير ولا بشيء، ولا يقدر على شيء متعلق بنفسه أو بغيره، وهو عالة على مولاه الذي يعوله، أينما يوجهه لا يحقق خيرا مطلقا، لعدم فهمه ما يقال له، ولا إفهام غيره.
والثاني- رجل كامل المواهب والحواس، ينفع نفسه وغيره، يأمر بالعدل، ويسير على منهج الحق والطريق القويم والدين الصحيح، هل يستوي هذان الرجلان؟
الأول- عديم النفع، وهو كالصنّم لا يسمع ولا ينطق، والثاني- كامل النفع، وهو كالإله الواحد الذي يدعو إلى الخير، ويأمر بالعدل، ويلتزم العدل، وينفع الآخرين، ويمنع الشر والضرر عنهم. وإذا كان هذان الرجلان لا يتساويان بداهة، فلا تساوي أصلا بين الله تعالى، وبين ما يزعمون أنه شريك له سبحانه.
الله العالم بالغيب والخالق
إن من أهم الخصائص الإلهية علم الغيب وخلق الإنسان والحيوان والطير، فمن كان متصفا بهاتين الصفتين، كان هو الإله الحق، ومن فقد إحدى هاتين الصفتين أو كليهما، انعدم وصفه بالألوهية، والواقع أن كل من عدا الله تعالى من المخلوقات(2/1284)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
الكونية، السماوية والأرضية، والإنس والجن، والجمادات والحيوانات والأشياء، لا علم له بالغيب، ولا قدرة له على شيء من الخلق والإبداع، والإيجاد والتكوين، قال الله تعالى مبينا بعض خصائصه وصفاته:
[سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 79]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
»
[النّحل: 16/ 77- 79] .
يتحدث الله تعالى في هذه الآيات عن نفسه حديثا مفحما لكل من عبد غير الله تعالى، ويقرر الله في ذلك قرارا حسيما لا مجال لإنكاره، وهو أن لله وحده غيب السموات والأرض، وهذا التعبير يفيد الحصر، فالغيب لله وحده، يملكه ويعلمه، وليس لأحد سواه، ولا قدرة أصلا لأحد على المغيبات، إلا أن يطلعه الله تعالى على شيء مما يشاء، وهذا إخبار بكمال علم الله تعالى. أردفه بإخبار آخر وهو القدرة الشاملة، وفي ذلك إقامة الحجة على الكفار، فالله سبحانه هو الذي يأمر بالقيامة فتوجد، وما أمر القيامة وهي وقت الساعة التي تقوم بها القيامة، في الإيجاد والإقامة في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها: كُنْ.
وتشبه في السرعة بالنسبة للبشر أنها كلمح البصر، أي كطرف العين أو هي أقرب من ذلك، إن الله تام القدرة على كل شيء، ومن قدرته: إقامة الساعة في أسرع من
__________
(1) أو: هنا على بابها للشك، وقيل: هي للتخيير، أو للإبهام، وكل ذلك بالنسبة للبشر لا بالنسبة لله، ولمح البصر: هو وقوعه على المرئي، ومعناه كخطفة بالبصر.(2/1285)
لمح البصر أو غمضة العين.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم: «بعثت أنا والساعة كهاتين، وقرن بين السبابة والإبهام» .
ومن مظاهر قدرته: الخلق والإبداع، فالله أخرج الناس من بطون أمهاتهم، لا يعلمون شيئا، وخلق لهم طرق العلم وسبل الإدراك وهي السمع والبصر والفؤاد، لمعرفة أحوال البيئة التي يعيش فيها، وجعل الله العقل للإنسان مفتاح الفهم وتمييز الخير من الشر، والنفع من الضرر، والله أمدكم أيها الناس بهذه النعم لتشكروا نعم الله عليكم، باستعمال كل عضو فيما خلق من أجله، ولتتمكنوا من عبادة ربكم، وتطيعوه فيما أمركم، وليس الشكر مجرد تردد التعبير باللسان، وإنما امتثال لحكم الله وأمره.
وأقام الله تعالى دليلا آخر على كمال قدرته وحكمته، وهو خلق الطيور مسخرات بين السماء والأرض، والطير علّم الإنسان اختراع الطائرة، فلننظر كيف جعل الله الطير يطير بجناحيه في جو السماء، ما يمسكه عن الوقوع إلا الله عز وجل، فإنه لولا تمكين الله الطيور من التحليق والارتفاع في الجو والنزول إلى الأرض، وخلق الهواء الحامل للطيور والطائرات، لولا ذلك لما أمكن الطيران، فإنه سبحانه وتعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويضمه مرة، كما يفعل السّباح في الماء، وأوجد له الذيل ليساعده على الهبوط، بحركات يستفيد بها من الهواء في الارتفاع، والتخلص من ثقل الهواء بحركات أخرى من أجل الهبوط، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا.
ولنذكر أن أول طيار جرّب الطيران هو العربي المسلم عباس بن فرناس، لكنه لم يتنبه لفائدة الذيل، فعند هبوطه تكسرت رجلاه. إن الله هو الممسك للطيور في الجو بواسطة الهواء، وهو الملهم للطيور وغيرها كيفية الهبوط، من دون ضرر ولا أذى، إن في ذلك وهو خلق جناحي الطير، وتسخير الهواء في الجملة، والإلهام الرباني،(2/1286)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
لدلالات على قدرة الله وتوحيده، لمن يؤمن أو يصدّق بالله، وليس للأصنام والأوثان وجميع المعبودات غير الله شيء من هذه القدرة، فلا تستحق تأليها ولا عبادة ولا طاعة، ونظير الآية: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) [الملك: 67/ 19] .
نعمة السكن واللباس والظل
تفضل الله على عباده بنعم كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، منها نعمة المطر والنبات والحيوان، ومنها نعمة الخلق والإيجاد من العدم، وتزويد الإنسان بطرق المعرفة والعلم والإدراك، ومنها نعمة الطيران، كما تقدم. ومنها نعمة الإيواء في المساكن، والتستر بالألبسة المصنوعة من الأصواف والأوبار والأشعار ونحوها، ونعمة التظلّل بالظلال من الحر والبرد والاستفادة من كهوف الجبال، وكل هذه النعم تستدعي الوفاء بحق المنعم بها، وشكرها، ولكن أكثر الناس يجحدون نعمة الله، وهذا ما وصفه القرآن الكريم في الآيات التالية:
[سورة النحل (16) : الآيات 80 الى 83]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [النّحل: 16/ 80- 83] .
__________
(1) تجدونها خفيفة.
(2) يوم ترحالكم.
(3) متاعا للبيوت كالفرش. [.....]
(4) تنتفعون به في المعايش والتجارات.
(5) أشياء للاستظلال كالشجر.
(6) مواضع تستكنون فيها.
(7) ثيابا.
(8) دروعا للوقاية في الحروب.(2/1287)
روى ابن أبي حاتم عن مجاهد: أن أعرابيا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله، فقرأ عليه:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً.. قال الأعرابي: نعم، ثم قرأ عليه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ.. قال: نعم، ثم قرأ عليه كل ذلك، وهو يقول: نعم، حتى بلغ: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فولّى الأعرابي، فأنزل الله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ
هذه الآيات تعداد لنعمة الله على الناس في البيوت وغيرها.
فذكر أولا، بيوت التمدن، وهي الصالحة للإقامة الطويلة، وهي أكثر بيوت الإنسان، فالله يسّر للناس طريق الإيواء في هذه البيوت والسكن فيها وإليها، ثم ذكر الله تعالى البيوت المتنقلة: بيوت النقلة والرحلة للأعراب الرّحّل، وهي بيوت الأدم (الجلود) وبيوت الشعر، وبيوت الصوف، لأن هذه من الجلود، لكونها ثابتة فيها، وهي خفيفة الحمل والنقل من مكان لآخر يوم الظعن (السفر) ويوم الإقامة، وهي الخيام والقباب المعروفة، يخفّ حملها في الأسفار، فقوله تعالى: تَسْتَخِفُّونَها تجدونها خفافا. وجعل الله سبحانه للناس من أصواف الغنم، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، ما يتخذ أثاثا للبيوت، والأثاث: متاع البيت، ويتخذ وسيلة للتمتع والانتفاع به في الغطاء والفراش، لمدة من الزمان في علم الله، فقوله تعالى: وَمَتاعاً إِلى حِينٍ يريد به: وقتا غير معين، وهو بحسب كل إنسان، إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء.
ثم عدّد الله تعالى نعما أخرى على الناس: وهي أنه جعل لكم أيها الناس من الأشجار والجبال وغيرها ظلالا تستظلون بها من شدة حر الشمس، وشدة عصف الرياح، وجعل لكم من الجبال حصونا ومعاقل ومغارات وكهوفا ونحوها، تأمنون فيها من العدو والحر والبرد، وجعل لكم سرابيل، أي ثيابا من القطن والكتان(2/1288)
والصوف ونحوها، تقيكم شدة الحر والبرد، وجعل لكم دروعا من الحديد ونحوه تقيكم بأسكم، أي شدة القتال والطعن وضرب الرماح والسيوف والنبال وشظايا القنابل وغيرها. وهكذا تتوالى نعم الله تعالى عليكم أيها الناس، للاستعانة في أموركم وحوائجكم، وإطاعة ربكم وعبادته، لتدخلوا في دين الإسلام، وتؤمنوا بالله وحده، وتتركوا الشرك وعبادة الأوثان، فتدخلوا الجنة، وتأمنوا العذاب والعقاب.
فإن أعرض الناس بعد هذا البيان وتعداد النعم، فليس عليك أيها النبي شيء من المسؤولية والحرج، ولست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم، إنما عليك فقط تبليغ رسالتك بوضوح، وتبيان أصول دعوتك، ومقاصد الدين، وأسرار التشريع، وسبب هذا الإعراض، هو التنكر للجميل والمعروف، فهم يعرفون أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعم عليهم، وهو المتفضل بها عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك بأفعالهم، ويعبدون معه غيره، ويسندون الرزق والنصر إلى غيره، وأكثرهم الكافرون كفر نعمة وعقيدة، أي الجاحدون المعاندون، وأقلهم المؤمنون الصادقون.
الشهادة على الأمم من أنفسهم يوم القيامة
كل جان أو مخطئ في الغالب لا يجرأ على الاعتراف بذنبه، سواء في قضاء الدنيا أو في قضاء الآخرة، ويحتاج الأمر حال الإنكار إلى إثبات بالشهود، لأنه لا يصدر الحكم القضائي عادة من غير أدلة كافية في الإثبات كالإقرار والشهادة والقرائن واليمين. ويحتاج الأمر لبيان جنايات العصاة يوم القيامة، فيبعث الله الشهود من الأمم نفسها أو من غيرها، وفي هذه الآيات التالية إثبات الجرم من الأمم ذاتها بشهادة الشهود، قال الله تعالى واصفا ذلك وردود الفعل من المشركين والكفرة:(2/1289)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
«1» «2» «3» [النّحل: 16/ 84- 89] .
هذه آية وعيد للكفار يوم القيامة، مفادها: اذكر أيها النبي يوم نبعث من كل أمة شاهدا عليهم، بالكفر أو الإيمان، والشهيد: الشاهد، وهو نبيهم يشهد عليهم بما أجابوه عما بلّغهم عن الله تعالى، إما بالإيمان، وإما بالكفر والعصيان، ثم إذا شهد عليهم نبيهم لا يسمح لهم بالاعتذار والدفاع عن أنفسهم، لأنه لا حجة لهم، ولأنهم يعلمون كذبهم في الاعتذار، ولأن أحكام الله عادلة عدلا مطلقا، ولا يطلب منهم العتاب، لأنه: لا فائدة في العتاب، مع سخط الله وغضبه، فإن الرجل يطلب العتاب من خصمه إذا كان جازما أنه إذا عاتبه رجع إلى صالح العمل، والآخرة دار جزاء، لا دار تكليف وعمل، ولا أمل في الرجوع إلى الدنيا.
وأما ردود الفعل من الكفار الظلمة بعد صدور الأحكام، فهي الإحباط واليأس والحيرة لأنهم إذا رأوا العذاب وعاينوا العقاب، فلا ينجو منهم أحد، ولا يخفف عنهم من شدته ساعة واحدة، ولا هم ينظرون، أي لا يمهل عقابهم، ولا يؤخر عنهم، بل يؤخذون بسرعة من موقف الحساب وتوزيع الصحف التي يعلن فيها قرارهم النهائي.
__________
(1) لا يطلب منهم إرضاء الله.
(2) يمهلون.
(3) الاستسلام لحكم الله.(2/1290)
ويزداد المشركون حيرة وارتباكا، فإنهم إذا رأوا يوم القيامة بأبصارهم الأوثان والأصنام وكل معبود من دون الله- لأنها تحشر معهم توبيخا لهم- إذا شاهدوها، أشاروا إليهم، وقالوا: هؤلاء شركاؤنا الذين كنا نعبدهم من دون الله، قاصدين بذلك إدخالهم في المعصية والحساب، فترد عليهم الشركاء المزعوم ألوهيتها قائلين:
كذبتم، لم نأمركم بعبادتنا، أو إنكم لكاذبون، ما كنا ندعوكم إلى عبادتنا، فمن كان من المعبودين من البشر تكلم بلسانه، وما كان من الجمادات تكلم بقدرة الله، بتكذيب المشركين في وصفهم بأنهم آلهة وشركاء لله.
ثم قال تعالى: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي استسلم العابد المشرك والمعبود، وأقروا لله بالربوبية، وبالبراءة عن الشركاء والأنداد، وذلّوا واستسلموا لله جميعا، وغاب وذهب عنهم افتراؤهم بنسبة الشركاء لله، وأنها أنصارهم وشفعاؤهم، أي:
إنه حل بهم عذاب الله، وباشروا نقمته.
ثم فسّر الله نوع العذاب، فأخبر أن الذين كفروا ومنعوا غيرهم من الدخول في الدين، وسلوك سبيل الله، زادهم الله عذابا فوق العذاب العام لجميع الكفار، عقوبة على إفسادهم وصدّهم الناس عن دين الله وشرعه وعبادته.
وهذه إشارة واضحة إلى أن من دعا غيره إلى الكفر والضلال، ضوعف عذابه، واشتد عقابه، كما أن من دعا إلى دين الله الحق، ضوعف ثوابه، وعظم قدره عند الله تعالى.
وتدلنا الآية أيضا على تفاوت الكفار في العذاب، كما يتفاوت المؤمنون في درجات الجنان، وكما جاء في قول الله تعالى: قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 7/ 38] . روي في ذلك عن ابن مسعود أن الله تعالى سلّط عليهم عقارب وحيّات لها أنياب كالنخل الطوال. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن لجهنم(2/1291)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
سواحل فيها هذه الحيات وهذه العقارب، فيفر الكفار إلى السواحل من النار، فتتلقاهم هذه الحيات وهذه العقارب، فيفرون منها إلى النار، فتتبعهم، حتى تجد حرّ النار، فترجع.
شهادة نبينا على الأمم وأمته
تتأكد الشهادة الصادرة من الأنبياء السابقين على أممهم بشهادة نبينا عليهم الصلاة والسلام لأنه لا أصدق في الشهادة من الأنبياء المعصومين من الخطايا والذنوب، فتكون شهادتهم حقا مطلقا، وعدلا صرفا، لا مجال للطعن فيها من أحد، فتكون طريقا مقطوعا أو متيقنا لإثبات الجرم أو الخطأ، ويكون الحكم الإلهي العادل حاسما في الموضوع، وكل هذا تهديد ووعيد، ينبغي على العقلاء التفكر فيما ينتظرهم من عقاب، لا سبيل إلى التخلص أو النجاة منه، قال الله تعالى واصفا شهادة نبينا صلّى الله عليه وسلّم على الأمم، وتأكيد مفاد الشهادة بالقرآن الكريم:
[سورة النحل (16) : آية 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
«1» [النّحل: 16/ 89] .
تتضمن هذه الآية الكريمة وعيدا وتهديدا للكفار الذين لا يؤمنون برسالات الرسل والأنبياء، مضمونها: واذكر أيها النبي يوم نبعث في كل أمة شاهدا عليها قطعا للحجة والمعذرة، وهو رسولها الذي شاهد في الدنيا تكذيبها وكفرها، وإيمانها وهداها، ويجوز أن يبعث الله شاهدا من الصالحين مع الرسل. قال بعض الصحابة:
إذا رأيت أحدا على معصية فانه، فإن أطاعك، وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة.
__________
(1) هذا منصوب على الحال، أو مفعول لأجله.(2/1292)
ويكون الشاهد الأصلي هو من الأمة نفسها في اللسان والسيرة وفهم الأغراض والإشارات، حتى يتحقق الهدف المقصود، فلا يتمكن من ذلك من كان غريبا عن الأمة، فلذلك لم يبعث الله نبيا قطّ إلا من الأمة المبعوث إليهم.
ثم يكون النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم شاهدا على الأنبياء والأمم، تأكيدا لشهادة الأنبياء، ولأن نبينا حكم عدل في القضاء بين الأمم وأنبيائها، من طريق الأخبار الواردة في القرآن بأن كل نبي بلّغ أمته رسالة الله وتكاليفه. ويؤيد هذا المعنى آية أخرى:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 2/ 143] .
ويرى أكثر المفسرين أن قوله تعالى: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ يراد بهؤلاء:
الأمة التي أرسل لها نبينا صلّى الله عليه وسلّم، والقصد من هذه الشهادة: أنه أزاح عنهم علتهم فيما كلّفوا به، وهو ما جاءهم به من عند الله، فلم يبق لهم حجة ولا معذرة، ودل على ذلك تتمة الآية: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ.. أي: نزّلنا على التدرج عليك أيها الرسول هذا القرآن، تبيانا واضحا لكل شيء من العلوم والمعارف الدينية والإنسانية، مما يحتاج إليه الناس في حياتهم، وهدى للضالين، ورحمة لمن صدّق به، وبشرى لمن أسلم وجهه لله، فأطاعه وأناب إليه، بشرى بجنان الخلد والثواب العظيم.
فالقرآن الكريم شفاء لما في الصدور، ودواء ناجع لكل أمر صغير وكبير، وفيه حكم كل شيء مما نحتاج إليه في الشرع، ولا بد منه في الملة، كالحلال والحرام، والدعاء إلى الله، والتخويف من عذابه، كما جاء في قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 6/ 38] .
وتبيان كل شيء في القرآن، إما نصا على حكمه صراحة، وإما إحالة على السنة النبوية، حيث أمر الله باتباع رسوله وطاعته، في قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 4/ 80](2/1293)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
وإما اعتمادا على الإجماع في قوله سبحانه: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى [النساء: 4/ 115] .
وإما عملا بالاجتهاد أو القياس، وإما ببيان القواعد الكلية والمبادئ والمقاصد العامة، وأصول التشريع، فكان القرآن بهذه الأصول والقواعد تبيانا لكل شيء.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود والترمذي: «إني أوتيت القرآن ومثله معه» .
والواقع أن عموم القرآن وشموله لكل نواحي الدين والدنيا والقيادة والعبادة، وأنظمة الحياة الاقتصادية، والسياسية، والحربية، والاجتماعية، إنما جاء من طريق جعله دستور الحياة الإسلامية الصالح لكل زمان ومكان، والدستور عادة يكون بوضع الأصول والمبادئ العامة والأنظمة الكلية في الجملة، وبأسلوب مرن.
أجمع آية للخير والشر
امتاز التشريع القرآني ببيان الإيجابيات والسلبيات، وإيضاح المحاسن وأصناف الخير، والتحذير من المساوئ وألوان الشر، وكان منهجه ليس مجرد وضع قوانين جامدة، وإنما التنصيص على قواعد العدل، مع قرنها بالإحسان، وبناء الحياة بقواعد المعروف، والتنبيه إلى معاول الهدم بمقاومة المنكر والبغي، والعدل والإحسان يحتاج احترامهما إلى الوفاء بالعهد، وتحريم الخيانة والغدر، ومنع نقض الأيمان والعهود، قال الله سبحانه مبينا هذه الأصول:
[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 92]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) بالاعتدال والتسوية في الحقوق.
(2) إتقان العمل.
(3) الذنوب القبيحة.
(4) الظلم والتجبر على الناس.(2/1294)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [النّحل: 16/ 90- 92] .
قال ابن مسعود رضي الله عنه: أجمع آية في كتاب الله آية في سورة النحل، وتلا هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وروى ابن جرير الطبري عن بريدة، في بيان سبب نزول آية: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ.. قال: نزلت هذه الآية في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وروى ابن جرير أيضا: أن الآية نزلت في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان من أسلم، يبايع على الإسلام، فقال الله تعالى:
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ.. الآية، فلا تحملنكم قلة جند محمد وأصحابه، وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان في المسلمين قلة، وفي المشركين كثرة.
وروى ابن أبي حاتم في سبب نزول: وَلا تَكُونُوا قال: كانت سعيدة الأسدية مجنونة، تجمع الشعر والليف. فنزلت هذه الآية: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً.
ومعنى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ العدل: هو فعل كل مفروض، من عقائد وشرائع، وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف وإعطاء الحق.
والإحسان: فعل كل مندوب إليه، أي فهو زائد على العدل، كالرحمة التي هي
__________
(1) شاهدا ورقيبا وضامنا. [.....]
(2) إبرام وإحكام.
(3) جمع نكث، وهو ما ينكث بمعنى منكوث وهو المنقوص.
(4) أي مكرا وخديعة.
(5) أي أكثر عددا وأقوى.
(6) يختبركم للوفاء بالعهد.(2/1295)
فوق القوة، وإن الله يأمر عباده بالعدل والإنصاف مطلقا في كل شيء في التعامل والقضاء والحكم، وشؤون الدين والدنيا، حتى مع نفسه ومع غيره، وفي الاعتقاد، فلا يعبد بحق وعدل غير الله الخالق الرازق، النافع، ويأمر الله أيضا بالإحسان في العبادة وإلى المسيء، وإلى القرابة والجيران وإلى الناس قاطبة. ويأمر سبحانه بإيتاء ذي القربى، أي بصلة الأرحام بالزيادة، والمودة، والعطاء والصدقة، والنفقة. هذه أمور ثلاثة يأمر بها.
وينهى عن ثلاثة أيضا: الفحشاء: أي الشيء المحرم كالزنى والسرقة وشرب المسكرات، وأكل أموال الناس بالباطل. وينهى عن المنكر: وهو ما قبحه الشرع والعقل الرشيد كالقتل، والأذى، واحتقار الناس. وينهي عن البغي: وهو ظلم الناس، والاعتداء عليهم. فالمأمورات الثلاثة: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.
والمنهيات الثلاثة: الفحشاء والمنكر والبغي. وكلها تجاوز حدود الشرع والعقل الرشيد. وتأكيدا للأمر والنهي، قال تعالى: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي يأمركم بالخير، وينهاكم عن الشر لتتعظوا وتتذكروا، وتعملوا بما فيه مرضاة الله تعالى.
ثم خصص الله بالذكر بعض المأمورات: وهو الوفاء بالعهد والميثاق، والحفاظ على الأيمان المؤكدة، وعهد الله: كل ما يجب الوفاء به، من التزام أحكام الإسلام، والوعود، وتنفيذ العقود والمشاركات والالتزامات. وأكد الله أمره بالوفاء بالعهد بالتحذير من نقض العهود وأيمان البيعة على الإسلام بعد توثيقها باسم الله، إن الله يعلم ويطلع على كل ما نفعله في العهود، من البرّ بها أو نقضها، أو محاولة تعديلها والالتفات على بنودها بالحيل.
ولا تكونوا أيها المؤمنون المعاهدون في إبرام الحلف أو العهد أو نقضه كالمرأة(2/1296)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
الحمقاء التي تغزل غزلها وتفتله محكما، ثم تنقضه بعد فتله وإبرامه، فهو ليس من فعل العقلاء. تجعلون أيمانكم على الوفاء بالعهد خديعة ومكرا وتغريرا بالطرف الآخر، وتحلفون للناس إذا كانوا أكثر أو أقوى منكم، ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم، غدرتم. إنما يعاملكم الله معاملة المختبر، بأمره إياكم، بالوفاء بالعهد، لينظر أتغترون بالكثرة والقلة أم تراعون العهد، وسوف يبين الله لكم بيانا قطعيا يوم القيامة ما كنتم تختلفون فيه، من أمر الإيمان والكفر، والوفاء بالعهد والنقض، فيجازي كل عامل بعمله، من خير أو شر، وهذا إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام ونقض العهود.
حرية الإنسان واختياره
الشرع والعقل يقضيان بأن الإنسان حر الاختيار في الطاعة والمعصية، وفي سلوك سبل الخير أو السير في طريق الشر، ويختبر الله عباده بالأوامر والنواهي، ليذهب كل إنسان إلى ما يسّر له، والتيسير من الله عمل بمقتضى حق الملك، ولا يسأل عما يفعل، ولو شاء الله، لكان الناس كلهم في طريق واحدة، إما في هدى وإما في ضلالة، ولكنه تعالى شاء أن يترك حرية الاختيار للناس، وليظهر أثر الاختيار، في انقسام الناس فريقين: فريق الطاعة وأهل السعادة وفريق المعصية وأهل الشقاوة، قال الله تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 93 الى 96]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)
«1»
__________
(1) أي مكرا وخديعة.(2/1297)
«1» [النّحل: 16/ 93- 96] .
هذه الآيات الكريمة تقرر الحد الفاصل في القضية الكبرى: وهي حرية الاختيار للإنسان، التي على أساسها يكون الحساب والجزاء، والثواب والعقاب، فالله قادر على أن يجعل الناس على ملة واحدة أو دين واحد بمقتضى الفطرة والخلق، فقوله تعالى: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ معناه يخلق ذلك في القلوب، خلافا لقول المعتزلة، كما ذكر ابن عطية في تفسيره. ورتب الله تعالى على حرية الاختيار التوعّد في آخر الآية، بسؤال كل أحد يوم القيامة عن عمله، وهذا سؤال توبيخ وحساب، وليس ثمّ سؤال تفهّم، وهو المنفي في آيات.
ويقتضي الاختيار: أن يسلك الإنسان بموجب هداية الله وعقله مسلك أهل الصلاح والاستقامة في المعاملات والعلاقات الاجتماعية، فلا يصح الانحراف والخداع والمكر، لذا نهى الله عن اتخاذ الأيمان وسيلة خداع، ونهى عن نقض العهود والأيمان: أيمان البيعة على الإسلام مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا اتخذت الأيمان وسيلة مكر وخديعة، فتزلّ قدم في الضلال بعد ثبوتها على جادة الاستقامة والإيمان. وهذا مثل لمن كان على الاستقامة، فحاد عنها، وزلّ عن طريق الهدى بأيمان حانثة، مشتملة على الصدّ عن سبيل الله، ومن انحرف أو زلّ، ذاق السوء، أي تحمل العذاب السيئ الأليم، وهو القتل والأسر في الدنيا، بسبب الصدّ عن سبيل الله، وله العقاب الشديد في الآخرة، جزاء المخالفة والانخراط في سلك الأشقياء الضالين.
والمقصود من الآية: إن نقضتم العهد أيها الناس، وقعتم في مفاسد ثلاثة: ترك الاستقامة، وتحمل شقاء الدنيا وعذابها، وعقاب الآخرة وجزائها.
__________
(1) يفنى ويزول.(2/1298)
ثم حذّر الله تعالى من نقض العهد بأخذ الأعواض المالية التافهة مقابل ذلك، فقال سبحانه: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تعتاضوا عن الأيمان المحلوفة بالله عرض الدنيا وزينتها، فإنها قليلة مؤقتة، وما عند الله من الفضل والثواب العظيم خير لمن رجاه وآمن به، وخير من عرض الدنيا الحقير، وذلك إن كنتم أيها المخاطبون، تعلمون مدى التفاوت العظيم بين خيرات الدنيا وخيرات الآخرة. قال ابن عطية عن هذه الآية: هذه آية نهي عن الرّشا وأخذ الأموال على فعل ما يجب على الآخذ تركه، أو ترك ما يجب عليه فعله، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عباده فيها.
ووجه الخيرية واضح، فإن ما عندكم من متاع ونعيم دنيوي عرضة للنفاد والزوال، وإن طال الأمد، وما عند الله من ثواب ونعيم في الجنة ومواهب الآخرة باق خالد، لا انقطاع له ولا نفاد، وإنما هو دائم لا يحول ولا يزول، أي إن الدنيا فانية، والآخرة باقية دائمة.
والله بفضله وعدله يجزي بالخير والثواب الطيب الذين صبروا على أذى المشركين، وأعداء العقيدة، وعلى القيام بواجبات الإسلام وأحكام الشريعة، التي توجب الوفاء بالعهد وتنفيذ العقد، وكذلك بالصبر عن الشهوات، وعلى مكاره الطاعة، يجازيهم الله بأحسن أعمالهم، والتجاوز عن سيئاتهم، وهذا هو الثواب العظيم، وهو الوعد الحسن بغفران الذنوب، ومحو الخطايا، وهذه الآية إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه المنكرة أو المحرمة، من الرّشاوى، وأخذ الأموال على ترك الواجبات، وفعل القبائح والمحظورات، فإن كل عاقل ينفر من الحرام، ولا يتقبل العفيف الشريف تلويث مكاسبه بالمحرمات والشبهات.(2/1299)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
أجمع آية للعمل الصالح
لا تفرقة في أصول التشريع الإسلامي وإعطاء فرص العمل بين الرجال والنساء، فللمرأة أن تنافس الرجل وتسبقه في ميدان القربات إلى الله تعالى، والمبادرة إلى العمل الصالح والقول الفاضل، وكم شهد التاريخ الإسلامي مواقف، مشاهد مشرفة وسبّاقة للمرأة، تميزت بالوعي والحكمة، وإدراك آفاق المستقبل، واستطاعت بها المرأة أن تثبت جدارتها، وتفوّقها أحيانا على الرجال في النواحي الاجتماعية، فاستحقت بهذا بطاقة سامية من الحب والتقدير، والوفاء والجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى مبينا مبدأ تساوي النّساء والرجال، في مجالات العمل البنّاء الطيب:
[سورة النحل (16) : آية 97]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)
[النّحل: 16/ 97] .
العمل الصالح: يشمل جميع أعمال الطاعة والخير والإحسان، وهو في ميزان الثواب والحسنات والجزاء الأخروي لا ثمرة له ولا قيمة من دون تقييده بالإيمان، أي التصديق بالله وملائكته وشرائعه المنزلة على أنبيائه ورسله وكتبه، وباليوم الآخر المنتظر للحساب والجزاء، وبالقدر خيره وشره، فإذا لم يقترن العمل الصالح بالإيمان بأركانه المذكورة، لم يحقق الأثر الخالد والمنزلة الحسنة في عالم الآخرة.
وهذه الآية وعد صريح من الله تعالى بالحسنى والمنزلة الكريمة في الآخرة لمن عمل صالحا، سواء أكان ذكرا أم أنثى، والعمل الصالح: هو المطابق لكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، بأداء الفرائض، والمندوبات، وفعل الخير، وكان قلب العامل مؤمنا بالله ورسوله.
ويكون الجزاء لمن آمن وعمل صالحا في الدنيا هو الحياة الطيبة: وهي التي تشمل(2/1300)
وجوه الراحة المختلفة، من رزق حلال طاهر، وسعادة غامرة، وطمأنينة نفس، وهدوء بال، ورضا وقناعة، قال ابن عطية: ظاهر هذا الوعد بالجزاء الحسن: أنه في الدنيا، وإن طيب الحياة اللازم للصالحين، إنما هو بنشاط نفوسهم ونبلها وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذّ، فبهذا تطيب حياتهم، وبأنهم احتقروا الدنيا، فزالت همومها عنهم، فإن انضاف إلى هذا مال حلال، وصحة، أو قناعة، فذلك كمال. فيكون قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً معناه: لنعطينه ما تطيب به حياته: وهو القناعة والرضا.
ودليل شمول الحياة الطيبة لكل هذا:
الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه» .
وروى الإمام أحمد أيضا ومسلم عن أنس بن مالك: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا» .
وحكى الطبري عن أبي صالح أنه قال: نزلت هذه الآية بسبب قوم من أهل الملل تفاخروا، وقال كل منهم: ملّتي أفضل، فعرّفهم الله في هذه أفضل الملل.
وأما جزاء من آمن وعمل صالحا في الآخرة: فهو الأجر والثواب بأحسن ما كانوا يعملون، أي بقدر أحسن ما كانوا يعملون، وهذا وعد بنعيم الجنة، وهو أحسن جزاء لمن أحسن العمل في الدنيا، وهو حسبما يفعل بالصابرين.
ويكون قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً كما ذكر الألوسي رحمه الله إشارة إلى درء المفاسد، وقوله سبحانه: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ إشارة إلى جلب المصالح. فتكون ثمرة العمل الصالح من الرجل والمرأة على السواء، هي(2/1301)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
تحقيق سعادة الدارين: الدنيا والآخرة، وما أطيبها وما أجلّها ثمرة أو فائدة؟! ويدل هذا: على أن من فقد الإيمان، أو من لم يعمل عملا صالحا، وإنما كان عمله فسادا، فإنه يحرم من الحياة الطيبة في الدنيا، ويحجب عنه نعيم الآخرة، وهو الجنة، ويكون معذبا في نفسه بشقاء الدنيا، وفوات المصلحة في الآخرة، أي إنه يكون بعيدا عن السعادة الحقة، وإن ظهر سعيدا بماله وأولاده أو جاهه وسلطانه.
تعظيم القرآن والغاية من تنزيله
ليس هناك في الدنيا أعظم ولا أشرف ولا أقدس من القرآن الكريم، لأنه كلام رب العالمين، ودستور البشرية، وطريق النجاة والسعادة في الآخرة والدنيا، لذا وجب على المسلم والمسلمة تعظيم القرآن، فلا يتلو أحد منه شيئا، قبل الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وعليه أن يتقبل كل ما أنزله الله فيه، سواء قصد به التشريع لفترة زمنية معينة، أم أريد به الاستمرار والديمومة، والغاية منه تثبيت المؤمنين على الإيمان، وهدايتهم للطريق المستقيم، وتبشير من أطاع بالجنة، وإنذار من عصى بالنار، وليست الهداية الإلهية والتوفيق لمن لا يؤمن بآياته، قال الله تعالى مبينا هذه الأصول:
[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 103]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
«1» «2» «3»
__________
(1) فاعتصم به تعالى.
(2) تسلط.
(3) جبريل عليه السلام.(2/1302)
«1» [النّحل: 16/ 98- 103] .
تبين الآيات مبدأ تعظيم القرآن، فإذا أخذت في قراءة القرآن، أيها النبي وكل مؤمن، فاستعذ بالله، أي الجأ إلى الله من وساوس الشيطان المرجوم، الملعون المطرود من رحمة الله، حتى لا تلتبس عليك القراءة أو التلاوة، ولتتدبر معاني القرآن، والتعوذ مندوب إليه بالإجماع، كما حكى ابن جرير وغيره من الأئمة. علما بأن جنس الشيطان ليس له قوة ولا حجة، ولا تسلط على المصدّقين بلقاء الله، والمتوكلين عليه المفوضين أمورهم إليه. إنما تسلط الشيطان بالغواية والإضلال على الذين يطيعونه، ويتخذونه وليا ناصرا لهم من دون الله، والذين هم أشركوا بالله غيره في العبادة والطاعة. وفي الآيات رد على شبهتين لمنكري النبوة، المتأثرين بوساوس الشيطان:
الشبهة الأولى- أن الله تعالى إذا نسخ لفظ آية بلفظ آخر أو بدّل معناها وإن بقي لفظها، والله أعلم بما ينزله من القرآن، قالوا: لو كان من عند الله لم يتبدل، وإنما هو من افتراء محمد، فهو يعدل عن الخطأ إلى الصواب، فأخبر الله أنه أعلم بما يصلح للعباد برهة من الدهر، ثم ما يصلح لهم بعد ذلك، وأنهم لا يعلمون هذا، ولا يدركون ما في التبديل من حكمة ومصلحة للناس.
نزلت هذه الآية حين قال المشركون كفار مكة: إن محمدا، عليه الصلاة والسلام، سخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، وينهاهم عنه غدا، أو يأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفتر يقوله من تلقاء نفسه، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها.
__________
(1) يميلون وينسبون إليه أن يعلّمه.(2/1303)
وتضمنت الآية التي بعدها الرد على شبهتهم الواهية، ومضمونه: قل لهم يا محمد: لقد نزّل القرآن المتلو عليكم جبريل روح القدس (أي المطهر) عليه السلام، من ربك بالحق، أي حقا، مقترنا بالصدق والعدل والحكمة، واجبا لمعنى المصلحة أن ينزّل، والنسخ من جملة الحق. والغاية من تنزيله: تثبيت الذين صدّقوا بما أنزل الله أولا، وآخرا، وتطمين قلوبهم، وهدايتهم وإرشادهم للطريق الأقوم، وتبشيرهم بالجنة إذا أسلموا وأطاعوا الله، وتحذيرهم من العذاب إذا عصوا أوامر الله.
والشبهة الثانية- أن الله أقسم على أنه يعلم علما تاما ما يفتريه المشركون على محمد، فهم يقولون جهلا وافتراء: إنما يعلّم هذا القرآن بشر آدمي، وليس وحيا من عند الله، ويشيرون إلى رجل أعجمي اللسان، لا يعرف العربية، غلام لبعض القرشيين، وكان بيّاعا عند الصفا، كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يمرّ عليه، ويكلمه بعض الشيء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش، يقال له بلعام، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكلمه ويعلّمه الإسلام ويرومه عليه، فقالت قريش:
هذا يعلّم محمدا من جهة الأعاجم، فنزلت الآية بسببه. والأعجمي: هو الذي لا يتكلم بالعربية.
فرد الله عليهم افتراءهم، وأبان كذبهم بأن لسان الذين يميلون إليه ويشيرون إليه أعجمي لا عربي، والقرآن كلام عربي واضح البيان، فكيف يتعلم محمد القرآن من شخص عاجز عن البيان، لا يحسن التعبير العربي؟! وهذا كذب حسي مشاهد، وافتراء مفضوح.(2/1304)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
عقاب الكفرة والمرتدين
لقد قطع الذين لا يؤمنون بآيات الله صلتهم بربهم الذي خلقهم، فحرموا من هداية الله وتوفيقه في الدنيا، وعرّضوا أنفسهم للعذاب الشديد في الآخرة، ودأبوا على الافتراء والكذب، حتى اشتهروا بصفة الكذابين، وهناك فئة أخرى أسوأ منهم وهم المرتدون عن الإسلام، وتاركو الإيمان، فاستحقوا غضب الله وعذابه، وحجبوا قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم عن نور الهداية الربانية، وكانوا حقا هم الخاسرين. قال الله سبحانه مبينا أوصاف هاتين الفئتين:
[سورة النحل (16) : الآيات 104 الى 109]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108)
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
«1» «2» [النّحل: 16/ 104- 109] .
الكلام في هذه الآيات عن فئتين: فئة المفترين الكاذبين، وفئة المرتدين عن الإسلام.
أما المفترون فهم المشركون المعروفون بأنهم الذين لا يؤمنون بآيات الله، ولا يصدقون بما أنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهؤلاء لا يهديهم الله، ولا يوفقهم للحق والإيمان بالله وبما أنزل على رسله، لفقد استعدادهم لذلك، ولاقترافهم السيئات والمنكرات، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم موجع، وهم الكاذبون المفترون، وليس
__________
(1) اختاروا.
(2) حقا أو لا محالة.(2/1305)
المفتري محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وينحصر الكذب حصرا تاما في هؤلاء الذين لا يؤمنون بآيات الله، وكرر الله هذا المعنى وإلصاق صفة الكذب بأولئك المشركين، في قوله:
وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ إذ الصفة بالشيء أبلغ من الخبر به، لأن الصفة تقتضي الدوام أكثر مما يقتضيه الخبر، فبدأ الله في هذه الآية بالخبر، وهو افتراء الكذب في قوله: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ وإنما: حاصرة أبدا، ثم أكده بالصفة وهي ثبوت صفة الكذب للمشركين وملازمتها لهم.
وأما المؤمن فشأنه الصدق والبعد عن الكذب، وتأكد هذا تاريخيا، فحينما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن صفات النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، أجابه بأنه صدوق، وكان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل:
فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل.
وأما الفئة الثانية في الآيات فهم المرتدّون، وهم الذين كفروا بعد الإيمان، وهؤلاء عليهم غضب من الله ولعنته وطردهم من رحمة الله، ولهم عذاب شديد في الآخرة، لعلمهم بالإيمان، ثم عدولهم عنه، ولأنهم استحبوا وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على الردة، ولم يثبتوا على الإيمان والدين الحق، فتسبّبوا في حجب قلوبهم عن هداية الله، والطبع أو الختم على أفئدتهم وصرفها عن طريق الهدى، بحيث لا ينفذ إليها نور الله، ووصفوا بصفة دائمة بأنهم الغافلون غفلة تامة بعيدة عما يراد بهم من سوء المصير، وكانوا من الذين لا يعقلون شيئا ينفعهم. وما أسوأ مصير الإنسان إذا انسدّت طرق الحواس لديه، فصارت لا تنفع في شيء، ولا اعتبار لديه ولا تأمّل، وكانوا حقا في الآخرة هم الخاسرين خسارة مطلقة.
والخلاصة: لقد حكم الله على المرتدين بستة أحكام: أنهم استوجبوا غضب الله، واستحقوا العذاب الأليم، واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، لأنهم قوم(2/1306)
مادّيون، وحرمهم الله تعالى من الهداية للطريق القويم، وطبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وجعلهم الله من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة.
واستثنى الله بعض المتظاهرين بالكفر، وهم الذين كفروا بألسنتهم ووافقوا المشركين على مرادهم بالإكراه بسبب الضرب والأذى، ولكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان بالله ورسوله، كما فعل عمار بن ياسر حينما عذبه المشركون، فنال من النبي في ظاهر لسانه.
فقد أخذ المشركون بلالا وخبّابا وعمارا بن ياسر، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، فلما رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حدثه فقال: كيف كان قلبك حين قلت: أكان منشرحا بالذي قلت؟ قال: لا، فأنزل الله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ
ونفى بعض المفسرين كابن عطية نزول الآية في شأن عمار قائلا:
فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من باب: فمن شرح بالكفر صدرا، فتح الله عليهم باب التوبة في آخر الآية.
ثواب المهاجرين الصابرين
اقتضت رحمة الله وفضله أن يفتح باب التوبة لبعض المؤمنين الذين جاملوا الكفار المشركين في مكة، ووافقوهم على مرادهم، وإظهار الكفر، والاعتصام بالإيمان في حقيقة الأمر وباطن القلب، وهؤلاء كانوا مستضعفين بمكة، وشأن الضعيف المعذب عادة المجاملة في القول، والإقرار بما يرضي الظلمة، غير أن المعوّل على ما في القلب من إيمان ورضا واطمئنان، قال الله تعالى مبينا فضله على هذه الفئة:(2/1307)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
[سورة النحل (16) : الآيات 110 الى 111]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
«1» [النحل: 16/ 110- 111] .
بعد أن أبان القرآن الكريم في الآيات السابقة الجزاء المستحق للمشركين المفترين الكاذبين، وللمرتدين عن الإسلام، فتح باب التوبة والأمل أمام فئة المعذّبين المستضعفين بمكة، من بعد ما فتنهم المشركون أو الشيطان، فوافقوا عتاة الشرك الظلمة، فيما أرادوا منهم من النطق بالكفر، والرجوع عن الإسلام ثم تمكنوا من الخلاص، بالهجرة إلى المدينة المنورة، تاركين بلادهم وأهليهم، ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا في الله حق جهاده في صف الإيمان، ضد جند الكفر وأعوان الشيطان، وصبروا على الأذى والبأس والشدة في المعارك، فأخبر الله تعالى أنه من بعد تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة، لغفور لهم، رحيم بهم يوم المعاد. والله دائما يقبل توبة التائبين، ويعفو عن المقصرين، ويرحم المسترحمين والضعفاء الأذلين. ويكون المقصد من الآية: أن من يفتن في دينه، فيتكلم بكلمة الكفر مكرها أو مضطهدا، وصدره غير منشرح للكفر، إذا صلح عمله، وجاهد في سبيل الله، وصبر على المكاره، فالله غفور له، رحيم به. وعبر الله تعالى عن هذه الفئة بكلمة: (ثم) لبيان بعد مرتبة هؤلاء الذين فتنوا في دينهم، وجاهدوا وصبروا، عن مرتبة المفتونين في الدين، ولم يصبروا، ولم يجاهدوا.
ثم نبّه الله على ما يتعرض له كل إنسان مؤمن أو كافر يوم القيامة من محاولة الدفاع عن نفسه، والجدال: وهو الاعتذار عن أموره وأقواله وأفعاله، إنه اليوم الذي تأتي فيه كل نفس تجادل عن نفسها أو ذاتها، كل يقول: نفسي نفسي، كما جاء في آية
__________
(1) اختبروا وعذبوا لإسلامهم. [.....](2/1308)
أخرى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) [عبس: 80/ 37] . وفي ذلك اليوم الرهيب تعطى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، والناس كلهم لا يظلمون، أي لا ينقص أحد من ثواب الخير، ولا يزاد على جزاء الشر، ولا يتعرض أحد لظلم مهما قل، صغيرا كان أم كبيرا.
وسبب نزول آية المغفرة للمفتونين: هو ما روى ابن سعد في (الطبقات) عن عمر ابن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذّب، حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب، حتى لا يدري ما يقول، وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت هذه الآية: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
وروى ابن أبي حاتم عن قتادة: أن عياشا رضي الله عنه (وكان أخا أبي جهل من الرضاعة) وأبا جندل بن سهيل، وسلمة بن هشام، وعبد الله بن سلمة الثقفي، فتنهم المشركون، وعذّبوهم، فأعطوهم بعض ما أرادوا، ليسلموا من شرهم، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا، وجاهدوا، فنزلت فيهم هذه الآية.
تدلنا السيرة المشرفة لهؤلاء على أن الصمود في وجه الظلم والظلمة الذين يفتنون الناس عن دينهم، والتمسك بجوهر العقيدة في مواقف المحنة، هو واجب المؤمن والمؤمنة، فلا تخور عزيمته، ولا يرتد عن دينه، مهما كانت الصعاب.
عاقبة الكفر بالنعم
يحذّر الله تعالى عباده دائما من إهمال شكر النعمة الإلهية، وينذرهم بما قد يتعرضون له من عاقبة وخيمة، بسبب جحود النعم وإنكار فضل الله تعالى، وضرب الله لنا المثل بمكة المكرمة قبل مجيء الإسلام، حيث كانت آمنة مطمئنة، فلا يغزوها(2/1309)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
ولا يغير عليها أحد، وكانت الأرزاق الوفيرة تجلب إليها، وأنعم الله عليها برسوله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كفرت بهذه النعم، تعرضت لآفات الدنيا من الوقوع في الجوع والخوف، وهذا المثل عبرة دائمة للأجيال، في أحب البلاد إلى الله تعالى، قال الله سبحانه:
[سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
»
[النحل: 16/ 112- 113] .
هذا مثل صريح ضربه الله عبرة للأمم والبلاد، والجماعات.
والقرية المضروب بها المثل: هي مكّة، كانت بهذه الصفة التي ذكر الله، آمنة من غارات الأعداء، مطمئنة مستقرة ليس فيها مخاوف ولا مشكلات أمنية أو اقتصادية، يأتيها رزقها رغدا، أي هنيئا سهلا واسعا، من سائر البلاد، فكفر أهلها بنعم الله، وجحدوا بها، فعمّهم الله بالجوع والخوف، وبدّلوا بأمنهم خوفا، وبغناهم جوعا وفقرا، وبسرورهم ألما وحزنا، وذاقوا مرارة العيش بعد السعة، بسبب أفعالهم المنكرة، وعبادتهم الأوثان، وتنكرهم للقرآن والشرع والهداية. ومن أتم النعم الإلهية عليهم: أنه جاءهم رسول كريم من جنسهم، عربي قرشي هاشمي، فكذبوه فيما أخبرهم به من أنه رسول إليهم، مبلّغ عن ربه، بأنه يعبدوه ويطيعوه، ويشكروه على النعمة، فجاءهم العذاب بسبب ظلمهم.
لقد أصابتهم السنون أي المحل والقحط، وتعرضوا للخوف، وهاجمتهم سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بسبب الكفر والتكذيب، جزاء لسوء صنيعهم وظلمهم.
__________
(1) منصوب على الحال، أي طيبا واسعا.(2/1310)
وإذا كانت مكة في رأي ابن عباس ومجاهد وغيرهما هي التي ضربت مثلا، فإنما ضربت لغيرها مما يأتي بعدها، ليحذر أهلها أن يقعوا فيما وقعت هي فيه.
والراجح عند الرازي وابن عطية أنه قصد بذلك قرية غير معينة، جعلت مثلا، فغير مكة مثلها، فهو عبرة لكل قرية، وجاء الكلام على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة.
والهدف من هذا المثل الذي أرشدت إليه الآية: هو وجوب الإيمان بالله وبالرسل، والتوجّه نحو عبادة الله وحده، وشكره على نعمة وآلائه الكثيرة، والمعرفة الثابتة بأن العذاب الإلهي لاحق بكل من كفر بالله وعصاه، وجحد نعمه الله عليه.
وهذا إنذار ووعيد لأهل كل قرية اتصفوا بالظلم، أي بالكفر والعصيان، إذ لا ظلم أشد من ظلم الكفر والمعصية، في حق الله تعالى.
والعذاب الإلهي من جنس العمل، سواء في الدنيا، أو في الآخرة، فإن أهل هذه القرية لما بطروا بالنعمة، بدّلوا بنقيضها، وهو محقها وسلبها، ووقعوا في شدة الجوع بعد الشبع، وفي الخوف والهلع بعد الأمن والاطمئنان، وفي انعدام موارد العيش بعد الكفاية.
ونوع هذا العذاب يختلف بحسب تحديد المراد بالقرية التي جعلت مثلا، فإن كان المراد بها مكة، فالعذاب: هو الجوع والقتل ببدر، والعيش بقلق بسبب ظهور الإسلام وقوته، واستعداد المسلمين لشن الهجوم على مكة وأهلها. وإن كان المراد بالقرية أي قرية أو مدينة قديمة غير معينة، فالعذاب هو الدمار والاستئصال وتخريب العمران وغير ذلك، كمدينة شعيب وقرى قوم لوط.
وأكثر المفسرين على أن المراد بهذه القرية: مكة وأهلها، فإنها كانت آمنة من الحروب، مطمئنة برغد الحياة، فجحدت نعم الله، وأعظمها بعثة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم(2/1311)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
فأذاقها الله شدة الجوع والخوف، وابتلوا بالقحط، حتى اضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحرقة والعلهز (وبر الإبل المخلوط بالدم) .
المأكول الحلال والحرام
أحل الله تعالى لنا الطيبات النافعة، وحرم علينا الخبائث الضارة، فكان تشريع الإسلام متفقا مع الصحة والاعتدال، دون تعسف ولا إرهاق وإعنات، وكانت دائرة الحلال في الإسلام أوسع بكثير من دائرة الحرام، فلم يحرم الله علينا شيئا إلا لما فيه ضرر في الصحة والجسد والدين، ولا يجوز لإنسان أن يحلل أو يحرم شيئا برأيه ومزاعمه، كما كان عرب الجاهلية يفعلون. وكان تحريم بعض الأشياء على بني إسرائيل بسبب ظلمهم وبغيهم، قال الله تعالى مبينا الحلال والحرام من الأطعمة وجعله من أصول العبادة والشريعة والعقيدة:
[سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 119]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
«1» «2» «3» «4» «5» [النحل:
16/ 114- 119] .
__________
(1) ذكر عند ذبحه اسم غير الله.
(2) ألجئ إلى التناول منه.
(3) غير طالب للمحرم للذة.
(4) ولا متجاوز ما يسد الرمق.
(5) بجهل وحماقة.(2/1312)
هذه الآيات تأمر المؤمنين بالتزام شرع التحليل والتحريم الإلهي، فيباح لكم أيها المؤمنون الأكل مما رزقكم الله حلالا طيبا أي مستلذا، وعليكم أن تشكروا الله على تباين حالكم من حال الكفرة، وإن كنتم تعبدونه حقا، وتطيعونه فيما أمر، وتنتهون عما نهى. وسبب نزول هذه الآية أن الكفار المشركين كانوا قد سنّوا في الأنعام سننا معينة، فأحلّوا بعضا وحرموا بعضا، فأمر الله المؤمنين بأكل جميع الأنعام التي رزقها عباده. وآخر الآية إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ تحريض للنفوس على التزام شرع الله، كما تقول لرجل: إن كنت من الرجال فافعل كذا، على معنى تحريض نفسه.
وحصر الله تعالى بكلمة إِنَّما المفيدة للحصر المحرمات وقت نزول الآية بالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والمذبوح على غير اسم الله، ثم نزلت المحرمات بعد ذلك، لكن من اضطر أو أكره أي دعته الضرورة وألجأته، من غير بغي ولا عدوان أي غير مستعمل لهذه المحرمات مع وجود غيرها، ولا متجاوز حدود الله فيها، فلا مانع من تناول هذه المحرمات، ويرخص له أكلها، ويرفع عنه الإثم حال الضرورة، فيغفر الله فعله، ويرحمه فلا يعاقبه على مثل ذلك.
ثم رد الله على المشركين الذين حرموا البحائر والسوائب ونحوها من كل ما حرّموا، وأحلوا ما في بطون بعض الأنعام وإن كان ميتة، فنهى الله المؤمنين عن سلوك سبيل المشركين بالتحليل والتحريم بآرائهم، فلا يجوز لكم أيها المشركون أن تحللوا وتحرموا بالرأي والهوى والجهالة، من دون اتباع شرع الله، ولمجرد وصف ألسنتكم الكذب من غير دليل ولا حجة، وذلك لتصير عاقبة أمركم إسناد التحليل والتحريم إلى الله كذبا، من غير إنزال شيء فيه، فإن من حلل أو حرم شيئا برأيه المحض، دون دليل أو وحي من الله، كان من الكاذبين على الله سبحانه. وهناك(2/1313)
وعيد على الكذب والكاذبين، فإن الذين يختلقون الكذب على الله، لا يفوزون بخير في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فيتمتعون متاعا قليلا زائلا، وأما في الآخرة فلهم عذاب مؤلم جدا.
ثم أخبر الله تعالى بما حرم على اليهود، فلقد حرمنا على اليهود ما قصصناه عليك في سورة الأنعام، وهو ذوات الأظفار كالأوز والبط، وشحوم الدواب ما عدا السّنام، والمجاور للأمعاء (الحوايا) والمختلط بالعظام، وما كان التحريم بظلم من الله، ولكن كان بسبب ظلم ارتكبوه، وذلك الظلم: هو عصيان أوامر الله، ومعاداة الرسل ومعاندتهم، وتجاوز حدودهم، فعوقبوا بما حرمه الله عليهم، كما جاء في آية أخرى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 4/ 160] . أي إن التحريم كان صراحة بسبب الظلم والبغي، عقوبة وتشديدا، ووضعا للعقوبة في موضعها.
وعلى الرغم من كون التحريم على اليهود، بسبب ظلم ارتكبوه، فإن الافتراء على الله ومخالفة أمره، لا يمنع من التوبة وحصول المغفرة والرحمة، فإن ربك غفار ستار، رحيم بالذين افتروا عليه التحريم والتحليل، وعملوا السوء وهو كل ما لا ينبغي من الكفر والمعاصي بسبب الجهالة، أي تعدي الطور، وركوب الرأس، ويخرج من الجهالة المتعمد، ثم تابوا وأنابوا إلى الله، وأصلحوا الأعمال على وفق مراد الله ورسوله، فإن الله يغفر الذنب للتائب، ويرحمه في الآخرة والدنيا، أي إن المغفرة والرحمة مرتبطان بالتوبة والإنابة والندم على الأفعال، وإصلاح الأعمال.(2/1314)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
اتباع ملة إبراهيم عليه السلام
إن مضمون الرسالات الإلهية الاعتقادية والأخلاقية هو واحد غير مختلف، فإن جميع الأنبياء والرسل دعوا إلى عبادة الله وحده دون إشراك، وإلى نبذ الوثنية وعبادة الأصنام.
وإلى الأخلاق الكريمة كالصدق والإحسان والوفاء بالعهد، وكان إبراهيم الخليل أبو الأنبياء عليه السلام شديد الدعوة إلى هذه الأصول المشتركة، فجاء القرآن يلزم نبينا صلّى الله عليه وسلّم باتباع ملته والاقتداء به، لاتصافه بصفات تسع هي ما يأتي في هذه الآيات:
[سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 124]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [النحل: 16/ 120- 124] .
لما كشف الله فعل اليهود وتحكّمهم في شرعهم، بذكر ما حرّم عليهم، أراد أن يبين بعدهم عن شرع إبراهيم والافتخار به، وأن يصف حال إبراهيم، ليبين الفرق بين حاله وحالهم وحال قريش أيضا.
وصف الله تعالى في هذه الآيات إبراهيم إمام الحنفاء وأب الأنبياء بتسع صفات وهي:
1- أنه كان أمة، أي رجلا جامعا للخير والصفات الحميدة ومعلما الخير، كالناس الكثير.
__________
(1) رجلا جامعا ومعلما للخير.
(2) مطيعا.
(3) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.
(4) حذف النون من ((لم يك)) لكثرة الاستعمال، كحذف الياء من: لا أبال ولا أدر.
(5) اختاره للنبوة.
(6) شريعته وهي التوحيد.
(7) فرض تعظيمه.(2/1315)
2- وكان قانتا لله، أي خاشعا مطيعا لله تعالى.
3- وكان حنيفا، أي مائلا عن الشرك والباطل، وداعيا للتوحيد ومؤمنا به.
4- ولم يكن من المشركين، بل كان من الموحدين في الصغر والكبر.
5- وكان شاكرا لأنعم الله عليه، أي جميع نعم الله عليه، قليلها وكثيرها.
6- اجتباه ربه، أي اختاره واصطفاه للنبوة.
7- وهداه الله إلى صراط مستقيم، أي وفقه في الدعوة إلى الله إلى طريق قويم.
8- وآتاه الله في الدنيا حسنة، أي حببّه إلى جميع الخلق، فكل أهل الأديان يقرون به، ويعظمونه، سواء المسلمون واليهود والنصارى. فالحسنة: لسان الصدق وإمامته بجميع الخلق.
9- وإنه في الآخرة في زمرة الصالحين، تحقيقا لدعائه: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) .
وبعد تعداد هذه الصفات التسع لإبراهيم الخليل، عليه السلام، أمر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم باتباعه، لكماله وصحة توحيده وطريقته، وبعده عن الشرك، وكونه لم يكن من المشركين، واتباع ملة إبراهيم إنما هو في أصول الدعوة، أي الدعوة إلى توحيد الله، وفضائل الأخلاق والأعمال، والوحي إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم باتباع ملة إبراهيم: من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ومن حسنات إبراهيم: تعظيمه يوم الجمعة واختياره للعبادة، كما اختاره نبينا عليه الصلاة والسلام، لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة، وتمت فيه النعمة على العباد.
أما تعظيم اليهود السبت واختيارهم إياه فلأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئا(2/1316)
من المخلوقات، وفرغ فيه من خلق مخلوقاته، وإنما شرع تعظيمه عند اليهود الذين اتفقوا على ذلك أخيرا، وألزموا به إلزاما قويا، فذلك عقوبة من الله لهم، حيث إنهم لم يثبتوا على تعظيمه، بل عصوا فيه وتعدوا، فشدد الله عليهم، وأعنتهم في هذا التكليف، ولم يكن تعظيمه من ملة إبراهيم.
وكان باقي الآية وعيدا لهم، فالله يفصل بين الفريقين من اليهود فيما اختلفوا فيه في شأن اتباع موسى وعيسى، ويجازي كل فريق بما يستحق من ثواب وعقاب. وظل اليهود متمسكين بتعظيم السبت، حتى بعث الله عيسى عليه السلام، فحولهم إلى يوم الأحد، كما تحولوا إلى الصلاة شرقا عن الصخرة. ثم عدلوا عن تحويل عيسى، وعادوا إلى ما كانوا عليه.
وهناك اختلاف آخر بيّن اليهود، غير الاختلاف المذكور في الآية، ذكره نبينا صلّى الله عليه وسلّم في الحديث، حيث قال فيما رواه الشافعي والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يوم الجمعة، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد» .
يظهر من إبراز هذه الاختلافات مراد واضح لله عز وجل وهو أن تتحد الأمم والشعوب، والجماعات والأفراد على عقيدة واحدة وعبادة واحدة، وأخلاق ومعاملات واحدة، وعادات ومناهج واحدة، وحينئذ يعم الخير، ويسود السلام، وتنتهي المنازعات إلى يوم القيامة.(2/1317)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
أسلوب الدعوة إلى الله
النجاح المحقّق والدائم في الأعمال يتوقف على الأسلوب الناجح والمنهج المعقول، والخطة السليمة، وبما أن غرس العقيدة في القلب ليس أمرا سهلا، فيحتاج ذلك إلى حكمة في الخطاب، وإثارة العاطفة، وإقناع العقل، وتنبيه الفكر، وإذا استخدمت هذه الوسائل، ولم تحقق الهدف المطلوب، كان الموقف من المخاطبين متسما بالعناد وركوب الرأس، والتأثر بالأهواء والمصالح أو لعوامل أخرى كالتبعة إلى سيد أو قائد، والمهم التزام الأسلوب الحسن، كما قال الله تعالى في الدّعوة إلى دين الله تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 125 الى 128]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
«1» [النحل: 16/ 125- 128] .
اشتملت الآيات على بيان أسلوب الدعوة إلى الله تعالى، وعلى العدالة والمماثلة في العقاب، وعلى الصبر في المحن والمصائب.
وسبب نزول الآية: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ... فيما
روى الحاكم والبيهقي والبزار عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف على حمزة حين استشهد، وقد مثّل به، فقال، لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم واقف، بخواتيم سورة النحل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ...
__________
(1) مضايقة وحرج. [.....](2/1318)
إلى آخر السورة، فكفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمسك عما أراد.
أي من الانتقام والأخذ بالثأر لحمزة.
فهذه الآية نزلت في شأن التمثيل بالحمزة رضي الله عنه في يوم أحد. وقيل لهرم ابن حبان حين احتضر: أوص، فقال: إنما الوصية في المال، ولا مال لي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الآيات.
والمعنى: ادع أيها النبي الناس إلى دين الله وشريعة ربك، وهي الإسلام، بالحكمة: أي بالقول المحكم، والموعظة الحسنة، أي بالعبرة والتوجيه والكلمة المؤثرة في القلوب، والتلطف بالإنسان، بإحلاله وتنشيطه، ليحذر الناس بأس الله تعالى، ويحققوا لأنفسهم النجاح، وجادلهم بالتي هي أحسن، أي وحاججهم محاجة تتصف بالحسن، والإقناع، وبالرفق واللين، ولطف الخطاب، والصفح عن المسيء، وقابل الإساءة بالإحسان، واقصد من الجدال الوصول إلى الحق، دون رفع الصوت أو السبّ أو التعيير أو التهكّم والاستهزاء، كما قال الله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت: 29/ 46] .
ثم ذكر الله تعالى علة الأمر بالمجاملة في القول: وهي أنه سبحانه علم الشقي والسعيد من الناس، ومن حاد أو انحرف عن سبيل الله والحق، وهو مجازيهم على ضلالهم واهتدائهم حين لقاء ربهم، فله وحده الجزاء والحساب، لا لأحد من البشر ولو كان نبيا.
والعقاب ينبغي أن يكون بالمثل، فإن عاقبتم أحدا من الناس على إساءته أو جرمه، فعاقبوه بمثل فعله، فذلك هو موجب العدل، ولئن صبرتم على الأذى وصفحتم عن المسيء، فالصبر والعفو خير للصابرين أو العافين من الانتقام، لأن انتقام الله أشد، وعقابه أعظم. فهذه الآية كما تقدم بإجماع المفسرين مدنية نزلت في(2/1319)
شأن التمثيل بحمزة رضي الله عنه يوم أحد. ولتأكيد مضمونها أمر الله نبيه بقوله:
اصبر أيها النبي على ما أصابك من أذى في سبيل الدعوة، وما صبرك إلا بعون الله وتوفيقه ومشيئته، ولا تجزع أو لا تحزن على إعراض المشركين والمخالفين المعادين، فإن الله قدّر ذلك، ولا تحزن على قتلى أحد، فترك الحزن مما يستعان به على الصبر، ولا تكن في غم وضيق صدر من مكرهم وتدبيرهم الكيد لك، ومحاولتهم إلحاق السوء والأذى بك، فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك.
إن الله مع المتقين الذين تركوا المحارم، واجتنبوا المعاصي، إنه تعالى معهم بالنصر والعون والتأييد، والله مع المحسنين أعمالهم برعاية الفرائض والمندوبات في فعل الخير، والقيام بالطاعة، وأداء الحقوق، وفعل الواجبات. والصبر: من التقوى والإحسان. إن هذه المعية لله مع المتقين والمحسنين معية خاصة، يراد بها الإعانة والتأييد والهداية.(2/1320)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
تفسير سورة الإسراء
معجزة الإسراء
تقترن نبوة النبي أو إرسال الرسول عادة بمعجزة: وهي الأمر الخارق للعادة، لإثبات النبي أو الرسول صدقه أمام قومه، وأنه نزل عليه الوحي من ربه، ومن المعروف أن الله تعالى أيّد نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمعجزات مثل معجزات الأنبياء قبله، وقد ينفرد بمعجزة لا يماثله فيها نبي سابق، مثل انشقاق القمر، والإسراء والمعراج. وكان حادث الإسراء قبل الهجرة بعام أو بعام ونصف، وكان ذلك في رجب، والنبي صلّى الله عليه وسلّم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وعشرين يوما، والمتحقق أن ذلك كان بعد شقّ الصحيفة: وثيقة مقاطعة قبائل قريش لبني هاشم وبني المطلب. وافتتح الله تعالى سورة الإسراء بخبره الموجز في الآية التالية من سورة الإسراء المكية:
[سورة الإسراء (17) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
«1» «2» «3» [الإسراء: 17/ 1] .
لفظ الآية يقتضي أن الله عز وجل أسرى بعبده: وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم. والمعنى: تنزه الله تعالى من كل سوء أو عجز أو نقص أو شريك أو ولد، فهو كامل الصفات تام القدرة، فهو الذي أسرى بعبده محمد بواسطة الملائكة، في جزء من الليل، وبشخصه
__________
(1) تنزيها لله وتعجيبا من قدرته.
(2) سار به ليلا بالبراق.
(3) وهو مسجد بيت المقدس، سمي ((الأقصى)) في ذلك الوقت لأنه كان أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة.(2/1321)
جسدا وروحا، في تمام اليقظة، لا في المنام، من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى، في بيت المقدس، وعاد إلى بلده في ليلته لأن الله تعالى قادر قدرة تامة على فعل العجائب والمعجزات.
وأكثر المفسرين اتفقوا على أن الإسراء حدث بالجسد والروح، المعبر عنه بكلمة «عبده» وهو مجموع الروح والجسد فركب على البراق يقظة، لا في الرؤيا والمنام، ولو كان مناما لقال الله تعالى: بروح عبده، ولم يقل: «بعبده» ولو كان مناما، لما كانت فيه آية ولا معجزة. ثم عرج بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى السموات وإلى ما فوق العرش، حيث فرضت في المعراج الصلاة على المؤمنين، وكانت بحق معراج المؤمن، وصلة بين العبد وربه، ولا خلاف أن في الإسراء والمعراج فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة.
ووصف الله تعالى ما حول الأقصى بالبركة من ناحيتين:
إحداهما- النبوة والشرائع وإرسال الرسل الذين كانوا في ذلك القطر، وفي نواحيه ونواديه.
الناحية الثانية- النّعم من الأشجار والمياه والأرض الخصبة ذات الأنهار والأشجار والثمار، التي خص الله الشام بها.
روى ابن عساكر عن زهير بن محمد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله تعالى بارك ما بين العريش والفرات، وخص فلسطين بالتقديس»
وهو ضعيف.
وكان القصد من الإسراء: هو ما قاله الله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي لنري محمدا بعينيه آياتنا الكبرى في السماوات، والملائكة، والجنة، وسدرة المنتهى وغير ذلك. مما رآه تلك الليلة من العجائب. وقوله تعالى في نهاية الآية: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وعيد من الله تبارك وتعالى للكفار على تكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم في أمر الإسراء، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك، معناها: إن الله هو السميع لما تقولون، البصير(2/1322)
بأفعالكم، يسمع الله أقوال المشركين وتعليقاتهم على حادث الإسراء واستهجانهم لوقوعه، واستهزاءهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في إسرائه من مكة إلى القدس، والله يبصر ما فعل أولئك المشركون، وبما يكيدون لنبي الله ورسالته.
وقد تواترت بذلك الأخبار والأحاديث النبوية في مصنفات الحديث الثابتة، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، حيث روي عن عشرين صحابيا. وجلّ العلماء على أن الإسراء كان بشخصه صلّى الله عليه وسلّم، وأنه ركب البراق من مكة، ووصل إلى بيت المقدس وصلّى فيه. والحديث مطوّل في البخاري ومسلم وغيرهما. والبراق كما جاء في كتاب الطبري: هو دابة إبراهيم عليه السلام الذي كان يزور عليه البيت الحرام.
والإسراء بكامل شخص النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الصحيح، ولو كانت الحادثة منامية، ما أمكن قريشا أن تشنّع، ولا فضّل أبو بكر رضي الله عنه بالتصديق، لأنه كان أول المصدّقين، ولا قالت له أم هانئ: لا تحدث الناس بهذا، فيكذبوك. وأما المراد بقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 17/ 60] . فهي رؤيا بصرية لا منامية، لأنه يقال لرؤية العين: رؤيا. وأما ما نقل عن عائشة رضي الله عنها بأن الإسراء رؤيا منامية، فهو لم يصح، لأن عائشة كانت صغيرة، لم تشاهد الحادث، ولا حدّثت بذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
إنزال التوراة على موسى عليه السلام
إن من أصول الإيمان في ديننا: هو الإيمان بالكتب السماوية المنزلة على الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، وهي مائة وأربعة كتب: صحف شيث ستون، وصحف إبراهيم ثلاثون، وصحف موسى قبل التوراة عشر، والتوراة والزبور(2/1323)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
والإنجيل والفرقان، وقد أخبر الله تعالى في أوائل سورة الإسراء بإنزال التوراة على موسى عليه السلام أحد الأنبياء والرسل الخمسة أولي العزم، فقال سبحانه:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
«1» «2» [الإسراء: 17/ 2- 3] .
عطف الله تعالى بقوله: وَآتَيْنا على حادث الإسراء في قوله: أَسْرى بِعَبْدِهِ لعقد الصلة بين الخبرين، كأنه سبحانه قال: أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا، وآتينا موسى كتاب التوراة، فلقد أكرم الله تعالى موسى عليه السلام، قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم، بالكتاب المنزل الذي آتاه أو أعطاه إياه، وهو التوراة الذي جعله الله هداية لبني إسرائيل، يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب، من ظلمات الجهل والضلال والكفر، إلى نور العلم والمعرفة والدين الحق. وقد جعلنا ذلك الإنزال لئلا تتخذوا يا ذرية نوح من دون الله وكيلا تفوضون إليه أموركم، فقوله سبحانه: وَكِيلًا أي ربّا تكلون إليه أموركم.
والمقصود: لا تتخذوا ربا تفوضون إليه أموركم، فأنتم من ذرية أو بني نوح لصلبه، لأن نوحا عليه السلام، آدم الأصغر، وأبو البشر الثاني، وكل من على الأرض من نسله، وتلك الذرية: هم الذين نجاهم الله من الغرق مع نوح، وهداهم إلى طريق التوحيد والحق والخير، وتعداد هذه النعم على الناس في الإنجاء المؤدي إلى وجودهم، يقتضي قبح الكفر والعصيان منهم، كما أن أصلهم وهو نوح كان عبدا شاكرا لأنعم الله وكثير الشكر في أحواله، يحمد الله في كل حال، وعلى كل نعمة، على المطعم والمشرب والملبس وقضاء الحاجة ونحو ذلك. فما على الذرية إلا أن يقتفوا أثر نوح، ويتبعوا منهجه وسنته في توحيد الله وعبادته، والاقتداء به.
__________
(1) ربا تكلون إليه أموركم.
(2) منصوب بفعل: تتخذوا، فهو مفعول به ثان، أي ألّا تتخذوا بشرا إلها من دون الله، أو منصوب على الاختصاص أو على النداء، أي أخص ذرية أو يا ذرية.(2/1324)
ووصف نوح بكونه (عبدا) ، ووصف نبينا محمد أيضا بأنه (عبد الله) دليل واضح على مرتبة الأنبياء، وهي مرتبة العبودية الخالصة لله تعالى، فإن معجزة الإسراء والمعراج الخارقة لنبينا، لا يصح وصفها بغير حقيقتها، ولا إنزال النبي في منزلة تتجاوز موضعه الحقيقي، وهو كونه عبدا لله، أي خاضعا لعزة الله وسلطانه.
وإن إنزال التوراة على موسى عليه السلام إنما هو من أجل الالتزام بأحكامها والاهتداء بهديها، والتقاء أتباعها مع دعوة الحق، ودعوات الأنبياء جميعا، ومنهم نوح عليه السلام وخاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وسلّم. وهذا المنهاج الموحد للأنبياء: هو الذي ينبغي أن يقتدي به الناس، فإن الدعوة إلى توحيد الله وعبادته واحدة في كل الشرائع، ولا يصح أن يكون بين أتباع الأنبياء اختلاف وأحقاد، وكراهية وعداوة، فذلك شأن من لا يؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وتوحيد هذا المنهاج يفهم مما ربط الله تعالى به النهي عن الإشراك واتباع ذرية نوح الموحدة لله، والمراد الحمل على التوحيد لله، بذكر إنعامه تعالى عليهم المتضمن إنجاء آباء البشرية من الغرق في سفينة نوح عليه السلام، حين لم يكن لهم وكيل يتوكلون عليه، سوى الله تعالى.
وينبني على منهج التوحيد لله رب العالمين ألا يتخذ البشر أحدا منهم إلها من دون الله، أو أربابا من دون الله، فإن المنعم الحقيقي هو الله تعالى، والناس بسبب ضعفهم وحاجتهم إلى الله سبحانه أجدر بهم أن يتجهوا نحو ربهم الذي خلقهم وهداهم وأنعم عليهم، وهو وحده الذي يحاسبهم في الدار الآخرة على كل ما قدموه من خير أو شر.(2/1325)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
إفساد الإسرائيليين وتشريدهم مرتين
إن جزاء الأمم في ميزان العدل الإلهي يكون بحسب الطاعة أو العصيان، ولا يكون عقاب من الله تعالى لأحد إلا بسبب جرمه وجحوده، أو تحديه وعناده ومعارضته دعوة الرسل، وخروجه عن هدي الله تعالى. وهكذا كان الحال مع بني إسرائيل في التاريخ، أفسدوا في الأرض، فشردوا فيها مرتين بسبب فسادهم، ويتكرر العقاب أو الثواب عادة بتكرر سببه. قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 8]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» [الإسراء: 17/ 4- 8] .
هذه الآيات: إخبار عن أحوال بني إسرائيل وتاريخهم القديم، ومضمون الخبر:
أن الله أعلمهم في التوراة على لسان موسى، وقضى عليهم في أم الكتاب أنهم سيفسدون في الأرض التي يحلّون فيها مرتين، ويخالفون مخالفتين: مخالفة ما جاء في التوراة وتغييرها، وقتل بعض الأنبياء مثل أشعيا وزكريا ويحيى، ويتكبرون عن طاعة
__________
(1) علمناهم بما سيقع منهم من الإفساد مرتين.
(2) تتجاوزنّ في الظلم والعدوان.
(3) يجوز أن يقع الوعد في الشر بمعنى العقاب الحالّ.
(4) ذوي قوة.
(5) الديار: هي المنازل والمساكن.
(6) الغلبة.
(7) أكثر عددا من عدوكم.
(8) أي بعثناهم ليسوءوا، فهي لام ((كي)) .
(9) ليدمروا ما استولوا عليه. [.....]
(10) مهادا.(2/1326)
الرسل، ويطلبون في الأرض العلو والفساد، ويظلمون من قدروا على ظلمه، وهذا مطابق لما هم عليه الآن.
فإذا حان موعد المرة الأولى من الإفساد والشر، وحل وقت العقاب، سلط الله عليهم جندا أولي بأس شديد، أي قوة وشدة، فتوغلوا في بلادهم وتملكوها، وقاموا بتخريب مدنهم، وإحراق التوراة، وسبي كثير منهم، وكان هذا وعدا حتمي الوقوع، نافذ المفعول، بسبب تمردهم عن طاعة الله، وقتلهم الأنبياء.
ثم رد الله تعالى لهم القوة، وأهلك أعداءهم، وجعلهم أكثر نفيرا أي عددا من الرجال، وأمدهم الله بالأموال والأولاد، في حال الطاعة والاستقامة على أمر الله.
وتبدّل هذه الحال للعبرة والعظة.
وبما أن شرع الله وقانونه عادل، فإن الله سبحانه أوضح لهم أنه إن أحسنوا العمل، وأطاعوا الله، واتبعوا الأوامر، واجتنبوا النواهي، فإنهم يحسنون لأنفسهم لأن الطاعة تنفعهم، وإن أساؤوا بفعل المحرّمات، أساؤوا لأنفسهم، لأن وباء المعصية يضرهم، ويمنع عنهم الخير، ويؤدي إلى تسلط الأعداء في الدنيا، وإيقاع العذاب في الآخرة.
وإذا حان موعد الإفساد الثاني، وحل أجل العقاب عليه، بعث الله عليهم الأشداء، وتعرضوا لإظهار الإساءة في وجوههم بالقهر والإهانة من أولي البأس الشديد، ودخول مسجد بيت المقدس قاهرين مفسدين، كما حدث في المرة الأولى، ولتدمير وتخريب ما ظهروا عليه تخريبا وهلاكا شديدا، بإزالة آثار الحضارة والعمران، وإبادة السكان، وإتلاف الحرث والزرع والثمر.
ثم يفتح الله تعالى باب الأمل أمام المفسدين من بني إسرائيل، ومضمونه: لعل الله أن يرحمهم، ويعفو عنهم بعد انتقامه منهم في المرة الثانية من تسليط الأعداء، إن(2/1327)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
تابوا وأقلعوا عن المعاصي، فإن عادوا إلى الإفساد والعصيان في مرة ثالثة، أعاد الله عليهم تسليط الأعداء، وإنزال العقاب بهم، بأشد مما مضى سابقا، مع ادخار العذاب لهم أيضا في الآخرة.
والله تعالى جعل جهنم للكافرين مستقرا وسجنا لا محيد عنه، كما جعلها مهادا ومستقرا لهم، ومحطة تشوى فيها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وهذا تصوير لشمول العذاب لهم، كما جاء في آية أخرى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: 7/ 41] أي أغطية.
وتكون العبرة في سرد وقائع التاريخ الإسرائيلي في القرآن واضحة، وهي أن التنكيل والعذاب شأنهم في الدنيا إذا أدمنوا الفساد والإفساد، والإنقاذ والرحمة كغيرهم يشملهم إذا استقاموا على طاعة الله والتزموا أوامره.
الغاية من إنزال القرآن
لكل شيء حكمة وغاية، وأفعال الله تعالى تهدف إلى تحقيق غاية، وترشد إلى مصلحة، وتدعو إلى ما فيه خير، وتمنع كل ما هو شر، وإنزال القرآن الكريم والدعوات الإلهية والرسالية أو النبوية من أجل تحقيق غايات كبري وأهداف سامية، لمصلحة البشرية جمعاء، وللمسلمين والمسلمات بصفة خاصة، وأهداف القرآن: عامة وخاصة، وعمومها: الهداية للطريق التي هي أقوم، وخاصة: تبشير الطائعين بالجنة، وإنذار العصاة بالنار، قال الله تعالى مبينا هذه الأهداف:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 11]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)(2/1328)
«1» [الإسراء: 17/ 9- 11] .
هذه الآيات دعوة صريحة قاطعة مقنعة للناس جميعا، للإيمان بالقرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله، لإنقاذهم من الظلمات إلى النور، وإسعادهم في الدنيا والآخرة، وأسباب هذه الدعوة ثلاثة:
أولا- إن القرآن الكريم يرشد ويدعو للحال والطريقة التي هي أقوم وأصلح، وأسدّ وأحكم، وهي الدين القويم، وملة التوحيد الخالص لله: (لا إله إلا الله) والأقوال والأفعال السديدة الرشيدة.
ثانيا- إن القرآن العظيم ذو هدف إصلاحي جذري في الحياة الإنسانية، فهو يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات من فرائض ومندوبات وأعمال خيّرة، يبشرهم بالثواب العظيم أو الأجر الكبير وهو الجنة يوم القيامة، جزاء عملهم. وعمل الصالحات إنما هو لكمال الإيمان، وترجمة المصداقية والانسجام مع العقيدة.
ثالثا- إن القرآن المجيد ينذر الذين لا يصدقون بوجود الله وتوحيده، ولا بوجود البعث والآخرة، والثواب والعقاب، ينذرهم بالعذاب الشديد الموجع أو المؤلم، جزاء ما قدموا من سوء الاعتقاد وفساد الأعمال.
فيكون للقرآن هدف إيجابي وسلبي معا في آن واحد، فهو يبشر المؤمنين العاملين عملا صالحا بالجنة، وينذر الكافرين بالعذاب الأليم، وفي هذا التوجه المزدوج مسرّة لأهل الإيمان، ووعيد للكفار والعصاة.
ولكن الإنسان ظالم لنفسه عادة، ويتعجل النتائج، مما استدعى أن تكون هذه
__________
(1) أعتدنا: معناه أحضرنا وأعددنا.(2/1329)
الآية: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ ذامّة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأولادهم في وقت الغضب والتضجر، فهم يدعون بالشّر في ذلك الوقت، كما يدعون بالخير في وقت التثبت، فلو أجاب الله دعاءهم في وقت الشر لأهلكهم، ولكن الله تعالى يصفح ولا يجيب دعاء الضّجر المستعجل.
إن الله لطيف بعباده، لا يجيب دعاء المتعجل بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة، كما يدعو ربّه بالخير، أي بالعافية والسلامة والرزق، ولو استجيب دعاؤه لهلك، ولكن الله بفضله ورحمته لا يستجيب دعاءه، كما قال الله سبحانه في آية أخرى:
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس: 10/ 11] .
وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تدعو على أنفسكم، ولا على أموالكم، أن توافقوا من الله ساعة إجابة، يستجيب فيها» .
والذي يحمل الإنسان على ذلك مع الأسف: هو قلقه وعجلته، وطمعه وحرصه، كما صوّر القرآن هذا الطبع في قوله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أي يتعجل تحصيل المطلوب، دون تفكير في عواقبه.
وكلمة: (الإنسان) في الآية يراد بها الجنس (وهو أيّ إنسان) بحسب ما في الخلق من ذلك. وما على الإنسان إلا أن يتعقل ويصبر ولا يتعجل، ويفوض الأمر للخالق البارئ المقدر، ويهتدي بهداية القرآن في الإرشاد لما فيه حسن الختام والعاقبة، ولما يتفق مع الواقع، فليست الحياة جنة طافحة بالنعم والخير، وإنما فيها الشر والشدة أحيانا، كما أن فيها الخير واليسر والسعة أحيانا أخرى.(2/1330)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
المسؤولية الشخصية
الحياة ابتلاء واختبار، والإنسان يتقلب في المعاش والكسب مستفيدا من ظرف الليل والنهار، وما فيهما من فوائد تدل على قيمة الوقت وحساب الزمان، ومقتضى العدل والحق أن يستقل كل إنسان في عمله والمسؤولية عنه، لأن له ثمرته، وعليه تبعاته، ويكون حسابه في الدنيا والآخرة حسابا فرديا شخصيا، لا يسأل عن عمل غيره، وهو الذي يسطّر لنفسه النتائج، فمن اهتدى إلى الحق والخير، وعمل بموجبها، كان نفع الهداية لنفسه، ومن تنكر للحق وسلك طريق الشر، كان وبال الضلال على نفسه، فالمسئولية شخصية، ولا ثواب ولا عقاب إلا بعد البيان والإنذار، قال الله تعالى مبينا هذه القواعد:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 12 الى 15]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)
«1» «2» »
«4» «5» «6» [الإسراء: 17/ 12- 15] .
هذه الآيات تبين بعض نعم الحياة الدنيوية، وهي أيضا تدل على قدرة الله العظمى وحكمته البالغة، فالله سبحانه جعل الليل والنهار علامتين دالتين على قدرته وبديع صنعه، وفي تعاقبهما تحقيق مصلحة الإنسان والحيوان والنبات، أما الليل وظلامه، ففيه الراحة والسكون، وأما النهار وضوؤه بالشمس، ففيه التقلب في أنحاء
__________
(1) جعلنا القمر مطموس الضوء.
(2) جعلنا الشمس مضيئة.
(3) وكلّ: منصوب بفعل مقدر تقديره أوجدنا.
(4) أي ألزمناه عمله من خير أو شر.
(5) حاسبا أو محاسبا.
(6) لا تحمل نفس آثمة.(2/1331)
الدنيا للعمل والعيش والكسب، والضوء يناسبه الحركة والانتقال وإتقان الأعمال، والظلام في الليل يناسبه هدوء الأعصاب، وراحة الجسد، ومتعة العقل والفكر. وفي تعاقب الليل والنهار ابتغاء الرزق والتمكن من التخطيط ليلا، وإنجاز العمل نهارا.
وفي دوران الليل والنهار تعريف بحساب الزمان ومرور الأيام والشهور والأعوام، والتعرف على المصالح في الدورات الزراعية، وتحديد الآجال والأعمار، والديون والمعاملات، ومعرفة حساب وقت العبادات من صلاة وصيام، وحجّ وزكاة، ولو لم يتغاير الليل والنهار لما تحققت الراحة، ولما عرف مقدار الوقت، وعاش الإنسان في عماية وجهالة، أو في تعب وعناء، لحساب الأشياء وتقدير الأزمان.
ومن كرم الله وفضله: أنه سبحانه أبان للإنسان كل شيء به حاجة في مصالح الدين والدنيا والآخرة، وعرّفه طريق الحياة، ودستور المعيشة، وأسلوب المعاملة، بتفصيل دقيق، وبيان واف.
وجعل الله عمل كل إنسان ملازما له، بخيره وشره، فيكون المراد بقوله سبحانه:
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ هو عمله، فالطائر: هو العمل الصادر عن الإنسان، وملازمته له كملازمة الطائر لصاحبه.
قال ابن عباس: (طائره) : ما قدّر عليه وله. وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف من عادة زجر الطير تيامنا وتشاؤما وسيخرج الله لكل إنسان يوم القيامة كتابا يراه، ويستقبله منشورا أمامه، فيه جميع أعماله خيرها وشرها. ويقال له حين تلقّي الكتاب: اقرأ كتاب عملك في الدنيا، كفى بنفسك حاسبا تحسب أعمالك وتحصيها. قال الحسن البصري: قد عدل، والله فيك، من جعلك حسيب نفسك.
وإذا كان كل واحد مختصا بعمل نفسه، فمن اهتدى إلى الحق والصواب، واتبع(2/1332)
شرع الله وهدي النبوة، فإنما ينفع نفسه، ومن ضل في عمله، وحاد عن شرع الله، وجحد به وبرسله، فإنما يضر نفسه. نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة حين قال: يا أهل مكة، اكفروا بمحمد، وإثمكم علي.
وأعلن الحق سبحانه مبدأ عظيما من مفاخر الإسلام وهو أنه لا تتحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها، وهذا مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية، وهو رد على أهل الجاهلية والأمم السابقة الذين يوجهون المسؤولية لغير الجاني أو المخطئ.
ومبدأ آخر نص عليه القرآن عملا بمقتضى العدل والحكمة والرحمة وهو أنه لا عقاب ولا عذاب إلا بعد بيان وإنذار، وإرسال رسول، سواء في الدنيا والآخرة، وهو المبدأ القانوني المشهور: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص. وهذا يتطابق مع معنى آية أخرى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 35/ 24] .
أسباب الهلاك والدمار
لقد بعث الله الرسل والأنبياء لمهمة إنسانية سامية: وهي الإرشاد للدين الحق، فأرسل الله آدم عليه السلام بالتوحيد، وغرس المعتقدات الدينية في بنيه، وأقام الله الأدلة الكثيرة الدالة على الإله الصانع. فإذا توافر البصر الصحيح والعقل السديد، وجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك على يد نوح عليه السلام، بعد غرق الكفار، ثم تتابع الرسل الكرام إلى خاتم النبيين بالدعوة إلى توحيد الله وطاعته، وتجنب الشرك ومعصية الله، فإذا قابل الناس هذه الدعوة بالرفض، استحقوا الدمار والهلاك، وتلك سنة الله تعالى المعبر عنها في هذه الآيات:(2/1333)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 16 الى 17]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
«1» «2» «3» «4» «5» [الإسراء: 17/ 16- 17] .
المعنى: إذا دنا وقت إهلاك قوم بعذاب الاستئصال، أمر الله المترفين (أي المتنعمين) بالطاعة والخير أمرا فعليا، فإذا عصوا ذلك الأمر وفسقوا، وخرجوا عن حدود الطاعة وتمردوا، وجب عليهم العذاب جزاء وفاقا لعصيانهم فدمرهم الله تدميرا، وأبادهم إبادة تامة. وخص الله المترفين لأنهم الواجهة، وأنهم أولى بالشكر من غيرهم ولأن فسقهم هو المؤثر في فساد القرية، وسواهم تبع لهم، وفي قراءة أخرى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها
أي ملّكناهم على الناس، وليس المراد إمارة الملك، وإنما جعلهم يأمرون ويؤتمر لهم. وقوله تعالى: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أي وعيد الله الذي قاله رسولهم، وهو التدمير: أي الإهلاك مع طمس الآثار وهدم البناء.
ثم أنذر الله تعالى كفار قريش وأمثالهم في تكذيبهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، بأن كثيرا من الأمم وجب عليهم العذاب بذنوبهم، ومفاد الآية: كثيرا ما أهلكنا أمما من بعد نوح عليه السلام، إلى زمانكم، لما بغوا وعصوا، وجحدوا آيات الله، وكذّبوا رسله، كما أنتم الآن معشر قريش، وأنتم أيها المكذبون، لستم أكرم على الله منهم، وقد كذّبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق، فعقوبتكم أولى وألزم.
وهذا وعيد لمكذبي الرسول صلّى الله عليه وسلّم في كل زمان بشديد العقاب، وفيه دلالة على أن القرون التي مضت بين آدم ونوح، كانت على الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام. ثم ذكر الله تعالى ما معناه:
__________
(1) أمرنا متنعميها بطاعة الله.
(2) فتمردوا وعصوا.
(3) استأصلناها.
(4) كم: في موضع نصب ب ((أهلكنا)) .
(5) الأمم.(2/1334)
وكفى بالله خبيرا بذنوب خلقه، مطلعا عليها، يحصي عليهم أعمالهم ومعاصيهم، فلا يخفى عليه شيء من أفعال المشركين وغيرهم، وهو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها، لا يخفى عليه منها خافية. والخبير: العليم بأحوال الناس، والبصير: الذي يبصر أعمالهم. وفي هذه الآية تنبيه واضح على أن الذنوب: هي أسباب الدمار والهلاك، لا غير، وأن الله عالم بها، ومعاقب عليها.
وهذه الآيات تحضّ العقلاء على العمل الصالح النافع في الدنيا والآخرة، وتدفعهم إلى الجدّ وترك الكسل، والجهاد في سبيل الله حقّ جهاده.
إن العلاقة بين الله تعالى وبين الناس أمرها عجب، فالناس ينسبون إلى الله تعالى الشرك، وهو سبحانه يرزقهم ويعافيهم.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه أحمد وغيره: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، إنه يشرك به، ويجعل له الولد، ثم هو يعافيهم ويرزقهم» «1» .
وفي رواية أخرى: «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا، ويجعلون له ولدا، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم» . «2»
والإحسان والرزق يقتضيان مقابلة المعروف بمثله، إلا أن الإنسان مع الأسف يتنكر للمعروف، ولا يقابل الإحسان بمثله، جاء في أثر إلهي: «ابن آدم، خلقتك لنفسي فلا تلعب، وتكفّلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم، اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتّك فاتك كل شيء، وأنا أحبّ إليك من كل شيء» .
ويحلم الله على الإنسان، فلا يعجل له العقاب، حتى يترك له الفرصة الكافية للتوبة والإصلاح، وهو سبحانه يمهل ولا يهمل، وجعل الله سنوات العمر متدرجة
__________
(1) رواه مسلم رقم 2804. [.....]
(2) رواه مسلم، وأحمد في مسنده رقم 4395.(2/1335)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
بين الضعف والقوة، ثم الهرم والشيخوخة، ليتذكر الإنسان ويعتبر، ويعود إلى جادة الاستقامة وإصلاح شؤونه وأعماله من أقرب الطرق، فإذا استبد العناد والجحود بالإنسان، ووقف موقف التحدي، استحق الجزاء العادل.
أهل الدنيا وأهل الآخرة
تتجه الهمم والعزائم بحسب المقاصد والنيات والأغراض إما إلى الدنيا ومحبتها وإيثارها على كل شيء، وهذه هي طبيعة الماديين وعشاق المال والثراء والجاه، وإما إلى الآخرة، وتفضيلها على الدنيا لأنها النعيم الأبدي الخالد، وحذرا من الجحيم والعذاب الدائم، ويكون الجزاء بمقتضى العدل الإلهي أن يجازى كل امرئ بما كسب، ويكون هذا الجزاء من جنس العمل، وهذا ما أوضحته الآيات الآتية، قال الله في كتابه العزيز:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 21]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)
«1» «2» «3» «4» «5» [الإسراء: 17/ 18- 20] .
تصنّف هذه الآيات الناس صنفين، وتجعلهم فريقين: فريق يعمل للدنيا وحدها، وفريق يعمل للآخرة في الغالب، أما الفريق الأول أهل الدنيا العاجلة: فهم يقصرون جهدهم وعملهم على تحصيل ملذات الدنيا وشهواتها وينسون المستقبل والآخرة، ولا يؤمنون بها، فتكون النتيجة أن الله تعالى يعجل لمن يريد الدنيا
__________
(1) يدخلها.
(2) مطرودا من رحمة الله.
(3) أي أعطاها حقها من السعي بالأعمال الصالحة.
(4) نزيد من العطاء مرة بعد مرة.
(5) ممنوعا.(2/1336)
مرادهم، ويعطي من أراد الله ما يشاء بحسب علمه وحكمته، أي إن العطاء بحسب مشيئة الله، لا بحسب محبة العبد، ولمن يشاء الله، لا لكل من أراد الدنيا، ثم يجعل الله جهنم لجميع من يريد العاجلة وهو كافر بالله وبالآخرة، سواء من أعطاه فيها ما يشاء، ومن حرمه، فأهل الدنيا لا يعطون كل ما يريدون، وإنما يعطون بعض ما يتمنون. ومن يحرم من نعيم الدنيا يجمع بين فقر الدنيا وفقر الآخرة. إنهم أي أهل الدنيا يصلون، أي يدخلون جهنم، مذمومين، أي ملومين، مدحورين، أي مطرودين من رحمة الله تعالى، فيكون عذابهم متصفا بصفات ثلاث: الدوام، والإذلال، والطرد من رحمة الله.
وأما الفريق الثاني: فهم المؤمنون الأتقياء أهل الآخرة، الذين يعملون لها ما استطاعوا من القرب والطاعات، وهم مؤمنون مصدّقون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهؤلاء أهل الكمال المشكورون على طاعتهم المثابون على أعمالهم من ربهم، بسبب ملازمتهم أعمال الخير، والتزام حكم الشرع وطرقه. هذا هو قانون الجزاء الأخروي، أما الرزق في الدنيا فلا يرتبط بالإيمان أو الكفر، وإنما يرزق الله تبارك وتعالى في الدنيا مريدي الآخرة المؤمنين، ومريدي العاجلة الكافرين، ويمدهم بعطائه منها، وإنما يقع التفاضل والتباين في الآخرة، لأنها خير من الدنيا وأدوم وأخلد، أما الدنيا فهي فانية، ولا شأن لها عند الله تعالى، فيكون الرزق المادي فيها لجميع العباد، ولا يضيق رزق الله عن مؤمن ولا عن كافر، فلينظر الإنسان كيف يمدّ الله تعالى بعطائه الدنيوي كلا الفريقين: مريدي الدنيا ومريدي الآخرة، فيمنحهم الله المال والأولاد والصحة والشرف والجاه، والزينة والحظ، والعز في الدنيا، لأنّ الدنيا عند الله تعالى لا تساوي جناح بعوضة.
غير أن الرزق والعطاء الدنيوي متفاوت، متفاضل، يفضّل بعض الناس على بعض في الرزق والمتاع، فقد يعطي الله المال والثروة لكافر، ويمنعه عن كافر آخر،(2/1337)
ويحجبه عن مؤمن، لحكمة بالغة، ومصلحة للعبد نفسه، كما قال الله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف: 43/ 32] . أي ليخدم بعضهم بعضا، وقال الله سبحانه أيضا: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) [الشورى: 42/ 27] .
ثم أخبر الله تعالى أن التفضيل الأكبر والتفاوت الأعظم بين المؤمنين إنما يكون في الآخرة، فتكون الدرجات أكبر، والتباين أعظم، أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن قتادة قال: «إن بين أعلى أهل الجنة درجة، وأسفلهم، كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها» وكذلك التفاوت كبير بين أهل النار، فهم في دركات، بعضها أسفل من بعض، أي إن النار دركات، والجنة درجات، وفي الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين، كما بين السماء والأرض، قيل: وقد رضّى «1» الله الجميع، فما يغبط أحد أحدا، ولا يتمنى عن ذلك بدلا. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم» .
التوحيد وبر الوالدين
يعلّمنا القرآن الكريم الأدب الجم، والوفاء للجميل ورد المعروف، وتقدير النعمة، فليس هناك للإنسان مصدر للنعمة سوى الله تعالى، فهو المتفضل المحسن، والوالدان بحكم عاطفتهما يبذلان أقصى ما في وسعهما لتربية الأولاد والحفاظ على حياتهم وصحتهم، وإمدادهم بكل ما يحتاجون، حتى إن الوالدين يفضلان مصلحة
__________
(1) أي أرضى.(2/1338)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
الولد على أنفسهما، فكان مقتضى هذا الإحسان والتضحية مقابلة الولد لوالديه بالبر ورد الجميل، والأدب والرعاية ولا سيما في سنّ الكبر والشيخوخة، أو المرض، أو الحاجة، قال الله تعالى قارنا بين الأمر بتوحيده وعبادته، وبر الوالدين:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 22 الى 25]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)
«1» «2» «3» «4» «5» [الإسراء: 17/ 22- 25] .
خاطب الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم باعتباره نبي الإنسانية بقوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ..
والمراد: جميع الخلق، فلا تجعل أيها الإنسان المكلف شريكا مع الله تعالى في ألوهيته وعبادته، وأنما أفرد الله بالألوهية والعبادة، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا معبود بحق إلا هو، فإن جعلت أيها الإنسان مع الله إلها آخر، كنت ملوما على الشرك، مذموما من الله وكل عاقل، مخذولا لا ينصرك ربك الذي خلقك، والذم من الله ومن ذوي العقول في أن يجعل الإنسان عودا أو حجرا أفضل من نفسه، ويخصّه بالتكريم، وينسب إليه الألوهية، ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه.
ولذا أمر الله تعالى، أي ألزم أو أوجب عليكم أيها البشر عبادة الله، والاقتصار على عبادته، دون إشراك غيره فيها، وأمركم أيضا ببر الوالدين والإحسان إليهما إحسانا تاما في المعاملة.
__________
(1) غير منصور من الله.
(2) حكم وألزم.
(3) كلمة تضجر وكراهية.
(4) لا تزجرهما عما لا يعجبك.
(5) للتوابين.(2/1339)
وإذا بلغ الوالدان أو أحدهما سن الكبر، أو صارا في حال ضعف وعجز، فعلى الولد واجبات خمسة، وهي:
أولا- ألا تقول لهما أفّ: وهي كلمة تضجر وتبرم، فلا تسمعهما أدنى مراتب القول السيئ، بتوجيه كلمة إيذاء مكونة من حرفين، تدل على التضجر والمضايقة فتلك الكلمة الصغيرة ذات إساءة بالغة، حتى ولو صدر منهما ما يضايق.
ثانيا- لا تنهرهما بفعل قبيح، والنّهر: الزجر والغلطة، والانتهار: إظهار الغضب في الصوت واللفظ، أما التأفف فهو الكلام الرديء الخفي، ويراد به المنع من إظهار الضجر، وأما الانتهار فيراد به المنع من إظهار المخالفة في القول، بالردّ أو التكذيب.
ثالثا- وقل لهما قولا كريما، والقول الكريم: الجامع للمحاسن، من اللّين وجودة المعنى، والتوقير والتعظيم والحياء، ويلاحظ أن الله تعالى قدم النهي عن المؤذي، ثم أمر بالقول الحسن والكلام الطيب.
رابعا- وتواضع لهما بفعلك، وألن الجانب لهما، وقف معهما موقف الخاشع المتذلل، كحال الطائر إذا ضم إليه فرخه، فيخفض له جناحه، وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في حال ذلّة، في أقواله وسكناته ونظره، من غير حملة أو نظرة غاضب، رحمة بهما وشفقة عليهما، تنبع تلك الرحمة من النفس، لا من أجل امتثال الأمر، وخوف العار والنقد فقط.
خامسا واطلب لهما الرحمة من الله في حال الكبر بعد الوفاة. وهذا الأدب الخامس دليل على أن بر الوالدين لا يكون بالأقوال فقط، بل بالأفعال أيضا، وهو الدعاء لهما بالرحمة الجامعة لكل الخيرات في الدين والدنيا، وليقل الولد في دعائه:
رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي أفض عليهما فيض الرحمات، كالرحمة التي شملتني(2/1340)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
بتربيتهما لي في حال الصغر. وهذا التذكير بتربية الصغر مما يزيد الإنسان إشفاقا وحنانا عليهما.
ثم حذر الله تعالى من التهاون في بر الوالدين، فقال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي إن المطلوب من الولد هو البر ظاهرا وباطنا، حقيقة وفعلا، لا رياء ومجاملة ظاهرية، والعبرة بما في القلب من الإخلاص في الطاعة، لأن الله مطلع على ما في النفوس، وهو سبحانه أعلم بأحوال الولد في البر، والوعد للأولاد بغفران الذنوب في حال البر: مشروط بشرط الصلاح والرجوع (أو الأوبة) إلى طاعة الله، فإنه سبحانه كثير المغفرة للتائبين الراجعين إلى الخير، العادلين عن المعصية إلى الطاعة، وإلى ما يحبه الله ويرضاه، والمقصود من الآية: التحذير من ترك الإخلاص.
منهاج الإنفاق على القرابة والمحتاجين والأسرة
الإسلام دين التوسط والرحمة والاعتدال في النفقة على النفس والقريب والأهل والمحتاجين، فلا يصح البخل والتقتير، ولا الإسراف والتبذير، وليعتمد الإنسان على رزق الله الذي لا ينقطع ولا ينفد، وليتكل على الله الذي لا يضيع أحدا من خلقه وعباده، إذا أحسنوا العمل وقاموا بالكسب والسعي، ولم يعطلوا مواهبهم في الإنتاج والبحث واكتشاف خزائن الأرض، والإفادة من خيرات السماء، قال الله عز وجل مبينا دستور الإنفاق على القرابة والمحتاجين والأهل جميعا:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 30]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)(2/1341)
«1» «2» «3» «4» [الإسراء: 17/ 26- 30] .
نزلت الآيات في كل من كان يسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم من المساكين، وتأمره بالإنفاق من غير تقتير ولا بسط يد، فموضوعها الإحسان إلى ذوي القرابة والمساكين وأبناء السبيل، والاعتدال في الإنفاق من غير إقلال ولا إسراف.
ومطلع الآية الأولى: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم، خوطب بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد الأمة. وإيتاء حق القرابة: ما يتعين له من صلة الرحم، وسدّ الخلّة، والمواساة عند الحاجة بالمال، والمعونة بكل وجه. وعطف على القرابة: المسكين ومثله الفقير، وهما لا يجدان الكفاية، وابن السبيل وهو هنا يعم الغني والفقير، إذ لكل واحد منهما حق، وإن اختلفا في مدى العطاء، وابن السبيل في آية الصدقة أو الزكاة: أخص.
وتنهى الآية عن التبذير: وهو إنفاق المال في وجوه الفساد، أو الإسراف في المباحات، فالإسراف مذموم، والمطلوب: التوسط والاعتدال في الإنفاق، وهي سياسة الإسلام المالية والاجتماعية والدينية، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) [الفرقان: 25/ 67] .
ثم نبّه الله تعالى على قبح التبذير، جاعلا المبذرين المنفقين أموالهم في المعاصي يشبهون الشياطين، فهم قرناء المبذرين في الدنيا والآخرة، في الصفة والفعل، وكان الشيطان لنعمة ربه جحودا لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل
__________
(1) كناية عن الشح.
(2) كناية عن التبذير والإسراف. [.....]
(3) نادما.
(4) يضيقه على من يشاء.(2/1342)
على معصيته ومخالفته، والتبذير كما ذكرت: النفقة في معصية، لا في مباح، قال مجاهد: لو أنفق الإنسان ماله كله في حق لم يكن تبذيرا، ولو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا.
ثم أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية، إذا سأله أحد من المساكين وبني السبيل، فلم يجد عنده ما يعطيه، واستحى من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة، وأعرض عنه تأدبا منه، في أن يرده تصريحا، وانتظارا لرزق من الله تعالى يأتي، فيعطي منه، ويعده وعدا حسنا، ويؤنسه بالقول الميسور: وهو عقد الرجاء على فضل الله، والتأنيس بالميعاد الحسن، والدعاء بتوسعة الله تعالى وعطائه.
روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول كما ذكر القرطبي 10/ 249 بعد نزول هذه الآية- إذا لم يكن عنده ما يعطي-: «يرزقنا الله وإياكم من فضله» .
فالمراد من الرحمة في آية ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ: الرزق الحسن.
وسياسة الإنفاق من الأموال: هي القصد والاعتدال، فلا تجعل أيها النبي، وكل إنسان، يدك مغلولة إلى عنقك، أي تمسكها عن الإنفاق، وتبخل على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، ولا تسرف ولا تتوسع في الإنفاق توسعا مفرطا، فتعطي فوق طاقتك، فتقع في الملامة والحسرة والندم، حين لا تجد في يدك شيئا.
ثم أبان الله تعالى منهاج المدد الإلهي ورزق العباد، مخاطبا رسوله: كن أنت يا محمد على ما رسم لك من الاقتصاد والاعتدال، ولا يهمنك فقر من تراه فقيرا، فإنه بمرأى من الله وبمسمع وبمشيئة، فإنه تعالى يبسط الرزق لمن يشاء، ويضيّقه (يقدر) على من يشاء، ويغني من يشاء، ويفقر من يشاء، لما له من الحكمة في ذلك، يعلم مصلحة قوم في الفقر، ويعلم مصلحة آخرين في الغنى.(2/1343)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
يوضح ذلك ما
جاء في الحديث الذي ذكره السيوطي في الجامع الكبير «1» : «إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته، لأفسدت عليه دينه»
فقد يكون الغنى استدراجا إلى النار، والفقر عقوبة، وقد يكون المؤمن الصالح فقيرا، فليس تضييق الرزق على بعض الناس لسوء حالهم عند الله تعالى، ولا الإمداد والتوسعة على آخرين لحسن حالهم.
تحريم القتل والزنى وأكل مال اليتيم
لقد صان القرآن الكريم حق الحياة العزيزة الكريمة، من أجل بقاء النوع الإنساني الطاهر النظيف، وجعل الاعتداء على الأولاد والأنفس جريمة، ووأد البنات عارا ورذيلة، ووصف العلاقات غير المشروعة بأنها فاحشة وسبيل سيئ، وطريق محفوف بالمخاطر والعواقب الوخيمة، وجعل أكل أموال اليتامى ظلما وعدوانا، والوفاء بالعهد أو العقد فضيلة ومحل مسئولية ومطالبة، قال الله تعالى مبينا هذه القواعد:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 31 الى 34]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)
«2» «3» «4» «5» [الإسراء: 17/ 31- 34] .
__________
(1) وهو المسانيد 2/ 267.
(2) خوف فقر.
(3) إثما عظيما.
(4) تسلطا على القاتل بطلب القصاص أو الدية.
(5) قوته على حفظ ماله.(2/1344)
نهى الله تعالى في هذه الآيات عن ثلاثة أشياء: وهي القتل إلا بالحق، والزنا، وقربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وابتدأ الله تعالى بالنهي عن قتل الأولاد، وهو وأد البنات في قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) [التكوير: 81/ 8] يقال: كان جهل بعض العرب يبلغ أن يعز واحد منهم كلبه ويقتل ولده. نهى القرآن عن الوأد الذي كانت العرب تفعله، خشية الإملاق (أي الفقر وعدم المال) فإن رازق الأولاد وآباءهم هو الله تعالى، وقتلهم إثم عظيم وذنب كبير، وهذا دليل على أن تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده، لأنه نهى عن قتل الأولاد.
جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود: «قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّا، وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» .
ثم حرم الله الزنا «1» وحذّر من الاقتراب منه ومن تعاطي أسبابه ودواعيه، لأن تعاطي الأسباب مؤد إليه، والزنا فعلة فاحشة شديدة القبح، وذنب عظيم كقتل الأولاد، وساء طريقا ومسلكا، لأن فيه هتك الأعراض، واختلاط الأنساب، واقتحام الحرمات، والاعتداء على حقوق الآخرين، وتفويض دعائم المجتمع بهدم الأسرة، ونشر الفوضى، وانتشار الأمراض الفتاكة، والوقوع في الفقر والذل والهوان.
ثم حرم الله تعالى قتل النفس المعصومة المصونة إلا إذا وجد حق أو مسوغ للقتل، وهو أي الحق ما فسّره
النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «لا يحلّ دم المسلم إلا إحدى ثلاث خصال: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس أخرى» .
فالقتل بغير حق جريمة عظمي، لأنه اعتداء على حق الحياة، وإفساد، والله تعالى لا يحب الفساد.
__________
(1) قال ابن عطية: الزنى يمدّ ويقصر، والقصر لغة جميع كتاب الله تعالى.(2/1345)
ومن قتل ظلما وعدوانا بغير حق يوجب قتله، فقد جعل الله لمن يلي أمره من قريب كأب أو أخ، أو سلطان حاكم عند عدم وجود القريب الوارث، سلطة على القاتل، فيختار أحد أمرين: إما القصاص بعد إصدار حكم قضائي وبإشراف القاضي، وإما العفو عنه على الدية أو مجانا، والسلطة لولي الدم مقيدة بألا يسرف في القتل، بأن يمثّل بالمقتول، أو يقتل غير القاتل، أو يقتل أكثر من واحد من قبيلة القاتل، ووعد الله قريب القتيل بالعون والنصر على القاتل، فلا يسرف في القتل، فإن الله تعالى أوجب له القصاص، ويعوضه الله خيرا في الدنيا والآخرة بتكفير الخطايا، وتعذيب القاتل في النار. ويكون الأولى ترك القصاص، وأخذ الدية أو العفو مجانا.
ثم حرم الله تعالى أكل مال اليتيم، أو إتلافه، فلا يجوز الاقتراب من مال اليتيم إلا لفائدة أو مصلحة، وهي الطريقة الحسنة بحفظ ماله وتثميره، وتنميته والأكل منه حال الفقر أو الحاجة، حتى يبلغ رشيدا، ويبلغ أشده، أي يبلغ مبلغ الرجال، وحينئذ يسلّم له ماله. وهذا خطاب للأوصياء المشرفين على أموال اليتامى. والمراد من قوله تعالى: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: إلا بأحسن الحالات.
وانتهت الآية بالأمر بالوفاء بالعهد، وهو لفظ عام يشمل كل عهد ووعد وعقد بين الإنسان وربه، أو بينه وبين المخلوقين في طاعة، فالوفاء بالعهد وتنفيذ شروط العقد من الإيمان، وإن تنفيذ العهد مطلوب ممن عوهد أو عهد إليه، هل وفّى به أم لا؟
إن الوفاء بالعهد أو العقد: معناه تنفيذ مقتضاه، والحفاظ عليه على الوجه الشرعي، وبحسب التراضي الذي لا يصادم أصول الشرع، خلافا لمن يتهاون بالعقود ويتخلص منها وينقضها إذا تبدل وجه المصلحة، فذلك ذنب عظيم وجرم كبير، يتساهل به من لا دين له ولا خلق ولا كرامة.(2/1346)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
إيفاء الكيل والميزان والتثبت من المعلومات والتواضع
نظّم الله تعالى العلاقات الاجتماعية المالية، على أساس من الحق والعدل، والثقة والأمانة، وصحة المعلومات والبيانات، والتواضع في القول والكلام والفعل، حتى لا تنشأ مشكلات، أو تثار منازعات وخصومات، ولا يفتئت أحد على حقوق الآخرين، ولا يلحق به ضررا أو شرا، في معارفه، أو أخلاقه، وكرامته. وتلك أصول الحياة السوية، وميزان المبادلات والمعاملات الصحيحة، قال الله تعالى موضحا هذه الأصول:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 35 الى 39]
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)
»
«2» «3» «4» «5» [الإسراء: 17/ 35- 39] .
بعد أن أمر الله تعالى بالوفاء بالعهود والعقود والشروط الصحيحة، أمر بثلاثة أشياء أخرى، هي الوفاء بالحق، والصدق في القول، والتواضع وترك التكبر.
أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجارة والوزن والكيل أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم، فيجب إتمام الكيل وإتمام الوزن، من غير نقص، وأخذ الحق بالعدل دون جور أو زيادة، فإذا كال التاجر أو وزن لغيره، فلا ينقص المكيال والميزان، وإذا كال الإنسان لنفسه أو وزن فلا يزيد في الكيل أو الوزن، ولا مانع حينئذ من النقص عن الحق، فإن عاقبة العدل في الكيل والوزن خير للناس في الدين والدنيا في المعاش
__________
(1) أي الميزان السويّ العادل كالقبّان وغيره من الموازين الصغيرة أو الكبيرة. وقيل: القسطاس: العدل.
(2) أي مآلا وعاقبة.
(3) لا تتبع.
(4) بطرا واختيالا.
(5) مبعدا من رحمة الله.(2/1347)
والمعاد، وأحسن وأجدى مآلا وعاقبة في الآخرة، فلا يكون هناك اتهام بالخيانة أو مؤاخذة أو عقوبة يوم القيامة. ويرغب الناس في معاملة أهل العدل والإنصاف، ويثنون عليهم، فتكثر زبائنهم، وتصير سمعتهم طيبة، ويقبل الناس عليهم، وذلك أفضل من نقص لا يبارك الله فيه، أو زيادة ظالمة لا خير فيها، والغرض من الكيل والوزن: تحرّي الحق، ولا يضر التطفيف الشاذ أو اليسير، أو غير المقصود، فذلك لا إثم فيه.
ثم أمر الله تعالى بالتثبيت من المعلومات والأخبار والأحاديث، ونهى أن يقول الإنسان شيئا غير صحيح أو غير ثابت، أو يتتبع شيئا معتمدا على مجرد التخمين وسوء الظن، فهذا عيب في السلوك، وتشوية للحقائق، وإضرار بالآخرين عن غير حق، وإهدار لقدسية العلم والمعرفة والحقيقة. فيكون المراد من قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ألا يحكم الإنسان على الأشياء حكما غير صحيح، أو يعتمد على معلومات لا دليل عليها. وهذا يشمل المشركين الذين يعتقدون اعتقادا فاسدا في الإله أو النبي أو الآباء والأجداد، ويتبعون الهوى. ويشمل أيضا شهادة الزور وقول الزور، وقذف المحصنات (العفائف) بالأكاذيب والاتهامات الباطلة، والطعن في الآخرين بسوء الظن وتتبع العورات، وتزييف الحقائق العلمية والأخبار وغير ذلك، فلا يقول الإنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به، أو يذم أحدا بما لا يعلم الحق فيه.
ومن أجل كل ذلك وصحة المعلومات والمعارف، جعل الله تعالى مفاتيح العلوم والمعارف من السمع والبصر والقلب، يسأل عنها صاحبها يوم القيامة، وتسأل عنه، فإذا سمع الإنسان حراما أو أبصره أو قرره في قلبه، كان مسئولا عنه معاقبا عليه.
ثم أمر الله تعالى بالتواضع وحرّم الكبر والخيلاء أو التبختر في المشي، فمن مشى(2/1348)
متكبرا متعاظما، فإنه لن يستطيع خرق الأرض أو نقبها بقدمه، ومن تطاول على الناس لن يصل بتطاوله وتمايله وتفاخره إلى قمم الجبال، وهذا تهكم بالمتكبر والمختال.
كل ما تقدم من الخصال المكروهة القبيحة المفهومة من أضداد الأوامر، واقتراف النواهي، كان قبيحه وخبيثه مكروها ومبغوضا عند ربك، ومنهيا عنه، ومعاقبا عليه.
وكل ذلك الذي أمرناك به يا محمد من الأخلاق الحميدة، ونهيناك عنه من الخصال الرذيلة، هو مما أوحينا إليك من الأفعال والأصول المحكمة التي تقتضيها حكمة الله تبارك وتعالى في عباده، وخلقه لهم محاسن الأخلاق. وقوله تعالى: مِنَ الْحِكْمَةِ هي قوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة.
ولا تتخذ أيها النبي وكل من سمع من البشر إلها آخر شريكا مع الله، فتلقى في جهنم، ملوما من نفسك وربّك والخلق قاطبة في الآخرة، مطرودا مبعدا من رحمة الله تعالى ومن كل خير، والمدحور: المهان المبعد. وهذا غاية الإذلال والإهانة.
نسبة الولد والشريك لله تعالى
ليس هناك في تاريخ البشرية أعظم فرية ومنكرا وكذبا من نسبة الولد والشريك لله عز وجل، فقد تجاوز الناس حدودهم، وأفرطوا في الزعم والوهم، وحكموا حكما باطلا لا يستند إلى أي دليل أو شبهة دليل، سوى ما قاسوه على أنفسهم، ولم يدركوا حقيقة الفرق الكبير والبون الشاسع بين الإنسان المخلوق العاجز المحتاج إلى الولد والصاحبة والمشارك، وبين الإله القادر الخالق المستغني عن الصاحبة والولد والشريك، قال الله سبحانه مبطلا هذه الافتراءات:(2/1349)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
«1» «2» «3» «4» «5» [الإسراء: 17/ 40- 44] .
هذه الآيات تنبيه وتقريع على ما تصوّره المشركون من نسبة الولد أو البنات أو الشريك لله تعالى، والآية الأولى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ خطاب للعرب التي كانت تقول: الملائكة بنات الله، وكان الرد مفحما ومنطقيا في غاية البساطة: كيف تقبلون أيها المشركون هذه النسبة، لكم الأعلى من النسل وهم الذكور، ولله البنات؟! كيف يصح أن يجعلكم الله أصحاب الصفوة بإعطاء البنين، ويتخذ لنفسه الملائكة إناثا، وأنتم تئدون البنات ولا ترضونهن لأنفسكم، فكيف ترضون نسبتهن إلى الله؟ إنكم بهذا تقولون على الله قولا عظيما إثمه، ومعاقبا عليه، بنسبة الضعيف للقوي، والقوي للضعيف.
ولقد بينا في هذا القرآن الحجج والبينات، وحذرنا وأنذرنا ليتعظوا وينزجروا عن الافتراء والظلم، وهم في غاية الغرابة، ما يزيدهم التذكير إلا نفورا عن الحق، وبعدا عنه.
ثم أبطل الله تعالى افتراء آخر: وهو نسبة الشريك لله، والمعنى: قل لهم يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يجعلون لله شريكا في الألوهية: لو كان الأمر كما تقولون، لاحتاج هؤلاء الشركاء إلى التقرب إلى الله، وطلبوا من ذي العرش القربة إليه بطاعته
__________
(1) أفخصكم ربكم. [.....]
(2) كررنا القول بأساليب مختلفة.
(3) تباعدا عن الحق.
(4) لطلبوا.
(5) سبحانه: مصدر لفعل متروك إظهاره، بمعنى التنزيه، وموضعه هنا موضع: تنزه.(2/1350)
للحاجة إليه، فاعبدوا الله وحده، كما يعبده هؤلاء الشركاء المحتاجون لإنقاذ أنفسهم وسلامة وجودهم، لأنهم ضعفاء فقراء إلى ربهم.
تنزه الله، وتعاظم وعلا علوا شاسعا عما يقول هؤلاء المشركون المعتدون، الزاعمون أن مع الله آلهة أخرى، بل هو الله الإله الواحد، الذي لم يتخذ شريكا ولا صاحبة ولا ولدا.
تقدسه وتنزهه السماوات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات، عما يقول هؤلاء المشركون، ويشهدون له بالوحدانية في الربوبية والألوهية، وما من شيء إلا يسبّح بحمد الله تعالى، أي يشهد ويدل بخلقه من غيره على وجود الخالق الواحد، وينزه الله ويمجّده عن هذه المقالة التي لكم، والإشراك الذي تعتقدون به. والتسبيح من الناس: هو قولهم: سبحان الله، وهذا حقيقة، ومن الجمادات ونحوها: معناه الدلالة على تنزيه الله عز وجل، فكل شيء تبدو فيه صنعة الصانع الدالة عليه، وهذا مجاز، فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر المتعظ. وقال جماعة: هذا التسبيح من الشجر والجمادات حقيقة، ولكن لا يسمعه البشر ولا يفهمونه.
ولكن لا تفهمون أيها البشر معاني تسبيحهم لأنه بخلاف لغاتكم. إن الله تعالى كان وما يزال حليما على الناس، لا يعاجل بالعقوبة من عصاه، وإنما يمهل ويؤجل، ويغفر لمن تاب منكم. وهذا فضل من الله وإحسان.
فإذا كانت الأكوان كلها من السماوات والأرض وما فيها من المخلوقات تسبح الله وتنزهه، إقرارا بوجوده وتوحيده، فإن البشر أولى بمداومة التسبيح والتنزيه، فعليهم الإذعان لعظمة الله واعتقاد وحدانيته، والتفرغ لعبادته، من غير أي لوثة في الاعتقاد، أو تأثر بصنع المشركين.
إن الشرك، أي إسناد وجود شريك لله هو دليل القصور والتخلف العقلي،(2/1351)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
وسيطرة الخرافة والوهم على الذهن البشري، فأجدر به أن يصحو من غفلته، ويستيقظ من جهله وسباته العميق.
أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن نوحا عليه السلام، لما حضرته الوفاة، قال لابنيه: آمركما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء» .
وعلى الإنسان أن ينتهز الفرصة قبل فوات الأوان، وأن يعلم أن الله حليم عن ذنوب عباده، كثير المغفرة للمؤمنين في الآخرة إذا تابوا وأنابوا إليه.
حماية النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأذى
تعددت ألوان الأذى من الكفرة أهل مكة التي ارتكبوها في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلم تقتصر مؤذياتهم على شخصه وصدّ الناس عن دعوته، وإنما كانوا يؤذونه في أخص أحواله الشخصية، في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد الحرام، ولكن الله تعالى حماه من كيدهم وضررهم، وأنقذه في أحيان كثيرة من إصابته بسوء، أو النجاح في ثنية عن رسالته وتبليغ وحي ربه، ولننظر إلى آي القرآن تحدثنا عن بعض هذه المؤذيات، قال الله سبحانه:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 48]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)
«1» «2» «3» «4» «5»
__________
(1) أي ساترا لك عنهم، فلا يرونك، ولا يبصرون ببصائرهم نور القرآن وهدايته.
(2) أغطية، مفردها كنان.
(3) أي كراهة أن يفقهوا القرآن.
(4) صمما وثقلا في السمع.
(5) متناجون في أمرك فيما بينهم.(2/1352)
«1» [الإسراء: 17/ 45- 48] .
أخرج ابن المنذر عن ابن شهاب الزهري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا القرآن على مشركي قريش، ودعاهم إلى الكتاب، قالوا يهزؤون به: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 41/ 5] . فأنزل الله في ذلك من قولهم: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الآيات.
وآية وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ قيل: نزلت حينما دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ ومرّ بالتوحيد، ثم قال: «يا معشر قريش قولوا: لا إله إلا الله، تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم، فولّوا» فنزلت هذه الآية.
والمعنى: أن الله تعالى أخبر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه يحميه من مشركي مكة الذين كانوا يؤذونه، في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد الحرام، ويريدون مدّ اليد إليه، فلا تخف أيها النبي، فإنك إذا قرأت القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدقون بالآخرة، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورا، أي حائلا حاجزا، يمنع قلوبهم من فهم القرآن وتدبر آياته، ومستورا على أعين الخلق، فلا يدركه أحد برؤية كسائر الحجب بقدرة الله وكفايته.
وجعلنا على قلوبهم أغطية، بحيث لا يتسرب إليها فهم مدارك القرآن ومعرفة أسراره وغاياته، وجعلنا في آذانهم ثقلا، أو صمما يمنع من سماع الصوت، وهذه كلها استعارات للإضلال الذي حفّهم الله به، فعبّر عن كثرة ذلك وعظمه بأنهم بمثابة من غطّي قلبه، وصمّت أذنه، والإضلال بسبب الضلال الذي سلكوه، وساروا في فلكه بغيا وعنادا.
__________
(1) مغلوبا على عقله بالسحر.(2/1353)
وإذا وحدّت الله في تلاوتك آيات القرآن، وقلت: لا إله إلا الله، ولم تقل:
واللات والعزّى، ولّوا على أدبارهم نفورا، أي رجعوا على أدبارهم نافرين نفورا، تكبّرا من ذكر الله وحده، لإدمانهم على الشرك وعبادة الأوثان، فهذه الآية تصف حال الفارّين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في وقت توحيده في قراءته القرآن. وهذا أولى المعاني وأوفق للفظ.
نحن يا محمد أعلم بالنحو الذي يستمعون به آيات القرآن، حين يستمعون إليه هزءا واستخفافا وإعراضا، ونحن أعلم بما يتناجى به كفار قريش ويتسارّون حين وصفوك بأنك رجل مسحور أو مجنون أو كاهن، أي كأنه قال: نعم نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به، أي هو ملازمهم، يفضح الله بهذه الآية سرهم.
وقوله تعالى: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً الظاهر فيه أن يكون من السحر، فشبّهوا الخبال الذي عنده، بزعمهم وأقوالهم الوخيمة برأيهم، بما يكون من المسحور الذي قد خبّل السحر عقله، وأفسد كلامهم.
تأمل يا محمد، كيف مثلّوا لك الأمثال، وأعطوك الأشباه، وضربوا لك المثل وهو قولهم: مسحور، ساحر، مجنون، متكهّن لأنه لم يكن عندهم متيقّنا بأحد هذه، فإنما كانت منهم على جهة التشبيه، فحادوا عن سواء السبيل، ووقعوا في الضلال، وحكم الله تعالى عليهم به، فصاروا لا يستطيعون سبيلا إلى الهدى والنظر المؤدّي إلى الإيمان، ولا إلى إفساد أمرك وإطفاء نور الله، بضربهم الأمثال لك. وهنا وعيد لهم وتسرية وإيناس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
حكى الطبري: أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه. فقد رأى الوليد أن أقرب الأمور على تخيل الطارئين عليهم: هو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ساحر، كذبوا ورب الكعبة وضلوا ضلالا مبينا.(2/1354)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
إنكار المشركين البعث
كانت عقائد المشركين كفار مكة فاسدة ملوثة، منها نسبة الشريك والولد والصاحبة لله، عز وجل، تشبيها لله بمخلوقاته، ومنها إنكار البعث أو اليوم الآخر، تأثرا بالنزعة المادية، وتصورهم أن المادة إذا صارت فانية كالتراب، لا تحتمل العودة إلى الحياة، وبسبب نقص إدراكهم لقدرة الله الخارقة، وتمكنّه من إحياء الأشياء بمجرد الأمر الإلهي التكويني: كُنْ. وتحكي لنا هذه الآيات إنكارهم للبعث، واستغرابهم حدوثه لضعف عقولهم، قال الله تعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 52]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
«1» «2» «3» «4» [الإسراء: 17/ 49- 52] .
تصوّر هذه الآيات شبهة المشركين الماديين الوثنيين في إنكار البعث أو القيامة، ويرد الله عليهم ردا مفحما فيه غاية التحدي، فهم يقولون على جهة التعجب والإنكار، والاستبعاد حين سماع القرآن تقرير أمر المعاد: أءذا كنا عظاما بالية في قبورنا، ورفاتا، أي أشياء مرّ عليها الزمن، حتى بلغت غاية البلى، وصارت أقرب شبها بالتراب أو الغبار، أءنا لمبعوثون عائدون يوم القيامة خلقا جديدا، بعد ما بلينا وصرنا عدما لا نذكر؟! وترددت آيات القرآن في هذا المعنى المحكي عن المشركين، مثل: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) [النازعات: 79/ 10- 12] .
__________
(1) أجزاء مفتتة أو ترابا.
(2) يعظم عن قبول الحياة كالسماوات.
(3) خلقكم وأبدعكم.
(4) أي سيحركونها تعجبا واستهزاء. [.....](2/1355)
ومثل آية: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) [يس: 36/ 78- 79] .
أجابهم الحق سبحانه آمرا نبيه أن يقول لهم: إن إعادة الميت إلى الحياة أمر سهل يسير، وهو في تصور البشر وعقولهم أهون على الله من الخلق أول مرة بحسب عقولنا، أما بالنسبة لقدرة الله، فلا فرق في الحالين لأن الله القادر على الخلق بإيجاد الروح في الأشياء الجامدة، قادر على الإعادة والتكوين، فالعبرة إذن بالقدرة الإلهية.
ولو فرض أنكم أيها المشركون كأشد الأشياء صلابة من حجارة أو حديد، فإن الله قادر على إحيائه، ونفح الروح فيه، فيصير حيا متحركا، لأن الله قادر على إيجاد كل الممكنات، وإحياء الأشياء المادية، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وهذا على سبيل المبالغة، وربط الأشياء بأقصى التصورات في الدلالة على قدرة الله على الإحياء والإعادة.
وبعبارة أخرى: قل لهم يا محمد: كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتّي في تصوركم، فلا بد من بعثكم. وفعل (كونوا) هنا هو الذي يسميه المتكلمون:
التعجيز، والأدق أن يقال: كونوا بالتوهّم، والتقدير كذا وكذا.
وبعد أن استبعد المشركون الإعادة من جديد، استبعدوا حدوثها ولم يؤمنوا بالقادر على الإحداث، قائلين: من يعيدنا إلى الحياة إذا كنا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر شديدا، مما يكبر أو يعظم في صدوركم وعقولكم كالسماء والأرض، فالله قادر على بعثه وإحيائه من جديد، والباعث أو الخالق: هو الذي فطركم، أي أوجدكم وخلقكم أول مرة، فهو قادر على إعادتكم وإحيائكم للبعث والجزاء والحساب.
ثم إن المشركين بعد هذا يحركون رؤوسهم تعجبا واستهزاء وتكذيبا، ويقولون:(2/1356)
متى هذا البعث والإعادة، كما في آية أخرى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) [الملك: 67/ 25] .
قل أيها النبي لهم: عسى أن يكون وقت البعث قريبا، فإنه سيأتيكم لا محالة، فكل ما هو آت قريب، كما قال الله سبحانه: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) [المعارج: 70/ 6- 7] .
ويكون ذلك البعث الحتمي يوم يدعوكم الرب تبارك وتعالى من قبوركم بالنفخ في الصور لقيام الساعة، فتستجيبون له من القبور، حامدين طائعين، منقادين بالقيام والعودة والنهوض نحو الدعوة والداعي، إجابة لأمره سبحانه، وطاعة لإرادته، وتحسبون عند البعث أنكم ما لبثتم في الدنيا إلا زمنا قليلا، فقوله تعالى:
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ معناه: بأمره، كما قال ابن عباس وابن جريج، وقال قتادة: بطاعته ومعرفته. وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث. والواقع أن المراد من الحمد هنا: هو إعلان الحمد على صدق الحادث وهو القيامة، أي تقومون من القبور، بخلاف ما تعتقدون الآن، وذلك بحمد الله تعالى على صدق خبره وإعلامه نبيه بوجود البعث.
الأسلوب الأفضل في الجدال
المسلمون أصحاب حق، ودعوة سامية، ورسالة شاملة للبشرية جمعاء، وهذا يقتضيهم أن يسعوا الناس بأخلاقهم اللطيفة، وأقوالهم الحسنة، ومعاملاتهم الطيبة لأن من شأن الداعية الناجح أن يكون على جانب عظيم من الحلم والعلم واللين واللطف، ولأن للكلمة الطيبة جاذبية وسحرا يؤثران في القلوب، فإذا انضم إلى ذلك الفكر الصحيح، والعقل السديد، والرأي الحكيم، أدّى إلى إقناع المخاطب، وتحقّق(2/1357)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
الهدف من النصح وهو الانضمام لراية التوحيد والقرآن المجيد، قال الله تعالى مبينا أسلوب الخطاب مع المخالفين:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 55]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)
«1» «2» «3» [الإسراء: 17/ 53- 55] .
روي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ،
وروي أن عمر بن الخطاب شتمه بعض الكفرة، فسبّه عمر وهم بقتله، فكاد أن يثير فتنة، فنزلت الآية:
يأمر الله تعالى رسوله بأن يبلّغ عباد الله المؤمنين: أن يقولوا في مخاطبات المخالفين من المشركين وغيرهم أثناء حوارهم الكلام الأحسن. والتي هي أحسن: هي المحاورة الحسنة، والكلمة الطيبة: وهي التي لا تختلط بالشتم والسب والأذى، كما جاء في آيات أخرى، مثل: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 16/ 125] . ومثل: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 29/ 46] . والآية هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة وأمثالهم.
فيكون المطلوب إلانة القول، وحسن الأدب، وخفض الجناح لأن الشيطان يؤجج نيران النزاع، ويثير الفتنة والشر، ويوقع الخصام، ويغري بالمقاتلة، فلا يتحقق المطلوب، وتخيب المساعي، وتقع العداوة، وهو المراد بنزغ الشيطان
__________
(1) جواب لفعل مقدر وهو ((قولوا)) أي قل لعبادي: قولوا التي هي أحس، يقولوها. أو ((إنك إن تقل لهم: يقولوا)) على مذهب سيبويه، أنها جواب شرط مقدر.
(2) يفسد ويهيج الشر.
(3) كتابا فيه أذكار ومواعظ.(2/1358)
للإنسان، وسبب ذلك: أن الشيطان عدو ظاهر العداوة للإنسان، منذ القديم. ومعنى النزغ: حركة الشيطان بسرعة، ليوجب فسادا.
وعلة الأمر باتباع الطريق الأحسن والمحاورة الحسنة في منهاج الدعوة الذي رسمه الله: هو أن ربكم أيها الناس أعلم بمن يستحق منكم الهداية والتوفيق للإيمان ومن لا يستحق، فإن شاء رحمكم فأنقذكم من الضلالة، ووفقكم للطاعة والإنابة إليه، وإن شاء عذبكم، فلا يهديكم للإيمان، فتموتوا على الشرك. فكأن الله عز وجل أمر المؤمنين ألا يخاشنوا الكفار في الدين، ثم قال للكفار: إنه أعلم بهم، ورجّاهم وخوّفهم. ومعنى: إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ إن يرد الله يرحمكم بالتوبة من الكفر. وهذه الآية تقوّي أن الآية التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة.
ثم قال الله لنبيه: فإنما عليك البلاغ، ولست بوكيل على إيمانهم، ولا بد، وإنك غير موكل بأمرهم، وليس لك السلطة في حسابهم على أعمالهم، وإنما عليك الإنذار والتبشير فقط، وترك النتائج لله تعالى، فتلطف في دعوتهم، ولا تغلظ عليهم، ودارهم.
وقال الله أيضا لنبيه: وربك أعلم بجميع من في السماوات والأرض، وهو الذي فضّل بعض الأنبياء على بعض، بحسب علمه فيهم، والتفضيل بحسب المزايا والكتب والخصائص، كاتخاذ إبراهيم عليه السلام خليلا، وموسى عليه السلام كليما، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، وآتى الله داود عليه السلام كتاب الزبور. وهذا بالمعنى المراد تعريض بقريش، أي لا تنكروا أمر محمد، وأنه أوتي قرآنا، فقد فضّل النبيون، وكان لكل نبي فضيلة، فموسى أعطي التكليم، وعيسى: الإحياء، وإبراهيم: الخلّة (خليل الله) ، ومحمد القرآن وختم النبوات، وداود: أوتي الزبور، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته. ونظير الآية: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: 2/ 253] .(2/1359)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
وآية: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً تنبيه على فضل الزبور وشرفه. وفي الآية إشارة إلى تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جميع الأنبياء والمرسلين بالقرآن الكريم، وبالإسراء والمعراج، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم الصلاة والسلام.
ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء، وأن الخمسة أولي العزم منهم أفضلهم: وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام. ومزية هؤلاء الرسل: أنهم أصحاب رسالات كبري ومزايا عظيمة. وقوله سبحانه: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يقتضي حصر علم الله بهذا، وإنما يعلم الله بذلك وبغيره، وتكون الباء في (بمن) متعلقة بفعل تقديره: علم بمن في السماوات، لأنه لو علّق ب (أعلم) لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك. ونظير هذا قولك: زيد أعلم بالنحو، لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحو من العلوم.
عبدة البشر والأوثان والملائكة
يتدنى العقل الإنساني أحيانا فيعظّم البشر ويقدسه، أو يعبد الوثن ويؤلهه، وكلا الفريقين ليسوا عقلاء، لأن أبسط مبادئ الفكر والعقل أن يكون الإله من غير جنس المخلوقات، ويتميز بصفات تفوق قدرات البشر، ومن أهم هذه الصفات: الخلق والإبداع، والقدرة النافذة على جلب الخير ودفع الضر والشر، وإذا كان المعبود خاليا من هذه الصفات ونحوها لم يستحق جعله إلها، ولا اتخاذه ربا يعبد، ولكن مع الأسف وجد في الدنيا من يعبد البشر أو يعبد الأوثان أو يعبد الملائكة، وهذا ما دوّنه القرآن في هذه الآيات الكريمة:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 58]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58)
«1»
__________
(1) نقلا لغيركم.(2/1360)
«1» [الإسراء: 17/ 56- 58] .
أخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن، فأسلم الجنّيون، واستمسك الآخرون بعبادتهم، فأنزل الله: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ.. الآية.
وعلى الرغم من هذه الرواية، اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هي في عبدة العزير والمسيح وأمه ونحوهم. وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود: هي في عبدة الأوثان والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه، وأي ذلك كان. وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود: هي في عبدة الملائكة.
وقال ابن مسعود أيضا: هي في عبادة شياطين كانوا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم أولئك الشياطين، وبقي عبدتهم يعبدونهم، فنزلت الآية في ذلك.
وفي الجملة: هذه الآيات في عبادة غير الله عز وجل، والمعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله، كالأصنام وغيرها، هل يجيبونكم؟ واطلبوا منهم كشف الضرّ عنكم: من فقر ومرض وقحط وغير ذلك! وانتظروا هل يستطيعون كشف الضر عنكم، أو تحويله أو تبديله من مكان لغيره، أو من واحد إلى آخر؟ إنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فلا يقدرون على ذلك لغيرهم. وإنما الذي يقدر عليه: هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر. أولئك المعبودون من دون الله يطلبون التقرب إلى الله، والتزلف إليه، بالعبادات والطاعات، وهذه حقيقة حالهم، إنهم يبتغون الوسيلة إلى الله وهي
__________
(1) القربة بالطاعة والعبادة.(2/1361)
القربة وسبب الوصول إلى البغية، ويطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى، فكيف بغير الأقرب؟ فكل من الكفار العابدين والمعبودين ينتظرون أن يكونوا أيهم أقرب، ويرجون رحمة ربهم، ويخافون عذابه، فلا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف يبتعد الإنسان عن المعاصي، وبالرجاء يكثر من الطاعات، وعلة الخوف من العذاب: أن عذاب ربك كان مخوفا لا أمان لأحد منه، فينبغي أن يحذره جميع العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فكيف أنتم؟
ثم أخبر الله تعالى بخبر عام قهر جميع الخلائق بواسطة ألا وهي الموت والهلاك، ففي قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ ... أخبر الله تعالى في هذه الآية: أنه ليس مدينة من المدن إلا هي هالكة قبل يوم القيامة بالموت والفناء، وأخذها جزءا جزءا. وقيل: المراد: كل مدينة ظالمة فهي مهلكة، أو معذبة عذابا شديدا بقتل أو ابتلاء، لا ظلما، وإنما بسبب ذنوب أهلها وظلمهم، كان ذلك الحكم حكما عاما، ثابتا، مدوّنا في علم الله أو في اللوح المحفوظ،
أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب المقدّر، وما هو كائن إلى يوم القيامة» .
وعلى أي حال، سواء كان التهديد بالإهلاك لكل قرية أو أهلها عموما، أو قرية ظالمة، فإن الخطر ينتظر الجميع، والمسؤولية والجزاء يعمان الكل، وهذا كاف في تخويف الناس وحملهم على التزام الطاعة، والبعد عن المنكر والمعصية، لأن من علم أنه مسئول ومعرّض للعقاب، اقتصد في إسرافه في المعاصي، وأقبل على ساحات الطاعة، حتى ينجو من العذاب الأليم. والهلاك الدنيوي إما أن يكون بسبب القحط والخسف غرقا، وإما بالاقتتال بالفتن أو بهما معا، وصور الهلاك كثيرة لا يعلمها(2/1362)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
إلا الله تعالى، فأما الإهلاك بالفتنة، فبسبب الظلم من كفر، أو معاص، أو تقصير في دفاع، وأما القحط أو الخسف فيصيب الله به من يشاء، كما نلاحظ في كل زمان ومكان.
طلب الآيات التعجيزية
إن الإصرار على التكذيب أو الإفراط في الكفر والعناد هو الذي يدفع المكذبين والمعاندين إلى المطالبة بشيء بعيد الحصول أو غريب المنال، تمشيا مع مواقفهم المتصلبة، وعقولهم الجامدة، وتحدياتهم السافرة، وهذا شأن قريش في صدر الدعوة الإسلامية، طالبوا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بتحقيق أشياء لا قدرة له عليها، ليظلوا على موقفهم المتعنّت وضلالهم المتأصّل، وهو لا يعد تسويغا لكفرهم، أو نصرا لضلالهم، وإنما يدل ذلك على خروجهم عن الأصول العقلية، واليأس من إيمانهم وصلاحهم، وهذا ما حكاه القرآن ليسجل عليهم هذا الإصرار والعناد، وليسقطوا من حساب العقل وميزان التاريخ، على مدى الزمان، قال الله تعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 59 الى 60]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)
«1» «2» «3» «4» «5» [الإسراء: 17/ 59- 60] .
سبب نزول الآية الأولى:
أن قريشا اقترحوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، واقترح بعضهم أن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا الأرض، فأوحى
__________
(1) آية بينة.
(2) فكفروا بسببها.
(3) علما وقدرة.
(4) شجرة الزقوم.
(5) أي تجاوزا للحد في كفرهم.(2/1363)
الله تعالى إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم: إن شئت أفعل ذلك لهم، فإن تأخروا عن الإيمان، عاجلتهم العقوبة، وإن شئت استأنيت بهم، عسى أن أجتبي منهم مؤمنين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل تستأني بهم يا رب» .
فأخبر الله تعالى في هذه الآية: أنه لم يمنعه من إرسال الآيات المقترحة من قريش إلا التمهل أو الاستيناء، لأن عادة الله في الأمم السالفة هي تعجيلهم بالعقاب، بعد أن جاءتهم الآية المقترحة، فلم يؤمنوا.
والمعنى: ما صرفنا عن الإتيان بما يقترحونه من الآيات إلا تكذيب المتقدمين الأولين بأمثالها، فإن أتينا بها، وكذب بها أهل مكة وأمثالهم، عجلنا لهم العذاب، ولم يؤخروا، كما هي سنة الله في خلقه. وسمى الله تعالى سبق قضائه بتكذيب من كذّب وتعذيبه منعا في قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أي ما منعنا الإرسال إلا التكذيب.
ومن أمثلة تلك الآيات المقترحة من السابقين الأولين وتكذيبهم بها: ناقة صالح عليه السلام لثمود، فلما عقروها وكذبوا نبيهم، عاجلهم الله بعذاب الصيحة، وبقيت آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم، يبصرها الذاهب والعائد، كما قال الله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها أي: وأعطينا قبيلة ثمود الناقة حجة واضحة دالة على وحدانية خالقها، وصدق رسوله. وقوله مُبْصِرَةً أي حجة بيّنة، أو ذات إبصار يدركها الناس، أو معها إبصار لمن ينظر، وهذا عبارة عن بيان أمرها ووضوح إعجازها.
فَظَلَمُوا بِها أي كفروا بها، ومنعوها حظها من الشرب، وقتلوها، ووضعوا الفعل غير موضعه، أي بعقرها، فأبادهم الله جميعا.
وهذا للعبرة يقاس عليها، لذا قال الله تعالى بعدئذ: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي ولا نبعث بالآيات غير المقترحة إلا تخويفا للناس من نزول العذاب(2/1364)
العاجل، وهي آيات معها إمهال كالكسوف والرعد والزلزلة وقوس قزح وغير ذلك، لعلهم يعتبرون ويتعظون ويتذكرون.
ثم بشر الله نبيه بأنه في حياطة الله ومنعه وحفظه، في قوله: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ بإقداره أي واذكر إذا أوحينا إليك أن الله قادر على عباده، وأنك محفوظ من الكفرة الأعداء، آمن من القتل أو الإصابة بمكروه عظيم، فلتبلّغ رسالة ربك، ولا تتهيب أحدا من المخلوقين، وهذا توطئة لما بعده، وهو:
وما جعلنا الرؤيا البصرية في اليقظة والمعاينة الحقيقية، وهي ما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة الإسراء، وما أطلعه الله عليه، إلا اختبارا وامتحانا للناس، لمعرفة المؤمنين الصادقين، والكافرين المكذبين، معرفة ينكشف بها حالهم أمام الناس، لا بالنسبة لله عز وجل، فالله على علم سابق بكل ما سيحصل، والواقع مطابق لما في علم الله، فقد كذب بالإسراء قوم وكفروا، وصدّق به آخرون.
وما جعلنا أيضا الشجرة الملعونة في القرآن وهي شجرة الزقوم التي هي في أبعد مكان من الرحمة، إلا فتنة للناس، أي اختبارا لهم، مثل حادث الإسراء والمعراج، فمنهم من ازداد إيمانا، فكثير من الأشياء لا تحرقها النار، ومنهم من ازداد كفرا كأبي جهل وعبد الله بن الزّبعرى، وقالوا متهكمين متحدين: وما الزقوم إلا التمر والزّبد؟ فجعلوا يأكلون ويتزقمون. قال النقاش: إن في ذلك نزلت.
ونخوّف الكفار بالوعيد والعذاب والتنكيل في الدنيا والآخرة، فما يزيدهم التخويف إلا تماديا في الطغيان، وإمعانا في الضلال، وهو كفرهم وانهماكهم فيه، فكيف يؤمن قوم، هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات؟!(2/1365)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام
ليس هناك أعظم تكريما للإنسان بأصله وجنسه من أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم عليه السلام، ليعلم البشر علو منزلتهم، ورفعة مكانتهم عند الله، فيتجاوبوا مع هذا التكريم، ويكونوا على مستوى حسن الظن بهم، والعمل بما يرضي الله من أفعالهم وأقوالهم، وقد تكرر الإخبار بهذا الأمر الإلهي في بدء الخليقة في القرآن سبع مرات للتذكير والعظة، قال الله تعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
«1» «2» »
«4» «5» «6» [الإسراء: 17/ 61- 65] .
هذه مشكلة البشرية، إنهم في جهاد وكفاح، أمام وسوسة الشيطان وإغوائه.
بدأت المشكلة حين أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية ومحبة وتكريم، لا سجود عبادة وخضوع، فسجدوا كلهم إلا إبليس أبى واستكبر عن السجود، افتخارا على آدم، وتعاليا عليه، قائلا: أأسجد له وهو طين، وأنا مخلوق من عنصر أسمى وأعلى وهو النار؟! وهو في ذلك لجأ إلى القياس فأخطأ حيث رأى الفضيلة لنفسه من جهة أن النار أفضل من الطين، وجهل أن الفضائل في الأشياء لا بأصولها، وإنما بما خصصها الله به. وقال أيضا بجرأة وكفر: أخبرني عن هذا الذي
__________
(1) أخبرني.
(2) أي لأستأصلنهم بالإغواء إلا قليلا، لا أقدر على مقاومتهم.
(3) استخف واستعجل.
(4) صح عليهم ووسقهم. [.....]
(5) بكل راكب وماش في معاصي الله.
(6) باطلا وخداعا.(2/1366)
فضّلته: لم كرّمته علي، وأنا خير منه؟ وكأنه ينسب الجور لربه، قسما لئن أبقيتني إلى يوم القيامة لأستأصلن ذريته بالإغواء، ولأستولين عليهم بالإضلال إلا قليلا منهم، وهم العباد المخلصون الذين وصفهم الله تعالى بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 15/ 42] . أي إن عبادي الصالحين لا تقدر أن تغويهم، فأجابه الله لطلبه لحكمة يعلمها، وأخره قائلا له: امض لشأنك الذي اخترته لنفسك خذلانا وتخلية، فمن أطاعك واتبعك منهم، فإن جهنم مقركم، ومأواكم، جزاء موفرا محفوظا، كاملا لا ينقص منه شيء.
واستخفّ واستنفر من تريد من العباد بدعوتك إلى المعاصي، بكل ما أوتيت من قوة وإغراء ووسوسة، والمراد بقوله: بِصَوْتِكَ أي بدعائك إلى معصية الله تعالى واجمع عليهم جندك فرسانا ومشاة، وهذا تمثيل يراد به: التسليط عليهم بكل ما تقدر عليه من القوة، واجمع لهم كل مكايدك، ولا تدخر وسعا في إغوائهم، مستخدما كل الأتباع والأعوان.
وشاركهم في الأموال والأولاد بتحريضهم على كسب المال وإنفاقه في المعاصي، من لهو ومجون وربا، وخمور، وفواحش، وقتل وتخريب، ونحو ذلك، وقوله سبحانه وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ عام لكل معصية يصنعها الناس بالمال، فذلك هو حظ إبليس. وقوله عز وجل وَالْأَوْلادِ عام لكل ما يصنع من أمر الذرية في المعاصي، بالإنجاب الحرام كالزنى وغيره، وبالوأد للبنات الذي كانت بعض العرب تفعله، وصبغ الأولاد في ملل الكفر والضلال.
وعدهم المواعيد الكاذبة الباطلة، من شفاعة الآلهة المزعومة، ومنّهم بما لا يتم لهم، وبأنهم غير مبعوثين، فهذه مشاركة في النفوس. ثم أخبر الله تعالى أنه إنما يعدهم الشيطان غرورا منه، أي كذبا وباطلا في صورة الحق، فمواعيد الشيطان كلها خدعة وتزيين كاذب، لأنه لا يغني عنهم شيئا.(2/1367)
ثم قال الله لإبليس: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي إن عبادي المؤمنين المخلصين الصالحين لا تقدر أن تغويهم، فهم محفوظون محروسون من الشيطان الرجيم. وكفى بالله حافظا ومؤيدا وقيما على الهداية، ونصيرا للمؤمنين الصالحين المتوكلين عليه، الذين يستعينون به على التخلص من وساوس الشيطان، وهذا دليل على أن المعصوم: من عصمه الله، وأن الإنسان بحاجة دائما إلى عون الله جل جلاله.
وفي قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي الإضافة للتعظيم، فتدل على تخصيص العباد بالمخلصين، علما بأن العباد اسم عام لجميع الخلق، وذلك بقصد تشريفهم والتنويه بهم، كما يقول رجل لأحد بنيه، إذا رأى منه ما يجب: هذا ابني. على معنى التنبيه والتشريف له. ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص: «هذا خالي، فليرني امرؤ خاله» . «1»
إن هذا الاختبار والامتحان بين إبليس وآدم، وبين الشيطان وذرية آدم كفيل بمعرفة أهل العزم والجهاد الذين يتخلصون من وساوس الشيطان، وأولئك الذين ينقادون لشياطينهم، فيخسرون الدنيا والآخرة خسرانا مبينا.
نعمة الإبحار
الكرة الأرضية قسمان: بر وبحر، يابس وماء، أودع الله تعالى في كل قسم نعما وفيرة وأفضالا سابغة كثيرة، ففي البر: المعادن السائلة والجامدة، وخيرات الزروع والثمار، وفي البحر: النفط واللؤلؤ والمرجان والأسماك وغيرها، ويسر الله للإنسان الإبحار في البحار بوسائط السفن المسيّرة قديما وحديثا بالرياح وهي السفن الشراعية، وحديثا بالسفن المعتمدة على الطاقة البخارية أو الكهربائية أو الذرية والمحركات
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب.(2/1368)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
الآلية، ليتيسر للناس عبور البحر ونقل الركاب والبضائع والنفط وغير ذلك، وهذا يدعو لشكر نعمة الله عز وجل، والإقرار بالخالق الموجد الذي يحقق مصالح البشر، فقال الله سبحانه:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 69]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)
«1» «2» «3» «4» «5» [الإسراء: 17/ 66- 69] .
المعنى: الله ربكم أيها البشر كافة: هو الذي يسيّر لكم السفن في الماء الكثير، عذبا كان أو ملحا، للانتقال السياحي والارتزاق في أنحاء الدنيا بالتجارات المختلفة، إنه سبحانه بهذا التيسير كان متفضلا عليكم، رحيما كثير الرحمة بكم جميعا أيها العباد.
ومن رحمته تعالى وفضله العظيم: أنه إذا أصابكم أيها الناس المسافرون في البحر ضر وخوف غرق أو شدة، أو جهد ومشقة، ضلّ من تدعون إلا إياه، أي غاب، عن أذهانكم وتصوراتكم وخواطركم دعاء أحد وطلب نجدته إلا الله تعالى، فلا تتذكرون إلا الله، ولا تلجؤون لكشف الضر عنكم إلا لربكم الذي خلقكم ورزقكم من فضله.
ولكن مع الأسف تقابلون عادة ذلك الفضل الإلهي بالجحود والإنكار، لا الشكر
__________
(1) يسوق برفق ويسيّر، والإزجاء: سوق الثقيل السير، وإزجاء الفلك: سوقه بالريح اللينة والمجاديف وغيرها.
(2) يغوّر ويغيّب بكم.
(3) أي يرميكم بالحصباء والحجارة كقوم لوط.
(4) عاصفا شديدا.
(5) ناصرا أو مطالبا بالثأر.(2/1369)
وعرفان الجميل، فإذا أمنتم ونجوتم ووصلتم إلى البر والسلامة، نسيتم من دعوتموه فأنقذكم، وأعرضتم عن جانب الله الذي نجاكم، وعدتم إلى الشرك والكفران، وكان الإنسان بطبعه شديد الجحود والإنكار ونسيان نعمة الله تعالى.
وقوله سبحانه: وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي جنس الإنسان، فكل واحد لا يكاد يؤدي شكر الله تعالى كما يجب، وكل إنسان مهما عمل مقصر في حق الله تعالى.
أفأمنتم أيها المعرضون الناسون الشّدّة، حين صرتم إلى الرخاء والأمن، أن يخسف الله بكم مكانكم من البر وناحية من الأرض، أو يزلزل الأرض من تحتكم أو يرسل عليكم حجارة من السماء، ثم لا تجدوا بعد ذلك ناصرا تكلون إليه أموركم، وينقذكم منه لأنكم في قبضة القدرة الإلهية في البر وفي البحر. فقوله سبحانه: أَنْ يَخْسِفَ الخسف: انهيار الأرض بالشيء، وقوله تعالى أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً الحاصب: المطر العارض الرامي بالبرد والحجارة ونحو ذلك.
فهل أمنتم أيها الراكبون في البحر إذا نجاكم الله من الغرق، وأمنتم من أهوال البحار، أن يأتيكم في البر بعذاب آخر من خسف وزلزال أو تفجير بركان أو مطر مصحوب بالحصباء، أي الحجارة الصغار؟! إنها لفتة نظر شديدة التأثير، وتنبيه للعقول والأفكار أن ألوان العذاب مختلفة متنوعة، منها الإغراق في البحار، ومنها الزلازل والبراكين، ومنها الأمطار المحمّلة بالحجارة، ومنها الريح العاتية التي تدمر كل شيء، وترمي بالحصى كل إنسان.
أو هل أمنتم أيها المعرضون عن ربكم بعد ما لجأتم إلى الله للإنقاذ من الغرق في البحر أن يعيدكم إلى البحار مرة ثانية، فيرسل عليكم قاصفا من الريح، والقاصف:
الذي يكسر كل ما يلقي ويقصفه، فيغرقكم في أعماق الماء بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى، ثم لا تجدوا لكم علينا تبيعا، أي نصيرا متابعا يطلب ثأرا، أو دينا أو(2/1370)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
نحو هذا، والمراد: لا تجدون من يتبع فعلنا بكم، ويطلب نصرتكم وإنقاذكم مما أوقعناكم فيه.
إن الذي يتأمل بهذه الإنذارات والتهديدات بألوان العذاب في البر والبحر، يدرك إدراكا صحيحا، أن قدرة الله الشاملة لا مفر منها ولا مهرب، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا في البر ولا في البحر، فالله رحيم بالطائعين الشاكرين الحامدين، ولكنه أيضا غضوب شديد العذاب للجاحدين وجوده، المنكرين وحدانيته، المعرضين عن أوامره، المتنكرين لفضله وإحسانه، وكل امرئ يختار لنفسه ما يحلو، فإن أراد السلامة والنجاة من الويلات، عفّ وقنع، وأطاع واستقام، وإن ارتكب طريق الحماقة والطيش، واستبدت به الأهواء والشهوات، وأعرض عن منهاج الحق والإله، أوقع نفسه في مهاوي الردى والهلاك.
تكريم الإنسان
تشمل الرعاية الإلهية الإنسان من جميع أحواله المادية والمعنوية، فالله سبحانه ينجّي الإنسان المسافر من مخاطر البحر والبر، وهو سبحانه يصون كرامة الإنسان، ويحمي حقوق الإنسان، ويجعله خليفة الأرض، ويسخر له جميع ما في السماوات والأرض من منافع وخيرات، وذلك ما لم يحظ به مخلوق آخر ولا جنس آخر، وتلك فضيلة تميز بها الإنسان، وجعلته يختص بخصائص لا مثيل لها، وتظهر ثمار هذه الخصائص في تمكين الإنسان من الإفادة من خيرات الكون، وفي تفضيل البشر على سائر المخلوقات يوم القيامة، إنها النعمة العظمى والفضل الإلهي العميم، قال الله سبحانه مبينا مبدأ التكريم للإنسان:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 70 الى 72]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)(2/1371)
«1» [الإسراء: 17/ 70- 72] .
لم تقتصر أفضال الله على الإنسان في الدنيا، وإنما في الآخرة أيضا، ففي الدنيا كرم الله بني آدم، بخلقهم على أحسن صورة وهيئة، ومنحهم السمع والبصر والفؤاد للفهم والإدراك، وميزهم عن سائر الحيوان بالعقل الذي يدركون به حقائق الأشياء، ويهتدون به إلى جميع المنافع المادية، وإلى معرفة اللغات، والتمييز بين الخير والشر، والنفع والضرر.
وفي الدنيا حمل الله البشر في البر على الدواب وسائر وسائل النقل والركوب ورزقهم من طيبات الرزق، من زروع وثمار، ولحوم وألبان، وجمّلهم بالمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة، وفضلهم على كثير من المخلوقات، وكل ذلك لنفي النقصان، لا التكريم بالمال.
واختصاص الإنسان بالعقل وتفضيله به على سائر الحيوان إنما هو من أجل معرفة الله تعالى، وفهم كلامه، والتوصل إلى نعيمه، وإعمال الفكر في مكنونات الكون، والإفادة من ذخائر الأرض ودفائنها، ومحاولة إدخال التعديل والتطوير عليها، وكل ذلك إنما يتم بتوفيق من الله ورضوانه، وإلهام وإحسان من الله على عباده.
وارتأى بعض المفسرين أن هذه الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنسان من حيث هم المستثنون، والواقع لا يفهم من الآية شيء من هذا، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تتعرض له الآية، ويحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل التساوي، وفضلت
__________
(1) قدر الخيط في شق النواة، من الجزاء.(2/1372)
الملائكة بأدلة أخرى من الشرع، والظاهر تفضيل الملائكة، فإن قوله تعالى: عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70) هو ما سوى الملائكة.
والمعوّل في الحقيقة على ما يقدّم الناس من أعمال يوم القيامة، لذا أردف الله آية تكريم الإنسان بما يذكّره من المقصود الجوهري والغاية الأصلية من خلقه، فخاطب الله نبيه بقوله فيما معناه: أذكر أيها النبي اليوم الذي نحاسب فيه كل أمة متجمعة مع إمامهم وقائدهم، فيقال مثلا: يا أمة محمد، يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة فرعون وأتباعه، يا أمة النمروذ، يا أتباع فلان وفلان من زعماء الكفر، وفي ذلك الحساب تصفّى القضايا، فمن أعطي من هؤلاء المدعوين كتابه بيمينه علامة على القبول، فأولئك يتفاخرون، ويقرءون كتابهم بفرح وسرور، بما تضمنه من العمل الصالح، ولا يظلمون فتيلا، أي لا ينقصون أدنى شيء من جزاء أعمالهم الصالحة، ومن ثوابهم لا أقل ولا أكثر من الفتيل. وعبر عن ذلك بالفتيل: وهو الخيط المستطيل في شق النواة، للقلة في عرف الناس وعادتهم. وقوله: يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ عبارة عن السرور بكتابهم، أي يرددون القراءة ويتناقلونها.
ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن حجج الله وبيناته وآياته التي أبانها في الكون، فهو يكون كذلك أشد حيرة وأعمى البصيرة والقلب في الآخرة، لأنه قد باشر الخيبة، ورأى مخايل العذاب، لا يجد طريق النجاة، بل وأضل سبيلا من الأعمى في الدنيا.
والأعمى لفظ مستعار لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أما في الدنيا فلتركه إعمال الفكر والنظر، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إلى الحق، لأن الآخرة دار جزاء وثواب وحساب، لا دار تكليف وأعمال وأفعال بدنية أو مالية.
ما أدهش ذلك المنظر وتلك الحقيقة حين تتطاير الصحف أو الكتب في الجو(2/1373)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
وتوضع في الإيمان لأهل الإيمان، وفي الشمائل لأهل الكفر. أما المذنبون المخطئون من المؤمنين فيتسلمون كتبهم بأيمانهم، فيستفيدون منها أنهم غير مخلّدين في النار، ويستفاد من الآيات: أن من عمي عن شكر نعم الله والإيمان بمسديها ومعطيها، فهو في الآخرة وشأنها أعمى بعيد عن نوال ثمرة الإيمان والشكر على أفضال الله تعالى.
وإنما جعل الكافر في الآخرة أضل سبيلا، لأنه في الدنيا ممكن أن يؤمن فينجو، وفي الآخرة لا يمكنه ذلك، فهو أضل سبيلا، وأشد حيرة، وأقرب إلى العذاب.
محاولات المشركين فتنة النبي صلّى الله عليه وسلّم وطرده من مكة
ظن المشركون الوثنيون في مكة أنهم بمكائدهم وممارسة ألوان خداعهم يتمكنون من صرف النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم عن شريعة الله وأحكامه من أوامر ونواه، ووعد ووعيد، وحمله على تعديل وحي الله، واختراع ما لم ينزله الله، وإقرار ما هم عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فلما خابوا وفشلوا، توعدوا نبي الله بالطرد والإجلاء من موطنه مكة، فلم يفلحوا في النهاية، وكانت الهزيمة والدمار عليهم، والنصر والنجاح للنبي وأتباعه، قال الله تعالى معبّرا عن هذه المحاولات الخائبة:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 77]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الإسراء: 17/ 73- 77] .
__________
(1) ليوقعونك في الفتنة وليصرفونك عن الوحي.
(2) لتختلق.
(3) تميل إليهم أدنى ميل.
(4) عذابا مضاعفا في الحياة.
(5) أي يزعجونك لإخراجك من أرض مكة. [.....]
(6) تغييرا.(2/1374)
نزلت الآية الأولى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ في شأن قريش أو ثقيف، لأنهم قالوا للنبي: لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تمسّ أوثاننا، وتلمّ بآلهتنا، فنزلت الآية تنهاه عن ذلك.
ونزلت الآية الثانية: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ في اليهود الذين قالوا: إن كنت نبيا فالحق بالشام، فإن الشام أرض الحشر، وأرض الأنبياء، قاصدين بذلك إجلاءه من مكة أو المدينة، فنزلت الآية تهددهم بالإبادة، ونفّذ الله عليهم الوعيد في أنهم لم يلبثوا خلف النبي إلا قليلا، وهو يوم بدر.
والمعنى: همّ المشركون وحاولوا فتنة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن دينه، وإقرارهم وثنيتهم، وحينئذ لو اتّبع النبي ما يريدون، وفعل ما يطلبون لاتخذوه خليلا: صديقا لهم، وأظهروا للناس أنه موافق على ما هم عليه من الشرك. ولولا تثبيت الله لنبيه على الحق، وعصمته إياه من الضلال والانحراف لقارب الميل لخداعهم ومكرهم ميلا قليلا.
وإذا فعل ذلك، عاقبه الله بعقوبة مضاعقة في الدنيا والآخرة، وهو المراد بضعف الحياة وضعف الممات، أي ضعف عذاب الدنيا، وضعف عذاب الآخرة، لأن ذنب القائد أو العظيم ذنب شديد، يستحق عقابا أشد وأعظم، وإذا عوقب لن يجد أحدا يناصره ويدفع عنه الأذى، لأن السلطان المطلق في الحساب والعذاب إنما هو لله جل جلاله.
ولقد قارب أهل مكة واليهود أيضا أن يزعجوك يا محمد بعداوتهم ومكرهم، ويخرجوك من أرضهم التي أنت فيها، وهي أرض مكة أو أرض المدينة، وإذا طردوك وأخرجوك، لا يبقون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا، فإن الله مهلكهم، ومدمرهم بسرعة، ونفّذ هذا الوعيد عليهم، فقد أهلكهم الله في موقعة بدر بعد إخراجه بقليل، وهو ثمانية عشر شهرا هجرية.(2/1375)
وعبر الله تعالى عن فرحة القرشيين بالإجلاء والطرد للنبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله سبحانه في آية أخرى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: 9/ 81] وهو الفرح الذي يسبق العاصفة أو العذاب.
ثم قرر الله تعالى حكما عاما، وأعلمنا بسنة دائمة، فذكر سبحانه: أن من عادة الله وسنته ومنهجه في الذين كفروا برسله، وآذوهم، أن يأتيهم العذاب، بخروج الرسول من بينهم، فكل قوم أخرجوا رسولهم من أراضيهم، فسنة الله أن يهلكهم، ولولا أنه صلّى الله عليه وسلّم الرحمة المهداة لجميع الخلائق، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به، ولا تغيير لسنة الله، ونظامه أو قانونه، وعادته، ولا خلف في وعده.
لقد أحبط الله مساعي المشركين الوثنيين في مكة في محاولة فتنة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن رسالته ووحي ربه ودينه، ومحاولة تغيير الوحي الإلهي، وهو إنذار لكل من يهادن أئمة الضلال والكفر ويجاملهم في ضلالهم وغيهم، أو يحاول تبديل كلام الله وشرعه، وإعلان لعصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن التقصير في شيء. والمشركون حين تم لهم إبعاد النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة وإخراجه منها، لم يضمنوا لأنفسهم السعادة والاستقرار والهناءة، وإنما توالت هزائمهم، في بدر والحديبية وفتح مكة وغيرها، وسقطت ألوية الوثنية وراياتها، وتعرضوا للعذاب والتدمير، والقتل والتشريد، ومن آمن منهم برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونجا.
تشريع والصلاة وإعلان الحق
إن تماسك الأمة الإسلامية على عقيدتها وتوجهها نحو الله خالقها إنما هو بإقامة الصلاة، والتزام منهج الحق وطرقه، ومقاومة الباطل وجنده، وهذه المقومات الأساسية تجعل من المسلم والمجتمع والأمة قوة صلبة في دينها، وصادقة في عزيمتها(2/1376)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
وتوجهاتها، وما أحوجنا في كل زمان ومكان إلى صلابة الرجال، وصدق العزائم، والخشوع لله جل جلاله في الصلوات، والابتهالات والقربات، قال الله تعالى موضحا هذه الخطة:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 81]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الإسراء:
17/ 78- 81] .
إن تربية شخصية المسلم تعتمد على وصله بربه، وتقوية ثقته بخالقه مصرّف الأشياء، ومدبّر الكون، لذا من أجل صبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أذى قومه ومحاولاتهم الخائبة لفتنته واستفزازه وطرده، أمره الله بالإقبال على عبادة ربه، وألا يشغل قلبه بهم، فأمره بالصلاة. وآية: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ بإجماع المفسرين إشارة إلى الصلوات الخمس المفروضة. ومعناها أدّ أيها الرسول الصلوات المكتوبة عليك وعلى أمتك تامة الأركان والشروط في أوقاتها الخمسة، من بعد زوال الشمس (ظهرا) إلى ظلمة الليل، وذلك يشمل صلوات الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وأقم صلاة الفجر المتميزة بإطالة التلاوة للقرآن الكريم، إن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل والنهار، وتشهدها الجماعة الكثيرة، وسميت صلاة الصبح قرآنا وهو القراءة، لأنها ركن كما سميت الصلاة ركوعا وسجودا وقنوتا.
روى أحمد والترمذي وغيرهما عن
__________
(1) أي زوالها عند الظهر.
(2) ظلمته.
(3) صلاة الصبح.
(4) صل صلاة الليل.
(5) فريضة زائدة خاصة بك.
(6) مقام الشفاعة العظمى.
(7) إدخالا مرضيا.
(8) زال.(2/1377)
أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» .
وفرض آخر على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو صلاة التهجد، فقم للصلاة أيها النبي في جزء أو وقت من الليل، وهو أول أمر للنبي بقيام الليل، زيادة على الصلوات المفروضة الخمس. وقوله سبحانه: نافِلَةً لَكَ أي زيادة لك في الفرض، وكان قيام الليل فرضا على النبي صلّى الله عليه وسلّم. ويحتمل أن يكون هذا على جهة الندب في التنفل، ويكون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد هو وأمته، كخطابه في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ والظاهر أن هذا هو الراجح، لأنه يبعد تسمية الفرض بالنفل.
افعل هذا المأمور أيها النبي، لعل ربك يمنحك المقام المحمود أي المكان المرموق:
وهو الذي يحمدك فيه الخلائق كلهم، وخالقهم تبارك وتعالى، وهو مقام الشفاعة العظمى الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إلى النبي عليه الصلاة والسلام يوم الحشر وأهوال القيامة. ويستفيد من هذه الشفاعة العالم أجمع مؤمنهم وكافرهم، لذا
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر ... »
وتمهيدا للأمر بالهجرة من مكة إلى المدينة، قل يا محمد داعيا: رب أدخلني في الدنيا والآخرة مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق، وهو دعاء في أن يحسّن الله حال نبيه في كل ما يتناول من الأمور، ويحاول من الأسفار والأعمال، وينتصر من تصرفات المقادير في الموت والحياة، أي أدخلني إدخالا مرضيا حسنا، لا يكره فيه ما يكره، يوصف صاحبه بأنه صادق في قوله وفعله كدخول المدينة والخروج من مكة.
واجعل لي في هذا حجة بينة تنصرني على من خالفني، أو ملكا وعزا قويا، ينتصر فيه الإسلام على الكفر.(2/1378)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
روى الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ
وقل أيها النبي للمشركين: جاء الحق من الله الذي لا شك ولا مرية فيه، وهو الإسلام في جملته، وما قارنه من شعائر الإسلام والإيمان والعلم النافع، وزال الباطل وهو الشرك واضمحل، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق، ولا بقاء للشرك مع الإيمان، إن الباطل كان مضمحلا لا قرار له، وغير ثابت في كل وقت.
وقد تلا النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية حين كسّر الأصنام حول الكعبة المشرفة وغيرها حينما فتح مكة المكرمة، وذلك إعلان بهزيمة الشرك والوثنية، وانتصار راية التوحيد لله والإيمان الخالص به.
القرآن والروح
أخبر الله تعالى عن مهمة القرآن الكريم بأنه شفاء ورحمة لأهل الإيمان، وخسران لأهل الظلم والكفر، غير أن الإنسان ظلوم لا يقدّر المعروف ويتنكر للطاعة، وييأس ويتشاءم عند الشر. وأخبر الله أيضا عن حقيقة الروح بأنها من عند الله وحده، وهي دليل على نقص علم الإنسان، فعلمه قليل، محصور بالحسّيات، ويجهل ما وراء ذلك من الغيبيات، ولا قدرة له عليها، وهذا ما أوضحته الآيات الآتية، في قول الله تعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 82 الى 85]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) يصح أن تكون ((من)) لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لابتداء الجنس.
(2) هلاكا بسبب كفرهم.
(3) لوى جانبه تكبرا.
(4) شديد اليأس من رحمتنا.(2/1379)
«1» [الإسراء: 17/ 82- 85] .
هذه الآية بيان خاصية القرآن، فالله يقول عن نفسه: وننزل عليك أيها النبي قرآنا فيه شفاء، فكل شيء نزل من القرآن، فهو شفاء للمؤمنين يزدادون به إيمانا لأنه يزيل الريب، ويكشف غطاء القلب لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى، المقرّرة لشرعه، بل فيه الشفاء من الأمراض، والرّقى والتعويذ من الشيطان «2» ، وهو أيضا رحمة لمن آمن به وصدّقه واتّبعه، لأنه يرشد إلى الإيمان والحكمة والخير، فيؤدي إلى دخول الجنة والنجاة من النار، ولا يزيد سماع القرآن الكافر الظالم نفسه إلا بعدا عن الإيمان وكفرا بالله، لتأصل الكفر في نفسه.
غير أن الإنسان ناقص إلا من عصمه الله، فتراه إذا أمده الله بنعمة من مال وعافية، ورزق، ونصر، وحقق مراده، أعرض عن طاعة الله وعبادته، ونأى بجانبه، أي لوى جانبه، وولى ظهره، قاصدا الاستكبار والتباعد لأن ذلك عادة المتكبرين، وهو عبارة عن التحير والاستبداد.
وإذا أصابه الشر وهو المصائب والحوادث، كان يئوسا قنوطا من رحمة الله ومن الخير بعدئذ. وقل أيها النبي: كل أحد يعمل على طبيعته وطريقته، وناحيته وعلى ما ينوي من الهدى والضلال، والله وحده أعلم بمن هو أرشد سبيلا وأقوم طريقا واتباعا للحق، وسيجزي الله كل عامل بعمله، وفي الآية تهديد ووعيد بيّن للمشركين.
أما الحديث عن الروح: فهو قديم ومتجدد في كل عصر، ويسألك يا محمد المشركون عن حقيقة الروح التي تحيي الأبدان، فقل: الروح من شأن ربي، يحدث
__________
(1) مذهبه الذي يشاكل حاله. [.....]
(2) الرقى جمع رقية: وهي التعويذة التي يرقى بها المريض. والتعويذ: الاعتصام من الشيطان، والمؤمن لا يتعوذ إلا بالله تعالى.(2/1380)
بتكوينه وإيجاده، وقد استأثر بعلمه، فلا يعلمه إلا هو، ولا يستطيعه إلا هو، وما أوتيتم أيها الناس من العلوم والمعارف إلا علما قليلا، محصورا بالمحسوسات والمرئيات، أما ما وراء ذلك فلا قدرة لكم عليه، ولا اطلاع لأحد على حقيقته.
وسبب نزول هذه الآية: هو ما روي عن عبد الله بن مسعود: أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمرّ على حرث (بستان) بالمدينة- ويروى: على خرب- وإذا فيه جماعة من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فإن أجاب فيه، عرفتم أنه ليس بنبي. فالآية نزلت في اليهود، وهي مدنية، وهذه رواية البخاري.
وفي رواية أخرى تدل على أن الآية مكية كسائر سورة الإسراء، وهي ما أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود، علمونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي والمراد: الأرواح التي في الأشخاص الحيوانية.
قال ابن كثير: يجمع بين الحديثين بتعدد النزول، فقد يكون السؤال من قريش، بتعليم اليهود في مكة فتكون الآية مكية، وقد يتكرر السؤال من اليهود أنفسهم في المدينة، فتكون الآية مدنية. والراجح هو الرأي الأول، فقد حرض اليهود المشركين المكيين على هذا السؤال للتحدي والاستبداد والعناد.
والمهم بيان كون الله مصدر الأرواح جميعا. فهو المانح للروح والقابض لها، وعلم الناس محدود قاصر، لا يدركون إلا ظواهر الأشياء، من وجود حركة الإنسان الجنين في بطن أمه، حينما تدبّ فيه الروح، فيحيا الجسم ويحس ويتحرك.
وذلك أنه كان عندهم في التوراة: أن الروح مما انفرد الله بعلمه، ولا يطلع عليه أحدا من عباده، فتطابق ما جاء في القرآن مع ما جاء في التوراة، مما يدل على صدق نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.(2/1381)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
إعجاز القرآن الكريم
ما من نبي أو رسول إلا وهو بحاجة لإثبات صدق نبوته، وطريق التصديق:
إظهار المعجزة (وهي الأمر الخارق للعادة) على يده، لأن الإنسان العادي لا يستطيع الإتيان بالمعجزات، فتكون المعجزة طريقا للتحقق من صدق النبي أو الرسول، ومعجزات الأنبياء كثيرة متنوعة بحسب كل زمان، مثل العصا التي تنقلب حية واليد البيضاء لموسى عليه السلام في وقت ساد فيه السحر، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه (المولود أعمى) والأبرص بإذن الله لعيسى عليه السلام، في وقت تقدم فيه الطب، ومعجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الخالدة هي القرآن الكريم أفصح الكلام، وأبلغ البيان، وأروع الأساليب، في وقت كان فيه العرب يتفاخرون بالبلاغة والفصاحة وروعة الأسلوب.
وهذه المعجزة تحدثت عنها الآيات الآتية:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 89]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)
«1» »
«3» «4» «5» «6» «7» [الإسراء: 17/ 86- 89] .
امتن الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنبوّة والوحي، وبجعل القرآن شفاء للناس، وبإبقائه محفوظا خالدا إلى يوم القيامة، رحمة بالناس. فما على الرسول إلا التسليم لله، وتفويض التعليم إليه بما شاء، فالله تعالى يعلم من علمه بما شاء، ويدع ما شاء،
__________
(1) من يتعهد بإعادته إليك.
(2) استثناء منقطع.
(3) معينا.
(4) رددنا بأساليب متنوعة.
(5) من: لابتداء الغاية.
(6) رفض.
(7) جحودا للحق.(2/1382)
ولئن شاء لذهب بالوحي الذي آتاه الله لنبيه، ثم لا يجد ناصرا له من الله، أو وكيلا.
والوكيل: القائم بالأمر في الانتصار، أو المخاصمة ونحو ذلك من وجوه النفع.
لكن رحمة من ربك، يترك القرآن، ولا يذهب به من صدر نبيه محمد، وهذا امتنان من الله تعالى على جميع العلماء ببقاء القرآن، إن فضل الله عليك أيها الرسول عظيم وكبير، بإرسالك للناس بشيرا ونذيرا، وباختصاصك بالنبوة، وحمايتك من المشركين، وبإنزال القرآن عليك، وحفظه في صدرك وفي المصاحف إلى يوم القيامة.
ثم تحدى الله العرب بأن يأتوا بمثل القرآن الكريم، فقل يا محمد متحديا: والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم، واتفقوا وتعاونوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته، وحسن نظمه وبيانه، ومعانيه وأحكامه، وفيهم العرب أرباب البلاغة وفرسان الفصاحة، لعجزوا عن الإتيان بمثله، حتى ولو كان الجميع متعاونين متآزرين، بعضهم لبعض ظهير، أي معين ومساعد.
وسبب نزول هذه الآية: أن جماعة من قريش قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد، جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن، فإنا نقدر نحن على المجيء بمثل هذا، فنزلت هذه الآية المصرّحة بالتعجيز، المعلمة بأن جميع الخلائق إنسا وجنّا، لو اجتمعوا على ذلك، لم يقدروا عليه.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس: أن جماعة من اليهود جاؤوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وإن هذا الذي جئت به، لا نراه متناسقا، كما تناسق التوراة، فأنزل علينا كتابا نعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ.. الآية.
والعجز عن معارضة القرآن: إنما وقع في النظم ورصف المعاني، وعلة ذلك:(2/1383)
الإحاطة التي لا يتصف بها إلا الله تعالى، والبشر عاجزون بسبب الجهل والنسيان، والغفلة، وأنواع النقص.
وكذلك التحدي بالعشر السور، والتحدي بالسورة الواحدة، إنما وقع ذلك كله على حد واحد في النظم خاصة.
ثم نبّه الله تعالى على فضله في إنزال القرآن على العالم، ووبخ الكفار على قبيح فعلهم، وترك إيمانهم بالقرآن، فالله بيّن للناس في القرآن بيانا مترددا ومكررا على وجوه مختلفة، وألوان متعددة، وعبارات متنوعة، مرة بالإيجاز، وتارة بالإطناب، وأوضح الحجج والبراهين القاطعة الدالة على وحدانية الله وصدق نبيه، وأبان الحق، وأتى بالآيات والعبر، ورغّب ورهّب، وأمر ونهى، وشرّع وأحكم، وأتى بالقصص، وأخبر عن الجنة والنار والقيامة، للعظة والعبرة وهذا معنى قوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل معنى، هو كالمثل في الغرابة والحسن، وأتى الله في القرآن بألوان التنبيه والعبر، من كل مثل ضربه، فأبى أكثر الناس، أي أهل مكة وأمثالهم إلا جحودا وإنكارا للحق، وردا للصواب، وبقاء على الكفر، وإعراضا عن الإيمان.
طلب المشركين آيات تعجيزية
لقد عانى النبي صلّى الله عليه وسلّم من قومه في مكة معاناة شديدة، حينما بدأ بدعوتهم إلى توحيد الله تعالى، وهجر عبادة الأوثان، فآذوه وآذوا المستضعفين إيذاء شديدا، وبلغ بهم العناد والاستبداد والتحدي أن طالبوا نبي الله بإحدى ست آيات تعجيزية، كلها غير مقدورة للبشر، حدث هذا في مكة حينما اجتمع عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعبد الله بن(2/1384)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
أبي أمية والنضر بن الحارث وغيرهم من مشيخة قريش وساداتها، وعرضوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يملّكوه- إن أراد- الملك، ويجمعوا له كثيرا من المال- إن أراد الغنى- أو يطبّوه إن كان به داء، ونحو هذا من الأقاويل،
فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك إلى الله، وقال: إنما جئتكم من عند الله بأمر فيه صلاح دينكم ودنياكم، فإن سمعتم وأطعتم فحسن، وإلا صبرت لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم بما شاء، فقالوا له حينئذ: فإن كان ما تزعمه حقا، ففجّر ينبوعا ونؤمن لك، ولتكن لك جنة (بستان) إلى غير ذلك مما كلفوه، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا كله إلى الله، ولا يلزمني اقتراح هذا ولا غيره، وإنما أنا مستسلم لأمر الله تعالى «1» .
هذا هو معنى الحديث في سبب نزول الآيات الآتية:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)
«2» «3» «4» «5» [الإسراء: 17/ 90- 93] .
لم يكتف المشركون بإعجاز القرآن لإثبات كونه كلام الله، وإثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبعد أن أفحمتهم الحجة، وعجزوا عن الجواب المقنع، اقترحوا إنزال إحدى ست آيات من النبي صلّى الله عليه وسلّم:
- فقال زعماؤهم كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة
__________
(1) الحديث طويل، رواه الطبري وابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وذكره المفسرون كابن جرير والقرطبي والسيوطي في الدر المنثور وابن كثير.
(2) عين ماء.
(3) قطعا.
(4) مقابلة وعيانا.
(5) ذهب.(2/1385)
والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وأبي البختري: لن نصدق برسالتك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعا من الماء يتدفق، وهو العين الجارية، فإنا في صحراء.
- أو تكون لك جنة (أي بستان) من النخيل والأعناب وبقية الثمار، تتدفق فيها الأنهار وتسقى بها الزروع والأشجار.
- أو تسقط السماء علينا كسفا، أي قطعا قطعا، كما زعمت أن ربك يفعل ذلك إن شاء.
- أو تأتي بالله والملائكة معاينة ومواجهة، فيحدثونا بأنك رسول من عند الله.
ومعنى قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي مقابلة وعيانا، أو ضامنا وزعيما بتصديقك.
- أو يكون لك بيت من زخرف، أي من ذهب. فإنك يتيم فقير. والزخرف: هو ما يتزين به، من ذهب أو غيره. والمراد به هنا: الذهب.
- أو ترقى (أي تصعد) في السماء على سلّم تضعها، ثم ترقى عليها، ونحن ننظر، ولن نصدق لارتقائك حتى تأتي لنا بكتاب نقرؤه، فيه تصديقك أنك رسول من عند الله. وقائل هذه المقالة: هو عبد الله بن أبي أمية فإنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب، أي كتاب له، فيه: من الله عز وجل إلى عبد الله بن أبي أمية. وطلبت جماعتهم مثل هذا الطلب.
فأمر الله نبيه أن يقول: سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي تنزيها لله من الإتيان إليكم، مع الملائكة قبيلا، ومن أن يخاطبكم بكتاب، كما أردتم، ومن أن أقترح على الله هذه الأشياء، وهل أنا إلا بشر منكم أرسلت إليكم بالشريعة، فإنما عليّ التبليغ فقط.
وليس للرسل أن يأتوا بشيء إلا بما يظهره الله على أيديهم بحسب الحكمة الإلهية(2/1386)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
وتوافر المصلحة للناس، وما سألتموه أو طلبتموه أمره إلى الله عز وجل، إن شاء أجابكم، وإن شاء لم يجبكم.
والواقع أنهم قوم معاندون مكابرون، لن يؤمنوا برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو جاءت الآيات كما اقترحوا، كما ذكر الله تعالى في آية أخرى وهي: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) [يونس: 10/ 96- 97] .
وهكذا وضحت قضية هؤلاء المعاندين المشركين في مكة وغيرها، فإن من شرح الله صدره للإيمان لا يحتاج لهذه الأسباب، كلها أو بعضها، عافانا الله من التكبر والعناد.
استغراب المشركين من كون الرسل بشرا
المشركون الذين لم يجدوا حجة أو مسوغا مقبولا لشركهم وعنادهم، كلما حوصروا وأفحموا منطقيا وواقعيا، لجؤوا إلى تصيد الشبهات والذرائع لتسويغ شركهم ووثنيتهم، يتخبطون في دياجير الظلام، ويسقطون في متاهات الضلال، ومن شبهاتهم الواهية: أن الرسل لا يصح كونهم بشرا، وإنما ينبغي أن يكونوا ملائكة، وهذا يجافي العقل والمنطق، لأن من أهم شروط الرسول المبلّغ رسالة أو الناقل كلاما أن يكون من جنس المرسل إليه، حتى يأنس به ويفهم كلامه. وتحكي لنا الآيات الآتية شبهة بشرية الرسل، والرد على أفّاكيها:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 97]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97)(2/1387)
«1» «2» [الإسراء: 17/ 94- 97] .
هذه الآيات واردة على سبيل التوبيخ والتعجب من النبي صلّى الله عليه وسلّم كأنه يقول مستغربا متعجبا من المشركين: ما شاء الله كان، ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا هذه العلة التافهة (النّزرة) وهي كون الرسل بشرا، وهذا ليس أمرا بدعا ولا غريبا، فكون الرسل بشرا من جنس المرسل إليهم هو الأمر الصحيح، ليقع الإفهام وتحدث المناقشة المنطقية، والتمكن من النظر، فلو فرض أن في الأرض ملائكة يسكنونها مطمئنين، أي وادعين فيها مقيمين، لكان الرسول إليهم من الملائكة، ليحدث الإفهام بلغة المخاطبين، ولو بعث للبشر ملك، لنفرت طبائعهم من رؤيته، ولم تحتمله أبصارهم، وإنما أجرى الله الأمر على حسب المعتاد والمصلحة، واللطف والرحمة بالعباد.
وهذا ما أمر الله به نبيه أن يقول: إن مقتضى الحكمة ومنطق الأشياء والرحمة بالناس المدعوين للإيمان: أن يبعث إليهم الرسول من جنسهم، ليناقشهم ويخاطبهم، ويفهموا منه، فليس إرسال الرسول لمجرد إلقاء الموحى به إليه، ولو كان الرسول ملكا لما استطاعوا مواجهته، ولا الأخذ عنه، فإن الشيء يألف جنسه ويأنس به، فطبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، وعقد حوار معهم حول أحكام التشريع، وتبيان أصول العقيدة، وأداء الرسالة.
بل إن إرسال الرسول من البشر نعمة وحكمة ومنّة عظمي، كما قال الله تعالى:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران: 3/ 164] أي من جنسهم.
ثم أرشد الله تعالى إلى حجة أخرى في الموضوع حين قال المشركون للنبي: فمن
__________
(1) سكن لهيبها. [.....]
(2) زدناهم توقدا ولهبا.(2/1388)
يشهد لك بصدق نبوتك؟ وتلك الحجة هي أن القول الفصل بيني وبينكم هو أن الله شاهد علي وعليكم، والحاكم بيني وبينكم، وهو العالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذبا لانتقم مني أشد الانتقام، إن الله سبحانه عالم تامّ العلم بأحوال عباده الظاهرة والباطنة، وخبير بمن يستحق الهداية، ومن هو باق في الضلالة، فهم لا يذكرون شبهة بشرية الرسل وغيرها إلا حسدا وحبا للزعامة، وإعراضا عن دعوة الحق وقبولها.
وفي ذلك تهديد ووعيد وإيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يلقاه من صدود قومه وعنادهم.
ثم ذكر الله تعالى قانون الهداية والضلالة، ومضمونه: من يهده الله للإيمان فهو المهتدي إلى الحق، ومن يضلل الله بسبب بعده عن الهداية، فلن تجد لهم أنصارا يهدونهم من دون الله إلى الحق والصواب، ونحشر (نجمع) يوم القيامة في موقف الحساب هؤلاء الضالين عميا لا يبصرون بقلوبهم الحق، بكما لا ينطقون، صما لا يسمعون، أي فكما أنهم كانوا في الدنيا معطّلين هذه الحواس عن الانتفاع بها، فهم في الآخرة لا يبصرون طريق النجاة الذي يقر الأعين، ومصيرهم إلى جهنم، كلما سكن لهيبها، وفرغت النار من إحراقهم، زدناهم لهبا ووهجا وجمرا، فيثور اللهب من جديد، ويتكرر الإفناء والإعادة، زيادة في عقابهم وتحسرهم، فتلك زيادة السعير، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. قال ابن عطية: فالزيادة في حيّزهم، وأما جهنم فعلى حالها من الشدة، لا يصيبها فتور.
إنكار المشركين البعث
تتركز عقيدة المشركين الوثنيين على أمرين: نسبة الشريك لله تعالى زورا وبهتانا، وإنكار البعث واليوم الآخر، بسبب تصوراتهم المادية المقصورة على الدنيا، وضعف عقولهم، وعدم إدراكهم لقدرة الله تعالى العظمى التي تختلف كل الاختلاف عن(2/1389)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
قدرات البشر وإمكاناتهم، وهم ينسون سبب وجودهم وخلقهم في عالم الحياة، فالله هو الذي خلقهم وسوّاهم، وهو كذلك قادر هيّن عليه أيضا إعادتهم إلى الحياة، حتى وإن صاروا عظاما بالية، ورفاتا بقايا قديمة، وترابا منثورا، قال الله تعالى مبينا فساد عقيدة المشركين في إنكارهم القيامة والبعث:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 98 الى 100]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
«1» «2» [الإسراء: 17/ 98- 100] .
إن الجزاء الإلهي في الدنيا والآخرة عدل مطلق، وحق تام، فلا يعذب الله أحدا، من دون سبب، ولا يعاقبه من غير وجه مشروع، لذا قال الله تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا.. أي إن ذلك الجزاء المشار إليه في الآية السابقة، وهو:
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً وذلك الوعيد المتقدم بجهنم، بسبب كفر أولئك المشركين وتكذيبهم بآيات الله وبالدلائل والحجج التي جاء بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، ويعم ذلك آيات القرآن الكريم وما تضمن من خبر وأمر ونهي.
ومن أسباب تعذيبهم بنحو خاص: إنكارهم البعث، ووجه تخصيصه مع أنه داخل في عموم الكفر بآيات القرآن: التعظيم له، والتنبيه على خطر الكفر به وإنكاره.
وكيف أنكروا البعث؟
قالوا: أإذا كنا عظاما بالية، ورفاتا، أي بقايا صيّرها البلى إلى حالة التراب المنتشر، نعود خلقا جديدا آخر، أبعد ما صرنا إلى البلى والهلاك والتناثر والتفرق في أنحاء الأرض، نعاد أو نبعث مرة ثانية إلى الحياة؟!
__________
(1) أجزاء مفتتة.
(2) أي بخيلا منوعا.(2/1390)
والبعث: تحريك الشيء الساكن، وهذا الاستفهام منهم على جهة الاستبعاد للمحال بزعمهم، فرد الله تعالى عليهم فيما استبعدوه من البعث، والرد مأخوذ مما اعترفوا به، فهم لا ينكرون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض ومن فيهما من البشر وغيرهم، فكيف يصح لهم أن يقروا بخلق الله لكل هذه الأشياء، ثم ينكرون إعادة بعضها؟ إن الله قادر على البعث بدليل خلقه السماوات والأرض.
ألا يرون في قلوبهم أن الله الذي أوجد السماوات والأرض من العدم، على غير مثال سابق، قادر على أن يخلق أمثالهم، ويعيد أبدانهم، وينشئهم نشأة أخرى، كما بدأهم، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك، كما قال سبحانه: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: 40/ 57] .
ألا يرون رؤية القلب أيضا أن الله جعل للبشر أجلا محتوما لا شك فيه، وذلك الأجل إما يوم القيامة، وهو الأجل العام، وإما أجل الموت وهو الأجل الخاص بكل نفس مخلوقة، والتقدير بالأجل فيه بيان قدرة الله عز وجل وملكه لخلقه، فمن قدّر الآجال وجعل للمخلوقات نهاية حتمية، كان هو القادر على إحياء الموتى، وإيقاع البعث من جديد، حين يشاء، لا إله إلا هو، وعلى الرغم من بيان هذا الواقع، أبى الكافرون الظالمون أنفسهم إلا كفورا، أي تماديا في الباطل والضلال، وجحود الثابت الصحيح، وإنكار البعث.
وسبب عدم إجابة المشركين لمقترحاتهم من إيجاد القصور والجنات وعيون الأنهار:
هو الشح والبخل المتمكن في نفوسهم، لذا قل لهم أيها النبي: لو أنكم ملكتم التصرف في خزائن أرزاق الله، لبقيتم على الشح والبخل، ولأمسكتم عن الإنفاق، وهو الفقر، وكان الإنسان قتورا، أي بخيلا منوعا ممسكا، فلو أنهم ملكوا مفاتيح(2/1391)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
الرزق، لأمسكوا عن النفقة، بسبب فقرهم وعجزهم، ولما أعطوا أحدا شيئا بسبب خوفهم من النقص وعدم المال.
والمراد بقوله تعالى: خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي خزائن المال والنعم التي تصرف في الأرزاق، والإنفاق المعروف: هو إذهاب المال، وهو مؤد إلى الفقر، فكأن المعنى:
تبخلون خشية عاقبة الإنفاق، وكان طبع الإنسان ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى، فلو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر.
الآيات التسع لموسى عليه السلام
كان الحجاج عنيفا والصراع قويا على أشده، بين موسى عليه السلام وفرعون ملك مصر، وخليفة هذه الصراع واضحة: هي أن فرعون أراد الحفاظ على ملكه وسلطانه ونفوذه في مصر، وخشي أن ينافسه موسى عليه السلام السلطة، ويحدّ من هيمنته، وتسلّطه على المصريين، وكان لا بد لموسى من إثبات صدقه في ادعاء النبوة، فآتاه الله تسع آيات مشهورة، وآيات أخرى بلغ مجموعها أكثر من أربع وعشرين، وخص الله تسعا منها بالذكر، ووصفها بالبيان ولم يعينها، وهي الخمس المذكورة في سورة الأعراف، وهي: الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والأربع الأخرى كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي السنون (القحط) في بواديهم، ونقص الثمرات في قراهم، واليد، والعصا. قال الله تعالى مبينا تأييد رسوله موسى بهذه الآيات التسع:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)(2/1392)
«1» «2» «3» «4» «5» [الإسراء: 17/ 101- 104] .
في معرض جواب المشركين عن اقتراحهم ومطالبتهم بالآيات التعجيزية، قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ.. أي: لقد أمددنا موسى عليه السلام، وأعطيناه تسع آيات بينات، أي دلائل قاطعة على صدق نبوته، وتصديقه فيما أخبر به، حين أرسلناه إلى فرعون وقومه، فلم يؤمنوا بها، فاسأل أيها النبي محمد بني إسرائيل المعاصرين لك كعبد الله بن سلام وصحبه سؤال تأكد وتوثق، حين جاءهم موسى بتلك الآيات، فقال له فرعون: إني لأظنك يا موسى مسحورا، أي سحرك الناس، فكلامك مختل، وما تأتي به غير مستقيم، وصرت مختلط العقل.
قال موسى لفرعون: لقد علمت علم اليقين أن هذه الآيات التسع ما أنزلها خالق السماوات والأرض إلا طرائق يهتدى بها وحججا وأدلة على صدق ما جئتك به، فهي تهدي الإنسان إلى الطريق الحق، وأنها من عند الله، لا من عند غيره.
وإني لأظنك يا فرعون مغلوبا مهلكا. وهذا رد مفحم على اتهام فرعون موسى بأنه قد سحر، ففسد نظره وعقله وكلامه، ومضمون الرد: أن موسى يعلم آيات الله تعالى، وأنه ليس بمسحور، بل محرّر لما يأتي به.
فأراد فرعون أن يستفزهم، أي أن يخرج موسى وقومه بني إسرائيل من أرض مصر
__________
(1) مغلوبا على عقله بالسحر.
(2) أي طرائق يهتدى بها، وبينات.
(3) المثبور: المهلك.
(4) يستخفهم.
(5) أي جمعا مختلطا قد لفّ بعضه ببعض، فلا تمييز بين القبائل.(2/1393)
بالقتل أو الطرد، فأغرقناه ومن معه جميعا، أي فأهلكناه وجنوده جميعا بالإغراق في البحر.
ونجينا موسى وقومه بني إسرائيل، وقلنا لهم بعد هلاك فرعون: اسكنوا الأرض «1» التي أراد فرعون إخراجكم منها، وهي أرض مصر. فإذا جاء يوم القيامة، جئنا بكم أنتم وعدوّكم جميعا، جمعا مختلطا أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم، وحكم الله عدل مطلق، وحق ثابت دائم.
ويلاحظ أن الله تعالى في هذه الآيات ذكر من قصة موسى مع فرعون طرفي القصة، في البدء والنهاية، فقد أراد فرعون غلبة الإسرائيليين وقتلهم، وهذا كان بدء الأمر، فأغرقه الله تعالى مع جنوده، وهذا كان نهاية الأمر.
وتقرير بداية هذه القصة ونهايتها بإيجاز يملأ النفس رهبة ورعبا، ويوقظ أحاسيس العبرة والعظة في المتأملين المفكرين المتعظين، لأن نبي الله موسى الكليم يدعو إلى الحق، وتوحيد الله، وترك الظلم الغاشم للرعية، وفرعون المتسلط يتمسك بعز السلطة وكبرياء الحكم، ويترفع عن التنزل لمستوى موسى وقومه، ولكن الله بالمرصاد بنصر رسله وأنبياءه وأتباعهم أهل الإيمان، ويهزم ويخذل أعداء الرسل وقواعد الظلم وعروش الظلمة، وهذه هي سنة الله في عباده، يؤيد الحق وأهله، ويمحق الباطل وأعوانه وجنده، وأكد التاريخ هذه السنة، حيث يبقى أهل الصلاح والاستقامة، وتطوى من التاريخ صحف المفسدين الظالمين المتكبرين.
__________
(1) متى ذكرت الأرض عموما، فإنما يراد بها ما يناسب القصة المتكلم فيها، وقد يحسن عمومها في بعض القصص.(2/1394)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
إنزال القرآن ونزوله بالحق
يعلم الله تعالى حاجة البشرية لكتاب ودستور إلهي دائم، يرشد للخير والتوحيد والسعادة، ويحذر من الشر والشرك والشقاوة، ويأمر بالعدل ومكارم الأخلاق، وينهى عن الظلم وقبائح الأقوال والأفعال، لذا أنزل الله القرآن العظيم قائما على الحق والسداد، ومتضمنا الحق في أوامره ونواهيه وأخباره، وملازمة الحق والثبات على الحق أهم خاصية للدوام والخلود، والبعد عن التنازع والخلافات والخصومات، وهذا ما عبّرت عنه الآيات القرآنية التالية:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 109]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
«1» «2» «3» [الإسراء: 17/ 105- 109] .
المعنى: إننا أنزلنا القرآن بالحق، أي بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس، وبالحق الثابت في نفسه، ونزل القرآن بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره، فيكون تكرار اللفظ لمعنى مختلف غير الأول، وذهب الطبري إلى أنهما بمعنى واحد، أي بأخباره وأوامره، وبذلك نزل. هذه خاصية القرآن.
وأما خصيصة النبي صلّى الله عليه وسلّم فالله أبانها أنه ما أرسل نبيه محمدا إلا مبشّرا لمن أطاعه من المؤمنين بالجنة، ونذيرا مخوفا لمن عصاه من الكافرين بالنار.
وأما كيفية نزول القرآن، فكان منجّما، أي مقسطا بحسب الوقائع والمناسبات، لذا وصف الله تلك الكيفية بأنه أنزله مفرقا في مدى ثلاث وعشرين سنة، على وفق
__________
(1) أنزلناه مفرّقا.
(2) على تؤدة وتمهل.
(3) إن في هذه الآية هي عند سيبويه: المخففة من الثقيلة، واللام بعدها: لام التأكيد.(2/1395)
المناسبات وأحوال الوقائع والحوادث، وعلى ما تقتضيه الحكمة والمصلحة النافعة في الدنيا والآخرة. ومعنى فَرَقْناهُ بيّناه وأوضحناه وجعلناه فرقانا.
وذلك لتبلّغه أيها النبي الرسول للناس وتتلوه عليهم على مهل وتطاول في المدّة وتأن أو ترسّل في التلاوة، ونزلناه إليك تنزيلا، أي شيئا بعد شيء، وقوله سبحانه:
وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا بعد قوله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لبيان كون التنزيل على حسب الحوادث.
ثم بعد هذا البيان القرآني، قال تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ... وهذه آية تحقير للكفار وتوعد، أو أنها للوعيد دون التحقير، والمعنى: أنكم لستم بحجّة، فسواء علينا آمنتم أو كفرتم، وإنما ضرر ذلك على أنفسكم، وسترون ما تجازون به، وإنما الحجة أهل العلم من قبله، كما سيأتي.
وإن علماء أهل الكتاب الصالحين كورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ونحو هما الذين تمسكوا بكتابهم، ولم يبدلوه ولم يحرفوه، إذا يتلى عليهم هذا القرآن، يسجدون على وجوههم تعظيما لله عز وجل، وشكرا على ما أنعم به عليهم، وعلى بيانه الحق.
وقوله سبحانه: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أي لناحيتها. والأذقان: أسافل الوجوه حيث يجتمع اللّحيان، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض، ولا سيما عند سجوده. وهذا مبالغة في الخضوع والخشوع لله تعالى والخوف منه.
ويقولون في سجودهم: (سبحان ربنا) أي تنزه الله تعالى وتعاظم، وإن وعد الله آت، والله لا يخلف الميعاد، إن وعده لمنجز، واقع، آت لا محالة.
وصفة سجودهم: أنهم يخرون ساجدين باكين، خاشعين، خاضعين لله عز وجل، من خشية الله، وإيمانا وتصديقا بكتابه ورسوله ويزيدهم السجود خشوعا، أي إيمانا وتسليما، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) [محمد: 47/ 17] .(2/1396)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
وهذه الآية: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ عطف بزيادة صفة.
وقد امتدح النبي صلّى الله عليه وسلّم البكاء أي الذي لا يظهر معه الصوت والكلام في أحاديث كثيرة، منها: ما
رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى» .
وقوله سبحانه: وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي يزيدهم القرآن تواضعا لله تعالى. وهذه مبالغة في صفتهم، ومدح لهم، وحض لكل من توسم بالعلم، وحصّل منه شيئا أن يصل إلى هذه الرتبة، وهي رتبة الخشوع والخضوع لله عز وجل.
والواقع أن العبادة لله تعالى ينبغي أن تكون بقلب خاشع، ونفس خاضعة ذليلة لله عز وجل، يظهر منها معنى العبودية الخالصة لرب العزة، ويتجلى بها استحضار عظمة الله وهيبته التي تملأ النفس محبة لله، وخوفا منه، فيصير الإنسان صالح القول والعمل، بالعبادة المرضية لربه تعالى.
الدعاء بأسماء الله الحسنى
تمجّد الله وتعاظم، فله الأسماء الحسنى والصفات العليا، ويصح الدعاء بأي اسم من أسماء الله الحسنى التي هي في الأعم الأشهر تسعة وتسعون اسما، أخرج ابن جرير الطبري، والبخاري في التوحيد والشروط والدعوات، ومسلم في الذكر، والترمذي، وابن ماجه في الدعوات: «إن لله تسعة وتسعين اسما كلهن في القرآن، من أحصاهن دخل الجنة» .
وقد أخبر القرآن في الجملة عن تسمية الله بالأسماء الحسنى في الآيات الآتية:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)(2/1397)
«1» [الإسراء: 17/ 110- 111] .
نزلت الآية الأولى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ كما
روي الطبري عن ابن عباس أن المشركين سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو: يا الله، يا رحمن، فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد، وهو يدعو إلهين.
ونزلت آية: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها كما أخرج أحمد والشيخان وغيرهم عن ابن عباس في حال اختفاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمكة، في بدء الدعوة، وكان المشركون إذا سمعوا القرآن، سبّوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله عز وجل لنبيه: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك، فلا يسمعون، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا.
ونزلت آية: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فيما أخرج ابن جريج عن محمد بن كعب القرظي قال: إن اليهود والنصار قالوا: اتخذ الله ولدا وقالت العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذلّ، فأنزل الله: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً.. الآية.
رد الله تعالى على اتهامات المشركين ومواقفهم المتعنتة، والرد الأول: أن العرب لما عجزوا عن معارضة القرآن، وحملته على إثبات توحيد الله ورفض تعدد آلهتهم، عدلوا إلى رميه صلّى الله عليه وسلّم بأن ما نهاهم عنه من التعدد رجع إليه، وغاب عنهم أن تعدد الأسماء والصفات غير تعدد الذوات.
فهم أنكروا إطلاق اسم الرحمن على الله عز وجل، فأمر الله نبيه أن يقول
__________
(1) لا تسرّ بها.(2/1398)
للمشركين: لا فرق في دعاء الله باسم الله أو باسم الرحمن، فإنه تعالى ذو الأسماء الحسنى، وتعدد الأسماء غير تعدد المسمى، فادعوا الله باسم الله، أو باسم الرحمن، فأي اسم تدعونه به فهو حسن، وتقدير الآية: أيّ الأسماء تدعو به فأنت مصيب، له الأسماء الحسنى. وأسماء الله توقيفية، لا يصح وضع اسم لله تعالى إلا بتوقيف من القرآن والحديث النبوي، وقد روي كما تقدم عند الترمذي وغيره بسند صحيح:
«إن لله تسعة وتسعين اسما ... » الحديث.
ثم أرشد الله تعالى إلى كيفية التلاوة والدعاء، وهي القراءة الوسط بين الجهر والإسرار: لا تجهر بقراءة صلاتك، حتى لا يسمع المشركون فيسبوا القرآن، ويسبوا من أنزله، ومن جاء به، ولا تخافت أو تسرّ بها عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، وابتغ بين الجهر والمخافتة سبيلا وسطا، فهذه هي الطريقة المثلى في القراءة، وهي الحد الوسط بين الجهر بالصوت، والإسرار والإخفات فيه، ففي الجهر حتى لا يتفرقوا عنه، ويأبوا أن يسمعوا منه، أو يسبوا القرآن، وفي الإسرار ليسمع من أراد السماع، فينتفع به.
ثم علّمنا الله كيفية حمده وشكره، فقال: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أي وقل: لله الحمد والشكر على ما أنعم به على عباده، وهو سبحانه الموصوف بالصفات الثلاث الآتية وهي:
- أنه لم يتخذ ولدا: فهو تعالى غير محتاج إليه، واتخاذ الولد من صفات المخلوقين، لا من صفات الله الخالق، فهو منزه عنها.
- وليس لله شريك في الملك والسلطان لأنه أيضا غير محتاج إليه، ولو احتاج إلى شريك لكان عاجزا، ولأن تعدد الآلهة يؤدي إلى الفساد والنزاع واضطراب الأحوال، كما قال الله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 21/ 22] .(2/1399)
- ولم يكن لله ولي من الذل، أي ليس الله بذليل حتى يوالي أحدا لمذلة، من ولي أو وزير أو مشير، بل هو سبحانه خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومدبرها ومقدّرها بمشيئته.
ومجموع هذه الصفات مجموعة في سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) [الإخلاص: 112/ 1- 4] .
ثم قال الله سبحانه في ختام الآية: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً، أي عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا. وهذه اللفظة (الله أكبر) أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، وقد أكدها الله بالمصدر تحقيقا لها، وإبلاغا في معناها. روى مطرّف عن عبد الله بن كعب، قال: «افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام، وختمت بخاتمة هذه السورة» أي سورة الإسراء، وهو ما ذكرناه هنا.(2/1400)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
تفسير سورة الكهف
مهام القرآن العظيم وغاياته
في مطلع سورة الكهف، في منتصف القرآن الكريم تحديد الغايات والأغراض التي من أجلها نزل القرآن، ردا على أسئلة قريش التعجيزية، وتحددت هذه الغايات: في إنذار العصاة والمخالفين المشركين بالبأس الشديد من الله تعالى إذا استمروا في عنادهم، وتبشير المؤمنين الذين يعملون صالح الأعمال بالثواب الحسن الجزيل والتأبيد في جنان الخلد، وهذا ما دوّنته الآيات الآتية من سورة الكهف المكية مبتدئة بحمد الله منزل الكتاب على عبده:
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)
«1» «2» «3» «4» [الكهف: 18/ 1- 5] .
سبب هذه البداءة في هذه السورة:
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما سألته قريش عن المسائل الثلاث: الروح، والكهف، وذي القرنين- حسبما أمرتهم به يهود- قال لهم رسول الله: «غدا أخبركم بجواب سؤالكم» ولم يقل: «إن شاء الله» فعاتبه الله تعالى بأن أمسك عنه الوحي خمسة عشر يوما، فأرجف به كفار قريش، وقالوا: إن محمدا قد
__________
(1) انحرافا عن الحق. [.....]
(2) مستقيما معتدلا.
(3) عذابا.
(4) عظمت كلمة.(2/1401)
تركه رئيّه «1» الذي كان يأتيه من الجن، وقال بعضهم: قد عجز عن أكاذيبه، إلى غير ذلك.
فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبلغ منه الجهد، فلما أن قضي الأمر الذي أراد الله تعالى عتاب- محمد صلّى الله عليه وسلّم- عليه، جاء الوحي من الله تعالى بجواب الأسئلة وغير ذلك، فافتتح الوحي بحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب، أي بزعمكم أنتم يا قريش، كما تقول لرجل يحب مساءتك، فلا يرى إلا نعمتك: الحمد الله الذي أنعم علي وفعل بي كذا، على جهة النعمة عليه، والتذكير بها.
والمعنى: الشكر والثناء بالجميل على الفعل الجميل الصادر بالاختيار من الله تعالى، والله سبحانه محمود على كل حال، ويحمد نفسه في فاتحة بعض السور وخواتمها، لتعليم العباد كيف يحمدونه على نعمه الجليلة التي أنعم بها عليهم، ومن أهمها نعمة الإسلام، وما أنزل على عبده ونبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب وهو القرآن سبب النجاة والفوز للعالم أجمع.
وليس لهذا الكتاب القرآن اعوجاج عن جادة الاستقامة، وإنما هو قويم معتدل مستقيم، فالله تعالى لم يجعل لقرآنه (كتابه) عوجا، ولكنه جعله قيما، أي مستقيما قائما على الحق والسلامة من الزيغ والانحراف، من أجل تحقيق غاياته، وهي تتلخص في تخويف الذين كفروا بالكتاب من البأس، أي العذاب الشديد في الدنيا، ومن عذاب الآخرة، ونار جهنم، وذلك الإنذار من لدن الله تعالى، أي صادرا عنه سبحانه.
وللقرآن غاية أخرى تقابل الإنذار وهي تبشير المؤمنين بالقرآن، الذين يعملون صالح الأعمال، أن لهم ثوابا جميلا عند الله تعالى، وهو الجنة دار المتقين الأبرار،
__________
(1) يقال: به رئي من الجن أي مسّ.(2/1402)
ودار الخلود الأبدي للمحسنين الأخيار، فهم يمكثون أو يستقرون في ذلك الثواب عند الله، وهو الجنة، إلى الأبد، أي إنهم خالدون في النعيم الأبدي، من غير زوال ولا نقصان ولا انقضاء.
والغاية الثالثة: أن القرآن يحذر الكفار الذين زعموا أن لله ولدا وهم مشركو العرب، الذين قالوا: نحن نعبد الملائكة بنات الله، وأمثالهم من الكفرة الآخرين الذي يزعمون أن لله ابنا هو كذا أو كذا، كجعل العزير ابنا لله، أو المسيح ابنا لله تعالى.
وليس لهؤلاء الزاعمين وجود ولد لله ولا لأسلافهم دليل علمي ثابت على هذا القول المفترى، وهو اتخاذ الولد لله، وإنما قولهم صادر عن جهل مفرط، وتقليد للآباء، ومن وساوس الشيطان.
كبرت فريتهم كلمة، وعظمت تلك الكلمة التي ينطقون بها، ويخرجونها من أفواههم، متجرئين على النطق بها، وهي كلمة الكفر، فليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، فما يقولون إلا قولا مجرد كذب وزور وبهتان، ولا حقيقة له أصلا، فقوله تعالى: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون إلا كذبا.
هذه حملة شديدة على كلمات الكفر والشرك والوثنية، فهي مجرد كلمات يرددها أصحابها، من دون عقل ولا وعي، ولا حجة ولا برهان، وتضمنت هذه الجملة تبيان أوصاف القرآن التصحيحية لكلمات الناس، وهي تبشير المؤمنين بالجنة وإنذار الكافرين بنار جهنم، ولا سيما الذين يزعمون أن لله ولدا، وبئست وعظمت تلك الكمة المفتراة الصادرة من الأفواه، من غير إدراك ولا وعي ولا علم صحيح، وإنما بسبب الجهل التام المسيطر على أصحاب ذلك الكلام المفترى. لذا آن الأوان لتخرس(2/1403)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
ألسنة السوء والكذب، وتتجه للنطق بالحق والواقع، وهو الإقرار بوحدانية الله تعالى.
تقوية الروح المعنوية للنبي صلّى الله عليه وسلّم
إن المخلصين في دعوتهم يتحرقون ألما على تباعد الناس عن رسالتهم، التي هي محض إسعاد ونجاة للمؤمنين بها، وفي طليعة المخلصين نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يحرص أشد الحرص على هداية قومه قريش ومن جاورهم، لأنه يسعد بسعادتهم، ويتألم لآلامهم، فإذا ظهر منهم الإعراض عن دعوة القرآن والإسلام، خيّم الحزن والأسى والألم على قلبه، وتلك مشاركة وجدانية عاطفية عالية المستوى، ولكن الله تعالى الرؤوف بعبده ونبيه كان يسرّي خواطره ويؤانسه ويبين عذره، ويحمله على الرضا بما قضى الله وقدّر، وبما حدث من كفر وعناد، وذلك كما في هذه الآيات:
[سورة الكهف (18) : الآيات 6 الى 8]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)
«1» «2» »
«4» «5» [الكهف: 18/ 6- 8] .
هذه آية تسرية وإيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم من إعراض قومه عن دعوته، وابتعادهم عن قداسة الإيمان وعظمته بالقرآن المجيد الذي هو دعوة إنقاذ وتحرر، وإصلاح وتقدّم، وعزة ومجد وسؤدد.
والمعنى: فلعلّك أيها النبي قاتل نفسك ومهلكها بسبب عدم إيمان قومك بهذا القرآن، أسفا وحسرة عليهم، وهذا تقرير بمعنى الإنكار على النبي، أي لا يكن ذلك
__________
(1) أي مهلكها وجدا وحزنا على أمر ما، فالباخع: المهلك نفسه.
(2) حزنا عليهم.
(3) لنختبرهم.
(4) أفضل عملا بطاعتنا.
(5) ترابا أجرد لانبات فيه.(2/1404)
منك بسبب إدبار قريش وتباعدهم عن الإيمان بالله والقرآن، وإعراضهم عن الشرع، فكأنهم من فرض إدبارهم قد بعدوا، فهو عليه الصلاة والسلام في آثار توليهم وإعراضهم عن دعوته في ألم شديد وأسىّ وحزن عميق. والأسف في هذا الموضع:
الحزن، وذلك كما ورد في آيات كثيرة مشابهة، مثل: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 16/ 127] . ومثل: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) [الشعراء: 26/ 3] . ومن ذلك: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ. [فاطر: 35/ 8] .
ثم أخبر الله تعالى عن حقيقة الدنيا، وأنها دار فناء وزوال واختبار، لا دار بقاء وقرار، فقال سبحانه: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها.. الآية، وهي توغل وبسط في الإيناس والتسرية، أي لا تهتم للدنيا وأهلها، فأمرها وأمر قومك وأمثالهم أقل، لفنائه وذهابه، فإنا إنما جعلنا ما على الأرض زينة ومفاتن زائلة، كما أن أهلها زائلون، لنعاملهم معاملة المختبرين الممتحنين، ليعرف المحسن عمله من الفاسد، فنجازي المحسن بالثواب، والمسيء بالعقاب، ومحسن العمل: الزاهد في الدنيا، وتارك الاغترار بها، وجاعلها وسيلة وجسرا للآخرة، وذلك كما
جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون» .
وأراد بقوله: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها أن كل ما على الأرض زينة، وليس شيء إلا وفيه زينة، من جهة خلقه وصنعته وإحكامه. ومعنى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي لنختبرهم، وفي هذا وعيد ما.
قال سفيان الثوري: أحسنهم عملا: أزهدهم فيها. والواقع أن حسن العمل:
يشمل الأخذ بحق، والإنفاق في حق مع الإيمان، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه.(2/1405)
وسبب هذا التوجيه للنبي بالإعراض عن الكفار ما قاله سبحانه: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) أي وإنا لنصيّر الأرض وما عليها بعد الزينة، إلى الخراب والدمار، والصعيد: وجه الأرض، والأرض الجرز: التي لا شيء فيها من عمارة وزينة، وهي البلقع، أو الأرض البيضاء التي لا نبات فيها ولا ينتفع بها، بعد أن كانت خضراء معشبة.
والمقصود من الآية إيناس النبي صلّى الله عليه وسلّم والقول له: لا تحزن، فإنا سنهلكهم ونبيدهم، وإذا كان هذا هو المصير المحتوم لعالم الدنيا وما فيها من عمائر فخمة، وألوان زاهية، ومباهج فاتنة، فلا تحزن أيها النبي، فإنا سنهلكهم وندمر وجودهم وديارهم. وهذا أقسى تهديد لمن يعقل المصير، ويستعد لتلقي العقاب الذي لا منجاة منه إلا بالإيمان بالله ورسوله وقرآنه وشرعه.
أسباب قصة أهل الكهف
تتعدد مظاهر قدرة الله تعالى في الكون والحياة والإنسان، فمنها المعتاد المألوف المحسوس من خلق الأشياء وولادة الإنسان، وإماتته، ومنها النوم المتكرر الذي هو الموتة الصغرى، ومنها حالات غير مألوفة، مثل السبات الذي يستمر عشرات أو مئات السنوات، كحالة أصحاب الكهف، لإظهار قدرة الله وسلطانه التام على الإنسان وغيره. وكانت سورة الكهف كلها تذكيرا باليوم الآخر والمعاد والحساب وبقدرة الله على البعث. وهذه هي قصة أصحاب الكهف، مطلعها في بيان أسباب القصة، قال الله تعالى:(2/1406)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
[سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 15]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الكهف: 18/ 9- 15] .
تعجب المشركون وغيرهم من قصة أصحاب الكهف، وسألوا عنها الرسول صلّى الله عليه وسلّم على سبيل الامتحان، فذكر الله تعالى: أم حسبت، أي بل أحسبت، إضرابا عن الحديث الأول، واستفهاما عن الثاني، أطننت أنهم كانوا من آياتنا العجاب فقط، فلا تحسبن ذلك، فإن آياتنا كلها ذات عجب، فليست قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم في حال النوم مدة طويلة، أعجب من حال الدنيا، فإن من قدر على تزيين الأرض، ثم جعلها ترابا، وعلى خلق السماوات والأرض ثم إبادتها، قادر على كل شيء، ومن قدرته أن يحفظ طائفة من الناس من دون طعام وشراب زمانا معلوما.
اذكر أيها الرسول حين لجأ فتية إلى الكهف، وهم الذين فروا من قومهم بدينهم، وكانوا من الروم على دين عيسى عليه السلام، هربوا لئلا يفتنوهم عن دين التوحيد، ودخلوا في غار جبل، ليختفوا عن قومهم عبدة الأصنام، فقالوا حين ولجوا إلى الغار المتسع طالبين الرحمة واللطف: ربنا هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها، وتسترنا عن
__________
(1) النّقب المتسع في الجبل وإلا فهو غار.
(2) الرقيم: لوح حجري كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم. أو هو الوادي بين عسفان وأيلة في رأس خليج العقبة.
(3) التجؤوا هربا.
(4) اهتداء إلى الحق.
(5) أيقظناهم. [.....]
(6) مدة.
(7) أي أنمناهم نوما عميقا ثقيلا بحيث لا يسمعون.
(8) أي قولا ذا شطط، أي إفراطا في الكفر إن دعونا إلها غير الله على سبيل الافتراض.(2/1407)
قومك، واجعل عاقبة أمرنا رشدا، بأن توفر المصلحة لنا، وتجعلنا راشدين غير ضالين، مهتدين غير حائرين.
فألقينا النوم الثقيل عليهم بحيث لا يسمعون أي صوت، وناموا في الكهف سنين كثيرة طويلة الأمد معدودة.
ثم بعثناهم وأيقظناهم من رقدتهم تلك، للتعرف عن أي الطائفتين المتنازعتين فيهم أو الفريقين أحصى مدة لبثهم وغاية بقائهم نياما، فيظهر لهم عجزهم، ويعرفوا ما صنع الله بهم، فيتيقنوا من كمال قدرة الله على البعث وغيره.
نحن نخبرك خبرهم على وجه الصدق، إنهم شباب صدّقوا بتوحيد الله، وزدناهم توفيقا للهداية بالإصرار على العقيدة والإقبال على الله، وإيثار العمل الصالح، فمعنى قوله تعالى: وَزِدْناهُمْ هُدىً أي يسّرناهم للعمل الصالح والانقطاع إلى الله عز وجل، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا.
وأعطيناهم شدة عزم، وقوة صبر وإصرار، على عقيدتهم حين قالوا: ربنا رب السماوات والأرض، وهو توحيد الألوهية الذي يقرّ به عبدة الأصنام، ولن ندعو من دون الله إلها: وهو توحيد الربوبية الذي ينفيه عبدة الأصنام، فإننا إذا دعونا غير الله، لقد قلنا شططا، أي باطلا وكذبا وبهتانا، والشطط في اللغة: مجاوزة الحد، والبعد عن الحق، فإن دعونا غير الله لقد قلنا إذن قولا شططا خارجا عن الحق والصواب، ووقعنا في الجور وتعدي الحد.
ثم ندّد هؤلاء الفتية بعبادة قومهم الأصنام، فقالوا: هؤلاء قومنا الذين كانوا في زمان (دقيانوس) الملك الكافر، كانوا يعبدون الأصنام، فهلا يأتون بسلطان بيّن، أي بحجة بيّنة على صحة ما يفعلون، من عبادة تلك الآلهة الباطلة المزعومة، وهلّا(2/1408)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا؟! فلا أحد أشد ظلما من افتراء الكذب على الله، ونسبة الشريك إليه فهم قوم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك.
وكان من لطف الله بهم: أن ملكهم، بعد أن هددهم وتوعدهم، أمهلهم.
لينظروا في أمرهم، لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، فوجدوها فرصة مواتية، وهربوا فرارا بدينهم من الفتنة.
قال ابن كثير: وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس: أن يفرّ العبد منهم خوفا على دينه، كما
جاء في حديث البخاري وأبي داوود عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن» .
ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع.
اعتزال أصحاب الكهف قومهم
حين يشتد الأذى بفئة التوحيد والإيمان، لا سبيل إلى النجاة إلا باعتزال القوم الكفرة المؤذين، عزلة مادية بترك الديار والبلاد، وعزلة معنوية بمخالفتهم في دينهم وترك معبوداتهم المزعومة، والاستقلال بعبادة الله وحده. وهذا كان منهج أهل الكهف، تركوا ديار قومهم، ولجؤوا إلى كهف في الجبل، فرارا بدينهم من الفتنة، وقد حمد الله تعالى فعلهم، وحفظهم، وجعلهم مثلا في التاريخ، قال الله تعالى واصفا هذه العزلة الإيمانية:
[سورة الكهف (18) : الآيات 16 الى 18]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
«1» «2»
__________
(1) أي ما ترتفقون به، أي تنتفعون من غداء وعشاء.
(2) أي تميل عنه.(2/1409)
«1» «2» «3» «4» [الكهف: 18/ 16- 18] .
كان الخطاب في بدء قصة أهل الكهف للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي هذه الآيات اتجه الخطاب لأهل الكهف أنفسهم، والمعنى: واذكروا يا أهل الكهف حين تذاكرتم، فاعتزلتم قومكم عزلة مادية بمفارقة الأبدان والديار، وعزلة معنوية بمخالفة قومكم في مذهبهم واعتزالكم معبوداتهم غير عبادة الله تعالى. فالجئوا إلى الكهف: وهو الغار المتسع في الجبل، وأخلصوا العبادة لله تعالى، يبسط لكم ربكم من آثار رحمته الواسعة، فيستركم عن قومكم، ويسهل لكم من أموركم أمرا ترتفقون به وتنتفعون، أي إنكم قررتم أن تجعلوا الكهف مأوى وتتكلوا على الله تعالى، وحينئذ يبسط لكم ربكم رحمته، وينشرها عليكم.
ثم عاد الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: وترى أيها الرسول وكل مشاهد الشمس حين طلوعها تميل عن كهفهم جهة اليمين، بتقليص شعاعها بارتفاعها، حتى لا يبقى منه شيء عند الظهيرة في ذلك المكان، وتراها تبتعد عنهم حين الغروب وتتركهم، لا تقربهم، وتعدل عنهم جهة الشمال، وهم في متسع الكهف ووسطه، فيأتيهم الهواء باردا لطيفا، أي إن الله تعالى حجب أشعة الشمس عنهم حتى لا تؤثر في رطوبة أبدانهم، ويكونوا في برودة لطيفة، وفي ذلك صلاح لأجسامهم، بإيجاد حاجب من الشمس من جهة الجنوب، ومن جهة الغرب، وهم في متسع الكهف ووسطه، أي إن الشمس تجيء من الكهف أول النهار عن يمين، وآخره عن شمال، فيكون باب
__________
(1) أي تتركهم وتتجاوز عنهم.
(2) متسع من الكهف.
(3) أي بفناء الكهف ومساحته.
(4) خوفا.(2/1410)
الكهف بمثابة وجه إنسان، ومكان الكهف مختلف فيه إما في واد قريب من أيلة في رأس خليج العقبة، أو عند نينوى في الموصل شمال العراق، أو في جنوب تركيا من بلاد الروم سابقا.
إن بقاء هؤلاء الفتية نياما في الكهف سنين عديدة آية من آيات الله العجيبة الكثيرة، الدالة على كمال قدرة الله وسعة علمه، وعلى أنه تعالى يصون المخلصين من عباده، وأن التوحيد دين الحق، وأن كل ما عداه من المذاهب والأديان باطل وضلال، ثم قال الله تعالى: مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ...
أي إن من يوفقه الله تعالى للاهتداء بآياته وحججه، ويدله دلالة مؤدية إلى الحق، ويوفقه إلى ما يحبه ويرضاه، كأهل الكهف، فهو المهتدي إلى طريق الحق والصواب، الفائز بالحظ الأوفر في الدارين، ومن يضلل الله، أي يحجب عنه سبل الهداية والتوفيق لآيات الله، لسوء اختياره واستعداده، وإمعانه في الانحراف، فلن تجد له أبدا حليفا أو ناصرا معينا يرشده ويهديه إلى الخير وطرق الصلاح في الدنيا والآخرة، والمقصود: أن الله هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية والثبات على ملة التوحيد.
وتظنهم أيها الرائي المشاهد إذا رأيتهم أنهم أيقاظ لانفتاح أعينهم، وهم في الواقع نيام، لئلا يتسارع إليها البلى، فكأنهم ينظرون إلى من يشاهدهم، ونقلّبهم تقليبا دوريا مرة في ناحية اليمين، ومرة في ناحية الشمال، حتى لا تؤثر الأرض برطوبتها في أجسادهم، ولكي تتعرض جلودهم للهواء، وتسلم من التقرحات. إن الرائي يحسبهم أنهم أحياء في اليقظة، لشدة الحفظ الذي كان عليهم، وقلة التغير.
وكان كلبهم الذي تبعهم بإلهام من الله للحراسة باسطا ذراعيه بفناء الكهف أو ببابه يحرسهم، وهو كلب حقيقة، كان لصيد أحدهم فيما روي، أو لراع مروا عليه، فصحبهم.(2/1411)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
لو نظرت إليهم لأدبرت منهم فرارا وهربا، ولملئت منهم خوفا وفزعا لأن الله تعالى ألقى عليهم المهابة والوقار، بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم، إلى أن انتهى أجل لبثهم راقدين، وأقام الله فيهم الدليل الحسي المادي على قدرته على البعث والإعادة.
قال أبو الفضل بن الجوهر على منبر جامع مصر سنة (469 هـ) بمناسبة تبعية الكلب لأهل الكهف: إن من أحب أهل الخير، نال من بركتهم، كلب أحب أهل فضل وصحبهم، فذكره الله تعالى في محكم تنزيله.
بعثة أهل الكهف من رقدتهم
يستغرب الإنسان عادة الأشياء غير المألوفة لديه، ويحكم عليها بحسب المعتاد والقدرات والإمكانات المتاحة لديه، فلا يتصور أحد أن إنسانا ينام مدة ثلاث مائة وتسع سنوات، ثم يستيقظ، ويعود إلى الحياة مرة أخرى، وهذا ما حدث فعلا لأصحاب الكهف، لإقامة الدليل الملموس على قدرة الله على بعث الأموات وإحياء الأنفس، وتلك هي العبرة من قصة أصحاب الكهف، قال الله تعالى مبينا هذا الحدث الغريب:
[سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 21]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)
«1» «2» «3»
__________
(1) بدراهمكم الفضية.
(2) أحل وأجود.
(3) أطلعنا الناس عليهم.(2/1412)
[الكهف: 18/ 19- 21] .
هذه هي العبرة من قصة أصحاب الكهف، مفادها: كما أبقيناهم أحياء من غير أكل ولا شرب مدة طويلة من الزمان، في تقلب مستمر وهم نيام، فكذلك بعثناهم، أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت، لنعرّفهم مدى قدرتنا وعجيب فعلنا من الناس، وليتبصروا في أمرهم، وليتساءلوا بينهم، أي ليؤول الأمر أو يصير إلى هذا اللون من التساؤل، فقال قائل منهم: كم لبثتم، أي كم رقدتم في نومكم؟
فأجاب بعضهم قائلا: لبثنا في تقديرنا يوما كاملا، أو جزاء من اليوم لأن دخولهم إلى الكهف كان في أول النهار، وإيقاظهم كان في آخر النهار، فقالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
وأجاب بعض آخر من أهل الكهف: ربكم أعلم بأمركم وبمقدار لبثكم، أي فالله أعلم منكم، وأنتم لا تعلمون مدة لبثكم.
ثم لما أحسّوا بحاجتهم إلى الطعام والشراب قالوا: أرسلوا أحدكم بدراهمكم هذه إلى المدينة، وهي طرسوس كما ذكر الرازي، وهي المدينة التي خرجوا منها. فليبصر أي الأطعمة أجود وأنفع وأطيب وأيسر سعرا، فليأتكم بمقدار مناسب منه، من رزق الله الذي يرزق به الناس، وليتلطف، أي وليكن لطيفا رفيقا في الطلب، وفي الدخول والخروج من المدينة وفي الشراء، ولا يخبرن ولا يعلمن أحدا من أهل المدينة بمكانكم. لأن أصحاب الملك (دقيانوس) إن اطلعوا على مكانكم، يقتلوكم بالرجم بالحجارة، أو يكرهوكم على العودة إلى دينهم- دين الوثنية وعبادة الأصنام، وإن وافقتموهم على العود إلى ملتهم أو دينهم، فلا فلاح لكم أبدا في الدنيا والآخرة.(2/1413)
وكما أنمناهم ثم بعثناهم، أطلعنا الناس عليهم وعلى أحوالهم، وهم أولئك الذين تشككوا في قدرة الله على إحياء الموتى وفي البعث وفي القيامة، فإن بعث أهل الكهف حجة واضحة على قدرة الله على البعث والإحياء، وليدركوا ويتيقنوا أن وعد الله بالبعث حق وصدق وأمر ثابت الوقوع، وأن مجيء الساعة، أي القيامة أمر لا شك فيه، فمن شاهد أهل الكهف بعد مكثهم نياما ثلاث مائة وتسع سنين، علم صحة الخبر بصدق وجود البعث، لأن بعثهم من نومهم، كبعثهم من موتهم. وقوله تعالى:
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي كما بعثناهم أعثرنا عليهم، والإعثار: إعلام الناس بخبرهم، وسمي ذلك إعثار، لأن من غفل عن شيء ثم عثر به، نظر إليه وتعرف عليه، فكان الإعثار سببا في العلم بهم وبمعرفة أحوالهم.
لقد أطلعنا عليهم أهل زمانهم حين كانوا يتنازعون مع بعضهم في أمر القيامة، فمنهم المثبت لها ومنهم المنكر، ومنهم المؤمن بها ومنهم الكافر، فجعل الله اطلاع الناس على أصحاب الكهف حجة لأهل الإيمان، وفرح الملك وشعبه بآية الله على البعث، وزال الخلاف في شأن القيامة.
ثم انقسم القوم في شأن أهل الكهف، فقالوا بعد أن أماتهم الله وحين تنازعهم:
ابنوا عليهم بنيانا يسد باب كهفهم، لئلا يدخل الناس عليهم، حفاظا عليهم واحتراما لأجسادهم، والله أعلم بشأنهم، وهذه الجملة المعترضة للرد على المتنازعين في عقيدة أهل الكهف وفي أنسابهم وأسمائهم ومدة لبثهم، ثم قالت الطائفة الغالبة على الأمر والرأي في مواجهة الذين أرادوا طمس معالم الكهف، وتلك الطائفة وهم المؤمنون والملك قالوا: لنتخذن على باب الكهف مسجدا يصلي فيه المؤمنون، ويتبركون بمكانهم.(2/1414)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
عدد أهل الكهف ومدة نومهم
كان حال أصحاب الكهف مثار تساؤلات عديدة، وجدال وتنازع حول عددهم ومعرفة مدة بقائهم نياما، وهذا أمر طبيعي، لأن الإنسان شغوف بالتعرف على ما حوله من أحداث ووقائع، وأحوال وأوصاف، وهذا من متممات المعارف والمعلومات التي يحرص الناس على معرفتها، كحرص الباحثين اليوم على معرفة مكان الكهف ومآله بعد زمان طويل. وقد أجاب القرآن الكريم عن عدد أهل الكهف ومدة نومهم في الآيات الآتية:
[سورة الكهف (18) : الآيات 22 الى 26]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)
«1» «2» «3» «4» [الكهف: 18/ 22- 26] .
اختلف الناس بعد حادثة أهل الكهف في عددهم وزمان نومهم، فنزلت الآية إخبارا ببيان عددهم، من خلال القول: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فإنه سبحانه وتعالى سكت عن التعقيب على هذا العدد، خلافا للأعداد السابقة حيث عقّب عليها بأن ذلك مجرد رجم بالغيب.
قال بعض الناس ممن عاشوا بعد هذه القصة: هم ثلاثة ورابعهم كلبهم، وقال
__________
(1) قذفا بالظن.
(2) أي لا تجادل أهل الكتاب في شأنهم. [.....]
(3) بمجرد تلاوة الكتاب في أمرهم.
(4) هداية وإرشادا للناس.(2/1415)
آخرون: هم خمسة وسادسهم كلبهم، وكلا الفريقين يقول قولا بلا علم، ومجرد ظن وتخمين لا دليل عليه، للتعقيب على القولين بقوله سبحانه: رَجْماً بِالْغَيْبِ.
وقال جماعة آخرون: إنهم سبعة وثامنهم كلبهم، ولما سكت الله عن التعقيب على هذا القول الثالث، دل على أنه قول صحيح، وأنه واقع قائم فعلا.
وقل يا محمد النبي: ربي الله أعلم بعدد أهل الكهف، ما يعلمهم إلا قليل من الناس، وأكثر المتكلمين من أهل الكتاب الذين ذكروا أعدادهم: هم على ظن وتخمين. والأفضل والأسلم: تفويض الأمر ورد العلم في عددهم إلى الله تعالى، فليس المهم معرفة العدد، وإنما المهم الاعتبار أو الاتعاظ بالقصة، والإيمان بقدرة الله على البعث والإعادة. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: «أنا من ذلك القليل، أي الذين يعلمون بعدة أهل الكهف، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم» .
ثم نبّه الله تعالى رسوله إلى أمر آخر، وهو: فلا تجادل أيها النبي أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدلا ظاهرا غير متعمق فيه، وهو الاقتصار على ما حكاه القرآن، أو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك وحسب، دون زيادة، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف في الرد عليهم، ولا تسأل أحدا عن قصتهم سؤال متعنت، لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة، ولا سؤال مسترشد، لأن الله قد أرشدك، بأن أوحى إليك قصتهم.
ثم لفت الله تعالى نظر نبيه إلى سبب القصة وترك التفويض إلى مشيئة الله، فلا تقولن أيها الرسول لشيء عزمت على فعله في المستقبل: إني سأفعل ذلك غدا، إلا بالاقتران بمشيئة الله عز وجل، فتقول: (إن شاء الله) . واذكر مشيئة ربك إذا نسيت، وقل: إن شاء الله. أي إذا نسيت تعليق الأمر بمشيئة الله، ثم تنبّهت، فتدارك ذلك بذكر الله، طال الوقت أو قصر، ولو بعد سنة ما لم تحنث في اليمين،(2/1416)
وتلك هي السنة ومنهاج العقيدة. وقل أيها الرسول: عسى أن يوفقني ربي لشيء آخر بدل المنسي أو أقرب خيرا ونفعا، فإذا سئلت عن شيء لا تعلمه، فاسأل الله تعالى فيه، وتوجّه إليه في أن يوفقك للصواب والرشاد في ذلك.
وأما مدة بقاء أهل الكهف نياما فهي مقدار ثلاث مائة سنة وتسع سنوات هلالية، وهذه المدة تعادل ثلاث مائة سنة شمسية، فإن التفاوت ما بين كل مائة سنة قمرية ومائة سنة شمسية هو ثلاث سنين.
وإذا سئلت عن مدة لبثهم، ولا علم لك في ذلك فقل: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي لا يعلم ذلك إلا تعالى أو من أعلمه به من خلقه، فلا تتعجل بالأخبار، ما لم يكن عندهم دليل عليها، فلله غيب السموات والأرض، وهو العالم بكل شيء، وأعلم من الذين اختلفوا في مقدار مدة لبثهم، وإن الله تعالى لبصير بأحوال الناس، سميع لهم، ما للناس من دون الله متول يلي أمورهم، وليس له وزير ولا نصير، ولله سبحانه الخلق والأمر، لا معقّب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا مشارك له في القضاء وليس له شريك ولا نظير ولا مشير.
القضاء على الامتيازات
لم تكن شرائع الإسلام وأحكامه ومبادئه مجرد شعارات ونظريات غير قابلة للتطبيق أو غير محترمة في واقع الناس، وإنما كل ما جاء به الإسلام كان نابعا من الواقع وقائما على الواقع ومطبقا تطبيقا فعليا في الواقع العملي، ومن أهم ما نادى به الإسلام وقرره: وجود المساواة الفعلية بين الناس، والقضاء على جميع مظاهر الامتيازات والفوارق الاجتماعية في العبادات والمعاملات والقضاء والحكم(2/1417)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
والسياسة، والآداب والأخلاق الاجتماعية، وهذه صورة عملية لتصفية الامتيازات التي كانت جاثمة في تصور بعض العرب، قال الله تعالى:
[سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 28]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)
«1» «2» «3» «4» «5» [الكهف: 18/ 27- 28] .
في سورة الكهف جملة من التوجيهات الإلهية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيها عتاب أحيانا مثل:
[سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 24]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)
[الكهف: 18/ 23- 24] .
وفيها أحيانا أخرى توجيه منهجي للمستقبل، وهو الأمر باتباع القرآن والتزام آدابه وأحكامه، وهو قوله سبحانه: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ.. الآية.
أي اتبع أيها النبي في جميع أعمالك منهج الوحي الإلهي، واسرد بتلاوتك ما أوحي إليك من كتاب ربك، واعمل بكل ما جاء فيه من أمر ونهي، فإنه لا نقص في قول ربك، ولا مبدل ولا مغير لكلمات الله وأحكامه، من وعد الطائعين ووعيد العصاة، وليس لك سوى الله جانب تميل إليه وتستند، فإن لم تعمل بأمر الله، وقعت في الوعيد، ولن تجد بعدئذ ملجأ أو جانبا يمال إليه، ويستعان به في المؤازرة أو المناصرة على شؤون الحياة. فالتوجيه الأول: تلاوة القرآن والعمل بمقتضاه.
ثم أمر الله نبيه بمداومة مجالسة الفقراء والمساكين، والصبر على إرشادهم وتعليمهم وتوجيههم، وسبب نزول هذه الآية: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
__________
(1) ملجأ وموئلا.
(2) اصبر: أي احبس واثبت.
(3) لا تصرف عيناك النظر عنهم.
(4) جعلناه غافلا ساهيا.
(5) إسرافا في أعماله.(2/1418)
هو أن عظماء الكفار من أهل مكة جاؤوا، فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو أبعدت هؤلاء الفقراء والضعفاء عن نفسك، لجالسناك وصحبناك، يريدون: عمار ابن ياسر، وصهيب بن سنان، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم من الفقراء كبلال الحبشي ونحوه، وقالوا: إن ريح جبابهم (أثوابهم الواسعة أو السابغة) تؤذينا، فنزلت الآية بسبب ذلك.
وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى هؤلاء المستضعفين، وجلس بينهم، وقال:
«الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه» . وروي أنه قال لهم:
«مرحبا بالذين عاتبني فيهم ربي» .
ومعنى الآية التي صفّيت فيها الامتيازات العربية بين الزعماء والأتباع هو:
جالس أيها الرسول الذين يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه، ويكبّرونه، ويسألونه ويدعونه في الغداة (صباحا) وفي العشي (مساء) أي دوام على مجالستهم في كل وقت، سواء أكانوا فقراء أم أغنياء، إنهم يريدون وجه الله، أي طاعته ورضاه.
ولا تجاوز بصرك ونفسك إلى غيرهم، فتطلب بدلهم أصحاب الثروة والنفوذ، وأبناء الدنيا والملابس من الكفار، والقصد: النهي عن احتقارهم لسوء حالهم وفقرهم. وإياك أن تطيع من وجدناه غافلا، وشغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا، وكان مسرفا مفرطا في أعماله غاية الإسراف والتفريط، متبعا شهواته، وهذا يشير إلى أن سبب البعد عنهم التعاظم عن اتباع أمر الله بمفاتن الدنيا وزينتها، هذا هو التوجيه الثاني.
ومفاده إعلان القرار الحاسم بأن المساواة الفعلية بين الناس، أغنيائهم وفقرائهم، وسادتهم وأتباعهم، وحكامهم ومحكوميهم، هو منهج الإسلام ومبدؤه الذي لا يقبل المساومة أو المفاوضة في التنازل عن شيء منه. فإن الأوصاف الطارئة من غنى وثراء،(2/1419)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
وزعامة ونفوذ، وتفوق وإعجاب، لا يصح ولا يقبل أن تكون سببا للتفرقة بين الناس جميعا، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى أو بعمل صالح.
إعلان منهج الحق القرآني
ركّز القرآن الكريم على تبيان الصفة البارزة الناصعة لرسالة الإسلام، وهي أنه دين الحق الثابت، وطريق الحق الذي لا محيد عنه، وجوهر الحق الذي لا خلاف فيه، فإذا اختلف الناس في توصيف الأشياء، وجدوا الصواب والسداد في آي القرآن الكريم وأحكامه، وإذا ابتغوا السلامة والنجاة والسعادة، لم يجدوها في غير التزام العمل الصالح والإيمان الكامل. والسعادة الحقة: هي المؤدية للخلود الأبدي في نعيم الجنان، والتفيؤ بظلال الرحمن، والحظوة من الله بنعمة الرضوان، قال الله تعالى:
[سورة الكهف (18) : الآيات 29 الى 31]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
«1» «2» «3» »
«5» [الكهف:
18/ 29- 31] .
هذا توجيه ثالث في سورة الكهف للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومفاده: قل أيها النبي: هذا الذي
__________
(1) السرادق: كل ما أحاط بالشيء.
(2) كدردي الزيت أو كالمذاب من المعادن.
(3) متكأ أو مقرا، والمرتفق: الشيء الذي يرتفق به أي ينتفع به، وهو الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره.
(4) رقيق الديباج (الحرير) .
(5) غليظ أو سميك الديباج.(2/1420)
جئتكم به من ربكم وهو القرآن، هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، وهو النظام الأصلح للحياة، فمن شاء آمن به، ومن شاء كفر به، فأنا في غنى عنكم، ومن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، ثم يحاسبكم ربكم على أعمالكم. وفي هذا تهديد ووعيد.
ونوع الوعيد المهدد به: هو ما أخبر الله عنه بقوله: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أي إنا هيأنا وأعددنا للكافرين بالله ورسوله وكتابه نار جهنم الذي أحاط بهم سورها أو جدارها من كل جانب، حتى لا يجدوا مخلصا منها.
وإن يطلب هؤلاء الظالمون المعذبون في النار إغاثة ومددا وماء، لإطفاء عطشهم، بسبب حرّ جهنم، يغاثوا بماء غليظ كثيف كعكر الزيت أو كالدم والقيح، يشوي جلود الوجوه من شدة حره، بئس هذا الشراب شرابهم، فما أقبحه، فهو لا يزيل عطشا، ولا يسكّن حرا، بل يزيد فيها، وساءت جهنم مرتفقا، أي متكأ وموضعا للانتفاع. وجاء وصف سرادق النار في آية أخرى هي: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) [المرسلات: 77/ 30- 33] .
وقوله سبحانه: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ توعد وتهديد، وليس على سبيل التخيير بين متساويين، والمراد: فليختر كل امرئ لنفسه ما يجده غدا عند الله عز وجل.
وأما جزاء أهل السعادة والإيمان فهو الجنة، إن الذين آمنوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبجميع المرسلين في كل ما جاؤوا به، وعملوا الأعمال الصالحة التي أمر الله بها، فلا يضيع الله أجرهم على إحسانهم العمل. والجمع بين الإيمان والعمل الصالح دليل على أنه لا يصح أحدهما دون الآخر.(2/1421)
وأوصاف نعيم المؤمنين العاملين أربعة:
الأول- أن لهم جنات إقامة دائمة، تجري فيها الأنهار من تحت غرفهم ومنازلهم.
الثاني- يلبسون في الجنان حلية فيها أساور من ذهب.
والثالث- ويلبسون أيضا ثيابا خضراء من السندس: وهو رقيق الحرير، والإستبرق: وهو غليظ الديباج، أو الحرير المنسوج بالذهب، والحرير الأخضر ترتاح العين عند إبصاره.
والرابع- وهم متكئون في الجنان على الأرائك، أي الأسرة، شأنهم شأن الملوك والعظماء، وأصحاب السعادة الحقيقية.
ومن حظي بهذه الألوان من النعيم، كان حقا محل اغتباط وسرور، لذا قال الله تعالى: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً أي نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم، وحسنت منزلا ومقرا ومقاما، كما في آية أخرى: خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) [الفرقان: 25/ 76] .
وحكى مكي والزهراوي وغيرهما حديثا مفاده أن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية، نزلت في أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم.
سأل أعرابي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الآية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للأعرابي: «أعلم قومك أنها نزلت في هؤلاء الأربعة» وهم حضور «1» .
__________
(1) ذكره الماوردي بلفظ آخر مقارب، وأسنده النحاس في معاني القرآن عن البراء بن عازب، وأسنده السهيلي في كتاب الأعلام.(2/1422)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
قصة صاحب الجنتين
في القرآن الكريم أمثلة واقعية حسية ذات تأثير بالغ، وعبرة عظيمة، قصد بإيرادها تصوير المواقف، وتثبيت الإيمان أو غرسه، واستئصال الكفر وآثاره، والرد على الطائفة المتحيرة من كفار مكة الذين أرادوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يطرد فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي على الدوام، والتنويه بأهل الإيمان المقرين بالربوبية أمثال بلال وعمار وصهيب وأقرانهم. ومن هذه الأمثلة: قصة رجل جاحد كان له جنتان (أي بستانان) فافتتن بجمالهما، وأنكر البعث والآخرة، قال الله تعالى واصفا حال هذا الرجل:
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 36]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [الكهف: 18/ 32- 36] .
ظاهر هذا المثل أنه وصف لأمر واقع موجود، روي في ذلك أنه كان هناك أخوان من بني إسرائيل، ورثا أربعة آلاف دينار، فصنع أحدهما بماله ما ذكر وهو بستانان، واشترى عبيدا وتزوج وأثرى، وأنفق الآخر ماله في طاعة الله تعالى حتى افتقر، والتقيا، ففخر الغني ووبّخ المؤمن، فجرت بينهما هذه المحاورة.
والمقصود بالمثل طائفتان، إذ الرجل الكافر صاحب الجنتين هو بإزاء متجبري قريش أو بني تميم، والرجل المؤمن المقر بالربوبية هو بإزاء بلال وعمار وصهيب وأقرانهم.
__________
(1) بستانين. [.....]
(2) أحطناهما.
(3) ثمرها المأكول.
(4) لم تنقص من ثمرها.
(5) أجرينا وشققنا.
(6) أموال كثيرة مثمرة.
(7) أقوى أعوانا.
(8) تهلك وتفنى.
(9) مرجعا وعاقبة.(2/1423)
وتصوير المثل كما حكى القرآن: واضرب أيها الرسول مثلا لهؤلاء المشركين بالله الذين طلبوا منك طرد المؤمنين من مجلسك، ذلك المثل هو حال رجلين، جعل الله لأحدهما جنتين، أي بستانين من أعناب، محاطين بنخيل، وفي وسطهما الزروع والأشجار المثمرة.
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ... أي أخرجت ثمارها، ولم تنقص منه شيئا في كل عام.
وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أي وشققنا وسط الجنتين نهرا، تتفرع عنه عدة جداول، لسقي جميع الجوانب.
وكان لصاحب البستانين أنواع أخرى من الثمار والأموال النقدية والعينية التجارية، فقال لصاحبه المؤمن الفقير، وهو يجادله ويخاصمه ويحاوره الحديث، ويفتخر عليه: أنا أكثر منك ثروة، وأعز نفرا، أي أكثر خدما وحشما وولدا، وأقوى عشيرة ورهطا يدافعون عني.
ودخل هذا الثري بستانه المتعدد البقاع والجنبات، فقال اغترارا منه، وظلما وكفرا واستكبارا: ما أظن أن تفنى هذه الجنة (البستان) أبدا، وما أظن أن يوم القيامة آت، وكان في الحالين مخطئا ظالما لنفسه، إذ قرر عدم فناء بستانه، وأنكر وجود القيامة. وأفرد كلمة الجنة من حيث الوجود، إذ لا يدخلهما معا في وقت واحد، وظلمه لنفسه: كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث.
ثم أقسم هذا المترف على أنه إذا رجع إلى ربه- على سبيل الافتراض- ليجدن في الآخرة عند ربه خيرا وأحسن من حظ الدنيا أو منقلبا، أي مرجعا وعاقبة حسنة، تمنيا على الله، وادعاء لكرامته ومكانته عنده، على الزعم المغلوط: أن من كان حسن الحال في الدنيا، فهو حسن الحال في الآخرة، كأنه من شدة العجب ببستانه وسروره به، أفرط في وصفه، ثم قاس حال الآخرة على الدنيا، وظن أنه في تقلبه بالعيش(2/1424)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
الهنيء في الدنيا، لم يكن إلا لكرامة يستوجبها في نفسه، فإن كان ثمّ رجوع أو بعث كما يزعم صاحبه المؤمن، فسيكون حاله أحسن وأفضل، وهذا القول من هذا العاصي لم يقصد به الحقيقة، بل قصد الاستخفاف على جهة التصميم على التكذيب.
غير أن موقف هذا المغرور الكافر موقف خاسر، وتصور ساذج، فإن موقفه وحاله آيل في الواقع إلى الدمار والإفلاس، لكفرانه بنعم الله، وعصيانه ربه، وهذا شأن كل غني مغرور، مفتون بماله، لا يحترم أحدا إلا إذا كان غنيا مثله، وتراه يتقلب في المعاصي والملاهي والمنكرات والنوادي والخدينات، ويرائي الناس ويتظاهر متفاخرا بماله وقصوره، ومفروشات منزله، ويتطاول على الآخرين، ولكنه في النهاية من الأخسرين أعمالا، ومن الهالكين.
موقف المؤمن الواعي من صاحب الجنتين
الجدال والنقاش قائم في الدنيا دائما على قدم وساق بين الكافر والمؤمن، وبين العاصي الفاجر والمستقيم الصالح، الأول يغتر بماله ونفسه ودنياه، والثاني يستمسك بإيمانه وينظر لمستقبل عمره، ويدرك فناء الدنيا مهما عظمت، ويتأمل الخير فيما عند ربه، وهكذا كان حال المؤمن في مواجهة الكافر صاحب الجنتين (البستانين) وذي الثراء الواسع، حكى القرآن الكريم هذا اللون من الجدل الهادىء الصادر عن غاية الإيمان والحكمة والعقل:
[سورة الكهف (18) : الآيات 37 الى 44]
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)
«1»
__________
(1) لكن أنا أقول.(2/1425)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الكهف: 18/ 37- 44] .
لقد أجاب الرجل المؤمن صاحبه المفتون ببساتينه وثرواته حينما كان يحاوره، واعظا له، وزاجرا عما هو فيه من الكفر والاغترار، فقال: أكفرت بمن خلقك في أصل الخلقة من تراب، لأن خلق آدم أبي البشر من تراب خلق لذريته، وكذلك الغذاء من النبات، وغذاء النبات من الماء والتراب، ثم يتحول هذا الغذاء دما، يتحول بعضه إلى نطفة، تكون وسيلة للإنجاب، ثم خلق البشر السوي التام الأعضاء.
لكني أنا لا أقول بمقالتك، بل أقر لله بالوحدانية والربوبية، ولا أشرك به أحدا، بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
وهلا إذا أعجبتك جنتك (بستانك) حين دخلتها، قلت: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، أي الأمر ما شاء الله، والكائن: ما قدره الله.
أتستصغرني إذ كنت أقل منك مالا وثروة، وأولادا وعشيرة، في هذه الدنيا الفانية، فإني أتوقع انقلاب الحال في الآخرة، وأرجو أن يعطيني الله خيرا من جنتك (بستانك) في الدار الآخرة، ويرسل على جنتك في الدنيا حسبانا من السماء، أي عذابا كالبرد الشديد والصقيع أو الطوفان أو الصاعقة المحرقة، فتصبح جنتك خالية
__________
(1) عذابا كالصواعق.
(2) ترابا مزلقة.
(3) غائرا في الأرض.
(4) أهلكت أمواله.
(5) كناية عن الندم. [.....]
(6) ساقطة على سقوفها.
(7) النصرة لله وحده.
(8) عاقبة لأوليائه.(2/1426)
من أي شجر أو نبات، وخاوية على عروشها، أو تصير صعيدا (أي وجه الأرض) زلقا: لا يثبت فيها قدم، يعني أن تذهب الأشجار والنباتات، وتبقى أرضا يابسة، قد ذهبت منافعها، حتى منفعة المشي، فهي وحل لا تنبت، ولا تثبت فيها قدم أو يغور ماؤها ويذهب، ولن تتمكن من طلبه وإعادته مرة أخرى.
ثم أخبر الله تعالى بما حل من العذاب بحال هذا الجاحد الممثّل به، وصفة هذا العذاب: أنه أحاط العذاب والفساد والاستئصال بثمار البساتين ونزلت الجائحة بالأموال، فدمّرتها، فأصبح ذلك الرجل المفتون بها نادما متحسرا على ضياع نفقته التي أنفقها عليها، وتمنى أن لم يكن قد أشرك بربه أحدا، وصارت جنته خاوية على عروشها، أي سقطت عرائشها على الأرض.
ولم يجد أحدا يناصره ويؤازره من عشيرة أو ولد، كما كان يفتخر ويتباهى، ولم يعد منتصرا، أي ممتنعا بقوته عن انتقام الله تعالى منه.
وفي هذه الحال من الشدة والمحق والمحنة، تكون النصرة لله وحده، ويؤمن فيها البرّ والفاجر، ويعود كل إنسان طوعا أو كرها إلى الله وحده، وإلى موالاته والخضوع له، حينما وقع العذاب. فقوله سبحانه: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي حينئذ يكون السلطان والملك والنصرة والحكم لله الإله الحق المبين.
والله سبحانه هو خير ثوابا وخير عقبا، أي خير جزاء، وأفضل عاقبة لأوليائه المؤمنين، فينصرهم ويعوضهم عما فقدوه في دار الدنيا، وتكون الأعمال الخالصة لله ذات ثواب عظيم، وأثر طيب أو عاقبة حميدة رشيدة، كلها خير من سابقاتها في الدنيا. وهذا دليل واضح على أن الله يجزي بالحسنة خيرا منها، ويضاعف الله كرما وفضلا ثواب الحسنة إلى ما شاء سبحانه، مما يحمل كل عاقل على الطمع في فضل الله وإحسانه، والإقبال على طاعته ومرضاته لأن ما عند الله خير وأبقى.(2/1427)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
صفة الدنيا الفانية
جرت العادة أن تكون الاستعدادات للأحوال المؤقتة بسيطة وقليلة، وأن تكون الاستعدادات للأوضاع الدائمة والخطيرة كثيرة ومتنوعة، وهكذا ينبغي النظر باستمرار لحال الدنيا والآخرة لأن الدنيا فانية منتهية، والآخرة باقية خالدة، فما على المؤمن إلا أن يتخذ الدنيا جسرا للآخرة، وأن يتزود بالأعمال الصالحة، ويقدم المزيد من الخير لمستقبله، حتى يحقق لنفسه السعادة والنجاة، لذا زهّد القرآن الكريم بالدنيا، ورغّب في نعيم الآخرة الخالد، فقال الله تعالى:
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)
«1» «2» [الكهف: 18- 45- 46] .
اذكر أيها النبي مثلا لأهل مكة وأمثالهم الذين افتخروا بأموالهم وأتباعهم على فقراء المسلمين، يبين ذلك المثل أو الصفة زوال الدنيا وما فيها، والمراد حياة الإنسان بما يتعلق من نعم وثروة، فإن الدنيا بعد الخضرة والبهجة تصبح عابسة لا جمال فيها ولا زهو، إنها في تحولها وتبدلها تشبه حال نبات سقي بماء السماء، واختلط النبات بعضه ببعض، بسبب الماء، وصار أخضر جميلا، ثم تحول بعد الخضرة فأصبح هشيما، أي يابسا، تذروه الرياح، أي تفرقه وتنثره ذات اليمين وذات الشمال.
والله قادر على كل شيء من الإنشاء والإحياء، ثم الدمار والإفناء، واليبس والهلاك، فلا ينبغي لعاقل أن يغتر بإقبال الدنيا أو يتفاخر بها، وعليه أن ينظر إلى مآلها ونهايتها الحتمية.
__________
(1) يابسا متفتتا.
(2) تنسفه.(2/1428)
ومعنى هذا المثل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته، وزهوه وبطره بالنبات الذي له خضرة ونضرة، بسبب المطر النازل، ثم يعود بعد ذلك هشيما متبددا، ويصير إلى عدم. فمن كان له عمل صالح يبقى في الآخرة، فهو الفائز، فكأن الحياة بمثابة الماء، والخضرة والنضارة بمنزلة النعيم والعزة ونحوه. ويدل هذا المثل على سرعة زوال الدنيا وفنائها.
ثم أخبر الله عن حقيقة المال والأولاد، فذكر أن الأموال والبنين والبنات هي من زينة الحياة الدنيا، وليست من زينة الآخرة الدائمة، فهي سريعة الفناء والانقراض، فلا ينبغي لعاقل أو متأمل الاغترار بها والتفاخر بمظاهرها، ولا يصح للناس أن يتبعوا أنفسهم زينة الدنيا وجمالها، وعليهم أن ينتفعوا بها مجرد انتفاع، دون تعلق نفس وإيثار، أو تعظيم وتفضيل، لأن كل ذلك إلى فناء.
والباقيات الصالحات خير، أي إن أعمال الخير وأفعال الطاعة، كالصلاة والصيام والصدقة والجهاد في سبيل الله، ومساعدة المحتاجين، وذكر الله: أفضل ثوابا، وأعظم قربة عند الله، وأبقى أثرا، لأن ثوابها عائد على صاحبها، وهي خير أملا، حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله في الدنيا.
فسر ابن عباس وغيره الباقيات الصالحات بأنها الصلوات الخمس، وفسرها جمهور المفسرين بأنها الكلمات المأثور فضلها وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال ذلك أيضا ابن عباس. ورجح الطبري والقرطبي ما قاله ابن عباس في رواية ثالثة: الباقيات الصالحات: كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة.
وقول الله سبحانه: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا معناه: صاحبها ينتظر الثواب، وينبسط أمله على خير من حال ذي المال والبنين، ودون أن يعمل عملا صالحا.(2/1429)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
ويكون المقصود من الآية عقد مقارنة بين الزائل والدائم، أما الزائل فلا قرار له، وأما الدائم فهو الثابت بنحو مستمر، والاستمرار إنما يكون ببقاء الأثر، والعمل الصالح الشامل للأقوال والأفعال الطيبة المرضية لله تعالى: هو الذي يحقق دوام الأثر، وفضيلة الثواب، وزهرة الآمال اليانعة التي يحلم بها الإنسان، وتحقق له دوام السعادة، ومتعة الحياة، والجمال الذي لا يزول، والفضل الإلهي الشامل، وجنة الخلد اليانعة، التي غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
مشاهد القيامة الحاسمة
مهما تعرض الإنسان للأحداث والمحن الدنيوية، فإنها تكون هينة صغيرة أمام أحداث القيامة الرهيبة، لأن أحداث الدنيا يعقبها دائما أو غالبا انفراج وزوال للكروب، أما أحداث الآخرة، فهي حاسمة شاملة لا أمل فيها بالتغير ولا الانفراج أو احتمال الزوال، لذا تكاد النفس أو الروح تنخلع من الجسد، ويشتد الضيق والألم، حينما يشاهد المرء ما يتعرض له الكون من تدمير وخراب، ويتسلم صحيفة عمله التي هي بمثابة الحكم القضائي المبرم الذي يتلقاه المتهم في محاكم الدنيا، ثم يزجّ به في غياهب السجون، لتنفيذ مقتضى ذلك الحكم. قال الله تعالى واصفا هذه المشاهد المفزعة والمخيفة:
[سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) ظاهرة.
(2) وقتا لإنجاز الوعد بالبعث.
(3) خائفين.
(4) يا هلاكنا.(2/1430)
«1» [الكهف: 18/ 47- 49] .
المعنى: اذكر أيها الرسول يوم تذهب الجبال من أماكنها، ونبددها فتصير كالسحاب هباء منثورا، كما جاء في آية أخرى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) [طه: 20/ 105] .
وتنظر أيها الإنسان إلى الأرض، فتراها ظاهرة بادية، لا جبال فيها ولا وديان، جميع الخلق على صعيد واحد، صافون صفوفا أمام ربهم، لا تخفى على الله منهم خافية.
فهذان حدثان كبيران: تسيير الجبال، وتسوية الأرض، مما يغير حال الدنيا.
والحدث المنتظر للخلائق جميعا أن الله يجمع الأولين والآخرين للحساب في موقف واحد، من غير أن يترك الله منهم أحدا، لا صغيرا ولا كبيرا، كما قال الله تعالى في آية أخرى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) [الواقعة:
56/ 49- 50] . فقوله تعالى: وَحَشَرْناهُمْ أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرضة القيامة.
وفي هذا العرض يعرض البشر قاطبة أمام الله صفا واحدا، يأتون جميعا أحياء، كهيئتهم يوم خلقهم أول مرة في الدنيا، حفاة عراة، لا شيء معهم، لقد جاؤوا إلى ربهم كما خلقهم في المرة الأولى، وفي هذا تقريع وتوبيخ للكفار والمنكرين للبعث، وإثبات لقضية العرض والحساب على الله تعالى، لذا خاطب الله هؤلاء المنكرين بقوله: لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
، أي بل ظننتم أنه لا لقاء لكم مع الله، وأنه لا ميعاد لهذا اللقاء.
__________
(1) عدّها وضبطها.(2/1431)
ثم يتلقى الناس الأحكام الصادرة في حقهم، في صحف تتطاير وكتب توزع، حتى تصل إلى أيدي أصحابها، فيضع الله (الكتاب) أي فتوضع كتب الناس التي أحصتها الحفظة لكل واحد، ويكون لكل إنسان كتاب واحد، يظهر فيه ما دوّن من أعمال الناس، من خير أو شر، صغير أو كبير، دون أن يترك الكتاب شيئا، ويقول المجرمون شاكين من دقة الإحصاء، لا من وجود ظلم أو حيف، يا حسرتنا ويا ويلنا على ما فرطنا وقصرنا من أعمال، فلا يترك هذا الكتاب ذنبا صغيرا ولا كبيرا إلا ضبطه وحفظه، فهو شامل لكل شيء، كما جاء في آية أخرى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) [ق: 50/ 17- 18] . والآية تدل على إثبات الصغائر والكبائر من الذنوب.
ويجد الناس ما عملوا في الدنيا مثبتا في كتابهم، من خير أو شر، صغير أو كبير، قال ابن عباس: الصغيرة: الضحك.
وليس في حكم الله أي ظلم لأحد من الخلق، لأن العدل الإلهي المطلق شامل للثواب والعقاب، حتى يكافأ المحسن، ويجازى المسيء، بل إن الله تعالى قد يغفر ويرحم، وإذا حكم، فإنه يعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله، ويكون جزاء الكفرة الخلود في نار جهنم. وأمر المغفرة والعقاب متروك لمشيئة الله تعالى ويتنازع الأمرين: العدل الإلهي المطلق، والرحمة الشاملة السابغة، لكن تغلب الرحمة الغضب كما
جاء في الحديث النبوي الثابت: «سبقت رحمتي غضبي» .(2/1432)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
تقريع الكفار في موالاتهم العدو غير الله
كل عاقل مخلص يلتمس الخلاص لنفسه بمناصرة أو موالاة المحسن إليه، والمنعم عليه بالنعم الكثيرة، وكل جاهل خائن قصير النظر يوالي أعداء الله من الشياطين، على أمل تحقيق الخير أو دفع الشر، وهو أمل خادع، ثم يترك موالاة المنعم المتفضل عليه بكل نعمة، صغيرة أو كبيرة، وهو لون من الحماقة والطيش ونسيان المعروف، وهذا اللون من التوجه يجنح إليه أصناف الجاحدين والكافرين، فقال الله تعالى واصفا حالهم:
[سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 53]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)
«1» «2» «3» «4» [الكهف: 18/ 50- 53] .
هذا تنبيه للناس على عداوة إبليس وذريته لهم، ولأبيهم من قبلهم، وتقريع لمن اتبع الأبالسة الأعداء، وخالف الخالق الناصر، ومفاده: واذكر أيها النبي حين أمرنا الملائكة بالإلهام بأن يسجدوا لآدم سجود تحية وإكرام، تكريما للنوع الإنساني، كما ذكر ذلك مرارا في القرآن الكريم.
فسجد جميع الملائكة، كلهم في وقت واحد، وكان هذا السجود في قول جماعة إيماء منهم نحو الأرض، لأن السجود في كلام العرب: عبارة عن غاية التواضع.
__________
(1) أعوانا.
(2) أي حاجزا أو مهلكا لهم.
(3) واقعون فيها.
(4) معدلا ومنصرفا. [.....](2/1433)
وهذا جائز بتكليف الله وأمره، وأبى إبليس السجود لآدم، لاغتراره بأصله وعنصره وهو خلقه من نار، وآدم من تراب، وسبب عصيان إبليس أنه كان من عنصر الجن، فلم يعمل مثلما عملوا، وقوله سبحانه: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ دليل على أن للشيطان ذرية من صلبه.
وخرج الشيطان عن طاعة الله، وصار فاسقا، لذا استحق التعنيف على عصيانه، وكان أثر هذا هو التعجب البالغ ممن يطيع إبليس وجنده في الكفر والمعاصي، وتحذير الناس من اتباع وساوس إبليس، وتوبيخ من اتبعه وأطاعه، متخذا له ولجنده أنصارا من دون الله، وبدلاء عنه.
بئس البدل للكافرين الظالمين أنفسهم، وهو اتخاذ إبليس وذريته أولياء وأنصارا من دون الله. وقوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ معناه: خرج عن أمر ربه إياه، أي فارقه.
ثم سلب الله تعالى بصفة نهائية الولاية والنصرة عمن دونه من الشركاء والأبالسة، فقال: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. أي ما أشهدت الذين اتخذوا الشياطين والشركاء أولياء خلق السماوات والأرض، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، فهم عبيد كبقية عبيد الله، لا يملكون شيئا، ولم يكونوا موجودين عند خلق السماوات والأرض، ولم يتخذ الله الضالين المضلين أعوانا وأنصارا، فلا يصح لأحد اتخاذهم نصراء، وفي ذلك كله تحقير لأهل الشرك والشركاء المزعومين.
ثم أخبر الله تعالى عما يخاطب به المشركين يوم القيامة، تقريعا لهم وتوبيخا، فقال: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ..، أي يقول الله للكافرين على سبيل التأنيب أمام الخلائق والوعيد: نادوا لنصرتكم من زعمتم أنهم شركائي، لينقذوكم مما أنتم فيه، فدعوهم، فلم يجيبوهم بشيء، ولم ينفعوهم في شيء، وجعلنا(2/1434)
بين المشركين وآلهتهم المزعومة مكانا سحيقا، وموضعا للهلاك، هو نار جهنم، أو واد في جهنم، فالموبق كما قال ابن عمر وأنس ومجاهد: هو واد في جهنم يجري بدم وصديد.
وشاهد المجرمون الكفرة في القيامة نار جهنم، فظنوا أنهم مواقعوها، أي تيقّنوا وعلموا لا محالة أنهم داخلون فيها حتما، ولم يجدوا عنها مصرفا، أي معدلا.
والمراد: ليس لهم طريق ولإمكان يعدل بهم عنها، ولا بدّ لهم منها، لإحاطتها بهم من كل جانب، ولشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها.
ذكر ابن جرير الطبري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الكافر ليرى جهنم، فيظن أنها مواقعته، من مسيرة أربعين سنة» .
وفي الجملة: هذه الآيات توبيخ شديد لمن يوالي أو يناصر غير الله تعالى، فإن الاستعانة بغير الله أو طلب النصرة من أحد غير الله، جنّ أو إنس ضلال وبهتان وانحدار عن مستوى العقل البشري والكرامة الإنسانية، فمن أعمل عقله بوعي، وأصغى لنداء القرآن، عرف أن الملجأ الوحيد للإعانة والمساعدة والإنقاذ والنجاة في الدنيا والآخرة إنما هو الله وحده لا شريك له.
بيان القرآن ومهام الرسل
تميز البيان القرآني بالواقعية، والجدية الحاسمة، وضرب الأمثال القريبة للذهن والحس، حتى لا يبقى عذر أو مانع لأحد من الاستجابة السريعة لنداء الحق، وانضم إلى هذا البيان قيام الرسل والأنبياء بمهام التبشير والإنذار، وإيضاح منهاج الحق الإلهي وبيان السلوك القويم للبشرية، ولم يعد بعدئذ سوى المكابرة والعناد والنقاش الساقط، والجدال بالباطل، والإعراض عن آيات الله والاستهزاء بها، من(2/1435)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
غير وعي ولا برهان صحيح، قال الله تعالى واصفا بيان القرآن، ووظائف الرسل المبلغين وحي الله سبحانه:
[سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 56]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56)
»
«2» «3» «4» [الكهف:
18/ 54- 56] .
لم يترك الحق تعالى وسيلة للبيان والترغيب والترهيب إلا أتى بها، وهذا مصداق ذلك، فالله سبحانه يحكي ويقسم قسما مؤكدا بأنه خوّف ورجّى وبالغ في البيان، ووضّح كل ما يحتاج إليه الناس من أمور الدين والدنيا، كي يعرفوا الحق وطريق الهدى، ولا يضلوا عنه. ومن ألوان البيان الإلهي: تنويع الأمثال النافعة لأداء الغرض المقصود بها، وهو الهداية إلى أقوم السبل وأسلم مناهج الإيمان.
ومع هذا البيان الشافي والإيضاح الكافي، فإن الإنسان كثير الجدل والخصام ومعارضة الحق بالباطل، وهو أكثر جدلا من كل من يجادل من ملائكة وجنّ وغير ذلك إن فرض، إلا من هدى الله وبصّره بطريق النجاة والسداد.
وما منع المشركين أهل مكة وغيرهم من الإيمان بالله، والاستغفار من الذنوب، حين شاهدوا البينات والأدلة الواضحة على وجود الله تعالى وتوحيده، إلا طلبهم أحد أمرين:
- إما أن تأتيهم سنة أو عادة الأولين القدماء، من إحاطة العذاب بهم وإبادتهم، وهو عذاب الاستئصال.
__________
(1) كررنا بأساليب متنوعة.
(2) أي أنواعا وألوانا وعيانا.
(3) ليبطلوا.
(4) استهزاء.(2/1436)
- وإما أن يروا العذاب عيانا مواجهة ومقابلة.
والمعنى: إن المشركين والكفرة لا يقدمون على الإيمان عادة إلا عند نزول عذاب الاستئصال، فيهلكوا، أو أن تتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا. ومجيء العذاب من عند الله لا من عند الرسل قادة الإصلاح.
ومهام الرسل عليهم السلام: التبشير والإنذار، تبشير من آمن برسالاتهم بثواب الطاعة وهو الجنة وعزها، وإنذار من كذب وخالف بعقاب المعصية وذلّها، فربما يغريهم الثواب بالهداية، وربما يرهبهم العذاب، فيبادروا إلى الإيمان طوعا واختيارا.
وعلى الرغم من البيان الإلهي الكافي وإرشاد الرسل، يصدر من الكفار الجدال بالباطل، والبعد عن الحق، ليحاولوا طمس معالم الحق وإبعاد الناس عنه، فتراهم مثلا يقترحون الآيات بعد ظهور المعجزات، ويقولون للرسل: إن أنتم إلا بشر مثلنا، لا مزية لكم علينا، ولا فضل يؤهلكم للمتابعة والقيادة.
ويزداد موقفهم عنادا وشططا، فهم يهزؤون بالرسل وأتباعهم المؤمنين، ويتخذون آيات الله والحجج والبراهين وخوارق العادات (أي المعجزات) التي بعث بها الرسل، وإنذارات الرسل، وتخويفهم من العذاب الشديد في الآخرة، يتخذون كل ذلك استهزاء وسخرية، وهو أشد الكذب، وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة، والاستبداد والغلظة، وهذا ليس من صفات أهل الرشد والحكمة، ولا هو من منهاج أحد من أهل العلم والمعرفة، أو عقلاء البشر وإن لم يكونوا علماء.
وقوله تعالى: وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً توعد. والهزو أو الهزء: السخر والاستخفاف.
إن هذه الآية تأسّف على هؤلاء المعاندين، وتنبيه على فساد حالهم، فهم يعتقدون أنهم مصيبون، لكنهم في الحقيقة مخطئون، فكان حالهم يقتضي التأسف عليهم، وهذا(2/1437)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
دليل على أن أهل الهداية والإيمان يحبون الخير للناس أكثر مما يحبونه لأنفسهم في واقع الأمر.
صفات المجادلين بالباطل
وصف الله تعالى الكفار المجادلين بالباطل بصفات موجبة للخزي والخذلان، تقوم على الجور والإرهاب الفكري، فهم قوم ظلمة، وعلى الرغم من ذلك فإن رحمة الله اقتضت ألا يعاجلهم بالعقوبة، ليترك لهم الفرصة الكافية على العدول عما هم عليه من العصيان، وإعلان التوبة عن سوء الاعتقاد والفعال، وهذا هو منهاج التوازن والاعتدال، فليست دائما الرحمة فوق العدل، ولا العدل فوق القوة، وإنما الرحمة والعدل والقوة صفات متوازنة ومتلازمة، يستعمل الواحد منها في محله، وتلك هي الحكمة والوسطية، قال الله تعالى مبينا صفات المجادلين بالباطل:
[سورة الكهف (18) : الآيات 57 الى 59]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)
«1» «2» «3» «4» [الكهف: 18/ 57- 59] .
ليس هناك أحد أظلم ممن أعرض عن آيات الله، بعد الوقوف عليها بالتذكير، وينسى ويطرح كبائره ومعاصيه التي أسلفها، وهذا غاية الإهمال. ونسبة السيئات إلى اليدين: وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ من حيث كانت اليدان آلة التكسب في الأمور الجرمية، فجعلت كذلك في الأمور المعنوية أو المعاني، على سبيل الاستعارة.
__________
(1) أي أغطية.
(2) أي ثقلا في السمع.
(3) منجىّ وملجأ.
(4) لهلاكهم.(2/1438)
وإن دعوت أيها النبي هؤلاء المشركين إلى دعوة الحق والهداية والاستقامة، فلن تجد لهم استجابة، ولن يهتدوا بهدايتك: هدي القرآن، أبدا، مهما قدّمت من الأدلة، وتأملت الخير منهم. وجعل الأغطية أو الأكنة على القلوب، وصمّ الآذان عن السماع، والبكم من غير نطق بالحق، كلها استعارات تعبر عن بعد الناس عن الهداية.
وذلك كله لفقدهم الاستعداد لقبول الإيمان والرشاد، بما أصروا عليه من الكفر والعصيان.
ومهما بغى أهل الكفر وتنكبوا طريق الهداية، فإن الله تعالى غفار ستار، ذو رحمة واسعة، لو يؤاخذ الناس فورا على ما اقترفوا من الخطايا والسيئات، لعجل لهم العذاب في الدنيا، على حسب أعمالهم، كما جاء في آية أخرى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 35/ 45] . ويختص الله المؤمنين بالمغفرة والرحمة، لأنه تعالى الغفور ذو الرحمة، والغفران والرحمة بترك معاجلة العقاب.
وإذا اقتضت الحكمة الإلهية عدم التعجيل بالعقوبة، فذلك لا يعني الإعفاء من العقاب، فإن الله تعالى جعل للعذاب موعدا حدده وهو إما يوم القيامة، وإما يوم العذاب الشديد من ألوان عذاب الدنيا كالحروب والصواعق والزلازل والبراكين والسموم القاتلة والأمراض الفتاكة وغير ذلك.
وتلك القرى أو المدن البائدة وأهلها مثل عاد وثمود ومدين وقوم لوط، أهلكهم الله لما ظلموا وكفروا وعاندوا، وجعل لهلاكهم موعدا لا محيد عنه، ومدة معلومة لا تزيد ولا تنقص، لن يجدوا عنه ملجأ أو منجى، وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا ما أصابهم، فقد كذبتم رسولكم، ولستم بأعز علينا منهم، والمهلك: الإهلاك أو(2/1439)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
وقته. والموعد: وقت العذاب. والمراد: إنا عجلنا هلاكهم، ومع ذلك حددنا له وقتا، رجاء أن يتوبوا.
هذه الآيات الكريمة تتضمن علاقة الإنسان بربه، فهي علاقة ودّ، ومغفرة، ورحمة إن أحسنوا العمل، وآمنوا بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر، وكذا إن تلكؤوا عن الإيمان، فيمهلهم الله، وإن الله يمهل ولا يهمل.
والعقاب مبدؤه وغايته: الإصلاح والهداية، والناس هم الظلمة لأنفسهم إذا عطّلوا وسائل الإيمان والهداية والمعرفة، فلم تتفتح قلوبهم لنور الهداية القرآنية، وأصاخوا السمع والأذن لآيات الله الكونية والحياتية.
والدليل من التاريخ: واقع وملموس، فقد أهلك الله أهل المدن الظالمة الذين لم يستجيبوا لدعوة الرسل، واقتضت الرحمة الإلهية إمهالهم لموعد معين، حتى يؤمنوا، وذلك منتهى العدل والفضل الإلهي.
لقاء موسى عليه السلام مع الخضر العبد الصالح
في التاريخ عجائب الحوادث والقصص، ومن هذه العجائب: قصة موسى عليه السلام مع الخضر العبد الصالح، التي تعلّمنا كيف يتعلم الأكبر والأعلم من الأصغر والأقل منه رتبة، فإن موسى عليه السلام كليم الله، مع كثرة علمه وعمله، أمره الله أن يصحب العبد الصالح وهو الخضر، في رحلة استطلاعية وجولة ميدانية، تدل على أن التواضع خير من العجب والكبر. وهذه هي بداية القصة في الآيات التالية:
[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 70]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)
«1» «2»
__________
(1) ملتقاهما.
(2) الحقب: جمع حقبة، وهي زمان من الدهر غير محدود، أي أسير زمانا طويلا.(2/1440)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الكهف: 18/ 60- 70] .
سبب هذه القصة فيما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لدى البخاري ومسلم: أن موسى عليه السلام جلس يوما في مجلس لبني إسرائيل، وخطب فأبلغ، فقيل له: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: لا، فأوحى الله تعالى إليه: بلى، عبدنا خضر، فقال: يا رب، دلّني على السبيل إلى لقيّه «9» ، فأوحى الله تعالى إليه أن يسير بطول سيف البحر، حتى يبلغ مجمع البحرين، فإذا فقدت الحوت، فإنه هنالك، وأمر أن يتزود ويرتقب زواله عنه، ففعل موسى ذلك، وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة: لا أبرح السير (أي لا أزال) .
وإنما قال هذه المقالة، وهو سائر.
ومجمع البحرين: إما في أرض فارس من وراء أذربيجان، وإما عند طنجة أو بأفريقية أو حيث يجتمع بحر ملح وبحر عذب.
هذه قصة ثالثة في سورة الكهف بعد قصة أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين والأموال، وكلها تلتقي في التزهيد بالدنيا ونبذ الافتخار والإيمان بالله واليوم الآخر.
__________
(1) السرب: كالنفق.
(2) تعبا وعناء.
(3) أخبرني.
(4) التجأنا. [.....]
(5) اتخاذا يتعجب عنه.
(6) الذي كنا نطلبه.
(7) رجعا يتبعان آثارهما.
(8) الخبر: العلم بالشيء، والخبير: العالم بخفايا الأمور.
(9) أي لقائه واستقباله.(2/1441)
ومضمونها: اذكر أيها النبي حين قال موسى لفتاه: لا أزال سائرا حتى أصل إلى المكان الذي فيه مجمع البحرين، ولو سرت حقبا، أي دهرا من الزمان، ثمانين أو سبعين سنة، والمراد: زمانا غير محدود. وموسى: هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل، وفتاه: هو يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليه السلام، وكان خادما لموسى، ومجمع البحرين في رأي الأكثرين: بحر فارس والروم، أي ملتقى البحر الأحمر بالمحيط الهندي عند باب المندب.
فلما وصل موسى وخادمه (فتاه) مجمع البحرين، مكان اللقاء بالعبد الصالح، نسيا حوتهما (وهو السمك) حيث عاد الحوت حيا، واندس في سرب (نفق) من الماء، فكان لموسى وفتاه عجبا، وكانت عودة الحوت حيا معجزة لموسى عليه السلام.
ولما تجاوز موسى وفتاه يوشع مجمع البحرين، حيث نسيا الحوت فيه، وسارا بقية اليوم والليلة، وفي ضحوة الغد أحس موسى بالجوع، فقال لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لقينا تعبا من ذلك السفر.
فأجابه فتاه: أرأيت، أي أخبرني عما حدث لي، حين لجأنا إلى الصخرة في مجمع البحرين؟ فإني نسيت أن أخبرك بما حدث من قصة الحوت، فإنه اضطرب، وعاد حيا، وسقط في البحر، وما أنساني ذكر ذلك إلا الشيطان، واتخذ الحوت مسلكه في البحر عجبا.
قال موسى: هذا هو الذي نطلب لأنه علامة الفوز بما نقصد. فرجعا على طريقهما يقصان آثار مشيهما، فوجدا عند الصخرة في مجمع البحرين عبدا صالحا من عباد الله، وهو الخضر في رأي الأكثرين. وكان مسجى بثوب أبيض. فسلّم عليه موسى، وكان قد علّمه الله من لدنه علما من غير وساطة معلم بشر.
فطلب موسى من الخضر أن يصحبه ويرافقه ليتعلم منه شيئا يسترشد به في أمره،(2/1442)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
من علم نافع وعمل صالح. والرشد: الصواب. فأجابه الخضر: إنك لن تقدر على مصاحبتي، ولن تطيق صبرا على ما تراه مني لأني على علم من الله علمنيه لا تعلمه، وأنت على علم من الله، علمكه لا أعلمه، وكل منا مكلف بأمر من الله، فلا تقدر على صحبتي، وكيف تصبر على شيء لم تعلم وجه الحكمة فيه وطريق الصواب. فقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا على ما أرى من أمورك، ولا أخالفك في شيء، فقال الخضر مشترطا على موسى: إن سرت معي، فلا تسألني عن أمر يحدث، حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني.
أحداث قصة موسى مع الخضر
في مرحلة الاختبار الصعبة لموسى عليه السلام، لمعرفة مدى صبره على ما قام به العبد الصالح: الخضر، وقعت أحداث غريبة ثلاثة، لا تنسجم مع أصول المعرفة والشريعة الموسوية، مما جعل موسى عليه السلام يستنكر كل حادث منها، ناسيا العهد الذي التزمه مع الخضر بألا يعترض على شيء حتى يبين له الأسباب الخفية وما وراء الظواهر، وهذه الأحداث قصها القرآن الكريم علينا فيما يأتي:
[سورة الكهف (18) : الآيات 71 الى 78]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)
«1» «2» «3» «4»
__________
(1) إمرا، أي أمرا عظيما منكرا.
(2) لا تحملنّي.
(3) صعوبة ومشقة.
(4) أي ينكره الشرع والعقل.(2/1443)
«1» «2» [الكهف: 18/ 71- 78] .
أحداث هذه القصة ثلاثة هي السفينة، والغلام، والجدار.
أما قصة السفينة: فحينما انطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر، يطلبان سفينة، فمرت بهما سفينة، فكلّما أصحابها أن يركبوا (موسى وفتاه والخضر) فيها معهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير أجر، تكرمة للخضر، فلما سارت بهم السفينة في وسط أمواج البحر، قام الخضر بخرقها بفأس، فقلع لوحا من ألواحها، ثم رقّعها. فقال موسى للخضر منكرا عليه: أخرقتها لتغرق أهلها؟ أي ليؤول أمرهم إلى الغرق، لقد جئت شيئا منكرا عظيما. فقال الخضر لموسى: ألم أقل لك سابقا:
إنك لن تتمكن من الصبر معي على ما ترى مني من أفعال. فاعتذر موسى للخضر قائلا: لا تؤاخذني بنسياني، وتركي وصيتك أول مرة، ولا تكلفني أمرا شاقا عسيرا علي.
وأما قصة الغلام: فتمت حينما خرج موسى وفتاه والخضر من السفينة، وسار موسى والخضر على الساحل، فأبصر الخضر غلاما وضيئا حسن الهيئة لم يبلغ الحلم يلعب مع الغلمان، فقتله الخضر باقتلاع رأسه أو ذبحه، فقال موسى: أتقتل نفسا زكية طاهرة من الذنوب، طيبة لم تخطئ، بغير قتل نفس، أي قصاص، لقد أتيت شيئا منكرا لا يقره الشرع، فأجابه الخضر مؤكدا إنكاره عليه وتذكيره بعهد الرفقة:
ألم أقل لك لن تتمكن من احتمال ما أفعله، ولن تسكت على ما أقوم به. فاعتذر موسى عليه السلام مرة أخرى قائلا: إن اعترضت على شيء يحدث بعد هذا الفعل أو
__________
(1) امتنعوا.
(2) ينهدم.(2/1444)
هذه المرة، فلا تتخذني صاحبا لك، قد أعذرت إليّ مرة بعد أخرى، حيث خالفتك مرتين إلى الآن، وهذا كلام يدل على شدة الندم.
روى ابن جرير الطبري عن أبي بن كعب قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر أحدا، فدعا له، بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه، لأبصر العجب، ولكنه قال: «إن سألتك عن شيء بعدها، فلا تصاحبني، قد بلغت من لدني عذرا» .
وأما قصة الجدار: فهي أن موسى والخضر مشيا بعد الحدثين السابقين، حتى إذا وصلا إلى قرية هي أنطاكية، طلبا من أهلها إطعامهما وسد جوعتهما، فرفضوا الضيافة، وذلك إخلال بالمروءة، وبخل وشح. فوجد موسى والخضر في تلك القرية حائطا آيلا إلى السقوط، فرده الخضر كما كان، ونسبة إرادة السقوط للجدار: على سبيل الاستعارة، فقال موسى للخضر: ليتك تطلب أجرة على إصلاح الجدار، لأن أهل هذه القرية لم يضيفونا، فلا يستحقون العمل مجانا، فأجابه الخضر: هذا الإنكار أو الاعتراض الثالث سبب الفراق بيننا، بحسب الشرط الذي بيننا، وسأخبرك ببيان أسباب الأفعال التي أنكرتها علي، ولم تصبر عليها، وهي خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. وهذا الموقف من الخضر عتاب لموسى، ولوم له على عدم الصبر.
قال ابن عطية في تفسيره: ويشبه أن تكون هذه القصة أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة أيام، وأيام التلوم ثلاثة، فتأمله.
والواقع أن موسى عليه السلام كان معذورا في اعتراضاته، لأنه بحسب قواعد الشريعة مطالب بإنكار المنكر، وأما الخضر فكان أيضا على حق لأنه يفعل بإلهام من الله، وتنفيذ لمراد الله تعالى.(2/1445)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
أسباب أفعال الخضر عليه السلام
كانت أفعال الخضر في الأحداث الثلاثة غير مقبولة في الظاهر، سواء فيما يتعلق بخرق السفينة، أو قتل الغلام، أو هدم الجدار وبنائه مجانا، ولكنها أجيزت شرعا بإلهام من الله تعالى، وارتكابا لأخف الضررين وأهون الشرين، وزال الإشكال في عقلية موسى عليه السلام، بعد أن قام الخضر ببيان أسباب ما قام به من أفعال غريبة، لم يصبر عليها موسى لأول وهلة، وهذا البيان جاء في الآيات القرآنية التالية:
[سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
«1» «2» «3» «4» [الكهف: 18/ 79- 82] .
هذا تفسير الوقائع والأحداث التي قام بها الخضر عليه السلام بحضور موسى عليه السلام، ولم يستطع تقبلها والصبر عليها، لمخالفتها شريعته في الظاهر، لكن الشرائع مبنية كلها على الظواهر العامة، والله وحده من وراء السرائر.
أما حادث خرق السفينة: فكان بقصد تعييبها، من أجل حمايتها والحفاظ عليها لأنها كانت مملوكة لضعفاء أيتام، ليس لهم شيء ينتفعون به غيرها، ولا يقدرون على مقاومة من أراد ظلمهم، وكانوا يكرون تلك السفينة لركاب البحر، ويأخذون الأجرة، فقام الخضر بخرقها ونزع لوح خشبي منها ليعيبها، لأنه كان أمام الركاب
__________
(1) يكلفهما.
(2) طهارة من السوء.
(3) رحمة عليهما. [.....]
(4) قوّتهما وشدتهما.(2/1446)
ملك ظالم، يأخذ كل سفينة صالحة غير معيبة، اغتصابا وظلما من غير وجه حق، فكان عمل الخضر حماية لهذه السفينة، وصونها لأصحابها الضعفاء، فهو من قبيل ارتكاب أخف الضررين لدفع أعظمهما. والمراد من قوله تعالى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أي أمامهم، كقوله تعالى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية: 45/ 10] وقالوا: «وراء» من الأضداد. وعبر الله عن أصحاب السفينة بلفظ «فكانت لمساكين» أي ضعفاء إشفاقا على حالهم التي كانوا عليها.
وأما حادث قتل الغلام: فلأنه كان كافرا، وكان أبواه مؤمنين يحبانه، فكانت هناك خشية من متابعته في الكفر والوقوع في الظلم والعصيان، حينما يكبر، لأن حب الولد غريزة، ومجاملته من أبويه قد تقع، فكان قتله حماية على عقيدة والديه، من قبيل سد الذرائع، أي منع الوسيلة المفضية إلى ممنوع شرعا.
قال الخضر: أراد الله أن يرزق هذين الوالدين ولدا آخر بدلا عنه وخيرا منه في الصلاح والعقيدة، وبر الأبوين والعطف عليهما. روي عن ابن جريج: «أنهما بدّلا غلاما مسلما» .
وأما حادث بناء الجدار مجانا: فكان في بلدة أنطاكية، وكان آيلا للسقوط، وكان تحته كنز لغلامين يتيمين في تلك المدينة، وكان أبوهما وهو الجدّ السابع رجلا صالحا، فأراد الله إبقاء ذلك الكنز مدفونا محفوظا للغلامين حتى يرشدا، فأمر الله الخضر بإصلاح ذلك الحائط، إذ لو سقط لاكتشف الكنز وأخذ، فهدمه الخضر ثم أعاد بناءه ليحفظ الكنز للغلامين حين الكبر والرشد، أو بلوغ الأشد، فإذا ما كبرا استخرجا الكنز، وانتفعا به، وفي هذا مصلحة واضحة، لا يقدم عليها أحد إلا من آتاه الله علما لدنيّا، وإلهاما ربانيا صادقا.
وكان الخضر في هذه الأفعال ينسب الفعل لنفسه، إلا في حادث بلوغ الحلم الذي(2/1447)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
لا يقدر عليه أحد إلا الله، عملا بمقتضى الأدب، الذي؟؟ يقضي بإسناد الخير إلى الله، والشر إلى العباد.
وكان الكلام الأخير للخضر قرارا حاسما، يلقي الطمأنينة والسكينة في قلب موسى عليه السلام، ومضمونه: أن الخضر لم يفعل هذه الأمور الثلاثة باجتهاد ورأي شخصي، أو تجرؤ على المخالفة، وإنما فعل ذلك بأمر الله وإرشاده وإلهامه لأن الاعتداء على المال والنفس والقيام بإصلاح الجدار مجانا، إنما كان بدليل قاطع، وهو الإلهام الذي هو أشبه بالوحي، وذلك هو تفسير ما ضاق صبر موسى عنه، ولم يطق السكوت عنه، ولكن موسى عليه السلام بعد بيان سبب تلك الأفعال ومعرفة الحكمة فيها، اطمأن قلبه، وهدأ غضبه، وزال ما ثار في نفسه من ضرورة إنكار المنكر في ظاهر الأمر، والله هو الموفق إلى سواء الصراط.
قصة ذي القرنين وبلوغه المشرقين
فيما قبل الميلاد، كان هناك رجل صالح أعطاه الله ملكا واسعا فبلغ مشرق الشمس ومغربها، وهو الملقّب بذي القرنين أي صاحب الضفيرتين من الشعر، وهو كالخضر لم يكن نبيا، وقد ذكر الله تعالى قصته بعد إيراد ثلاث قصص في سورة الكهف، كانت مثار إعجاب واستغراب معا في توقعات البشر، ولكنها هينة سهلة في تقدير الله وقدرته. وتضمنت قصته إيراد ثلاثة أحداث عجيبة، أذكر هنا منها حدثين، قال الله تعالى:
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 91]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)
«1»
__________
(1) ملك صالح أعطي العلم والحكمة.(2/1448)
«1» «2» »
«4» «5» «6» «7» [الكهف: 18/ 83- 91] .
هذه هي القصة الرابعة من قصص سورة الكهف. وهي إحدى المسائل الثلاث التي سأل عنها المشركون المكيون بتوجيه من اليهود، بقصد الإحراج والامتحان.
والمعنى: ويسألك المكيون القرشيون عن خبر ذي القرنين، سؤال اختبار وتعنّت، لا سؤال تأدّب وتعلّم، فقل لهم: سأخبركم عنه خبرا مذكورا في القرآن، بطريق الوحي الثابت المنزل عليّ من ربي.
إن الله تعالى مكّن لذي القرنين، وآتاه ملكا عظيما بلغ المشرق والمغرب، وأعطاه من كل ما يتعلق بمطلوبه طريقا (سببا) يتوصل به إلى ما يريده، ويحقق أهدافه، فاتبع طريقا من الطرق المؤدية إلى مراده. حتى إذا وصل نهاية الأرض من جهة المغرب، ولم يبق بعدها إلا البحر المحيط، وهو المحيط الأطلسي، وسار في بلاد المغرب العربي، فوجد الشمس تغرب في عين ذات حمأة أي طين أسود، ووجد في أقصى الغرب عند تلك العين الحمئة قوما كفارا وأمة عظيمة من الأمم، فقال الله له بالإلهام: أنت مخير بين أمرين: إما أن تعذب هؤلاء بالقتل إن أصروا على الكفر، وإما أن تحسن إليهم وتصبر عليهم، بدعوتهم إلى الحق والهداية الربانية، وتعليمهم الشرائع والأحكام.
__________
(1) طريقا موصلا للغاية.
(2) سلك طريقا إلى المغرب.
(3) عين حمئة: أي عين ذات طين أسود.
(4) تدعوهم إلى الحق.
(5) نكرا، أي منكرا شديدا.
(6) ساترا من اللباس والبناء.
(7) هو العلم الشامل.(2/1449)
قال ذو القرنين لبعض حاشيته: أما من ظلم نفسه بالإصرار على الشرك، ولم يقبل دعوتي إلى الحق والخير، فسنعذبه بالقتل في الدنيا، ثم يرجع إلى ربه في الآخرة، فيعذبه عذابا منكرا شديدا، في نار جهنم.
وأما من آمن بالله ربا واحدا لا شريك له، وعمل العمل الصالح الذي يقتضيه الإيمان، فله الجزاء الحسن، وهو الجنة، وسنطلب منه أمرا ذا يسر وسهولة، ليرغب في دين الله والتزام أوامره.
ثم أتبع ذو القرنين سببا آخر، أي سلك طريقا آخر، متجها من المغرب إلى المشرق، حتى إذا وصل لمكان شروق الشمس من المعمورة، وجد الشمس تطلع على قوم حفاة عراة، لا شيء يسترهم من حر الشمس، ولم يجد عندهم بيوتا، وإنما يعيشون في مفازة أو بيداء، لا مأوى فيها، ولا شجر، يعتمدون في المعيشة على السمك وما جاء به البحر.
ومثل ذلك البلوغ للمشرق والمغرب، علّمنا ذا القرنين علوما نافعة، وأطلعناه أو أخبرناه عن إحاطته بجميع ما يحتاجه من المعارف والخبرات والأفعال، دون أن يخفى على الله منها شيء، وهذا من أجل تحقيق الطمأنينة، والرضا، والله سبحانه عالم الغيب والشهادة، لا يعرف الإنسان شيئا من تلك الغيبيات إلا بتعليم الله وإلهامه وإرشاده. وهذا تصوير لأحوال الأقوام البدائية، وبيان أن الأنبياء والصلحاء والعلماء هم الذين يتمكنون من نقلة هؤلاء البدائيين إلى أرقى مدارج العز والمدنية والحضارة.
بلوغ ذي القرنين ما بين السدّين
لم تنته رحلة الرجل الصالح ذي القرنين في سبيل الله ومرضاته، فهو لم يترك مكانا إلا زاره، حاملا أصول الحضارة والمدنية والأخلاق، ومبلّغا الناس ما يؤمن به،(2/1450)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
ومصلحا ما يمكنه إصلاحه في دائرة ملكه الواسع العريض، وقائما بما منحه إياه ربه من مقتضى الحكمة والعلم النافع، فبعد أن وصل المشرق والمغرب، اتجه من الشرق إلى الشمال، فاستنجد به أقوام الشمال، فأعانهم مخلصا لله من غير أجر ولا عوض.
وهذه الرحلة الثالثة أخبر عنها القرآن الكريم في الآيات الآتية، قال الله تعالى:
[سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 98]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96)
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» [الكهف: 18/ 92- 98] .
هذه تتمة الرحلة الشاقة لذي القرنين سلك الطرق المؤدية إلى مقصده، لأنها سبب الوصول، فكان- كما ذكر المؤرخون- يدوس الأرض بالجيوش الثقال، والسيرة الحميدة، وتقوى الله عز وجل، فما لقي أمة، ولا مرّ بمدينة إلا دانت له، ودخلت في طاعته وكل من عارضة جعله عظة وآية لغيره. ثم وصل بين السدين (الجبلين العظيمين) بين أرمينية وأذربيجان، فوجد من ورائهما قوما من الناس شرقي البحر الأسود، وهم الصقالبة (السلاف) لا يكادون يفهمون كلام غيرهم، لغرابة لغتهم، وقلة فطنتهم ونباهتهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجبلان اللذان بينهما السّدّ: أرمينية
__________
(1) جبلين عاليين.
(2) قبيلتين من ذرية يافث بن نوح.
(3) أي جعلا من المال نتبرع به، وهو الخراج.
(4) حاجزا حصينا.
(5) أي قطع الحديد. [.....]
(6) أي جانبي الجبلين.
(7) أي نحاسا مذابا.
(8) يعلوا عليه.
(9) خرقا.
(10) مدكوكا.(2/1451)
وأذربيجان. فقال سكان السد بين الجبلين: إن يأجوج ومأجوج (وهما قبيلتان من بني آدم) يفسدون في أرضنا بالتخريب والقتل والظلم ونحوه من مفاسد البشر.
فهل توافق على أن نعطيك جعلا من المال، على أن تقيم بيننا وبين هؤلاء المفسدين حاجزا منيعا يمنعهم من الوصول إلينا؟
قال لهم ذو القرنين: ما بسط الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، وبعمل الأيدي، أعطوني قطع الحديد، حتى إذا حاذى بالبنيان رؤوس الجبلين طولا وعرضا، قال للعمال المساعدين: انفخوا بالكير على هذه القطع الحديدية، حتى اشتعلت النار المتوهجة، ثم صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمى والحجارة، فصار كله كتلة متلاصقة وجبلا صلدا، وانسدت فجوات الحديد. فما قدر المفسدون من يأجوج ومأجوج أن يصعدوا فوق السد، لارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا نقبه من الأسفل، لصلابته وشدته، وأراح الله منهم القبائل المجاورة، لفسادهم وسوئهم.
وقال ذو القرنين بعد إقامة السد المنيع الحصين لأهل تلك الديار: هذا السد نعمة، وأثر من آثار رحمة ربي بهؤلاء القوم الضعفاء، فإذا حان أجل ربي وميعاده بخروجهم من وراء السدّ، جعله ربي مدكوكا منهدما، مستويا ملصقا بالأرض، وكان وعد ربي بخرابه، وخروج يأجوج ومأجوج، وبكل ما وعد به حقا ثابتا لا يتخلف، كائنا لا محالة.
إن تطواف ذي القرنين في أنحاء الأرض ذو أثر كبير في التاريخ، فهو تطواف مؤيد بمعونة الله، من أجل مقاومة الفساد الخلقي والفوضى الاجتماعية، وغرس أصول الإيمان والحق والخير، وحمل الناس على منهاجه السديد وخطته الإصلاحية، وبها يعرف ما لذي القرنين الرجل الصالح من آثار طيبة وأعمال صالحة، تشبه أعمال الرسل والأنبياء، وتدل على حب الخير للإنسانية جمعاء.(2/1452)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
أسباب الكفر وجزاؤه
إن ميزان العدل الإلهي في غاية الدقة والاعتدال، فأهل العصيان والكفر إنما يعاقبون في الآخرة عقابا أليما بسبب ضلال سعيهم في الحياة الدنيا وإشراكهم، وتعاميهم عن الحق، وكفرهم بآيات ربهم ولقائه يوم القيامة، واتخاذهم آيات الله هزوا وسخرية، وهذه الأسباب الأربعة مجتمعة هي التي أدت إلى العقاب الشديد في الآخرة للكافرين المعاندين، وذلك حق وعدل مطلق، قال الله تعالى مبينا السبب والجزاء للكفر وأهله:
[سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 106]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)
«1» «2» «3» «4» «5» [الكهف: 18/ 99- 106] من علامات الساعة خروج يأجوج ومأجوج (قوم من البشرية) ففي زمن قبل يوم القيامة: يترك الله الناس يضطرب بعضهم ويختلط مع بعض آخر، فيكثر القتل، وتفسد الزروع، وتتلف الأموال، وذلك قبل نفخ الصور، فإذا اقترب موعد القيامة نفخ في الصور: (وهو القرن الذي ينفخ فيه للقيامة) .
وهي النفخة الثانية نفخة الصّعق، ويجمع الله الناس جمعا، بأن يحييهم الله بعد تلاشي أبدانهم وصيرورتها ترابا، ويحضرهم إلى المحشر والحساب جميعا. والنفخات
__________
(1) يختلط.
(2) نفخة البعث.
(3) غشاء كثيف.
(4) منزلا.
(5) تقديرا واعتبارا.(2/1453)
ثلاث،
أسند الطبري، رحمه الله، إلى أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصور: قرن عظيم، ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية- نفخة الصّعق، والثالثة- نفخة القيامة» «1» .
ويعرض الله بعد الحشر جهنم ويبرزها إبرازا واضحا لكل من كفر بالله، بعد النفخة الثانية أو الثالثة في الصور، حتى يشاهدوا أهوالها، يوم جمعهم لها.
وأوصاف الكفار وأسباب عقابهم أربعة:
أولا- التعامي عن سماع الحق واتباعه، وترك نظرهم في آيات الله، وعدم تفكرهم فيها، حتى يتوصلوا إلى توحيد الله واتباع أوامره، ولأنهم كانوا لا يطيقون سماع ذكر الله الذي بيّنه لهم في كتابه، أي إنهم يعطلون وسائل المعرفة، من مشاهدة آيات الله بالأبصار، ويعرضون عن سماع الأدلة المذكورة في كتاب الله تعالى.
ثانيا- عبادة معبودات من دون الله، باتخاذهم أولياء ونصراء ومعبودات من غير الله، كالملائكة والشياطين وبعض البشر، ظنا منهم أن ذلك ينفعهم أو يدفع عنهم العذاب، ونسوا أن الله تعالى أعد لهؤلاء الكافرين العابدين غير الله جهنم منزلا ينزلون به، كما يعدّ النزل للضيف، بسبب اتخاذهم أولياء (أي معبودين) من دون الله. وهذا تهكم بهم وتخطئة لحساباتهم.
ثالثا- الجهل والغباء بظنهم أنهم أحسنوا في الدنيا أعمالهم، وهم في الواقع أخسر الناس أعمالا، وهم الذين ضل سعيهم وعملهم في الدنيا، فعملوا الأعمال الباطلة على غير شريعة مقبولة، وأتعبوا أنفسهم فيما لا نفع فيه، فضيعوا ثمار أعمالهم. وهذا توبيخ شديد لهم وتقريع لهم على سوء اختيارهم.
__________
(1) وفي حديث عند البخاري ومسلم أنه ينفخ في الصور المرة الأولى، فيصعق من في السماوات والأرض، ثم ينفخ فيه أخرى.(2/1454)
رابعا- كفرهم بآيات ربهم ولقائه يوم القيامة، فهم الذين جحدوا في الدنيا بآيات الله التنزيلية، والتكوينية الدالة على توحيده، وهم الذين كذبوا بالبعث والحساب ولقاء الله وما بعده من أمور الآخرة، فحبطت وضاعت أعمالهم التي عملوها، ظانين أنها حسنة، ولا يقام لتلك الأعمال وزن، ولا يكون لها قدر، ولا يعبأ بهم.
ونتيجة لهذه الأسباب الأربعة، كان جزاؤهم الدخول في نار جهنم، بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات الله، وسخريتهم من رسل الله، ومن معجزاتهم، فإنهم استهزءوا بهم، وكذبوهم أشد التكذيب، والهزء: الاستخفاف والسخرية.
والخلاصة: إن جزاء الكافرين هو: بسبب إنكار البعث والحشر، والإشراك بالله والجهل، والكفر بآيات الله، والاستهزاء بالرسل والآيات الكونية والتنزيلية، والجزاء أنواع ثلاثة: إحباط أعمال الدنيا، وإهدار الكرامة والاعتبار، والعذاب في نار جهنم.
جزاء المؤمنين وأسبابه
في مقابلة بيان أسباب الكفر وجزاء الكافرين، أورد الله تعالى جزاء المؤمنين وأسبابه، وفرق واضح بين الجزاءين وأسبابهما، فجزاء الكفر كما تقدم: الخلود في نيران جهنم، وجزاء الإيمان والعمل الصالح: الخلود في جنان الخلد. وبواعث الإيمان كثيرة أهمها إدراك شيء من عظمة الله وسعة علمه. وجوهر الإيمان: توحيد الله، فمن رجا لقاء الله، عمل العمل الصالح، وعبد الله وحده، دون أن يشرك به أحدا.
قال الله تعالى موضحا هذه الأسس الخالدة:(2/1455)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
[سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 110]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الكهف: 18/ 107- 110] .
يتميز منهج القرآن الكريم ببيان المتقابلات وعقد الموازنة بينها، لتكون الصورة متكاملة والرؤية واضحة، ويظهر الحق من الباطل، ويتخير المرء ما يروق له، فيكون إما جالبا الخير لنفسه ومعتقها من النار، أو جالبا الشر لذاته وموبقها في النار، وهكذا هنا، بعد أن أوضح الله سبحانه ما أعد للكافرين والأخسرين أعمالا، ذكر ما أعدّ للمؤمنين، ليظهر التباين، وتقبل النفوس على الحسن، وهذه الآية الواردة في حق المؤمنين، تبيّن أن أهل السعادة هم الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا بما جاء به المرسلون، وعملوا صالح الأعمال، من إقامة الفرائض والمندوبات، ابتغاء رضوان الله، فيكون لهم جنات الفردوس (وهي أعلى الجنة وربوتها وأفضلها) منزلا معدّا لهم، مبالغة في إكرامهم.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة» .
ويبقى المؤمنون في الجنة خالدين فيها مقيمين بصفة الدوام، لا يرغبون عنها بديلا ولا يريدون عنها تحولا. ثم أخبر القرآن عن سعة علم الله، فقل لهم أيها الرسول: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته، وكان ماء البحار حبرا، والقلم يكتب، لنفد ماء البحر قبل أن يفرغ من كتابة ذلك، ولو جيء بمثل البحر بحر آخر وآخر، فإن كلمات
__________
(1) أفضل الجنة.
(2) أي تحولا إلى غيرها.
(3) أي حبرا. [.....]
(4) معلوماته.
(5) فني.
(6) عونا.(2/1456)
الله وأسراره لا تنفد، ولا تضبطها أقلام. ثم حضّ القرآن على صفة التواضع وإعلان العبودية لله تعالى، فذكر: قل أيها النبي للمشركين في مكة وأمثالهم: ما أنا إلا بشر مثلكم في البشرية، ليس لي صفة الملكية أو شيء من الألوهية، ولا علم لي إلا ما علمني ربي، وعلم الله واسع محيط بكل شيء، لا يحده حد، فمن آمن بلقاء الله وطمع في ثواب الله على طاعته، فليتقرب إلى الله بصالح الأعمال، وليخلص له العبادة، وليجتنب الشرك والوثنية، بعبادة أحد غير الله، فإن الإله المعبود بحق هو الله لا شريك له.
والشرك مرفوض بنوعيه: الشرك الظاهر كعبادة الأوثان، والشرك الخفي كفعل شيء رياء أو سمعة وشهرة، والرياء: هو الشرك الأصغر، كما
جاء في حديث الإمام أحمد عن محمود بن لبيد، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا، هل تجدون عندهم جزاء» .
وسبب نزول آية: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي.. هو ما
رواه الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه: فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
وقالت اليهود: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة، فقد أوتي خيرا كثيرا، فنزلت: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) .
وسبب نزول آية فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً الآية. هو ما
رواه ابن أبي حاتم وغيره عن طاوس قال: قال رجل: يا رسول(2/1457)
الله، إني أقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يردّ عليه شيئا، حتى نزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
ضمت الآية بشارة المؤمنين الصالحين بجنان الفردوس العليا، وأخبرت عن سعة علم الله وإحاطته بكل شيء، وعن بشرية محمد والرسل، وعن توحيد الله في الألوهية والربوبية، وحضّ الناس المؤمنين بلقاء الله على العمل الصالح وتجنب الشرك الظاهر والخفي.(2/1458)
كهيعص (1)
تفسير سورة مريم
قصة زكريا عليه السلام
الرغبة في الذرية والإنجاب منزع فطري طبيعي، لأن محبة الولد عاطفة متأصلة في النفس الإنسانية، وقد يكون ذلك أيضا لمصلحة من أجل وراثة جهد الأب، والعون على شؤون الحياة ومصالح العمل، وقضايا الزراعة، ومتاعب العجز والمرض والشيخوخة. لذا رغب زكريا، عليه السلام، في إنجاب الولد، لا لمصلحة دنيوية، وإنما من أجل وراثة النبوة والعلم الإلهي، والتخوّف من العصبات غير المستقيمين على أمر الله وشرعه وآدابه، فدعا زكريا ربه أن يخلفه ولد من أجل هذا، قال الله تعالى حاكيا هذه القصة في مطلع سورة مريم المكية:
[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
«1» «2» «3» «4» «5» »
«7» [مريم: 19/ 1- 6] .
كان لزكريا عليه السلام شركة في خدمة الهيكل، وكانت مريم البتول عليها السلام
__________
(1) دعاء لم يسمعه أحد.
(2) ضعف.
(3) خائبا في وقت ما.
(4) الموالي: هم عصبة الرجل، أقاربه من جهة الأب.
(5) أي لا تلد.
(6) ابنا يلي الأمر بعدي.
(7) مرضيا عندك.(2/1459)
التي نذرتها أمها لخدمة الهيكل من نصيب كفالة زكريا فهو زوج أختها، فلما رأى إكرام الله تعالى لمريم ورزقها من حيث لا تحتسب، دعا أن يرزقه الله تعالى الولد، وهذه هي القصة.
افتتحت سورة مريم بالأحرف المقطعة (كهيعص) للتنبيه لما يذكر في هذه السورة، وتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن، ما دام الكلام القرآني مركبا من حروف الهجاء العربية التي هي مادة تركيب الجملة والكلام العربي نثرا وخطابة وشعرا، فوجود هذه الحروف لمعان معينة، وليس في كتاب الله ما لا يفهم، ثم أعقبت هذه الأحرف بما يلي:
هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك عبده زكريا، الذي كان أحد الأنبياء العظام لبني إسرائيل، وزوجته خالة (عيسى) . والمراد بذكر الرحمة: بلوغها وإصابتها وإجابة الله دعاء زكريا. وذلك حين نادى زكريا، أي نادى بالدعاء والرغبة، في حال من إخفاء النداء، لأن الأعمال الخفية أفضل وأبعد عن الرياء، ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وغيره: «خير الذكر الخفي» .
وقال بعض العلماء: يستحب الإخفاء بين العبد ومولاه في الدعاء الذي هو في معنى القبول والمغفرة لأنه يدل من الإنسان على أنه خير، فإخفاؤه أبعد من الرياء، وأما دعاء زكريا وطلبه، فكان في أمر دنيا، وهو طلب الولد، فإنما أخفاه لئلا يلومه الناس في ذلك، وليكون على أول أمره، إن أجيب نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف أحد بذلك. ويقال: وصف بالخفاء لأنه كان في جوف الليل.
قال زكريا، عليه السلام، في دعائه الخفي: يا رب، لقد صرت فاتر العظام، ضعيف البنية والقوى، هرما كثير الشيب، ولم أعهد منك إلا إجابة الدعاء، ولم تردني قطّ فيما سألتك، فما كنت خائبا، بل كنت كلما دعوتك استجبت لي. وإني(2/1460)
خفت أقاربي العصبات من بني العم ونحوهم إهمال أمر الدين وتضييعه من بعد موتي، فطلبت ولدا نبيا من بعدي، يحرس بنبوته شأن الدين والوحي، وكانت زوجتي عاقرا لا تلد.
فكانت مسوغات الدعاء ثلاثة: ضعف البدن مع عقم امرأته، وكونه مستجاب الدعاء، وخوفه من ورثته من ضياع الدين بعد موته. ولم يكن خوفه من إرث المال، لأن الأنبياء لا يورثون،
جاء في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا نورث، ما تركناه صدقة» .
وفي رواية: «نحن معشر الأنبياء لا نورث» .
فامنحني وأعطني من جنابك وواسع فضلك وليا يلي أمر الدين، يكون ولدا من صلبي، يرثني النبوة، ويرث ميراث آل يعقوب، وهي وراثة العلم والنبوة، على الراجح، لا وراثة المال، فيرث ما عندهم من العلم، ويقوم برعاية أمورهم في الدين، واجعله يا رب برّا تقيا مرضيا عندك في أخلاقه وأفعاله، ترضاه وتحبه أنت، ويرضاه عبادك ويحبونه، ليكون أهلا لحمل رسالة الدين، وتعليمه وتبليغه، وإقامة شعائره.
وأما يعقوب فهو إسرائيل، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران، ويرجع نسبها إلى يعقوب.
ولهذه الآية نظائر في القرآن الكريم، مثل: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) [آل عمران: 3/ 38] . ومثل: وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) [الأنبياء: 21/ 89] .
ويلاحظ أن زكريا عليه السلام لما رأى من حاله، إنما طلب وليا أي ناصرا، ولم يصرح بالولد، لبعد ذلك بسبب عقم المرأة، وكبر سنه. ووصف الولي بأن يكون وارثا، يرث من آل يعقوب الحكمة والعلم والنبوة، والميراث في هذا كله استعارة.(2/1461)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
والخلاصة: إن طلب زكريا وجود ولي يرث العلم والنبوة في غاية السمو والإخلاص والحرص على دوام الخير والفضل الإلهي.
قصة يحيى عليه السلام
من العجائب أو خوارق العادات والمعجزات: ولادة عيسى عليه السلام من غير أب، وولادة يحيى بن زكريا عليه السلام: من أم عاقر، وأب شيخ كبير، وهذا بحسب توقعات البشر المعتادة والقدرات الشائعة، أما على قدرة الله تعالى العظمى فإن الأمر يهون لأن الخلق والأمر والإرادة الإلهية فورية الأثر، لا يتأخر شيء عن مراد الله إذا شاء، حتى ولو كان المعتاد خلاف ذلك، وهكذا ولد يحيى عليه السلام ببركة دعاء أبيه زكريا، مع أنه كان شيخا هرما، وامرأته عاقر لا تلد، قال الله تعالى واصفا هذا الحادث:
[سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 11]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [مريم: 19/ 7- 11] .
استجاب الله تعالى دعاء زكريا عليه السلام طلب ولي يرثه العلم والنبوة، فقيل له بإثر دعائه: إنّا نبشرك بغلام يولد لك اسمه (يحيى) لم يسبق أحد تسميته بهذا الاسم.
قال قتادة: سمي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالنبوة والإيمان. وقال بعضهم: سمي،
__________
(1) كيف ومن أين يكون؟
(2) العاقر من النساء: التي لا تلد من غير كبر. وكذلك العاقر من الرجال.
(3) حالة لا تداوى.
(4) سليما من غير علة. [.....]
(5) المصلى أو المعبد.
(6) طرفي النهار.(2/1462)
لأن الله أحيا به الناس بالتدين. وقوله تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا معناه في اللغة: لم نجعل له مشاركا في هذا الاسم، أي لم يسمّ قبل بيحيى. وقال ابن عباس:
«لم تلد العواقر قبله مثله» .
فتعجب زكريا النبي الرسول من هذه البشارة حين أجيب دعاؤه، وفرح فرحا شديدا، وسأل عن كيفية ما يولد له، والوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته كانت عاقرا لم تلد من أول عمرها، مع كبرها وكبر زوجها. وقوله سبحانه: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا معناه: انتهى سنه، وكبر ونحل عظمه، وفقد القدرة على جماع النساء.
قال الله تعالى عن طريق الملك مجيبا زكريا عما تعجب منه: الأمر كما قلت، سنهب لك ولدا، على الرغم من العقم والهرم، هو علي سهل ميسور، إذا أردت شيئا قلت له: (كن) فيكون، وقد خلقتك ابتداء، وأوجدتك من العدم المحض، ولم تك شيئا قبل ذلك، فإيجاد الولد وتهيئة الرحم، من طريق التوالد المعتاد أهون من ذلك وأسهل منه.
وهذا دليل على القدرة الإلهية التي لا نظير لها، فإن الله تعالى يسهل عليه كل شيء، وأمر الخلق من العدم أو من طريق التوالد ولو مع وجود الكبر والعقم، سواء في شأن القدرة الخالقة.
فقال زكريا متعرفا أمارة أو وقت البشارة بالمولود: يا رب اجعل لي علامة، ودليلا على وقت وجود الغلام المبشر به، وهو حمل امرأتي، لتستقر نفسي، ويطمئن قلبي بما وعدتني، لأن الحمل كما هو معروف خفي المبدأ، ولا سيما ممن انقطع حيضها في الكبر.
فأجابه الله تعالى مرة أخرى وحقّق مطلبه قائلا بواسطة الملك: علامتك على(2/1463)
وقوع المطلوب المسؤول، وحصول البشر فعلا من الله سبحانه بحمل امرأتك بابنها يحيى: أن يعتقل لسانك، ويحبس عن الكلام، فلا تقدر على تكليم الناس، ومحاورتهم مدة ثلاث ليال، وأنت صحيح سوي الخلق، ليس بك آفة أو مرض أو بكم أو علة تمنعك من الكلام. وذلك كما جاء في آية أخرى: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) [آل عمران: 3/ 41] .
وقوله تعالى: «ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا» معناه صحيح الخلق، سوي من غير مرض ولا علة.
فخرج زكريا على قومه من المحراب: وهو مصلاه الذي بشّر فيه بالولد. وكان الناس ينتظرونه للصلاة في الغداة والعشي، فأشار إليهم إشارة خفية سريعة، ولم يستطع أن يكلمهم بذلك، مضمونها: أن يقولوا في الصباح والمساء في صلاتي الفجر والعصر: سبحان الله، وأن يذكروا الله، شكرا لله على ما أولاه، وقد كان أخبرهم بما بشّر به قبل ذلك. وفي الجملة: إن تعجب زكريا بهذه البشارة في قوله: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ليست شكا في قدرة الله تعالى على خلق الأشياء من غير مثال سابق، ولا إنكار لما أخبر الله تعالى به، وإنما كان ذلك على سبيل التعجب والانبهار من قدرة الله تعالى من ولادة ولد من أم عاقر وأب عجوز كبير.
نبوة يحيى عليه السلام في عهد الصّبا
لا تكون النبوة أو الرسالة والتكليف بمهامها عادة إلا بعد سن الأربعين، ليكتمل العقل والوعي، والنضج الفكري، والكمال الجسدي والعاطفي، واستثناء من هذا المبدأ العام قد تكون النبوة ممنوحة من بداية الحياة، مثل عيسى، عليه السلام، إذ(2/1464)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
جعله الله رسولا، وهو في مهد الطفولة، ويحيى عليه السلام الذي آتاه الله النبوة في عهد الصبا، كما جاء في قوله تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا.
لذا بدأ يحيى، عليه السلام، ممارسة مهام النبوة وهو صغير، فكان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب، وكان يعمّدهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا، وقد أخذ النصارى طريقته، وسموه: (يوحنا المعدان) .
قال الله تعالى محددا تكليف يحيى بالنبوة منذ الصغر:
[سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
«1» «2» «3» «4» «5» [مريم: 19/ 12- 15] .
بعد أن ولد يحيى المولود السعيد الأسعد المبشر لزكريا عليه السلام في سن الشيخوخة، قال الله للمولود: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ خاطبه الله تعالى بعد أن بلغ المبلغ المقبول أو المعقول الذي يخاطب به الإنسان، فقال له: يا يحيى خذ التوراة المتدارسة، والتي يحكم بها النبيون، والتي هي نعمة على بني إسرائيل، بجد واجتهاد، وعزيمة، وحرص على العمل بها.
ثم أورد الله تعالى ما أنعم به من نعم على يحيى عليه السلام وعلى والديه ووصفه بسبع صفات وهي:
- آتيناه أو أعطيناه الحكم والفهم للكتاب والفقه في الدين، والإقبال على الخير، وهو صغير حدث، دون سبع سنين.
- وحنانا من لدنا، أي رحمناه رحمة من عندنا، وأشفقنا عليه وأحببناه، أو تعظيما من لدنا كما قال عطاء، أو جعلناه ذا حنان، أي رحمة وشفقة ومحبة.
__________
(1) رحمة.
(2) بركة.
(3) مطيعا غير عاص.
(4) كثير البر والإحسان إليهما.
(5) متكبرا، مخالفا أمر ربه.(2/1465)
- وزكاة أي وجعلناه ذا زكاة، أي تطهير وتنمية في وجوه الخير والبر، أي مطهرا من الدنس والرجس والآثام والذنوب.
- وكان تقيا، أي متجنبا المعاصي، مطيعا الله تعالى.
- وبرأ بوالديه، أي وكثير البر والطاعة لوالديه، متجنبا عقوقهما قولا وفعلا، أمرا ونهيا، فهو مطيع لله ولأبويه.
- ولم يكن جبارا عصيا، أي لم يكن متكبرا على الناس، بل كان متواضعا لهم، ولم يكن مخالفا عاصيا ما أمره به ربه،
روى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا» .
وفي رواية أخرى عند الحاكم وغيره عن عبد الله بن عمرو: «كل ابن آدم يأتي يوم القيامة، وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا صلوات الله عليه» .
وتكميلا لهذه الأوصاف العالية السامية ليحيي عليه السلام، كان جزاؤه الحسن من الله تعالى هو: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
أي له الأمان من الله في هذه الأحوال الثلاثة: أمان عليه من الله يوم الولادة، فقد أمن مسّ الشيطان له في ذلك اليوم، ويوم الموت، حيث أمن عذاب القبر، ويوم البعث إذا أمن أهوال يوم القيامة وعذابه.
قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم ولد، فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت، فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم، فأكرم الله يحيى بن زكريا، فخصه بالسلام عليه، فقال:
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.
قال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف وأشبه من الأمان لأن الأمان متحصل له، فيبقى العصيان عنه.(2/1466)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
نعمت هذه الخصائص لسيدنا يحيى بن زكريا عليه السلام، فإنه انفرد بها، وعظم بين الناس بسببها في حال حياته، وبعد استشهاده، لأن اليهود قتلوه مع أبيه زكريا، وهو الملقب بيحيى الحصور، روي أنه لم يواقع معصية صغيرة ولا كبيرة.
قال قتادة رحمه الله: (إن يحيى بن زكريا، عليه السلام، لم يعص الله قطّ بكبيرة ولا صغيرة، ولا هم بامرأة) .
وقال قتادة أيضا: وكان طعام يحيى صلوات الله عليه العشب، وكان للدمع في خدّه مجار ثابتة.
وكان يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام، وقد التقيا، فقال يحيى لعيسى: «ادع لي، فأنت خير مني، فقال له عيسى: بل أنت ادع لي، فأنت خير مني، سلّم الله عليك، وأنا سلّمت على نفسي» .
حمل السيدة مريم بعيسى عليه السلام
إذا كان خلق يحيى عليه السلام من أبوين كبيرين محل تعجب واستغراب، فإن هناك خلقا أعجب للناس، هو خلق عيسى عليه السلام الطاهر النقي من غير أب، والخلق الأعجب من الأمرين: هو خلق آدم عليه السلام أبي البشر من غير أب ولا أم، وكل ذلك داخل في مضمون قدرة الله الخارقة، الشاملة لإحداث الأشياء وإيجادها من غير مثال سبق، والحديث الآن عن الحالة الثانية وهي حمل السيدة مريم بابنها عيسى عليه السلام من غير أب، قال الله تعالى:
[سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 22]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22)
«1»
__________
(1) اعتزلت.(2/1467)
«1» «2» «3» «4» «5» [مريم: 19/ 16- 22] .
كل قصة في القرآن الكريم محل تأمل وإعجاب، وموضع تجليات لأيادي الرحمن، فيزداد أهل الإيمان إيمانا، بما أخبر الله، ويزداد أهل الشقاوة شقاء، بسبب انعدام التصديق والإيمان بكلام الله وخبره.
وهذه قصة عجيبة، افتتحت بمطالبة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم بأن يذكر للناس قصة مريم العذراء البتول عليها السلام، الطاهرة المطهرة من الدنس والرجس والفسق، حين اعتزلت الناس وأهلها، وابتعدت عنهم إلى مكان شرقي بيت المقدس، لتتفرغ للعبادة والابتهالات الربانية، والتضرع بإخلاص وخشوع وفراغ قلب لله عز وجل. ومن أجل اتجاه مريم لمكان شرقي اتخذ المسيحيون قبلتهم نحو الشرق.
فاستترت من الناس، واتخذت حاجزا بينها وبينهم، لئلا يروها حال العبادة، فأرسل الله إليها روح القدس جبريل عليه السلام، أمين الوحي، متمثلا بصورة إنسان تام الخلقة، لتأنس بكلامه، ولئلا تنفر من محاورته في صورته الملكية، فظنت أنه يريدها بسوء، كما رئي جبريل في صفة دحية الكلبي في حوار النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي سؤاله عن الإيمان والإسلام.
قالت مريم للملك الذي تمثل لها بشرا، لما رأته قد خرق الحجاب الذي اتخذته، فأساءت به الظن: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت ذا تقى. قال أبو وائل: علمت أن
__________
(1) سترا.
(2) جبريل عليه السلام.
(3) إنسانا تام الخلق.
(4) فاجرة.
(5) بعيدا من أهلها.(2/1468)
التقي ذو نهية «1» . سلكت معه مسلكا لينا يعتمد على العقل والتقوى والحكمة، فخوّفته أولا بالله عز وجل، والاستعاذة والتخويف لا يؤثران إلا في التقي. وهذا دليل على عفافها وورعها، حيث تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفاتنة.
فأجابها جبريل بالأسلوب الهادىء نفسه، مهدئا روعها، ومزيلا مخاوفها: لست أريد بك سوءا، ولكني رسول من عند الله الذي استعذت أو استجرت به، بعثني إليك لأهب لك غلاما زكيا، أي طاهرا من الذنوب، ينمو على النزاهة والعفة. وقد نسب الهبة لنفسه: لِأَهَبَ
لإجراء الأمر على يده، وبواسطته بأمر الله تعالى. وكأن نفخ الروح الذي فعله مجرد تعاط للأسباب، والحقيقة: أي ليهب لك الله.
فتعجبت مريم مما سمعت، وقالت لجبريل: كيف يكون لي غلام، وعلى أي صفة، يوجد هذا الغلام مني، ولست متزوجة ولم يقربني زوج، ولا يتصور مني الفجور، ولم أك يوما بغيا، أي زانية، أو مجاهرة مشتهرة بالزنى، وأنا العذراء البتول، والقائمة بعبادة الله قياما مستقلا متفرغا.
فأجابها جبريل الأمين: إن الله قال: سيوجد منك غلاما، وإن لم يكن لك زوج، ولا من طريق الفاحشة، وليجعله الله آية أو علامة للناس على قدرته، حيث خلق آدم من غير ذكر وأنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى فقط، وخلق أغلب الناس من الزوجين: الذكر والأنثى. وليكون هذا الغلام رحمة من الله يبعثه لعباده، وطريق هدى لعالم كثير، فينالون الرحمة بذلك، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وكان هذا الأمر قد أبرم به القضاء الإلهي، وقدّره الله في سابق علمه، لا يتغير ولا يتبدل، أي إن الأمر قد قضي وانتجز، ولا مرد منه.
روي أن جبريل عليه السلام- حين قال لها هذه المقالة- نفخ في جيب درعها
__________
(1) النهية: واحدة النّهى وهي العقول لأنها تنهى عن القبيح. [.....](2/1469)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
(فتحة قميصها) فسرت النفخة بإذن الله تعالى، حتى حملت منها. قال وهب بن منبّه وغيره:
فحملت الغلام بعد هذه النفخة الروحانية، فلما أحست مريم عليها السلام بذلك، وخافت تعنيف الناس، وأن يظنّ بها البشر سوءا، انتبذت، أي تنحّت مكانا بعيدا حياء وفرارا، على وجهها.
ومكث الحمل في بطن السيدة مريم كالمعتاد الغالب، وهو تسعة أشهر قمرية، ليتغذى الطفل من دم أمه، ويتنشأ بعواطفه محبا غيورا عليها، متمسكا بانتمائه إليها، معتزا بارتباطه بها، يملأ جوانحه عاطفة الأمومة.
ولادة عيسى عليه السلام
إننا لنقدر عاليا تلك المشاعر الجياشة المؤلمة التي أحسّت بها السيدة مريم العذراء البتول، حين اقتراب ميعاد وضع حملها المبارك، وهي المرأة المنقطعة للعبادة، القائمة بحقوق الله تعالى على أتم وجه، وهي من بيت كريم ونسب شريف، إن الناس لا يعذرون من كان أقل شأنا أو رتبة من السيدة مريم، إذا ظهر عليها الحمل، وهي بكر، فما بالك بمريم؟! لقد عانت معاناة شديدة من ظهور بوادر المخاض، فماذا تعمل؟ إنها اعتصمت بالصبر، وادرعت بالإيمان المتين، وفوضت الأمر لله ربها، وتوكلت عليها، وهذه المشاعر الأليمة صوّرتها لنا الآيات التالية:
[سورة مريم (19) : الآيات 23 الى 26]
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
«1» «2» «3»
__________
(1) أجاء: تعدية جاء، معناه: اضطرها.
(2) شيئا متروكا مهملا.
(3) أي نهر ماء صغير.(2/1470)
«1» «2» [مريم: 19/ 23- 26] .
بعد اكتمال مدة الحمل بعيسى في بطن أمه، اضطرها المخاض وألجأها وجع الولادة وألم الطلق إلى الاستناد إلى جذع نخلة، لتسهيل الولادة، فتمنت الموت قبل ذلك الحال، أو تكون شيئا متروكا محتقرا، أي جعلها في عداد المنسيين حيث لم تخلق ولم تك شيئا، استحياء من الناس، وخوفا من ظن السوء بها، دينا وخلقا وسمعة وسلوكا، وقد تظاهرت الروايات أنها ولدته لثمانية أشهر استثناء وخصوصية لعيسى عليه السلام خلافا للمعتاد أنه لا يعيش ابن ثمانية أشهر.
قال ابن كثير: فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها- أي مريم- عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدّقونها في خبرها، وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية.
في هذه الأزمة والتعرض لآلام المخاض واستناد مريم لجذع نخلة بال يابس ناداها من تحتها عيسى المولود- في رأي مجاهد والحسن وابن جبير وأبّي بن كعب- أو ناداها جبريل عليه السلام، في قول ابن عباس، من تحت الأكمة أو النخلة، قائلا لها: لا تحزني، فقد جعل ربك تحتك جدولا أو نهرا صغيرا، أجراه الله لتشربي منه.
والأصح أن عيسى هو المنادي، ليكون ذلك آية لأمه، وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم، فإنه يتبين به عذر مريم، ولا تبقى به استرابة، فلذلك كان النداء ألا يقع حزن.
__________
(1) صالحا للاجتناء.
(2) طيبي نفسا.(2/1471)
وأضاف المنادي قائلا: حركي جذع النخلة، تسقط عليك رطبا طريا طيبا، صالحا للاجتناء والأكل، من غير حاجة إلى تخمير وصناعة، وهذه آية أخرى، بقدرة الله.
قال الزمخشري: كان جذع نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس ولا ثمر ولا خضرة، وكان الوقت شتاء. فكلي من ذلك الرطب، واشربي من ذلك الماء، وطيبي نفسا، ولا تحزني، وقري عينا برؤية الولد النبي، فإن الله قادر على صون سمعتك، والإرشاد إلى حقيقة أمرك. قال عمرو بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وتابع المنادي قائلا: فإن رأيت إنسانا يسألك عن أمرك وأمر ولدك، فأشيري له بأنك نذرت لله صوما عن الكلام، أي صمتا، بألا أكلم أحدا من الإنس، بل أكلم الملائكة، وأناجي الخالق.
ومعنى الآية: أن الله تعالى أمر مريم- على لسان جبريل أو ابنها عليهما السلام- بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية والمعجزة، فيظهر عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الكلمات التي في الآية: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا.
كان هذا الصوم صوما عن الطعام والكلام، لظرف خاص، فإن السكوت يوحي بوجود لغز في الموضوع، يستدعي استغراب الناس، ثم إدراك سبب الصيام عن الكلام بالذات. قال جماعة: أمرت مريم بهذا ليكفيها عيسى الاحتجاج.
أما في الأحوال العادية فلا يجوز في شرعنا الصوم عن الكلام، ولا يجوز في شرعنا أن ينذر أحد صوما عن الكلام، وكان ابن مسعود يأمر من فعل ذلك بالنطق والكلام.(2/1472)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
لكن من آداب الصوم الشرعي الإمساك عن الكلام القبيح،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «إذا كان أحدكم صائما، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم» .
كلام عيسى عليه السلام في المهد
ظهرت معجزة عيسى عليه السلام حينما نطق بعد ولادته، وهو مولود صغير، ما يزال في المهد والفراش، وكان ذلك خير دليل ألقى الطمأنينة في قلب أمه المحتارة والقلقة على هذا الحدث، فإنها علمت أن هذا الطفل يكفيها مهمة الحجاج والدفاع عن سمعتها، وأنه سيعرف عذرها، فتشجعت على المجيء لقومها وبلدها، وفي وسط اجتماعي عام نطق الطفل كالخطيب الفصيح، وهذا ما توضحه الآيات التالية:
[سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 33]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
«1» «2» «3» [مريم: 19/ 27- 33] .
روي أن مريم عليها السلام لما اطمأنت بما رأت من الآية الباهرة، وهو نطق ابنها الوليد الطفل، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذي انتبذت فيه. وروي أن قومها خرجوا في طلبها، فلقوها وهي مقبلة.
أتت السيدة مريم بطفلها الوليد إلى قومها، بعد أن استسلمت لقضاء الله وأمره،
__________
(1) عظيما منكرا.
(2) رضيعا في مضجع الأولاد.
(3) محسنا إليها.(2/1473)
وبعد أن برئت من نفاسها، منتقلة من المكان القصي البعيد، فلما رأوا الولد معها، حزنوا وأعظموا الأمر واستنكروه بشدة، وقالوا: يا مريم، لقد فعلت أمرا فريا عظيما شنيعا خارجا عن المألوف، وهو الولادة بلا أب، وكانوا أهل بيت صالحين.
يا أخت هارون أخي موسى، لأنها كانت من نسله، كما تقول لرجل من قبيلة: يا أخا فلانة. أو يا شبيهة هارون في العبادة، فليست مريم إذن أختا معاصرة لهارون أخي موسى، لأن بينهما في المدة ست مائة سنة. كيف تأتين بهذا؟ فلم يكن أبوك فاجرا عاصيا، ولم تكن أمك زانية بغيا.
والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة، فكيف جئت بها أنت؟
فأشارت مريم إلى عيسى الطفل الوليد أن يكلمهم، مكتفية بالإشارة لأنها نذرت الصوم عن الكلام، فقالوا لها متهكمين بها، ظانين أنها تهزأ بهم وتحتقرهم: كيف نكلم طفلا صبيا ما يزال في المهد، أي فراش الرضيع؟
وحينئذ ظهرت المعجزة الكبرى بنطق الرضيع، كأنه خطيب الجماهير، فوصف نفسه بتسع صفات، وهي:
- قال عيسى: إني عبد تام العبودية لله الكامل الصفات، الذي لا أعبد غيره، وهذا أول اعتراف بعبوديته لربه.
- آتاني الكتاب، أي أعطاني التوراة أو التوراة والإنجيل، وقدّر لي في الأزل أن أكون ذا كتاب.
- وقدّر لي أن أكون نبيا، وفي هذا تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة، لأن الأنبياء عادة أطهار، ليسوا أولاد زنا.
- وصيرني الله مباركا، أي نافعا، قضّاء للحوائج، معلما للخير، هاديا إلى الرشاد في أي مكان وجدت.(2/1474)
- وأوصاني، أي أمرني بأداء الصلاة التي تصل العبد بربه، وبإيتاء الزكاة التي هي طهرة للمال، وعون للفقير والمسكين، ما دمت على قيد الحياة.
- وجعلني بارا بوالدتي مريم، وأمرني ببرها وطاعتها والإحسان إليها بعد طاعة ربي لأن الله كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين. وهذا أيضا دليل واضح على نفي الزنا عنها، إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعظم مأمورا بتعظيمها. وقوله: (بوالدتي) بيان لأنه لا والد له، وبهذا القول برّأها قومها.
- ولم يجعلني الله جبارا شقيا، أي متعاظما مستكبرا عن عبادة ربي وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك.
- والسلام علي، أي والسلامة والأمان علي من كل سوء، يوم الميلاد، فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت، ولا أغواني عند الموت، ولا عند البعث، فأنا في أمان لا يقدر أحد على ضري في هذه الأوقات الثلاثة. وهذه الصفة أيضا إثبات منه لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق، من جملة خلق الله، الذي يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكنه موصوف بالسلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد.
وفي قصص هذه الآية- عن ابن زيد وغيره- أنهم لما سمعوا كلام عيسى عليه السلام، وهو في المهد، أذعنوا، وقالوا: إن هذا لأمر عظيم.
وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الأطفال، حتى نشأ على عادة البشر.(2/1475)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
حقيقة عيسى عليه السلام
تتفاوت أنظار الناس عادة في العظماء والقادة، فمنهم المبالغ الخارج عن الحق والحقيقة، إما بحسن نية أو بسوء نية، أو بغباء وجهل، ومنهم المعتدل في كلامه وإصدار أحكامه، وهذا شأن العلماء والعقلاء وأصحاب النظر السوي، حتى لو كانوا من العوام. ومن بين أولئك السادة الكبار الذين اختلف الناس في شأنهم عيسى عليه السلام، وها هو القول الحق فيه، من غير خروج على الواقع والمألوف، ويتبين ذلك في الآيات التالية:
[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
«1» «2» «3» «4» »
[مريم: 19/ 34- 40] .
المعنى: قل يا محمد لمعاصريك من أهل الكتاب: ذلك الذي هذه قصته المتصف بالأوصاف المذكورة في الآيات السابقة، هو عيسى ابن مريم، والكلام فيه هو القول الحق والوصف الصادق الذي لا شك فيه، وبه تتبين حقيقة عيسى عليه السلام، فهو بشر، لا إله، ولا ابن الإله، ولا ثالث ثلاثة، كما جاء في آية أخرى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء: 4/ 171] .
ولا يصح ولا يستقيم عقلا وفعلا أن يكون لله ولد، لأنه إله، لا حاجة له
__________
(1) أي يشكون ويختلفون.
(2) أراد إحداثه.
(3) أي فهلاك وعذاب.
(4) أي ما أسمعهم وأبصرهم!!
(5) الندامة الشديدة.(2/1476)
للولد، وهو حي أبدا لا يموت، تنزه وتقدس الله عن مقالتهم هذه، وعن كل نقص من اتخاذ الولد وغيره، إنه إذا أراد شيئا أوجده فورا، فإنه يأمر به، فيصير كما يشاء، بقوله: (كن) فيكون. فمن كان بصفة الألوهية الخالق المبدع، كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ لأن ذلك من أمارات النقص والحاجة.
ولقد أمر عيسى عليه السلام أتباعه وقومه وهو في المهد بقوله: إن الله ربي وربّكم، فاعبدوه وحده لا شريك له، وهذا الذي جئتكم به عن الله هو الطريق القويم، الذي لا اعوجاج فيه، ولا يضل سالكه، من اتبعه رشد وهدي، ومن خالفه ضل وغوى.
ثم أخبر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم عما آل إليه أمر عيسى عليه السلام، وهو أن بني إسرائيل اختلفوا أحزابا، أي فرقا، في عيسى، بعد بيان أمره وإيضاح حاله، وأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه. فويل، أي هلاك وعذاب شديد للذين كفروا بحقيقة عيسى، من مشهد يوم عظيم، هو مشهد يوم القيامة، حيث يجتمع الناس فيه، فيهلك الكافر الظالم، وينجو المؤمن العادل في نظرته وعقيدته.
وفي مشهد القيامة، ما أقوى سمع الكفار وأشد بصرهم، يوم يأتون إلى ربهم للحساب والجزاء، ويرون ما يصنع بهم من العذاب، فإن إعراضهم يومئذ يزول، ويقلبون على الحقيقة، حيث لا ينفعهم الإقبال عليها، وهم في الدنيا صم عمي، إذ لا ينفعهم النظر مع إعراضهم، ولكنّ هؤلاء الظالمين الكافرين يعرفون الحق في الآخرة، أما في الدنيا فهم في ضلال مبين، أي في متاهة واضحة وجهل مسلك بيّن في نفسه، وإن لم يتبين لهم.
ثم أمر الله نبيه بإنذار الكفار لهدايتهم وتحقيق مصلحتهم، ومفاد الإنذار: أنذر أيها الرسول الخلائق من المشركين وغيرهم، يوم الحسرة، أي التحسر فيه، فالمسيء(2/1477)
يتحسر على إساءته، والمحسن على عدم استكثاره من الخير، حين يقضى الأمر، أي يفرغ من الحساب، وتطوى الصحف، ويفصل بين أهل الجنة وأهل النار، فيصير الأولون إلى الجنة، والآخرون إلى النار، ولكنهم الآن في الدنيا غافلون عما أنذروا به من أهوال يوم الحسرة والندامة، وغافلون عما يعمل بهم في ذلك اليوم، وعما يلاقونه من أهوال، وهم لا يصدّقون بالقيامة والحساب والجزاء. وعند ذلك تصيب أهل النار حسرة لا حسرة مثلها، فيكون يوم الحسرة: هو يوم القيامة، ويكون الكفار من أول أمرهم في سخط الله وأمارته. وأعلمهم أيها الرسول بأن الله يرث الأرض ومن عليها، فلا يبقى بها أحد من أهلها، يرث الأموات ما خلّفوه من الديار والمتاع، ثم إلى الله يردون يوم القيامة، فيجازي كل واحد بعمله، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وإذا أدرك الناس أن سلطان الحساب والجزاء ينفرد به الله تعالى، وجب عليهم أن يعملوا في الدنيا بما وجههم إليه في القرآن الكريم، ولا يبقى هناك في الآخرة أمل لأحد في الإنقاذ والنجاة من غير طريق الله تعالى.
قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه
الصراع بين الأنبياء والرسل وبين أقوامهم من أجل إبطال عبادة الشرك والوثنية قديم من عهد نوح عليه السلام، وكان للرسل مواقف متعددة وأساليب مختلفة في الدعوة لتوحيد الله تعالى، والتخلص من عبادة الأصنام والأوثان لأنها عبادة باطلة لا تتفق مع الكرامة الإنسانية، ولا مع مقتضيات العقل والفكر السديد. وكان لإبراهيم أبي الأنبياء موقفان مشهوران في هذا الصدد: موقف مع قومه حيث دمر لهم الأصنام، وموقف مع أبيه حيث ناقشه بالحسنى، والسبب في تنبيه القرآن لهذين(2/1478)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
الموقفين أن إبراهيم أبو العرب، وكانوا معترفين بملته ودينه، فوّجه القرآن قريشا ومن على شاكلتهم إلى منهج إبراهيم في دعوته للتوحيد، من خلال حجاجه مع أبيه آزر، كما توضح الآيات التالية:
[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 46]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
«1» «2» «3» «4» [مريم: 19/ 41- 46] .
هذه هي القصة الثالثة في سورة مريم بعد قصة زكريا ويحيى، وعيسى ومريم عليهم السلام، وهي قصة إبراهيم في جداله العقلي مع أبيه الوثني، ذكرت القصة لأهداف كثيرة، تفيد في تأييد دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم قومه في مكة لتوحيد الله، ونبذ عبادة الأصنام.
وفاتحة القصة: واذكر يا محمد الرسول إبراهيم الصدّيق النبي، خليل الرحمن، وأب الأنبياء، فإنه امتاز بقوته في الحق وتصديقه بآيات الله وصدقه في دعوته ورسالته. اذكره واتل خبره في القرآن في موقفه العظيم حين قال بلطف وعقل، وتقديم برهان مفحم لأبيه آزر: يا أبي، وإن كنت ابنك وأصغر سنا منك، قد بلغني من العلم القاطع والدليل الساطع من الله تعالى ما لم يبلغك، ولم تطلع عليه، فاتبعني في دعوتي لتوحيد الله رب العالمين، وترك الشرك والوثنية، أرشدك طريقا سويا مستقيما، موصلا لنيل المطلوب، منجيا من كل مكروه.
يا أبي العزيز، لا تطع الشيطان في عبادتك الأصنام، فإنه داع لعبادتها، وهو كثير العصيان لربه، مخالف أمره، مستكبر عن عبادته، حين ترك أمر الله في السجود لأبينا
__________
(1) طريقا مستقيما. [.....]
(2) كثير العصيان.
(3) قرينا تليه ويليك في النار.
(4) اجتنبني.(2/1479)
آدم عليه السلام، وقد لعنه الله وطرده من رحمته، وأبقاه لفتنة الناس، ليعرف المجاهد المؤمن المتخلص من وساوسه، والمنقاد لأباطيله.
يا أبي، إن أخشى أن يصيبك عذاب من الله على شركك وعصيانك لما أطلبه منك، فتكون بذلك مواليا للشيطان، وقرينا معه في النار، بسبب موالاته، وهذا تحذير شديد من الابن لأبيه من سوء العاقبة والمصير، وإنذار بالشر، حيث يتبع وساوس الشيطان وإغراءاته، ولا يكون له مولى ولا ناصر إلا إبليس، مع أنه لا سلطان له على شيء، ولا يستطيع حماية نفسه ولا غيره من عذاب الله، فيكون اتباع الشيطان مجلبة للضلال، وموقعا في العذاب، كما جاء في آية أخرى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) [النحل: 16/ 63] .
وعلى الرغم من هذا الأدب الجم وإيراد البراهين الدالة على بطلان عبادة الأوثان في نقاش إبراهيم لأبيه، أجاب الأب ابنه جوابا حادّا متسما بالإصرار والعناد، ومهددا بالقتل، فقال له: أمعرض أنت عن آلهتي الأصنام إلى غيرها يا إبراهيم، فإنك إن لم تنته عن ذلك الموقف وعن السب والشتم والتعييب، لأرجمنك بالحجارة أو لأشتمنك، وفارقني زمنا طويلا أو مدة من الدهر، روي أن آزر كان ينحت الأصنام وينجزها بيده ويبيعها ويحض عليها، فأقر ابنه إبراهيم أولا على رغبته عنها، ثم أخذ يتوعده.
لقد قابل الأب ابنه بالعنف، فلم يقل: يا بني، كما قال إبراهيم: يا أبت، وقابل وعظه الرقيق وبرهانه المقنع بالتهديد والوعيد بالقتل، أو الضرب بالحجارة، وفي ذلك إيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من أذى قومه، وغلظة عمه أبي لهب، وعنجهية أبي جهل فرعون هذه الأمة.(2/1480)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
وهذا الموقف الإيجابي من إبراهيم والسلبي من أبيه: له فائدته الكبرى في حساب التاريخ، ولا سيما في عصرنا حيث تخلص أغلب البشر من رجس الوثنية والشرك، وظهر الحق، وبطل الباطل.
اعتزال إبراهيم عليه السلام قومه
لما يئس إبراهيم الخليل من استجابة أبيه آزر لدعوة التوحيد وترك عبادة الأصنام، وعد أباه بالاستغفار له بناء على موعد سابق بالإيمان، واعتزل قومه، فوهب الله له ولدين نبيين إسحاق ويعقوب، رحمة من الله وفضلا، واستمر في هداية آخرين، لأن الرسول النبي لا يتوقف عن دعوته والقيام بواجبه، وهذا ما دونته الآيات الآتية:
[سورة مريم (19) : الآيات 47 الى 50]
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
«1» «2» [مريم: 19/ 47- 50] .
بعد أن هدد آزر ابنه إبراهيم عليه السلام بالرجم بالحجارة، وطلب هجره والبعد عنه، قال إبراهيم قولا لطيفا لينا: سلام عليك سلام مسالمة ومفارقة أو وداع وترك، لا سلام تحية، فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، لحرمة الأبوة، سأدعو الله تعالى في أن يهديك، فيغفر لك بإيمانك، إن ربي متلطف بي، يكرمني، ويجيبني إذا دعوته، وإنما استغفر له إما قبل أن يوحى إليه أن الله لا يغفر لكافر، وإما لوعد سابق من الوالد أن يؤمن، كما جاء في قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة: 9/ 114] .
__________
(1) الحفي: المتلطف المبالغ في الإكرام.
(2) اللسان في كلام العرب: القالة الذائعة، كانت في خير أو شرّ.(2/1481)
وتبين له أنه عدو لله إما بموته على الكفر، كما روي، وإما بأن أوحى الله إليه الختم على قلبه.
وقول إبراهيم عن ربه: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا شكر من إبراهيم عليه السلام لنعم الله تعالى عليه.
ثم قرر إبراهيم عليه السلام الهجرة إلى بلاد الشام، وأعلن أنه يعتزل قومه ويبتعد عنهم، ويهاجر بدينه عنهم وعن معبوداتهم، حين لم يقبلوا نصحه، وأعلن أيضا أنه يعبد ربه وحده لا شريك له، ويجتنب عبادة غيره، وقوله: وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تعبدون. وأضاف قائلا: عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي لعلني لا أشقى بدعاء ربي، وفيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم وعبادتها. وقوله: (عسى) على سبيل التواضع وهو ترجّ، في ضمنه خوف شديد.
ثم أخبر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم عما عوّض به إبراهيم عليه السلام لمّا رحل عن بلد أبيه وبلد قومه، ومضمون الخبر: لما اعتزل إبراهيم الخليل أباه وقومه، وترك أرضه ووطنه، وهجر موطن عبادة غير الله، وهاجر في سبيل الله من أرض نينوى بالموصل إلى أرض بيت المقدس، حيث يقدر على إظهار دينه، لما قام بهذه الهجرة أبدله الله خيرا من قومه، ووهب له ابنه إسحاق، وحفيده يعقوب بن إسحاق، وجعل الله كل واحد من إسحاق ويعقوب نبيا أقر الله بهما عينيه، فكل الأنبياء من سلالتهما، وكل الأديان تحترم إبراهيم وتحبه، وتحب إسحاق ويعقوب.
لذا أخبر الله تعالى عن مزيد فضله لآل إبراهيم، فقال: وأعطيناهم من فضلنا ورحمتنا النبوة والمال والعلم والمنزلة، والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة، كل ذلك من رحمة الله، وجعلنا لهم لسان صدق عليا، أي حققنا لهم الثناء الباقي عليهم آخر الأبد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وذلك إجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام(2/1482)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
الذي قال: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) [الشعراء: 26/ 84] . وإنما قال:
(عليا) لأن جميع الملل والأديان والأمم والشعوب يثنون عليهم، ويمدحونهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وبما أن العرب من سلالة إبراهيم عليه السلام، وتدعي أنها على دين إبراهيم، ذكر الله تعالى لهم قصته، ليعتبروا ويتعظوا.
والتاريخ حافل بآثار إبراهيم وآل إبراهيم في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وتعظيمه، وفي حمل الناس على مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال. وعلى الرغم من مجابهة الأقوام لإبراهيم، فإن الله تعالى نفعه وعوّضه أولادا أنبياء، وذلك من أعظم النعم في الدنيا والآخرة.
خصائص موسى وإسماعيل عليهما السلام
الأنبياء والرسل الكرام: هم الصفوة العليا المختارة من البشر، ليكونوا قدوة حسنة طيبة للناس في العقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك والسمعة، وهذه القدوة لها تأثيرها البالغ في ترغيب الناس بدعوتهم، والانضمام تحت رايتهم، وقد ذكر الله تعالى صفات بعض الأنبياء في سورة مريم بنحو موجز، وهم موسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليهم السلام، ثم أبان ما تميزوا به من نعمة الله عليهم، وهذه آيات كريمة توضح لنا الصفة البارزة لموسى وهارون وإسماعيل عليهم السلام، فقال الله تعالى:
[سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 55]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
«1»
__________
(1) مصطفى مختارا.(2/1483)
«1» [مريم: 19/ 51- 55] .
هذه نبذة طريفة عن خواص بعض الأنبياء، لتكون أنموذجا رائدا للقدوة الطيبة للعرب الجاهليين، بعد الحديث عن إبراهيم الخليل أبي الأنبياء وعن ذريته، ليحملهم هذا الوصف على اتباع خط النبوة ومنهج الأنبياء كلهم في توحيد الله، وترك عبادة الأصنام.
بدأ الحق تعالى هذه الآيات بذكر موسى بن عمران أحد الأنبياء أولي العزم، صلوات الله عليه، على جهة التشريف، وفي الآية أمر من الله تعالى بالحديث عن موسى، يتضمن: واذكر يا محمد الرسول في الكتاب المنزل عليك، واتل على قومك ما تميّز به موسى بن عمران من صفات خمس وهي:
- إنه كان مخلصا، أي مختارا مصطفى، ومطهرا من الآثام والذنوب، كما قال الله تعالى في شأنه: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف: 7/ 144] .
- وكان نبيا رسولا، اجتمع له الوصفان من الرسل أولي العزم، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليهم وآلهم وسلّم، والرسول: كل من أوحى الله إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي: كل من أوحي إليه بشرع يخبر به عن الله قومه، وليس معه كتاب كيوشع عليه السلام.
- وكلمناه تكليما من جانب جبل الطور في سيناء عن يمين موسى وهو الأصح أو عن يمين الجبل نفسه، أثناء مجيئه من مدين متجها إلى مصر، فهو كليم الله بعدئذ، وصار رسولا نبيا، وأنزلنا عليه كتاب التوراة.
__________
(1) مناجيا لنا.(2/1484)
- وقربناه نجيا: هو التقريب بالتشريف بالكلام والنبوة، أي أدنيناه إدناء تشريف وتقريب منزلة حتى ناجيناه أو كلمناه، فقوله تعالى نَجِيًّا من المناجاة في المخاطبة، جعلته في العالم الروحي قريب المنزلة من الله تعالى.
- ومنحناه من فضلنا ونعمتنا، فجعلنا أخاه هارون نبيا لكونه أفصح لسانا وألين عريكة، حين سأل موسى ربه أن يجعله نبيا قائلا: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) [طه: 20/ 29- 32] . وفي آية أخرى طالب به حين إرساله لفرعون: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) [القصص: 28/ 34] .
قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيا، قال الله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) .
قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى بأربع سنين.
ثم أمر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يذكر في القرآن للعرب خبر وصفات إسماعيل ابن إبراهيم عليهما السلام، الذي هو والد عرب الحجاز كلهم، وأب العرب اليوم، وهم اليمنية والمضرية، وصفاته أربع جعلته أيضا من بركة لسان الصدق والشرف المضمون بقاؤه على آل إبراهيم عليه السلام، وهو الذبيح في قول الجمهور:
إنه كان صادق الوعد، مشهورا بالوفاء بالعهد والوعد، فما وعد وعدا مع الله أو مع الناس إلا وفّى به، فكان لا يخالف شيئا مما يؤثر به من طاعة ربه. وصف بصدق الوعد لأنه كان مبالغا في ذلك.
روي أنه وعد رجلا في موضع، فجاء إسماعيل عليه السلام، وانتظر الرجل يومه وليلته، ثم جاء الرجل في اليوم الآخر، فقال له: ما زلت في انتظارك هنا منذ أمس.
- وكان رسولا نبيا جامعا بين هذين الوصفين كأبيه إبراهيم، وكموسى عليهم(2/1485)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
السلام، فكان رسولا إلى قبيلة جرهم في مكة، لتبليغهم شريعة إبراهيم، وإخبارهم بما أنزل الله تعالى. وهذا دليل على أنه لا يشترط إنزال كتاب مستقل لكل رسول.
- وكان إسماعيل يأمر أهله وأمته وعشيرته بالصلاة والزكاة، فهما فريضتان جوهريتان في كل ملة، فالصلاة لأداء حق الله تعالى، والزكاة لأداء حق العباد المحتاجين.
- وكان إسماعيل عند ربه مرضيا، أي رضيا زاكيا صالحا، مرضي العمل غير مقصر في طاعة ربه، فعلى المؤمن الاقتداء به.
صفة إدريس وبعض الأنبياء الآخرين
أمر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأن يذكر لقومه العرب المكيين صفة إدريس وصفات بعض الأنبياء الآخرين من ذرية آدم ونوح، وإبراهيم وإسرائيل، ليعلموا ما امتاز به هؤلاء الصفوة المختارة من طاعة الله وعبادته ومبادرتهم للخضوع لعظمة الله والسجود له، وكثرة البكاء والنحيب خوفا من ربهم. وهذا وحده كاف لحمل الناس على التشبه بهم، والتزام منهجهم وطاعتهم، في رسالاتهم المكلفين بتبليغها، من أجل إسعاد البشر، وتحقيق الخير لهم. قال الله تعالى واصفا خصائص هؤلاء الأنبياء:
[سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 58]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)
«1» «2» [مريم: 19/ 56- 58] .
إدريس عليه السلام: هو من أجداد نوح عليه السلام، وهو أول نبي بعث إلى
__________
(1) اصطفينا للنبوة.
(2) باكين.(2/1486)
أهل الأرض، فيما روي، بعد آدم صلوات الله عليه، وهو أول من خط بالقلم، وكان خيّاطا، ووصفه الله تعالى بالصدق.
أمر الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام أن يذكر في القرآن صفة إدريس عليه السلام، ووصفه ربه بصفات ثلاث، وهي:
- إنه كان صدّيقا، أي كثير الصدق، قوي التصديق بآيات الله تعالى.
- وكان رسولا نبيا، جامعا بين الوصفين، موحى إليه بشرع، وأمر بتبليغه إلى قومه، وقد أنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة، كما في حديث أبي ذر.
- ورفعه الله مكانا عليا، أي أعلى قدره، وشرّفه بالنبوة، وجعله ذا منزلة عالية،
روى مسلم في صحيحة في حديث الإسراء والمعراج: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ به في ليلة الإسراء، وهو في السماء الرابعة» .
وسبب رفع مكانته: أنه كان كثير العبادة، يصوم النهار، ويتعبد في الليل. قال وهب بن منبّه: كان يرفع لإدريس عليه السلام كل يوم من العبادة مثلما يرفع لأهل الأرض في زمانه. لقب إدريس بذلك لكثرة درسه.
وبعد أن قص الله تعالى في سورة مريم قصص زكريا ويحيى وعيسى ومريم وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس، أخبر الله سبحانه أن أولئك المذكورين في هذه السورة، وجميع الأنبياء: أنعم الله عليهم بنعمة النبوة والقرب منه، وعظم المنزلة لديه، واختارهم واجتباهم من بين عباده، وهداهم وأرشدهم ليكونوا المثل الأعلى للبشرية، والأسوة الحسنة للناس جميعا، في عبادة الله وطاعته، والتأسي بطريقتهم ومنهجهم وأخلاقهم.
وأولئك الأنبياء: هم من ذرية آدم عليه السلام أبي البشر الأول، ومن ذرية أولئك الفئة المؤمنة الذين حملهم نوح أبو البشر الثاني معه في السفينة، ما عدا إدريس(2/1487)
عليه السلام الذي كان سابقا على نوح، ومن ذرية إبراهيم وهم إسحاق وابنه يعقوب، وإسماعيل عليهم السلام، ومن ذرية نبي الله إسرائيل (أي يعقوب) وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم عليهم السلام.
وهم أي الأنبياء أيضا من جملة من هداهم الله إلى الإسلام الذي هو الدين الحق المشترك بين جميع الأنبياء، وممن اختارهم للنبوة والكرامة والاصطفاء. وكانوا إذا سمعوا آيات الله المتضمنة حججه ودلائله وبراهينه وشرائعه المنزلة، سجدوا لربهم خضوعا لذاته، وانقيادا لأمره، وحمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة، وهم باكون خشية من الله ومن عذابه. والبكي: جمع باك.
وإذا كان جميع الأنبياء قد سجدوا لله تعالى، كان السجود مشروعا عند قراءة هذه الآية، لذا أجمع العلماء على شرعية سجود التلاوة هنا، اقتداء بالأنبياء، واتباعا لهم.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن ماجه: «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» .
حقا كان هؤلاء الأنبياء جميعا قدوة رفيعة صالحة، وأسوة حسنة للبشرية في سلامة العقيدة، وكثرة العبادة، وصحة الدين، ونقاوة الأصل، وطهارة النسب والمعدن، واستقامة المنهج والطريق، ورفعة الشأن والخلق.
ألا يجدر بالبشر العاديين أن يكونوا أتباعا لهؤلاء الأنبياء، لا لغيرهم في صحة الاعتقاد، وتقويم الخلق والسلوك، وتقديم أصلح النظريات لتقدم البشرية على منهج النبوة ووحي الإله.(2/1488)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
أحوال أتباع الأنبياء
كان الناس إزاء دعوات الأنبياء بأحوال مختلفة ومواقف متباينة، فمنهم من آمن برسالاتهم واتبع دعوتهم، ومنهم من جحد بها وعارضها، ومنهم المتوسط الذي آمن ولم يعمل، وصدّق ولم يلتزم. وهؤلاء هم العصاة والفسّاق، وهذا التنوع في اتّباع الأنبياء دليل على صدقهم لأن رسل الإصلاح لا يلقون عادة الاستجابة من جميع الناس، وهذا ما أبانته الآيات الكريمة:
[سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
«1» «2» «3» «4» [مريم: 19/ 59- 63] .
بعد أن وصف الله تعالى الأنبياء بالإنابة والطاعة والسجود لله والبكاء خوفا من الله، ذكر موقف الناس من هؤلاء الأنبياء، فإنهم لم يكونوا جميعا على المستوى المطلوب، لقد جاء خلف سوء من بعد الأنبياء عليهم السلام، مخالفون وكافرون، ومقصرون وفسّاق، تركوا الصلاة المفروضة عليهم، وآثروا اتباع شهواتهم وأهوائهم بارتكاب المحرمات، على طاعة الله، فاقترفوا الزنى، وشربوا الخمر، وشهدوا شهادة الزور، ولعبوا القمار، بل وتأولوا النصوص عبثا ولهوا وجهلا، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها. فهؤلاء لهم جزاء شديد، إنهم سيلقون غيا، أي شرا وخيبة وخسارا يوم القيامة، لارتكابهم المعاصي، وإهمال الواجبات، فالغي: هو الخسران، والوقوع في الورطات، وإضاعة الصلاة: الكفر والجحود بها أو إهمالها وتأخيرها عن أوقاتها.
__________
(1) الخلف: بسكون اللام إذا كان الآتي مذموما. وبفتح اللام: القرن الذي يأتي بعد آخر يمضي.
(2) جزاء الغي.
(3) آتيا منجزا.
(4) فضولا من الكلام.(2/1489)
لكن هناك استثناء، فمن هؤلاء المقصرين: من تاب مما فرط به من ترك الصلوات، واتباع الشهوات، فرجع قريبا إلى طاعة الله، وآمن به إيمانا قويا ثابتا، وعمل عملا صالحا، فأولئك يدخلون جنة ربهم، وتغفر لهم خطيئاتهم، لأن «التوبة- أو الإسلام- تجبّ ما قبلها» ولا ينقص من أجورهم شيء، وإن قل العمل، وتقدّمت السن، فضلا من الله ورحمة.
وأوصاف الجنات التي يحظى بها التائبون من ذنوبهم ثلاثة:
- إنها جنات عدن، أي إقامة دائمة، وعد الرحمن بها عباده بظهر الغيب، دون أن يروها، إن وعد الله لآت منجز لا يخلف. وقوله سبحانه: بِالْغَيْبِ. أي أخبرهم من ذلك بما غاب عنهم، وفي هذا مدح لهم على سرعة إيمانهم وقرارهم إذ لم يعاينوا.
والمأتي: اسم مفعول مثل محكي. وقال جماعة من المفسرين: هو مفعول في اللفظ بمعنى: آت. والنظر الأول أصوب، كما قال ابن عطية.
- ولا يسمع العباد الأبرار أهل الجنة في الجنة لغوا، أي كلاما ساقطا، أو تافها لا معنى له، أو هذرا لا طائل تحته. لكن يسمعون سلاما: وهو تحية الملائكة لهم في كل الأوقات، والسلام يشعرهم بالأمان والاطمئنان، وهما منتهى الراحة والسعادة.
- وللعباد الأبرار رزق دائم في الجنة، يأتيهم ما يشتهون من الطعام والشراب مرتين في مقدار اليوم والليلة من الزمان، لأنه ليس هناك ليل ولا نهار، وإنما بمقدار طرفي النهار في الدنيا، أي بكرة وعشيا، وهو وقت الغداء صباحا، والعشاء مساء.
وقال مجاهد رحمه الله: «ليس بكرة ولا عشيا، ولكن يؤتون به، على ما كانوا يشتهون في الدنيا» . والتعبير بالبكرة والعشي لإفادة الدوام في الأوقات المرغوبة، وهذا خطاب بما تعرفه العرب وتستغربه من رفاهة العيش. وجعل ذلك عبارة عن أن(2/1490)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
رزقهم يأتي على أكمل الوجوه، وكثير من العرب كان يجد الطعام المرة في اليوم، وهي غايته، وكان أكثر عيشهم من شجر البرية، ومن الحيوان ونحوه.
تلك الجنة- والإشارة بتلك للتعظيم- بهذه الأوصاف الرائعة: هي التي يورثها الله الكريم عباده المتقين، وهم المطيعون لله عز وجل في السراء والضراء، أي نجعلها حقا خالصا لهم كملك الميراث، كما قال الله تعالى في آية أخرى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ إلى أن قال: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) [المؤمنون: 23/ 1- 11] .
والخلاصة: إن تخصيص الجنة للمتقين الصالحين الأبرار هو بمثابة الميراث، حيث يتملك الورثة ما يؤول إليهم من التركة. والاختصاص بالشيء هو أغلى ما يتوقعه الإنسان.
الوحي والأمر بيد الله
الله تعالى صاحب الإرادة والمشيئة المطلقة، وبيده الأمر كله، بعلم الماضي والحاضر والمستقبل، ويفعل عادة ما فيه الخير والمصلحة للعباد، ولا يملك أحد من البشر إنزال الوحي أو تنزيله، وإنما تنزل الوحي بأمر الله سبحانه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، يأمر الملائكة بالأمر المعين فيفعلونه، وليس للملائكة سلطان في تنزيل شيء، فهم يعملون وقتا بعد وقت، بما يريد الله ويشاء، على ما تقتضيه حكمته، وهذا موضوع الآيات التالية، قال الله تعالى:
[سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
[مريم:
19/ 64- 65] .(2/1491)
أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا، فنزلت: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: أبطأ جبريل في النزول أربعين، فذكر نحوه.
هذه الآيات تبين سبب تأخر الوحي أحيانا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، جاءت بطريق الحكاية على لسان الملائكة. فبعد أن استبطأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزول جبريل عليه السلام، أمر الله جبريل أن يقول: وما نتنزل نحن الملائكة بالوحي على الأنبياء والرسل، إلا بأمر الله بالتنزيل، على وفق الحكمة والمصلحة، وخير العباد في الدنيا والآخرة. ولا يتنزل القرآن إلا بأمر الله تبارك وتعالى في الأوقات التي يقدرها.
إن لله تعالى التدبير والتصرف في الكون، وأمر الدنيا والآخرة، وما بين ذلك من الجهات والأماكن والأزمنة الماضية والحاضرة والمستقبلة. فلا يقدم أحد من الملائكة على أمر إلا بإذن الله. والتنزل هنا: النزول على مهل، وقتا بعد وقت، وقوله سبحانه: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ خطاب جماعة لواحد، وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسل. كأن جبريل عنى نفسه والملائكة.
وما كان ربك يا محمد ناسيا لك، وإن تأخر عنك الوحي، ولا ينسى الله شيئا، ولا يغفل عن شيء، وإنما يقدم ويؤخر لما يراه من الحكمة. وهذه الآية تشبه مطلع سورة الضحى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) [الضحى:
93/ 1- 3] .
روى ابن المنذر وغيره عن أبي الدرداء مرفوعا قال: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا» ثم تلا هذه الآية: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا
وكيف ينسى الله شيئا، فهو سبحانه تام العلم، مالك كل شيء، فهو خالق(2/1492)
السماوات والأرض ومالكهما وما بينهما، وهو المدبر والحاكم والمتصرف الذي لا معقّب لحكمه، فاثبت أيها النبي وكل مؤمن على عبادة ربك، واصطبر على العبادة والطاعة، وما فيهما من المتاعب والشدائد، ولا تنصرف عنها بسبب إبطاء الوحي، هل تعلم للرب مثلا أو شبيها، يكون أهلا للعبادة؟! فهو سبحانه الخالق والمدبر والرازق، والمنعم بأصول النعم وفروعها، من خلق الأجسام والحياة والعقل، وما يحتاجه الإنسان وغيره من الحاجات الدائمة والمؤقتة والمتكررة، فإنه لا يقدر على ذلك أحد سوى الله سبحانه، ولا يتمكن أحد من تلبية الحاجات كلها إلا من كان دائم الذّكر والعلم، من غير نسيان شيء أو تضييع صالح كل شيء، وكفى بقوله تعالى:
وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي لم يكن الله ممن يلحقه نسيان لإرسال أو تنزيل شيء على النبي في وقت المصلحة إليه، فإنما ذلك عن قدر له، أي فلا تطلب يا محمد الزيادة أكثر مما شاء الله.
والمراد بقوله سبحانه من نفي العلم: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا نفي الشريك على أي وجه، والاستفهام للإنكار، وهل بمعنى (لا) أي لا تعلم.
قال ابن عباس: ليس أحد يسمى (الرحمن) غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه.
والخلاصة: إن الله تعالى نفى النسيان عن نفسه مطلقا، أما الترك فلا ينتفي مطلقا، ألا ترى قوله تبارك وتعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة: 2/ 17] ، وقوله سبحانه: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف: 18/ 99] .
وقول الله سبحانه: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أمر بحمل تكاليف الشرع وإشعار بما فيها من صعوبة، كالجهاد والحج والصدقات، فهي شريعة تحتاج إلى اصطبار، أعاننا الله عليها.(2/1493)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
شبهة المشركين في إنكار البعث وجزاؤهم
يقدّر الإنسان الأشياء ويفهمها بمجرد عقله المحدود وبقدر طاقته وإمكانه، فيقع في الضلال والخطأ، ولا ينظر بمنظار أقوى أو أوسع من علمه وقدرته، وهذا في الواقع سبب إنكار المشركين البعث، لأنهم نظروا للأشياء نظرة مجردة، وضعيفة، وعاجزة، فرأوا أن تفتت الأجساد وصيرورتها مثل التراب، هل يتصور إعادتها ذاتها خلقا جديدا، ونسوا أن أصل خلق الإنسان من تراب، وأن الله على كل شيء قدير. وهذا ما تحكيه الآيات الآتية من شبهة المشركين في إنكار البعث مرة أخرى:
[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
«1» «2» «3» «4» [مريم: 19/ 66- 72] .
روي أن سبب نزول هذه الآية: هو أن رجالا من قريش كانوا يقولون هذا ونحوه. وروي أن القائل: هو أبي بن خلف، جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل: إن القائل: هو العاص بن وائل.
والمعنى: ويقول الإنسان (اسم للجنس يراد به الكافرون) أي يقول الكافر المشرك منكر البعث متعجبا، مستبعدا حصوله بعد الموت: هل إذا متّ وأصبحت ترابا، سوف أخرج حيا من القبر، وأبعث للحساب؟! وأسند الكلام لكل مشرك كافر، وإن لم يقله إلا بعضهم، لرضاهم بمقالته.
__________
(1) باركين على ركبهم. [.....]
(2) عصيانا.
(3) دخولا.
(4) مارّ على الصراط الممدود عليها.(2/1494)
رد الله تعالى على هذا التساؤل، وأثبت بالدليل إمكان الإعادة فقال: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً. أي ألا يتفكر هذا الجاحد في أول خلقه ومبدئه، فقد خلقناه من العدم، دون أن يكون شيئا موجودا، فيستدل بالابتداء على الإعادة، والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة.
ثم هدد الله منكري البعث تهديدا من وجوه قائلا:
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا. أي فو الله- وهو قسم من الله بذاته الكريمة- لا بد من أن يحشر الله جميع الإنس والجن والشياطين الذين كانوا يعبدون من دون الله، بأن يخرجهم ربهم من قبورهم أحياء، ويجمعهم إلى المحشر مع شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم، ثم ليحضرنهم حول جهنم بعد طول الوقوف، جاثمين قاعدين على الرّكب، لما يصيبهم من هول الموقف وروعة الحساب، كما قال الله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الجاثية: 45/ 28] .
- ثم لننتزعن ونأخذن من كل فرقة دينية، أو طائفة غي وفساد أعصاهم وأعتاهم، وأكثرهم تكبرا وتجاوزا لحدود الله، وهم قادتهم ورؤساؤهم في الشر.
ثم لنحن أي (والله) أعلم بمن يستحق من العباد إصلاءه نار جهنم، وولوجه فيها، وتخليده في أنحائها، وأعلم بمن يستحق مضاعفة العذاب، كما قال سبحانه:
لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 7/ 38] .
ثم أخبر الله تعالى عن نبأ عام: وهو ورود جميع الناس نار جهنم فقال: ما منكم من أحد من الناس إلا سوف يرد إلى النار، وهو المرور على الصراط، وهو حد فاصل بين الجنة والنار، كان ذلك المرور أمرا محتوما، قضى الله تعالى أنه لا بد من وقوعه لا محالة.
روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: «يرد الناس جميعا الصراط، وورودهم:(2/1495)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
قيامهم حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم مرورا رجل نوره على موضع إبهامي قدميه، يمر فيتكفأ به الصراط، والصراط دحض مزلة «1» ، عليه حسك كحسك القتاد «2» ، حافتاه ملائكة، معهم كلاليب من نار، يختطفون بها الناس» .
وبعد أن تمر الخلائق كلهم على الصراط والنار، ينجي الله الذين اتقوا دخول النار ولو بشق تمرة، واتقوا الكفر بالله ومعاصيه، ينجيهم ربهم من الوقوع في النار، ويبقى الكافرين والعصاة في النار، جاثين على الركب، لا يستطيعون الخروج.
شبهة المشركين بحسن الحال في الدنيا
يتهرب المشركون الوثنيون من مواجهة الواقع، لأغراض وأهواء ذاتية، فمرة يحتجون بفناء الدنيا وإنكار الآخرة، ومرة يعتمدون على شبهة كون الرسل بشرا، وأحيانا يزعمون أن حسن الحال في الدنيا، دليل على حسن الحال في الآخرة، فجاء الرد الإلهي القاطع بأن الكفار السابقين كانوا أحسن حالا في الدنيا وأكثر مالا، ولكن الله تعالى أهلكهم بعذاب الاستئصال، فليس نعيم الدنيا قرينة على محبة الله تعالى، ولا سوء الدنيا علامة على غضب الله تعالى، كما أن نعم الدنيا لا تنقذ الكافرين من عذاب الآخرة، قال الله تعالى واصفا شبهة حسن الحال في الدنيا:
[سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 76]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
__________
(1) دحض مزلة: هو الموضع الذي تزل فيه الأقدام.
(2) أي عليه شوك كشوك نبات السعدان في نجد.(2/1496)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [مريم: 19/ 73- 76] .
سبب نزول هذه الآية: أن كفار قريش، لما كان الرجل منهم يكلم المؤمن في معنى الدين، فيقرأ المؤمن عليه القرآن، ويبهره بآيات النبي صلّى الله عليه وسلّم كان الكافر منهم يقول:
إن الله إنما يحسن لأحب الخلق إليه، وإنما ينعم على أهل الحق، ونحن قد أنعم علينا، فنحن أغنياء وأنتم فقراء، ونحن أحسن مجلسا وأجمل شارة، فهذا المعنى ونحوه هو المقصود بالتوقيف، في قوله تعالى: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ وزعيم هذه المقالة: هو النضر بن الحارث وأشباهه من قريش، حينما رأوا أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في خشونة عيش، ورثاثة ثياب، وهم في غضارة العيش، ورفعة الثياب.
ومعنى الآيات: وإذا تليت على الكفار المشركين آيات القرآن الكريم، واضحة الدلالة والبرهان، بينة المقصد والغاية، أعرضوا عن ذلك، وقالوا مفتخرين على المؤمنين: أي الفريقين (المؤمنين والكافرين) خير منزلا ومسكنا، وأكبر جاها وأكثر أنصارا؟ وقوله تعالى: وَأَحْسَنُ نَدِيًّا أي مجلسا، وهو مجتمع الرجال للحديث.
فرد الله تعالى عليهم شبهتهم بأنه كثيرا ما أهلكنا قبلهم من الأمم السابقة المكذبين رسلهم بكفرهم، وكانوا أحسن من هؤلاء متاعا ومنظرا.
__________
(1) الندي والنادي: مجلس القوم.
(2) أمة أو جماعة.
(3) أي منظرا حسنا. وأثاثا: متاعا من المفروشات والثياب ونحوها.
(4) يمهله استدراجا.
(5) أقل أعوانا.
(6) مرجعا وعاقبة.(2/1497)
وقوله تعالى: أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً أي أكثر وأجمع مالا من الإبل والغنم والبقر ومتاع البيوت، وأحسن منظرا في نظر الناس من حيث الأبدان والألبسة وتنعمها ورفاهيتها.
والمعنى: أن مظاهر الثراء والنفوذ والكرامة عند الناس لا تدل بحال على حسن الحال عند الله، فقد أهلك الله المترفين، ونجّى الفقراء الصالحين. وهذا تهديد ووعيد لكل متوهم من العوام أن حسن الحال في الدنيا دليل على رضا الله وحسن الحال في الآخرة.
ثم أكد الله تعالى التهديد والوعيد بجواب آخر وهو: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم، المدّعين أنهم على الحق، وأنكم على الباطل: من كان في الضلالة منا ومنكم، ومن كان يخبط في الدنيا على هواه، فإن الله تعالى جعل جزاءه أن يتركه في ضلاله وطغيانه، ويمهله فيما هو عليه، ويمده ويستدرجه بالنعم، ليزداد إثما، حتى يلقى ربه وينقضي أجله. حتى إذا ما شاهدوا رأي العين ما يوعدون به، إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر، كما حصل يوم بدر، وإما مجيء القيامة بغتة أو فجأة، وما يشتمل عليه من العذاب الأخروي، فحينئذ يعلمون من هو شر مكانا وأضعف جنودا، على عكس ما كانوا يظنون في الدنيا من خيرية المقام وحسن المجلس. أي إنهم سيصطدمون بالحقيقة وهي أنهم شر مكانا وأضعف جندا.
ثم قابل الله زيادة الضلال لأهل الضلالة، مع زيادة الهدى للمهتدين، وهو أن الله يزيد المهتدين إلى الإيمان توفيقا وهدى للخير لأن الخير يدعو للخير. وهذه مقارنة واضحة بين مصير المؤمنين وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ومصير الكافرين وشقاوتهم في الدارين.
والباقيات الصالحات: كل عمل صالح يرفع الله به درجة عامله من الفرائض وغيرها.
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنها الكلمات المشهورات:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.(2/1498)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
مقالة منكر البعث استهزاء
قد يحمل العناد والاستبداد بعض المستكبرين، فيحملهم على طمس الحقائق، ومصادمة المنطق والواقع، ومجابهة أهل الحق والخير، ثم سرعان ما يتبدد غرورهم، وتنتهي أباطيلهم، وتنكشف أمامهم وفي أنظار غيرهم مواقفهم المزيفة، وتدمغهم الحقيقة، ويزهق الباطل، قال الله تعالى مبينا قصة أحد أكابر مجرمي مكة في تحديه لرسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنكاره البعث والحشر استهزاء وطعنا في الدين:
[سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
«1» «2» «3» [مريم: 19/ 77- 80] .
سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) وغيرهم عن خبّاب بن الأرتّ قال: كنت رجلا قينا- حدادا- وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا، والله، لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فقلت:
لا والله، لا أكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني، ولي ثمّ مال وولد، فأعطيك، فأنزل الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا.. الآية. هذا هو سبب النزول في رأي جمهور المفسرين، إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي.
والمعنى: ألا أخبرك بقصة هذا الكافر الذي تجرأ على الله، وقال: لأعطيّن في الآخرة مالا وولدا، وثروة وعزا، وحرسا وحفظة.
وليس لهذا الأفاك المشرك أي دليل من الغيب أو عهد من الله، ودعواه إنما تصح إن اعتمد على أحد أمرين: إما علم الغيب، وإما عهد من الله، فهل اطلع على
__________
(1) أخبرني.
(2) أعلم الغيب.
(3) نطوّل له. [.....](2/1499)
الغيب حتى يعلم أنه في الجنة، أو أخذ العهد الموثق من الله بذلك؟ وعهد الله: أن يدخل المؤمن الجنة إذا قال: لا إله إلا الله، وعمل الصالحات. وقوله سبحانه:
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ إشارة إلى أن الحصول على علم الغيب أمر صعب شاق لأن الله لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.
ثم هدد الله تعالى هذا الكافر وأمثاله بقوله: كلا، وهي كلمة ردع وزجر لما قبلها، وتأكيد لما بعدها، ولم ترد في النصف الأول من القرآن، وهذه في سورة (مريم) أول ذكر لها. وقوله: (سنكتب) مع أنه يكتب من غير تأخير، لمحض التهديد من المتوعد.
والمعنى: ليس الأمر كما قال العاص بن وائل وأمثاله، بل سنحفظ ما يقول، فنجازيه في الآخرة، ونزيده عذابا فوق عذابه، ونمده بالعذاب مدا في الدار الآخرة على قوله ذلك، وكفره بالله في الدنيا، مكان ما يطلبه من المدد بالمال والولد، جزاء عمله، وسوف نميته ونرثه المال والولد الذي يقول: إنه يؤتاه، ونسلبه إياه، ويأتينا يوم القيامة فردا، لا مال له ولا ولد، مما كان معه في الدنيا لأنا نسلبه منه، فكيف يطمع أن نعطيه مالا وولدا؟! وهذا المعنى مقرر في آيات أخرى، مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: 6/ 94] .
ومعنى قوله تعالى: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي هذه الأشياء التي سماها، وقال: إنه يؤتاها في الآخرة، يرث الله ماله منها في الدنيا، بإهلاكه وتركه لها، فالوراثة معنوية، ويحتمل أن تكون خيبته في الآخرة كوراثة ما أمّل. وقال أبو جعفر النحاس:
وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ معناه: نحفظه عليه فنعاقبه، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما
أخرجه ابن(2/1500)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
النجار عن أنس رضي الله عنه: «العلماء ورثة الأنبياء» «1»
وقوله سبحانه: وَيَأْتِينا فَرْداً يتضمن ذلته.
وفي الجملة: إن الاعتزاز القائم في الدنيا بالمال والولد لبعض الكفار لا ينفع في الآخرة أبدا، ويتبدل هذا الحال إلى حال أخرى وهي الذلة، والخراب، والفقر، والضياع لأن الإنسان في الآخرة لا يستفيد شيئا من مال الدنيا، وليس لابن آدم في الآخرة من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدّق فأبقى، يعني أن فائدة المال في الآخرة محصورة فيما قصد به وجه الله من الإنفاق في سبيل الله، أو التصدق به على المحاويج.
تعدد الآلهة عند المشركين
أخطأ المشركون خطأ بالغا حين اعتقدوا بتعدد الآلهة، وأن الأصنام والأوثان تكون لهم شفعاء وأنصارا ينقذونهم من الهلاك، ومن أسوأ نتائج الشرك والتعدد: أن هذه الآلهة المزعومة ستكون أعداء لعبدتها، ومنشأ هذا الاعتقاد الفاسد: وسوسة الشيطان، ومع ذلك ترك الله تعالى الفرصة الكافية لهؤلاء المشركين، فلم يعجل لهم العذاب حتى يتداركوا الموقف، ويصححوا الاعتقاد، قال الله تعالى واصفا هذه العقيدة الوثنية:
[سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 87]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)
«2» »
«4»
__________
(1) رمز له السيوطي بأنه ضعيف، والواقع له طرق وروايات ترفعه إلى مرتبة الحسن.
(2) شفعاء وأنصارا.
(3) ليسوا أعوانا لهم.
(4) أي تهيجهم وتحركهم تهييجا وتحريكا نحو الكفر والضلال.(2/1501)
«1» «2» [مريم: 19/ 81- 87] .
المعنى: اتخذ عبدة الأوثان آلهة من الأصنام وكل ما عبد من دون الله تبارك وتعالى، ليكونوا لهم أنصارا وأعوانا وشفعاء عند ربهم يقربونهم إليه، ويحققون لهم المنفعة وغير ذلك من وجوه الخير.
ولكن ليس الأمر كما زعموا ولا كما طمعوا، كلا: زجر وردع وردّ، إن هذه الآلهة المزعومة ستتنكر لعبادة عبدتها الكفار، يوم ينطقها الله، وتتبرأ من العابدين، وتكون أعداء وأضدادا لهم وأعوانا عليهم، لا لهم، بخلاف ما ظنوا، فيقولون: ما عبدتمونا، كما جاء في آية أخرى: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص: 28/ 63] . وقوله سبحانه: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) [البقرة: 2/ 166] .
هذه حال الكفار مع الأصنام، ثم ذكر الله تعالى حال الكفار مع الشياطين في الدنيا، فإنهم يسألونهم وينقادون لهم، فقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) ، أي ألم تعلم أننا سلطنا الشياطين على الكفار، وخلينا بينهم وبينهم، ومكناهم من إضلالهم، فهم يحركونهم إلى فعل المعاصي، ويهيجونهم إلى الكفر والضلال ويغوونهم، كما قال الله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الإسراء: 17/ 64] .
فلا تتعجل يا محمد على هؤلاء، بأن تطلب تعذيبهم وإهلاكهم، بسبب تصميمهم على الكفر والضلال، إنما نعد لهم أوقاتا معدودة، ونؤخرهم لأجل معدود مضبوط،
__________
(1) وافدين وفدا.
(2) عطاشا كالتي ترد الماء.(2/1502)
هو انتهاء آجالهم، وهم صائرون إلى عذاب الله ونكاله حتما، فليس بينك وبين عذابهم إلا أوقات محصورة ومعدودة، وكل آت قريب، كما جاء في آية أخرى:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: 14/ 42] .
ثم وازن الله تعالى بين المتقين وبين المجرمين في وقت الحشر، وأبان أنه يفصل بين الفريقين فقال: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم نحشر جماعة المتقين وافدين ركبانا، إلى جنة الله ودار كرامته. والوفد:
القادمون ركبانا، مراكبهم من نور، من مراكب الدار الآخرة.
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) أي ونحمل المجرمين المكذبين على السير العنيف طردا إلى جهنم، مشاة عطاشا، كالإبل ترد الماء.
لا يملك أحد عند الله الشفاعة لغيره إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا: وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها، بأن كان صالح الاعتقاد والقول والعمل، وكان في الدنيا هاديا مصلحا. أما شفاعة الآلهة المزعومة: فهي مجرد أمنيات زائفة، وأوهام فارغة، فهي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
أي إن من كان له عمل صالح مبرّز يحصل به في حيز من يشفع. وقد تظاهرت الأحاديث: أن أهل العلم والفضل والصلاح يشفعون فيشفّعون،
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن قيس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «في أمتي رجل يدخل الله بشفاعته الجنة أكثر من بني تميم» .
نسبة الولد لله تعالى
إن من أكبر الجرائم وأعظم الآثام جريمة الشرك باتخاذ شريك لله تعالى، ونسبة الولد لله عز وجل، فهذا من الإفك والقول المفترى، ومما يتصادم مع عظمة الله(2/1503)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)
سبحانه وألوهيته وتنزهه عن الصاحبة والولد والشريك، وإذا كان الإله هو الخالق المبدع لجميع الأكوان والمخلوقات، فلا يعقل أن يكون لله ولد، إذ لا حاجة له إليه، إلا أن العقل الوثني وقع في هذا الإثم، فقال بعض مشركي العرب: الملائكة بنات الله، وزعم بعض الناس من الطوائف الدينية أن نبيا أو وليا صالحا هو ابن الله.
قال الله تعالى واصفا هذا الشذوذ المفترى:
[سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 95]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
«1» «2» «3» [مريم: 19/ 88- 95] .
المعنى: وقال بعض أهل الكتاب: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وقال كفار من العرب: الملائكة بنات الله، هذان الفريقان زعموا أن لله ولدا، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، ورد الله عليهم: لقد جئتم شيئا إدّا، أي شيئا منكرا عظيم الجرم والإثم.
تقارب السماوات أن تتشقق من هذا القول، وأن تتصدع الأرض وتتناثر أجزاؤها، وتسقط بصوت مرعب شديد، وتتهدم الجبال هدما خطيرا تتضعضع منه، لشدة نكرانه، إعظاما للرب وإجلالا له لأنهن مخلوقات على توحيد الله، وأنه إله واحد لا شريك له، ولا ندّ ولا نظير له، ولا ولد ولا مثيل، ولا صاحبة ولا زوجة له.
ويروي ابن جرير الطبري في تفسيره عن مجاهد، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أن هذه المقالة
__________
(1) أي داهية ومنكرا عظيما.
(2) أي يتشققن مرة بعد أخرى، على رتبة غير مقصودة.
(3) الهدّ: الانهدام والتفرق في سرعة.(2/1504)
أول ما قيلت في العالم شاك الشجر، واستعرت جهنم، وغضبت الملائكة.
وقال محمد بن كعب: لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة، لقوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) .
إن سبب هذه المقالة الخطيرة جدا أنهم نسبوا الولد إلى الله، ولا يصلح له ولا يليق به اتخاذ الولد، لجلال الله وعظمته، فإن هذا نقص، تعالى الله وتنزه عنه، لأن جميع الخلائق عبيد له.
وتأكيدا لإنكار هذه الفرية وإبطالها: كل واحد من الخلق من الملائكة والإنس والجن، لا بد له من أن يأتي إلى الله يوم القيامة عبدا خالص العبودية لله، مقرا بالحقيقة، خاضعا ذليلا، معلنا أنه مملوك لله، فكيف يكون أحد المخلوقات ولدا لله؟! قد علم الله عدد الخلائق، منذ خلقهم إلى يوم القيامة، وعدّ أشخاصهم وأحوالهم كلها، فهم تحت قهره وسلطانه وتدبيره، وكل واحد يأتي لربه في الآخرة بمفرده، لا ناصر له ولا مال معه، ولا مجير له إلا الله وحده لا شريك له، فيحكم في خلقه بما يشاء، وحكمه عادل عدلا مطلقا، لا يشوبه شيء من الظلم، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وقوله سبحانه عَدًّا في قوله وَعَدَّهُمْ عَدًّا توكيد للفعل وتحقيق له. وقوله عز وجل: فَرْداً في قوله: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) يتضمن معنى قلة النصير والحول والقوة، فلا مجير له، مما يريده الله به.
إن هذه الآيات تقرر مبدأ جوهريا في العقيدة: وهو مبدأ توحيد الله، ونفي اتخاذ الله ولدا على جهة التنزيه لله عن ذلك. وتلتقي هذه الآيات في موضوعها مع سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن، وهي: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) ومع
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري حيث قال هذا الصحابي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(2/1505)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
«يقول الله تبارك وتعالى: كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحدا» .
وفي حديث آخر عند الشيخين والترمذي عن معاذ، حيث كان رديف النبي صلّى الله عليه وسلّم على حمار فقال له: «يا معاذ، تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا. قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتّكلوا» .
القبول لأهل الإيمان والصلاح
إن أساس الرضا والقبول، والود والمحبة هو شيء واحد، هو الطاعة، فالطاعة أساس لكل علاقة طيبة، كعلاقة الآباء بالأبناء، وعلاقة الأبناء بالوالدين، وعلاقة الزوجين، وعلاقة السادة والخدم، والعلاقات الاجتماعية. وكذلك تكون الطاعة من باب أولى مجلبة لرضا الله تعالى، وقبول الأعمال، وعقد أواصر الود والمحبة بين الله وعباده. ويخطئ كثير من الناس حين يزعمون: أن الله يحبهم أو أنهم يحبون الله ورسوله، ثم تجدهم مبتعدين عن ساحة الطاعة لأوامر الله والرسول، فكيف يصح هذا عقلا وشرعا؟ هذا ما عبرت عنه الآيات الكريمة:
[سورة مريم (19) : الآيات 96 الى 98]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
«1»
__________
(1) مودة ومحبة.(2/1506)
«1» «2» «3» «4» [مريم: 19/ 96- 98] .
هذه خاتمة سورة مريم التي ذكر فيها قصص عدد من كبار الأنبياء المشهورين كزكريا ويحيى وعيسى وموسى وهارون عليهم السلام، وذكر فيها أحوال الكفار والمشركين في الدنيا والآخرة، وتوّجت هذه السورة ببيان أحوال المؤمنين الصالحين، وهي ما يأتي:
إن الذين آمنوا وصدقوا بالله ورسله، وبخاتم النبيين محمد عليهم الصلاة والسلام، وعملوا صالح الأعمال: من أداء الفرائض والتطوعات، وأحلوا الحلال، وحرموا الحرام، وفعلوا ما يرضي الله تعالى، سيغرس الله محبتهم في قلوب الصالحين، ويضع القبول في النفوس لمن يحبه الله من عباده.
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أحب الله عبدا، نادى جبريل: إني قد أحببت فلانا فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض. وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل: إني قد أبغضت فلانا، فينادي في السماء، ثم ينزل له البغضاء في الأرض» .
التقت الآية والحديث في غرس أصل الود والمحبة في القلوب في الأرض والسماء لأولئك المؤمنين أهل الصلاح والتقوى والعمل الصالح. وطريق الصلاح والاستقامة: هو اتباع منهج القرآن وحكمه، ومعرفة ما في القرآن من آداب، وأحكام وشرائع: سهل يسير، لسهولة تلاوته وفهم مضمونه. وقد يسر الله القرآن للنبي بإنزاله على قلبه بلغة قومه: وهي اللغة العربية، وفصّله وسهّله، لتبشير المتقين
__________
(1) أي شديد الخصومة والجدال بالباطل.
(2) أمة.
(3) تجد.
(4) أي صوتا خفيا. [.....](2/1507)
المستجيبين لله في أمره ونهيه، والمصدقين لرسوله، بأن لهم الجنة بالطاعة والخضوع، وللقرآن مهمة أخرى: وهي إنذار القوم الألداء، المتميزين بشدة الخصومة والجدل بالباطل، المنحرفين عن جادة الحق، الوالغين في مستنقع الباطل، بأن لهم النار بالكفر والعصيان. وبكلمة موجزة: إنهم قوم لدّ، أي فجرة ظلمة،
جاء في حديث عائشة عند البخاري: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»
وهو الذي يخاصمك ويجادلك بالباطل.
ومن أجل حمل الناس على طاعة الله ورسوله، أخبر الله تعالى عما فعل بالأقوام الظالمين، الذين عصوا الله والرسل، واتبعوا أهواءهم، فكثيرا ما أهلك الله قبل مشركي العرب من الأمم والجماعات من الناس لكفرهم بآيات الله وتكذيب رسله، فهل تجد أو ترى منهم أحدا أو تسمع لهم صوتا بعد هذا الإهلاك. وقوله سبحانه «من قرن» القرن: الأمة. والركز: الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم، وإنما هو صوت الحركات وخشفها، والخشف: الحركة والحس.
إن وصف الله تعالى معارضي القرآن الكريم بأنهم قوم لدّ: أشداء في الخصومة والجدال بالباطل، يدل على غاية السوء والإنكار، فهذه صفة سوء بحكم الشرع والحق، لذا قسا الله عليهم بالوعيد، والتمثيل بإهلاك من كان أشدّ منهم، وألدّ وأعظم، قدر ما كان يسرهم في أنفسهم من الوصف بكلمة «لدّ» فإن العرب بجهالتها وعتوها وكفرها كانت تتمدح باللّدد، وتراه إدراكا وشهامة، وهو في الواقع قسوة وهمجية، فمثّل الله لهم بمثل ليعتبروا ويتعظوا بإهلاك من قبلهم، ليحتقروا أنفسهم، ويتبين صغر شأنهم.
إن إهلاك من قبلهم من العتاة الأشداء كان إبادة تامة، عبّر عنها القرآن الكريم بأنهم لم يبق لأحد منهم كلام أو تصويت بوجه من الوجوه، فهل يعتبر كفار قريش وغيرهم إذا بقوا على معارضة النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته ورسالته؟!(2/1508)
طه (1)
تفسير سورة طه
صفة القرآن ومنزله
أنزل الله تعالى القرآن الكريم تذكيرا للبشرية وتقويما لاعوجاج الناس، وحملا لهم على التزام جادة الاستقامة، والذي أنزل القرآن: هو خالق الأرض والسماء، وهو الرحمن صاحب العرض الأعظم، وله السلطان المطلق على جميع ما في السموات والأرض وما بينهما، له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، الإله الواحد الأحد، العالم بالسر والعلن، وبما هو أخفى من السر: وهو حديث القلب والنفس، ومن كان بهذه الصفات، كان جديرا بالناس المخاطبين بكلامه التزام أمره ونهيه، والعمل بدستوره لإسعاد أنفسهم، قال الله تعالى مبينا هذه المعاني في أوائل سورة طه المكية:
[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
«1» «2» «3» [طه: 20/ 1- 8] .
اختصت كلمة طه بأقوال تختلف عن بقية حروف المعجم التي بدئ بها بعض من سور القرآن، منها: أن طه اسم من أسماء محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول مقبول، لأن ما بعد طه لا يصح أن يكون خبرا عنها (طه) : حروف ط، ها. واختصت أيضا
__________
(1) لتتعب تعبا شديدا في تبليغ دعوتك.
(2) ما واراه التراب من الكنوز وغيرها.
(3) حديث النفس.(2/1509)
بأن أكثر فواصل الآيات (أواخرها) جاءت بالألف المقصورة، وأحيانا بالياء المنقوصة، وهذا من سمو البلاغة، وللتأثير القوي على النفوس.
وسبب نزول هذه الآية: إنما هو ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يتحمله من مشقة الصلاة، حتى كانت قدماه تتورمان، وتحتاجان إلى الترويح، فقيل له: طأ الأرض، أي لا تتعب حتى لا تحتاج إلى الترويح (أي الوقوف على قدم وإراحة الثانية من التعب) .
يا طه، لم ننزل القرآن عليك لتتعب نفسك بسبب تأسّفك عليهم وعلى كفرهم، فإن إيمانهم ليس إليك، بل أنزلناه لتبلّغ وتذكّر، فحسبك التبليغ والتذكير، ولا تلتفت بعدئذ لإعراض المعاندين، ولا ترهق نفسك وتتعبها بحملهم على قبول دعوتك.
وما أنزلناه إلا تذكرة لتذكّر به من يخاف عذاب الله، وينتفع بما سمع من كتاب الله الذي جعلناه رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة، وليس عليك جبرهم على الإيمان، كما جاء في آية أخرى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: 42/ 48] ، وآية لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) [الغاشية: 88/ 22] .
وفي هذا إيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم على إعراض قومه عن دعوته، وضيق نفسه على تصميمهم على الكفر.
وهذا القرآن المنزل عليك يا محمد: إنما هو تنزيل من خالق الأرض والسموات العلى، والمراد جهة السفل والعلو، الأرض بانخفاضها وكثافتها، والسماوات في ارتفاعها ولطافتها. والمراد بالآية: إخبار العباد عن كمال عظمة منزل القرآن، ليقدروا القرآن حق قدره.
ومنزل القرآن: هو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها، وهو الذي استوى على العرش، وهو استواء نؤمن به من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تأويل، وبلا كيف ولا انحصار.(2/1510)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)
والله منزل القرآن هو أيضا مالك السماوات والأرض وما بينهما من الموجودات، ومالك كل شيء ومقدّره، ومدبّره ومتصرف فيه، ومالك ما تحت التراب من الكنوز والمعادن وبقية الأشياء، فله الكون كله ملكا وتدبيرا وتصرفا.
والله تعالى عالم بالجهر والسر، وما أخفى منه مما يخطر بالبال، أو يجري من خواطر القلب وأحاديث النفس، فالله عالم بكل ذلك، وعلمه سواء، لا يختلف فيه السر عن الجهر.
وإن صفات المجد والكمال المتقدمة: هي لله المعبود الحق، الذي لا إله غيره ولا رب سواه، وله أحسن الأسماء والصفات الدالة على كل الكمال، والتقديس والتمجيد.
ومن كانت هذه صفاته، وجب تعظيمه وتقديسه، وإفراده بالعبادة، والطاعة، والتزام أمره ونهيه، لأنه سبحانه لا يريد ولا يفعل إلا الخير والمصلحة لعباده، فما أجدرهم بتقبل وجه المصلحة، والبعد عن المضرة والمفسدة.
مناجاة موسى ربه
اختص كل نبي ببعض المعجزات الخارقة للعادة لتكون دليلا على صدقهم، منها معجزات مادية وأخرى معنوية أدبية، وقد اختص موسى عليه السلام بصفة كونه كليم الله في عالم الدنيا في الوادي المقدس طوى، وهي صفة عظيمة بتقدير الله وإحسانه وإعداده، والله إذا أراد شيئا هيّأ أسبابه، ووطّد أركانه ودعائمه، لذا حقّ أن تذكر هذه الحادثة العظيمة، ليتأمل بها أعداء الأديان، وتبقى أثرا حيا موقظا للإيمان في قلوب المؤمنين ومشاعرهم، وهذا ما نصت عليه آي القرآن الآتية:
[سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)
«1»
__________
(1) أبصرتها.(2/1511)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [طه: 20/ 9- 16] .
هذا الاستفهام: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) تنبيه النفس إلى ما يورد عليها، وهذا كما تبدأ الرجل إذا أردت إخباره بأمر غريب، فتقول: أعلمت كذا وكذا؟ ثم تبدأ تخبره. فالبدء بالاستفهام لتثبيت الخبر وتقريره في نفس المخاطب. أي وهل بلغك خبر موسى وقصته مع فرعون وملئه، وكيف كان ابتداء الوحي إليه، وتكليمه إياه؟ وذلك حين رجع موسى إلى مصر بعد زواجه بابنة شعيب عليه السلام ورعيه أغنامه عشر سنوات.
هل أتاك خبر موسى حين رأى نارا، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة، لما خرج مسافرا من مدين إلى مصر. فقال موسى لزوجه وولده وخادمه مبشرا لهم: امكثوا في مكانكم، إني رأيت نارا من بعيد، لعلي أوفيكم منها بشعلة مضيئة أو بشهاب أو جذوة من النار، كما في آية أخرى، لعلكم تستدفئون بها، بسبب وجود البرد، أو أجد عند النار من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها.
فلما أتى موسى النار التي آنسها، واقترب منها، نودي من قبل الله تعالى: يا موسى، إن الذي يكلمك ويخاطبك هو ربك، فاخلع حذاءك لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن الأدب، إنك بالوادي المطهر المسمى، (طوى) من أرض سيناء.
__________
(1) بشعلة نار.
(2) هاديا إلى الطريق.
(3) المطهّر أو المبارك.
(4) اسم الوادي.
(5) أقارب سترها من نفسي.
(6) فتهلك.(2/1512)
وأنا الله الذي اخترتك للرسالة والنبوة، فاستمع سماع قبول واستعداد ووعي لما ينزل عليك من الوحي. إنني أنا الله الذي لا إله غيري، فوحّدني وقم بعبادتي من غير شريك، لأن اختصاص الألوهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة.
وأدّ يا موسى الصلاة المفروضة المأمور بها كاملة الأركان والشروط، لتذكرني فيها، وتدعوني دعاء خالصا إلي. وخصّ الصلاة لله بالذكر، لكونها أشرف طاعة، وأفضل عبادة.
أخرج الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» .
وملتقى جميع الجهود البشرية والبشر هو يوم القيامة، لذا أعقب الله تعالى إعلان التوحيد وإيجاب الصلاة بالإخبار عن مجيء الساعة، أي القيامة، فذكر أن الساعة قائمة لا محالة، وكائنة لا بد منها، أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها غيري، فاعمل لها الخير، من عبادة الله والصلاة، ولأن مجيء الساعة أمر حتمي لازم، لأجزي كل عامل بعمله، ولتجزى كل نفس بما تسعى فيه من أعمالها.
والله أخفى الساعة، أي القيامة، وأخفى أجل الإنسان، ليعمل الإنسان بجد ونشاط، ولا يؤخر التوبة، ويترقب الموت كل لحظة، فكلمة أَكادُ أُخْفِيها أي أقارب، و (أكاد) زائدة لمعنى، أي إن الساعة آتية أخفيها لحكمة تقتضي ذلك.
أشهر معجزتين لموسى عليه السلام
كان موسى عليه السلام من الرسل أولي العزم وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وقد أيد الله موسى لإثبات نبوته أمام قومه بني إسرائيل بمعجزات كثيرة، أهمها انقلاب العصا حية، واليد البيضاء التي تشع(2/1513)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
كالشمس، والمعجزات أمور خارقة للعادة، أحدثها الله على أيدي الأنبياء، استثناء من خواص الأشياء، وطبائع المادة العادية. وهاتان أشهر معجزتين لموسى عليه السلام، قال الله تعالى:
[سورة طه (20) : الآيات 17 الى 23]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [طه: 20/ 17- 23] .
معجزة العصا لموسى عليه السلام: هي البرهان الأول الخارق للعادة الدال على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل. وبدأ إظهار المعجزة بسؤال الله لموسى سؤال تقرير لأن الله عليم بكل شيء، للتنبيه على كمال قدرة الله، والتأمل بما يحدثه من خوارق العادات، وليتأكد موسى وغيره أن ما بيد موسى عصا حقيقية يعرفها، قال الله له: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) ؟ قالَ هِيَ عَصايَ.. أي قال موسى: هي عصاي، ثم ذكر فائدتين لعصاه استمتاعا بمتعة الكلام الإلهي.
وهاتان الفائدتان: أى عصاي أعتمد عليها في حال المشي، وأخبط بها الشجر وأهزه، ليسقط منه الورق، لتأكله الغنم، ولي في هذه العصا مصالح ومنافع أخرى غير ذلك، كحمل الزاد والسقي وطرد السباع عن الغنم.
قال الله تعالى لموسى: ألق هذه العصا التي في يدك يا موسى. فألقاها موسى على الأرض، فإذا هي قد صارت في الحال حية عظيمة، تتحرك بسرعة، وتمشي وتضطرب، وتلتقم الحجارة.
__________
(1) أتكئ عليها.
(2) أخبط بها الشجر لإسقاط الورق.
(3) حاجات.
(4) إلى حالتها السابقة. [.....]
(5) تحت العضد الأيسر.
(6) من غير داء.(2/1514)
ثم أمر الله تعالى موسى بالعودة إلى مكانه، فرجع موسى وهو شديد الخوف من تحركات الحية المخيفة، وهذا شأن البشر، فإنهم يخافون من الثعابين. فقال الله له: خذ هذه الحية بيمينك، ولا تخف منها، سنعيدها بعد أخذها إلى حالتها الأولى التي تعرفها قبل ذلك. وكان موسى يكرر إلقاء العصا فتصير حية، ثم يمسك بها فتعود عصا كما كانت.
ثم أمر الله تعالى موسى أن يضم يده إلى جناحه، أي إلى جنبه، وهو الجناح استعارة ومجازا. يا موسى اضمم يدك اليمنى إلى جنبك تحت العضد، واجعلها تحت الإبط الأيسر، تخرج بيضاء لامعة ذات نور ساطع، يضيء بالليل والنهار، كضوء الشمس والقمر، من غير سوء، أي من غير برص ولا أذى ولا شين ولا مثلة، علما بأن جلد موسى كان أسمر، وهذه معجزة أخرى غير العصا.
ثم رد يده بعد وضعها على جنبه، فعادت كما كانت بلونها الأسمر المعتاد، وإذا حاول السحرة إبطال معجزة العصا، فإنه لم يحاول أحد إبطال معجزة اليد.
كان موسى عليه السلام يكرر أيضا هذه المعجزة، فإذا أدخل يده في جيبه، ثم أخرجها، تخرج تتلألأ، كأنها فلقة قمر، قال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل.
ثم قال الله تعالى: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) أي فعلنا هذا بك لنريك بهاتين الآيتين بعض دلائل قدرتنا على كل شيء، في السماوات والأرض، والمخلوقات الموجودات، وقد وصف الله تعالى الآيات بالكبرى، على ما تقدم من قوله، لمناسبة أواخر الآيات: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ومَآرِبُ أُخْرى ونحوه، ويحتمل أن يريد تخصيص هاتين الآيتين بأنهما أكبر الآيات، كأنه قال: لنريك الكبرى من آياتنا، فهما معنيان.
والخلاصة: لما أراد الله تبارك وتعالى أن يدرّب موسى على تلقي النبوة وتكاليفها،(2/1515)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
أمره بإلقاء العصا، فألقاها، فقلب الله أوصافها وأغراضها، وكانت عصا ذات شعبتين، فصارت الشعبتان لها فما، وصارت حية تسعى أي تنتقل وتمشي، ومن أجل إزالة رعب موسى، أمره الله بضم يده إلى جنبه، وهذا ما يفعله كل مرعوب من ظلمة أو نحوها، فتصير يده بيضاء تضيء كالشمس.
بدء بعثة موسى عليه السلام
لكل نبي في بدء بعثته، نبيا أو رسولا، ظروف وأحوال مثيرة، وعجائب مدهشة، تتناسب مع العصر الذي يعيش فيه، وتتميز البعثة النبوية بالتكليف الإلهي الحاسم في تبليغ كل رسول رسالة ربه، ودعوته إلى عبادة الله، فهي صميم الرسالة وجوهر الدعوة، وفي هذه البداية طلب موسى من ربه في الجملة، أربعة أمور: شرح صدره، وتيسير أمره، وحل عقدة لسانه، وجعل أخيه هارون نبيا ووزيرا له، لتقوية أمره وتعاونه معه في أداء مهمته، ومشاركته في ذكر الله وعبادته، وصار مطلوب موسى بالتفصيل ثمانية أمور، أربع منها وسائل، وأربع أخرى هي غايات. قال الله تعالى واصفا هذه المطالب:
[سورة طه (20) : الآيات 24 الى 35]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)
«1» «2» «3» [طه: 20/ 24- 35] .
هذه مطالب ثمانية لموسى عليه السلام من ربه، طالب بها لما أمره الله تعالى
__________
(1) تجاوز الحد في الاستعلاء.
(2) معينا.
(3) ظهري أو قوتي.(2/1516)
بالذهاب إلى فرعون، وعلم أنها بدء الرسالة، وفهم قدر التكليف، فدعا الله لمعونته، إذ لا حول له ولا قوة إلا بربه. فإنه سمع بتعاظم فرعون وغطرسته وادعائه الألوهية، فأمره الله أن يدعو فرعون إلى توحيد الله وعبادته، وأن يحسن إلى بني إسرائيل.
ولما أمر الله موسى بالذهاب لفرعون، وأدرك مشقة التكليف، سأل ربه ثمانية أمور، وختمها ببيان علة سؤال تلك الأشياء.
1- قال موسى: رب اشرح لي صدري، ووسّع مداركي، وأزل عني الضيق فيما بعثتني به، لفهم ما يرد علي من الأمور.
2- وسهّل علي القيام بما كلفتني به، من تبليغ الرسالة، وقوّني على أداء مهمتي، فإن لم تكن أنت عوني ونصيري، فلا طاقة لي بما كلفتني به.
3- واحلل عقدة من لساني، أي وأطلق لساني بالنطق، وأزل ما فيه من العقدة والعي، ليفهموا قولي وكلامي بتبليغ الرسالة. والعقدة التي دعا في حلّها: هي التي اعترته من الجمرة التي جعلها في فمه، حين جرّبه فرعون، وهو صغير، فأخذ الجمرة وترك التمرة، ووضعها على لسانه، فأحدثت فيه لكنة، وزالت العقدة بهذا الدعاء، وأما تعيير فرعون له فبسبب حالته القديمة.
4- واجعل لي وزيرا عونا ومساعدا لي في بعض أموري، من أهل بيتي هارون أخي، اجعله رسولا، ليتحمل معي أعباء الرسالة ونشر الدين. والوزير: المعين القائم بوزر الأمور، وهو ثقلها. وكان هارون عليه السلام أكبر من موسى عليه السلام بأربعة أعوام.
5، 6- يا رب أحكم بأخي هارون قوتي، واجعله شريكا في أمر الرسالة، حتى نؤدي المطلوب على الوجه الأكمل، ونحقق أفضل الغايات. فكان طلب موسى على(2/1517)
معنى الدعاء في شد الأزر، وتشريك هارون عليه السلام في النبوة، والأزر: الظهر، كأنه قال: شدّ به عوني، واجعله مقاومي فيما أحاول من الأمور.
7، 8- أدعوك يا رب أن تؤازرني بأخي هارون لكي ننزهك ونسبحك كثيرا عما لا يليق بك من الصفات والأفعال، ونذكرك كثيرا وحدك، دون أن نشرك معك غيرك، قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا، حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا. وقوله وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) نعت لمصدر محذوف، تقديره:
تسبيحا وذكرا كثيرا.
إنك يا رب كنت بنا بصيرا، أي عليما بأحوالنا وأحوال غيرنا، في اصطفائك لنا، وإعطائك إيانا النبوة، وخبيرا ببعثتك لنا إلى عدوك فرعون الطاغية الجبار الذي ادعى الألوهية، فنمتثل أمرك ولك الحمد على نعمك الجليلة التي لا تعد ولا تحصى.
لقد كانت غاية موسى عليه السلام من مطالبه الثمانية لنعم الله تعالى غاية سامية، وسببا يلزمه ويحمله على كثرة العبادة والاجتهاد في أمر الله تعالى. وهذا مطمح أولياء الله المقربين وصفوته المختارين، إنهم حين يدعون ربهم، لا يرغبون في تحقيق مطامع الدنيا ولذاتها، وإنما يرغبون في زيادة العون على القيام بمرضاة الله والإكثار من عبادته، وشكره على نعمه الكثيرة، فهو أكثر الناس تقديرا لهذه النعم، وأحرص الناس على شكر المنعم المتفضل، وهو الله عز وجل.
نعم الله على موسى عليه السلام قبل النبوة
أجاب الله تعالى دعاء موسى ومطالبه الثمانية في شرح الصدر وتيسير الأمر وحلّ العقدة وغيرها، إما بنحو كامل أو على قدر الحاجة في الأفعال، وذلك منّة من الله عز وجل، ثم قرن الله إليها تذكير موسى بقديم منّته عليه، وهي ثماني نعم أنعم بها(2/1518)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
عليه قبل النبوة، ليعظم اجتهاده، وتقوى بصيرته. وجاء اقتران النعم الجديدة بعد النبوة وقبلها في الآيات الآتية، قال الله تعالى:
[سورة طه (20) : الآيات 36 الى 41]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
«1» »
«3» «4» «5» «6» «7» «8» [طه: 20/ 36- 41] .
تضمنت الآيات ما امتن الله تعالى به على موسى عليه السلام من إجابة دعائه، وتذكيره بما أنعم الله عليه قبل النبوة، أما إجابة الدعاء فكان كما قال الله تعالى:
قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي قد أعطيتك ما سألته من الأمور الثمانية، من شرح الصدر، وتيسير الأمر، وحل العقدة، ونبوة هارون، وشد الأزر به، وإشراكه في أمر الرسالة، والتمكين من التسبيح الكثير، والذكر الكثير لله عز وجل.
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) أي وتالله لقد أحسنا وتفضلنا عليك بنعم ثمان أخرى قبل النبوة وهي:
1- حين ألهمنا أمك لإنقاذك من فرعون أن تضعك في تابوت (صندوق من خشب أو غيره) ثم تلقي هذا التابوت في البحر، أي نهر النيل، ثم أمر الله النيل بإلقائك على الشط قبالة منزل فرعون، فأخذك فرعون عدو الله، وسيصير عدوك في المستقبل.
2- وألقيت عليك محبة كائنة مني في قلوب العباد، لا يراك أحد إلا أحبك،
__________
(1) أعطيت طلبك.
(2) في النهر.
(3) لتربى بمراقبتي.
(4) من يضمه إليه.
(5) تسرّ بلقائك.
(6) خلّصناك من المحن.
(7) على وفق الوقت المقدر لإرسالك.
(8) اخترتك لرسالتي.(2/1519)
فأحبك فرعون، وزوجه آسية، وتلك المحبة كانت من الله وكانت سبب حياة موسى عليه السلام، والراجح الأقوى أن المراد بالمحبة: هو القبول الذي يضعه الله في الأرض لخيار عباده، وكان ذلك حظ موسى عليه السلام.
3- وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، أي ولتتربى بمرأى مني، وفي ظل رعايتي.
4- واذكر حين خرجت أختك تمشي على الشاطئ، تسير بسير التابوت، تتابعه بنظراتها لترى في أي مكان يستقر، فوجدت فرعون وامرأته يطلبان لك مرضعة، فقالت: هل أدلكم على من يربيه ويحفظه؟ فجاءت بأمك، فقبلت ثديها، وكنت لا تقبل ثدي أي مرضعة أخرى غيرها، فرددناك إلى أمك بألطافنا، ليحصل لها السرور برجوع ولدها إليها، بعد أن طرحته في البحر، وعظم عليها فراقه.
5- وقتلت نفسا هو القبطي حين استغاث بك الإسرائيلي، وكان قتلا خطأ، فنجيناك من الغم الحاصل عندك من قتله، خوفا من العقوبة، وذلك بالفرار إلى أرض مدين، فنجوت من الحبس والقتل أو التعذيب.
6- وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي اختبرناك مرة بعد مرة، بما أوقعناك فيه من المحن المذكورة، قبل أن يصطفيك الله لرسالته، حتى صلحت للقيام بالرسالة لفرعون ولبني إسرائيل.
7- فأقمت سنين مع أهل مدين، بأرض العرب، على بعد ثماني مراحل من مصر، عانيت فيها من الفقر والغربة الشيء الكثير، وعشت راعيا لغنم شعيب مدة عشر سنين، كانت مهر امرأتك.
ثم أتيت في وقت سبق في قضائي وقدري لأكلمك وأجعلك نبيا، وهذا معنى الآية: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى.
8- واخترتك برسالاتي وبكلامي لإقامة حجتي، وجعلتك رسولا بيني وبين(2/1520)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
خلقي لتبليغ الدين، والهداية إلى التوحيد والشرع القويم، فقوله تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) معناه: جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإجمال والإحسان وقوله لِنَفْسِي إضافة تشريف. وعبر بالنفس عن شدة القرب وقوة الاختصاص.
هذه نعم عظيمة أنعم الله بها على موسى عليه السلام قبل البعثة النبوية، وهي كلها إعداد له لتحمل الرسالة، والقيام بالدعوة إلى توحيد الله، وعبادته، وشكره، وإقرار شرائعه في العالمين.
ذهاب موسى وهارون إلى فرعون
لقد كان تكليف موسى وهارون عليهما السلام بالذهاب إلى فرعون لدعوته إلى توحيد الله وعبادته تكليفا شاقا صعبا، تكتنفه احتمالات كثيرة كالتعرض للقتل والتعذيب، أو الطرد والتخويف، وقلّ من يجرأ على ذلك إلا إذا كان نبيا رسولا، ذا جرأة وشجاعة منقطعة النظير، فإن فرعون جبار طاغية يدعي الألوهية، وموسى شخص ضعيف لا يملك قوة كبيرة ولا حماية بشرية. ولكن أقسى الصعاب تهون أمام قدرة الله وتدبيره، فتم المراد، كما جاء في الآيات الآتية:
[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 48]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
«1» «2» «3» [طه: 20/ 42- 48] .
__________
(1) لا تفترا في تبليغ رسالتي. [.....]
(2) يعجل علينا بالعقوبة.
(3) يزداد طغيانا وعتوا.(2/1521)
هذه جملة من الأوامر والنواهي الصادرة من الله لموسى وأخيه هارون. مضمونها:
اذهب يا موسى مع أخيك إلى فرعون وقومه بآياتي ومعجزاتي الدالة على وجودي وقدرتي ووحدانيتي، التي جعلتها لك آية وعلامة على النبوة، وهي الآيات التسع التي أنزلت عليك، ولا تضعفا ولا تفترا أو تبطئا عن ذكر الله، ولا عن تبليغ الرسالة إلى فرعون وملئه. وخاطب موسى وحده بقوله: اذْهَبْ أَنْتَ تشريفا له. وآياتي:
علاماتي التي أعطيتكما من معجزة وآية وحي وأمر ونهي كالتوراة.
اذهبا إلى فرعون، وأبطلا ألوهيته بالحجة والبرهان، لأنه تجاوز الحد في الكفر والتمرد والطغيان، والتجبر والعصيان، وبدأ بفرعون لأنه الحاكم الذي إذا آمن، تبعه الناس.
فقولا له كلاما لينا رقيقا لا خشونة فيه، لعله يتذكر حقيقته أو يخشى ربه، وهذا الأسلوب من اللين واللطف: هو شأن الرسول الداعية الناجح، حتى لا ينفر فرعون وأمثاله من دعوة موسى إلى تمجيد الله وتوحيده، فإن العبارة اللطيفة أجلب للمراد.
فأجاب موسى وهارون بقولهما: يا ربنا، إننا نخاف من فرعون وبطشه إن دعوناه لتوحيدك وعبادتك، أن يشتط في الغضب ويمعن في عقوبتنا أو يتجاوز الحد في التجبر والطغيان، والأذى والاعتداء، فقوله: أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا معناه: أن يحمله حامل على التسرع إلينا بمكروه.
قال الله لموسى وهارون: لا تخافا من فرعون، فإنني معكما بالنصر والتأييد، والحفظ والعون، وإنني سميع لما يجري بينكما وبينه، ولست بغافل عنكما، وأرى كل ما يقع، فأصرف شره عنكما، فقوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أي بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وأَسْمَعُ وَأَرى عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين، والمراد أن الله تعالى حث موسى وهارون على التبليغ بجرأة وحكمة.(2/1522)
فأتيا فرعون، فأعلماه أنكما رسولان إليه، وقولا له: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ وهذا إشارة إلى الرب الحقيقي وهو الله، والتحقير لفرعون، إذ كان يدعي الربوبية بما لا معنى له.
ثم أمر الله موسى وهارون بدعوة فرعون إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل، ويخرجهم من خدمة القبط، أي أطلق سراحهم، وخلّ عنهم، ولا تعذبهم بتذبيح أبنائهم، واستحياء نسائهم، وتكليفهم ما لا يطيقون من السخرة في أعمال البناء والحفر ونقل الأحجار. وتعذيب بني إسرائيل كان ذبح أولادهم وإذلالهم.
لقد كانت دعوة موسى وهارون لفرعون كاملة، تضمنت شيئين: الدعوة إلى الإيمان بالله ووحدانيته، وإرسال بني إسرائيل. والظاهر أن رسالة موسى إلى فرعون ليست على حد إرساله إلى بني إسرائيل: وَالسَّلامُ عَلى على بمعنى اللام، أي السلامة لمن اتبع الهدى.
لقد أتيناك بآية على رسالتنا وهي العصا واليد، والسلامة والتحية والأمن من سخط الله وعذابه على من اتبع هدى ربه، فآمن برسله، واسترشد بآياته الداعية إلى الحق والخير وترك الظلم والضلال. وفي هذا توبيخ لفرعون وقومه، وإشعار بأن فرعون لم يكن مهتديا إلى الصواب.
إننا قد أوحي إلينا من ربنا: أن العذاب الحق الخالص لمن كذب بآيات الله، وبما ندعو إليه من توحيده، وتولى عن طاعته، وذلك كما جاء في آية أخرى: فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) [النازعات: 79/ 37- 39] . وقوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) [الليل:
92/ 14- 16] .
هذه المهام في رسالة موسى وأخيه هارون إلى فرعون وقومه، في غاية الوسطية(2/1523)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
والاعتدال، والتنبيه إلى الواقع، فإن فرعون لم ولن يكون إلها أو ربّا، وإن استمرار الظلم منه لبني إسرائيل لن يحالفه النجاح، وسيكون هو الخاسر الذي لا يجد فرصة أخرى بغير الإيمان لجبر خسارته، والنجاة بين يدي ربه.
حوار موسى وفرعون حول الربوبية
اشتد أوار الحوار بين موسى وفرعون حول إثبات الربوبية لله الخالق، وإبطال ربوبية فرعون المزعومة، فقد سأل فرعون موسى عن حقيقة رب موسى وهارون، فكان جواب موسى ضرورة الانصراف عن البحث في الذات الإلهية إلى التأمل بصفات الله التي تمنع تشريك فرعون في الألوهية بأي وجه كان، حقيقي أو مجازي.
وذلك سلب مطلق لألوهية بشر، وإثبات قاطع حاسم لألوهية الله وربوبيته، والإذعان لخالق الأرض والسماء، قال الله تعالى واصفا بنود هذا الحوار:
[سورة طه (20) : الآيات 49 الى 55]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [طه: 20/ 49- 55] .
يوجد كلام مضمر محذوف قبل هذه الآيات، يدل عليه ظاهر الكلام، تقديره:
فأتيا فرعون يا موسى وهارون، فقولا له ما أمرتكما به، فلما قالا جميع ما أمرا به، قال لهما فرعون: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى خاطب فرعون موسى وحده، لتخصيصه
__________
(1) صورته اللائقة به.
(2) فما شأن وحال الأمم؟
(3) كالفراش للصبي.
(4) طرقا.
(5) أصنافا.
(6) مختلفة الصفات.
(7) لأصحاب العقول.(2/1524)
بالجواب، لأن موسى كان صاحب القسط الأعظم من الرسالة، والقائم بإظهار الآيات والمعجزات الدالة على صدق النبوة.
والمعنى: إذا كنتما رسولي ربكما إلي، فأخبراني: من ربكما الذي أرسلكما؟ ومن هذا الرب الذي بعثك يا موسى؟ فإني لا أعرفه، وما علمت لكم من إله غيري.
أجاب موسى بقوله: ربنا هو الذي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يليق به، وأوجد الآلة المناسبة لكل منفعة، كاليد للبطش، والرّجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع، ثم أرشد الله ووفق إلى طريق الانتفاع بما أعطى، فانتفعوا بكل شيء فيما خلق له، إما اختيارا كالإنسان والحيوان، وإما طبعا كالنبات والجماد.
قال فرعون: إذا كان الأمر كذلك، فما بال القرون الأولى، أي فما حال وشأن الأمم الماضية، لم يعبدوا ربك يا موسى، بل عبدوا غيره من الأوثان وغيرها من المخلوقات؟! فأجاب موسى قائلا: إن كل أعمالهم محفوظة عند الله، مثبّتة عنده في اللوح المحفوظ، يجازي بها، لا يخطئ الله في علم شيء من الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، فعلم الله محيط بكل شيء.
ثم ذكر موسى ثلاثة أدلة خاصة على وجود الله لا يمكن لفرعون أن يدعيها له وهي: الأول: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي إن ربي هو الذي جعل الأرض ممهدة كالفراش، تعيشون فيها بيسر وسهولة، وقرارا تستقرون عليها وتنامون على أجزائها.
الثاني: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وجعل الله لكم في الأرض طرقا تسلكونها، وسهّلها لكم لتعيشوا فيها براحة وأمان.(2/1525)
الثالث: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً.. أي وأنزل من السحاب مطرا، أخرج به أنواعا من أصناف النبات المختلفة، من زروع وثمار ذات طعوم مختلفة وألوان وروائح شتى، بعضها للإنسان، وبعضها للحيوان، وقوله سبحانه: فَأَخْرَجْنا بِهِ أي على تقدير كون الكلام من موسى، وهو: يقول الله عز وجل: فَأَخْرَجْنا والراجح أنه إخبار من الله لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، والأزواج من النبات: أي الأنواع، وشتى: أي مختلفات.
وإذا كانت النباتات خلقها الله للإنسان والحيوان، فكلوا منها أيها البشر، وارعوا أنعامكم فيها، أي هي صالحة أن يؤكل منها وترعى الغنم والمواشي فيها، إن في ذلك المذكور لدلالات وبراهين على وجود الله ووحدانيته لأولي النهى، أي ذوي العقول السليمة، الناهية عن القبائح.
وهذه المنافع للأرض والسماء إنما هي وسائل إلى منافع الآخرة، فكانت الأرض ذات منافع كثيرة، منها خلقناكم، أي من الأرض والتراب مبدؤكم في أصل الخلق حين خلق أباكم آدم من تراب، ومصيركم بعد الموت إلى الأرض، حيث تدفنون فيها وتختلط أشلاؤكم بالتراب، وسوف نخرجكم من قبوركم في الأرض مرة أخرى بالبعث والنشور، والغرض من هذه الآية هنا: تنزيه الرب نفسه، وتذكير فرعون بأصله، وأنه من تراب عائد إليه، فلا يغتر الإنسان بدنياه وملكه، وليعلم أن أمامه يوما شديد الأهوال، يسأل فيه عن كل شيء، ويحاسب على أعماله.
اتهام موسى عليه السلام بالسحر
حينما أفلس فرعون في إيراد الحجة والبرهان على مزاعمه الباطلة من التأله وغيره، وكذّب بكل الأدلة، اتهم موسى بالسحر، وطلب المبارزة مع السحرة، وتحديد مكان اللقاء وزمن الاجتماع، والتوجه لهذا المسار من المبارزة يدل على أن(2/1526)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
أمر موسى عليه السلام قد كان قوي، وكثر متّبعوه من بني إسرائيل، ووقع أمره في نفوس الناس. قال الله سبحانه واصفا رجحان ميزان القوة لصالح موسى عليه السلام في أرض مصر:
[سورة طه (20) : الآيات 56 الى 59]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
«1» «2» «3» [طه: 20/ 56- 59] .
هذا إخبار من الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم عن فرعون، والمراد جميع الخلق لإعلامهم بهذه الآيات المنبّه عليها. والمعنى: وتالله لقد بصّرنا فرعون وعرّفناه آياتنا الدالة على قدرتنا وتوحيدنا وعلى نبوة موسى، أي إن الله أراه آيات كثيرة: وهي العصا واليد والطمس على القلوب وغير ذلك من الآيات التسع ونحوها من الحجج والبراهين، فعاين فرعون ذلك أو بصره، ولكنه كذّب بها، وأبى الاستجابة للإيمان والحق، كفرا وعنادا وبغيا. وكانت رؤية فرعون لهذه الآيات مستوعبة، يرى الآية كلها كاملة، كأنه قال:
لقد أريناه آياتنا بكمالها، وأضاف الآيات إلى ضمير العظمة الإلهية تشريفا لها، ولكن فرعون أبى إدراكها واستيعابها، وكلمة (أبى) تدل على تكسب فرعون، وهو الذي يتعلق به الثواب والعقاب.
ثم ذكر الله تعالى شبهة فرعون وصفة تكذيبه، فقال لموسى مستنكرا معجزة العصا واليد: هل جئت يا موسى من أرض مدين لتخرجنا من أرضنا مصر بما أظهرته من السحر، وهو قلب العصا حية، توهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك، حتى تتوصل بذلك إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها. وإنما ذكر فرعون الإخراج من
__________
(1) امتنع عن الإيمان.
(2) أي وسطا، يتساوى فيه الطرفان بالمجيء إليه.
(3) يوم الزينة: هو يوم عيد كان لهم.(2/1527)
الأرض لتنفير قومه من إجابة موسى، وتحريضهم على السخط عليه، والعمل على طرده من مصر.
ثم أعلن فرعون عن معارضته السحر بالسحر، فلنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر، فإن عندنا سحرا مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه.
فحدد لنا يوما معلوما ومكانا معلوما، نجتمع فيه نحن وأنت، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر، لا نخلف ذلك الوعد من قبل كل منا، ويكون المكان وسطا بيننا وبينك، حتى لا يعذر أحد في التخلف، فقوله تعالى: مَكاناً سُوىً أي مكانا قريبا منا، قربه منكم.
ثم قال موسى عليه السلام: موعد الاجتماع يوم الزينة، أي يوم عيد النيروز الذي يتزين فيه الناس عادة، وفي وقت الضحى، ليكون الاجتماع عاما، في يوم يفرغ فيه الناس من أعمالهم، ويجتمعون جميعا، ويتحدثون بنتيجة المبارزة، فتظهر الدعوة إلى الله، وتعلو كلمة الحق، ويزهق الباطل، وليكون الضوء غالبا، وفي نشاط أول النهار، فلا يشكّوا في المعجزة، ويشاهدوا قدرة الله على ما يشاء، ويتعرفوا على معجزات الأنبياء، ويظهر تفوقها على مزاعم السحرة، وبطلان معارضة السحر لخوارق الأحوال النبوية.
و «الحشر» : الجمع، ومعناه: نحشر الناس لمشاهدة المعارضة، والتهيؤ لقبول الحق حيث كان.
واختيار هذا الموعد من موسى عليه السلام دليل على الثقة بالنصر، وسبيل لإيضاح الحجة.
روي أن يوم الزينة كان عيدا لأهل مصر، ويوما مشهودا، وصادف يوم عاشوراء، وكان يوم سبت.(2/1528)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
إن يوم المبارزة بين موسى عليه السلام والسحرة يوم حاسم في تاريخ الأنبياء وتاريخ الإنسانية، فقد سلطت الأضواء على هذا اليوم، وانتظر فرعون وملؤه الأشراف أن تنتهي محاولات موسى ودعوته إلى ربه، ويتفوق السحر على المعجزة، حيث جمع فرعون أساطين السحرة، ولكن الله غالب على أمره، فانقلبت المعايير والحسابات والاحتمالات، وظهر أمر الله والحق، وخسر هناك المبطلون.
جمع السحرة في عهد فرعون
كان اغترار فرعون بسلطانه وملكه شديدا، وظن أن كل شيء يكون بتفوق المال والثروة والسلطة، وأنه سيقضي على موسى ودعوته في مهدها، بعمل جماهيري سريع، وتفوق علمي باهر، وأن سحر السحرة سيبطل مساعي موسى، ويظل له المجد والتفوق والسلطان، فبذل أقصى جهده لجمع أمهر السحرة من بلاد مصر، وردّد السحرة ما يقول فرعون: ما هذان الرجلان: موسى وهارون إلا ساحران يريدان إخراج المصريين من بلادهم، فلا بد من إحكام الخطة، والتفنن في الإتيان بأشد ألوان المكر والكيد، وصف القرآن الكريم هذه المحاولة الخائبة من فرعون في جمع السحرة، فقال الله تعالى:
[سورة طه (20) : الآيات 60 الى 64]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [طه: 20/ 60- 64] .
__________
(1) سحرته الذين يكيد بهم.
(2) يستأصلكم. [.....]
(3) أخفوا التناجي.
(4) بسنتكم الفضلى.
(5) أحكموا سحركم.
(6) فاز.(2/1529)
أقدم فرعون مصر على إبطال آيات الله التي أتى بها موسى، بالسحر، وانصرف غاضبا جادّا كل الجد، فجمع ما يكيد به من السحر والحيلة، والأتباع والأنصار، وكان السحر شائعا في زمنه في أنحاء مصر، ثم أقبل في الموعد المحدد، وجلس في مكان خاص به مع كبار أعوانه وحاشيته. وجاء موسى وأخوه هارون، وأقبل السحرة ووقفوا صفوفا، وبدأ فرعون يحرّض السحرة ويعدهم بوعود براقة، فطلبوا منه الأجر، كما حكى القرآن الكريم: فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) . [الشعراء: 26/ 41- 42] .
قال موسى لفرعون والسحرة: الهلاك والعذاب لكم إن اختلفتم على الله كذبا وزورا، فتزعموا أن ما جئت به ليس بحق، وأنه سحر، فيستأصلكم الله بعذاب شديد من عنده، وقد خسر وهلك من افترى على الله، أي كذب أي كذبة كان. وهذه مخاطبة محذّر، فإنه ندب السحرة إلى قول الحق إذا رأوه، وألا يأتوا بكذب.
فلما سمع السحرة كلام موسى عليه السلام، تناظروا وتشاوروا فيما بينهم في الأمر، وتناجوا سرا في شأن موسى وأخيه، والنجوى: السر والمسارّة، أي كان كل رجل يناجي من يليه.
وقالت السحرة بعد المشاورة والمداومة: ما موسى وهارون إلا ساحران يريدان إخراجكم أيها المصريون من أرضكم مصر، بصناعة السحر، كما يريدان التغلب، للاستيلاء على جميع المناصب، ولتكون لهما الرياسة في كل شيء، ويذهبا بسيرتكم ومملكتكم والحال التي أنتم عليها ويزيلا طريقتكم المثلى، أي الفاضلة الحسنة.
وأقوالهم هذه مستمدة من آراء فرعون ومزاعمه وإشاعاته، مستخدمين أساليب ثلاثة للتنفير من موسى وأخيه: وهي تكذيب نبوتهما ووصفهما بالسحرة، والكشف(2/1530)
عن نواياهما في المستقبل بطرد السكان الأصليين من أرضهم مصر، والاستيلاء على جميع المناصب والرياسات. وأضاف السحرة قائلين: يجب علينا الوقوف صفا واحدا أمام هذا الخطر، فاعزموا على تقديم أعلى الخبرات وجميع المهارات، ولا تتركوا أقصى ما تستطيعون عليه من الكيد والحيلة، وقفوا مصطفين صفا واحدا، وألقوا ما لديكم دفعة واحدة، لتبهروا الأبصار، وتعظم هيبتكم، وتغلبوا هذين الرجلين، فإنه فاز اليوم بالمطلوب من غلب منا ومنهما.
وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض، بقصد التحريض وشدّ العزائم، لبذل أقصى الجهود للفوز بالمطلوب. وتداعوا إلى هذا لأنه أهيب وأظهر لهم، و (أفلح) ظفر ببغيته، و (استعلى) : طلب العلو في أمره، وسعى سعيه.
لقد انهارت كل مساعي الكيد من فرعون وسحرته، وأصيبت بالإحباط وخيبة الأمل، أمام معجزة النبوة معجزة موسى: وهي إلقاء العصا، وانقلابها حية، ثم أكلت جميع الحبال والعصي والأسلاك التي ألقاها السحرة، لأن قدرة الله فوق كل قدرة، وتدبيره فوق كل تدبير، ولأن المعجزة أمر خارق للعادة، فوق الأحداث العادية، لا بتدبير وصنع بشر، وإنما يجريها الله استثناء من قانون العادات، على يد النبي المبعوث بدعوة واضحة لهداية الناس إلى التوحيد والحق والعدل.
المبارزة بين موسى عليه السلام والسحرة
لقد كانت المبارزة والمعارضة بين موسى عليه السلام وسحرة مصر أشهر وأعظم مبارزة في التاريخ القديم، فإنها كانت بين طرفين غير متكافئين: موسى وأخوه هارون في جانب، وسحرة مصر وجمعهم الغفير في جانب آخر، وبدأت المبارزة في ظاهرها ودّية هادئة خيّر السحرة فيها موسى ببدء الإلقاء أو تأخره، فوافق موسى على أن يبدأ(2/1531)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)
السحرة، وسيطر الخوف على قلب موسى من تحرك الحبال والعصي، فأوحى الله إليه أنه سيكون الفائز الغالب. وهذا ما حكته الآيات الآتية:
[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 69]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)
«1» «2» [طه: 20/ 65- 69] .
خيّر السحرة موسى عليه السلام في أن يبتدئ بالإلقاء أو يتأخر بعدهم، وكان عددهم بالآلاف، والروايات في تحديد عددهم متفاوتة بين خمسة عشر ألف وتسع مائة ألف، وكان مع كان رجل منهم حبل وعصيّ، قد استعمل فيها السحر.
وهذا التخيير لموسى من السحرة أدب حسن وتواضع جم، ألهمهم الله به، ورزقوا الإيمان ببركته، فقابلهم موسى عليه السلام أدبا بأدب. وقال لهم: بل ألقوا أنتم أولا، لنرى سحركم وتظهر حقيقة أمركم، ولتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم، فإذا ألقى عصاه تبتلع كل ما ألقوه، وليظهر عدم المبالاة بسحرهم.
فألقى السحرة ما معهم من الحبال والعصي، فتوهم موسى ومن رآهم من الناس أنها تتحرك بسرعة كالأفاعي. وقوله تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ.. إذا للمفاجاة، كما تقول: خرجت، فإذا زيد. وهي التي تليها الأسماء.
والظاهر من الآيات والقصص في كتب المفسرين: أن الحبال والعصي كانت تتحرك وتنتقل بحيل السّحر، وبدسّ الأجسام الثقيلة المباعة فيها، وكان تحركها كتحرك من له إرادة كالحيوان.
__________
(1) أضمر.
(2) تبتلع بسرعة.(2/1532)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) أي تملّكه الخوف، وهو عبارة عما يعتري نفس الإنسان إذا وقع ظنه في أمر على شيء يسوؤه. وظاهر الأمر كله الصلاح، وكان خوف موسى عليه السلام على الناس أن يضلوا لهول ما رأى. وخاف في الجملة، وبقي ينتظر الفرج، إنك يا موسى أنت الغالب على من ناوأك في هذا المقام، إنك أنت المستعلي عليهم بالظفر والغلبة.
وألق يا موسى العصا التي في يمينك، تبتلع أو تتلقف بعد صيرورتها جميع ما صنعوه من الحبال والعصي، ولا يفوز الساحر حيث أتى من الأرض، أو حيث احتال، ولا يحصل مقصوده بالسحر، خيرا كان أو شرا. وأبهمت العصا ولم تذكر هنا في الآية تهويلا لأمرها، وأنها ليست من جنس العصي المعروفة، فبعد أن ألقاها وصارت ثعبانا، مدّ موسى عليه السلام يده إليها، فرجعت عصا كما كانت. فقامت المعجزة، واتضح البرهان، وظهر الحق، وبطل السحر، ودهش الناس الذين ينظرون، ونظر السحرة وعلموا الحق، ورأوا ضياع وابتلاع الحبال والعصي، وأن هذا خارج عن طاقة البشر، وهو من فعل الإله الخالق، فآمنوا بالله ربا إلها واحدا، رضي الله عنهم.
وكان إيمانهم المفاجئ أخطر من المبارزة نفسها. وبهت فرعون وقومه، وأحسوا بالإفلاس والخسارة وهزيمة المعارضة بين موسى والسحرة، فطاش صوابه، ولجأ إلى تهديد السحرة ووعيدهم، معتمدا على إرهابه وسلطته، ولكنه خاب وفشل مرة أخرى لأن إيمان السحرة زرع في قلوبهم كالجبال الرواسي، وهان عليهم العذاب من أجل مرضاة الله ولقائه وهو عنهم راض.
لقد تغير وجه التاريخ بهذه المبارزة، وبدأ صوت الإيمان يعلو في أرجاء مصر، وبدأ عرش فرعون في اهتزاز واضطراب، والله يؤيد بنصره من يشاء. والواقع أن(2/1533)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
احتمال غلبة أحد المتبارزين على الآخر أمر محتمل في كل منافسة أو مبارزة، لكن الذي لم يتوقعه أحد إنما هو إيمان السحرة برب موسى وهارون، وهذه معجزة إلهية تدل على أن الله غالب على كل شيء.
إيمان السحرة برب موسى وهارون
حينما ألقى موسى عليه السلام عصاه وانقلبت حية، والتقمت كل ما جاء به السحرة من الحبال والعصي، ثم رجعت إلى حالتها، أيقنوا بنبوة موسى عليه السلام، وأن الأمر ليس سحرا، وإنما الأمر من عند الله تعالى، وهذا كان له تأثير الصاعقة على فرعون وحاشيته، فلجأ إلى تهديد السحرة بتقطيع الأيدي والأرجل والتصليب في جذوع النخل، فما كان منهم إلا أن أعلنوا تحديهم لفرعون، وآثروا عليه السلامة والنجاة، لما رأوا من حجة الله تعالى وآياته البينات، قال الله تعالى واصفا هذا الحدث الجلل:
[سورة طه (20) : الآيات 70 الى 73]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73)
«1» [طه: 20/ 70- 73] .
في خلال هذه الآية تقدير وحذف يدل عليه ظاهر القول، وهو: فألقى موسى عصاه، فالتقمت كل ما جاء به السحرة، فلما رأوا ذلك أيقنوا بنبوة موسى عليه
__________
(1) أوجدنا وهو الله تعالى.(2/1534)
السلام، وأن الأمر من عند الله تعالى، فانكبوا على وجوههم ساجدين لله، وآمنوا برب موسى وهارون، مفضّلين الآخرة على الدنيا، والحق على الباطل. وقوله: بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى بتقديم (هارون) قبل (موسى) لتستوي رؤوس الآيات، مثل قوله تعالى: أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: 20/ 52] ، فتأخير (شتى) لتعتدل رؤوس الآي.
وكذلك قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) [طه: 20/ 129] ، فتأخير قوله: وَأَجَلٌ مُسَمًّى إنما هو لتستوي رؤوس الآي. وإنما قالوا:
بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى ولم يقولوا: (برب العالمين) لأن فرعون ادعى الربوبية وادعى الألوهية، فلو أنهم قالوا: آمنا برب العالمين فحسب، لقال فرعون: إنهم آمنوا بي، لا بغيري، فاختاروا هذه العبارة لإبطال قوله.
قال فرعون الذي أصر على كفره وعناده ومكابرته الحق بالباطل: أصدّقتم موسى وقوله واتبعتموه، من غير إذن مني لكم بذلك؟ فلم تؤمنوا عن بصيرة وتفكير، إنما أنتم أخذتم السحر عن موسى، فهو معلّمكم الكبير، وأنتم تلامذته، وتواطأتم معه علي وعلى رعيتي، لتظهروه وتروّجوا لدعوته.
فهدّدهم ونفّرهم عن الإيمان بقوله: أقسم أني لأمثّلن بكم، فأقطّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، أي بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، أو على العكس، ولتعلمنّ هل أنا أشد عذابا لكم أو رب موسى؟! وهذا من فرعون تحدّ لقدرة الله، وتحقير لشأن موسى، وإظهار لما لفرعون من بأس وسلطة.
فازداد السحرة بعد هذا التهديد تمسكا بإيمانهم، وهانت عليهم أنفسهم من أجل رضوان الله، فقالوا: لن نختارك يا فرعون على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحات من عند الله تعالى، والمعجزات الظاهرة، كانقلاب العصا ثعبانا، واليد نجما مشعا، وعلى ما حصل لنا من الهدى واليقين، فافعل ما شئت، واصنع ما أنت(2/1535)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
صانع، إنما لك تسلط ونفوذ علينا في هذه الدنيا الزائلة، بتهديدنا بالقتل، ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، ونحن قد رغبنا بالآخرة.
إننا صدقنا بالله ربنا المحسن إلينا، ليغفر لنا خطايانا ويعفو عن سيئاتنا، وعلى ما أجبرتنا عليه من عمل السحر، لمعارضة آيات الله ومعجزات نبيه، والله خير لنا منك جزاء، وأدوم ثوابا، مما كنت وعدتنا، وأبقى منك عذابا.
وكان رؤساء السّحرة اثنين وسبعين، فقالوا لفرعون: أرنا موسى نائما، فرأوه فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بساحر، الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى فرعون إلا أن يعارضوه.
والظاهر أن فرعون نفّذ تهديده للسحرة بالقتل والتصليب، لقول ابن عباس:
أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء بررة.
التهديد بالجزاء والترغيب بالثواب في كلام السحرة
تابع السحرة الكلام مع فرعون بعد إصرارهم على الإيمان، واستخفافهم بتهديداته وإنذاراته، فحذروه من نقمة الله وعذابه الدائم، ورغّبوه في ثوابه الأبدي الخالد، وهذه صفة أهل الإخلاص والإيمان، فإنهم كما أحبوا الخير لأنفسهم، أحبوا الخير لغيرهم، وإذا هابوا الشر حتى لا يصيبهم السوء، هابوا امتداد شراراته لإصابة الآخرين وهذا الموقف المشرّف، دوّنه القرآن الكريم في الآيات التالية:
[سورة طه (20) : الآيات 74 الى 76]
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
[طه: 20/ 74- 76] .(2/1536)
قالت فرقة من المفسرين: هذه الآية بجملتها هي من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له، والبيان فيما فعلوه. وهذا هو المتبادر للذهن. وقالت فرقة أخرى: بل هي من كلام الله تبارك وتعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، تنبيها على قبح ما فعل فرعون، وحسن ما فعل السحرة، وموعظة وتحذيرا. وقد تضمنت القصة حالة المجرم الذي اكتسب الجرائم والخطايا.
والمعنى: إن من يلقى الله يوم القيامة، وهو مجرم في حق نفسه وربّه، فعذابه في جهنم، لا يموت فيها ميتة مريحة، ولا يحيا حياة كريمة، فهو يألم كما يألم الحي. وهذا القول: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى مختص بالكافر، فإنه معذب عذابا ينتهي به إلى الموت، ثم لا يجهز عليه فيستريح، بل يعاد جلده، ويجدّد عذابه، فهو لا يحيا حياة هنيّة، وأما من يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي، فهم قبل أن تخرجهم الشفاعة، في غمرة، قد قاربوا الموت، إلا أنهم لا يجهز عليهم، ولا يجدّد عذابهم. فهذا هو الفرق ما بينهم وبين الكفار. وفي الحديث الصحيح: أنهم أي عصاة المؤمنين يموتون إماتة.
والواقع أنهم يقتربون من الموت، فهذا معنى الإماتة، لأنه لا موت في الآخرة.
هذا هو مصير الكفرة أهل النار. وأما أهل الإيمان والصلاح، فإنهم يلقون ربهم يوم المعاد، قد آمنت قلوبهم، وصفت نفوسهم، وتطابق قولهم وعملهم مع قرارة ضمائرهم، وأدوا الطاعات، وخافوا ربهم، فأولئك لهم بإيمانهم وعملهم الصالح الجنة ذات الدرجات والمنازل العالية الرفيعة، والغرف الآمنة، والمساكن الطيبة.
لهم الدرجات العلى وهي القرب من الله تعالى. ومن المعلوم أن الجنة درجات، والنار دركات،
روى الإمام أحمد والترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله تعالى، فاسألوه الفردوس» .(2/1537)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
وورد في الصحيحين: «إن أهل علّيين ليرون من فوقهم، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء؟
قال: بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله، وصدقوا بالله، وصدقوا المرسلين»
وفي السّنن: «وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما» .
تلك الدرجات العلى في جنات عدن، أي إقامة دائمة، تجري من تحت غرفها الأنهار، ماكثين فيها أبدا، وذلك الفوز الذي أحرزوه جزاء من طهّر نفسه من دنس الكفر والمعاصي الموجبة للنار، واتّبع المرسلين فيما جاؤوا به من عند الله العلي القدير. فليهنأ سحرة فرعون، إنهم آمنوا في جو من الإرهاب، وفي ميادين التعذيب والجلد والتقطيع، وإيمان كهذا له منزلته العظمى، وهو دليل على قوته وثباته، وأنه لا يخامره أي شك أو شبهة، فاستحقوا بذلك الدرجات العلى.
إغراق فرعون وجنوده في البحر
إن أكبر عظة للمتغطرسين المتألهين: ما حدث لفرعون الطاغية الذي ادعى الربوبية والألوهية، فكان مصيره الإغراق هو وجنوده في البحر، وإنجاؤه بجسده، ليراه الناس، ويكون لمن خلفه عبرة وعظة، وكان الإغراق حدثا عجبا، لم يكن بإغراق باخرة، ولا بدحر جيش، وإنما تم استدراجه بطريق يبس أوجده الله لموسى وقومه، فنجوا، فتبعهم فرعون وجنوده فيه، فأطبق عليهم الماء، وهلكوا جميعا. قال الله تعالى مبينا هذا الحادث العجيب:
[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
«1» «2»
__________
(1) سر بهم ليلا من مصر.
(2) جافا.(2/1538)
«1» »
«3» «4» «5» «6» «7» [طه: 20/ 77- 82] .
لما انقضى أمر السحرة، وغلب موسى وقوي أمره، وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، فأقام موسى عليه السلام على وعده، حتى غدر به فرعون، ونكث وعده، وأعلمه أنه لا يرسلهم معه، فبعث الله تعالى الآيات على فرعون وقومه، وهي الجراد والقمّل وغيرها، وبعد هذا الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل من مصر، في الليل ساريا. والسّرى: سير الليل. والآيات تدوّن هذه المسيرة. ومفادها: ولقد أوحينا إلى النبي موسى أن يسير ببني إسرائيل من مصر ليلا، دون أن يشعر بهم أحد، وأمرناه أن يتخذ لهم طريقا في البحر (البحر الأحمر) يابسا، لا ماء فيه ولا طين، وقلنا له: أنت آمن، لا تخاف دركا، أي إدراكا ولحوقا بكم، ولا تخشى أن يغرق البحر قومك، وكان هذا الإنقاذ حينما كان قوم موسى قوما صالحين، لذا عبر عنهم بقوله تعالى: أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي.
فتبعهم فرعون وجنوده في الطريق اليابس في أرض البحر بقدرة الله، فغشيهم من البحر ما غشيهم، حيث أطبق عليهم ماء البحر، وتكرار (غشيهم) للتعظيم والتهويل.
وأضل فرعون قومه عن سبيل الرشاد، وما هداهم إلى طريق النجاة، حينما سلك
__________
(1) لا تخشى إدراكا ولحاقا.
(2) علاهم.
(3) مادة حلوة كالعسل.
(4) الطائر المعروف بالسّماني.
(5) لا تكفروا بالنعم. [.....]
(6) فيقع عليكم ويلزمكم.
(7) هلك.(2/1539)
بهم في الطريق ذاته الذي سلكه بنو إسرائيل في وسط البحر. ثم عدد الله نعمه الكثيرة على بني إسرائيل وذكر هنا ثلاث نعم كبري وهي:
1- قلنا: يا بني إسرائيل، قد أنجيناكم من عدوكم فرعون الذي كان يذبّح أبناءكم، ويستحيي نساءكم، وأقررنا أعينكم حين أغرقت أعداءكم، وأنتم تنظرون إليهم، فإنهم غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم أحد، كما جاء في آية أخرى:
وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: 2/ 50] .
2- وجعلنا لكم ميقاتا وهو جانب جبل الطور الأيمن في سيناء لتكليم موسى بحضرتكم، وإنزال التوراة ذات الشريعة المفصلة، وأنتم تسمعون الكلام الذي يخاطبه به رب العزة. قال المفسرون: ليس للجبل يمين ولا يسار، بل المراد أن طور سيناء عن يمين من انطلق من مدين إلى مصر.
3- ونزلنا تنزيلا عليكم المن والسلوى، وأنتم في التيه. أما المن: فهو حلوى كانت تنزل عليهم من الندى من السماء، من الفجر إلى طلوع الشمس، على الحجارة وورق الشجر، وأما السلوى: فهو طائر السّماني الذي تسوقه ريح الجنوب، فيأخذ كل واحد منكم ما يكفيه.
وقلنا لكم: تنعموا بالأكل من تلك الطيبات المستلذات من الأطعمة الحلال، ولا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز، ولا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين، فينزل بكم غضبي وعقوبتي. ومن ينزل به غضبي فقد شقي وهلك. وإني لغفار وستّار لمن تاب من الذنوب، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولمن عمل عملا صالحا أمر به الشرع وحسّنه، ثم اهتدى واستمر في منهجه، واستقام على ذلك الطريق حتى يموت. والمطلوب هو الاستمرار على منهج الحق والاستقامة لأن المهتدي في الحال لا يكفيه للنجاة حتى يستمر عليه في المستقبل. فقوله تعالى بعد الإيمان(2/1540)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)
والعمل الصالح: ثُمَّ اهْتَدى معناه: ثم مشى في عقائد الشرع وشرائعه وأحكامه على طريق قويم، فلم يخالف الحق في شيء من المعتقدات.
عبادة اليهود العجل
ينحدر مستوى الفكر الإنساني أحيانا، فيؤله الطبيعة المخلوقة العاجزة أحيانا، أو يؤله الحجر والمعدن باتخاذ الأصنام والأوثان، أو يؤله الحيوان، كما فعل موسى السامري الذي اتخذ عجلا من ذهب، وجعله إلها أثناء غيبة موسى في الميقات المحدد لتكليم ربه، وكان موسى عليه السلام قد استخلف أخاه هارون عليه السلام على بني إسرائيل، فرضوا بعبادة العجل، وكانوا قد طلبوا من موسى عليه السلام أن يصنع لهم تمثالا ليعبدوه: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 7/ 138] . قال الله تعالى واصفا كيفية اتخاذ العجل إلها لدى نبي إسرائيل:
[سورة طه (20) : الآيات 83 الى 89]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [طه: 20/ 83- 89] .
تعجل موسى عليه السلام الذهاب إلى ميقات ربه حبا في مكالمته وإعطائه
__________
(1) ما الذي دعاك إلى العجلة؟
(2) ابتليناهم.
(3) حزينا.
(4) بقدرتنا.
(5) أثقالا.
(6) مجسّدا (أحمر من ذهب) .
(7) صوت كصوت البقر.(2/1541)
الألواح، وسبق السبعين رجلا الذين صحبهم لهذه المهمة، فسأله ربه: ما الذي حملك على أن تسبق قومك بني إسرائيل، والمراد بهم النقباء السبعون؟ وكانت المواعدة بين الله وموسى أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه إلى جبل الطور، فاختار منهم سبعين رجلا، فسار بهم، ثم عجّل في المسير من بينهم، شوقا إلى ربه، وسماع كلامه، لما قرب من جبل الطور.
وهذا الإنكار من الله لعجلة موسى إنكار للعجلة في ذاتها، لما فيها من عدم العناية بصحبه، وهو تعليم للأدب الرفيع في المصاحبة، وحسن المرافقة.
فأجاب موسى قائلا: هم أي النقباء المختارون بالقرب مني، واصلون بعدي، وما تقدمتهم إلا بخطىّ يسيرة، وسارعت إليك ربي لتزداد عني رضا، بمسارعتي إلى الوصول إلى مكان الموعد، امتثالا لأمرك، وشوقا إلى لقائك، أي أن موسى عليه السلام اعتذر عن الخطأ في اجتهاده. قال الله تعالى: إنا قد اختبرنا قومك بني إسرائيل من بعد فراقك لهم، وأضلهم موسى السامري، باتخاذهم العجل من ذهب إلها. فعاد موسى عليه السلام إلى قومه بني إسرائيل بعد انقضاء أربعين ليلة، شديد الغضب والأسف والحزن.
قال موسى لقومه: يا قوم أما وعدكم ربكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة، وحسن العاقبة، من إنزال كتاب التشريع العظيم، والنصر على عدوكم، وتملككم أرض الجبارين وديارهم، والثواب الجزيل في الآخرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى.
هل طال عليكم الزمان في انتظار وعد الله ونسيان نعمه، ولم يمض على ذلك من العهد غير أربعين يوما؟ بل أأردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم غضب ونقمة وعقوبة من ربكم؟ فأخلفتم موعدي، إذ وعدتموني أن تقيموا على طاعة الله عز(2/1542)
وجل، إلى أن أرجع إليكم من جبل الطور، والمراد: هل طال العهد عليكم، فنسيتم أو أردتم المعصية فأخلفتم؟! أجابوه قائلين: ما أخلفنا عهدك ووعدك، باختيارنا وإرادتنا، بل كنا مضطرين إلى الخطأ، وذلك أننا حمّلنا أثقالا من زينة القوم، أي الأقباط المصريين، حين خرجنا من مصر معك، وأوهمناهم أننا نجتمع في عيد لنا أو وليمة، وسميت الحلي أوزارا، أي آثاما، لأنه لا يحل لهم أخذها.
فأخرج السامري لبني إسرائيل من الحلي الذهب الملقى في النار جسد عجل، لا روح ولا حياة فيه، له خوار العجول، بتصنيعه بطريقة فنية، حيث عمل فيه خروقا، وألقى فيه رملا من أثر جبريل الأمين، فكان إذا دخلت الريح في جوفه خار، والخوار: صوت البقر.
فقال السامري ومن فتن به لبني إسرائيل: هذا هو إلهكم وإله موسى، فاعبدوه، ولكن موسى نسي أن يخبركم أن هذا إلهكم، أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يكلمهم إذا كلموه، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضررا، أو يجلب لهم نفعا، فكيف يتوهم أنه إله؟!
عتاب موسى لهارون والسامري على تأليه العجل
اشتد غضب موسى عليه السلام على اتخاذ قومه العجل إلها من دون الله، فعاد بعد مكالمة ربه وتلقيه الألواح إلى قومه، فوبخهم واستهجن فعلهم، وعاتب أخاه هارون على سكوته على بني إسرائيل في عبادتهم العجل، وهدد موسى السامري بعقاب الله في الدنيا والآخرة، ونبذه من القوم، وألقى موسى عليه السلام العجل في البحر، وأعلن أن الله وحده هو الإله الحق، الذي وسع علمه السماوات والأرض،(2/1543)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
وليس الجماد أو الحيوان الذي لا يضر ولا ينفع، وهذا ما دوّنته الآيات التالية، قال الله تعالى:
[سورة طه (20) : الآيات 90 الى 98]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [طه: 20/ 90- 98] .
هذا حوار حادّ بين موسى وهارون عليهما السلام وموسى السامري الذي اخترع عبادة العجل، وكان هارون في أثناء غيبة أخيه موسى، قال لقومه الذين تورطوا في عبادة العجل أول الأمر: إنما هو فتنة وبلاء وتمويه من السامري، وإن ربكم الرحمن الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع، فاتبعوني إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه، وأطيعوا أمري فيما ذكرته لكم.
فقال بنو إسرائيل حين وعظهم هارون عليه السلام، وندبهم إلى الحق. لن نبرح عابدين لهذا الإله، عاكفين عليه، أي ملازمين له حتى يعود إلينا موسى. والعكوف:
الانحناء على الشيء من شدة ملازمته.
__________
(1) ما حملك.
(2) ما شأنك الخطير.
(3) علمت بالبصيرة.
(4) ألقيتها في الحلي المذاب.
(5) زيّنت. [.....]
(6) لا تمسّني ولا أمسك.
(7) ندمرنه.(2/1544)
قال موسى لهارون حين رجع بعد تكليم ربه في الميقات: ما الذي منعك من اتباعي إلى جبل الطور، واللحوق بي مع الباقي من المؤمنين، فتخبرني بهذا الأمر، أول وقوعه؟ كيف خالفت أمري لك بالقيام لله، ومنابذة من خالف دينه؟ وكيف أقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها؟ قال هارون مجيبا أخاه موسى عليهما السلام: إني خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يقتتلوا ويتفرقوا، فتقول: إني فرقت جماعتهم لأنه لو خرج لتبعه جماعة منهم، وتخلّف مع السامري عند العجل آخرون، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم، وحينئذ تقول: لم تعمل بوصيتي لك فيهم ولم تحفظها، وهي قوله المتقدم: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ.
ثم كلم موسى عليه السلام موسى السامري رأس الفتنة، موبخا ومستنكرا: ما شأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ قال السامري: رأيت جبريل الرسول حين جاء لهلاك فرعون على فرس، فأخذت قبضته من أثر فرسه- والقبضة: ملء الكف بأطراف الأصابع، وكان ذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حيا- فطرحتها في الحلي المذابة المسبوكة على صورة العجل، فصنعت لهم تمثال إله، حينما رأيتهم يطلبون منك أن تجعل لهم إلها كإله المصريين عبدة الأصنام. وكما زينت لي نفسي السوء، زينت لي وحسّنت هذا الفعل بمحض الهوى.
فأخبره موسى بجزائه في الدنيا والآخرة فقال: اذهب يا سامري، فعقوبتك في الدنيا أن تصير منبوذا، وتذهب من بيننا وتخرج عنا، وأن تقول ما دمت حيا: لا مساس بيني وبين أحد. وعقوبتك في الآخرة: أن لك موعدا للعذاب، لا يخلفه الله، بل سينجزه، وهو يوم القيامة.
وأما إلهك المزعوم الذي اتخذته معبودا ولازمت عبادته: لنحرقنه تحريقا بالنار، ثم لنبددنّه في البحر، وننسفه نسفا شديدا.(2/1545)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
ثم قال موسى لقومه: إن هذا العجل الذي فتنكم به السامري ليس بإله، إنما إلهكم الله، الذي لا إله إلا هو، فهو سبحانه المستحق للعبادة، ولا تصح العبادة إلا له، فكل شيء مفتقر إليه، وعبد له، وهو عالم بكل شيء، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا.
جزاء المعرضين عن القرآن الكريم
القرآن العظيم: هو كتاب حق وهداية، ونور وإسعاد للبشرية، فمن عمل به فاز، ومن أعرض عنه خاب وخسر، وتعرّض لألوان العذاب والعقاب يوم القيامة لأن الله تعالى خالق الخلق ورازق الأمم والأفراد أراد أن ينظم لهم حياتهم، فأنزل القرآن من أجل التنظيم الحياتي والحياة السعيدة، ويكون المعرض عن القرآن مؤثرا الحياة الفوضوية، والأهواء التي لا تؤدي في النهاية إلا إلى الدمار والخراب. قال الله تعالى واصفا جزاء المعرضين عن آي القرآن الكريم في الآيات التالية:
[سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)
«1» «2» «3» «4» [طه: 20/ 99- 104] .
هذه الآيات الشريفة مخاطبة للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، أي كما قصصنا عليك نبأ بني إسرائيل في خبر العجل وعبادتهم له، كذلك نقص عليك أخبار الأمم السابقة، كما
__________
(1) عقوبة ثقيلة.
(2) أي سود الألوان زرق العيون والأجساد، وهي غاية في التشويه، لأنهم كلون الرماد.
(3) يتسارّون.
(4) أعدلهم وأفضلهم رأيا.(2/1546)
وقعت، من غير زيادة ولا نقصان، لتكون عبرة وعظة، وذات فائدة في فهم ظروف الأحداث الجديدة، وأحوال الأمة في معاداة رسولها. وقد أعطيناك من عندنا ذكرا، وهو القرآن المجيد، لتتذكر به على الدوام، ولأنه لم يعط نبي من الأنبياء قبلك مثله، ولا أكمل منه، ولا أجمع لخبر المتقدمين غيره، وفيه صلاح الدين والدنيا والآخرة، ويكون المراد من كلمة (الذكر) القرآن.
وكل من كذب بالقرآن وأعرض عن اتباعه، فلم يؤمن به، ولا عمل بشرائعه وأحكامه، وابتغى الهدى في غيره، فإن هذا المعرض يتحمل إثما عظيما، ويتعرض لعقوبة ثقيلة يوم القيامة، بسبب إعراضه عن كتاب الله، كما جاء في آية أخرى:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 11/ 17] .
والإعراض عن القرآن يشمل كل من بلغه هذا الكتاب، من العرب والعجم من أهل الكتاب وغيرهم من الوثنيين والماديين، وأصحاب النّحلات والملل، والمذاهب الفاسدة، والعقائد الباطلة.
ويكون أولئك المعرضون عن القرآن خالدين ماكثين على الدوام في الجزاء الأخروي، وهو النار لا محيد لهم عنه، وبئس الحمل الذي حملوه حملهم من الأوزار والأثقال، جزاء إعراضهم.
إن يوم القيامة: هو اليوم الذي ينفخ فيه في الصور النفخة الثانية، نفخة البعث التي يحشر الناس بعدها للحساب، وفي هذا اليوم يجمع المجرمون أيضا: وهم المشركون والعصاة، سود الألوان، زرق العيون والأبدان، كلون الرماد، وهذا غاية التشويه والإساءة، علامة على سوء أحوالهم، وإنذارهم بسوء الحساب والعقاب، وما يتعرضون له من الأهوال العظام.
هؤلاء المجرمون المحشورون على أسوأ حال ولون يتخافتون، أي يتسارون فيما(2/1547)
بينهم، في مدة البقاء في الدنيا، فيقول بعضهم لبعض: ما لبثتم في الدنيا إلا قليلا بمقدار عشرة أيام أو نحوها، إنهم يجدون مدة بقائهم في الدنيا أو القبور قصيرة جدا، إذا قورنت بأيام الآخرة، فقوله تعالى عن المجرمين: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ يتسارّون، والمعنى: أنهم لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم وأفكارهم، قد عزب عنهم قدر المدة التي لبثوها في الدنيا ومدة العمر. وعبّر الله تعالى عن قصر المدة بالعشر لأن القليل في مثل هذا الموضع لا يعبر عنه إلا بالعشر.
ثم يقول الله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ... أي نحن أعلم بما يتناجون، وبما يقولون في مدة لبثهم أو مكثهم، حين يقول أمثلهم طريقة، أي أعدلهم قولا، وأكملهم رأيا وعقلا، وأعلمهم بالحقيقة: ما لبثتم إلا بمقدار يوم واحد، لأن دار الدنيا كلها، وإن طالت في أنظار الناس، كأنها يوم واحد: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 22/ 47] .
وهذا يدلّنا على أن معايير الزمن ومقاييسه، تتغير عند الله في الآخرة، فليس اليوم أو السنة من أيام وسنين الدنيا شيئا يذكر بالنسبة للآخرة، فهو كالساعة أو اللحظة، وفي هذا رهبة وإثارة خوف وفزع، والحق أن أهوال الآخرة تلجم الألسنة، وتخرس الأفواه، وتشتت الأذهان والأفكار، وتوقع النفوس في الحيرة والقلق والدهشة، فتصير الموازين مختلة، والحسابات مضطربة.
تغير أوضاع الدنيا يوم القيامة
قد يظن بعض الناس من الطبيعيين والماديين أن نظام الكون من الأرض والسماء يدوم على هذه الحال في عالم القيامة، وهذا خطأ بيّن لأن اختلاف الأشياء يستتبع اختلاف الأحوال، فلا نشاهد يوم القيامة عالم السماء الحالي، ولا نظام الأرض(2/1548)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
القائم في الدنيا، مما فيه من جبال ووديان، وسهول وأنهار، كل ذلك يتغير ويتبدل، وتزول الجبال من أماكنها، وتتبدد الكواكب والنجوم والمجرّات، وتملأ الرهبة النفوس، وتخشع الأصوات، وتحتبس الأنفاس، وتخضع الوجوه للحي القيوم، القائم بكل شيء ومدبره، وهذا ما دوّنته الآيات التالية:
[سورة طه (20) : الآيات 105 الى 112]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» »
[طه: 20/ 105- 112] .
روى ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش: يا محمد، كيف يفعل ربك بهذه الجبال، يوم القيامة؟ فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ.. الآية.
وقيل: إن رجلا من ثقيف سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الجبال، ما يكون أمرها يوم القيامة؟. هذه أسئلة غير المؤمنين بالحشر والقيامة حول الجبال والأرض. إن المشركين يسألونك أيها النبي الرسول عن حال الجبال يوم القيامة، هل تبقى أو تزول؟ فقل: يزيلها الله ويذهبها عن أماكنها، ويدكها دكّا ويجعلها هباء منثورا.
روي أن الله تعالى يرسل على الجبال ريحا، فيدكّها حتى تكون كالعهن المنفوش، ثم تتوالى عليها حتى تعيدها كالهباء المنبث، فذلك هو النسف.
فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) أي فيترك مواضع الجبال بعد نسفها أرضا ملساء
__________
(1) يقتلعها.
(2) أرضا ملساء.
(3) أرضا مستوية.
(4) مكانا منخفضا.
(5) أي انخفاضا وارتفاعا.
(6) لا يعوج له مدعو.
(7) صوتا خفيا.
(8) أي خضعت وانقادت. [.....]
(9) نقصا من ثوابه.(2/1549)
مستوية، بلا نبات ولا بناء، ولا انخفاض ولا ارتفاع، فلا تجد مكانا منخفضا ولا مرتفعا، ولا واديا ولا رابية أو هضبة. فكلمة (قاعا) أي مستويا من الأرض، المعتدل الذي لا نشز (مرتفع) فيه. والصفصف نحو القاع في المعنى، أي أرضا ملساء مستوية.
وحينئذ يوم تتبدل أوضاع الأرض، يتّبع الناس داعي الله إلى المحشر، مسارعين إلى الداعي، حيثما أمروا بادروا إليه، لا معدل لهم عن دعائه، فلا يقدرون أن يميلوا عنه، أو ينحرفوا عنه، بل يسرعون إليه.
وسكتت الأصوات رهبة وخشية، وإنصاتا، لسماع قول الله تعالى، فلا تسمع إلا همسا، أي صوتا خفيا.
في ذلك اليوم يوم الحشر والجمع لكل البشر، لا تنفع شفاعة أحد إلا من أذن له الرحمن أن يشفع، ورضي قوله في الشفاعة لأن الله تعالى هو المالك المتصرف في الخلق جميعا في الدنيا والآخرة.
والسبب في تقييد الشفاعة بالإذن والرضا الإلهي أن الله تعالى يعلم جميع أحوال عباده، مما يلقونه يوم القيامة، وما خلفوه أو تركوه من أمور الدنيا، ولا تحيط علوم الخلائق بذات الله تعالى ولا بصفاته ولا بمعلوماته.
وذلّت الوجوه وخضعت، واستسلمت النفوس والخلائق كلها للإله الأحد الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيّم على كل شيء يدبره ويحفظه، فهو سبحانه قائم بتدبير شؤون خلقه وتصريف أمورهم، وقد خسر من حمل شيئا من الظلم والشرك. وخص الوجوه بالذكر، لأن الخضوع بها يبين، وفيها يظهر.
هذا حال الظالمين الجاحدين، وأما المؤمنون الموحدون الذين يعملون الأعمال الصالحة من الفرائض المطلوبة والواجبات المشروعة، وهم يقرنون بعملهم الإيمان الثابت الصحيح بالله ربا، وبالرسل مبلّغين، وبالكتب للبيان، واليوم الآخر(2/1550)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
للحساب وإحقاق الحق، هؤلاء لا يخشون ظلما ولا هضما لحقوقهم، فلا يزاد في سيئاتهم بأن يعاقبوا بغير ذنب، ولا ينقص من ثواب حسناتهم.
والفرق بين الظلم والهضم: أن الظلم أعم من الهضم، وهما متقاربان في المعنى، ويتداخلان، وهما يشملان ميدان الحسنات والسيئات، أما الحسنات فلا ينقص منها شيء، وأما السيئات فلا تعظم ولا تكثر أكثر مما يجب.
إنزال القرآن عربيا
كانت رسالة الإسلام في أرض العرب، فكان منطقيا أن يكون الرسول عربيا من جنس قومه، وأن يكون الكتاب المنزل عليه عربيا، ليتمكن العرب من فهمه وتبليغه للناس، وأن يفخر العرب إلى يوم القيامة بأن يكون كلام الله ووحيه عربيا، فجدير بالأمة العربية أن تنصاع لهدي القرآن المجيد، الذي كانت ألفاظه وتراكيبه، وتشبيهاته واستعاراته، وحقائقه ومجازاته، من محور العربي بنية وتركيبا، وأن يحملوه لأنحاء العالم مبشرين ومنذرين، وأن يحافظوا عليه دستورا أبديا للحياة، بكل وسيلة لحفظ وجودهم وكيانهم، قال الله تعالى واصفا لغة القرآن:
[سورة طه (20) : الآيات 113 الى 114]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)
«1» «2» [طه: 20/ 113- 114] .
روى ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه جبريل بالقرآن، أتعب نفسه في حفظه، حتى يشق على نفسه، فيخاف أن يصعد جبريل، ولا يحفظه، فأنزل الله عليه: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ الآية.
__________
(1) كررنا فيه أساليب مختلفة.
(2) أن يفرغ ويتم إليك.(2/1551)
وجاء في الصحيح أن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعالج من الوحي شدة، فكان يحرك به لسانه، فأنزل الله هذه الآية. يعني أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا جاءه جبريل بالوحي، كلما قال جبريل آية، قالها معه، من شدة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه، لئلا يشق عليه.
والمعنى: كما قدّرنا أحوال الخليقة، وجعلنا أمور الآخرة حقيقة أمام العباد، كذلك حذّرنا هؤلاء أمر القيامة، وأنزلنا القرآن عربيا، وتوعدنا فيه بأنواع من الوعيد، لعلهم- بحسب توقع البشر وترجّيهم- يتقون ويخشون عقابه، فيؤمنون ويتذكرون نعم الله، وما حذّرهم من أليم عقابه، أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أي أو يكسبهم شرفا، ويبقي عليهم إيمانهم، وذكرا صالحا في الغابرين، فيكون القرآن خيرا للعرب، إنه نزل بلغتهم مبشرا ومحذرا، وكان وسيلة وسببا لرفع شأنهم وإعلاء منزلتهم، على ممر الدهر والتاريخ.
وناسب تعظيم شأن القرآن إبانة ما يلازمه: وهو تعظيم منزل القرآن، وهو الحق سبحانه وتعالى، لذا قال الله بعدئذ: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي تقدس وتنّزه الله الملك، المتصرف بالأمر والنهي، الثابت الذي لا يزول ولا يتغير، تعاظم وتنزه عن إلحاد الملحدين، وعما يقول المشركون، فإنه الملك حقا، الذي بيده الثواب والعقاب والسلطان كله. وحقه وعدله تعالى: ألا يعذب أحدا قبل الإنذار وبعثة الرسل والإعذار إلى خلقه، لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.
والمناسبة واضحة بين هذه الآية وما قبلها، لأنه سبحانه لما أبان صفة سلطانه يوم القيامة، وعظم قدرته، وذلة عبيده وتلطفه بهم، ختم ذلك بهذه الكلمات، بوصف الله أنه صاحب الملك والسلطان، وهو الإله الحق الثابت، الذي لا يزول، ولا ينازعه أو ينافسه أحد في ألوهيته.(2/1552)
وحفاظا على القرآن المجيد، وتثبيتا له من المحو والنسيان، طبعه الله في قلب نبيه محمد كالنقش في الحجر، بحيث لا يزول ولا ينسى، وتكفّل الله بهذا، ونهى نبيه بألا يتعجل أو يبادر إلى قراءة القرآن قبل أن يفرغ جبريل من إنزال الوحي، حرصا منك على ما ينزل عليك، بل أنصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك، فاقرأه بعده، وكان النبي يقرأ قبل أن يستتم جبريل عليه السلام الوحي، فنهي عن ذلك كما جاء في آية أخرى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)
[القيامة: 75/ 16- 19] .
وزيادة في إلقاء الطمأنينة على قلب النبي، أوحى الله إليه أنه سيعلّمه علم ما لم يعلم، وأنه ينمي له علومه ومعارفه على الدوام، لذا علّمه بأن يطلب دائما الاستزادة من المعلومات والمعارف، قائلا له: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي اطلب واسأل ربّك زيادة العلم،
روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علما، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» .
قصة آدم في الجنة
خلق الله تعالى آدم عليه السلام وأسكنه في جنة الخلد، واقتضت إرادة الله وحكمته أن ينزل آدم إلى الأرض، وبدأت القضية في توجيه الأمر الإلهي لآدم ألا يأكل من شجرة معينة امتحانا له في الطاعة وتنفيذ أمر الله، وكرم الله آدم بأن تسجد له الملائكة جميعا، فسجدوا إلا إبليس، فحذر الله تعالى آدم من عداوة الشيطان له ولزوجه، ومحاولة إخراجهما من الجنة، فنسي آدم هذا التحذير، ووسوس له(2/1553)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
الشيطان أن يأكل من شجرة الخلد، فأكل منها هو وزوجه، وعصى أمر الله ووحيه، وغوى وحاد عن طريق الرشد والهداية، قال الله تعالى مبينا هذه الأحوال:
[سورة طه (20) : الآيات 115 الى 121]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [طه: 20/ 115- 121] .
يقسم الله تعالى في هذه الآيات بأنه قد عهد إلى آدم، أي وصّاه بألا يأكل من الشجرة في الجنة (شجرة معينة) فنسي ما عهد الله به إليه، وترك العمل بمقتضى العهد الإلهي، فأكل من تلك الشجرة، ولم يكن عنده قبل الأكل عزم وتصميم على ذلك، فإنه على العكس قد صمم على ترك الأكل، ثم فتر عزمه، وعند ما وسوس إليه إبليس بالأكل، فلم يصبر عن أكل الشجرة.
والمراد بعهد الله: أمره أو نهيه، ويراد به هنا ألا يأكل من الشجرة ولا يقربها، ولكنه النسيان الذي هو من شأن البشر قد يكون سببا للمعصية، والتذكر وقوة العزم سبب الخير والرشد، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 7/ 201] .
وعلى الرغم من نسيان آدم أمر ربه، ذكّر الله نبيه وطالبه أن يقص الخبر على قومه، وهو أنه تعالى أمر الملائكة كلهم بالسجود سجود انحناء وتحية، لا سجود
__________
(1) أمرناه.
(2) امتنع من السجود تكبرا.
(3) لا تتعرض لعري.
(4) لا تبرز للشمس.
(5) لا يزول.
(6) أخذا يلصقان.
(7) خالف النهي سهوا أو متأولا.
(8) ضل عن مطلوبه.(2/1554)
تعظيم وعبادة، تكريما وتشريفا لآدم، فسجد الملائكة كلهم جميعا إلا إبليس أبى واستكبر، ورفض السجود، لأنه كان حسودا جحودا.
فقال الله: يا آدم، إن إبليس عدو لك ولزوجك، فلم يسجد لك وعصاني، فلا تطيعاه، ولا يكونن سببا لإخراجكما من الجنة، فتتعب في حياتك الدنيا في الأرض، في تحصيل وسائل المعاش كالحرث والزرع، أو لا يقع منكما طاعة للشيطان في إغوائه، فيكون ذلك سبب خروجكما من الجنة، وسببا للشقاء، أي التعب من عناء الزرع وغيره.
إن لك في الجنة تمتعا بأنواع المعايش، فلا تجوع ولا تتعرى، ولا تعطش في الجنة، ولا يؤذيك الحر ولا تتعرض لأشعة الشمس الحادة، كما يكون لسكان الأرض، ويتبين الفرق بين النعيمين، نعيم الجنة خالد دائم لا عناء فيه، ونعيم الدنيا مؤقت مقرون بأنواع المتاعب والمخاطر.
فوسوس الشيطان لآدم، أي كلمه خفية: ألا أرشدك إلى شجرة الخلد: وهي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلا وكان ملكا مخلدا، وألا أدلك على ملك دائم، لا يزول ولا يفنى.
فأكل آدم وحواء من الشجرة التي منعهما الله منها، فانكشفت عورتهما، وسقط عنهما لباسهما، فشرعا يلصقان عليهما من ورق الجنة كالتين وغيره مما هو كبير الورق، فيجعلانه على سوآتهما: عوراتهما، وعصى آدم ربّه، أي خالف أمر ربه، بالأكل من الشجرة المنهي عن الأكل منها، فضلّ عن الصواب، وفسد عليه عيشه.
ومما لا شك فيه أن مخالفة الأمر الواجب من الله أو من غيره معصية، وأن الجزاء حق وعدل على المعصية، لكن معصية آدم من نوع خاص، بترتيب وتدبير وإرادة من الله عز وجل.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن(2/1555)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حاجّ موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك، وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله علي، قبل أن يخلقني، أو قدّره الله علي قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فحجّ آدم موسى» .
إن معصية آدم وغوايته، أي بعده عن الرشد، لم تكن بتصميم وعزم، وإنما صدرت منه في حال النسيان للأمر الإلهي، ليترتب على ذلك الإخراج من الجنة، وتوالد البشرية، وعمارة الكون بالناس.
إنزال آدم إلى الدنيا
رحمة الله تعالى بعباده تسبق دائما غضبه، فالإنسان يخطئ ويصيب، بسبب نسيانه وضعفه وتغلب شهواته عليه، ولكن المؤمن العاقل سرعان ما يبادر إلى التوبة والإنابة، والاستقامة والاستغفار من سوء فعله، وتورّطه في مخالفة أمر ربه، والله تعالى بلطفه وكرمه وفضله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهكذا حدث لآدم عليه السلام، عصى ربه نسيانا لا عمدا، ليتم تقدير الله، ولكن كان جزاؤه بالحق والعدل، ثم اجتباه ربه وهداه لصالح الأقوال والأفعال، وأنزله من علياء الجنان إلى قيعان الدنيا ومعكراتها، وهذا ما وصفته الآيات التالية:
[سورة طه (20) : الآيات 122 الى 127]
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126)
وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)
«1» «2»
__________
(1) اصطفاه للنبوة.
(2) ضنكا أي معيشة ضيقة ومعاناة.(2/1556)
[طه: 20/ 122- 127] .
تضمنت هذه الآيات لآدم عليه السلام أمورا ثلاثة: الرجوع به من حال المعصية إلى حال الندم، وهدايته لصالح الأقوال والأعمال، وإمضاء عقوبته عز وجل في إهباطه من الجنة إلى عالم الدنيا. وفي الدنيا إنذار لآدم وذريته، فحواه أن المستقيم على أمر الله يلقى السعادة، والمعرض عن ذكر الله يتلقى ألوان المعيشة الشديدة المتعبة.
والمعنى: لقد اصطفى الله تعالى آدم عليه السلام وقرّبه إليه، بعد أن تاب من المعصية (وهي الأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها) وطلب المغفرة من ربه، وأقر بأنه قد ظلم نفسه، فتاب الله عليه من غلطته، وهداه إلى التوبة وإلى سواء السبيل.
ثم قال الله تعالى لآدم وزوجه حواء: انزلا من الجنة إلى الأرض معا، بعضكم يا معشر البشر في الدنيا عدو لبعض، في شأن المعاش وتنافس الدنيا وأطماعها، مما يؤدي إلى وقوع الخصام والاقتتال.
فإن يأتكم أيها البشر مني هدى، بوساطة الأنبياء والرسل، وإنزال الكتب المنذرة والمبشرة، فمن اتبع هدى ربه وآمن به، فإنه لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة.
ومن أعرض عن ذكر الله وكفر به، فإن له معيشة ضنكا، أي معيشة نكدة شاقة في المنازل، أو في الحروب ونحوها، ووقت هذه المعيشة في عالم الدنيا قبل يوم القيامة.
والمعنى: أن المعرض عن ذكر الله وهو الكافر، وإن كان متسع الحال والمال، فمعه من ألوان الحرص والقلق والهموم والتعذيب النفسي في أمور الدنيا أو في البرزخ في القبر، ما يصيّر معيشته ضنكا وشدة، فتكون العبرة بسعادة النفس وراحة البال والاطمئنان. ثم نحشره ونبعثه في الآخرة أعمى البصر والبصيرة، تائه الدرب، متخبطا في ألوان العذاب يوم القيامة.(2/1557)
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى أي أشد وأبقى من كل ما يقع عليه الظن والتخيل، كما جاء في آية أخرى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء: 17/ 97] .
قال المعرض عن ذكر ربه: يا رب، لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، أي لماذا بعثتني أعمى البصر، وقد كنت مبصرا في دار الدنيا؟
فأجابه الله تعالى: مثل ذلك فعلت أنت، فكما تركت آياتنا وأعرضت عنها ولم تنظر فيها، تترك الآن في العمى والعذاب في النار، ونعاملك معاملة المنسي، كما قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا [الأعراف: 7/ 51] فإن الجزاء من جنس العمل.
وهكذا نجازي ونعاقب المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة، وكما وصف الله من أليم الأفعال، نجزي المسرفين المخالفين، ولعذاب الآخرة في النار أشدّ ألما من عذاب الدنيا وأدوم عليهم، فهم مخلّدون فيه، كما جاء في آية أخرى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)
[الرعد: 13/ 34] .
إن جزاء المسرفين المعتدين الكافرين بالله عز وجل جزاء ثابت في الحياتين الدنيوية والأخروية، وهو حق وعدل لأن الله تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله، وأبان شرائعه ونظمه، ليسير الناس على نهجها، ويلتزموا بها، فإن كذبوا وأعرضوا عن بيان الله، استحقوا العقاب الأليم والجزاء الشديد، وذلك منطق العدل والحكمة والمصلحة.
العبرة من إهلاك بعض الأقوام
في التاريخ القديم والحديث عبر وعظات، وتوجيه للأنظار بأن ما حدث للماضين بسبب تكذيب الرسل والأنبياء، قد يحدث للأقوام الآتية بعدهم، إذا ساروا في(2/1558)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
مسيرة من تقدمهم، وتقديم الإنذار لأهل العقل، والإدراك والوعي يعدّ أسلوبا إعلاميا مفيدا ومؤثرا، إذا اتعظ به القوم، وإذا لم يتعظوا فما على أهل الفكر والوعي والإيمان إلا الإصرار على عقيدتهم، والصبر على أذى قومهم، واللجوء إلى الصلاة التي تقوّي العزائم، وتعتصم بالصلة القوية بالله تعالى والاتكال عليه، وطلب النجدة والعون منه، وهذا ما وجّهت إليه الآيات التالية:
[سورة طه (20) : الآيات 128 الى 132]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [طه: 20/ 128- 132] .
هذه حملة توبيخ وتقريع لقريش وأمثالهم من مكذّبي رسالة النبي محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فإنهم لم يتبين لهم خبر من أهلكهم الله من الأمم السابقة؟ حالة كونهم يمشون في منازلهم التي دمّرت، وصارت خاوية على عروشها، ولم يبق من الطوائف التي كانت قريش تمر على بلادهم إلى الشام وغيره، كعاد وثمود، وأصحاب الأيكة وقوم لوط، أثر ولا عين: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل: 27/ 52] . أفلم يهد لهم أو يتبين ما جعل الله لهم من الآيات الواضحات للعظة والعبرة، إن في ذلك لعلامات واضحات لأولي النهي والعقل. والمتأمل بما حدث يتعظ وينزجر، ويبادر إلى تغيير عقيدته الفاسدة، وترك ضلالته الخاسرة، كما جاء في
__________
(1) أي يبين. [.....]
(2) أي الأمم الماضية.
(3) لأولي العقول والبصائر.
(4) يوم القيامة، معطوف على: كلمة.
(5) صلّ.
(6) ساعاته.
(7) أصنافا من الكفار.
(8) زينتها.
(9) لنجعله فتنة لهم.(2/1559)
آية أخرى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) [الحج: 22/ 46] .
ولقد أخّر الله العذاب المستحق لمكذبي الرسل، والسبب في تأخير العذاب عنهم هو صدور وعد سابق من الله سبحانه بتأخير عذاب أمة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الدار الآخرة، ولولا هذا التأخير النافذ، لكان عقاب ذنوبهم لازما لهم، لا يفارقهم بحال. ثم نهى الله نبيه عن الافتتان بمظاهر الدنيا، فلا تنظر أيها النبي إلى ما عند هؤلاء المترفين من ألوان النعيم ومتع الدنيا، من أجل اختبارهم بها، والتعرف على شاكريها، لقد يسر الله لك رزقك في الدنيا، فالله رازقك، وثواب الله وفضله في الآخرة خير من رزقهم وأدوم وأخلد.
ثم آنس الله نبيه، وأمره بالصبر على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله من أنك ساحر كذاب، أو مجنون، أو شاعر ونحو ذلك من أباطيلهم ومطاعنهم، لا تأبه بهم، فإن لعذابهم وقتا معينا لا يتقدم، واشتغل بتسبيح ربك، أي تنزيهه وشكره وأداء الصلوات المفروضة قبل طلوع الشمس، أي صلاة الفجر، وقبل غروبها، أي صلاة العصر والظهر، ومن ساعات الليل، أي صلاة العشاء والمغرب وقيام الليل، وفي أطراف النهار، أي صباحا عند الفجر ومساء عند الغروب، وتأكيدا لهاتين الصلاتين الواقعتين طرفي النهار، سبّحه في هذه الأوقات، رجاء أن تنال عند الله تعالى ما ترضى به نفسك من الثواب، كما جاء في آية أخرى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) [الضحى: 93/ 5] .
وأمر أيها الرسول أهل بيتك لإنقاذهم من العذاب بإقام الصلاة واصبر أنت وهم على فعلها، لا نطلب منك رزقا ترزق نفسك وأهلك بل تفرغ للعبادة والتقوى، فنحن نرزقك ونزرقهم: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) [الذاريات: 51/ 58] .
والعاقبة المحمودة وهي الجنة لأهل التقوى والطاعة. فإذا أقمت الصلاة مع أهلك،(2/1560)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما جاء في آية أخرى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 65/ 2- 3] .
أخرج مالك والبيهقي عن أسلم قال: كان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي، حتى إذا كان آخر الليل، أيقظ أهله للصلاة، ويقول لهم:
الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية.
وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنّى، وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسدّ فقرك» .
طلب المعجزات المادية من المشركين
إذا أفلس الناس في مجال المنطق والبرهان العقلي والدليل الفكري، لجؤوا عادة على سبيل المكابرة والتحدي إلى المطالبة بالمعجزات المادية غير المعقولة، وتمسكوا بالمستحيل من أجل إظهار الضعف وإبطال المبدأ وإخراس كلمة الحق والهداية والرشاد، وهذا ما فعله كبار المشركين من قريش في مكة، تمسكا بعبادة الوثنية، وتحديا للنبوة ورسالة السماء، وإصرارا على أبهة الزعامة والرياسة في أرجاء مكة وأمام العرب قاطبة، وإحراجا لنبي الله الذي هو بشر يؤيده الله بما شاء من المعجزات، وهذا التعنّت والعناد دوّنته آيات من القرآن الكريم لإظهار موقف المكابرين والمعاندين وإبطالا لأقوالهم، وتجميدا لمواقفهم وأفعالهم، قال الله تعالى:
[سورة طه (20) : الآيات 133 الى 135]
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
«1»
__________
(1) أي مشركو مكة.(2/1561)
«1» «2» «3» [طه: 20/ 133- 135] .
هذا لون من أباطيل قريش وأقاويلهم الفارغة، فإنهم كذبوا بالقرآن المعجزة، الخالدة الساطعة، على الرغم من تحديهم به وطلب معارضتهم له، فزعموا أن القرآن ليس بحجة ولا معجزة تدل على صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وطالبوا بمعجزات أخرى، قائلين: هلّا يأتينا محمد بآية بيّنة من ربه، ذات صفة مادية، تدل على صدقه في أنه رسول الله، مثل المعجزات المادية للأنبياء السابقين، كعصا موسى، وناقة صالح، وإحياء عيسى الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فردّ الله تعالى عليهم موبخا لهم: ألم تأتهم بيّنة الصحف الأولى يعني التوراة، فإنها أعظم شاهد وأكبر آية لمحمد، تدل على صدقه، حين بشّرت به، وذكرت أوصافه الدالة عليه. ألا وإن أعظم آية أو معجزة تصدّق محمدا صلّى الله عليه وسلّم في نبوته ورسالته، إنما هي القرآن العظيم.
ثم أخبر الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام: أنه لو أهلك هذه الأمة الكافرة قبل إرساله إليهم وإنزال القرآن، لقالوا يوم القيامة: يا ربنا هلا كنت أرسلت إلينا رسولا في الدنيا، حتى نتّبع آياتك التي يأتي بها الرسول عادة، من قبل أن نذلّ بالعذاب في الدنيا، ونخزى بدخول النار في الآخرة؟ وهذا دليل واضح على أن التكليف الإلهي والعقاب على التقصير أو المخالفة لا يكون قبل مجيء الشرع من عند الله رب العالمين.
والحق أن هؤلاء المكذبين للرسول في مكة متعنتون معاندون، لا يؤمنون ولو جاءتهم الآيات تتوالى.
فقل لهم أيها النبي: كل واحد منا ومنكم منتظر لما يؤول إليه الأمر، فانتظروا
__________
(1) نفتضح في الآخرة.
(2) أي منتظر ما يؤول إليه الأمر.
(3) الطريق المستقيم.(2/1562)
أنتم، فستعلمون عن قريب في عاقبة الأمر، من هو على الطريق الحق المستقيم، أنحن أم أنتم، وستعلمون من المهتدي على طريق الحق والاستقامة، البعيد عن مهاوي الغواية، السائر على نهج السداد والصواب.
وهذا لون من التوعّد والتوبيخ على خطأ منهج المشركين، وكأنّ هذه الآية قسمت الفريقين: أي ستعلمون هذا من هذا.
أخرج أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحتجّ على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة «1» ، والمغلوب على عقله، والصبي الصغير، فيقول المغلوب على عقله: ربّ، لم لم تجعل لي عقلا؟ ويقول الصبي نحوه. ويقول الهالك في الفترة: يا ربّ، لم لم ترسل إلي رسولا؟
ولو جاءتني لكنت أطوع خلقك لك، قال: فترفع لهم نار، ويقال لهم: ردوها، قال: فيردها من كان في علم الله أنه سعيد، ويكعّ عنها الشقي، فيقول الله تبارك وتعالى: إيايّ عصيتم، فكيف برسلي لو أتتكم؟» .
أما الصبي والمغلوب على أمره فهما غير مكلفين، وهما في الجنة بفضل الله ورحمته من غير حساب ولا عمل ولا عقاب إلا من علم الله شقاوته وهو المعترض. وأما صاحب الفترة: فليس ككفار قريش ممن علم وسمع عن نبوة ورسالة في أقطار الأرض، وإنما هم الذين لا علم لهم برسالة أو نبوة صحيحة، فهؤلاء ناجون، فهم الذين لم يصل إليهم أن الله تعالى بعث رسولا ولا دعا إلى دين، وهؤلاء قليلون في الدنيا، وأهل الفترة ناجون من العذاب إلا من أخبر رسول الله أنه في النار، وربما يكون اعتراض هؤلاء الأصناف الثلاثة حينما يعلمون أنهم في النار، ثم ينجي الله تعالى من علم أنه سعيد فيما لو جاءه رسول.
__________
(1) أي في الفترة ما بين زمني نبيين كما بين عيسى ومحمد عليهما السلام.(2/1563)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
تفسير سورة الأنبياء
الغفلة عن الحساب
كثير من الناس غافل عن المستقبل ومخاطره، ولا ينتظر ولا يفكر إلا في حاضره، بل قد يتغافل عن الماضي لنفسه أو لغيره، وهذا دليل القصور والعجز وقلة الوعي والإدراك، فإن النابه اليقظ هو الذي يحسب للمستقبل ألف حساب، ولا يغفل عما قد يتعرض له من مخاطر واحتمالات. وهذا ينطبق على مسألة الغفلة عن الحساب يوم القيامة، فالناس في لغو ولهو وطرب وهوى لا يفكرون في الآخرة، لذا أنذرهم القرآن، وحذّرهم من مسئوليات الحساب الأخروي، فقال الله تعالى في مطلع سورة الأنبياء المكية:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
«1» «2» «3» [الأنبياء: 21/ 1- 6] .
نزلت الآية الأخيرة كما يلي:
أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة قال: قال أهل
__________
(1) قرب ودنا. [.....]
(2) بالغوا في إخفاء تناجيهم.
(3) أخاليط أحلام.(2/1564)
مكة للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن كان ما تقول حقا، ويسرّك أن نؤمن، فحوّل لنا الصّفا ذهبا، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان، ثم لم يؤمنوا، لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال: بل أستأني بقومي، فأنزل الله: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ.
نبّه الله تعالى في مطلع هذه السورة (سورة الأنبياء) على اقتراب وجود الساعة (القيامة) ودنوّها، وصور لنا هذا بصيغة الماضي، مبينا أنه قد بات في حكم المقطوع به، المقرر القائم، أنه قرب زمان حساب الناس على أعمالهم في الدنيا، وهو اقتراب الساعة، ولكن الناس في حياتهم ساهون غافلون، لاهون معرضون عن التأهب للحساب، والتفكر في الآخرة، وقوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ عام في جميع الناس، وإن كان المشار إليه في وقت نزول الوحي بهذه السورة كفار قريش، بدليل ما بعده من الآيات، وقوله سبحانه: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ يريد الكفار.
ودليل غفلة الناس: أنه ما يأتي الكفار من قريش وأشباههم من قرآن جديد إنزاله، ينزل سورة سورة، وآية آية، على وفق المناسبات والوقائع إلا استمعوه، وهم لاهون ساخرون مستهزءون، متشاغلة قلوبهم عن التأمل وتفهّم معناه، وهذا ذم صريح للكفرة، وزجر لأمثالهم عن تعطيل الانتفاع بما يسعدهم، وقوله تعالى:
مُحْدَثٍ يراد به الصوت المسموع فهو حادث بلا شك، وأما أصل القرآن الذي هو كلام الله فهو قديم بقدم الله تعالى.
وكان حال الكفار عند نزول القرآن: هو التناجي وإخفاء الكلام فيما بينهم، مرددين: هل هذا الرجل محمد إلا بشر كغيره من الناس في عقله، وتفكيره، وتكوينه، فكيف يختص بالرسالة دونكم؟!(2/1565)
أفتتبعونه، فتكونون كمن يأتي السحر، وهو يعلم أنه سحر، أو أتصدقون بالسحر، وأنتم تشاهدون أنه سحر؟! فهم يتهمون النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه ساحر.
قال الرسول بتعليم الله: لا تخفوا ما تقولون، فإن الله ربي وربّكم يعلم ذلك، لا يخفى عليه خافية من أمر السماء والأرض وما يحدث بينهما من أقوال وأفعال، وهو الذي أنزل القرآن العظيم، وهو السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم، وفي هذا تهديد لهم ووعيد.
ثم اشتط مشركو قريش فقالوا عن رسول الله: إن ما يحدث به عن الله مجرد تخاليط أحلام، رآها في المنام، بل إنه افتراه واختلقه من عند نفسه. ولما فرغوا من ترداد هذه المزاعم قالوا: إن كان محمد صادقا في أنه رسول من عند الله أو أن القرآن كلام الله، فليأتنا بآية مادية غير القرآن، كناقة صالح، وعصا موسى، وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى من عيسى.
ثم كشف الله حقيقة ادعاءاتهم ومطالبهم: أنهم يصدرون عن غير إيمان، فما أتينا أهل قرية أو مدينة بعث إليهم رسول من آية، فآمنوا بها، بل كذبوا، فأهلكهم الله بكفرهم، أفهؤلاء أهل مكة يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟! إنهم جماعة مكابرون، لا يؤمنون بشيء مهما جاءتهم الآيات.
بشرية الرسل
كانت اتهامات الرسل من أجل التهرب من الإيمان برسالاتهم غريبة وعجيبة، فمرة يوصفون بالسحر أو الجنون أو الكهانة، ومرة يستنكر كونهم من البشر حين رؤيتهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وحين يفلس المكابرون والمعارضون الألداء من صدّ الناس عن الإيمان برسالة الرسول، يلجأون إلى التهديد بالقتل أو(2/1566)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
الطرد والإبعاد من البلد أو الوطن، ليستريحوا من محاولاته أسلمة الناس وجهوده في إقناعهم بتوحيد الله، والتزام أوامر الله، واجتناب نواهيه ومحظوراته. وهذا الاستغراب من بشرية الرسل دوّنته آيات القرآن الكريم في قوله تعالى:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 7 الى 10]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
«1» «2» [الأنبياء: 21/ 7- 10] .
هذه الآيات الكريمة رد على فرقة من العرب، كانت تستبعد أن يبعث الله من الناس رسولا يتميز على غيره من البشر، بقدر من الفضل بسبب الرسالة أو النبوة، فكان الرد تقرير ظاهرة عامة في الرسل: أنهم من نوع البشر، ليستطيعوا التفاهم مع أقوامهم، ونقاشهم في معتقداتهم، فسنة الله تعالى اقتضت إرسال رجال من البشر أنبياء. إن هذه الظاهرة: هي أن جميع الرسل الذين تقدموا محمدا صلّى الله عليه وسلّم كانوا رجالا من البشر، ولم يكن فيهم أحد من الملائكة، فإن كنتم أيها المستبعدون لهذه الظاهرة البشرية للرسل في شك من كون جميع الرسل بشرا، فاسألوا أهل العلم من الأمم السابقة، كاليهود والنصارى وسائر الأمم: هل كان الرسل الذين أتوهم بشرا أو ملائكة؟ ويوجّه السؤال لعلماء الكتب السابقة فهم أهل الذكر، لتزول الشبهة، ويستقر الأمر في العادة أن رسل الله الموحى إليهم كانوا دائما بشرا، ولم يكونوا ملائكة كما زعموا.
وإنما كانوا بشرا ليتمكن الناس من تلقي الوحي عنهم، والأخذ بما نزل عليهم، وهذا نص صريح في كون الرسل بشرا، وفي كونهم رجالا، لا نساء.
__________
(1) أجسادا.
(2) شرفكم وصيتكم.(2/1567)
وأكد الله تعالى على بشرية الرسل، فقال: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ أي لم نجعل الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين كالملائكة، بل كانوا أجسادا عاديين يتناولون الطعام كغيرهم. وما كتب لهم الخلود والبقاء في الدنيا.
وهذا نفي قاطع لاعتقاد بعض المشركين من ترفع الرسل عن الحاجة إلى الطعام، فهم كسائر البشر يأكلون الطعام، ويتصفون بصفات الإنسان ذاتها، ويتعرضون للمشاعر الإنسانية، من حزن وسرور، ومرض ونوم، ويقظة وانتباه، وحياة أو موت، فلا خلود ولا بقاء لهم في الدنيا.
ويذكر الله بقوله: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ بأنه سبحانه يصون حياة الرسل وكراماتهم، ويصدقهم في الوعد الذي واعدهم به، ألا وهو النصر على أعدائهم، وإنجاؤهم من العذاب، هم ومن يشاء الله من أتباعهم المؤمنين، ويهلك المكذبين منهم، المسرفين على أنفسهم بالكفر والمعصية، والمكذبين بما جاءت به الرسل.
وإثبات بشرية الرسل للرد على المشركين، يناسبه الحديث عن شرف القرآن وفضله، ونفعه للناس، فقال سبحانه: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي تالله لقد أعطيناكم هذا القرآن المشتمل على دستور الحياة الإنسانية الفاضلة، وفي هذا الكتاب عظة وتذكير بمحاسن الأخلاق، ومكارم الشيم، أفلا تعقلون، أي تتدبرون أمركم، وتقدّرون هذه النّعمة، وتتلقونها بالقبول، وتتفكرون بما اشتمل عليه هذا القرآن من العظات والعبر، فتأخذوا بما فيه، وتتجنبوا ما حذّركم منه، أو نهاكم عنه، وهذا حث شديد على تدبر أحكام القرآن، وتعقل ما جاء فيه من أمور الدين والدنيا والحياة.
وقوله سبحانه: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ بيان رفعة العرب، وإعلاء شأنهم ومنزلتهم بين أبناء العالم كله، والرفعة أو العزة لا تعني الأفضلية أو الطبقية أو(2/1568)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
الاستعلاء العنصري، وإنما بيان لحسن السيرة والسمعة، والمركز الأدبي للعرب بين الأمم قاطبة لأن القرآن نزل بلغتهم، والرسول محمد من جنسهم وقومهم، فلا يصح منهم ولا يعقل أن يتركوا الإيمان أو يعارضوا رسول الله، أو يخرجوا عن دائرة طاعته وتوجيهاته وشرائعه التي تحقق لهم السعادة الأبدية الشاملة للدنيا والآخرة، فكان لا بد من تدبر آياته، وتفهم أنظمته السديدة.
الإنذار بعذاب الاستئصال
توعد الله تعالى مكذبي الرسل بعذاب الاستئصال على النحو الذي عذّب به الأمم الماضية لحملهم على الإيمان الطوعي أو الاختياري، وترك العصيان والكفر بالله، ومن المبادئ المعروفة: أن ما جرى على المثيل أو النظير يجري على مثيله ونظيره، للاستواء في سبب العقاب، وتعاطي المنكرات ذاتها التي كانت موجبة للعذاب، قال الله سبحانه مبينا هذه السنة الإلهية:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 20]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)
»
«2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11»
__________
(1) كثيرا ما أهلكنا.
(2) أدركوا عذابنا.
(3) يهربون مسرعين.
(4) نعّمتم فيه.
(5) كالنبات المحصود بالمناجل.
(6) ميتين.
(7) ما يتلهى به من صاحبة أو ولد.
(8) نرمي.
(9) يمحقه.
(10) ذاهب. [.....]
(11) الهلاك.(2/1569)
«1» «2» [الأنبياء: 21/ 11- 20] .
المعنى: وكثيرا ما أهلكنا من أهل المدن والقرى الذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالله وتكذيب الرسل، وأوجدنا بعد إهلاكهم قوما آخرين. وقوله تعالى: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ معناه: أهلكنا أهل القرى في اليمن وغيرها، فلما تيقنوا أن العذاب واقع بهم فعلا لا محالة، كما توعدهم نبيهم، إذا هم يفرّون هاربين منهزمين من قريتهم، لما أدركتهم مقدمات العذاب.
ويقال لهم تهكما واستهزاء حينئذ: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة التي أبطرتكم، وإلى مساكنكم التي اغتررتم بفخامتها، لتسألوا عما كنتم فيه، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، لماذا وقع بكم هذا العذاب؟! وفي الجواب اعتراف بالسبب صراحة، إنهم اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك.
فما زالوا يرددون اعترافهم بالظلم، حتى جعلهم الله مثل الحصيد خامدين بلا حركة. أي لم ينطقوا بغير التأسف. والحصيد يشبّه بحصيد الزرع بالمنجل، أي ردّهم الهلاك كذلك، وخامدين: أي موتى دون أرواح، مشبهين بالنار إذا طفيت.
وإنزال هذا العقاب بهم حق وعدل، فكل ما يصدر عن الله عدل وحق، فالله ما أوجد السماوات والأرض إلا بالحق، أي بالعدل والقسط، لا للهو والعبث، فإنه سبحانه خلق السماء والأرض، لتكون دليلا على معرفة الخالق لها، ولمنافع أخرى دنيوية، وليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
__________
(1) لا يكلّون.
(2) لا يسكنون عن نشاطهم.(2/1570)
ولو أراد الله أن يتخذ لهوا من زوج وولد ونحوهما، لاتخذه من الملائكة والحور العين، إن قصد اللهو واللعب، ولكنه سبحانه منزه عن صفات المخلوقين.
والله من أجل إعلاء كلمة الحق، أبان الحق، ليدحض به الباطل ويزيله، فإذا هو زائل مبدّد، ذاهب مضمحل، فإذا كان هذا من شأن الله، فكيف لا يبّين الحق، وينذر الناس؟ حتى لا يكون لاهيا لاعبا، ولكم أيها الزاعمون أن لله ولدا الويل، أي الهلاك والدمار، والعذاب الشديد، لوصفكم ربكم بما ليس من صفته، وافترائكم عليه أنه اتخذ صاحبة أو زوجة، وولدا.
وكيف يكون لله شريك خاص؟ وهو مالك جميع من في السموات والأرض، وكيف تتنكرون لطاعته؟ وله جميع المخلوقات ملكا وخلقا وعبيدا؟ كل الخلق ومنهم الملائكة طائعون خاضعون لله، دأبهم الطاعة ليلا ونهارا.
وجميع من عند الله من الملائكة لا يترفعون عن عبادته، ولا يعيون ولا يتعبون ولا يملون. وقوله سبحانه: وَمَنْ عِنْدَهُ العندية ليست مكانية، وإنما هي عندية مكانة وتشريف. وتخصيص الملائكة بالذكر هنا، لإبانة رفعة شأنهم.
إن ملائكة الله الكرام يسبحون الليل والنهار، أي يعبدون الله وينزهونه في الليل والنهار، فهم دائبون في العمل ليلا ونهارا، مطيعون قصدا وعملا، قادرون عليه، لا ينقطعون عن الطاعة، ولا يفترون عنها ساعة، كما جاء في آية أخرى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 66/ 6] .
وكل هذا الخلق الأعظم وعبادة الملائكة المستمرة لله دليل على استغناء الله تعالى عن طاعة الكفار لأن الله هو المالك لجميع المخلوقات، لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية.(2/1571)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
مساوئ القول بتعدد الآلهة
إن أخطر آفة أصيب بها العقل البشري: هي القول بتعدد الآلهة، فهي فضلا عن أنها انحدار في مستوى التفكير الإنساني، وسذاجة في التصور، وفساد في الاعتقاد، هي أيضا ذات مساوئ خطيرة في نظام الكون، سمائه وأرضه، لأن تعدد السلطات يؤدي عادة إلى الخلاف والمنازعة، ويترتب على الخلاف والنزاع فساد نظام الأرض والسماء، واضطراب النواميس الكونية والقوانين المحكمة التي بها يصلح النظام الكوني، وقد نبّه القرآن العظيم لمساوئ هذه الظاهرة الوثنية الخطيرة في الآيات الآتية:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 24]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
«1» «2» [الأنبياء: 21/ 21- 24] .
هذه الآيات تفنيد لمزاعم المشركين القائلين بتعدد الآلهة، من غير دليل ولا برهان، وتعرية لمواقفهم المضطربة، وإظهار لحقيقة أمرهم، لقد وقفهم الله تعالى على الحقيقة الماثلة في أذهانهم وعلى ضعف الموقف الذي وقفوه، وهو: هل اتخذوا آلهة يحيون ويخترعون؟ الحق أنه ليست آلهتهم كذلك، فهي غير آلهة إذن، لأن من صفة الإله: القدرة على الإحياء والإماتة، وآلهتهم لا يقدرون على شيء من ذلك، فكيف جعلوها لله ندا وعبدوها معه؟! وهذا تذكير بخواص الألوهية التي منها إحياء الموتى من قبورهم، فإن المشركين بادعائهم الألوهية للأصنام ونحوها، يثبتون لها تلك الصفة، ووصف تلك الآلهة
__________
(1) بمعنى بل مع ألف الاستفهام.
(2) أي يحيون الموتى من قبورهم.(2/1572)
بأنها من الأرض: إشارة إلى أنها من الأصنام المعبودة في الأرض، وهذا تهكم بهم، وتوبيخ، وتجهيل لهم.
ثم أبان الله تعالى مساوئ القول بتعدد الآلهة، فإنها لو وجدت لبغى بعضهم على بعض، وذهب كل إله بما خلق، فأحدهم يرى مثلا تحريك جرم سماوي، والآخر يرى تسكينه، فمحال أن تتم الإرادتان، ومحال ألا تتما جميعا، فلو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله لخربتا وفسد نظامهما. أما إن اتفقا في التصرف في الكون، فلا داعي للتعدد حينئذ، لأنه يؤدي إلى وجود الخلق والأمر والمقدورات من خالقين قادرين على مخلوق واحد، وهذا محال، لأنه يجعل وقوع المقدور بإرادة الاثنين، لا بإرادة واحد منهما، وهذا لا يصح، لأن لكل منهما إرادة مستقلة بالتأثير، فلا يعقل وقوع مخلوق لخالقين.
لذا تنزه الله تعالى وتقدس عن الذي يفترون ويقولون: إن لله ولدا أو شريكا، وتعاظم عما يأفكون تعاظما كبيرا.
وتأكيدا لهذا التنزيه، لا يسأل الله تعالى عن أفعاله، فهو الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله وكبريائه، وإحاطة علمه وروعة حكمته وشمولها، وإنما يسأل خلقه عن أفعالهم، ما عملوا، وما سيعملون.
أيصح بعد هذه الأدلة أن يتخذوا آلهة من دون الله، ويصفوا الله بأن له شريكا، فإن ادعوا الشريك، فليأتوا ببرهانهم على ذلك، إما من العقل وإما من الوحي، ولن يجدوا كتابا من كتب الأولين كالإنجيل والتوراة إلا وفيه تقرير لتوحيد الله وتنزيهه عن الشركاء، كما أن العقل كما تقدم يرفض وجود إلهين.
هذا الوحي الوارد بتقرير توحيد الله ونفي الشركاء عنه، هو ما نزل على النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى جميع الأنبياء السابقين، فهو ذكر، أي عظة للذين مع النبي، أي أمته،(2/1573)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
وعظة للذين من قبله من الأمم السابقة ممن عاصر النبي، فاتفق القرآن وجميع الكتب الإلهية السابقة على مبدأ توحيد الله ورفض الشرك.
بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعرفون الحق، ويعرضون عنه، ولا يميزون بين الحق والباطل، فلا تنفع معهم الأدلة والبراهين، فهم لجهلهم معرضون عن قبول الحق وعن النظر المؤدي إليه. وهذا دليل على أن الجهل أو عدم العلم: هو أصل الشر والفساد كله، وأنه يترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه.
عقيدة التوحيد متفق عليها بين النبوات
توحيد الله تعالى وأنه رب واحد لا شريك له: هو الأصل العتيد والجوهر المطلق في العقيدة الدينية، وفي الفكر الإنساني السوي، فلم تختلف النبوات والرسالات الإلهية في الدعوة إلى توحيد الرب تعالى، ولم يتقبل العقل البشري السديد مبدأ الشرك وتعدد الآلهة، الذي أصبح مرفوضا بأدنى نظرة عقلية رشيدة، وكانت نظريات الفلاسفة والحكماء الإلهيين الأصيلة تؤكد مبدأ وحدانية الخالق، وجاء القرآن الكريم مبينا اتفاق الأنبياء في دعوتهم إلى توحيد الله، فقال الله سبحانه:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 25 الى 29]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
«1» [الأنبياء: 21/ 25- 29] .
__________
(1) خائفون.(2/1574)
أكّد القرآن الكريم مضمون الوحي الإلهي الواحد لجميع الأنبياء، وإعلامه أنه ما أرسل رسولا قط إلا أوحي إليه أن الله تعالى فرد صمد، إله واحد، لا رب غيره، ولا معبود سواه، فكان لزاما على البشر أن يعبدوا الله مخلصين له العبادة، وأن يتجهوا إليه وحده في جميع مطالبهم وتوسلاتهم، دون وسيط ولا شريك، كما جاء في آية أخرى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 16/ 36] . أي ابتعدوا عن كل ما عبد من غير الله. وهذا تنزيه مطلق لله تعالى عن الشركاء.
ثم ضم الله تعالى إلى هذا التنزيه نفي اتخاذ الولد، فلقد كان العرب في الجاهلية مع اتخاذهم آلهة، يقرون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق، إلا أن بعضهم قال: اتخذ الله الملائكة بنات، وبعض الناس اتخذوا نبيهم أو وليهم الصالح ابنا لله، فردّ الله تعالى على جميعهم: بأن الله لم يتخذ ولدا، وأنه منزه عن مقالة الكفرة، فليس الملائكة بنات الله، بل هم عباد مخلوقون لله، مقربون لديه، والعبودية تنافي الولادة وتتعارض معها، فعبيد الله ليسوا أولادا له، كل ما في الأمر أن الملائكة مفضلون على سائر العباد، لتميزهم بالخصائص الآتية:
1- لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يخالفونه فيما أمرهم به، بل يبادرون إلى فعله، وهذا دليل على حسن طاعتهم وعبادتهم ومراعاتهم لامتثال الأمر.
2- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي إن الله تعالى يعلم علما تاما وشاملا كل ما تقدم من أفعال الملائكة وأعمالهم، سواء المتقدم منها والمتأخر، والظاهر منها والباطن.
3- وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أي إن الله أخبر أن الملائكة لا يجرءون أن(2/1575)
يشفعوا بأحد من الناس إلا لمن ارتضى الله أن يشفع لهم، وكان أهلا للشفاعة، فليس لبشر أن يتعلق بشفاعة غير الله، فإن الشفاعة مرتبطة بإذن الله ورضاه.
4- وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي إن الملائكة أنفسهم خائفون حذرون من هيبة الله وجلاله، مراقبون ربهم، مبالغون في الخوف من مصائرهم عند ربهم.
وإذا كان هذا شأن الملائكة مع الله، فالناس أولى بالخوف والخشية والحذر من الله، لتورطهم في المعاصي، لذا استحقوا الإنذار الإلهي بالوعيد الشديد، والتهديد الكبير، فمن يدعي من البشر أنه إله من دون الله، أي مع الله، كإبليس الذي دعا إلى عبادة نفسه، وفرعون الذي ادعى الألوهية والربوبية، فجزاؤه الحتمي جهنم على ادعائه الباطل، أما الملائكة فلم يقل واحد منهم: إني إله غير الله.
ومثل ذلك الجزاء للمتأله المستكبر، يجزي الله بالنار كل جائر ظالم نفسه، خارج عن حدوده وإمكاناته، والظالمون: هم المشركون، فإذا كان الله تعالى يجازي مدعي الألوهية، فهو يجازي الظالمين: وهم كل من أشركوا مع الله إلها آخر، ووضعوا الألوهية والعبادة في غير موضعها. أفبعد هذا النفي الشديد لتعدد الآلهة، وبعد هذا الإنذار الرهيب لمن تورط في الشرك والوثنية يكون لعاقل أن يزعم لنفسه صفة من صفات الله تعالى التي تفرّد بها؟! ومن صفات الله: الجلال والعظمة والكبرياء، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والتدبير المطلق، والإرادة النافذة، والعلم المحيط بكل شيء.
والخلاصة: «كذلك نجزي الظالمين» معناه كجزائنا هذا القائل المدعي الألوهية جزاؤنا الظالمين.(2/1576)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
أدلة توحيد الله تعالى
هناك براهين ملموسة، وأدلة حسية كثيرة مشاهدة، على توحيد الله الإله القادر، وتلك الأدلة واضحة في عظمة هذا الكون، وإحكام صنعه، وإتقان وجوده، وما على الإنسان إلا أن يتأمل تأملا واعيا ودقيقا، فيما اكتشفه العلماء، وما أرشدوا إليه من ثوابت الكون، وآفاقه الرحبة الشاسعة، وقيام كل جزء في الكون بوظيفته التامة، دون تصادم ولا تعارض، ولا شذوذ ولا تعطل، وهذه آيات من القرآن العظيم تورد ستة أدلة على وجود الله ووحدانيته، قال الله تعالى:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [الأنبياء: 21/ 30- 33] .
تضمنت هذه الآيات ستة أدلة على وحدانية الله تعالى، وهي ما يأتي:
1- فصل الأرض عن السماوات بعد أن كانتا كتلة نارية أو غازية ملتهبة، قالت فرقة: كانت السماء ملتصقة بالأرض، ففتقها الله بالهواء، وقال فرقة: كانت السماء ملتصقة بعضها ببعض والأرض كذلك، ففتقها الله سبعا سبعا. والتصاق الأرض بالسماء في كتلة نارية واحدة هي نظرية السديم المعروفة عند العلماء. وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا على أي قول: هي رؤية القلب، لا رؤية البصر، إذ لم يكن الكفار على ظهر الحياة حين الفتق.
__________
(1) كانتا ملتصقتين، والرتق: الملتصق بعضه ببعض، الذي لا صدع فيه ولا فتح.
(2) ففصلناهما.
(3) جبالا ثوابت.
(4) لئلا تضطرب.
(5) طرقا مسلوكة.
(6) مصونا من الوقوع.
(7) يدورون.(2/1577)
2- خلق الله كل حيوان من الماء، أي جعل الله من الماء الذي أوجده بفتق السماء عن الأرض، حياة الكائنات الحية، كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور: 24/ 45] . وهذا يوافق قول بعض العلماء: إن كل حيوان خلق أولا في البحر، ثم انتقل بعض الحيوان إلى البر، وتطبع بطباع البر مع مرور الزمن. وختم الله الآية بقوله: أَفَلا يُؤْمِنُونَ أي ألا يتدبرون هذه الأدلة، وهم يشاهدون كيفية خلق الأشياء، فيؤمنون بالخالق، ويتركون الشرك؟! 3- إلقاء الجبال الراسيات في الأرض، لئلا تضطرب بالناس وتتحرك، فلا يحصل لهم قرار عليها، ويروى أن الأرض، كانت تكفأ بأهلها، حتى ثقّلها الله بالجبال، فاستقرت.
4- إيجاد الفجاج، أي الطرق مسالك بين الجبال أو بين أجزاء الأرض، يسلكها الناس عادة بسهولة من مكان إلى آخر، ليهتدوا بها إلى مقاصدهم المعيشية في البلاد.
والاهتداء إلى الغاية الدنيوية في الحياة، يذكّر بضرورة الاهتداء إلى العقيدة والطريقة المستقيمة المرضية لله تعالى، لذا ختمت الآية بقوله سبحانه: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي لكي يهتدوا في مسالكهم وتصرّفهم. وقوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً الضمير إما أن يعود على الجبال الرواسي، أو يعود على الأرض، وهو كما قال ابن عطية في تفسيره: أحسن.
5- جعل السماء سقفا محفوظا، أي جعل السماء بمثابة المظلة أو السقف والقبة على الأرض، وذلك السقف محفوظ من الوقوع والاضطراب، ومحفوظ من الشياطين التي تحاول استراق السمع- سمع الأسرار الإلهية. فالحفظ هنا عام في الصون من الشياطين ومن التصدع والسقوط وغير ذلك من الآفات.
وعلى الرغم من هذه الأدلة الدالة على وحدانية الإله، الناس غافلون عنها، لذا(2/1578)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
استحقوا اللوم والتوبيخ بنهاية الآية، فقال الله تعالى: وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ أي إن الناس عن آيات السماء معرضون غير متأملين ولا مفكرين، وآيات السماء:
كواكبها وأمطارها، والرعد والبرق والصواعق وغير ذلك مما يشبهه.
6- خلق الليل والنهار، والشمس والقمر، نعمة من الله، ودليلا على عظمة سلطانه، عن طريق دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، ودوران القمر حول الأرض، والشمس والقمر كل منهما يدور ويسبح في فلك خاص معين له، لا يفارقه، والفلك: الجسم الدائر دورة اليوم والليلة، فالكل في ذلك سابح متصرف، وإيجاد الليل لمنافع كثيرة كالراحة والنوم والاستقرار، وإيجاد النهار للتقلب في معايش الدنيا، وخلق الشمس والقمر للإضاءة، وإفادة الزروع والثمار.
الموت نهاية كل حي
لا خلود لأحد من المخلوقات في عالم الدنيا، سواء من الجن والإنس، والملائكة والبشر والحيوان، فمصير الجميع إلى الموت، ثم يأتي يوم القيامة فجأة لحساب الخلائق، ومعرفة المصلح من المفسد، والمؤمن من الكافر، والبرّ من الفاسق والفاجر، فتسود العدالة المطلقة، ويتحقق التناصف بين المخلوقات في الآخرة بعد أن ملئت الأرض جورا وظلما، وهذا ما أعلنه القرآن المجيد في الآيات الآتية:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 41]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)
«1»
__________
(1) نختبركم مع علمنا بحالكم. [.....](2/1579)
«1» «2» «3» «4» «5» [الأنبياء: 21/ 34- 41] .
سبب نزول هذه الآيات:
أن بعض المسلمين قال: إن محمدا لن يموت، وإنما هو مخلّد، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنكره، ونزلت هذه الآية.
وفي رواية أخرى: نزلت هذه الآية، لما قال الكفار: إن محمدا سيموت قائلين: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 52/ 30] .
والمعنى: قضى الله تعالى ألا يخلّد في الدنيا بشرا ولا نفسا، فلن يكتب الخلود لأحد، فلا نخلد أحدا، ولا أنت نخلّدك أيها النبي، وقد قدّر لك أن تموت كسائر الرسل المتقدمين قبلك، فهل إذا مت أيها الرسول يبقى هؤلاء المشركون بربهم؟ لا، بل الكل ميتون، فلا أمل في أن يعيشوا بعدك. وهذا رد على المشركين الذين كانوا يتمنون موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا يقدّرون أنه سيموت، فيشمتون بموته، فلا محل لهذه الشماتة لأن الموت نهاية طبيعية لكل حي، حتى الملائكة والجن يموتون، لقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) [الرحمن: 55/ 26- 27] .
ثم أكد الله تعالى موت الأنفس بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي كل مخلوق إلى الفناء، وكل نفس ذائقة مرارة الموت، قبل مفارقتها الجسد، فيكون المراد بالنفس هنا: كل نفس مخلوقة.
__________
(1) لا يمنعون.
(2) فجأة.
(3) تحيرهم.
(4) يمهلون.
(5) أحاط.(2/1580)
والحياة مسرح للابتلاء أو الاختبار بالبلاء والنعمة، وبالشدة والرخاء، وبالشر والخير، ومرجعكم ومصيركم في النهاية إلى حكم الله وحسابه وجزائه، فنجازيكم بأعمالكم، وفي هذا وعد بالثواب، ووعيد بالعقاب، وهذا إخبار من الله عز وجل عن الرجعة إليه، والقيام من القبور، بعد أن كانوا على أحوال مختلفة في الدنيا، كما قال الله تعالى في تقسيم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 35/ 32] . والابتلاء بالخير والشر هنا: كل ما يصح أن يكون فتنة وابتلاء، وذلك خير المال وشره، وخير البدن وشره، وخير الدنيا في الحياة وشرها. وأما الهدى والضلال، فغير داخل في هذا، كما لا تدخل الطاعة والمعصية، والأوامر والنواهي لأن من هدي فليس نفس هداه اختبارا، بل قد تبين خبره.
ثم ذكر الله تعالى استهزاء بعض المشركين بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، كأبي جهل بن هشام وأمثاله، فليس لهم همّ إلا السخرية من النبي، واتخاذه مهزوءا به، وقالوا تعجبا واستنكارا: أهذا الذي يعيب آلهتكم ويسفّه أحلامكم؟! والحال أنهم كافرون بالله الذي خلقهم وأنعم عليهم، وإليه مرجعهم، فهم يعيبون على النبي ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع، مع أنهم كافرون بالرحمن الذي هو المنعم الخالق، المحيي والمميت.
روي أن أبا سفيان وأبا جهل بن هشام رأيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، فاستهزءا به، فنزلت الآية بسببهما. وظاهر الآية يعم معناها جميع كفار قريش وعظمائهم الذين كانوا ينكرون موقف الرسول من آلهتهم. فرد الله عليهم بأنهم أحق بالملام، وهم المخطئون، حيث كفروا بذكر الله، واستمتعوا بذكر الأصنام، وقوله تعالى: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ معناه بما يجب أن يذكر به. والمقصود بالرحمن:
هو الله تعالى، ردا عليهم حين قالوا: ما نعرف الرحمن إلا باليمامة.(2/1581)
ثم مهدت الآية للرد على المشركين في استعجالهم العذاب، وطلبهم آية مقترحة، فهي مقرونة بعذاب مجهّز إن كفروا بعد ذلك، ومضمون الآية: أن الإنسان خلق متعجلا الأمور، وكأن هذا جزء من تكوينه وفطرته، كما قال سبحانه: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الإسراء: 17/ 11] . أي في الأمور، فإن المشركين يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإيمان والإقرار بالعبودية، وبرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث الذي استعجل العذاب الذي هدد به النبي قومه، إنهم يستعجلون العذاب، ويقولون على سبيل الاستهزاء بالنبي وصحبه المؤمنين: متى وقت حدوث عذاب النار الذي تهددوننا به، إن كنتم صادقين في وعدكم وقولكم؟! والمراد نهيهم عن الاستعجال، وزجرهم.
لو يعلم الذين كفروا نوع العذاب المنتظر في الآخرة في الوقت الذي لا يتمكنون من منع العذاب عن وجوههم وظهورهم، ولا يجدون ناصرا لهم ينجيهم، لو يعلمون لما قالوا ذلك، ولم يستعجلوا العذاب.
بل تأتيهم النار أو الساعة فجأة، فتدهشهم وتحيرهم، فلا يستطيعون صرفها عن أنفسهم، ولا هم يؤخرون لتوبة أو اعتذار.
ولقد استهزأ الكفار الماضون بالرسل السابقين من قبلك، أيها الرسول، فأحاط بالذين سخروا واستهزءوا برسلهم العذاب الذي أنذرتهم به الرسل، جزاء استهزائهم.
الحراسة المطلقة لله من البأس والشدة
يتعرض الإنسان أحيانا للأحداث الجسام والوقائع العظام بقضاء الله وقدره ولحكمة بالغة، قد تكون قصاصا في الدنيا، وقد تكون تنبيها وتحذيرا، وقد تكون عبرة وابتلاء واختبارا، ولكن في غالب الأحوال يكون الإنسان عادة في كلاءة الله(2/1582)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
وحراسته وحفظه، تحميه من الموت، وتمنعه من السوء أو المكروه، وليس للآلهة المزعومة من الأصنام وغيرها قدرة على حفظ شيء من الضرر، أو جلب شيء من النفع، وهذا لون من المقارنة، لحمل المشركين الوثنيين على الإيمان بوحدانية الله وقدرته، وترك عبادة من لا قدرة ولا إرادة له أصلا، قال الله سبحانه:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 44]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44)
«1» «2» [الأنبياء: 21/ 42- 44] .
هذا لون من تقريع المشركين الذين لا يتفكرون بأدلة الإيمان، ولا يتركون عبادة الأصنام، فقل يا محمد لهؤلاء الكفرة المستهزئين بك وبما جئت به، الكافرين بذكر الرحمن، الجاهلين به، قل لهم على جهة التقريع والتوبيخ: من يحفظهم؟ ومن الذي يحرسهم بالليل في نومهم، وبالنهار في عملهم، من بأس الله وعذابه إن أتاهم؟ بل إن هؤلاء المشركين- على الرغم من وجود الأدلة الكثيرة العقلية والمادية الدالة على فضل الله ونعمته بالحفظ- معرضون عن تلك الأدلة.
ثم وبخهم الله سبحانه على عبادتهم آلهة لا تضر ولا تنفع، فهم يظنون أن آلهتهم العاجزة عن كل شيء، تمنعهم من عذاب الله، والواقع لا يمنعهم أحد من بأس الله إلا الله، وتلك الآلهة لا يتمكنون من نصر أنفسهم، ولا دفع الضر عنهم، ولا هم يجأرون ويمنعون، بل يخضعون لسلطان الله فيهم، لأنهم في غاية العجز والضعف، فكيف ينصرون غيرهم، ويدفعون الضر عنهم أو يجلبون النفع لهم؟! بل إن الذي غرهم وأوقعهم في الضلال أن الله متّع المشركين بالنعم الكثيرة، في
__________
(1) يحفظكم.
(2) ينصرون ويمنعون.(2/1583)
الدنيا كما متّع آباءهم، حتى طال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء، والحقيقة أنهم مع مرور الزمان في غفلة، حتى اغتروا بنعم الله، ونسوا شكرها، ثم وعظهم الله بعظة بليغة تتعلق بمواضع العبرة في الأمم والبشر، وهذه العظة مضمونها: أفلا يرون رأي العين التي تتبعها رؤية القلب ما يتعرض له بعض معمور الدينا وأطرافها من خراب، وحال بعض البشر من نقص وموت، فيكون المراد حينئذ أهل الأرض. وحقيقة توبيخهم هي: أهم يغلبون من غلب جميع أهل الأرض، وقهر الكل بسلطانه وعظمته؟ أي إن ذلك محال بيّن، بل هم مغلوبون مقهورون.
وفي قوله تعالى: نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها إشارة واضحة إلى التقلبات والأحداث التي تطرأ على أحوال الدنيا، أو تصف وجود الكرة الأرضية، أما التقلبات: فهي التي تحدث في أثناء الفتوحات، حيث تمتد رقعة شعب، وتضيق رقعة شعب آخر، ففي الماضي كانت تتقلص أراضي المشركين المعتدين بفتح المسلمين لها، واتساع نفوذهم، فيكون المسلمون بإرادة الله وقوته هم الغالبين، والمشركون هم المغلوبين وفي هذا عبرة للمعتبر. وأما حال الأرض: فهي كما أثبت العلماء المعاصرون غير تامة التكوير والاستدارة، وإنما هي مفلطحة، وهو ما يعبر عنه بالخط الإهليجي في القطب الشمالي والجنوبي، مما يدل على وجود صانع مدبر، هو الإله ذو القدرة النافذة، والسلطان المطلق، يتحكم في الأرض أثناء دورانها، ويخلق الله ما يشاء، ويحكم بما يريد.
وليتأمل الإنسان قول الله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ معناه بالقدرة والبأس، والأرض عامة في الجنس. كما يتأمل نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي من جوانبها لا من وسطها، ويراد به: إما ما يخرب من المعمور، فذاك بعض الأرض، وإما أن(2/1584)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
يراد به موت البشر، فهو تنقص للقرون، ويكون المراد حينئذ أهل الأرض، كما ذكر ابن عطية رحمه الله.
الإنذار بالوحي والحساب
تتكرر في آي القرآن الكريم إنذارات المشركين وتهديداتهم، لحملهم على الإيمان، ويكون الإنذار أحيانا بالتذكير بإهلاك القرون والأمم الظالمة السابقة، وأحيانا بقوارع الوحي والتهديد بالعذاب الشامل، وتارة بالحساب الشديد على صغائر الأمور وكبائرها، ليعلم البشر أن الإله القادر محيط بكل شيء من أحوال الدنيا، والهيمنة على مصائر المخلوقات في الدنيا بالقهر والغلبة، وفي الآخرة بالحساب الدقيق الذي لا يفلت منه أحد، ويكون المصير المشؤوم لبعض الناس، قال الله تعالى مبينا كل هذا:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 45 الى 47]
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)
«1» »
«3» [الأنبياء: 21/ 45- 47] .
المعنى: قل أيها الرسول النبي: يا أيها المقترحون المتشططون من أهل الشرك، إنما أنذركم بوحي يوحيه الله إلي، وبدلالات على العبر والعظات التي أقامها الله تعالى لينظر فيها، كنقصان الأرض من أطرافها وغيره، وإنما أنا مبلّغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال، فلا تظنوا أن ذلك من قبلي، بل الله آتيكم به، وأمرني
__________
(1) نصيب.
(2) العدل أي ذوات العدل.
(3) أي وزن حبة.(2/1585)
بإنذاركم به، وعملي: هو مجرد التبليغ لا الإلزام بالقبول، ولم أبعث بآية مطّردة ولا بما تقترحونه، فإن لم تجيبوا دعوتي، فعليكم الوبال والنكال، لا علي.
ولا يجدي هذا الوحي من أعمى الله بصيرته، وختم على سمعه وقلبه، وما مثل المعرضين عن آيات الله إلا مثل الصّمّ الذين لا يسمعون شيئا أصلا، فليس الغرض من الإنذار مجرد السماع، بل الإصغاء لما يسمع، والتمسك به، بالإقدام على فعل الواجب، والتحرز عن المحرّم، ومعرفة الحق، فإذا لم يتحقق هذا الغرض، فلا فائدة في السماع.
ولئن مسّ أو أصاب هؤلاء المكذبين شيء من عذاب الله يوم القيامة، ليبادرن إلى الاعتراف بذنوبهم، ويقولون: يا هلاكنا، إنا ظلمنا أنفسنا في الدنيا، بتقصيرنا في الطاعة، وإعراضنا عن الإيمان الحق بالله تعالى، وبعبارة أخرى: ولئن مسّ هؤلاء الكفرة صدمة عذاب في دنياهم، ليندمنّ وليقرّنّ بظلمهم. وفي هذا إشارة إلى شدة عذاب الله: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) [البروج: 85/ 12] .
وبعد أن توعدهم الله بنفحة من عذاب الدنيا، عقّب ذلك بتوعّد بوضع الموازين الدقيقة للحساب في الآخرة، والمعنى: ونضع الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال في يوم القيامة، أو لحساب يوم القيامة، أو لحكم يوم القيامة، فقوله تعالى:
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ بتقدير حذف مضاف، فلا يلحق نفسا أي ظلم، فهم إن ظلموا أنفسهم في الدنيا، فلن يظلموا في الآخرة، حتى وإن كان العمل أو الظلم زنة حبة الخردل، فنجازي عليه الجزاء الأوفى، حسنا أو سيئا، وكفى بنا محصين لأعمال العباد، فلا أحد أعلم بأعمالهم منا، ولا أحد أضبط ولا أعدل في تقويم الأعمال منا. وفي هذا تحذير شديد، ووعيد أكيد للكفار والعصاة على تفريطهم أو تقصيرهم فيما يجب عليهم نحو الله تعالى لأن الإله العالم الذي لا يشتبه عليه شيء، القادر الذي لا يعجزه شيء، جدير بأن يكون الناس في أشد الخوف منه.(2/1586)
وجمهور المفسرين على أن الميزان في يوم القيامة إنما هو ميزان واحد، بعمود وكفتين، توزن به الأعمال، ليبيّن الله للناس المحسوس المعروف عندهم. والخفة والثقل متعلقة بأجسام يقرنها الله تعالى يوم القيامة بالأعمال، فإما أن يكون الموزون صحف الأعمال، أو مثالات تخلق، أو ما شاء الله تبارك وتعالى، فهي موازين حقيقية، توزن بها الأعمال.
والمقصود من الوزن: إقامة العدل المطلق الدقيق بين الخلائق لأن الناس عادة لا يثقون إلا بالمحسوسات المشاهدة لهم، فإذا شاهدوا ما يوجد في كفتي الميزان من حسنات وسيئات، اقتنعوا بأم أعينهم بما يشاهدون، وأدركوا حصيلة ما قدموا من أعمال صالحات أو سيئات.
إنها إذن موازين حقيقية توزن بها الأعمال بعد تجسيمها، ولا مانع على قدرة الله أن توزن بهذه الموازين الأمور المعنوية كما توزن الأمور الحسية، كموازين الضغط والحرارة والحركة والاستشعار من بعد.
خصائص التوراة والقرآن
إن منهاج الكتب الإلهية واحد، وغايتها واحدة، فمنهاجها الدعوة إلى توحيد الله، وإنارة الطريق أمام البشر، وتذكير أهل التقوى بالعمل الصالح، وغايتها إصلاح البشرية، ووحدة الأمة، واستمرار الأصالة الإيمانية، دون تعثر ولا انحراف، ولا تغير أو تبدل، وحينئذ تلتقي مسيرة الإيمان في درب واحد، ذروتها الإخلاص لرب العالمين، وجذع شجرتها الإقرار بوجود الله ووحدانيته، وأغصانها الأعمال الصالحة المتميزة بخشية الله، وثمارها إسعاد الناس في الدنيا والآخرة. وهذا(2/1587)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
ما دوّنته آيات القرآن الكريم التي تربط بين هدي التوراة المنزلة على موسى عليه السلام، وهدي القرآن المجيد المنزّل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال الله عز وجل:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
«1» [الأنبياء: 21/ 48- 50] .
وصف الله تعالى التوراة المنزلة على موسى وهارون بصفات ثلاث، ووصف القرآن الكريم بصفة واحدة، أجملت صفات التوراة. أما صفات التوراة الثلاث فهي:
لقد أعطى الله تعالى موسى وهارون كتاب التوراة المشتمل على أحكام الشريعة الموسوية، وميزاته: أنه الفارق بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، وأنه أيضا المنار الذي يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة، للتوصل إلى طريق الهداية والنجاة، وهو كذلك عظة وتذكّر يعظ الله به المتقين المتصفين بالصفتين الآتيتين:
وهما: أنهم أي المتقون يخشون الله في حال الغيب والخلوة، حيث لا يطلع عليهم أحد، ويخافون عذاب ربهم، فيأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه، حيث لا رقيب ولا شهيد يشاهد أعمالهم، وخشية الله في السر كخشيته في العلن من أصول الإيمان وثوابته، كما جاء في آيات أخرى قرآنية، مثل قوله تعالى في وصف أهل الجنة: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) [ق: 50/ 33] . وقوله سبحانه في بيان جزاء أهل الخشية: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) [الملك: 67/ 12] .
والصفة الثانية للمتقين: الخوف الشديد من الساعة، أي القيامة، والإشفاق على النفس من أهوالها، وسائر ما يحدث فيها من الحساب والسؤال، والإشفاق: أشد الخشية.
__________
(1) خائفون.(2/1588)
ويكون الخوف المزدوج من لقاء الله، في السر، ومن أهوال القيامة علامة على الإيمان الحق، والتقوى (التزام الأحكام) التي هي ملاك أمر الدين.
والقرآن العظيم مثل التوراة في بيان أحكام الشريعة، وتعليم الناس مناهج الحق والعقيدة، والفضيلة والسيرة الحميدة، يصل الماضي بالحاضر والمستقبل، ويختم رسالات الأنبياء، ويبين مضمون الوحي الإلهي المتميز بزاخر المنافع، ووافر العطاء.
ثم عبّر الحق سبحانه عن القرآن بقوله: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ يجمل به خصائص التوراة الآنفة الذكر، أي إن القرآن الكريم المنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم تذكر وتذكير، وتدبر وعظة، وبركة وخير، فيه منافع كثيرة، وخيرات غزيرة. وقوله سبحانه عن القرآن: أَنْزَلْناهُ إما بمعنى أثبتناه، أو أنزلناه بواسطة جبريل أمين الوحي، ليكون دستور الحياة الإنسانية إلى الأبد. ثم وبخ الله مشركي مكة على إعراضهم عن القرآن، مخاطبا إياهم بما معناه:
أفمثل هذا الكتاب المنزل من عند الله، مع كثرة منافعه وخيراته، كيف يمكنكم يا مشركي مكة وأمثالكم إنكاره والتصدي له والحيلولة دونه، وكيف تنكرونه، وهو في غاية الجلاء والوضوح؟ وهل يصح لكم إنكار بركته ونفعه، وما فيه من الدعاء إلى الله تعالى وإلى صالح العمل؟
وأنتم تعلمون في قرارة نفوسكم أنه كتاب من عند الله وأنه كلام الله، بدليل أنه معجز لا يبارى ولا يجارى، لاشتماله على النظم العجيب، والبلاغة العالية، والأدلة العقلية، وبيان الشرائع والأحكام. فكيف تنكرون إنزاله من عند الله، وأنتم أيها العرب خير من يقدر روعة الكلام، وجزالة البيان، وفصاحة اللسان، وإحكام النظم والمعنى؟(2/1589)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
تهديد إبراهيم الخليل بتدمير الأصنام
لقد عانى الأنبياء والرسل عليهم السلام معاناة شديدة في حمل أقوامهم على رفض عبادة الأصنام، بدءا من تصدي نوح عليه السلام لها، ومرورا بالجهاد العظيم من إبراهيم عليه السلام للقضاء عليها، وتتويجا لحملة محمد صلّى الله عليه وسلّم لتصفية معاقل الشرك والوثنية وإنهاء هذه الأسطورة من العالم، أما إبراهيم الخليل فكان النبي الجريء في تحطيم الأصنام وتكسير الأوثان، مضحيا بنفسه، ومعرّضا حياته للخطر في إقدامه على هذا الفعل الجليل، قال تعالى مصورا هذا الموقف الصامد والجسور لأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 58]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
«1» «2» «3» «4» [الأنبياء: 21/ 51- 58] .
المعنى: والله لقد آتينا إبراهيم رشده من عهد الصبا: وهو هدايته إلى رفض الأصنام، ونبذ عبادة الكوكب والشمس والقمر، والتزام جادة الخير والصلاح، والتوفيق لمتطلبات النبوة فما دونها، واعتقاده توحيد الله تعالى، وكان الله تعالى عالما علما تاما بحال إبراهيم، وهذا مدح له عليه السلام، وكل ذلك من قبل مجيء موسى وهارون عليهما السلام، فهو بحق يستحق ما أهّل له، وهذا نحو قوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 6/ 124] .
__________
(1) الأصنام المصنوعة بأيديكم.
(2) مقيمون على عبادتها.
(3) خلقهن. [.....]
(4) قطعا صغارا.(2/1590)
لقد آتينا إبراهيم رشده، أي النبوة فما دونها، حيث قال لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل، أي الأصنام التي كانت على صورة إنسان، والتي أنتم مقيمون على عبادتها وتعظيمها؟ وفي هذا القول تنبيه إلى ضرورة التأمل في شأنها، وأنها لا تغني عنهم شيئا، لكنهم لم يفعلوا، وأصروا على تقليد أسلافهم قائلين:
لا حجة لنا سوى تقليد الآباء واتباع الأسلاف، لقد رأيناهم عابدين لها، عاكفين على عبادتها وتعظيمها. وهذا تقليد لا يعتمد على منطق صحيح ولا فكر سليم.
قال إبراهيم مجيبا على هذا التقليد: لا فرق بينكم وبين آبائكم، فأنتم وهم في ضلال مبين واضح، والضلال: الانحراف والضياع، والوقوع في متاهة وخطأ.
فتعجبوا من قوله، وقالوا: ما هذا الكلام الصادر عنك، أتقوله لاعبا هازلا، أم محقا جادّا فيه، فإنا لم نسمع به قبلك؟ فأجابهم إبراهيم رافضا الأصنام: إني جادّ في كلامي، لا هازل، وإن الرب الحقيقي المستحق للعبادة هو مالك السماوات والأرض، ومدبرها، وخالقها على غير مثال سابق، وأنا أشهد شهادة واثق مطمئن أنه لا إله غيره، ولا ربّ سواه.
ووالله لأجتهدن في تكسير أصنامكم، وفي تحطيمها وإزالتها، بعد أن تذهبوا إلى عيدكم خارج البلد، منطلقين ذاهبين. روي أنه حضرهم عيد لهم، فعزم قوم منهم على حضور إبراهيم عليه السلام معهم، طمعا منهم أن يستحسن شيئا من أخبارهم، فمشى معهم، فلما كان في الطريق عزم على التخلف عنهم، وقال لهم: إني سقيم، فمرّ به جمهورهم، ثم قال في خلوة من نفسه: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فسمعه قوم من ضعفتهم، ممن كان يسير في آخر الناس.
ثم انصرف إبراهيم عليه السلام إلى بيت أصنامهم وحده، فدخل ومعه قدوم، فوجد الأصنام واقفة، بترتيب، الأكبر منها فالأصغر، وقد وضعوا أطعمتهم في(2/1591)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
ذلك اليوم بين يدي الأصنام تبركا بها، ليأكلوها بعد عودتهم من العيد، فانقضّ عليهم إبراهيم ضربا بذلك القدوم، وهشّمها، حتى أفسد أشكالها كلها، حاشا الكبير، فإنه تركه بحاله، وعلّق القدوم في يده، وخرج عنها، لعل هؤلاء الوثنيين يرجعون إلى الكبير الذي يلجأ إليه عادة، وقد علّق القدوم في يده، فيتبين لهم أنه عاجز لا يستطيع فعل شيء، وأنهم بعبادة الأصنام مغرورن جاهلون.
وقوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ ونحوه من الكلام الذي يخاطب به العقلاء: معاملة للأصنام بحال من يعقل، من حيث كانت تعبد، وتنزل منزلة من يعقل. وضمير لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ الأظهر أنه عائد على إبراهيم عليه السلام، أي فعل هذا كله توخيا منه أن يعقب ذلك منهم رجعة إليه وإلى شرعه، ويحتمل كما تقدم عودة إلى الكسر المتروك، أو إلى الصنم الأكبر.
الحوار الحاد بين إبراهيم وقومه بعد تكسير الأصنام
من الطبيعي أن يغضب قوم إبراهيم عبدة الأصنام على ما حدث من كارثة تكسير الأصنام التي يعتقدون أنها الآلهة، ويعبدونها من دون الله، فجاءوا إلى إبراهيم الخليل عليه السلام حاقدين غائظين، ليسألوه عن حقيقة الأمر، ولإنكار ما حدث، والانتقام مما وقع، وهذا موقف في غاية الحرج والضيق من قوم عتاة، لكنهم سذّج بسطاء، وجهلة حمقى. تصوّر لنا هذه الآيات الكريمة هذا المشهد في جو من النقاش المتأزم، والحوار الساخن، قال الله تعالى:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 59 الى 65]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)(2/1592)
«1» [الأنبياء: 21/ 59- 65] .
معنى الآيات: لقد انصرف الناس: عبدة الأوثان- النمروذ وأتباعه، من عيدهم، فرأوا ما حدث بآلهتهم، فأكبروا ذلك، وقالوا على سبيل البحث والإنكار والتهديد: من الذي كسّر هذه الآلهة، إن فاعل ذلك لمن الظالمين أنفسهم، المتعرض للإهانة والنكال والعقاب.
قال بعضهم ممن سمع تهديد إبراهيم: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ: سمعنا شابا يعيبهم، ويذكرهم بسوء، يقال له إبراهيم، فهو إذن الذي فعل بهم هذا. وظاهر الآية يدل على أن هؤلاء القائلين جماعة، لا واحد.
قال النمروذ وحاشيته: فأتوا به على مرأى ومسمع من الناس في الملأ الأكبر، حتى يروه ويشهدوا عليه، أي على فعله أو قوله، وكان هذا الحضور في المحفل الجمهوري موافقا لرغبة إبراهيم في تبيان جهالة القوم وسوء إدراكهم.
فلما أتوا به، قالوا له: أأنت الذي كسّرت هذه الأصنام؟ فأجابهم: «بل فعله كبيرهم هذا» أي بل الذي فعل هذا هو الصنم الأكبر الذي ما زال باقيا لم يكسّر، فاسألوا هذه الأصنام عمن كسّرها، إن كانوا آلهة ينطقون. وفي هذا تنبيه لهم على عقم عبادة الأصنام، ويرجعوا إلى أنفسهم بالملامة، ونسبة التقصير إليها، فقال بعضهم لبعض: إنكم أنتم الظالمون في ترككم لها مهملة، لا حافظ عندها.
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أي أطرقوا في الأرض للتأمل والتفكير، والإغراق في الحيرة، فقالوا: فما بالك تدعو إلى ذلك؟ إنك تعلم ونحن نعلم أن هؤلاء لا
__________
(1) رجعوا إلى الباطل والمعاندة.(2/1593)
ينطقون، فكيف تطلب منا سؤالهم إن كانوا ينطقون؟! أي إنهم احتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم، بسبب الحيرة التي أدركتهم.
وحينئذ وجد إبراهيم عند هذه المقالة موضع الحجة، فوبخهم على عبادتهم تماثيل، لا تنفع بذاتها ولا تضر.
ولقد احتج إبراهيم عليه السلام على قومه بحجتين عقليتين مقبولتين وهما:
الأولى: قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فلو كانت الأصنام تعقل، أو تتمكن من حماية نفسها وغيرها، لكان شأن الكبير حماية الأتباع والصغار.
الثاني: قوله فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ليقولوا على الفور: إنهم لا ينطقون، ولا ينفعون ولا يضرون، فيقول لهم: فلم تعبدونهم إذن؟ فتقوم الحجة عليهم.
لقد حقق إبراهيم عليه السلام مأربه بالاعتذار بقوله: «إني سقيم» وهذه في الظاهر كذبة، لكنها من أجل المصلحة، وهي كذبة في ذات الله تؤدي إلى خزي قوم مشركين وثنيين، والحديث الصحيح يقتضي ذلك، وهو
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، قوله: «إني سقيم» وقوله: «بل فعله كبيرهم هذا» وقوله للمليك:
«هي أختي» «1» » .
أي قوله للملك الذي أراد زوجته، فحماها الله منه، بقول إبراهيم: «هي أختي» ، أي إنها أخت له في الإسلام والإنسانية، والحقيقة: هذه الحالات هي كذبات في الظاهر، لكنها في الحقيقة والواقع لتحقيق مصلحة كبري تتعلق بالحفاظ على الدين أو النفس أو العرض.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.(2/1594)
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)
نجاة إبراهيم عليه السلام من النار المحرقة
لقد بذل النمروذ وأتباعه أقصى ما في وسعهم من التنكيل بإبراهيم الخليل عليه السلام، من أجل التخلص منه، بإلقائه في نار عظيمة شديدة الإحراق، بسبب فعله الخطير في تقديرهم وهو تكسير الأصنام، ونقاشه الجادّ الذي يؤكد فعله، ويرمي به إلى إقناعهم بعدم جدوى عبادة الصنم من حجر أو غيره، وأن على القوم أن يفكروا تفكيرا جدّيا صحيحا في شأن عبادة الأصنام، فيرفضوها، ويبادروا إلى اتباع ملة إبراهيم الحنيفية، ملة التوحيد الخالص لله عز وجل. ولكنهم لم يصغوا لنداء العقل، وظلّوا في عنادهم، فأعدوا النار العظيمة لإحراق إبراهيم عليه السلام، ولكن الله عز وجل نجاه منها، وحماه من تأثيرها، فخرج منها كالخارج من الحمام، قال الله تعالى واصفا هذا الحدث العظيم:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 66 الى 70]
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
«1» [الأنبياء: 21/ 66- 70] .
أعلن إبراهيم عليه السلام موقفه الصريح بعد جدال قومه له في حادثة تكسير الأصنام، وقال لهم لما اعترفوا بأن تلك الآلهة لا تنطق: أتعبدون بدلا عن الله أشياء لا تنفعكم في الواقع إذا تأملتم بها خيرا، ولا تضركم شيئا إذا عاديتموها أو خفتم منها؟! أُفٍّ لَكُمْ أي تّبا لكم، وقبحا لآلهتكم، أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر، الذي لا يدين به إلا كل جاهل ظالم فاجر.
__________
(1) كلمة تضجر وتبرم.(2/1595)
لقد استغل إبراهيم عليه السلام موضع الحجة حينما قالوا: إن الأصنام لا تنطق، فكلمهم موبخا على عبادتهم تماثيل لا تنفع بذاتها ولا تضر، ثم حقّر شأنها، وأزرى بها حين قال: أُفٍّ لَكُمْ. وهذه لفظة تقال عند المستقذرات من الأشياء، فيستعار ذلك للمكروه من المعاني، كهذا وغيره.
ولما تفوق إبراهيم عليه السلام بحجته الدامغة على قومه، وظهر الحق، وبان زيف الباطل، لجؤوا إلى الإيذاء والإضرار، والتخلص من إبراهيم جسديا، فقال بعضهم لبعض، والقائل هو نمروذ بن كنعان، أو رجل من أتباعه: احرقوا إبراهيم بالنار، وانصروا آلهتكم إن كنتم ناصريها حقا، فجمعوا حطبا كثيرا، ورموا إبراهيم من أعلى منجنيق، بعد أن شدّ برباط، ووضع في كفة المنجنيق، ثم ألقي في النار.
ولكن الله غالب على أمره، وقاهر كل شيء، وحافظ رسوله ونبيه، فحماه وعصمه من أذى النار، وسلب تأثير النار فيه، وقال: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي كوني بردا غير ضار، فكانت النار وسطا لا حامية ولا باردة، ولو قال: «كوني بردا» فقط، ولم يقل: «وسلاما» لكان بردها أشد عليه من حرها.
وبرودتها حدثت بنزع الله عنها طبعها من الحر والإحراق، بعد أن احترق الحبل الذي ربط به إبراهيم فقط، وبقيت إضاءة النار وإشراقتها واشتعالها كما كانت، والله على كل شيء قدير. قال بعض العلماء: إن الله تعالى لو لم يقل: «وسلاما» لهلك إبراهيم من برد النار.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن إبراهيم لما ألقوه في النار، قال: «حسبي الله ونعم الوكيل» وقالها محمد عليهما السلام حين قالوا (أي المشركون) : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 3/ 173] .(2/1596)
إن الصحيح في قصة إحراق إبراهيم هو ما أخبر عنه القرآن، لا تلك الحكايات والقصص الإسرائيلية غير الثابتة. والذي أخبر عنه الله تعالى: أن إبراهيم ألقي في النار، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، فخرج منها سالما، وكانت أعظم آية.
وانتهت القصة: أن قوم إبراهيم أرادوا به مكرا، وتدبيرا يؤذيه ويقتله، فجعلهم الله المغلوبين الأسفلين، ونجّاه الله من النار.
وهذا درس بليغ في الإيمان بعظمة الله تعالى، وعبرة وعظة لذوي الأفهام، وتعليم أن إرادة الله فوق كل إرادة، وسلطانه فوق كل سلطان، فما أراده الله كان، وما لم يشأ الله لم يكن.
نجاة إبراهيم ولوط عليهما السلام
لم يبق مجال أمام إبراهيم الخليل عليه السلام بعد محاولة إحراقه إلا الهجرة من أرض قومه وتركهم في ضلالتهم يعمهون. روي أن إبراهيم عليه السلام، لما خرج من النار، أحضره النمرود وكلمه، وأعلن إصراره على الكفر، وقال لإبراهيم: يا إبراهيم، أين جنود ربك الذي تزعم؟ فقال له: سيريك فعل أضعف جنوده، فبعث الله تعالى على نمرود وأصحابه سحابة من البعوض، فأكلتهم عن آخرهم، ودخلت منها بعوضة في رأس نمرود، فكان رأسه يضرب بالعيدان وغيرها، ودام تعذيبه بها زمنا طويلا، وهلك منها، وخرج إبراهيم عليه السلام وابن أخيه لوط عليه السلام من تلك الأرض في العراق مهاجرين، وهي كوثا من بلدة فاران آرام بالعراق، ومع إبراهيم ابنة عمه سارّة زوجه، وفي تلك السفرة لقي إبراهيم الملك الجبّار الذي رام أخذها منه، فحماها الله منه، وقال له إبراهيم: إنها أخته، ووصل إلى أرض الشام، وهي الأرض التي بارك الله فيها، قال الله تعالى واصفا هذا الحدث:(2/1597)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 الى 73]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)
«1» [الأنبياء: 21/ 71- 73] .
المعنى: ومن نعم الله تعالى على إبراهيم عليه السلام: أن الله تعالى نجاه ولوطا عليهما السلام إلى الأرض المباركة، بالهجرة من العراق إلى بلاد الشام- الأرض المقدسة، التي بارك الله فيها بكثرة ما بعث فيها من الأنبياء، وانتشار الشرائع بين العالمين، وإخصاب الأراضي وكثرة أشجارها وأنهارها، فاجتمع فيها خير الدنيا والآخرة.
ومن النعم الإلهية على إبراهيم عليه السلام: أن الله تعالى منحه إسحاق ولدا، ويعقوب ولد إسحاق، نافلة، أي عطية زائدة على ما سأل. وجعل الله كلا من الأربعة: لوط وإبراهيم وإسحاق ويعقوب أهل خير وصلاح، يطيعون ربهم، ويتجنبون محارمه، وهذا دليل على عصمة الأنبياء.
وصيّر الله تعالى هؤلاء الأنبياء الأربعة أئمة وقادة يقتدى بهم، ودعاة يدعون إلى دين الله بإذنه، وإلى الخيرات بأمره، وفي هذا دلالة على أن من صلح للقدوة في دين الله، فهو موفّق مهدي للدين الحق وطريق الاستقامة، ومن استقام كان ملازما للهداية والخير.
وأوحى الله سبحانه إلى هؤلاء الأنبياء آمرا لهم أمرا عاما أن يفعلوا الخيرات وهي الأعمال الصالحات، من إقامة الفرائض والطاعات، وترك المحرمات والمحظورات.
ويرشد هذا إلى أن الله سبحانه خصهم بشرف النبوة، وتبليغ الوحي الإلهي الناظم لحياة القوم المبلّغين. وأمر الله تعالى بوحيه لهؤلاء الأنبياء أمرا خاصا بأن يقيموا
__________
(1) عطية، وزيادة عما طلب.(2/1598)
الصلاة ويؤتوا الزكاة المفروضتين. وخص الله تعالى هاتين الفريضتين بالذكر من سائر العبادات، لسمو مرتبتهما وخطورتهما، لأن الصلاة أشرف العبادات البدنية، وشرعت لذكر الله تعالى، والزكاة أشرف العبادات المالية، وشرعت لدفع حاجة الفقراء، وفي كلتا العبادتين تعظيم أمر الله تعالى.
وبعد تعداد هذه النعم على هؤلاء الأنبياء الأربعة: إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب، ووصفهم من الله سبحانه بالصلاح أولا، ثم بالإمامة، ثم بالنبوة وشرف الوحي ثالثا، بعد هذا وصفهم الله بصفة رابعة: وهي أنهم كانوا لله عابدين، أي خاشعين خاضعين، طائعين فاعلين ما يأمرون به الناس، مخلصين لله إخلاصا تاما في عبادتهم. وفي هذا دلالة واضحة على أنهم كانوا أوفياء لإحسان الله ونعمه عليهم، فلما أكرمهم بالنعم العظيمة، وأمدهم بفضله من أنواع الإحسان، كانوا أوفياء له بالعبودية، وهو الطاعة والعبادة، وكانوا هداة يرشدون غيرهم لأوامر الله وشرائعه وأحكامه. وكل ما يفعلون إنما هو بأمر الله، وبما أنزله عليهم من الوحي. وهذا دليل على أن الإمام الهادي يجب أن يكون مهديا بطبعه، مصلحا لنفسه أولا، ثم يصلح غيره، حتى يتحقق فيهم وصف القدوة الحسنة.
قصة لوط ونوح عليهما السلام مع قومهما
اقترن بيان قصة لوط ونوح عليهما السلام في موضع واحد من القرآن، بالرغم من الفارق الزمني بينهما، للعبرة والعظة المتشابهة، وتطمين أهل الإيمان والثقة بالله بأن رب العزة نجّى هذين الرسولين من عذاب القوم الفاسقين الذين أبوا الإيمان برسالة هذين النبيين، تحديا وعنادا واستكبارا، وكانت نجاة الرسولين مع المؤمنين بسبب الصلاح والاستقامة، والثبات على العقيدة، والصبر على تبليغ الرسالة، قال الله تعالى:(2/1599)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 77]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
«1» [الأنبياء: 21/ 74- 77] .
هذه مقابلة ومقارنة بين رسولين صالحين، وبين وصف مشترك لأقوامهما، وهو أنهم كانوا أهل سوء فاسقين، بسبب الكفر برسالة الأنبياء.
أما لوط عليه السلام: فقد آتاه الله تعالى النبوة والحكمة (وهي ما يجب فعله) والعلم والمعرفة، والحكم: وهو حسن الفصل في الخصومات بين الناس. وكان علمه علم النبوة الشامل لشؤون العقيدة والعبادة وطاعة الله تعالى، بعثه الله إلى أهل «سدوم» وتوابعها من القرى السبع، فخالفوه وكذبوه، فأهلكهم الله ودمرهم، كما أخبر سبحانه في مواضع من القرآن المجيد، والنبوة والحكمة كانتا نعمتين عظيمتين على لوط عليه السلام، وهناك نعمتان أخريان وهما:
أن الله سبحانه نجى لوطا من العذاب الذي عذب به أهل سدوم الذين ارتكبوا خبائث الأعمال، ومنها ما يسمى باللواط، فكانوا جماعة سوء وقبح، خارجين عن جادة الطاعة لله تعالى، منغمسين في الرذيلة والمعصية، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ.
والنعمة الرابعة على لوط عليه السلام: أنّ ربه أدخله في رحمته، وجعله من أهل جنته لأنه كان من الذين يعملون صالح الأعمال، ويؤدون فروض الطاعة لله تعالى، فيمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي.
__________
(1) فساد وأفعال منكرة.(2/1600)
وأردف الله تعالى ذلك بإيراد خبر نوح عليه السلام، للعظة والعبرة المتشابهة أيضا، وهو أنه أمر الله رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يذكر لقومه حين نادى نوح ربه مستنصرا به، داعيا على قومه لما كذبوه، كما حكى القرآن عن نوح: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) [القمر: 54/ 10] .
وفي آية أخرى: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) [نوح: 71/ 26] . وكان ذلك قبل رسالة خاتم النبيين وقبل إبراهيم ولوط فاستجاب الله دعاءه، ونجاه وأهله المؤمنين من الغرق بالطوفان، والشدة والأذى، وهو الكرب العظيم الذي تعرضت له الدنيا، بغمرة الطوفان والغم الشديد، والعذاب النازل بأهل الشرك والكفر، وتكذيب نوح، وإيذائه إيذاء شديدا، بعد أن لبث فيهم يدعوهم إلى توحيد الله ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يؤمن به إلا قليل.
لقد صار الماء الذي هو مصدر الحياة، مصدر الفناء، فهو إذا كثر يصبح دمارا، كالريح الهوجاء العاتية، يكون الهواء اللطيف أساس الحياة، فإذا اشتد كان ضررا.
ولم يكن تعذيب قوم نوح بالطوفان إلا حقا وعدلا من الله تعالى، فإنهم لما كذّبوا بآيات الله سبحانه، وكانوا قوم شر وسوء، وفسق وعصيان، أغرقهم الله جميعا، لاجتماع الأمرين: تكذيب الحق ورسالة النبي، والإغراق في الشر، ولم يجتمع هذان السببان في قوم إلا وأهلكهم الله تعالى، وذلك جزاء الظالمين.
فهل يعتبر أهل مكة الوثنيون وأمثالهم بقصة قوم نوح ولوط، وما أصابهم من العذاب الشديد، وكيف كان النصر للمؤمنين، والعذاب الشامل للكافرين.
إن طريق العظة: هو الإيمان بالله ربا واحدا لا شريك له، وبالاستقامة على درب الإيمان ولزوم الطاعة لله عز وجل، والبعد عن المعاصي والمنكرات.(2/1601)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
نعم الله تعالى على داود وسليمان عليهما السلام
لن ينسى التاريخ الإنساني الدور القيادي العظيم والجهاد والتضحيات للرسل والأنبياء عليهم السلام، فلولا هم لكان الناس في حيرة وضلال، ونزاع مستمر واقتتال، ربما أدى إلى انقراض النوع البشري، وكان من فضل الله وإنعامه: أنه أعدّ هؤلاء الصفوة القادة إعدادا رائعا خاصا، ليكونوا أهلا للقيادة، وأسوة حسنة للبشرية، وأمدهم بنعم كثيرة، فضلا عن نعمة النبوة والرسالة، منها الحكم والقضاء بين الناس، والعلم والمعرفة السديدة، وعزة النفس وقوة الإرادة، ووسائل الكسب الشريف، قال الله تعالى مبينا نوعا من هذه النّعم على داود وسليمان عليهما السلام:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [الأنبياء: 21/ 78- 82] .
المعنى: وآتينا وأعطينا النبوة والحكم بين الناس داود وسليمان، عطفا على آية سابقة: وَنُوحاً ومن أنواع الأقضية المهمة التي حكم بها هذان النبيان الرسولان:
هي قضية الحكم في رعي راع زرع قوم، في جنح الليل، وكان الله عالما تام العلم بالقضاء والمقضي فيه، شاهدا بما حكم به داود وسليمان، لا تخفى عليه خافية. وكان
__________
(1) أي الزرع عامة.
(2) أي رعت الزرع ليلا.
(3) أي علمنا داود عليه السلام.
(4) أي صناعة الدروع خاصة.
(5) لتحفظكم من حرب عدوكم.
(6) شديدة الهبوب.
(7) الغوص لاستخراج النفائس.(2/1602)
القضاء صادرا من الأب داود، والابن سليمان، اللذين كان كل منهما ملكا عدلا، نبيا، يحكم بالحق بين الناس.
واتجه كل من داود وسليمان في حكمه وجهة معينة من النظر السديد، فإن داود عليه السلام قضى بتملك الغنم لصاحب الزرع، وسليمان عليه السلام قضى بتسليم الغنم مدة عام إلى صاحب الحرث (الزرع) ينتفع بألبانها وأولادها وأصوافها، وتسليم الزرع للراعي، يستفيد مما تنتجه الأرض، ويتعدها بالسقاية والخدمة، حتى يعود الزرع إلى ما كان عليه قبل الرعي، وكان قضاء سليمان أولى وأرفق وأحكم.
لذا قال تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أي أفهمناه القضية وملابساتها، والحكم الأسد والأصوب، وإن كان حكم داود أيضا سديدا وصحيحا لأنه وجد قيمة الغنم تساوي قيمة الزرع، وكل من داود وسليمان آتاه الله نعمة النبوة وسداد الحكم القضائي، والعلم بأحوال القضاء وغيره، لكن حكم سليمان أفضل لإبقاء كل من الراعي والزارع على ملك متاعه، وطيب نفسه بذلك.
ثم عدد الله تعالى نعمه على كل من داود وسليمان عليهما السلام، أما نعم داود، فالله تعالى سخّر أو ذلّل له الجبال والطيور مسبّحات مقدسات الله، تتجاوب مع أصداء صوته الجميل، بتلاوة كتاب الزبور، فكان إذا ترنم، وقفت الطيور تتناغم مع تراتيله، وتردد الجبال تسبيحاته. وكان الله قادرا فعالا على هذا الفعل وتجاوب الطير والجبال، وإن تعجب منه الناس.
وعلّم الله داود عليه السلام صناعة الدروع، ليلبسها المتحاربون، وقاية لأجسادهم من ضربات السلاح من سيوف وحراب وسهام، فهل يبادر الناس لشكر(2/1603)
نعمة الله عليهم؟ وهذا الاستفهام تحريض لهم على الشكر، أي اشكروا الله على هذه النعمة والصنعة.
وأنعم الله على سليمان عليه السلام بتسخير الريح له وركوبه بساط الريح كالطيران اليوم، فإن الله تعالى جعل الريح الشديدة العاصفة طائعة، منقادة له، مع كونها ريحا رخاء لطيفة لينة، فهي تجري بأمره وتنقله إلى الأرض التي بارك الله فيها بركة معنوية بالأنبياء، وحسية بكثرة الخيرات والثمار، وكان الله وما يزال عالما بكل شيء، ومدبرا له، ومهيئا الأسباب، ومانحا الملك والنبوة لمن يشاء.
ومن النعم على سليمان أن الله سخر له فئة من الجن والشياطين يغوصون له في أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان والجواهر ونحوها، ويعملون له أعمالا أخرى كصناعة التماثيل والمحاريب، وكان الله وما يزال حافظا لأعمال الشياطين من إفساد ما صنعوه وتخريب ما عمروه.
محنة أيوب عليه السلام
لا يخلو أحد من البشر من التعرض لمحنة من المحن أو مصيبة من المصائب في عمره، سواء طال به العمر أو قصر، وسواء في مقتبل العمر أو في نهايته أو وسطه لأن الله تعالى أقسم على ابتلاء الإنسان واختباره في قوله سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ليعرف أهل الصبر وأهل الجزع، ففي البلاء والأزمات تختبر أخلاق الناس، ويظهر في المحنة صدق الإيمان، والثبات على العقيدة، وأشد الناس ابتلاء هم الأنبياء، ثم العلماء والصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، وتميز أيوب عليه السلام بأنه كان في قمة الصابرين على بلاء الله والمرض، وكان في غاية الأدب مع الله تعالى والحياء من ربه،(2/1604)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
فلم يظهر شكواه إلا بعد طول العهد، واستمرار الضر والمرض، وحينئذ تضرع إلى ربه فكشف الله عنه البلاء، وعوّضه خيرا، قال الله تعالى واصفا هذه الحال:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)
«1» [الأنبياء: 21/ 83- 84] .
كان أيوب عليه السلام من بني إسرائيل المثل الأعلى والمشهور بين الأنبياء والناس في الصبر على المحنة وشدة البلاء، حتى ضرب به المثل، فقيل: مثل صبر أيوب.
وأثبت القرآن الكريم هذا المعنى في هذه الآيات، ومعناها: واذكر أيها الرسول محمد للعبرة والعظة خبر أيوب الذي أصابه البلاء في ماله وولده وجسده، ففسد ماله، وتفرق عنه أهله، وأصابه المرض، وأساء له ذريته، فكان كلما أخبر بشيء من ذلك، أو تعرض له، حمد الله تعالى، وقال: هي عاريّة استردها صاحبها، والمنعم بها، ولم يبق معه بشر حاشا زوجته، ويقال: كانت بنت يوسف الصدّيق، واسمها رحمة.
ومكث أيوب عليه السلام صابرا مدة طويلة من الزمان، لم يدع ربه في كشف ما به، حتى شمت به قوم، فتألم لذلك، ودعا ربه حينئذ قائلا: «ربّ إني مسّني الضّر وأنت أرحم الراحمين» وكان مرضه في جلده، ولكن خلافا لما نجده في الروايات الإسرائيلية لم يكن مرضه منفّرا لأن شرط النبي السلامة عن الأمراض المنفرة طبعا.
فأجاب الله دعاءه، وعافاه من مرضه بالاستحمام في ماء معدني والشرب منه، ورفع عنه الضر، ورد الله عليه أهله وزيادة مثل آخر، وعوضه عما فقد في الدنيا.
وقوله تعالى: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ مختلف فيه في وقت الإيتاء. فقيل:
أوتي جميع ذلك في الدنيا من أهل ومال، وهذا هو الظاهر. وقيل: إيتاء الصحة
__________
(1) منصوب بفعل مضمر تقديره: واذكر أيوب. [.....](2/1605)
والولد بأعيانهم في الدنيا، وأما المضاعفة أو إيتاء المثل، فكان عدة وثوابا له في الآخرة.
وكان هذا الثواب أو الإيتاء الذي أنعم الله به على أيوب عليه السلام، والتعويض عما فقد من الأهل والولد والمال، ومعافاة الجسد، رحمة من الله به، وتذكيرا للعابدين بالاقتداء به، والصبر كما صبر، ليثابوا كما أثيب، وحتى لا يبأس مؤمن من عفو الله ورحمته، وفضله وإحسانه، ولا يطمع مؤمن في أنه لا يصاب بسوء أو مكروه في دنياه، فالدنيا دار ابتلاء وامتحان.
روى الإمام أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا، اشتد بلاؤه» .
ولا يشترط أن يكون البلاء بسبب ذنب أو معصية أو ترك مطلوب شرعي، وإنما قد يكون الابتلاء عاما أو خاصا، ولو كان الإنسان صالحا تقيا، وبرّا مؤمنا، فالمؤمن يزداد بابتلائه درجات، وغير المؤمن يكون الابتلاء خيرا له في تذكيره بالعودة لربه واستقامة حاله.
أوصاف إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام
إن جميع الرسل الكرام المذكورين في القرآن الكريم وهم خمسة وعشرون رسولا تجب معرفتهم تفصيلا، والإيمان بهم عن علم ومعرفة، وهم جميعا كانوا المثل الأعلى للأمم والأفراد والجماعات، في الدعوة إلى توحيد الله تعالى، واحترام القيم الأخلاقية والفضائل الرفيعة، واتباع أوامر الله سبحانه، واجتناب كل ما نهى الله عنه، فاستحقوا تخليد ذكراهم، والتعرف على قصصهم وأخبارهم، ولكن من مصدر(2/1606)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
علمي موثوق وهو القرآن الكريم وحده- كلام رب العالمين، وهذا تبيان وجيز لأخبار ثلاثة عظماء من هؤلاء الرسل: وهم إسماعيل وإدريس وذو الكفل عليهم السلام، قال الله في كتابه العزيز:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
«1» [الأنبياء: 21/ 85- 86] .
واذكر أيها النبي محمد لقومك خبر إسماعيل وإدريس وذي الكفل، كل منهم كان كأيوب عليه السلام من الصابرين المحتسبين، الذي صبروا على البلاء والشدائد، وعلى طاعة الله وعن معاصيه.
فاستحقوا إكرام الله، وجعلهم من أهل الرحمة بالنبوة، والظفر بجنان الخلد، والتمتع برضوان الله وثوابه، لأنهم أهل صلاح وتقوى، وأنبياء معصومون، وصلاحهم لا يخالطه شائبة من شوائب الفساد.
أما إسماعيل: فهو ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهو أبو العرب المعروفين اليوم، وقد تعرض مع أمّه للعيش في مكان قفر في بطاح مكة الجرداء، والتي لا ماء فيها ولا خضرة، وأعدّ للذبح في رؤيا أبيه إبراهيم عليه السلام، ورؤيا الأنبياء حق وصواب، لا مجال فيها للشك والتكذيب، فصبر على الإقامة في بلد لا زرع فيه ولا مورد عيش كريم، وصبر في بناء البيت الحرام مع أبيه إبراهيم، وصبر على الانقياد للذبح، قال: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 37/ 102] .
وأما إدريس فهو خنوخ، وهو أول نبي بعث الله من بني آدم، وروي أنه كان
__________
(1) قيل: هو إلياس عليه السلام، والأصح أنه ابن أيوب عليه السلام، من أنبياء بني إسرائيل.(2/1607)
خيّاطا صابرا على مهنته، يسبّح الله عند إدخال الإبرة، ويحمده عند إخراجها، دعا قومه لعبادة الله وحده، فأبوا، فأهلكهم الله وأبادهم. وكان أول من اتخذ السلاح عدّة للحرب.
وأما ذو الكفل: فإنه صبر على صلاة الليل حتى يصبح، وعلى صيام النهار فلا يفطر، ويقضي بين الناس فلا يغضب، ووفّى بذلك وبما ضمن على نفسه، سمي «ذا الكفل» لأنه تكفّل بأمر، فوفى به، أي إنه صبر على تحمل أخلاق الناس والدين، وعلى موجبات مرضاة الله تعالى.
روي أن «اليسع» جمع بني إسرائيل، فقال: من يتكفّل لي بصيام النهار، وقيام الليل، وألا يغضب، وأولّيه النظر للعباد بعدي؟ فقام إليه شاب، فقال: أنا لك بذلك، فراجعه ثلاثا في ذلك، يقول: أنا لك بذلك، فاستعمله، فلما مات «اليسع» قام بالأمر، فجاء إبليس ليغضبه- وكان لا ينام إلا في القائلة: منتصف النهار- فكان يأتيه وقت القائلة أياما، فيوقظه، ويشتكي ظلامته، ويقصد تضييق صدره، فلم يضق به صدرا، ومضى معه لينصفه بنفسه، فلما رأى إبليس ذلك، إبليس عنه، أي نأى وأيس، وكفاه الله شرّه. وهذا هو ذو الكفل.
إن سيرة إسماعيل وإدريس وذي الكفل المترعة بالصلاح والتقوى، وبالصبر والجهاد والمصابرة، تصلح درسا للرجال الأشداء الذين شحذوا عزائمهم، وجدّوا في الطاعة، وعاشوا عبادا صالحين قانتين لربهم، يصلون ويصومون، ويتحملون ألوان الأذى ومكاره العيش، ويصبرون على أخلاق الناس وطبائعهم، فسلام من الله ورحمته عليهم، ومتّعهم الله بجنات الخلود.(2/1608)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
مأساة يونس عليه السلام
صدرت معجزات خارقات لقانون العادة والعرف السائد من الأنبياء عليهم السلام، تعجب منها العقل البشري، بحكم المألوف المعروف لديه، ولكنها أحوال استثنائية، خالدة على ممر الزمان، بتقدير الله تعالى وتدبيره، وإجرائه إياها على أيدي الأنبياء، لتكون معجزة مصدقة لدعوتهم، وادعائهم النبوة. وتعدّ مأساة ذي النون يونس عليه السلام من أغرب المعجزات حيث ابتلعه الحوت، لعدم استئذان ربه في هجر قومه وتركهم، ولكن الله حماه من أن تهضمه معدة الحوت الضخم، فقذفه على الشاطئ، بعد أن سبح في بطن الحوت وأقر بخطئه، وأعاده الله إلى قومه الذين ألهمهم الله الإيمان، ليكون النبي وغيره على جانب عظيم من التأدب، أمام جلال الله وعظمته، وتفويض الأمر له وحده، قال الله تعالى واصفا حدث يونس عليه السلام الغريب:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
«1» «2» «3» [الأنبياء: 21/ 87- 88] .
ذو النون، أي ذو الحوت، وصاحبه يونس بن متّى عليه السلام، التقمه الحوت على الحالة المعروفة، وهو نبي من أهل نينوى، وهو الذي قال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم- فيما
أخرجه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه-: «من قال: أنا خير من يونس بن متّى، فقد كذب» .
وفي حديث آخر لدى البخاري ومسلم وأبي داود وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما: «لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى» .
__________
(1) صاحب الحوت يونس عليه السلام.
(2) غضبان على قومه لكفرهم.
(3) لن نضيق عليه بجزاء ما.(2/1609)
ومعنى الآيات: واذكر أيها الرسول محمد قصة يونس بن متى ذي النون: أي صاحب الحوت، حين بعثه الله إلى أهل قرية نينوى بأرض الموصل، فدعاهم إلى الله تعالى وإلى توحيده وطاعته، فأبوا، وعاندوه، وتمادوا في كفرهم، فخرج من بينهم غضبان، وتوعدهم بالعذاب بعد ثلاث ليال.
فلما تحقق القوم منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء، وتضرعوا إلى الله عز وجل، فرفع الله عنهم العذاب، كما جاء في آية أخرى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) [يونس: 10/ 98] .
وأما يونس عليه السلام، فإنه ذهب، وركب في سفينة، فاضطربت بهم، وخافوا الغرق، فأجروا قرعة بينهم لتخفيف الحمولة، فوقعت القرعة على يونس، في المرات الثلاث، كما قال تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)
[الصافات: 37/ 141] . فألقوا يونس في البحر، فالتقمه على الفور حوت كبير.
لقد ذهب يونس تاركا قومه، وظانا أن لن يضيّق الله عليه في بطن الحوت، وأن لن يقضي الله عليه بالعقوبة، فنادى من خلال الظلمات الثلاث الكثيفة: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» أي تنزيها لك يا رب، أنزهك عن كل نقص وعيب، أنت الإله وحدك لا شريك لك، تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد، لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، إني كنت من الظالمين نفسي، بالخروج دون إذن منك. وهذا تصرف يعدّ خلاف الأولى من الأنبياء.
فأجاب الله دعاءه الذي أظهر به الندم والتوبة، ونجاه الله وأخرجه من بطن(2/1610)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
الحوت وتلك الظلمات، وكما أنجاه الله من الكرب والشدة المطبقة، ينجّي الله أيضا كل المؤمنين الصادقين إذا استغاثوا بربهم، وطلبوا إنزال الرحمة الإلهية عليهم.
روى البيهقي وغيره عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دعوة ذي النون في بطن الحوت: (لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين) لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلا استجاب له» .
الحق أن العبد إذا صدق في مناجاة ربه بخشوع وخضوع، وأدب وإخلاص، صدق الله معه، ونجاه من الكروب العظام في الدنيا والآخرة.
قصة زكريا ويحيى ومريم عليهم السلام
لقد جمع الله تعالى بين زكريا ومريم على الخير والعبادة، حينما كان يتردد عليها في المحراب، ويجد عندها الأرزاق الوفيرة والغريبة، وفي إطار هذا التلاقي، أحب زكريا عليه السلام أن يخلفه من بعده خلف صالح، يقوم بأعباء النبوة والدعوة إلى الله تعالى، وأراد الله سبحانه أن تنجب السيدة مريم البتول، العذراء الصالحة ولدا مقدسا، تظهر على أيديه سحائب الخير، ودعوة الناس إلى الاستقامة، وتم مراد الله، فدعا زكريا ربه أن يرثه وارث صالح، فتحقق ذلك بإنجاب يحيى الحصور عليه السلام، وأنجبت مريم ابنها عيسى عليه السلام، للقيام بالدعوة إلى توحيد الله والحق والخير، قال الله تعالى واصفا هذه الأحداث الغريبة:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 91]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)(2/1611)
«1» «2» «3» [الأنبياء: 21/ 89- 91] .
في موكب الأنبياء العظماء اذكر أيها الرسول النبي لقومك خبر زكريا عليه السلام، حين نادى ربه نداء خفيا، وطلب أن يهبه الله ولدا، يكون من بعده نبيا، لحمل رسالة النبوة والخير والإصلاح، وقال: رب لا تتركني وحيدا، لا عقب لي ولا ولد، ولا وارث يقوم من بعدي في دعوة الناس إلى توحيد الله وعبادته وطاعته، وأنت يا رب الباقي بعد فناء خلقك، فإن لم ترزقني من يرثني، فلا أبالي، فإنك خير وارث، وسيقوم بحمل عبء الرسالة من عبادك من تختاره وترتضيه، وأنت حسبي ونعم الوكيل.
فأجاب الله دعاءه، ولبى نداءه ومطلبه، ووهبه ولدا صالحا اسمه يحيى، وأصلح له امرأته بكل وجوه الإصلاح، وفيها إزالة كل موانع الحمل والولادة، فحاضت وحملت وولدت بعد أن كانت عاقرا لا تلد، وكبيرة السن لا يتوقع عادة وجود الحمل والولادة منها.
إن هذه الكوكبة النيرة من الأنبياء المذكورين في سورة الأنبياء عليهم السلام، ومنهم زكريا وزوجه كانوا يبادرون إلى الخيرات، والقيام بالطاعات، والتقرب إلى الله بالقربات، وعمل الصالحات. وكانوا أيضا يدعون ربهم رغبا ورهبا، أي رغبة في رحمة الله وفضله، وخوفا من عذابه وعقابه، في الرخاء والشدة، وكانوا متواضعين متذللين متضرعين، والمعنى أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين:
__________
(1) رجاء في الثواب، وخوفا من العقاب.
(2) متذللين خاضعين.
(3) حفظته من الحرام والحلال.(2/1612)
الأول- الفزع إلى الله تعالى، رغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه.
والثاني- الخشوع والإنابة: وذلك هو المخافة الثابتة في القلب. فهم في وقت تعبدهم كانوا بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف في حال واحدة لأن الرغبة والرهبة متلازمتان، والرغب لتحقيق المطلوب، والرهب لدفع المضرة.
ثم قرن الله تعالى بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام قصة مريم وابنها عيسى عليه السلام، لارتباطهما بشيء مشترك، فإن إنجاب زكريا من امرأة عاقر في سن الكبر، أعجب منه إنجاب مريم العذراء ولدا من أنثى بلا أب، فاذكر أيها الرسول خبر مريم بنت عمران التي حصّنت نفسها من الرجال، وخصصت نفسها للعبادة، فنفخ جبريل الروح الأمين في بطنها، أي أحيا ولدا في جوفها، وهو عيسى عليه السلام، وجعل الله أمر مريم وابنها عيسى وهو الحمل من غير أب آية ومعجزة خارجة عن العادة وعبرة لمن اعتبر في ذلك، من العالمين. أي لمن عاصر الحادث فما بعد ذلك، وذلك دليل على قدرة الله الباهرة، فهو سبحانه على كل شيء قدير، وإن ذكر مريم هنا وإن لم تكن من الأنبياء فلأجل عيسى ابنها النبي الرسول عليه السلام.
وحدة الأديان السماوية
أرسل الله تعالى الرسل، وأنزل الكتب، لتحقيق مضمون واحد، والوصول إلى مصير واحد، أما وحدة المضمون: فهي الدعوة إلى توحيد الله وعبادته، والعمل بمرضاته، والبعد عن مساخطه، وأما وحدة المصير: فهي عرض جميع الخلائق على ربهم في عالم الآخرة، مما يقتضيهم التزام أمر الله، واجتناب نهيه، فتحقق لهم السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، ولا داعي بعدئذ للتفرق والاختلاف في الدين، وهذا ما صرح به القرآن الكريم في قول الله تبارك وتعالى:(2/1613)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 97]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)
«1» «2» «3» «4» «5» »
[الأنبياء: 21/ 92- 97] .
المعنى: إن دين الله والإنسانية دين واحد، قائم على ملة التوحيد الخالص لله، والإيمان بالله تبارك وتعالى وعبادته، وتلك هي الملة الواحدة التي دعا إليها جميع الأنبياء والشرائع، إنهم جميعا متفقون على منهج واحد، وغاية واحدة، وما على البشر إلا توحيد الدين، والإنابة لرب العالمين، فهو الإله الواحد الذي لا إله غيره، فليعبده كل الناس، ولا يشركوا به أحدا من المخلوقات والأشياء الكونية.
إلا أن الأمم والشعوب اختلفوا مع الأسف، على الرسل بين مصدّق لهم ومكذب، وكان منهم المحسن ومنهم المسيء، وتقطّعوا أمر الدين الواحد، وتفرقوا فرقا شتى، وكل فرقة منهم سيرجعون إلى الله تعالى يوم القيامة، فيجازى كل واحد بما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ثم حوّل الله الخطاب إلى الغيبة للالتفات إلى مخالفات دين الله الواحد.
فمن عمل عملا من الصالحات، وهو مؤمن بالله، فهو بسعيه يجازى، ولا جحود لمسعاه، ولا إبطال لثواب عمله، ولا إضاعة لجزائه، وكل شيء قدمه فهو مدون محفوظ. والآية دليل واضح على أن أساس قبول الأعمال الصالحة عند الله: هو
__________
(1) ملتكم وهي الإسلام.
(2) تفرقوا في دينهم فرقا.
(3) ممتنع.
(4) إلينا بالبعث والجزاء.
(5) مرتفع من الأرض.
(6) يسرعون المشي في الخروج.(2/1614)
الإيمان الحق الذي يشمل التصديق بالله ورسله وبجميع ما أنزل الله في كتبه، وبما شرّع من شرائع وأحكام، وهذا هو المحسن، وقد ذكّره الله بالوعد الحسن وبالمصير المحمود.
ثم ذكّر الله المسيء بالوعيد في قوله: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي ومحظور ممنوع على أهل قرية، حكم الله بإهلاكها، رجوعهم إلى الدنيا فيتوبون ويستعتبون، أو رجوعهم عن الكفر إلى الإيمان والإسلام، والعودة إلى الرشد والاستقامة، فأولئك لا يؤمنون أبدا بسبب سوء اختيارهم وعنادهم، وتحجر طبائعهم.
وكلمة «لا» في قوله سبحانه: لا يَرْجِعُونَ زائدة للتأكيد، وهو شيء مألوف في لغة العرب.
ويستمر عدم رجوع القوم المهلكين إلى قيام الساعة وظهور أماراتها وهو خروج يأجوج ومأجوج، وهم الناس جميعا، يخرجون من قبورهم، ويقبلون على ساحة الحساب من كل مكان، مسرعين، فقوله تعالى: يَنْسِلُونَ معناه: يسرعون في تطامن، أي سكون أو انخفاض. والحدب: كل مسنّم من الأرض كالجبل والقبر ونحوه.
فإذا خرجت الأمم من القبور، وقرب الوعد الحق، أي يوم القيامة، ترى أبصار الكافرين شاخصة، أي مرتفعة الأجفان، جامدة لا تتحرك، ولا تكاد تنظر من أهوال القيامة وشدة أحداثها. يقولون: «يا ويلنا» أي يا هلاكنا، قد كنا في الدنيا غافلين لاهين. بل كنا في الواقع ظالمين لأنفسنا، بتعريضها للعذاب، لقد كانت بنا غفلة عما وجدنا عليه الآن، وتبيّنا من الحقائق، ونصرح بأننا نحن الظلمة. وهذا اعتراف واضح بما كانوا عليه من تعمّد الكفر وقصد الإعراض.
إن أمر الساعة الوعد الحق سريع الحدوث، رهيب الوقوع،
روى ابن جرير الطبري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(2/1615)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
رجلا اقتنى فلوا، بعد خروج يأجوج ومأجوج، لم يركبه حتى تقوم الساعة» .
والفلو: المهر أو الجحش يفطم أو يبلغ السنة.
جزاء الكافرين والمؤمنين
من المعلوم بداهة أن الجزاء من جنس العمل، وأن النجاح والرسوب بحسب الاستعداد للامتحان، فمن أحسن العمل، وأتقن الصنعة، وآمن إيمانا صحيحا، لقي الرضوان، وفاز بالجنان، ونجح في الامتحان. ومن أساء العمل، وأفسد المسعى، وكفر بالله وخالقه ورازقه، تلقى الهوان والسخط والغضب، وباء بالنيران، وخاب في النتيجة. وهذا منهج القرآن وكل كتاب إلهي، وهو حكم العقل الصحيح، قال الله تعالى مبينا هذا المنهاج:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 103]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102)
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الأنبياء: 21/ 98- 103] .
مطلع الآيات: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مخاطبة لكفار مكة، مفادها: إنكم أيها المشركون بالله عبدة الأصنام والأوثان، مع أصنامكم: حصب جهنم، أي وقود النار، تدخلونها جميعا، وتخلدون فيها، والورود في هذه الآية: ورود الدخول، وحرق الأصنام بالنار، على جهة التوبيخ لعابديها.
__________
(1) حطبها ووقودها. [.....]
(2) فيها داخلون.
(3) ما دخلوا جهنم.
(4) تنفس شديد.
(5) صوت اللهب.
(6) أهوال القيامة.(2/1616)
وقد نزلت الآية التي بعدها حينما اعترض عبد الله بن الزّبعرى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قائلا: إن عيسى وعزيرا ونحو هما قد عبدا من دون الله، فيلزم أن يكونا حصبا لجهنم، فنزلت آية: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى.
وأكد الله تعالى قبل بيان نجاة أهل الإيمان على إحراق الأصنام للتوبيخ، بأنه لو كانت هذه الأصنام آلهة صحيحة، تضر وتنفع كما يدعي عبدتها، ما دخلوا النار، لأن أبسط شيء في الفكر: أن الذات أو النفس تدفع الضر عن حالها، وكل تلك الآلهة المزيفة المعبودة من دون الله، مخلدة في نيران جهنم، دائمة العذاب فيها، لا مخرج لهم منها.
وللمعذّبين من شدة العذاب أنين وزفير، والزفير: صوت المعذب، وهو كشهيق الحمير وشبهه، إلا أنه من الصدر، وهم في النار لا يسمعون فيها خبرا مفرحا، ولا شيئا سارّا من القول، بل يسمعون صوت الزبانية الذين يتولون تعذيبهم.
أما أهل السعادة: فليسوا من المعذّبين لأنهم لم يرضوا بعبادتهم أنفسهم، ولا دعوا إليه، فهؤلاء سبقت لهم من الله الحسنى، أي تقرر في علم الله أنهم بسبب التزامهم الإيمان وصالح الأعمال في الدنيا، مبعدون عن دخول النار، وهم مبشّرون بالجنة والثواب العظيم، وموفّقون للعمل الصالح، كما قال الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 10/ 26] . فسقط بذلك اعتراض عبد الله بن الزبعرى على ظاهر الآية السابقة: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ.. فإن المعبودين من غير علم منهم ولا رضا بعبادتهم من قبل الجاهلين هم ناجون من العذاب، وأوصاف نعيم السعداء أربعة: هي أنهم لا يسمعون حسيس النار، أي صوتها وحريقها في الأجساد وشررها، وهم ماكثون أبدا على الدوام في الجنان، يتمتعون بما اشتهت أنفسهم من نعيم الجنة ولذائذها، ولا يحزنهم الفزع الأكبر، أي(2/1617)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
لا تخيفهم أهوال القيامة، بعد قيامهم من قبورهم للحساب، إلى أن يصلوا إلى الجنة، وتستقبلهم الملائكة بالسلام عليهم، والتبشير لهم، قائلين لهم: هذا يومكم الذي وعدتم فيه الثواب والنعيم، إنه يوم المسرة الأكبر، ويوم الثواب والفرحة الأعظم، ويوم الحسنى، والحسنى: الرحمة وحتمية التفضيل.
ألا ما أعظم الفرق الشاسع بين مصير هؤلاء السعداء، فهم المخلّدون في النعيم، المتمتعون بأطيب وأحسن الأحوال، وأما أولئك الأشقياء فعلى العكس من ذلك تماما، إنهم مخلدون في الجحيم، وفي أسوأ الأحوال، وأتعس الأوصاف والأوضاع.
طي السماء وإرث الأرض
في يوم القيامة تتبدى عجائب، وتظهر أحوال خطيرة، تنبئ عن عظمة القدرة الإلهية، وتذهل منها العقول والأفكار، من هذه العجائب تبدّد السماوات وطيّها كطي سجل الكتاب، وتغيّر الأرض تغيرا غير منتظر، وسرعة الحساب، وتقرير مصير الخلائق على نحو غريب، وسوق الناس إلى مصائرهم سوقا سريعا، إما إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وإما إلى نار محرقة تتلظى بها الجلود، وتحترق بها الأكباد والقلوب، وهذا ما أخبرت عنه الآيات الآتية:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 104 الى 106]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)
«1» «2» «3» «4» «5» [الأنبياء: 21/ 104- 106] .
__________
(1) الصحيفة.
(2) على ما كتب فيها.
(3) الكتب المنزّلة.
(4) اللوح المحفوظ.
(5) كفاية.(2/1618)
إن الملائكة الكرام تستقبل وفود أهل الإيمان، وتتلقاهم مبشرين مهللين، يوم يطوي الله تعالى السماء، بواسطة ملك كما يطوى السجل، أي الصحيفة المخصصة للكتابة، وهذا الطي كائن حتما، يوم يعيد الله الخلائق بالبعث خلقا جديدا، كما بدأهم في أول مرة، والله وحده هو القادر على إعادتهم، إنه وعد لا يتخلف، والله قادر على فعل ذلك الطي بيسر وسهولة، كما جاء في آية أخرى:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) [الزمر: 39/ 67] .
أما تبدل السماوات والأرض، فجاء الخبر عنه في قوله سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) [إبراهيم: 14/ 48] .
وقوله سبحانه: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ يحتمل معنيين كما ذكر ابن عطية في تفسيره:
أحدهما: أن يكون خبرا عن البعث، أي كما اخترعنا الخلق أولا على غير مثال، كذلك ننشئهم تارة أخرى، فنبعثهم من القبور.
والثاني: أن يكون خبرا عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى الدنيا.
ثم أخبر الله تعالى عما قضاه وقدره لعباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة ووراثة الأرض، فذكر سبحانه أنه قضى قضاء محتما في كتاب الزبور، بعد التوراة أو القرآن: أن وراثة الأرض في الدنيا والآخرة لا تكون على الدوام والاستقرار إلا لعباد الله الصالحين وهم المؤمنون العاملون بطاعة الله تعالى. والذكر: إما التوراة كما قالت فرقة، أو القرآن وهو قول ابن عباس، أو اللوح المحفوظ، والزبور: إما ما(2/1619)
أنزله الله على داود عليه السلام، أو أنه اسم يعم جميع الكتب المنزلة، لأنه مأخوذ من «زبرت الكتاب» : إذا كتبته.
والأرض: إما أرض الجنة بقول فرقة، لقوله تعالى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزّمر: 39/ 74] . وإما أرض الدنيا في قوله فرقة أخرى، أي كل ما يناله المؤمنون من الأرض، لقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: 24/ 55] .
إن في هذا المذكور في سورة الأنبياء أو في القرآن بجملته، من الأخبار والوعد والوعيد، والمواعظ المؤثرة، لإبلاغا كافيا ومنفعة تامة لقوم عابدين: وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبّه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات الأنفس.
والعبادة التي يتصف بها العابدون تتضمن الإيمان بالله تعالى، واجتماع أوصاف العبادة التامة من الإيمان، وطاعة الله والخشوع له، مؤهلة أصحابها للتمكن في الأرض في الدنيا، والظفر بالجنة في الآخرة.
النبي صلّى الله عليه وسلّم رحمة للعالمين
ختمت سورة الأنبياء بعد إيراد سيرتهم وقصصهم ببيان الغاية السامية من بعثة خاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليه، والتي هي في جوهرها أنه رحمة للعالمين في الدين والدنيا والآخرة، أما في الدين فبإنقاذهم من الجاهلية والضلالة إلى العلم والنور والهداية، وأما في الدنيا فهو لتحقيق العزة والنصر، والتخلّص من الذّلة والمهانة، فإن آمن الناس برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم سعدوا وصعدوا وارتقوا، وإن أعرضوا وتنكروا، فما على هذا الرسول إلا البلاغ المبين، قال الله تعالى واصفا خاصية رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم:(2/1620)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 107 الى 112]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)
«1» «2» «3» [الأنبياء: 21/ 107- 112] .
المعنى: وما أرسلناك أيها النبي محمد بشريعة القرآن وهديه وأحكامه ودستوره إلا لرحمة جميع العالم من الإنس والجن، في الدنيا والآخرة. أما رحمته للمؤمنين: فهي بيّنة تتجلى في تحقيق إسعادهم في دنياهم، ونجاتهم في أخراهم، وأما رحمته للكافرين:
فتظهر في أن الله تعالى رفع عن مختلف الأمم أنواع العذاب الشامل المستأصل، كالطوفان وغيره.
وجوهر رسالة هذا النبي تتمثل في قوله لقومه أهل مكة وكل إنسان: ما يوحى إلي شيء إلا أن الله إله واحد لا شريك له، فاعبدوه وحده فهل أنتم مطيعون، خاضعون لأوامر الله؟! فإن أعرضوا وتركوا ما دعاهم إليه هذا الرسول، فقل لهم: أعلمتكم أني حرب لكم، وأنتم حرب لي، وأخبرتكم خبرا نتساوى في العلم به، وهذا عدل في الاعلام والإخبار: وهو أنني بريء منكم، وأنتم بريئون مني، وقد عرفتكم إنذاراتي، وأردت أن تشاركوني في معرفة ما عندي من الخوف عليكم من الله تعالى.
وأعلمكم بأنني لا أعرف وقت عقابكم، وإنما هو مترقب في القرب والبعد، فما توعدون به من العذاب، وتغلّب المؤمنين عليكم هو واقع كائن لا محالة، والله هو العالم بتحديد وقته.
__________
(1) أعلمتكم ما أمرت به.
(2) مستوين في الاعلام والعلم به.
(3) امتحان لكم.(2/1621)
إن الله تعالى يعلم الغيب كله، ويعلم ما يظهره الناس وما يسرون، ويعلم ما يطعنون به في الإسلام، وما يضمرونه من الحقد والكيد على المسلمين، وسيجزيكم الله على قليل ذلك وكثيره.
وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم ابتلاء واختبار لكم، وتمتع باللذات والمنافع الدنيوية إلى أجل مسمى، لينظر ماذا تعملون. وقوله تعالى: لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ الضمير يعود على الإملاء والإمهال لهم، والفتنة: الاختبار والابتلاء، والمتاع: ما يستمتع به مدة الحياة الدنيا.
ثم أمر الله نبيه أن يقول على جهة الدعاء: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي افصل بيننا وبين قومنا المكذّبين بالحق والعدل، فإنك لا تحكم إلا بالحق، ولا تحب إلا الحق. وفي هذا الدعاء توعد، أي إن الحق هو نصرتي عليكم.
ثم علّم الله نبيه كيفية التوكل عليه، والاستعانة بالله تعالى، أي إن الله ربنا هو المستعان، ويطلب منه العون على وصف الشرك والكفر، والكذب والباطل، ومفاد قولهم المزعوم: أن لله ولدا، وأن محمدا ساحر شاعر، وأن القرآن شعر، وأنهم طامعون في الانتصار على المسلمين، بحيث تكون الشوكة والغلبة لهم.
وهذا الطلب والاحتكام إلى الله: إنذار للمشركين، وإظهار للحق، وتوعد للكفرة، وتهديد بالهزيمة والاندحار أمام جند الحق والإيمان، وأنصار الرحمن والقرآن، وقد تحقق هذا الإنذار، فإن الله نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا هو الحي القيوم. وهذا دليل آخر على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، وأنه رسول من عند الله تعالى لخير البشرية.(2/1622)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
تفسير سورة الحج
التقوى وسببها
إن مهمة المربي المخلص الترغيب في الاستقامة، والتحذير من الانحراف، وإلا لم يكن مربّيا صدوقا، ولا معلما ناجحا، لذا عني القرآن الكريم من أجل النجاح في التربية بالحض على تقوى الله تعالى التي تشمل الجانبين الإيجابي والسلبي، بالتزام المأمورات التي تحقق الخيرات والفلاح، واجتناب المنهيات التي تؤدي إلى الشر والخسران، وهناك سبب آخر للأمر بالتقوى: وهو النجاة في عالم الحساب يوم الآخرة، ففي الآخرة الرعب والرّهب، ولا أمان من مخاوف هذا اليوم، والنجاة من أهواله، إلا باستقامة الإنسان، وقد أمر الله تعالى صراحة بالتقوى لتنفع صاحبها في عالم القيامة، فقال سبحانه:
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)
«1» «2» «3» [الحج: 22/ 1- 4] .
هذا مطلع سورة الحج المدنية النزول، وصدر الآية يتضمن تحذيرا لجميع العالم
__________
(1) أهوال القيامة. [.....]
(2) تغفل.
(3) عات متمرد.(2/1623)
لتفادي أهوال القيامة، فيا أيها البشر، احذروا عذاب الله، بطاعته، والبعد عن معصيته، ثم أكد الله هذا الأمر بأمر زلزلة القيامة، حين حدوثها، قبل قيام الناس من القبور، لقوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) [الزلزلة: 99/ 1- 2] وتلك الزلزلة: هي إحدى شرائط القيامة، وسميت الزلزلة حين نزول القرآن شيئا، وهي حينئذ معدومة، لأن تيقن وجودها يجعلها شيئا موجودا، أي هي إذا وقعت شيء عظيم، فيكون المعنى أنها إذا كانت، فهي شيء عظيم جدا، والزلزلة:
التحريك العظيم، وذلك مع نفخة الفزع ومع نفخة الصعق حسبما تضمن حديث أبي هريرة من ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث.
وأوصاف يوم القيامة الرهيبة هي:
1- يوم تذهل الزلزلة كل مرضعة عن وليدها الرضيع. والذهول: الغفلة عن الشيء بطارئ من هم أو وجع أو خوف.
2- وتسقط الحامل جنينها من بطنها من شدة الخوف والفزع.
3- وتجد الناس كالسّكارى من الخوف، وهم في الواقع غير سكارى من الشراب، ولكن شدة العذاب أفقدتهم وعيهم.
ومع هذا التحذير الشديد ووصف هذه الأهوال العظام، يجادل بعض الناس في المغيبات بغير علم، كالمجادلة في صفات الله وأفعاله، وقدرته على البعث وغيره، ويتبع في جداله بالباطل خطوات كل شيطان متمرد عات، فهو لا يجادل بالحق، وإنما يجادل بالباطل. قال ابن جريج: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث وأبي بن خلف.
وقيل: في أبي جهل بن هشام. وكان النضر كثير الجدال، يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء من بلي وصار ترابا.(2/1624)
والآية تتناول كل من يتصف بهذه الصفة، أي الجدال بالباطل، وهي كما قال الزمخشري في الكشاف عامة في كل من تعاطى الجدال، فيما لا يجوز على الله، وما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال، ولا يرجع إلى علم، ولا يتّبع حجة ولا برهانا صحيحا، فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل، وتدل الآية بمفهومها على جواز المجادلة بالحق، وهي المجادلة مع العلم، ومن أجل التعلم والتعرف على الحقيقة، لقوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 16/ 125] .
وأما المجادلة بالباطل: فهي المرادة من قوله تعالى: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزخرف:
43/ 58] .
ثم أبان الله مصير الذي يتبع الشيطان، وهو أنه قضي على من اتبع الشيطان، وجعله وليا ناصرا له: أن يوقعه في الضلال، ويهديه إلى النار، أي يدله على طريق ذلك. والمقصود أن اتباع الشيطان يؤدي إلى الضلال في الدنيا، وإلى عذاب النار في الآخرة، وهذا وعيد واضح لمن اتبع الشيطان، وتحذير من الانسياق مع وساوسه وأباطيله.
بعض أدلة البعث
أقام الله تعالى أدلة كثيرة على إثبات البعث واليوم الآخر، منها في أوائل سورة الحج خلق الإنسان، وخلق النبات، فالله تعالى خلق الإنسان من تراب، كما في قوله تعالى:
فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ. وخلق النبات من زرع وشجر، كما في قوله سبحانه: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً. وبعد إيراد الأدلة على قدرة الله على البعث، لا يلتفت إلى إنكار منكر له، ويكون الإنكار نوعا من العبث والمكابرة والعناد الذي لا يعتمد على عقل ولا فكر صحيح. قال الله تعالى مبينا موقف هذا المنكر المكابر والرد عليه:(2/1625)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
[سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 8]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [الحج: 22/ 5- 8] .
هذا لون صريح من مباشرة الحوار الرباني مع الناس، فيا أيها البشر، إن كنتم في شك من إمكان البعث ومجيئه، يوم القيامة، فانظروا إلى بدء خلقكم، فمن قدر على البدء قدر على الإعادة، بدليل مراحل خلق الإنسان السبع الآتية وهي:
1- إننا خلقنا أصلكم آدم من التراب، وخلقنا الغذاء من التراب.
2- ثم بدأ تخلّق الإنسان بحسب الأحوال المعتادة، ببدء تكون النطفة.
3- ثم تحولت النطفة بإذن الله إلى علقة، أي قطعة دم متجمد بعد أربعين يوما.
4- ثم صارت العلقة مضغة، أي قطعة لحم، مخلّقة أي متممة البنية، وغير مخلّقة:
غير متممة البنية، أي التي تسقط، وقد خلقناكم على هذا النحو من التدرج لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمتنا، ولتستدلوا بها على إمكان البعث، فإن من خلق الإنسان على هذا النحو من التدرج والتباين الظاهر، قدر على إعادة ما بدأه، بل هذا أهون في تقدير الناس، وإن كان لا فرق في القدرة الإلهية بين الحالين.
__________
(1) مني.
(2) قطعة دم متجمد.
(3) قطعة لحم.
(4) واضحة الخلقة.
(5) كمال قوتكم وعقلكم.
(6) الخرف والهرم، فهو أخس العمر.
(7) ميتة يابسة.
(8) انتفخت وارتفعت.
(9) صنف حسن.(2/1626)
5- ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ضعافا في البدن والعقل والحواس.
6- ثم تمرون في مراحل العمر، فتبلغوا أشدكم في عنفوان الشباب، وتتكامل قواكم البدنية والعقلية.
7- وبعضكم يتوفاه الله في مرحلة مبكرة من العمر، وبعضكم تتأخر وفاته، ويعيش حتى يصل إلى سن الشيخوخة والهرم، وضعف العقل والقوة والفهم، وتلك هي مرحلة الخرف، التي يعود بها الإنسان إلى حال الطفولة، هذا هو الدليل الأول على قدرة الله على البعث، يعتمد على التأمل في مراحل خلق الإنسان.
والدليل الثاني على إمكان البعث من الله: هو خلق النبات المشابه لخلق الإنسان، فإذا تأمل المرء أحوال الأرض، يراها أولا ميتة يابسة لا نبات فيها ولا زرع، فإذا أنزل الله عليها المطر تحركت بالنبات، ودبت فيها الحياة، وارتفعت وانتفخت بالماء والنبات، ثم أنبتت من كل صنف من النبات والزرع ما هو جميل المنظر، طيب الرائحة، متناسق الألوان أو مختلفها، لاختلاف ألوان الثمار والزروع والطعوم والروائح، والأشكال والمنافع، كما يلاحظ كل إنسان في فصل الربيع والصيف وغيرهما.
ذلك المذكور من خلق الإنسان والحيوان والنبات بسبب أن الله هو الحق الموجود الثابت الذي لا شك فيه، وأنه الإله القادر على إحياء الموتى كإحياء الإنسان والحيوان والنبات، وأنه تعالى القادر على كل شيء، فمن قدر على هذه الممكنات، فهو قادر على إعادة الأجسام إلى أرواحها.
ولتعلموا أن من قدر على إحياء الموتى قادر على الإتيان بالساعة، أي يوم القيامة، فالساعة كائنة واقعة لا شك فيها، ولتتيقنوا أن الله سيبعث أهل القبور، بعد أن بليت أجسادهم، وصاروا رمما، وسيعيدهم الله مرة أخرى أحياء، ليوم الحشر والحساب، والثواب والعقاب.(2/1627)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
أحوال الناس من الهداية الإلهية
تختلف أحوال الناس من الهداية الإلهية، على ثلاث فئات، فئة دعاة الضلال، وفئة أهل الشك والنفاق، وفئة الأبرار السعداء، ولكل فئة سلوك ومنهاج، وتفكير ونظام، وتسطر كل فئة بيدها خطوط مستقبلها، فلا يكون بعدئذ مجال للاعتراض، أو ادعاء لظلم، أو مفاجأة بواقع المصير، وقد أخبر القرآن الكريم عن هذه الفئات الثلاث في الآيات الآتية:
[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 14]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12)
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)
«1» «2» «3» «4» «5» [الحج: 22/ 8- 14] .
هذه أحوال ثلاث فئات من الناس. أما الفئة الأولى: فهم دعاة الضلال وأئمة الكفر، وهم الذين يجادلون في توحيد الله وأفعاله وصفاته بلا عقل صحيح، ولا نقل صريح، بل بمجرد الرأي المحض والهوى الخاص. إنهم يجادلون مستكبرين عن الحق وقبوله، بقصد إضلال الناس عن سبيل الله، سبيل الحق والعدل والتوحيد، فيكون عقابهم في الدنيا الخزي، أي الهوان والذل، وفي الآخرة الزجّ بهم في عذاب
__________
(1) أي معرضا عن القرآن كفرا وتعاظما.
(2) ذل وهوان.
(3) أي على شك وضعف في الإيمان والعبادة. [.....]
(4) الناصر.
(5) الصاحب المعاشر.(2/1628)
النار، وبئس العذاب. وسبب هذه النهاية الوخيمة: هو ما قدموا من الكفر والعصيان، واتباع وساوس الشيطان، فيكون جزاؤهم حقا وعدلا، وليس الله بظالم أحدا من عبيده، وإنما هم الظالمون لأنفسهم. فقوله تعالى: ثانِيَ عِطْفِهِ عبارة عن المتكبر المعرض.
وقد نزلت هذه الآية في أبي جهل، أنذره الله بالخزي (الذل والهوان) في الدنيا، فقتل يوم بدر، أو نزلت في النضر بن الحارث الذي قتل أيضا يوم بدر.
وأما الفئة الثانية: فهم أهل الشك والنفاق والمنفعة، والانتهازيون: وهم الذين يعبدون الله على شك وضعف في العبادة، فإن أصابهم خير مادي من غنيمة ومال، وكثرة نتاج في الماشية، رضوا عن هذا الدين، وإن أصابهم مرض أو فقر أو ضعف نتاج من الماشية، ارتدوا وكفروا، فخسروا أو ضيعوا الدنيا والآخرة، فلم يحصلوا من الدنيا على شيء، من عزّ وكرامة وغنيمة، ولا استفادوا من ثواب الآخرة، لأنهم كفروا بالله العظيم، وذلك هو الخسران البيّن الذي لا خسران مثله. وتأكيدا لعظم تلك الخسارة، ترى هؤلاء المنافقين يعبدون من غير الله آلهة من الأصنام، يستغيثون بها، ويستنصرون، ويسترزقون، وهي لا تضرهم إن لم يعبدوها، ولا تنفعهم في الآخرة إن عبدوها، ذلك الارتداد وعبادة الأصنام: هو الضلال الموغل في البعد، وتراهم أيضا يعبدون من ضرره في الدنيا أقرب من نفعه فيها، وضرره في الآخرة محقق متيقن، لبئس المولى: الناصر هو، ولبئس العشير: الصاحب هو.
وأما الفئة الثالثة: فهم الأبرار السعداء الذين آمنوا بقلوبهم وصدّقوا إيمانهم بأفعالهم وعملوا صالح الأعمال، فيكون جزاؤهم إدخالهم جنات تجري من تحت بساتينها وأشجارها الأنهار، إن الله يفعل ما يريد بإكرام أهل الطاعة والإنابة، ويهين أهل المعصية، ويحرمهم من فضله، يفعل على وفق مراده وإرادته ومشيئته(2/1629)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
المطلقة، فلا رادّ لقضائه، ولا معقب لحكمه، إنه سبحانه يدخل المؤمنين الجنة بحق وعدل، ويدخل الكافرين النار بحق وعدل، المؤمنون بسبب إطاعتهم لله تعالى، والكافرون بسبب عصيانهم أوامر الله تعالى.
إن بيان أحوال هذه الفئات الثلاث والموازنة بينهم، يكون خير ترجمان عن واقع الناس، وعن مصائرهم يوم القيامة، فهل من تفكير بإيمان صحيح، وهل من مسعى حميد نحو الطاعة، والفرار من المعصية؟
مناقشة اليائس من النصر
جرت العادة أن كل رسول أو سفير عن غيره يكون محميا ومؤيدا بقوة وسلطان من أرسله، ليتمكن من أداء مهمته على الوجه الأكمل، ويعود سالما غانما إلى مقره ووطنه، والله تعالى أشد غيرة وأعظم سلطانا وتأييدا لرسله الذين بعثهم لهداية البشرية، فيحميهم من أعدائهم، وينصرهم على مخالفيهم في نهاية الأزمة والمحنة، لذا وبخ الله تعالى أولئك الفئة من الناس وهم ضعاف الإيمان أو عديمو الإيمان على ما طرأ عليهم من القلق، وعلى ظنهم أن الله تعالى لن ينصر محمدا عليه الصلاة والسلام وأتباعه، وأبان الله لهم أنه سبحانه أمر نبيه ومن آمن معه بالصبر وانتظار الوعد الإلهي، وأنزل على رسوله الآيات البينات التي يبلغها لقومه، وللناس أجمعين، فقال الله تعالى:
[سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
»
«2» «3» «4» «5» [الحج: 22/ 15- 16] .
__________
(1) ينصر الله رسوله.
(2) بحبل.
(3) الجمهور على أن القطع هنا هو الاختناق.
(4) صنيعه بنفسه.
(5) في موضع خبر الابتداء، والتقدير: والأمر أن الله يهدي من يريد.(2/1630)
أبان الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين أمرين مهمين: وهما نصرته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة، لييأس المجادلون الانهزاميون العابدون الله على حرف (أي شك وضعف في العبادة) الظانون أن الله تعالى لن ينصر رسوله.
والأمر الثاني: إنزاله القرآن آيات واضحات ترشد إلى الحق والصواب.
والمعنى: يقول الله تعالى: نحن أمرنا رسولنا والمؤمنين بالصبر على الدعوة إلى الله، وانتظار وعدنا، فمن ظن غير ذلك، وأننا لن ننصر محمدا صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى السماء، أي بحبل إلى سقف بيته، وليختنق به، ولينظر وليتأمل في نفسه: هل يذهب بذلك غيظه من نصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ كلا، وهذا الكلام على جهة المثل السائر، وهو قولهم: «دونك الحبل فاختنق» يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه. وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع حياته. وسمي فعله وهو نصب المشنقة «كيدا» استهزاء، لأنه لم يكد به محسوده، وإنما كاد به نفسه، ولم يقدر على غيره.
والمراد من هذا المثل المتحدي به: أن الله تعالى ناصر بالتأكيد دينه وقرآنه ورسوله، لا محالة من ذلك، فليفعل أهل الغيظ ما شاؤوا.
قال ابن عطية رحمه الله: أبين وجوه هذه الآية أن تكون مثلا، ويكون النصر هو النصر المعروف، والقطع: الاختناق، والسماء: الارتفاع في الهواء بسقف أو شجر أو نحوه.
ثم أردف الله تعالى بيان ذلك المثل ببيان آخر، حول القرآن العظيم، والمعنى:
وكما وعدنا رسولنا بالنصر، وأمرناه بالصبر، كذلك أنزلنا القرآن آية بيّنة واضحة، لمن نظر واهتدى، يتعظ بها المعتبر، ويتأمل بها الواعي المتعظ، لا ليقترح معها شيء آخر، ويستعجل القدر، فإن إنزال كل شيء بحكمة وميعاد، وفي الوقت المناسب(2/1631)
بحسب مراد الله، لا بحسب مراد البشر، والضمير في أَنْزَلْناهُ عائد على القرآن، وجاءت هذه الضمائر هكذا، وإن لم يتقدم لها ذكر، لشهرة المشار إليه، نحو قوله تعالى:
حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 38/ 32] . والأمر أن الله يهدي من يريد، أو لأن الله يهدي بالقرآن ويوفق الذين يعلم أنهم يؤمنون، ومستعدون للإيمان بما أنزل، ويريد الله هدايتهم. وهداية الله تبارك وتعالى: هي خلقه الرّشاد والإيمان في نفس الإنسان.
حسمت هاتان الآيتان من أمرين أحدهما شخصي متعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والآخر عام متعلق بطبيعة بيان القرآن، وهداية الله البشر. إن أمر انتصار النبي صلّى الله عليه وسلّم على مخالفيه حقيقة ثابتة في مضمار العقيدة، ومصداقية التاريخ، وقد تم ذلك بنحو واضح، إلا أن مصائر الأمور تتعلق بالحكمة الإلهية والعلم الرباني، فقد يتأخر النصر، لترك الفرصة أمام الجناة، لتصحو ضمائرهم، وتتفتح عقولهم، وتتدبر أمر الوحي الإلهي.
وإن بيان القرآن الكريم القطعي الذي لا غبار عليه ولا شك في دلالاته وأخباره، ومهامه وغاياته، هو الذي خلّده وأبقاه أبد الدهر، وسيظل منارة الهدي الإلهي، ومفتاح صفحة الكون الذي تستضيء بهديه نفوس الحائرين، ولن تجد أقوم ولا أعدل، ولا أحكم ولا أصلح، ولا أفضل منه، وإن هداية الله وتوفيقه بالقرآن وغيره مستمرة، ومرتبطة بإرادة الله، وإرادة الله الهداية تقع في محلها حسبما يعلم الحق من كان أهلا للهداية وجديرا بها.
العدل الإلهي بين الفرق
انقسمت الشعوب والأمم إزاء الهدي الرباني إلى فرق وأحزاب، وفئات وجماعات، بحسب أهوائهم ونزعاتهم واستعداداتهم، فمنهم أهل الإيمان بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وغيره من الأنبياء، ومنهم من لم يؤمن بالأنبياء جميعا، ومنهم من آمن ببعض(2/1632)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
الأنبياء دون البعض الآخر، والله تعالى عالم بكل هؤلاء، يفصل بينهم فصلا قائما على العدل يوم القيامة، والله قادر على كل شيء، يهدي من علم أنه أهل للهداية، ويعذب من يستحق العذاب، ومن هداه الله فلا مضل له، ومن يهنه ويعذبه فلا مكرم له، سبحانه وتعالى، يفعل ما يريد، قال الله تعالى واصفا أحوال الأمم ومبينا مصائرها:
[سورة الحج (22) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)
«1» «2» [الحج: 22/ 17- 18] .
أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن فعله العادل، بجميع الفرق الدينية المختلفة، من المؤمنين بالله ورسله، واليهود، والنصارى، والصابئين: (وهم فرقة بين اليهود والنصارى، أو قوم يعبدون الملائكة، ويستقبلون القبلة، ويوحدون الله، ويقرءون الزبور) والمجوس: وهم عبدة النار والشمس والقمر، والمشركين: وهم عبدة الأوثان، يعبدون مع الله إلها آخر. هؤلاء جميعا يحكم الله بينهم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة، ومن كفر به النار، فإن الله تعالى شهيد مطلع على جميع أعمالهم، حفيظ لأقوالهم وأفعالهم، عليم بسرائرهم، وما تنطوي عليه ضمائرهم.
وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي عالم به: خبر مناسب للفصل بين الفرق، وفصل الله تعالى بين هذه الفرق: هو بإدخال المؤمنين الجنة، والكافرين النار.
وهذا أمر هين سهل على الله تعالى، فإن الله قادر على كل شيء، بدليل أن الله
__________
(1) عبدة الكواكب أو الملائكة.
(2) ثبت ووجب عليه.(2/1633)
يخضع ويسجد له كل شيء طوعا وكرها، وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جميعها لله تعالى وخضوعها، وقد ذكر الله في الآية كل ما عبد الناس، وهناك في المخلوقات أعظم مما ذكر كالبحار والرياح والهواء، يسجد لله جميع من في السموات وهم الملائكة، وجميع من في الأرض، ممن عبد من الإنس (الناس) والجن، وتسجد لله الشمس والقمر والنجوم العلوية، وكانت حمير وهم قوم بلقيس تعبد الشمس، وكانت كنانة من العرب تعبد القمر، وكانت قريش تعبد الشّعرى، وكانت أسد تعبد عطارد، وكانت تميم تعبد الدّبران، وكانت لخم تعبد المشترى، وكانت طي تعبد الثّريا، وكانت ربيعة تعبد المرزم.
والأشجار والجبال والدواب كلها تسجد لله أيضا، وإن عبدها بعض الناس، فمن الجبال أصنام الحجارة، ومن الشجر: النار والخشب، ومن الدواب: البقر وغير ذلك مما عبد من الحيوان كالديك ونحوه.
والسجود من هذه المخلوقات غير العاقلة: يراد به الخضوع والانقياد للأمر. وكثير من الناس حق له الثواب وهم من أطاع الله، وكثير منهم حق عليه العقاب: وهم من امتنع من طاعة الله وأبى واستكبر.
ومن يهن الله، فيشقيه ويضله لسوء فعله، وسوء استعداده للإيمان، فلا يقدر أحد على دفع الهوان عنه، ولا يسعده أحد، لأن الأمر بيده تعالى، يوفق من يشاء، ويخذل من يريد، بمقتضى الحكمة الإلهية القائمة على العدل المطلق، والعلم الشامل بأحوال الخلائق، فلا شقاء لأحد من دون فعله السيّئ، وعتوه وتمرده، وخروجه عن جادة الطاعة والاستقامة، وإن الله يفعل ما يشاء في عباده من الإهانة والإكرام، والتعذيب والإنعام، حسبما سبق في علمه الأزلي، والناجي: من سجد لله وخضع وانقاد للأمر، والهالك من عتا وتكبر عن طاعة الله تعالى.(2/1634)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
جزاء الكافرين والمؤمنين
الناس مهما اختلفوا في العقائد، فإنهم في النهاية صنفان: مؤمنون وكفار، الأولون آمنوا بالله ربهم، واهتدوا بشرعه وملته، والآخرون جحدوا بالله، وكفروا بما أنزل على رسله، وتنكروا للشرع الإلهي، وكل من هذين الفريقين ينتظر مصيرا معينا بحسب عمله، وما أعظم الفرق بين الجزاءين، وهذا ما أبانته الآيات التالية:
[سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
«1» «2» «3» [الحج: 22/ 19- 24] .
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال: نزلت هذه الآية: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد ابن عتبة. أي الفريقين المتبارزين في بدء معركة بدر الكبرى، إنهم ستة: حمزة وعبيدة وعلي من جانب المسلمين، وعتبة وشيبة والوليد من جانب المشركين.
والآية في الواقع ليست مقصورة على هؤلاء الستة، وإنما الإشارة فيها إلى المؤمنين والكفار على العموم، فهما الخصمان المختصمان في دين الله وصفاته.
والمعنى: أن الإيمان وأهله، والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة، بالعداوة والجدال والحرب. والمراد بالخصمين: الطائفتان، أو الفريقان المتميزان:
__________
(1) الماء الشديد الحرارة.
(2) يذاب به.
(3) مطارق.(2/1635)
فريق المؤمنين، وفريق الكافرين، تنازعوا في شأن ربهم وفي دينه، وكل منهم يعتقد أنه على الحق، وأن خصمه على الباطل.
فالذين كفروا بالله ربهم: مصيرهم واضح، قطّعت لهم ثياب من نار، أي تحيط بهم النار إحاطة شاملة، يصبّ على رؤوسهم الحميم، أي الماء البالغ أقصى درجات الغليان، فيذيب جميع ما في بطونهم من أحشاء، ويشوي جلودهم فيحرق الباطن والظاهر، وقوله سبحانه: يُصْهَرُ معناه: يذاب أو يعصر.
ولهم مقامع من حديد، أي لهم مضارب، تضرب بها رؤوسهم، فتنكشف أدمغتهم، فيصب الحميم حينئذ عليها. وكلما أرادوا الخروج أو الهروب من جهنم بسبب شدة العذاب والغم، أي الحزن الشديد، أعيدوا فيها كما كانوا، ويقال لهم:
ذوقوا العذاب المحرق، وهو عذاب النار الشديد، والمعنى: أنهم يهانون بالعذاب قولا وعملا، فإذا ارتفع لهب رفعهم، فيصلون إلى أبواب النار، فيريدون الخروج، فيضربون بالمقامع، وتردهم الزبانية.
ويعادل هؤلاء الفريق فريق أهل الإيمان بالله تعالى، ومصيرهم واضح أيضا، إن الله يدخل المؤمنين الذين يعملون الصالحات، أي الطاعات والقربات، ويتجنبون المنكرات، جنات عالية رفيعة، تجري الأنهار من تحت أشجارها وجوانبها وقصورها.
وحليتهم التي يلبسونها: أساور الذهب في أيديهم، وتزين هاماتهم ورؤوسهم باللؤلؤ: وهو في الدنيا ما يستخرج من جوف الصدف، والأشهر أنه اسم للجوهر، ويرتدون على أجسادهم الحرير الذي كان محرما لباسه على الرجال في الدنيا، في مقابلة ثياب أهل النار التي فصّلت لهم. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال- فيما يرويه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه-: «من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في(2/1636)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
الآخرة» . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا، إلا في الأسماء فقط، وأما الصفات فمتباينة.
وأرشد أهل الجنة إلى القول الطيب: وهو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وما جرى معها من ذكر الله تبارك وتعالى وتسبيحه وتقديسه، وسائر كلام أهل الجنة من محاورة شيقة وحديث طيب، فإنها لا تسمع فيها لاغية.
وأرشد أهل الجنة أيضا إلى الصراط الحميد: وهو طريق الله تعالى الذي دعا عباده إليه، فهو طريق الحق والاستقامة، المحمود في نفسه أو عاقبته وهو الجنة.
فهل بعد هذه المقارنة بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين يبقى أدنى شك في ضرورة الحذر من أفعال الكافرين، والرغبة في أفعال المؤمنين؟!
المسجد الحرام ومكانته
إن من نعم الله الكبرى على المسلمين اتخاذ الكعبة الشريفة قبلة ورمزا موحّدا لاتجاهات مسلمي العالم، لترتبط قلوبهم بإله واحد، وتتجه أنظارهم نحو رب واحد، ويعملون من خلال وحدة العقيدة على بناء وحدة السياسة والمنهاج، والعمل المشترك. فمن صدّ المؤمنين عن البيت الحرام. وحال دون العبادة فيه، ارتكب أعظم الظلم، وناله أفدح الإثم، لأنه قطع عنهم مهوى القلوب، وحجب مثوى أهل الإيمان عن ممارسة الشعائر والعبادات فيه، قال الله تعالى مبينا مكانة هذا البيت الحرام وأغراضه:
[سورة الحج (22) : الآيات 25 الى 26]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)(2/1637)
«1» «2» «3» «4» «5» [الحج: 22/ 25- 26] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه، حين صدّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عام الحديبية عن المسجد الحرام، وقد كره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم، وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود في العام المقبل.
نزلت هذه الآية إذن عام الحديبية عام (5 هـ) ، حين صدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المسجد الحرام لأنه لم يعلم لهم صدّ قبل ذلك الجمع.
والمعنى: إن هؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله، معذبون وهم المشركون في مكة، ويصدون عن سبيل الله صدا دائما مستمرا، وعن دخول المسلمين إلى المسجد الحرام، الذي جعله الله للناس جميعا مقرا لصلاتهم وعباداتهم وطوافهم، وأداء شعائرهم ومناسكهم، يستوي في شأن تعظيمه المقيم فيه، والبادي، أي من كان من أهل البادية وغيرهم ممن قدموا إليه.
ومن يرد فيه انحرافا عن أمر الله، ظالما غير متأول، عامدا السوء، نذقه يوم القيامة من العذاب المؤلم. قال مجاهد: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ أي يعمل فيه عملا سيئا» ، وعلى هذا تكون الآية عامة، تشمل كل أنواع المعصية، ويختص الحرم بعقوبة من همّ فيه بسيئة، وإن لم يعملها. ويراد بالآية جعل البيت الحرام مفتوحا لجميع الناس المؤمنين، من غير فرق بين حاضر مقيم وباد: آت من البادية، أو مقيم
__________
(1) مفعول ثان ل (جعل) ، أو حال من الضمير في ((جعلناه)) وهو مصدر بمعنى: مستو.
(2) المقيم فيه. [.....]
(3) الطارئ فيه غير المقيم.
(4) بميل عن الحق إلى الباطل.
(5) بيّنا.(2/1638)
وطارئ. وكلمة «بإلحاد» أي ميل، تشمل جميع المعاصي الصغيرة والكبيرة، من الكفر إلى الصغائر، فتعظيما لحرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة، ولم يعملها، لم يحاسب بذلك إلا في مكة.
ثم أبان الله تعالى مكانة البيت الحرام عند أهل الإيمان، ووبخ من أشرك فيه بالله تعالى، فاذكر أيها النبي محمد للناس وقت أن جعلنا لإبراهيم مكان البيت، أي أوحينا إليه القيام ببناء له، وعيّنا له موقع البناء، والبيت: هو الكعبة، وقيل له: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً أي ابنه على اسمي وحدي، ولا تشرك بي شيئا من خلقي، في العبادة والتعظيم، وطهّر بيتي من الشرك والأوثان والأصنام وجميع الأنجاس والدماء أن تطرح حوله، واجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، وهم الطائفون القائمون بالعبادة، الركّع الساجدون. فالطائف حول الكعبة الشريفة يخص العبادة بالله تعالى، لا يفعل ذلك ببقعة من الأرض سواها، ويذكّره وجود هذا البيت بإخلاص العبادة والتوحيد لله تعالى، والقائم في الصلاة والدعاء إلى الله يدعو ربه وحده، دون أي شيء سواه، والراكع الساجد لله تعالى في عبادة، تخضع هامته ويذل رأسه، ويجمع جميع جسده معبرا عن تمام الانقياد والخضوع لله رب العالمين.
إن مئات الناس وآلاف البشر تراهم حول الكعبة في غاية الخشوع والتضرع والإنابة، باكين نادمين، يطلبون من رب العزة خيري الدنيا والآخرة، والمكان مكان إجابة للدعاء، فتذرف الدموع، وتصفو النفوس، وتخضع لخالق الأرض والسماء، وتتجرد من الأهواء، وتتجه نحو الله لمغفرة الذنوب والتطهر من السيئات. فما أسعد لقاء المؤمن بربه حول البيت الحرام، إنه تمهيد للقاء الله يوم القيامة.(2/1639)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
فريضة الحج
الحج إلى البيت الحرام وأداء بقية المناسك: أحد أركان الإسلام، التي فيها الخير للمسلمين، وصلاح الدنيا والآخرة، وهو عبادة قديمة، وقد جعل الله تعالى البيت الحرام- فيما روي- متعبّدا لآدم عليه السلام، ثم درس بالطوفان وغيره، فلما كان عهد إبراهيم الخليل عليه السلام أمره الله تعالى ببنائه، في موضعه الحالي الذي أمره الله به بواسطة ريح كشفت له عن أساس آدم، فرتب قواعده عليه. ثم أمر الله إبراهيم بمناداة الناس إلى أداء الحج لتحقيق منافع لهم، دنيوية وأخروية، كما قال الله تعالى في الآيات الآتية:
[سورة الحج (22) : الآيات 27 الى 29]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الحج: 22/ 27- 29] .
أخرج ابن جرير الطبري عن مجاهد قال: كانوا لا يركبون، فأنزل الله: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فأمرهم بالزاد، ورخص لهم في الركوب والمتجر.
والمعنى: ناد يا إبراهيم في الناس بالحج، داعيا لهم إلى الحج إلى البيت الحرام، يأتوك راجلين ماشين، وراكبين على كل بعير ضامر مهزول، من كل طريق بعيد.
وقوله: وَأَذِّنْ من الأذان والتأذين: وهو الاعلام برفع الصوت، على نحو ما يكون للصلاة.
روي أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالأذان بالحج قال: يا رب، وإذا ناديت فمن يسمعني؟ قيل له: ناد يا إبراهيم، فعليك النداء، وعلينا البلاغ،
__________
(1) ناد وأعلم.
(2) أي راجلين ماشين على الأقدام.
(3) بعير مهزول.
(4) طريق بعيد.
(5) الإبل والبقر والغنم والمعز.
(6) التفث: الوسخ، والمراد هنا تقصير الشعر أو حلقه، وقص الظفر، ونتف الإبط.(2/1640)
فصعد على جبل أبي قبيس ونادى: أيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجّوا.
وجاء قوله تعالى: يَأْتِينَ بالتأنيث، عودا إلى معنى كُلِّ ضامِرٍ وفعل غير العقلاء كفعل المؤنث، لكنه يتضمن معنى الجماعات أو الرفاق.
ثم أوضح الله تعالى حكمة الحج بقوله: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ أي أدعهم إلى الحج ليحضروا منافع لهم، دينية بالظفر برضوان الله والجنة، ودنيوية بتحقيق منافع البدن والذبائح والتجارات، وتعارف المسلمين، وليذكروا اسم الله، أي يحمدوه ويشكروه، ويثنون عليه بالتكبير والتسبيح، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) وذلك في أيام معلومات هي أيام النحر الأربعة، أو عشر ذي الحجة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات: هي أيام العشر ويوم النحر وأيام التشريق.
واذكر اسم الله على الذبائح، وكلوا من لحومها، وأطعموا البائس الذي أصابه بؤس، أي شدة، والفقير المحتاج، أي يباح الأكل من الذبائح، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم. واستحب أهل العلم للرجل أن يأكل من هديه أو ضحيته، مع التصدّق بأكثرها. مع تجويزهم الصدقة بالكل، وأكل الكل. والبائس:
الذي قد مسّه ضرّ الفاقة وبؤسها، والمراد في هذه الآية: أهل الحاجة.
ثم أمر الله تعالى بالنظافة وإيفاء النذر والطواف حول الكعبة، فهذه واجبات ثلاثة:
هي إزالة الأوساخ العالقة بالأجساد، بقص الأظفار، وحلق الأشعار ونحوه من الأغسال، وإيفاء النذور التي نذورها تقربا إلى الله تعالى من أعمال البر، والطواف حول البيت الحرام وهو طواف الإفاضة أو طواف الزيارة (الركن) وقيل: طواف الوداع، والبيت العتيق: القديم، فهو أقدم بيت للعبادة، وأول بيت وضع للناس.(2/1641)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
والتفث في قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ: ما يفعله المحرم عند حلّه، من تقصير شعره وحلقه، وإزالة شعث ونحوه من خصال الفطرة.
روى الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) ومالك في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس من الفطرة: قص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، والاستحداد، والختان» .
الغاية من تعظيم حرمات الله
تتجلى في موسم الحج تضحيات عديدة، تتمثل في مفارقة الأهل والأوطان، واجتماع المؤمنين على صعيد واحد، والالتفات نحو شعائر واحدة ومناسك موحدة، تتطلب تعظيمها في نطاق مبدأ توحيد الله وقصد التقرب إليه، ورفض كل مظاهر وألوان الشرك والوثنية، وذبح الهدايا والقرابين إرضاء لله تعالى، وغرس جذور التقوى في القلوب، وإطعام الفقراء والمحتاجين من الهدايا في موسم التجمع العام، قال الله تعالى مبينا هذه الأغراض والغايات السامية:
[سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 33]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [الحج: 22/ 30- 33] .
__________
(1) شرائعه من مناسك الحج وغيرها.
(2) النجس وهو الأوثان.
(3) قول الباطل والكذب.
(4) مائلين عن الباطل إلى الدين الحق.
(5) تسقطه. [.....]
(6) موضع بعيد.
(7) الأنعام المهداة للبيت الحرام.
(8) مكان نحرها.
(9) أرض الحرم كله.(2/1642)
بعد أمر الله تعالى إبراهيم الخليل بالنداء للحج والأمر به، أوضح الله ثواب تعظيم أحكام الله ومناسك الحج، وذلك هو المأمور به من الطاعات في أداء مناسك الحج، وتعظيم حرمات الله: وهي كل ما لا يحل هتكه، ومن يعظم أحكام الله بتعلمها واجتناب المعاصي والمحرّمات، والتزام المأمورات فله الثواب الجزيل، الشامل أمرين: فعل الطاعة في حد ذاتها، واجتناب المحظور الحرام. وتعظيم شرائع الله خير محض للإنسان.
وشرائع الإسلام تتفق مع منهج الاعتدال والعقلانية والواقعية، لذا أباح شرع الله ما كانت العرب تفعله من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة، فأذهب الله جميع ذلك، وأحل للمسلمين جميع الأنعام من الإبل والبقر والغنم إلا ما استثني وتلي في آية المائدة مما فيه ضرر على الصحة والجسد: وهو الأربعة المعروفة: الميتة بأنواعها والدم ولحم الخنزير، وما أهل، أي ذبح لغير الله. وفي هذه الذبائح التي كانت للأوثان ضرر يمس العقيدة، كما يمس الصحة الإنسانية تماما، لذا أمر الله باجتناب الرجس، أي القذر من الأصنام، وسميت رجسا تنفيرا منها وتقبيحا لها، والمراد اجتناب عبادتها وتعظيمها، وأمر الله أيضا باجتناب قول الزور والابتعاد عنه، والزور: لفظ عام يشمل الكذب والكفر وكل ألوان الباطل، لأن كل ما عدا الحق:
فهو كذب وباطل وزور، ومنه شهادة الزور.
روى أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عدلت شهادة الزور: الإشراك بالله»
قال ذلك ثلاثا، وتلا هذه الآية.
وبعد اجتناب أنواع الكلام الزور، أمر الله بأن يكون الناس حنفاء لله، أي مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل، مستقيمين أو مائلين إلى الحق: وهو توحيد الله ونبذ الشرك بالله، فإن الشرك جرم عظيم، ومن يشرك مع الله إلها آخر، ويعبد(2/1643)
غيره، فقد خسر خسرانا عظيما، وهلك هلاكا مبينا، وهو في شركه شبيه بمن سقط من جو السماء، فتتخاطفه الطيور، وتقطّعه وتمزقه في الهواء، أو تعصف به الريح في مكان بعيد مهلك، لا خلاص له منه ولا نجاة.
وسبب تعظيم شعائر الله (وهي كل شيء، لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم) أنه دليل على وجود التقوى المهيمنة على القلوب، والانصياع لأوامر الله، واتباع أحكامه وتوجيهاته. ومن هذه الشعائر: ذبح البدن أي النوق والجمال، ففي البدن:
منافع دنيوية من اللبن والصوف والركوب عليها، وغير ذلك، وفيها منافع أخروية إذا قدمت هديا مبعوثا لموسم الحج، فإذا بعثها صاحبها هديا، فذلك هو الأجل المسمى، أي موعد نحرها، والتصدق بلحومها والأكل منها. ومكان نحرها وانتهاؤه أو محله عند البيت العتيق، أي الكعبة والحرم كله، لأن الحرم كله في حكم البيت الحرام، كما قال الله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 5/ 95] .
وسمي البيت الحرام بالبيت العتيق لأنه قديم، إذ هو أول بيت وضع للناس، كما تقدم، إلا أن الزبير قال: سمي عتيقا لأن الله أعتقه من الجبابرة بمنعه إياه منهم، أو لأنه لم يملك موضعه قط، فتحرر من الملكية الخاصة.
أماكن النسك لكل أمة
التقرب إلى الله تعالى بالذبائح والقرابين مشروع في كل أمة، وطريق لتخلص الإنسان من هواجس الذنوب والمعاصي وتعكيرها النفس والوجدان، فإذا أريق دم الذبيحة أحس المرء بالراحة النفسية، واطمأن إلى ذاته، وكأن هناك ارتباطا بين القلق النفسي وبين إراقه دماء الذبائح، لذا كانت شريعة القرآن الكريم كغيرها من الشرائع محددة لمواضع النسك والعبادة وذبح القرابين، كما جاء في الآيات الآتية:(2/1644)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
[سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 35]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
«1» «2» »
[الحج: 22/ 34- 35] .
المعنى: جعلنا لأهل كل دين سابق منسكا، أي موضع نسك وعبادة، يذبحون فيه الأنعام، تقربا إلى الله تعالى، وذلك ليس خاصا بأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو في كل الملل.
وقد شرع الله وحدد أماكن الذبح: ذبح الأنعام، لكي يذكروا اسم الله حين ذبحها، أي حين الشروع في الذبح أمرناهم بذكر الله، وأن يكون الذبح له، لأنه هو الرزاق، ويشكروا الله على نعمه التي أنعم بها عليهم، وتلك هي السنة في إراقة دم الذبائح.
وينبغي أن يتجه الذابح إلى الله الذي سخر للإنسان هذه المواشي، والله المقصود هو المعبود الواحد، وإن تنوعت الشرائع، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذه هي العلة في تخصيص الذبح باسم الله، وإفراده بالذكر، لأن تفرد الله بالألوهية يقتضي ألا يذكر على الذبائح غير اسمه تعالى. ومتى كان الإله واحدا، فله أسلموا، أي استسلموا وانقادوا لأمره وجميع أحكامه، وبشر أيها النبي بشارة على الإطلاق المخبتين، أي المتواضعين الخاشعين من المؤمنين برضوان الله، إذا اتصفوا بالصفات الأربع الآتية:
أولا- الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي إن الخوف والخشوع يهيمن على قلوبهم ومشاعرهم عند ذكر الله، لما يتصف به من العظمة والجلال.
__________
(1) مكانا للنسك والعبادة وذبح القرابين.
(2) المتواضعين لله تعالى.
(3) خافت هيبة.(2/1645)
ثانيا- وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ أي إن المخبتين الخاشعين هم الذين يصبرون على أحداث الدنيا ونوازلها، وعلى ما قد يجدونه من المشاق في طاعة الله.
ثالثا- وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ أي هم الذين يؤدون الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشروط، بخشوع قلب لله تعالى، وإخلاص وشعور بالغبطة في أداء الصلوات المفروضة وغيرها.
رابعا- وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي إنهم الذين ينفقون من بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق، على الأهل والقرابة وأهل الحاجة، مع إحسان في القول، ومحافظة على حدود الله وشرائعه.
هذه الصفات الأربع للمخبتين الخاشعين مثال شريف من خلق المؤمن الهيّن الليّن، إنهم المطمئنون بأمر الله تعالى، المتصفون بالخوف والوجل عند ذكر الله سبحانه، لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه. ولهم صفات عظيمة دينية وخلقية واجتماعية، فهم الذين يقيمون الصلاة، ويداومون على إقامتها، ويصبرون على المحن والضراء، ويمنحون غيرهم من الفقراء والمحتاجين بعض أموالهم التي رزقهم الله بها. إن هذه الصفات والمعاني هي صفات أهل الإيمان بحق، وقد ترددت في آي القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) [الأنفال: 8/ 2] . ومثل قوله سبحانه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 39/ 23] .(2/1646)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
ما يطلب عند ذبح الإبل
إن تسخير الأنعام من إبل وبقر وغنم للإنسان وتمكنه من الانتفاع بها من أعظم النعم على البشر، لذا يطلب تعظيم الله حين ذبحها والتسمية عليها، والأكل منها، سواء الذابح والمسكين والمحتاج، وإن الله لا ينتفع من أعمال العباد بشيء، ولكن النفع يعود على الإنسان ذاته، فما يقدّمه من قرابين وهدايا للحرم المكي أو أضاحي أو نذور، فإنما يقصد به تربية الإنسان، وغرس جذور التقوى في نفسه، وأداء واجبه وشكر نعمة الله عليه، وتكبيره على هداية الله إياه، وإحسانه القول والعمل، قال الله تعالى مبينا ما يطلب حال ذبح الإبل:
[سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
«1» «2» «3» «4» «5» [الحج: 22/ 36- 37] .
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريح قال: كان أهل الجاهلية يضمخون البيت الحرام بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: فنحن أحق أن نضمخ، فأنزل الله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها.. الآية.
يمتن الله تعالى على عباده أن يسّر لهم الإبل يتقربون بها بالإهداء إلى البيت الحرام، فيذكر سبحانه أننا جعلنا لكم الإبل ومثلها البقر من علائم دين الله وأدلة طاعته، والبدن جمع بدنة: وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة، ففي ذبحها في الحرم ثواب كبير في
__________
(1) البدن: الإبل.
(2) أعلام شريعته في الحج.
(3) أي قائمة معقولة.
(4) سقطت مقتولة على جنوبها.
(5) الذي لا يسأل، والمتعرض للسؤال.(2/1647)
الآخرة، ونفع عظيم بلحومها للفقراء في الدنيا وبالركوب عليها، وأخذ لبنها.
فقوله: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ الصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة.
فلتذكروا اسم الله عليها، حال نحرها، وكونها صافات أطرافها، قائمات معقولة، بأن تقولوا: بسم الله، والله أكبر، اللهم منك وإليك.
فإذا وجبت جنوبها، أي سقطت على الأرض مقتولة ميتة، فيباح لكم الأكل منها، وعليكم الإطعام منها للفقراء، سواء المتعفف عن السؤال وهو القانع، والمتعرض للسؤال بالسؤال أو السكوت وهو المعتر. من أجل هذا المذكور من الخير في ذبح الأنعام والأكل منها وإطعام الفقراء، ذللناها لكم مع عظمتها وقوتها، وجعلناها منقادة لكم، خاضعة لرغباتكم ومشيئتكم بالركوب والحلب والذبح، لكي تشكروا الله على نعمه، بالتقرب إليه، والإخلاص في العمل. فقوله تعالى:
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تعليل لما قبله، أي من أجل توجيه الشكر والحمد منكم لربكم على نعمه وأفضاله، فهي بمعنى «كي» .
والغاية من ذبح الأنعام ليس إيصال لحومها ودمائها إلى الله، فلله الدنيا والآخرة، والله غني عن العالمين، وإنما الغاية تحقيق التقوى والإخلاص، وأداء الأعمال الصالحة، وهذا الغرض التهذيبي يعود نفعه في مدى الحياة على الإنسان ذاته، فبصلاحه يصلح له قلبه وصحته، وجسده وسائر حواسه.
ثم كرر الله تعالى التذكير بالنعمة وتذليل الأنعام للناس، لأن في إعادة التذكير حثا وحضا على القيام بواجب شكر المنعم، والثناء على الله بما هو أهله، فمن أجل تلك الغاية المذكورة من ذبح الأنعام وهي غرس التقوى في القلوب ذلّل الله البدن (الإبل) ليعظم الناس الله، ويشكروه على ما أرشدهم إليه، من الدين الحق والشرع القويم، وكل ما يحبه ويرضاه، والإبعاد عما يكره، واجتناب ما يضر، ثم وعد الله تعالى(2/1648)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
المهديين الراشدين بالبشارة الكريمة بقوله: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ أي وبشر أيها النبي بالجنة والرضوان أهل الإحسان في العمل، القائمين بحدود الله، المتبعين ما شرع الله، الطائعين أوامر الله، المصدقين رسول الله فيما بلّغهم، وحذرهم وأنذرهم، وكل ما جاءهم به من عند الله عز وجل.
روي أن قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ والآية التي قبلها: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) نزلت في الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله تعالى عنهم، لكن ظاهر اللفظة يقتضي العموم في كل محسن، متواضع خاشع لله رب العالمين.
الإذن بالقتال ضد الأعداء
إن المنهج الرباني في علاج الأمور الشاذة والانحرافات الخطيرة قائم على غاية الحكمة والاعتدال، والتأني والإمهال، فلم يعجل الله البدء بقتال المشركين أنصار الوثنية والضلال، وإنما صبر عليهم مدى خمسة عشر عاما، ليكون للعقل والفكر وإعمال الرأي والقناعة الدور المهم في القضايا، ولتبدأ الأمة الإسلامية قوية ناشطة، معذورة في كل ما تؤديه من واجبات، لأن لغة السيف وقعقعة السلاح إنما تكون حين استفحال العدوان، واليأس من الصلاح والاستقامة، وهذا المنهج هو الذي نجده في ساحة التشريع الإلهي بالإذن بمشروعية القتال، بعد طول الصبر والمصابرة، والدفع بالحكمة والحسنى، فقال الله تعالى:
[سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
«1»
__________
(1) خائن للأمانة.(2/1649)
«1» «2» «3» [الحج: 22/ 38- 41] .
نزلت آية إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، وأراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية.
ونزلت آية: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ كما
روى أحمد والترمذي وغيرهما عن ابن عباس قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة، فقال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إن لله وإنا إليه راجعون! ليهلكن، فأنزل الله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) .
والمعنى: إن الله يدفع الشر عن عباده المصدقين بوجوده ووحدانيته، وبما أنزل على رسوله الكريم، الذين توكلوا عليه حق التوكل، وإن الله سبحانه يسخط على خائن العهد والأمانة، وجاحد النعمة والفضل. وكلمة «يدافع» في مواجهة من يتعرض للمؤمنين بالأذى، فيكون فعل الله مدافعة عنهم. وقيل: إن «دفاع» : مصدر دفع، والحساب: مصدر حسب.
وقد أبيح أو رخص للمؤمنين المعتدى عليهم بممارسة القتال، ضد ظلم المشركين إياهم، بإخراجهم من ديارهم وأموالهم، واستمرار إيذائهم، واضطهادهم، ومبادرتهم بكل أنواع التعذيب والمضايقة، وإن الله وحده قادر على نصر أهل الإيمان، إذا التزموا سبيل الطاعة.
__________
(1) معابد الرهبان. [.....]
(2) كنائس النصارى.
(3) معابد اليهود.(2/1650)
إن هؤلاء المؤمنين بالله ورسوله المعتدى عليهم: هم الذين أخرجهم المشركون من مكة إلى المدينة بغير حق، وهم محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ولم يكن منهم إساءة إلى قومهم، ولا ذنب إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له، فيكون أول أسباب مشروعية الجهاد أو القتال في الإسلام: هو الطرد من الأوطان بغير حق، ثم الدفاع عن حرية العبادة في الأرض، وحماية المقدسات.
ثم ذكر الله تعالى السّنة الثابتة للإله: وهي سنة التدافع، من أجل الحفاظ على مبدأ التوازن بين البشر، فلولا أنه تعالى يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور جماعة بآخرين، ولولا تشريع القتال دفاعا عن الوجود المؤمن والحرمات الإلهية، لهدّمت مواطن العبادة، سواء أكانت معابد لليهود أم النصارى أم للمسلمين.
ثم أكد الله تعالى صنعه أنه ليؤيدن بنصره الذين يقاتلون في سبيل إعلاء كلمة التوحيد، ورفع لواء الدين الحق، إن الله سبحانه هو القوي القادر على نصر أهل طاعته، المجاهدين في سبيله، العزيز المنيع الذي لا يقهر، ولا يغالب، فمن غالبة غلبه، ومن عاداه خذله وقهره.
والجديرون بالنصر: هم الذين إن مكنّهم الله في الأرض، وحقق لهم السلطة على الناس، ومنحهم النفوذ والهيمنة، قاموا بأمور أربعة: وهي إقامة الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل، وإيتاء الزكاة الواجبة، والأمر بالمعروف (وهو فعل كل ما أمر به الله شرعا، وحسن عقلا) والنهي عن المنكر (وهو اجتناب كل ما حظر شرعا، وقبح عقلا) فدعوا إلى توحيد الله وإطاعته، ونهوا عن الشرك وقاوموا أهله، والمرجع في الأمور كلها إلى حكم الله العلي القدير، وإلى تقديره في منح الثواب، وتنفيذ العقاب على ما عملوا، وفي هذا تأكيد لوعد الله تعالى بنصر أوليائه، وإعلاء كلمته، وخذلان أعدائه.(2/1651)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)
الاتعاظ بإهلاك الأقوام الغابرين
إن معرفة أحداث التاريخ وتحليل الوقائع والأسباب له فائدة كبري في علاج أمراض الشعوب والأمم، فالعقلاء: هم الذين يتأملون بما حدث، ويفكّرون بما وقع، ويدرسون الأسباب والنتائج دراسة متأنية قائمة على البحث والتمحيص، للحذر مما وقع، ولرسم سياسة المستقبل، في ضوء مجريات الأمور. وهذا ما جعل القرآن الكريم يعنى بقصص الأقدمين، ليعرف من يأتي بعدهم سبب الداء والدواء، وطريق الحذر واليقظة، ومن هذه المذكّرات للمشركين المكيين وأمثالهم: ما حدّثنا به القرآن من أحوال الغابرين، فقال الله تعالى:
[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 48]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [الحج:
22/ 42- 48] .
قوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ: هذه آية إيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووعيد لقريش، فهم كالأمم المكذّبة المعذّبة. والمعنى: إن يكذبك أيها النبي قوم قريش، فهذا له سابقة
__________
(1) قوم شعيب عليه السلام.
(2) أمليت: أمهلت وأخرت عنهم العقوبة، ويكون الإمهال بنية المعاقبة مع العلم بالفعل.
(3) إنكاري عليهم بالعقوبة.
(4) فكثير من القرى.
(5) ساقطة حيطانها على سقوفها.
(6) متروكة.
(7) مرفوع البنيان.
(8) أمهلتها.(2/1652)
تاريخية، لقد كذبت قبلهم أقوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وقوم إبراهيم ولوط، وأصحاب مدين قوم شعيب، وجماعة الأقباط الذين أرسل إليهم موسى، بما معه من الآيات البينة والدلائل الواضحة، فأخرت العذاب عن أولئك الكافرين، إلى وقت معلوم عندي (عند الله) ثم أخذتهم بالعذاب الشديد وأهلكتهم، فانظر كيف كان إنكاري عليهم، بتدميرهم وعقابي لهم، وقوله سبحانه فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ بإسناد فعل بعلامة التأنيث، لأنه سبحانه أراد بالقوم: الأمة والقبيلة.
والعبرة من الإخبار بهذا: الإنذار لقريش بأن ما جرى على المثيل يجري على مثيله.
وأسباب الإهلاك: هو ما أخبر به الله سبحانه، فكم من قرية أهلكها الله، وهي ظالمة، أي مكذبة رسلها، والمراد أهل القرية، والظالمة: معناه: الظلم بالكفر، وبالإهلاك تصبح ديار القرية ساقطة حيطانها على سقوفها، وتتعطل مرافقها وآبار مياهها المنتفع بها، وتتهدم قصورها المشيدة، أي المبنية بالشّيد: وهو الجصّ.
ثم أثار الله في القرشيين نوازع الفكر والتأمل، وحثهم على النظر والتفكر، فهلا سافروا وتنقلوا في البلاد، فيتأملوا بما حدث من مصارع القوم، ويفكروا بعقولهم في الأسباب والنتائج، ويسمعوا الأخبار بآذانهم، ليطّلعوا على الحقائق، ويدركوا الأسرار، فيتعطوا بما شاهدوا، ويقلعوا عما هم فيه من الشرك وتكذيب الرسول، ولكنهم مع الأسف لم يفكروا، ولم يعتبروا ولم ينظروا، لا بسبب عمى البصر، ولكن بسبب عمى البصيرة، فإن أبصارهم سليمة، ولكنهم عطلوا قدراتهم الفكرية وعقولهم الواعية، فلم يدركوا حقائق الأمور، ولم يتعمقوا في فهم الأحداث. ذكر الرازي في تفسيره: أن الآية تدل على أن العقل هو العلم، وأن محل العلم هو القلب، أي أداة الوعي.
ويتعجل القرشيون إيقاع العذاب الذي تنذرهم به أيها الرسول، فليطمئنوا فإن(2/1653)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)
العذاب آت لا محالة، وإن الله لا يخلف وعده الذي أوعدهم به، وهو مجيء القيامة، والانتقام من أعدائه.
وحلم الله واسع، فهو حليم لا يعجل، ومن حلمه: أن يوما واحدا عند الله كألف سنة مما تعدون، أي إن يوما من أيام العذاب الأخروي بمثابة ألف يوم من أيام الدنيا، لشدة عذابه وطول مقامه، فأين هم من عذاب ربك؟! وكثيرا من القرى، أي أهلها أمهلها الله، وأخر عنها العذاب والهلاك، مع أنها قائمة على الظلم، مستمرة على الكفر والعصيان، فاغتروا بذلك التأخير، ثم أخذها الله فأنزل العذاب بأهلها، ثم كان المرجع النهائي إلى الله، فيكون تأخير العذاب من قبيل الإمهال لا الإهمال.
تعيين مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم
إن مجيء الرسل للأمم والشعوب رحمة وفضل، وإن إيضاح مهامهم أمر طبيعي، ليدرك الناس السر والمنفعة العائدة عليهم من بعثة الرسل وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، بعثه ربه إلى الخلائق للإنذار والتخويف، والتبشير والترغيب، فاستهزاء قومه به لا يمنعه من أداء مهمته، ولا من القيام بواجبه، فهو رحمة للعالمين، وبشرى للمحسنين، وإنقاذ للعتاة الظالمين، فمن وعى الكلام واعتبر نجا، ومن أقفل عقله ولم يتعظ هلك وضل، قال الله تعالى مبينا ومحددا مهمة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم:
[سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)
«1» [الحج: 22/ 49- 51] .
__________
(1) متوهمين أن يعجزونا بالهرب.(2/1654)
إن استعجل القرشيون المكيون عذاب الله، فقل لهم يا محمد: إنما أنا لكم نذير من عذاب الله، أي مجرد منذر ومحذر واضح المقصد، ليس لي أن أعجل عذابا، ولا أن أؤخّره عن وقته، أرسلني الله إليكم لأحذركم من الوقوع في العذاب الشديد، وليس إلي من حسابكم شيء، بل أمركم إلى الله: إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخّره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب إليه، وهو سبحانه الفعال لما يريد ويختار، ومهمتي كما تتضمن الإنذار والتخويف، تتضمن التبشير بالجنة والترغيب، لفتح باب الأمل أمام المقصرين، وتدارك أخطاء الماضي، وعلاج الأحداث. فالناس صنفان: صنف المؤمنين، وصنف الكافرين.
أما الصنف الأول: فهم الذين صدقت قلوبهم بوجود الله وتوحيده، وصدقوا الرسول وما أنزل عليه من الكتاب، وآمنوا بالملائكة واليوم الآخر، وقرنوا بإيمانهم أعمالهم الصالحة من أداء الفرائض، والتقرب بالقربات، وإحسان القول والفعل، وهؤلاء يغفر الله لهم سيئاتهم، ويثيبهم على عملهم الصالح، ويرزقهم رزقا حسنا في الدنيا، ورزقا كريما في الآخرة وهو الجنة التي وصفها تعالى بقوله: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزخرف: 43/ 71] وأيد ذلك وصف الرسول صلّى الله عليه وسلّم لها بما
أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
ووصف الرزق بالكريم: «رزق كريم» لنفي المذام، كما تقول: ثوب كريم، ومنزل كريم.
وأما الصنف الثاني: فهم الذين كفروا بربهم وبآياته المنزلة في قرآنه، وكانوا معاجزين، مجاهدين في إبطال آيات الله، وردّ دعوة الدين والتكذيب بها، وثبّطوا(2/1655)
الناس عن متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ظنا منهم أنهم يعجزون ربهم، ويتفلتون من أمره، وأن ربهم لا يقدر عليهم، وهم في الواقع أهل النار الشديدة الإحراق، الكريهة العذاب والنكال، المقيمون فيها على الدوام، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) [النحل: 16/ 88] .
وقوله تعالى: سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ معناه: تحيلوا وكادوا، من السعاية.
والآيات: آيات القرآن الكريم، أي كادوا بالتكذيب وسائر أقوالهم. والمعاجزين:
الظانين أنهم يغلبون الله تعالى. وقوله سبحانه: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ: أي هم الكفرة لا غيرهم أهل النار، وشبّههم بالصاحب المالك: من حيث الدوام على العذاب في نيران الجحيم.
إن هذه الموازنة الدقيقة بين الصنفين في دار الدنيا قبل مجيء الآخرة تقتضي من العقلاء الحريصين على مصالحهم ونجاتهم أن يفكروا مليا في الأمر، قبل صدمة المفاجآت، وانقسام الناس قسمين: أبرار أخيار في الجنان، وفجار فساق كفار في النيران.
صيانة الوحي عن الشياطين
قصة الغرانيق
لا يمكن أن يقبل عقل أو يصدق إنسان، بتدخل الشياطين في الوحي الإلهي، لأن الله القادر على كل شيء يمحق كل إفك، ويحجب كل افتراء، ولو جاز شيء من هذا، لارتفع الأمان عن شرع الله، وبطلت الأحكام والشرائع، إذ لا فرق في العقل بين نقصان الوحي أو زيادته، أو تشوية معالمه، وهذا يبطل ما يسمى بقصة الغرانيق أي الأصنام، التي زعم الوثنيون أن النبي محمدا أشاد بها في القرآن فقال: (تلك(2/1656)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
الغرانيق العلا، وإن شفاعتهم لترتجى) . وهذه آيات كريمة تميط اللثام عن إفك هذه القصة المكذوبة المفتراة.
[سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 54]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
«1» «2» «3» «4» [الحج: 22/ 52- 54] .
إن قصة الغرانيق (الأصنام) موضوعة مكذوبة، وضعها الزنادقة، وهذه الآيات تبطل إفك الأفاكين، ومعناها: وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا تمنى، أي قرأ، ومعناها المشهور: أراد وأحب، فإذا رغب الرسول مقاربة قومه واتباعهم له، وجد الشيطان السبيل، فألقى في أوهام المشركين أن محمدا قال في سورة النجم في مسجد مكة بعد آية: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) [النجم: 53/ 19- 20] . قال: «تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» فقال الكفار: هذا محمد يذكر آلهتنا بما نريد، وفرحوا بذلك، فلما انتهى في آخر النجم إلى السجدة، سجد الناس أجمعون إلا أمية بن خلف، فإنه أخذ قبضة من تراب، فرفعها إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا، إن ما وسوس به الشيطان من مثل هذه الأباطيل والكلمات والخرافات التي تعلّق بها بعض الكفار، يزيله الله، ثم يجعل آياته محكمة محصنة، مثبّتة، لا تقبل التشويه والتزييف، أو الزيادة والنقصان، والله عليم بكل شيء، وبما أوحى إلى نبيه، حكيم في تقديره وخلقه، وأمره وأفعاله، له الحكمة التامة، والحجة البالغة، فيجازي المفتري بافترائه، ويظهر الحق للمؤمنين.
__________
(1) قرأ.
(2) ألقى الشّبه.
(3) فيما يقرؤه. [.....]
(4) فتطمئن وتخشع.(2/1657)
ليجعل الله ما يوسوس به الشيطان فتنة، أي ابتلاء واختبارا للمنافقين الذين في قلوبهم شك وشرك ونفاق، وللمشركين واليهود المعاندين وقساة القلوب، حين فرحوا بوساوس الشيطان، وظنوا أنه صحيح، وهو محض وسواس الشيطان. وقوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللام متعلقة بقوله: فَيَنْسَخُ اللَّهُ والفتنة: الامتحان والاختبار.
ولِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم عامة الكفار، ووَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ فئة خاصة كأبي جهل، والنضر بن الحارث، وعتبة، وإن هؤلاء الظالمين أنفسهم لفي شقاق بعيد، أي في بعد عن الخير، وضلال، و «بعيد» معناه أنه انتهى بهم إلى نهاية الانحراف، وتعمّق الضلال فيهم، فأصبحت رجعتهم منه إلى الحق غير مرجوة.
وهذا الإبطال لوساوس الشيطان، لكي يعلم أهل العلم النافع الذين يفرقون بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله وهم أصحاب النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم: أن ما أوحيناه إليك أيها النبي هو الحق الثابت الصحيح من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه، وصانه من اختلاط غيره به، فيصدقوا بالله تعالى، وينقادوا له، فتخبت له قلوبهم، أي تتطامن وتخضع وتخشع له نفوسهم، وتعمل بأحكامه وشرائعه وآدابه.
وإن الله تعالى لمرشد المؤمنين بالله ورسوله إلى طريق قويم، في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه، بتأويل المتشابه تأويلا سليما، وتفصيل المجمل تفصيلا واضحا. ثم في الآخرة يهديهم ربهم إلى الطريق القويم الموصل إلى جنان الخلد، ونعيم المصير.
قال القاضي عياض في كتاب الشفاء: لقد أجمعت الأمة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيما يبلغه عن ربه، معصوم من الإخبار عن شيء، بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا، ولا سهوا ولا غلطا.(2/1658)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
شك الكفار في القرآن
ما دام الكفر وسوء الاعتقاد في القلب، يظل الشك في أصول الإيمان وتنزيل القرآن قائما في نفوس الكفرة، ومن الصعب اقتلاع الشكوك من نفوس أناس أدمنوا على الضلال، واستمروا في العصيان، فإن ذلك يوجد ما يسمى «الران» أو الغطاء على القلب، فيحجب عنه كل أشعة الخير، وأضواء الهداية الربانية، وهكذا يظل الظلام الدامس جاثما في المكان حتى يبدده ضوء النهار، فإذا أحكم الإنسان إغلاق المنافذ، وحرص على إبقاء التعتيم، أمكنه ذلك، وهذا هو الفعل ذاته الذي يفعله الكافر الجاحد في قلبه، يحكم إغلاقه، ولا يدع شيئا مضيئا ينفذ إليه، وهذه هي حال عتاة الكفار من أهل مكة وأمثالهم، كما تصوّر هذه الآيات:
[سورة الحج (22) : الآيات 55 الى 57]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)
«1» «2» «3» [الحج: 22/ 55- 57] .
تقرر الآيات حكما دائما مستمرا: وهو أنه ما يزال الكفار في شك وريبة من هذا القرآن أو من محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو مما ألقى الشيطان من وساوس وترهات، حتى تأتيهم الساعة، أي يوم القيامة فجأة من غير أن يشعروا، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، أي يوم متفرد بالشدة، وهو في الدنيا يوم بدر في الآخرة يوم القيامة، وسمي يوم القيامة أو يوم الاستئصال والقتل عقيما، لأنه لا ليلة بعده ولا يوم. وجملة هذه الآية توعد لأهل الكفر، فهم ما يزالون على كفرهم لا يؤمنون، حتى يهلكوا.
__________
(1) مرية أي شك بالقرآن.
(2) أي تأتيهم القيامة فجأة.
(3) أي منفرد عن سائر الأيام لشدته.(2/1659)
ويظل الملك، أي السلطان والتصرف لله الواحد القهار، يوم القيامة يوم الجزاء والثواب والعقاب، حيث لا ملك فيه لأحد، يقضي الله بين الناس بالحق، وهو الحكم العدل جل شأنه، كما قال الله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) [الفاتحة:
1/ 4] . وقال سبحانه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) [الفرقان: 25/ 26] .
وتصدر أحكام الله قاطعة يوم القيامة، في حق الفريقين من الناس:
- فالذين آمنت قلوبهم، وصدقوا بالله ورسوله والقرآن، وعملوا صالح الأعمال من تنفيذ الأوامر، واجتناب النواهي، هم في جنات النعيم المقيم، الذي لا يزول ولا يتغير، وهذه هي حالهم القائمة، المبنية على حالهم في الدنيا من الإيمان الصحيح والعمل الصالح.
- والذين كفرت قلوبهم بالحق وجحدته، وكذبوا بالقرآن وبالرسول، وخالفوا الرسل، واستكبروا عن اتباعهم، فلهم عند ربهم عذاب مذلّ مخز، مقابل استكبارهم عن اتباعهم الحق، وإعراضهم عن القرآن المجيد، كما جاء في آية أخرى:
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) [غافر: 40/ 60] . أي صاغرين ذليلين، وهذه الحال أيضا: متفرعة عن حال هؤلاء في الدنيا من الكفر الصريح، والضلال، والانحراف عن هدي الله وشرائعه وأحكامه.
لا يملك الإنسان أمام هذه اللون من المقارنة بين مصير المؤمنين الصادقين، والجاحدين المتمردين، إلا أن ينصاع لصفّ الفريق الأول- فريق أهل الإيمان، وتمتلئ نفسه رهبة وخشية وخوفا، من سوء الفريق الثاني- فريق الكفر والضلال، وتزداد الرهبة حين يسمع ويرى عظمة القاضي الأوحد، والإله الأعدل، حيث يظهر إفلاس(2/1660)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
الكافرين، وتنهار آمال الظالمين، ويبدأ تنفيذ الأحكام القطعية الصادرة عن الحق سبحانه وتعالى، فلا يجد الإنسان ملاذا ولا ملجأ، ولا نصيرا سوى الله جل جلاله.
ثواب المهاجرين
لقد قام دين الله وانتشرت دعوة محمد بن عبد الله في الآفاق بفضل جهاد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبفضل تضحيات أصحابه وأتباعه وأنصاره، فهم الذين سطروا لأنفسهم بحروف من نور صفحات الخلود، وتركوا الأوطان، وهجروا السوء والضلال، من أجل إرضاء الله تعالى والعمل المخلص لله عز وجل، ومن هنا سجل القرآن المجيد موقف الفخار والاعتزاز للمهاجرين الأولين من مكة إلى المدينة، لنصرة رسول الله وتأييد دعوته، وجهاد أعدائه، ودفع شر المعتدين، قال الله تعالى مبينا مدى إحسانه وفضله على الذين هاجروا في سبيل الله:
[سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 60]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
«1» «2» [الحج: 22/ 58- 60] .
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري عن مقاتل أن آية: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ ... نزلت في سرية بعثها النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلقوا المشركين لليلتين من المحرّم، فقال المشركون بعضهم لبعض: قاتلوا أصحاب محمد، فإنهم يحرّمون القتال في الشهر الحرام، فناشدهم الصحابة، وذكّروهم بالله: أن لا يتعرضوا لقتالهم، فإنهم لا
__________
(1) الجنة.
(2) ظلم بإعادة العقاب.(2/1661)
يستحلون القتال في الشهر الحرام، فأبى المشركون ذلك، وقاتلوهم، وبغوا عليهم، فقاتلهم المسلمون، ونصروا عليهم، فنزلت هذه الآية.
هذا وعد كريم من الله تعالى للمهاجرين المجاهدين. فلما مات بالمدينة عثمان بن مظعون، وأبو سلمة بن عبد الأسد، قال بعض الناس: من قتل من المهاجرين، أفضل ممن مات حتف أنفه، فنزلت هذه الآية: وَالَّذِينَ هاجَرُوا مسوّية بينهم في أن الله تبارك وتعالى يرزق جميعهم رزقا حسنا، وليس هذا بقاض بتساويهم في الفضل.
وظاهر الشريعة: أن المقتول في الجهاد أفضل. والجنة درجات. ويستوي جميع المهاجرين في الرزق الحسن وهو الجنة، فالذين خرجوا مهاجرين في سبيل الله وتركوا أوطانهم ابتغاء مرضاة الله، ثم قتلوا في الجهاد، أو ماتوا قضاء وقدرا من غير قتال، ليمنحنهم الله الجنة، وليرزقنهم رزقا حسنا، من فضله وكرمه، إن الله هو خير الرازقين، يرزق من يشاء بغير حساب، كما جاء في آية أخرى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 4/ 100] .
إن هذا الرزق الحسن: هو إدخال هؤلاء المهاجرين المجاهدين في سبيل الله موضعا كريما، يرضون عنه، وهو الجنة، أو رزق الشهداء عند ربهم في البرزخ، وإن الله لعليم تام العلم بمن هاجر وجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك، فهو عليه.
ذلك الأمر المخبر به من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا: هو لأنهم ضحوا في سبيل الله، وقاوموا أهل الظلم، فمن عاقب من المؤمنين من ظلمه من الكفرة، أو من اعتدي عليه، وقوتل ظلما، ومن بغي عليه بإلجائه إلى الهجرة ومفارقة الوطن، لينصرنه الله نصرا مؤزرا، إن الله ليصفح عن المؤمنين، ويغفر لهم خطأهم(2/1662)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
إذا تركوا ما هو الأولى بهم، وهو العفو عن المسيء، وفيه حض على العفو عن الجاني، كما قال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) [الشورى:
42/ 43] . وقال سبحانه: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 42/ 40] وقال عز وجل: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة: 2/ 237] .
وفي هذا دلالة واضحة على أن القادر على العفو، قادر على العقوبة، فليس العفو عن ضعف وعجز، وإنما العافي هو الذي يقدر على ضده.
من أدلة القدرة الإلهية
يقرن الله تعالى عادة إنجاز وعده بالنصر لأوليائه أو بعثه العباد بعد الموت، بأنه صاحب القدرة المطلقة التي لا حدود لها، ويضرب الأمثال على ذلك، ويقيم الأدلة الحسية المشاهدة في الكون على قدرته سبحانه من السمع والبصر، وإيلاج الليل في النهار وعلى العكس، وأنه الحق الثابت، وإنزاله المطر من السماء، وملكه جميع ما في السماوات والأرض، وتسخير ما في الأرض والسفن للناس، وإمساك السماء من وقوعها على الأرض، وإحياء الأنفس، وإماتتها، ولكن الإنسان قصير النظر، جاحد النعمة، لا يقدّر عادة نعم الله عليه، قال الله تعالى موضحا هذه الأدلة القاطعة على قدرته:
[سورة الحج (22) : الآيات 61 الى 66]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65)
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)
«1»
__________
(1) يدخل.(2/1663)
[الحج: 22/ 61- 66] .
يورد الله تعالى في هذه الآيات طائفة من البراهين والأدلة على قدرته الفائقة، وعلمه الشامل، ومن اتصف بهذه القدرة العظيمة، كان قادرا على نصر أوليائه، ومنها ما لا يدّعى لغير الله تعالى، وهذه الأدلة:
1- تقصير الليل وزيادة النهار وعكسها، وعبر عن ذلك بكلمة إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، تشبيها وتجوزا، وذلك بسبب أن الله سميع لكل قول وهمسة، بصير بكل فعل وحال، لا يخفى عليه شيء مطلقا، وأن الله هو الحق، أي الموجود الثابت الواجب الوجود لذاته، من غير مثيل ولا شريك، أي أنه مصدر الوجود، وأنه المعبود بحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولأن الله هو المتعالي على كل شيء، بقدرته وعظمته، الكبير عن أن يكون له شريك، فهو العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا شيء أعلى منه شأنا، الكبير الذي لا أكبر منه. فكيف يصح لعبدة الأصنام والأشخاص عبادة من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا؟! 2- إنزال المطر من السماء فتصير به الأرض ذات خضرة بالنباتات والأزهار ذات الألوان البديعة، والأشكال الرائعة، بعد يبسها وجمودها، إن الله رحيم لطيف بعباده، يدبّر لهم أمر المعاش والمعاد، خبير بمصالح خلقه ومنافعهم وأحوالهم، لا تخفى عليه خافية.
3- ملك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، فجميع ما في السموات وما(2/1664)
في الأرض لله سبحانه خلقا وملكا وعبيدا، فكل شيء مملوك له، خاضع لأمره، وهو غني عما سواه، محمود على كل حال.
4- تسخير ما في الأرض والفلك وإمساك السماء: فإن الله سبحانه ذلّل لكم أيها الناس جميع ما اشتملت عليه الأرض في ظاهرها وباطنها، من حيوان وجمادات ومعادن وزروع وثمار، لتنتفعوا بها في مصالحكم المختلفة، وذلّل لكم السفن جارية في البحار، لنقل الركاب والبضائع والأشياء بإذن الله، ويحفظ السموات من سقوطها على الأرض إلا بإذنه وأمره، ويحدث ذلك يوم القيامة حيث تتساقط الكواكب والنجوم، وتتصدع السموات وتزول، إن الله تعالى رؤف رحيم بالناس على ظلمهم، لا يعاملهم بما يعملون.
5- الإحياء والإماتة في ثلاث مراتب منصوص عليها في غير هذه الآية، فكنتم أيها الناس أمواتا، ثم أحياكم بالولادة، ثم يميتكم عند انتهاء الأجل، ثم يحييكم يوم القيامة. وقد عبر الله في هذه الآية أولا بلفظ الماضي أَحْياكُمْ لأن الإحياء قد تم وحدث، ثم عبّر بلفظ المضارع ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للدلالة على المستقبل وهو الموت في الدنيا، ثم البعث والحياة الجديدة في الآخرة. إن الإنسان جحود نعم الله تعالى، فلم يقدّر تلك النعم، ولم يهتد بها إلى عبادة الله وتوحيده، وهجر ما عداه من الآلهة المزعومة.
وقد تكررت الآيات الدالة على هذه المراحل، مثل قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) [البقرة:
2/ 28] . إن المرور بهذه المراتب الثلاث مؤذن بعوامل التغير، وأن الله قديم أزلي لا يتغير، وأنه هو القادر الذي جعل الإنسان يمر في هذه المراحل، حتى يظل مرتبطا بالإله الخالق، ويفوض الأمر إليه.(2/1665)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
اختلاف المناسك والعبادات بين الأمم
اقتضت الحكمة الإلهية أن تتعدد مظاهر العبادة والشرائع بين الأمم والملل المختلفة، وليس هذا التعدد إلا شكليات وأحوالا، جوهرها واحد، وغايتها واحدة، وهي الاتجاه إلى الله الخالق الذي يعبده جميع الناس، فلا يصح أن يكون التفاوت في هذه العبادات سببا للاختلاف والحوار والعداء والخصام، وإنما ينبغي الاتفاق والاتحاد في المضمون، وتفويض الأمر إلى الله المعبود، وتصفية النفوس من الأحقاد والبغضاء، والحسد والعصبية، فإن لم يتحقق هذا كان الحساب عسيرا، والحكم بين العباد يوم القيامة شديدا، ولا يغيب عن الله شيء في الأرض ولا في السماء، ومعلومات الخلائق كلها مدوّنة في اللوح المحفوظ، وإحضارها وجمعها وحفظها يسير على الله، قال الله تعالى مبينا هذا الاختلاف في المناسك:
[سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 70]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
«1» [الحج: 22/ 67- 70] .
أخبر الله تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا، أي عبادة وشريعة، يتعبدون بها، ويسيرون على منهاجها، بحسب ظروف الزمان المكان، ومقتضيات التدرج والتطور، ونضج الفكر والعقل، فأنزل الله التوراة على موسى عليه السلام فيها لون من الشدة تتفق مع طبائع بني إسرائيل، ثم أنزل الله الإنجيل على عيسى عليه السلام لتخفيف حدة المادة والطقوس والشكليات وضرورة العناية بالجوهر والروحانيات، وإشاعة
__________
(1) المنسك: مصدر بمعنى العبادة والشريعة، وهو أيضا موضع النسك، والأول هو المراد هنا.(2/1666)
المحبة واللطف بين الناس، ثم أنزل الله القرآن الكريم جامعا بين منهج المادة والروح، منسجما مع العلم والعقل، واضعا كل ما يحقق تقدم الحضارة الإنسانية، فكان تشريع القرآن معتدلا، ووسطا بين الشرائع، وصالحا لكل زمان ومكان.
وإذا كان هذا هو شأن التدرج في الشرائع، فلا يصح لمعاصريك يا محمد أن ينازعوك في أمر الدين والكتاب والشريعة، فلكل أمة شريعة خاصة، تناسب الزمان الذي جاءت فيه، ولا تتأثر أو تنزعج أيها النبي بمنازعتهم لك، واثبت على دينك الحق ثباتا، لا يتزعزع ولا يلين.
وادع هؤلاء المنازعين والمسالمين، أي كل الناس إلى سبيل ربك ودينه الحق، فإنك على طريق واضح مستقيم، موصل إلى المقصود، وهو سعادة الدنيا والآخرة، كما جاء في آية أخرى: وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) [القصص: 28/ 87] .
وإن لم يصغ الناس إلى دعوتك الموحدة هذه، وجادلوك بالباطل، بعد أن ظهر الحق، فقل لهم على سبيل التهديد والوعيد: الله عليم بما تعملون وبما أعمل، ويجازي كل امرئ بما عمل، كما قال الله سبحانه في آية أخرى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) [يونس: 10/ 41] .
وقل لهم أيضا متوعدا ومحذّرا: الله يقضي بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة، فيما اختلفوا فيه من أمر العقيدة والدين، والقضاء مقدمة للجزاء الحاسم، المتردد بين الجنة والنار، والثواب والعقاب، الجنة والإثابة لمن قبل بدعوة القرآن، والنار والعذاب لمن رفض هذه الدعوة، وبه يتبين الحق من الباطل، والمحق من المبطل.
ثم أخبر الله تعالى عن كمال علمه بالمخلوقات والكائنات كلها قبل خلقها، وبما يستحقه كل من المحسن والمسيء، فلقد علمت أيها الرسول وكل مؤمن برسالتك أن(2/1667)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
علم الله محيط بجميع ما في السماء وما في الأرض، لا يغيب عنه مثقال ذرة فيهما، ويعلم بالكائنات قبل وجودها، وكل ذلك مسطّر مسجّل في اللوح المحفوظ، ففيه كل ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وشمول علم الله، وحكمه في الاختلاف بين الناس يسير سهل على الله تعالى، والسر في إيراد هذه الآية المتعلقة بسعة علم الله للإخبار بأن عند الله علم كل شيء، ليقع الحكم في معلوم معروف.
عبادة المشركين الأصنام
لقد انحدر العقل البشري والفكر الإنساني انحدارا لا مثيل له، حين أقدم المشركون الوثنيون مع الأسف الشديد، على عبادة الأصنام والأوثان، على الرغم من قيام الأدلة الواضحة على وحدانية الله تعالى، وعلى القدرة الإلهية، وعلى علم الله الشامل المحيط بكل شيء، وعلى عدم وجود حجة مقبولة سمعية نقلية أو عقلية على صحة هذه العبادة الباطلة، وعلى ظهور الأدلة الحسية على أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع، فلم يبق هناك مجال إلا للحكم بأن أولئك الوثنيين أغبياء جهلة، سذّج وسطحيون، وهم مع كل هذا إذا تلي عليهم القرآن اغتاظوا وغضبوا، وهموا بالبطش بمن يتلو ويذكّر، وها هو القرآن المجيد يصف هذا النحو من سلوك المشركين الشاذ، قال الله تعالى:
[سورة الحج (22) : الآيات 71 الى 73]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
«1» «2»
__________
(1) حجة وبرهانا.
(2) يبطشون غيظا.(2/1668)
[الحج: 22/ 71- 73] .
هذه ألوان من أباطيل المشركين الدالة على جهلهم وكفرهم وسخفهم، فهم يعبدون آلهة من غير الله، ليس لهم دليل نقلي ولا عقلي على صحة عبادتها، والله سبحانه لم ينزل حجة ولا برهانا من السماء، يدل على إباحة عبادتها، وليس لديهم دليل عقلي مقبول يسوغ هذه العبادة، فيكونون ظالمي أنفسهم بتلك العبادة، وليس للظالمين ناصر ينصرهم، أو محام وكيل يدافع عنهم إذا نزل بهم العقاب أو العذاب.
- وإذا تليت على المشركين آيات القرآن، ودلائله الواضحة على توحيد الله، وعلى صدق رسله الكرام، ظهرت على وجوههم علامات الغيظ والغضب، وطفحت قلوبهم بالحقد والنفور.
إنهم يوشك أن يبطشوا بالذين يتلون عليهم آيات الله وسور القرآن، مما يشير إلى امتلاء قلوبهم بالكفر، وتسلط الجهل والعناد عليها، حتى صاروا ميئوسا من علاجهم، وعودتهم أصحاء الفكر والعقيدة.
قل أيها النبي محمد لهؤلاء المشركين على جهة التوعد والتقريع: أأخبركم بشرّ من ذلكم السطو على المؤمنين، وغيظكم الذي ملأ قلوبكم؟ وكأن قائلا قال له: وما هو؟ قال: النار، أي نار جهنم وعد الله بها الكافرين، فعذابها أشد وأعظم مما تهددون به المؤمنين في الدنيا، وبئس المصير، أي بئس النار موئلا ومقاما لكم، كما جاء في آية أخرى: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) [الفرقان: 25/ 66] . والمصير:
مفعل من «صار» : إذا تحول من حال إلى حال.
ثم ذكر الله تعالى مثلا يدل على حقيقة الأصنام وفساد عبادتها، وسخف عابديها،(2/1669)
فخاطب جميع العالم بقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ قاطبة، ضرب الله تعالى مثلا لهذه الأصنام، فاستمعوا لهذا المثل، وتفهموا حال تلك المعبودات، فإذا أدركتم حالها، وبقيتم على عبادتها، كنتم أسوأ منها. إن ما تعبدون من غير الله من الأصنام والأنداد، لن يقدروا على خلق أتفه شيء، ولو ذبابة واحدة أو بعوضة، حتى ولو اجتمع لهذه المهمة جميع تلك المعبودات وعابديها، وكما أنها عاجزة عن خلق ذبابة واحدة، فهي عاجزة عن مقاومة الذباب والانتصار منه، فإن يسلبها الذباب شيئا مما عليها من الطيب الذي كانوا يضمخون به أوثانهم، لم يقدروا على استنقاذه منها، علما بأن الذباب أضعف مخلوقات الله، لذا قال تعالى: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ أي عجز الطالب وهو الإله المعبود من دون الله، أي الصنم، من استنقاذ الشيء المسلوب من الذباب المطلوب، أو ضعف عابد الصنم والصنم المعبود.
وعلى أي من القولين دلّ ضعف الذباب المحسوس، وضعف الأصنام الملموس، على أن الأصنام في أحط رتبة، وأخسّ منزلة، ومن عبدها كان على شاكلتها، بل أسوأ منها، لأن كرامة الإنسان وارتقاءه أشرف من أن يذل لحجر أو معدن أو هيكل فارغ المحتوى والمعنى.
تعظيم الله وتوحيده واختياره
الإله المالك الخالق الرازق المنعم المتفضل، يتطلب طبعا وعقلا الإقرار بعظمته، وتوحيده، وإفراد الأمر إليه في اختيار ما يشاء، وإرادة ما يريد، سواء في الإحياء والإماتة، أو الرزق والنعمة، أو إرسال الرسل، واختيار الملائكة، وإنزال الكتب، فهو العليم بالمصلحة، وإليه المرجع والمآب، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه. غير(2/1670)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
أن الناس إما في غفلة عن هذه الواجبات، أو في جحود وإنكار، فيكون القرآن العظيم هو الدواء الناجع لعلاج التقصير، والمذكّر بما يجب على الإنسان نحو ربه، قال الله تعالى واصفا أحوال الجاحدين:
[سورة الحج (22) : الآيات 74 الى 76]
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
»
[الحج: 22/ 74- 76] .
تتضمن الآيات المذكورة موضع الإلهيات والنبوات، أما الإلهيات: فإن الكفار يعبدون ما لا حجة لهم فيه ولا علم، فهم أي الكفار ما قدروا الله حق قدره، أي ما عرفوا حقيقة قدر الله وعظمته وجلاله، وما عظّموه حق التعظيم الواجب لذاته، حين عبدوا معه غيره، من الجمادات التي لا تعقل، ولا تمنع الضرر عن نفسها، ومن الأشخاص الذين هم بأشد الحاجة إلى من يعينهم على شؤون الحياة، والله وحده هو القوي القادر، الذي بقدرته خلق كل شيء، العزيز الذي عزّ كل شيء وقهره، فلا يغالب ولا يمانع، لعزته وعظمته، فهو الجدير بالعبادة والتعظيم.
ومن أجدر بذلك منه تعالى، فهو مصدر الوجود والخلق، ومصدر الخير والرزق والنعمة، والغني عن كل شيء، والقوي القاهر القادر على كل شيء.
ثم انتقل البيان القرآني من أوصاف الألوهية وما يجب لها، إلى أمور النبوة، فأفاد سبحانه أنه يختار من الملائكة رسلا لتبليغ الوحي إلى الأنبياء، ويختار من الناس رسلا لإبلاغ الرسالة إلى العباد، حسبما يشاء، وعلى وفق ما يريد، ويناسب الحكمة والمصلحة، كما قال الله تعالى في آية أخرى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 6/ 124] .
__________
(1) ما عظّموه وما عرفوه.(2/1671)
وقد نزلت آية اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ حينما قال الوليد بن المغيرة: أو أنزل عليه الذكر من بيننا؟ فنزلت الآية.
وختمت الآية بتقرير بعض صفات الله عز وجل، وهي كونه تام السمع لأقوال عباده، وتام البصر والاطلاع على أحوالهم وأمورهم، وعليما كامل العلم والإحاطة بمن يستحق اختياره للرسالة، فقوله: وَمِنَ النَّاسِ هم الأنبياء المبعوثون لإصلاح الخلق، الذين اجتمعت لهم النبوة والرسالة.
إنه سبحانه يعلم علما تاما بأحوال الملائكة والرسل والمكلفين، ما مضى منها وما يأتي، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم، وقوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ عبارة عن إحاطة علمه بهم، وحقيقتها: ما قبلهم من الحوادث وما بعدهم.
ويؤيدها آيات كثيرة في معناها، منها قوله سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إلى قوله: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجن: 22/ 26- 28] .
وختمت الآية بقوله سبحانه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي وإليه يوم القيامة مرجع الأمور كلها، فلا أمر ولا نهي لأحد سواه.
وهذا تنبيه إلى القدرة التامة المهيمنة على كل شيء، وإلى تفرد الله سبحانه بالألوهية والحكم. وقوله سبحانه: يَعْلَمُ وقوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يتضمن مجموعهما الزجر عن الإقدام على المعصية، وضرورة الإقبال على ساحة الطاعة والامتثال.
لقد آن للعقل البشري أن يستفيق من غيه، وللإرادة الإنسانية أن تعود سريعا إلى ما يدل على أقل واجبات الوفاء نحو الله جل جلاله، وإلى المبادرة بالقيام بالفرائض والطاعات، قبل أن تغرب شمس العمر الإنساني، ويفجأ الموت بشدته وجود الإنسان.(2/1672)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
أصول الفرائض الإسلامية
إن برهان الولاء للحق سبحانه: هو العبادة الخالصة لله، لذا أمر الله تعالى بعبادته، وجعل أصول العبادة متمثلة بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتصام بالله وبالقرآن، والجهاد في سبيل الله، وفعل الخير والمعروف. وهذه هي جملة الشرائع الإلهية المحققة للعبودية الشخصية لرب العزة، والمحافظة على عزة المؤمنين، وتقوية الصلات الاجتماعية فيما بينهم، ومسوغات هذه الواجبات كثيرة أهمها ثلاثة: هي اجتباء واختيار المسلمين لها، وكون هذه الشرائع هي شريعة إبراهيم عليه السلام، وتسميتنا مسلمين في القرآن الكريم والكتب السابقة، وهذا ما أوضحته الآيات التالية:
[سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
«1» «2» [الحج: 22/ 77- 78] .
هذه جملة الأوامر التشريعية اليسيرة في القرآن الكريم، أولها الأمر بعبادة الله تعالى، وخصّ الله الركوع والسجود بالذكر تشريفا للصلاة، فيا أيها المؤمنون المصدقون بالله ورسوله، صلوا الصلاة المفروضة عليكم، المشتملة على الركوع والسجود، واعبدوه بسائر ما تعبدكم به من حج وصيام ونحوهما، وأقبلوا على فعل الخير الذي يرضي ربكم، ويقربكم منه، بأداء الطاعات وصلة الأرحام، والتحلي
__________
(1) اختاركم لدينه.
(2) ضيق ومشقة.(2/1673)
بمكارم الأخلاق. وفعل الخير يشمل التكاليف كلها، والأمر بها لتفلحوا وتفوزوا بما عند الله من الثواب والرضوان.
وحفاظا على جماعة الإيمان، جاهدوا في سبيل نصرة دين الله، ومن أجل إرضاء الله، جهادا حقا خالصا لوجهه الكريم، والجهاد ثلاثة أنواع: جهاد النفس والهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الأعداء، ويكون الجهاد باللسان والنفس والمال.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» .
وأسباب الجهاد ثلاثة:
أولا- إن الله تعالى اجتباكم واختاركم أيها المسلمون من بين سائر الأمم للقيام بهذه المهمة السامية، وخصكم بأكرم الرسل، علما بأنه تعالى لم يجعل الدين ضيقا حرجا شاقا، وإنما جعله سهلا يسيرا، فلم يكلفكم ما لا تطيقون، وإنما الجهاد لرد الاعتداء أمر ميسور، تقتضيه ضرورات الدفاع عن الوجود والحرمات والكرامات، والديار والأوطان، والعقيدة والشريعة الحق.
ثانيا- جعل الله ملتكم هي كملة إبراهيم الخليل أبيكم العظيم، وهي ملة الحنيفية السمحة، القائمة على التوحيد ونبذ الشرك والوثنية.
ثالثا- إن الله تعالى أو إبراهيم الخليل هو الذي سماكم المسلمين، أي المنقادين لأمر الله، من قبل أي في الكتب القديمة، وفي هذا أي في القرآن، والراجح أن الضمير في قوله سبحانه: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ يعود إلى الله تعالى، بدليل قوله:
وَفِي هذا أي في القرآن، فهذه اللفظة تضعف قول من قال: الضمير لإبراهيم.
وهذه التسمية تؤول وتكون عاقبتها أن تتصف أمة الإسلام بالوسطية والاعتدال، عند جميع الأمم، فتتأهل أن يكون الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم شهيدا على أمته بتبليغها ما(2/1674)
أرسل به إليهم، وليكون المسلمون شهداء على الناس في أن الرسل بلّغتهم رسالة ربهم، وشهادة الرسول على أمته علة في الحكم وهو تسميتها أمة مسلمة. وقبول شهادة المسلمين على غيرهم فيه تشريف للأمة.
وإذا كانت الأمة الإسلامية لها هذه المكانة، فعلى المؤمنين مقابلة هذه النعمة الجليلة بشكرها، وشكرها بإقامة الصلاة وأدائها تامة الأركان والشرائط بخشوع كامل، وخضوع تام لله، وإيتاء الزكاة التي هي طهرة للنفس والمال، والاعتصام بالله، أي الثقة به والالتجاء إليه، والاستعانة بقوته الفائقة على دفع كل مكروه، وهو ناصركم على من يعاديكم، فنعم المولى، أي الحافظ والناصر والمالك والخالق، المتولي أمور الخلائق، ونعم الناصر المعين وهو الله تعالى.(2/1675)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
تفسير سورة المؤمنون
صفات أهل الإيمان
عني التشريع المكي في مبدأ الإسلام بغرس أصول الإيمان والعقيدة الحقة، وتخلق المؤمنين بمحاسن الأخلاق وأكرم الشيم والآداب، وذلك من أجل بناء الفرد المسلم، وتسلحه بقواعد الإسلام والتزامه بأركان هذا الدين الإلهي، ونجد هذا الاتجاه واضحا في السور القرآنية المكية، ومنها سورة «المؤمنون» : التي هي مكية بإجماع. وقد افتتحت ببيان خصال سبع للمؤمنين، وثم تبشرهم بالفلاح والفوز بجنان الفردوس إن اتصفوا بها اتصافا ملازما، والتزموا بها التزاما صحيحا، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه عبد الرزاق وغيره: «أنزل علي عشر آيات، من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) قال الله تعالى:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
«1» «2» «3» «4» «5» [المؤمنون: 23/ 1- 11] .
__________
(1) فازوا وسعدوا. [.....]
(2) متذللون.
(3) ما لا يحمد من القول والفعل.
(4) المجاوزون الحلال إلى الحرام.
(5) الفردوس: أعلى الجنان.(2/1676)
كان الصحابة يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة- كما روى ابن أبي حاتم عن ابن سيرين مرسلا- فنزلت آية: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) .
وهذه صفة أساسية في الصلاة، لأن الصلاة من غير خشوع وتضرع وتوجه بالقلب إلى الله لا معنى لها. وهذه الآيات تصف المؤمنين بصفات سبع وهي:
1- أنهم أهل التصديق التام بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر والقضاء والقدر من الله تعالى. روي عن مجاهد أن الله تعالى لما خلق الجنة وأتقن حسنها قال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) . ثم وصف الله تعالى هؤلاء المفلحين بما يلي:
2- أنهم الخاشعون في صلاتهم، أي الممتلئة قلوبهم بالخشوع، أي الخوف والسكون والوقار، وطمأنينة الأعضاء، والخشوع: صفة ضرورية لإدراك معاني الصلاة، ومناجاة الرب تعالى، وتذكر الله، والخوف من حسابه ووعيده. والخشوع:
شرط لتحصيل الثواب من الله سبحانه وتعالى.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والنسائي عن أنس: «حبّب إلي الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة» .
3- وأنهم معرضون عن كل ألوان اللغو: وهو الساقط من الكلام وكل ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، فيشمل الكذب والهزل والسب والطعن واللعن وفحش الكلام، وجميع المعاصي.
4- وهم فاعلون للزكاة المفروضة، مبادرون لإخراجها إلى مستحقيها، وكان أصل الزكاة واجبا في مكة، وربما يكون المراد زكاة النفس من الشرك والأدناس، والتحلي بالفضائل ومكارم الأخلاق، والظاهر أن المراد: هو الحق الواجب في الأموال خاصة.
5- والمؤمنون أهل العفة والصون، فهم الذين يحفظون فروجهم من التلوث بالحرام، من كل أنواع الزنا والفواحش، ويقتصرون في علاقاتهم بالنساء، على(2/1677)
الزوجات التي أحلّها الله بعقد الزواج، ويقوم ملك اليمين الذي يتملك به السيد الرقبة أو الذات مقام العقد على الحرائر. فمن التزم الحلال، فلا حرج عليه ولا لوم بعدئذ، ومن طلب غير ذلك من الزوجات والإماء (الرقيقات في الماضي) فأولئك هم المعتدون، المتجاوزون حدود الله، فكلمة «العادون» يراد بها الظالمون.
6- والمؤمنون ذكورا وإناثا يحافظون على العهود والأمانات، فيؤدون الأمانة إلى أهلها، ولا يخونون، وإذا عاهدوا غيرهم وفّوا بشروط المعاهدة، فأداء الأمانة، والوفاء بالعهد صفة أهل الإيمان. أما الخيانة والغدر فهما صفة أهل النفاق.
ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة وغيره: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» .
7- والمؤمنون والمؤمنات يحافظون على أداء الصلاة في أوقاتها، مع أداء جميع أركانها وشرائطها، وتمثل عظمة الخالق فيها، والخشوع في كل حركة وسكنة وأذكار فيها.
جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال:
برّ الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» .
بدء خلق الإنسان
أورد الله تعالى في أوائل سورة «المؤمنون» بعد بيان أوصافهم أربعة أدلة على وجوده وقدرته سبحانه وتعالى: وهي خلق الإنسان، وخلق السموات السبع، وإنزال الماء من السماء، وخلق أنواع الحيوان لمنافع بشرية، والمتأمل في هذه الأدلة والبراهين يجدها شاملة للكون الفسيح العظيم، وهي كلها من أجل خير الإنسان، سواء في بدء تكوينه وخلقه، أم بعد وجوده، لينتفع بخيرات السماء والأرض،(2/1678)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
وليكون دائما حامدا لله شاكرا، مقرا بالعبودية لربه، والدينونة لخالقه. وأذكر هنا الدليل الأول في التذكير بخلق الجنس الإنساني متمثلا بآدم أبينا عليه السلام، قال الله تعالى:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [المؤمنون: 23/ 12- 16] .
هذا إخبار عن ابتداء خلق الإنسان، والمراد اسم الجنس، وأراد به الله تعالى آدم عليه السلام، لأنه استل من الطين، فلقد أوجده الله من خلاصة سلّت من طين صاف، لا كدورة فيه، وأوجد الله ذرية آدم من صفوة الماء، يعني المني.
وكان تكوين الذرية البشرية بجعل نطفة المني في أصلاب الذكور، ثم قذفها وإيداعها في قرار مكين، أي في أرحام الإناث، في حرز مستقر متمكن حصين، من ابتداء الحمل إلى انتهاء الولادة، كما جاء في آية أخرى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) [المرسلات: 77/ 20- 23] .
ثم حوّل الله تعالى النطفة المشتركة بين ماء الرجل والأنثى عن صفاتها إلى صفة العلقة: وهي الدم المتجمد العريض، ثم صيّر الله سبحانه الدم الجامد مضغة، أي بضعة أو قطعة لحم، قدر ما يمضغ، لا شكل فيها ولا تخطيط.
وسمي التحويل خلقا، لأن الله يفني بعض الصفات، ويوجد صفات أخرى. ثم يصيّر الله المضغة عظاما مشكّلة ذات تقاطيع وأجزاء، من الرأس واليدين
__________
(1) خلاصة.
(2) مستقر.
(3) دما متجمدا.
(4) قطعة لحم.
(5) بنفخ الروح فيه.
(6) فتعالى وتكاثر خيره.
(7) أتقن الصانعين.(2/1679)
والرجلين، تشتمل على العظام والأعصاب والعروق. ثم يغطي الله تعالى العظام المخلوقة أولا بما يسترها ويشدها ويقويها، وهو اللحم، لأن اللحم يستر العظم، فجعل اللحم كالكسوة للعظم. ثم ينشئ الله تعالى الجنين خلقا آخر، أي مباينا للخلق الأول، بأن ينفخ الله فيه الروح، فيتحرك، ويصير خلقا آخر ذا سمع وبصر، وإدراك وحس، وحركة واضطراب.
فتبارك الله أحسن الخالقين، أي تعالى شأنه في قدرته وحكمته، وتنزه وتقدس الله أحسن المقدّرين المصوّرين. وكلمة «تبارك» مطاوع «بارك» كأنها بمنزلة «تعالى وتقدّس» من معنى البركة. وهذه الآية يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما سمع صدر الآية، إلى قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ
قال فيما رواه الطيالسي وغيره عن أنس: «فتبارك الله أحسن الخالقين» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هكذا أنزلت.
وقوله سبحانه: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ معناه: أحسن الصانعين، ولا صانع ولا خالق غير الله تعالى، وخلقه وصنعه أقوم صنع وأحسنه وحسنه، فهو حسن وأحسن، ولا يراد بذلك التفاضل بينه وبين غيره تعالى، وإنما الدلالة على كمال الخلق وحسنه وتمام إبداعه وتكوينه.
وبعد تمام الخلق والولادة والحياة في الدنيا، إنكم أيها البشر بعد النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت. ثم تبعثون من قبوركم أحياء للنشأة الآخرة، للحساب والجزاء ثوابا وعقابا، كما قال الله تعالى: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت:
29/ 20] يعني يوم المعاد. وهذا خبر بالبعث والنشور.
وانتقال الإنسان بموتتين: الأولى قبل وجوده والثانية بعد موته، ثم انتقاله بحياتين: حياة الدنيا وحياة الآخرة: دليل واضح على قدرة الله عز وجل، لأن هذا الانتقال في صورتين متتاليتين يحتاج إلى مبدع خالق، ألا وهو الله أحسن الخالقين.(2/1680)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
خلق السماوات وإنزال الماء وإيجاد الحيوان
الأدلة والبراهين الحسية القطعية على وجود الله وقدرته كثيرة متنوعة، أهمها خلق الإنسان والحيوان، وإبداع السماوات، وإنزال المطر، وكل نوع من أنواع الخلق هذه عجيب ومدهش، يغرس في عقل الإنسان ووعيه وقلبه الإيمان بوجود الخالق وتميزه بالقدرة الإبداعية المطلقة، وإذا تناسى الإنسان هذه الظواهر الدالة على الحق سبحانه، بسبب اكتمالها وبقائها، فإن الله تعالى لا ينسى شيئا من التذكير ببديع صنعه، وأنه غير غافل عن الاستمرار في الخلق وإتقان الصنع، كما لا يغفل عن مصالح المخلوقين وعن أعمالهم. وهذا تنوير للعقل الإنساني بدوام الوجود الإلهي والقدرة الإلهية، قال الله تعالى مبينا لنا ألوانا ثلاثة من الخلق:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 17 الى 22]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [المؤمنون: 23/ 17- 22] .
هذه دلائل ثلاث أخرى بعد خلق الإنسان على قدرة الله عز وجل، وهي خلق السموات السبع، وإنزال المطر من السماء وإنبات النبات به، وإيجاد الأنعام (الإبل والبقر والغنم) للانتفاع بكل مشتملاتها من اللحم واللبن والصوف والركوب عليها، من أجل خير الإنسان وبقائه. يقسم الله تعالى للتأكيد والتعظيم، لتحريك مشاعر
__________
(1) سبع سموات طباقا.
(2) بمقدار الحاجة.
(3) هي شجرة الزيتون. [.....]
(4) فيها الدهن.
(5) إدام لهم.
(6) الإبل والبقر والغنم والمعز.
(7) لعظة ودليلا على القدرة.(2/1681)
الإنسان وتحريك جذوة الإيمان في قلبه: بأنه سبحانه خلق لكم أيها البشر فوقكم سبع سماوات طباقا، أو طرائق، أي كل ما كان من طبقات بعضه فوق بعض، ولم نكن مهملين أمر جميع المخلوقات، التي منها السماوات، بل نحفظها ونتقنها لضمان استمرارها، ونعلم كل ما يحدث فيها من صغير أو كبير، فقوله سبحانه: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ نفي عام، أي في إتقان خلقهم، وعن مصالحهم، وعن أعمالهم.
والدليل الآخر على القدرة الإلهية بعد دليل خلق الإنسان وخلق السماوات: أننا أيها البشر أنزلنا من السحب السماوية أمطارا بقدر الحاجة والكفاية للشرب والسقاية، فكل ذلك بمقدار وحكمة، فليس المطر كثيرا يغرق الإنسان، ويفسد الأرض والعمران، وليس هو قليلا لا يكفي الإنسان والزرع والثمار، وهذا يشمل الأنهار والبحار، قال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء.
ومن فضل الله ورحمته: أن الله تعالى يحفظ الماء في الأرض، فيتغذى النبات والحب، وتنبع منه الأنهار والينابيع والآبار. ولو شاء الله بقدرته لأذهب هذا الماء وصرّفه وغوّره عن الناس، ولكنّ لطف الله وسعة رحمته جعلت للماء خزانات في الأرض، يأخذ منها الناس عند الحاجة، فيسقون زروعهم وثمارهم وأنفسهم ودوابهم، وينتفعون به بسائر أوجه الانتفاع، من غسل، وتطهر، وتنظيف، وتبرد وغير ذلك.
وأخرج الله بماء السماء أو المطر جنات، أي بساتين من النخيل والأعناب، وسائر الفواكه الكثيرة المتنوعة، للأكل والانتفاع، والرزق والعيش الكريم. ويخرج الله أيضا بالمطر شجرة الزيتون التي تأتي بالدهن، أي الزيت، ويتخذ إداما يأتدم به الآكلون.
وإن في خلق الأنعام (الإبل والبقر والغنم) عبرة وعظة عظيمة، ونعمة وفيرة،(2/1682)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
تستحق الشكر والحمد، والاستدلال بها على قدرة الله تعالى، حيث يشرب الناس من ألبانها النقية، غير المختلطة بأخلاط البطن، وينتفعون بمنافعها الكثيرة، من أصواف وأوبار وأشعار، للباس والفرش، ويأكلون من لحومها بعد ذبحها، ويركبون على ظهورها، ويحملون عليها الأحمال، كالسفن التي تشق عباب البحار والأنهار.
دعوة نوح عليه السلام إلى التوحيد
تعرضت البشرية مع الأسف الشديد لظاهرة الانحراف في العقيدة والوثنية والشرك من عهودها الابتدائية الأولى، في عصر نوح عليه السلام أبي البشر الثاني، فكانت دعوة نوح القوية إلى توحيد الله، والابتعاد عن الشرك وعبادة الأوثان، لتتخلص الإنسانية من هذا المرض الخطير، واستمر تذكير الناس وبخاصة قبيلة قريش في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم بمصير قوم نوح الذين كفروا وأشركوا، فأبيدوا وأهلكوا، وفي هذا وعيد شديد بأن يحل بهم بلاء، مثلما حل بأولئك، والعاقل من اتعظ بغيره، ونوح عليه السلام أول نبي أرسل إلى الناس، وإدريس عليه السلام أول من نبّئ ولم يرسل. وهذا ما أخبر به القرآن في شأن نوح وقومه:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 26]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26)
«1» «2» «3» «4» [المؤمنون: 23/ 23- 26] .
المعنى: تالله لقد أرسلنا نوحا عليه السلام إلى قومه، فدعاهم إلى عبادة الله وحده
__________
(1) أشراف القوم وسادتهم.
(2) يترأس عليكم.
(3) به جنون.
(4) انتظروا.(2/1683)
لا شريك له، فليس لكم إله غير الله، ألا تتقون؟ أي ألا تخافون من الله بإشراككم به شريكا آخر؟ فإن الله هو الخالق القادر، وينتقم ممن عاداه، ونسب إليه الشريك.
فقال الملأ أي أشراف القوم وسادتهم الذين كفروا من قومه وعبدوا الأوثان: ما نوح إلا بشر مثلكم، ورجل منكم، يريد أن يتميز ويترفع عنكم بادعاء النبوة، ولا ميزة له من علم ولا خلق، فكيف يكون نبيا يوحى إليه دونكم وهو مثلكم؟! ويمنع نبوته ثلاثة أشياء بحسب زعمهم:
1- لو أراد الله أن يبعث نبيا، لبعث أحد الملائكة من عنده، لأداء رسالته، ولم يكن بشرا، وهذا إنكار لكون النبي بشرا، وتصور بأن النبوة تكون من عنصر أسمى من البشر وهم الملائكة. وهذا يناقض حقيقة الرسالة، فإن الرسول طبعا وعقلا ينبغي أن يكون من جنس المرسل إليه، حتى يتفاهم معه، ويناقشه في الإلهيات والنبوات.
2- ما سمعنا ببعثه: البشر في عهد الآباء والأجداد في الأزمان الغابرة، وهذا يكون بسبب تبعتهم في التقليد للأسلاف، وإهمال دور العقل والوعي، والإصرار على الكفر والجحود من غير برهان مقبول.
3- وقالوا وما نوح إلا رجل مجنون، فيما يزعم أن الله أرسله إليكم، وخصه بالوحي والنبوة دونكم، وهذا اتهام رخيص يصدر من مفلس الحجة، وسطحي التفكير، والمتصف ببلاهة العقل، فإن العوام السطحيين لا يجدون لتسويغ انحرافهم غير اللجوء إلى تسفيه العقلاء، والتشكيك في حكمة الحكماء، ثم إنهم بعد هذا الاتهام يتواصون فيما بينهم بأن ينتظروا الموت لنوح، في زمن قريب، فيستريحوا منه ومن دعوته.
وقولهم: فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي انتظروا هلاكه إلى وقت. ولم يعيّنوه، وإنما أرادوا إلى وقت يريحكم القدر منه.(2/1684)
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
ولما يئس نوح من إجابة دعوته إلى توحيد الله وهجر عبادة الأوثان، على الرغم من صبره على هذه الدعوة ألف سنة إلا خمسين، فلم يؤمن معه إلا القليل، لما يئس أوحى الله إليه أن يدعو ربه لنصره عليهم، فقال نوح: يا ربي انصرني على هؤلاء القوم الضالين، وأهلكهم بسبب تكذيبهم إياي، وهذا يقتضي طلب إنزال العقوبة بهم، وهو آخر الدواء، ووسيلة الخلاص من وباء الشرك والوثنية، كما قال الله تعالى: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) [القمر: 54/ 10] .
صناعة السفن في عهد نوح عليه السلام
حينما يئس نوح عليه السلام من هداية قومه، وإرشادهم إلى توحيد الله تعالى، وترك عبادة الأوثان، أوحى الله تعالى إليه بالدعاء بنصره عليهم، فدعا عليهم، وأوحى الله إليه أيضا الإعداد لنجاته مع أهله الذين آمنوا بدعوته عن طريق صناعة سفينة يركبونها، ويتخلصون من الطوفان الذي يغرق القوم الكافرين، ويمحو آثارهم، وكان نوح عليه السلام نجارا، علّمه الله بالوحي والإلهام، كيف يصنع في صنع السفينة، لتكون أداة صالحة، يتحقق بها النجاة والأمن والسلام، وهذا ما تصرح به الآيات التالية:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 27 الى 30]
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
«1» «2» «3» «4» «5» [المؤمنون: 23/ 27- 30] .
__________
(1) الفلك هنا مفرد، لا جمع.
(2) برعايتنا.
(3) تنور الخبز.
(4) إنزالا.
(5) لمختبرين عبادنا.(2/1685)
من أجل إنجاء نوح عليه السلام ومن آمن معه، أمره الله أن يصنع السفينة بحفظ الله ورعايته، وتعليمه وإرشاده، فكان جبريل عليه السلام يقول له: اصنع كذا وكذا، لجميع عمل السفينة، وما يحتاج إليه، فاستجنّ الكفار نوحا لادعاء النبوة، وسخروا منه لعمله السفينة على غير العادة الجارية، أو لكونها أول سفينة، فقوله تعالى: بِأَعْيُنِنا يراد به الإدراك.
فإذا جاء أمرنا، أي حان وقت قضائنا بالعذاب والهلاك، ونبع الماء من تنور الخبز، الذي جعل أمارة كانت بين الله تبارك وتعالى وبين نوح عليه السلام، فاحمل في السفينة زوجين مزدوجين: ذكر وأنثى من كل صنف من الحيوان والنبات والثمر وغير ذلك، واحمل فيها أيضا أهل بيتك، وكل من آمن معك، إلا من سبق عليه القول من الله بالهلاك: وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله، كابنه وزوجته، وهو كنعان وأمه. فقوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا أي إهلاكنا للكفرة. وقوله: فَاسْلُكْ معناه: فأدخل.
وقوله: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ الزوجان: كل ما شأنه الاصطحاب من كل شيء، كالذكر والأنثى من الحيوان والنّعال وغير ذلك، والمراد به في الحساب العددي:
الاثنان.
ثم نهى الله تعالى نوحا عن الاسترحام بقوله: وَلا تُخاطِبْنِي.. أي ولا تسألني، ولا تتشفع في الذين كفروا، ولا ترأف في قومك، فإني قضيت أنهم مغرقون، بسبب كفرهم وطغيانهم.
فإذا استقرّ بك وبمن معك من المؤمنين المقام في السفينة، فقل معهم: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، أي أنقذنا من هؤلاء الكافرين المشركين الظلمة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في السفينة ثمانون إنسانا، نوح وامرأته سوى التي(2/1686)
غرقت، وثلاثة بنين: سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم، واثنان وسبعون إنسانا، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة.
ثم أمر الله تعالى نوحا أن يدعو ربه بعد خروجه من السفينة، دعاء مقرونا بالثناء والشكر، وهو: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي وقل عند النزول من السفينة: ربّ أنزلني إنزالا مباركا أو مكانا مباركا، يبارك لي فيه، وأعطى الزيادة في خير الدارين، وأنت خير من أنزل عباده المنازل الطيبة، لأنك تحفظ من أنزلته في سائر أحواله، وتدفع عنه المكاره، وتزلل له الصعاب.
إن في هذا الصنيع: وهو إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين، لدلالات نيرات واضحات على صدق الأنبياء، فيما جاؤوا به عن الله تعالى، وإن كنا لمختبرين عبادنا بهذه الآيات البينة، لننظر من يعتبر ويتعظ. وهذا خطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم مدلوله: إن فيما جرى على هذه الأمم لعبرا، أو دلائل لمن له نظر وعقل. ثم أخبر الله تعالى أنه يبتلي عباده زمنا بعد آخر، على جهة الوعيد لكفار قريش بهذا الإخبار. وقوله تعالى:
«مبتلين» معناه مصيبين ببلاء، ومختبرين اختبارا يؤدي إلى ذلك.
دعوة هود عليه السلام إلى التوحيد
لم تقتصر المأساة على قوم نوح وإغراقهم بالطوفان، وإنما تكررت في قوم آخرين هم عاد قوم هود عليه السلام، دعاهم هود كنوح إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وحذّرهم وأنذرهم، ورغبهم في الاستقامة والتقوى. فعاداه الأشراف والكبراء والسادة، واستصغروه ورأوا مثل قوم نوح تماما أن هودا عليه السلام مجرد بشر، مثل غيره من الناس، وشأن النبي أو الرسول في زعمهم أن يكون من الملائكة فإن أطاعوا بشرا مثلهم، كانوا من أهل الضياع والخسران، وهذا ما ذكرته الآيات الآتية:(2/1687)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 34]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34)
«1» »
[المؤمنون: 23/ 31- 34] .
المراد بهذه الآيات في اتجاه أكثر المفسرين: عاد قوم هود عليه السلام، فهم أقدم إلا أنهم لم يهلكوا بصيحة، لذا قال الطبري رحمه الله: إن هذا القرن هم ثمود ورسولهم صالح عليه السلام.
والمعنى: ثم أوجدنا من بعد قوم نوح المهلكين قوما آخرين، هم قبيلة عاد قوم هود عليه السلام، فإنهم كانوا مستخلفين بعد قوم نوح عليه السلام، فأرسل الله تعالى فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبوه وخالفوه، ورفضوا اتباعه، فقال لهم: أفلا تتقون؟! أي ألا تخافون عذاب الله بعبادتكم غيره من الأوثان والأصنام، فإن العبادة لا يستحقها إلا الله الواحد الأحد الذي لا شريك ولا ند ولا نظير له. قال الملأ، أي أشراف قوم هود المتصفون بثلاث صفات شريرة، وهي: الكفر بالخالق أو إنكار وحدانيته، والجحود بيوم القيامة، أو التكذيب بالبعث والجزاء والحساب، والانغماس في متع الحياة الدنيا التي أنعم الله بها عليهم، فإن الله أترفهم في الدنيا، أي نعّمهم، وبسط لهم الآمال والأرزاق، لكنهم جحدوا النعمة وبطروا واستكبروا، وقالوا: ما هود الذي يدعي أنه رسول إلا بشر عادي مثلكم في الصفات والحال، لا ميزة له عليكم، فهو يأكل من طعامكم، ويشرب من شرابكم الذي تشربون منه، فكيف يدّعي الفضل عليكم، ويزعم النبوة والرسالة من الله إليكم؟!
__________
(1) أي قوما أو أمة أو جماعة مجتمعة في زمان واحد، سموا بذلك لتقدمهم على من بعدهم تقدم القرن على الحيوان. [.....]
(2) نعّمناهم فبطروا.(2/1688)
إنهم بهذه المقالة يستبعدون بعثة البشر، ويتطلبون إرسال أحد الملائكة للنبوة والرسالة، فهم تماما مثل قوم نوح الذي أنكروا نبوته تحت ستار البشرية الآدمية، لا الملائكية العلوية.
وأقسم قوم هود لبعضهم: لئن أظهرتم الطاعة لبشر مثلكم واتبعتموه، إنكم حينئذ تخسرون عقولكم، وتغبنون في آرائكم، وتضيعون مجدكم بترككم آلهتكم، واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم.
وبشرية الرسل: كانت هي الشبهة الأولى لإنكار عاد قوم هود، ولإنكار قوم نوح قبلهم، ولكنها شبهة واهية، لأن أبسط مبادئ السفارة أو الرسالة الإلهية، وغيرها أن يكون السفير أو الرسول من جنس المرسل إليه، وليس من جنس آخر فوقه، حتى يتحقق التفاهم على المهمة المرسل بها، ولا يبقى لأحد عذر في اتباع هذا الرسول الذي يؤيده الله تعالى بالمعجزة الخارقة للعادة، لتكون دليلا على صدقه في ادعائه النبوة، كقيام المعجزة على العرب قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي معجزة القرآن، وقيام المعجزة لعيسى عليه السلام على الأطباء، ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة في عهد فرعون المتأله الجبار، فقامت الحجة على هؤلاء وعلى جميع من وراءهم، ومن المعلوم أن العقاب لا يتعلق بأحد إلا بعد تركه الواجب عليه، وبعد قيام الحجة المفحمة أو المقنعة، ولقد أعذر، من أنذر وأقام الدليل على صحة مهمته وصدق دعوته.
وتأكد صدق الأنبياء على مدى التاريخ بآثارهم الطيبة، في غرس شجرة الإيمان في القلوب، وإهلاك الذين كذبوا برسالتهم، وعارضوا وقاوموا دعوتهم.(2/1689)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
إنكار قبيلة عاد البعث
لقد بلغت الأقوام العاتية المكذبة برسالات الرسل منتهى درجات العتو والتمرد، والعناد والمقاومة، فأنكروا صحة النبوة والرسالة، وإنزال الوحي الإلهي على البشر، وآذوا النبي والرسول إيذاء شديدا، وطعنوا في مقدراته العقلية وطاقاته الفكرية، وسخروا منه أشد السخرية، وأشركوا بالله شريكا آخر، وأنكروا وجود البعث والقيامة، أو العودة إلى الحياة الأخروية مرة أخرى بعد الموت وبلى العظام، وصيرورتها ترابا متفتتا. وهذه هي قواعد الكفر ومحطاته الأساسية، قال الله تعالى مبينا شبهة قبيلة عاد في وجود القيامة، بعد إنكارهم بشرية الرسل:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 35 الى 41]
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39)
قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
«1» «2» «3» «4» [المؤمنون: 23/ 35- 41] .
أنكرت قبيلة عاد قوم هود عليه السلام كون النبي الرسول بشرا مثل بقية الناس، ثم أنكروا البعث والقيامة، وهذه هي الشبهة الثانية لهم، فقال الأشراف لقومهم:
كيف يعدكم هود أنكم تخرجون أو تبعثون من قبوركم أحياء بعد موتكم، وصيرورتكم ترابا وعظاما بالية؟ وقرنوا بهذا الإنكار الاستبعاد الشديد لوقوع ما يدعيه هود عليه السلام، قائلين: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) أي بعد بعد ما توعدون به أيها القوم، من حدوث البعث الجسدي، وعودة الحياة مرة أخرى،
__________
(1) بعد وقوع ذلك.
(2) العذاب بصوت مهلك.
(3) الغثاء: ما يحمله السيل من زبده ومعتاده الذي لا ينتفع به.
(4) هلاكا.(2/1690)
للحساب والجزاء، بعد حياة الدنيا، وقوله تعالى: أَيَعِدُكُمْ استفهام على جهة الاستبعاد، وبمعنى الهزء بهذا الوعد.
ثم أكدوا نفي احتمال وقوع البعث بقولهم: ما هي إلا حياتنا الدنيا، أي ما الحياة إلا واحدة، وهي حياة الدنيا، فالبعض يموت، والبعض يحيا، ولا إعادة ولا حشر ولا بعث، أي لا وجود لنا غير هذا الوجود، ولا قيامة وإنما تموت منه طائفة فتذهب، وتجيء طائفة أخرى، وهذا كفر الدهرية.
وبعد أن طعنوا في صحة الحشر، بنوا عليه الطعن في نبوة هود عليه السلام، فقالوا: وأما هذا الرجل هود الذي يدعي النبوة ويثبت وقوع البعث، فهو مجرد رجل اختلق الكذب على الله تعالى، فيما جاءكم به من الرسالة والإنذار، والإخبار بالمعاد، ولسنا نحن بمصدقين له فيما يدّعي ويزعم.
ولما يئس هود عليه السلام من إيمان قومه على هذا النحو المذكور، قال داعيا ربه:
ربي انصرني على قومي نصرا مؤزرا، وعاقبهم، وأهلك الأعداء، بسبب تكذيبهم إياي في دعوتي لهم إلى الإيمان بك، وتوحيدك، وإثبات لقائك.
فأجاب الله دعاءه، وأخبره أنه ليصيرنّ قومك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا، حين ظهور علامات الهلاك، وإنذارهم بالعذاب، إنهم عما قليل يندمون على كفرهم، حين لا ينفعهم الندم.
وكان الجزاء أن أخذتهم الصيحة: وهي صوت شديد مهلك لجبريل عليه السلام، أدى إلى الصعقة والموت، فأصبحوا بسبب كفرهم وتكذيبهم رسولهم صرعى هلكى، كغثاء السيل: وهو الشيء الحقير التافه الذي لا ينتفع بشيء منه. ومن أجل ذكر الصيحة: ذهب الطبري إلى أنهم قوم ثمود، لأن من المعلوم أن قبيلة عاد أهلكوا بريح(2/1691)
صرصر عاتية، قال ابن كثير في تفسيره: والظاهر أنه اجتمعت عليهم الصيحة، مع الريح الصرصر العاصفة القوية الباردة.
فبعدا من الرحمة وهلاكا، وسحقا وتدميرا للقوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم، وطغيانهم، وعصيان رسولهم، وهذا قانون الإله العادل: وهو أنه لا يعذّب إلا بحق، ولا ينتقم إلا بالعدل، وسنته في جميع البشر واحدة، قال الله تعالى مبينا هذه السنة الثابتة الدائمة: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف: 43/ 76] .
وفي هذا القول: فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ غاية المهانة والذلة لهم، وإظهار قدرة الله عليهم، وإنذار السامعين أمثالهم بأن من كذب الرسول سيصيبه من العذاب مثلما أصاب هؤلاء الظالمين.
الأمم الأخرى ورسلها
على الرغم من تكذيب قوم نوح وعاد قوم هود رسلهم، وإهلاكهم بكفرهم، استمر العطاء والفيض الإلهي بإرسال رسل آخرين، وإيجاد أقوام متتابعين، كل قوم لهم تاريخهم وزمنهم، وكل رسول له مهمة وجهود في محاولة إصلاح البشر وتقويم الاعوجاج، وتجاوز اليأس في مسيرة التاريخ، لينتصر الحق في النهاية، وتعلو كلمة الدين والتوحيد فوق كل المعوقات والعراقيل، ويندحر الباطل وجنده، وينهزم الكفر وأشياعه. وقد تحقق ثبات الدعوة إلى وحدانية الله، وأدرك العقلاء زيف الدعوات الباطلة إلى الشرك والوثنية، قال الله تعالى مبينا هذه السنة الثابتة بإيجاد الأقوام والرسل في الأجيال المتلاحقة:(2/1692)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 44]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)
«1» «2» «3» [المؤمنون: 23/ 42- 44] .
هذه الآيات إجمال لقصص ثلّة رفيعة من الأنبياء والمرسلين، وهم صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم الصلاة والسلام، ووجودهم تابع لإيجاد أقوامهم وأممهم، كل أمة مع رسولها في فترة زمنية معينة، وفي وقت مقدّر لا يتجاوزونه، ومفاد الآيات:
أخبر الله تعالى عن أنه أنشأ وأوجد بعد هلاك قوم نوح وعاد قوم هود أمما وخلائق أخرى، كقوم صالح ولوط وشعيب وأيوب ويوسف وغيرهم عليهم السلام، ليقوموا مقام من تقدمهم في عمارة الدنيا وتقدم الحياة. وكل شيء بميعاد وفي كتاب لا يتعداه في وجوده، فلا تتقدم أمة مهلكة من تلك الأمم وقتها المقدّر لهلاكها أبدا، أو المؤقت لعذابها إن لم يؤمنوا، ولا تتأخر عن الأجل المحدد، والمراد أن وقت الهلاك محدد معلوم في علم الله، لا يتقدم ولا يتأخر، فلا يتعجل أحد العذاب، لأن كل شيء عند الله بمقدار، والموت مرتبط بأجل الإنسان لا يتقدم ولا يتأخر، كما قال الله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 16/ 61] .
ثم أخبر الله سبحانه عن أنه أرسل رسلا آخرين في كل أمة، يتبع بعضهم بعضا، وهذا هو المراد بكلمة «تترى» فهو مصدر بمنزلة فعل، من تواتر الشيء، لا فعل بمعنى متواترين متتابعين، وإرسال الرسل سنة دائمة في البشرية، كما قال الله سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل: 16/ 36] .
__________
(1) أمما أخرى.
(2) متتابعين.
(3) مجرد أخبار للتعجب.(2/1693)
وكلما جاء الرسول لأمة، بتكليفهم بالشرائع والأحكام كذّبه جمهورهم وأكثرهم، سالكين في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدمهم، ممن أهلكهم الله بالغرق أو الريح الصرصر العاتية، أو الصيحة، أي الصوت الشديد المهلك لجبريل عليه السلام، كما جاء في آية أخرى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) [يس: 36/ 30] . فكان الجزاء المرتقب أن الله سبحانه أتبع بعض الأقوام بعضهم الآخر بالهلاك والتدمير، يأتي بعضه إثر بعض، حين كذبوا الرسل، كقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) [الإسراء: 17/ 17] . وذلك الإنذار باق دائم ليوم القيامة.
وتصبح نتيجة الهلاك: أن تلك الأقوام يجعلهم الله أحاديث وأخبارا للناس، يتحدثون عن أحوالهم، تلهيا وتعجبا، كما قال الله سبحانه: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ: 34/ 19] .
وخاتمة الإهلاك ما قاله الحق سبحانه: فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي هلاكا وتدميرا وبعدا عن رحمة الله، لقوم لا يصدقون به ولا برسوله، وهذا كلام وارد على سبيل الدعاء، والذم والتوبيخ والوعيد الشديد لكل كافر أو جاحد وجود الله، وهو ترسيخ لمبدأ ثابت: وهو أن تلك الأقوام العاتية كما أهلكوا عاجلا، فإن الهلاك لأمثالهم يأتي آجلا.
موسى وهارون وعيسى عليهم السلام
هذه أنباء مهمة عن ثلّة أو كوكبة أخرى من كبار الأنبياء والرسل: وهم موسى وهارون وعيسى عليهم السلام. أما موسى وهارون: فكانت مهمتهما خطيرة، ومخيفة، في بلاط فرعون المتأله الجبار، وقومه المستكبرين الفجار، وذلك من أجل(2/1694)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
الإعذار والإنذار، وإقامة الحجة والبيان، فإن أعرضوا كان عقابهم في محراب العدالة حقا، وأما عيسى وأمه عليهما السلام فكانا في موقف صعب، وتحدّ وإنكار واتهام، لكن إرادة الله وحكمته، وبيان آفاق قدرته فوق كل التحديات، ومحبطة لكل ألوان الاتهامات، ومعلنة للبراءة والسمو والعفة والطهر على مدى التاريخ، قال الله تعالى في بيان هذه الأخبار:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 50]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)
«1» «2» «3» «4» [المؤمنون: 23/ 45- 50] .
يتابع البيان القرآني سرد أخبار فئة عليا من الأنبياء، بحسب الترتيب الزمني، وهنا يخبر الله تعالى أنه أرسل موسى وأخاه هارون بالآيات الدامغة الدالة على صدق نبوتهما لفرعون وملئه (قومه) . وتلك الآيات تسع، منها اليد والعصا اللتان اقترن بهما التحدي، وهما «السلطان المبين» أي الحجة الواضحة، وبقية الآيات كالبحر الذي أغرق فرعون وجنوده فيه، والمرسلات الست: وهي أرسلها الله على فرعون وقومه، وذكرها الله في سورة الأعراف، وهي الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدّم، والرّجز أي القحط والسنون العجاف. وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون، بل هي خاصة ببني إسرائيل.
أيد الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام بهذه الآيات والمعجزات في مواجهة الطاغية فرعون وملئه، أي الأشراف وغيرهم، فاستكبروا عن الإيمان بموسى وأخيه
__________
(1) برهان بيّن.
(2) ضممناها.
(3) الربوة: المكان المرتفع من الأرض.
(4) المعين: الماء الجاري المرئي بالعيون.(2/1695)
عليهما السلام، لأنهم أنفوا من ذلك، وكانوا قوما عالين، أي قاصدين العلوّ بالظلم والكبرياء.
وكانت شبهتهم هي قولهم: كيف ننقاد لأمر موسى وأخيه هارون، وقومهما بنو إسرائيل خدمنا، وعبيدنا المنقادون لأوامرنا. ومقصودهم أن الرسالة الإلهية تتنافى مع صفة البشرية، ولا تتفق مع كون قوم موسى وهارون أذلة لفرعون وقومه. وهذه نظرة مادية، ينظر بها الماديون الذين لا يؤمنون بالقوى المعنوية، ولا بالذات الإلهية، ويقيسون عزة النبوة وتبليغ الوحي عن الله تعالى على أوضاع الرياسة أو الزعامة الدنيوية المعتمدة على الجاه والسلطة والمال.
وأدى هذا الشعور بالأنفة والاعتزاز إلى أمرين: الأول: تكذيب فرعون وقومه النبيّين الرسولين موسى وهارون، وأصروا على الكفر والعناد، فأهلكهم الله بالغرق في البحر الأحمر، في يوم واحد أجمعين، كما أهلك المستكبرين المتقدمين من الأمم، بتكذيبهم رسلهم.
والثاني: أيد الله موسى عليه السلام بأمر آخر غير الآيات التسع، وهو إنزال التوراة عليه، المشتملة على الأحكام الدينية، والأوامر والنواهي، بعد إغراق فرعون وقومه، لعلّ بني إسرائيل يهتدون بها إلى الحق بامتثال ما فيها من المعارف، والأحكام، والحكمة الإلهية.
ثم يخبر الله تعالى عن خبر مهم آخر: وهو أنه سبحانه جعل عيسى وأمه آية للناس دالة على قدرته تعالى، حين خلقه من غير أب، وولادة أمه إياه من غير رجل، ليكون ذلك دليلا على القدرة الإلهية الفائقة كل قدرة. وجعل الله تعالى مأواهما في مكان مرتفع من الأرض، صالح لاستقرار السكان، فيه الزروع والثمار، والماء الجاري(2/1696)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
الظاهر للعيون والذي لا ينضب. والراجح أن الربوة في بيت لحم من بيت المقدس، لأن ولادة عيسى عليه السلام كانت هناك، وحينئذ كان الإيواء والاستقرار.
مناهج الحياة
الهدي الإلهي يعنى عناية شديدة بتحقيق العزة والاستقرار، والقوة وتقدم المجتمعات، فيشرع للناس من أجل هذه الغايات الجوهرية العناية بقوة الأجساد وصحتها، من طريق تناول الطيبات المستطابات المباحات، ونقاء الحياة بعمل الصالحات، وتماسك البنية الاجتماعية، وتكتل الأمة المؤمنة من طريق الوحدة والتعاون والعمل المشترك، سواء في مجال الاقتصاد، أو السياسة، أو الاجتماع، أو العلاقات الخارجية. ويدفع الوحي الإلهي كل تفريط أو تقصير أو تهاون في تحقيق هذه الغايات الكبرى. قال الله سبحانه مبينا مناهج الحياة السوية:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
«1» «2» «3» «4» «5» [المؤمنون: 23/ 51- 56] .
يوصي الحق تبارك وتعالى أهل الإيمان بجملة مبادئ في الحياة: وهي الأكل من الحلال، والعمل بصالح الأعمال، ووحدة الدين والأمة، ولا يسمح شرع الله بالفرقة والتمزق، فذلك سبيل الشيطان، والطريق إلى الخسارة والضياع.
أما الأكل الحلال: فهو قوام الأبدان السوية، فيأمر الله به الرسل مبتدئا في رأي
__________
(1) ملتكم وشريعتكم.
(2) تفرقوا في دينهم. [.....]
(3) أي قطعا وأحزابا مختلفة.
(4) جهالتهم.
(5) ما نجعله مددا لهم.(2/1697)
جماعة بعيسى عليه السلام وانتهاء بمحمد صلّى الله عليه وسلّم للصلة القريبة بينهما، وتتابع مهمتهما، وكون أحدهما أتى مباشرة بعد الآخر، أمرهما بالأكل من الطيبات: الحلال بلذة وبغير ذلك والمشهور أن عيسى عليه السلام كان يأكل من بقل البرية. والخطاب في الراجح وإن كان في هذه الآية لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فيراد به التنبيه إلى أن هذه المقالة قد خوطب بها كل نبي، أو هي طريقتهم التي ينبغي لهم البقاء عليها، كما تقول لتاجر: يا تجار ينبغي أن تجانبوا الربا، فهو خطاب له بالمعنى.
وأردف الله الأمر بالحلال بالأمر بالعمل الصالح، لا لأن الأنبياء كانوا مقصرين بالعمل الصالح، وإنما للإفادة بأنهم ملازمون للعمل الصالح، فيقتدي بهم الناس.
والعمل الصالح: اتباع الفرائض واجتناب النواهي.
وأما في مجال الأفق الديني والسياسي: فإن الله أمر الناس بوحدة الدين والملة والسياسة، لأن دين الأنبياء دين واحد وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا شيء متفق عليه بين جميع الأنبياء، وأما اختلاف الفروع والجزئيات من شرائع وأحكام فرعية، فهو بحسب اختلاف الزمان والحال، وهذا لا يسمى اختلافا في الدين. وأما الاختلاف الواقع بين أتباع الدين والأنبياء فإنما نشأ من أنفسهم، فهم الذين فرّقوا أمر الدين، وقطّعوه ومزّقوه، وصاروا فرقا وأحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون، أي معجبون بما هم عليه، معتقدون أنه الحق الأسدّ، وأنهم مهتدون راشدون. وهذا ذم صريح للتفرق، وتوبيخ وتوعد عليه. لذا أمر الله نبيه بقوله: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أي دعهم واتركهم في جهالتهم وضلالهم إلى حين موتهم ورؤيتهم أمارات العذاب، كما جاء في آية أخرى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) [الحجر: 15/ 3] .
وزيادة في اللوم، يعاتب الله تعالى هؤلاء المفرّقين دين الأنبياء، ومضمون ذلك(2/1698)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
العتاب: أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من مال وأولاد، من أجل تكريمهم وإعزازهم ورضا الله عنهم؟ كلا، ليس الأمر كما يزعمون في قولهم: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) [سبأ: 34/ 35] . إنهم أخطئوا الفهم وتقدير الأمور، فإنما نفعل ذلك الإنعام عليهم استدراجا لهم، وأخذا بهم إلى مهاوي العذاب إن لم يتوبوا. إننا نقدم لهم الخيرات من الأموال والبنين فتنة لهم، فترقّب بهم أيها النبي وكل متأمل مصيرهم السيّئ المحتوم، ثم ختمت الآية بالوعيد والتهديد، بقوله تعالى: بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي إنهم لا يحسّون بأن الأوضاع والأحوال تسير في غير صالحهم، فعليهم استدراك خطأ المسيرة، وسوء العمل، وضلال التوجه إلى غير مرضاة الله تعالى.
المسارعون في الخيرات
تتكرر الحملة القرآنية لإصلاح النفوس بعقد مقارنة أو موازنة بين الأمور والأحوال، والصفات المتقابلة، فبعد أن فرغت الآيات في سورة «المؤمنون» من ذكر الكفرة وتوعدهم، عقّب الله تعالى بذكر المؤمنين ووعدهم، وأبان ذلك بأبلغ صفاتهم، وهي صفات تجمع بين صحة العقيدة، وأداء الحقوق، سواء أكانت حقوقا لله تعالى، كالعبادات المحضة من صلاة وصيام وزكاة وحج وكفارة، أم حقوقا للناس، كالودائع والديون، مع خوف القلوب من التقصير، وعدم قبول الأعمال منهم. قال الله تعالى مبينا صفات المسارعين في عمل الخير:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 62]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)
«1» «2» «3»
__________
(1) خائفون.
(2) يعطون ما أعطوا.
(3) خائفة.(2/1699)
«1» [المؤمنون: 23/ 57- 62] .
تضمنت هذه الآيات صفات المسارعين في الخيرات أي المبادرين إلى فعل الخيرات، وأبانت بعدئذ حكمين من أحكام الأعمال. أما صفات أهل الخير فهي أربع:
1- خشية الله تعالى: فهم الذين يخافون من عذاب ربهم، يشفقون من الوقوع في شدة العذاب. والإشفاق: أبلغ التوقع والخوف، ويبتدئ الإشفاق من عذاب الله.
فكلمة «من» في قولنا هذا: «من عذاب الله» لابتداء غاية. والوجل في قوله تعالى:
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ بمعنى الإشفاق والخوف.
2- الإيمان بالآيات الإلهية: فهم الذين يصدقون تصديقا تاما لا شك فيه بآيات الله الكونية والدينية القرآنية. أما الآيات الكونية: فهي المتعلّقة بالكون الدالة على وجوب النظر والتأمل، كإبداع السماوات والأرض وخلق الإنسان والحيوان والنبات، وأما الآيات الدينية القرآنية: فهي المتعلقة بأخبار الأنبياء كخبر زكريا ويحيى وخبر مريم وابنها عيسى عليهم السلام، أو المتعلقة بالشرائع والأحكام، فكل ما أمر الله به فهو محبوب له راض عنه، وكل ما نهى عنه فهو مكروه له ومعيب.
3- تجنب الشرك: فهم الذين لا يعبدون مع الله إلها آخر، بل يوحدونه ويعظمونه، ويعتقدون بوحدانية المطلقة: «لا إله إلا الله» ولا يقدسون سواه، جل جلال الله.
والجمع بين ضرورة الإيمان بآيات الله ورفض الشرك، يوجب أمرين هما: توحيد
__________
(1) قدر طاقتها من الأعمال.(2/1700)
الربوبية، وتوحيد الألوهية والعبادة، فإن المشركين كانوا يعترفون بوحدانية الرب، كما قال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:
31/ 25] ولا يقرون بوحدانية الألوهية والعبادة، فإنهم عبدوا الأصنام والأوثان.
4- العمل مع الخوف من الله تعالى: فالمسارعون في الخيرات يؤدون الواجبات، ويعملون صالح الأعمال بمقدار أقصى الجهد، ولكن مع الخوف من الله، فهم يفعلون ما فعلوا، مع وجود الخوف بألا يتقبل الله منهم أعمالهم، إنهم الذين يصلون، ويصومون، ويتصدقون، ولكنهم يخافون الله عز وجل، لأنهم راجعون إليه وحده. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا لا يقتصر على العطاء المادي من زكاة أو صدقة، وإنما يشمل كل حق يلزم إيتاؤه، سواء كان من حقوق الله تعالى كالعبادات، أو من حقوق بني آدم كالودائع والعدل بين الناس. وقوله تعالى: أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ تنبيه على الخاتمة، فإن التقي التائب يخاف من الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت، وعدم النجاة من عذاب الله.
وأما الحكمان المتعلقان بأعمال العباد: فهما أن منهاج الشرع: اليسر والسماحة وترك التكليف بالشاق من الأعمال، والتكليف بقدر الطاقة، وهذا دليل الرحمة والعدل، فهما متلازمان في شرائع الله في قرآنه.
والحكم الثاني: أن لدى الله تعالى كتاب إحصاء الأعمال الذي ينطق بالحق والعدل، والتطابق مع واقع عمل الناس. ويكون الحساب الإلهي بفضل من الله ورحمة، فإن الناس لا يظلمون، أي لا ينقص في جزائهم من الخير شيء، بل يثابون على قليل العمل وكثيره، ولا يزاد في العقاب لأحد غير ما يستحق، بل يعفو الله عن كثير من السيئات.(2/1701)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
بعض أعمال الكفار
لم تكن أعمال الكفار قبل مجيء الأنبياء ولا بعد مجيئهم، على نحو مرض، ولا على أساس سليم من الاعتقاد، وإنما هم كسابق عهدهم في ضلال وجهالة وحيرة، وانحراف عن جادة الاستقامة. وربما كانت أحوالهم بعد بعثة نبي لهم أسوأ مما كانوا عليه، بسبب مقاومتهم رسالة الحق والتوحيد والخير، وتحديهم الرسل، وإصرارهم على الباطل، وعنادهم وتصلبهم في تغيير المواقف. وهذا حال كفار قريش الذين ماتوا على الكفر والضلال، وضموا سوءا إلى كفرهم، كالشرك والطعن بالقرآن، والسخرية من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإيذاء أهل الإيمان. قال الله تعالى واصفا أعمالهم:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 70]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [المؤمنون: 23/ 63- 70] .
هذه نماذج من أعمال الكفار والمشركين في مكة بعد البعثة النبوية، فهم في غمرة، أي حيرة وضلال من بيان القرآن، ومن الأعمال الصالحة التي يعمل بها المؤمنون.
ولهم أعمال سيئة غير الكفر والجهل، عاملون لها قطعا في المستقبل القريب: وهي الطعن في القرآن، وإيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. وهذا من دائرة علم الله تعالى المدون في اللوح المحفوظ، وعلم الله لا يتغير. وحتى: حرف ابتداء، فإن الله تعالى إذا أوقع
__________
(1) أي حيرة وترك الفكر العميق.
(2) منعّميهم البطرين.
(3) أي يضجون ويستغيثون.
(4) أي ترجعون وراءكم.
(5) أي تتكلمون جماعة سمارا بالليل بالهوس وسوء الكلام في القرآن والنبي.
(6) أي جنون.(2/1702)
مترفيهم وهم أهل النعمة والبطر في العذاب الشديد والبأس والنقمة، صرخوا وضجوا واستغاثوا صائحين، مما يدل على ضعفهم. ويقال لهم يوم حلول العذاب بهم: لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي تقول لهم الملائكة: لا فائدة ولا جدوى من هذا الصراخ والعويل اليوم، فلا يدفع عنكم العذاب الذي وجب عليكم، ولن تجدوا ناصرا ينصركم، ويحول بينكم وبين العقاب الأليم.
وأسباب حجب النصر عنهم ثلاثة وهي:
1- أنهم كانوا إذا تليت عليهم آيات القرآن نفروا منها، وأعرضوا عن سماعها وعن تاليها، أي إنهم يعرضون عن الحق، وإذا دعوا إليه أبوا.
2- وهم في حال نكوصهم أو إعراضهم عن الحق، تراهم مستكبرين متعالين على الحق، ممتهنين الحق وأهله. وقوله تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ الضمير يعود على البيت الحرام، أي الحرم والمسجد، فهم يعتقدون أن لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل عند الله، فهم مستكبرون لذلك. وليس الاستكبار من الحق، كما أن سماع الآيات يحدث لهم كفرا وطغيانا.
3- وهم سمّار في الليل أو النهار حول البيت الحرام، يتكلمون بسوء القول، ويطعنون بالقرآن والنبي. قال سعيد بن جبير فيما يرويه ابن أبي حاتم: كانت قريش تسمر حول البيت، ولا تطوف به، ويفتخرون به، فأنزل الله: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) والهجر: الهذيان والفحش.
وبواعث هذه الأحوال المرضيّة السيئة لكفار قريش أربعة:
1- أنهم لا يتدبرون القرآن، أي لا يفهمون المراد منه، ولا يدركون غاياته وأهدافه السامية، مع أنهم لمسوا عظمة بيانه، وفصاحة تعبيره، وقوة مضمونه.(2/1703)
2- وأنهم عرفوا أن الرسل الذين تتابعوا في الأمم كانوا مؤيدين بالمعجزات، ومع ذلك لا يدعوهم هذا إلى تصديق رسولهم النبي العربي الهاشمي.
3- وهم عرفوا من سيرة هذا النبي قبل البعثة أنه الصادق الأمين، ومع كل هذا كذّبوه وآذوه، وعادوه عداء شديدا. وقوله تعالى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ توبيخ، والمعنى: ألم يعرفوه صادقا مدة عمره، ولم ينكروا قط وجه هذه المعرفة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
4- وأكثر من هذا وصفوا هذا الرسول بالجنون، مع أنه أرجح الناس عقلا، وأصوبهم رأيا. ويتلخص سبب رفضهم الإيمان ببعثة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم: بأنه على الرغم مما جاءهم من الحق الثابت الأبلج: وهو توحيد الله، والتشريع الأفضل المحقق للسعادة، فإن أكثرهم كارهون لهذا الحق. وإنما قال: أَكْثَرُهُمْ لأن بعضا منهم تركوا الإيمان أنفة واستعلاء، وتخوفا من توبيخ القوم وتعييرهم، لا كراهة للحق ذاته.
الحق واحد لا يتعدد بحسب الأهواء
لقد قامت السماوات والأرض بالحق والعدل، لضمان البقاء واستمرار النظام، وتحقيق حياة الاستقرار للبشرية جمعاء وطبيعة الحق الثابت أنه جوهر واحد، لا يتعدد بحسب الأهواء والنزوات، حتى يظل له هيبته وقدسيته، وحتى لا يفسد نظام الكون في السماء والأرض، ومن أصالة الحق: أن دعوة الأنبياء إلى الله وعبادته دعوة خالصة محضة، لا جزاء عليها من أحد، فلا نظير ولا عوض أو مقابل للدعوة المخلصة، ودعوة رسولنا صلّى الله عليه وسلّم كغيره من دعوات الأنبياء إلى الحق الثابت والطريق القويم، وذلك بخلاف مناهج غير المؤمنين، فإنهم يجافون الحق والحقيقة، ويتنكرون للصراط المستقيم، قال الله تعالى مبينا منهج القرآن ومناهج غير المؤمنين:(2/1704)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 71 الى 74]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)
«1» «2» «3» [المؤمنون: 23/ 71- 74] .
الحق: هو الشيء الثابت والصواب الدائم، المقابل للباطل، فهو ذو حقيقة ناصعة، لا يتغير ولا يتذبذب، ويتفق مع الواقع والصدق، فلو ساير الحق أهواء الناس، لا نقلب باطلا، ولذهب ما يقوم به العالم. وعليه، فإن الحق لا يتبع الهوى، بل الواجب على الإنسان ترك الهوى، واتباع الحق، فإن اتباع الأهواء يؤدي إلى الفساد الشديد، والمراد: لو جاء القرآن مؤيدا الشرك بالله والوثنية، مبيحا الظلم مقرا النهب والسلب والفواحش، مهملا الأخلاق والفضائل، لاختل نظام العالم، وشاع الفساد والدمار، وتخلفت المدنية، وبادت الحضارة.
بل إن القرآن العظيم جاء العرب والإنسانية بما يعظهم ويهذب طبائعهم ويبين لهم طريق الخير من الشر، غير أن الناس أعرضوا عن هذا البيان الشافي. ثم إن النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم كان في غاية الإخلاص لدعوته، ولم يكن لديه أطماع في مال أو جاه أو زعامة أو متعة شخصية، فلم يطلب من قومه أجرا ورزقا على تبليغ الرسالة، والإرشاد إلى قانون الهداية، حتى لا ينفر أحد من دعوته، أو يتكأ في الإيمان برسالته، والمراد أن العرب وغير العرب ليسوا معذورين في ترك الاستجابة لرسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، التي هي محض الخير والصلاح والاستقامة ورفع مستوى الحياة وإعزاز الأمة.
__________
(1) أي بوعظهم والبيان لهم. [.....]
(2) أي أجرا ورزقا. قال الأصمعي: الخرج: الجعل مرة واحدة. والخراج: ما تردد لأوقات ما. وهذا في الاستعمال، أما في اللغة فهما بمعنى واحد.
(3) أي عادلون عن طريق الرشاد.(2/1705)
وأما دعوة هذا النبي فهي أقوم الدعوات، فإنك يا محمد النبي لتدعو الناس قاطبة، ومنهم مشركو قريش إلى الطريق المستقيم، والدين القيم الصحيح، وهو الإسلام، من أجل تحقيق العزة والسيادة، وتوفير الخير والكرامة، وإن دعوة الإسلام قائمة على العدل والوسطية والاعتدال، جمعت بين خيري الدنيا والآخرة، وحققت الانسجام بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الآخرين، وربطت الإنسان بالله ربه، ربطا متينا لا مجال فيه للالتواء والتعثر، ولا للانحراف والضياع.
وأما المكذبون بالآخرة الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت، لمنحرفون عن هذا الطريق، لأن طريق الاستقامة واحد، وما يخالفه تتعدد طرقه، وتتشابك قضاياه.
والخلاصة: إن رسالة الإسلام تقوم على المعاني الخيرة، والقيم الثابتة، والحق الأبلج الذي لا يهادن الباطل، ولا يعرف الانحراف أو الالتواء، وإن جهود النبي رسول الإسلام كلها جهود مباركة وخيّرة ومشكورة، قصده إعلاء كلمة الله والحق، وإعلان عقيدة التوحيد لله تعالى، والإرشاد إلى الطريق الصحيح. وأما الكافرون برسالته فهم سدنة الباطل، وأنصار الهوى والضلالة، وأتباع الطرق الملتوية، المنافية لمنهج الطريق المستقيم.
إصرار المشركين على الشرك
قد تحتجب الرؤية الصحيحة عن العين والقلب بسبب الغبش أو الظلام، فيعذر الإنسان حين ذاك، ويحتاج إلى المساعدة والمعونة من الآخرين، أما إن كانت الرؤية واضحة، والحق بيّنا، والشمس طالعة، فلا يعذر أحد بترك العمل بما يتضح لديه، والإذعان للحق، والسير في ضوء النهار، غير أن هناك فئة من الناس يكابرون في المحسوسات، ويعاندون الحق، ويحاربونه على الرغم من ظهوره، وقوة حجته،(2/1706)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
وسطوع بيانه، وهذه الفئة تتمثل بمن عرفوا بالمشركين الوثنيين، إنهم يرون الحق ويعرفونه، ومع ذلك يعارضونه ويبتعدون عنه، فلا ينفعهم ترغيب أو تذكير بنعمة، ولا يرهبهم عذاب أو عقاب، حتى وإن رأوا أماراته واقتربت ساعاته، قال الله تعالى موضحا موقف المشركين المكيين من دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإصرارهم على الشرك، وترك دعوة الحق:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 77]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
«1» «2» »
«4» «5» [المؤمنون: 23/ 75- 77] .
هذا وصف دقيق لحال غريبة هي حال المشركين في مكة، فإنه لا حق لهم على الإطلاق في معاداة دعوة النبي محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم وكفرهم به، وبالقرآن الذي أنزل عليه، تشريفا لهم وتكريما، وهداية لهم، ونورا، وتبيانا.
وهم في أسوأ موقف، لا ينفعهم الترغيب والإنعام، ولا يرهبهم التهديد بالعذاب، فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم لو أزال عنهم القحط، ومنّ عليهم بالخصب، ورحمهم وأمدهم بالنعم، وأفهمهم القرآن، لما آمنوا به، ولما انقادوا له، ولتمادوا في ضلالهم، واستمروا في عنادهم وطغيانهم، وظلوا متحيرين مترددين، لا يعرفون ماذا يصنعون. كما قال الله تعالى فيهم: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) [الأنفال: 8/ 23] .
وهذه الآية نزلت في المدة التي أصابت فيها قريشا السنون الجدبة والجوع الذي
دعا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: اللهم سبعا كسني يوسف، وهو متفق عليه بلفظ «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» .
__________
(1) لتمادوا في ضلالهم.
(2) يتحيرون.
(3) فما خضعوا.
(4) ما يتذللون لله تعالى.
(5) يائسون متحيرون.(2/1707)