وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ أي أصحابها وهم الكفار، فهو مجاز مرسل بإطلاق الجزء وهو الوجوه وإرادة الكل وهي الذوات.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ فيهما مقابلة بين وجوه الأبرار ووجوه الفجار.
المفردات اللغوية:
الْغاشِيَةِ يوم القيامة، وهي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وأهوالها. خاشِعَةٌ ذليلة. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تعمل عملا في الدنيا، تتعب فيه وهو لا ينفعها يومئذ، أو تتعب في النار بجر السلاسل والأغلال وخوضها، فقوله: ناصِبَةٌ تعبة من (نصب فلان) : تعب، والنصّب:
التعب، ومنه قوله تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الانشراح 94/ 7] أي إذا فرغت من الصلاة، فاتعب في الدعاء. تَصْلى ناراً تدخلها، يقال: صلي النار: قاسى حرها، وقرئ تصلى: بضم التاء. حامِيَةً متناهية في الحر. مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ العين: ينبوع الماء، والآنية: الشديدة الحرارة. ضَرِيعٍ نوع من الشوك لا ترعاه دابة لخبثه وضره وشدة مرارته، أما الرطب منه وهو الشّبرق فترعاه الإبل ما دام رطبا، والمراد: طعامهم مما يتحاماه الإبل ويتعافاه. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ لا يتحقق به أحد هذين الأمرين المقصودين من الطعام.
التفسير والبيان:
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟ أي هل بلغك يا محمد حديث القيامة وعلمت خبره، وسميت غاشية: لأنها تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها، والمراد: لم يأتك سابقا حديث هذه الداهية، وقد أتاك الآن فاستمع، فلا يراد من التعبير حقيقة الاستفهام، وإنما يراد منه تشويق السامع إلى استماعه، وتعجيبه مما سيذكر بعده. والمعنى: قد جاءك يا محمد حديث الغاشية.
ثم ذكر أحوال الناس فيه وانقسامهم إلى فريقين: أشقياء وسعداء، وبدأ بوصف الأشقياء لأن مبني السورة على التخويف، كما ينبئ عنه لفظ الغاشية، فقال:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ أي أصحاب وجوه، والمراد(30/204)
بالوجه الذات، أي أصحابها، وأصحاب الوجوه وهم الكفار، تكون في ذلك اليوم ذليلة خاضعة لما هي فيه من العذاب، ونسب الخشوع والذل إلى الوجوه لأن أثره يظهر عليها، ونظير ذلك قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة 32/ 12] وقوله: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى 42/ 45] .
وقد كان أصحابها في الدنيا يعملون عملا كثيرا، ويتعبون أنفسهم في العبادة، ولا أجر لهم عليها لما هم عليه من الكفر والضلال والإيمان باللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم شرط قبول الأعمال. والآية في القسّيسين وعبّاد الأوثان وكل مجتهد نشط في كفره «1» .
ثم ذكر جزاء هؤلاء في يوم القيامة:
تَصْلى ناراً حامِيَةً، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أي تدخل تلك الوجوه نارا شديدة الحرارة، وتقاسي حرها، وتعذب بها، لخسارة أعمالها، وتسقى إذا عطشوا من ماء عين أي ينبوع، آنية، أي متناهية في حرها، فهي لا تطفئ لهم عطشا.
وليس لهم طعام يتغذون به إلا الضريع: وهو شوك يابس شديد المرارة والضر، يقال له في لغة أهل الحجاز الشّبرق إذا كان رطبا، فإذا يبس فهو الضريع، وهو سم، وشر الطعام، وأبشعه وأخبثه.
ولا يحصل به مقصود ولا يندفع به محذور، فلا يسمن آكله، ولا يدفع عنه الجوع. وإنما قدم المشروب على الضريع المطعوم لأن الماء لأهل النار أهم، ويغلب عليهم العطش إذا أثر فيهم حر النار.
__________
(1) البحر المحيط: 8/ 462(30/205)
وهناك طعام آخر لأهل النار وهو الغسلين والزقّوم، قال تعالى: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة 69/ 36] وقال: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان 44/ 43- 44] .
ذكر الحافظ أبو بكر البرقاني عن أبي عمران الجوني قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه بدير راهب، فناداه: يا راهب، فأشرف، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول اللَّه عز وجل في كتابه: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ، تَصْلى ناراً حامِيَةً فذاك الذي أبكاني.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- القيامة يوم رهيب، يغشى الناس فيه غاشية شديدة من الأهوال والمخاوف.
2- تكون وجوه الكفار في ذلك اليوم ذليلة بالعذاب، خاضعة للعقاب، وقد كان أصحابها في الدنيا يعملون ويتعبون أنفسهم لأن الآخرة ليست دار عمل، مثل عبدة الأوثان وأصحاب الصوامع والرهبان وغيرهم، خشعت وجوههم للَّه، وعملت ونصبت في أعمالها من غير نفع لهم في الآخرة لأن أعمالهم مبنية على غير أساس من الدين الحنيفي القائم على التوحيد الخالص والإخلاص الكامل للَّه عز وجل، واللَّه تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له، قال تعالى واصفا عمل هؤلاء: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ، فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً، ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا، وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً [الكهف 18/ 103- 106] .(30/206)
3- ومكانهم هو النار الشديدة الحر، ومشروبهم هو مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي من ينبوع ماء متناه في الحرارة، ومطعومهم الضريع الذي لا يسمن آكله، ولا يدفع الجوع عنه. جاء في الخبر عن ابن عباس: (الضريع: شيء يكون في النار يشبه الشّوك، أمرّ من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشد حرّا من النار) «1» .
وقال العلماء: إن للنار دركات، وأهلها على طبقات فمنهم من طعامه الزّقوم، ومنهم من طعامه غسلين، ومنهم من طعامه ضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصّديد: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر 15/ 44] . ووجود النبت في النار ليس ببدع من قدرة اللَّه، كوجود بدن الإنسان والعقارب والحيات فيها.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قال المشركون على سبيل التعنت: إن إبلنا لتسمن بالضّريع، فنزلت:
لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أي ليس فيه منفعة الغذاء، ولا الاسمان ودفع الجوع.
وهذا دليل على أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس، ولكن من جنس الشوك الذي ترعاه الإبل ما دام رطبا، فإذا يبس، نفرت عنه لأنه سم قاتل.
ودليل أيضا على تكذيب اللَّه لهم في قولهم: «يسمن الضريع» .
والخلاصة: أن وصف أحوال النار على النحو المذكور يستدعي الفرار منه، وإبعاد النفس عن موجبات هذا العذاب، من العقيدة الفاسدة، والعمل الخاسر، ولا عقيدة صحيحة إلا بتوحيد اللَّه والإيمان بالقرآن والرسول محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولا عمل مقبول إلا على وفق ما جاء به الإسلام. ولا أقول هذا لأني مسلم، وإنما هذا الذي صح دليله.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 30(30/207)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
أحوال المؤمنين المخلصين أهل الجنة
[سورة الغاشية (88) : الآيات 8 الى 16]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12)
فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
الإعراب:
لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً التاء للخطاب، والفعل مبني للمعلوم (للفاعل) ولاغِيَةً مفعول تَسْمَعُ ولاغِيَةً مصدر كالعافية والعاقبة.
وقرئ بضم التاء ورفع لاغِيَةً على أن الفعل مبني للمجهول (لما لم يسم فاعله) ولاغِيَةً مرفوع لأنه نائب فاعل.
ومن قرأ القراءة الثانية، ذكّر اللاغية إما لأنه أراد بها اللغو، وهو مذكر، وإما لأنه فصل بين الفعل والفاعل، مثل: حسن اليوم دارك، واضطرم الليلة نارك، وحضر القاضي اليوم امرأة.
وإذا جاز التذكير مع المؤنث الحقيقي، فمع غير الحقيقي أولى.
البلاغة:
لِسَعْيِها راضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً سجع رصين غير متكلّف.
المفردات اللغوية:
ناعِمَةٌ ذات بهجة وحسن، أو متنعمة. لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي راضية في الآخرة بعملها الذي عملته في الدنيا، وهو طاعة اللَّه، لما رأت ثوابه. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ عالية المكان والقدر لأن الجنة درجات، كما أن النار دركات. لاغِيَةً لغوا وهذيانا لا فائدة فيه، وكذبا وبهتانا.
عَيْنٌ جارِيَةٌ ينبوع ماء جار. سُرُرٌ جمع سرير: وهو ما يجلس أو ينام عليه.
مَرْفُوعَةٌ رفيعة ذاتا وقدرا ومحلا.
وَأَكْوابٌ جمع كوب: إناء لا عروة له. مَوْضُوعَةٌ معدّة ومهيأة لشربهم وبين أيديهم. وَنَمارِقُ وسائد، جمع نمرقة- بضم النون وفتحها- وبالكسر في لغة مَصْفُوفَةٌ اصطف بعضها بجنب بعض للاستناد إليها وَزَرابِيُّ بسط فاخرة، وطنافس لها خمل، جمع زربي(30/208)
- بكسر الزاي أو زربيّة: وأصل الزرابي: أنواع النبات الأحمر والأصفر والأخضر مَبْثُوثَةٌ مبسوطة مفرّقة في المجالس.
المناسبة:
بعد بيان وعيد الكفار الأشقياء، وبيان حالهم ومكانهم وطعامهم وشرابهم، ذكر اللَّه تعالى أحوال المؤمنين السعداء، وما وعدهم به ربهم، واصفا ثوابهم وأهل الثواب، ثم وصف دار الثواب، لترغيب الناس بأعمالهم، وتشويقهم لما يلاقونه من فضل ربهم.
التفسير والبيان:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي ووجوه يوم القيامة ذات نعمة وبهجة ونضرة وحسن، يعرف النعيم فيها، أو متنعمة، كما قال تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين 83/ 24] وهي وجوه السعداء، لما شاهدوا من عاقبة أمرهم، وقبول عملهم، فهي لعملها الذي عملته في الدنيا راضية، أي رضيت عملها لأنها قد أعطيت من الأجر من أرضاها، كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرَضُوا عَنْهُ [البينة 98/ 8] .
والخلاصة: أن اللَّه تعالى وصف أهل السعادة والثواب بوصفين:
أحدهما- في ظاهرهم وهو قوله: ناعِمَةٌ أي ذات بهجة وحسن، أو متنعمة.
والثاني- في باطنهم وهو قوله: لِسَعْيِها راضِيَةٌ.
ثم وصف دار الثواب وهي الجنة بسبعة أوصاف:
1- 2- فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أي إن أصحاب الوجوه الناعمة وهم المؤمنون السعداء في جنة رفيعة المكان، بهية الوصف، آمنة(30/209)
الغرفات لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض.
ولا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة لغو وهذيان لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد اللَّه تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم، ولأن الجنة منزل أحباب اللَّه، ومنازل الصفاء لا تتعكر باللغو والكذب والبهتان، كما قال تعالى: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور 52/ 23] وقال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم 19/ 62] وقال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً [الواقعة 56/ 25- 26] .
3- 4- فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ، فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أي في الجنة ينبوع أو عين ماء تجري مياهها وتتدفق بأنواع الأشربة المستلذة الصافية، وليس المراد بها عينا واحدة باعتبارها نكرة في سياق الإثبات، وإنما هذا جنس، يعني فيها عيون جاريات.
وفيها أسرة عالية مفروشة بما هو ناعم الملمس، كثيرة الفرش، مرتفعة السّمك، إذا جلس عليها المؤمن استمتع بها ورأى رياض الجنة ونعيمها، كما قال تعالى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة 56/ 34] .
وفي ذلك غاية التشريف والتكريم.
5- 7- وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ أي وفيها أواني الشرب وأقداح الخمر غير المسكرة معدة مرصودة بين أيديها، يشربون منها متى أرادوا، وفيها ووسائد (مخدات) مصفوفة بعضها إلى بعض، للجلوس عليها أو الاستناد إليها، وفيها بسط مبسوطة في المجالس، وطنافس (سجّاد) لها خمل رقيق ناعم، مفرّقة في المجالس، كثيرة، تغري بالجلوس عليها، ويستمتع الناظر إليها، وفيها معاني الأبهة والفخامة.(30/210)
فقه الحياة أو الأحكام:
وصف اللَّه تعالى أهل السعادة والثواب، ودار الثواب بأوصاف جميلة رائعة الجمال والمتعة، لإغراء الناس بها وترغيبهم في الحصول عليها إذا عملوا عمل أصحابها المستحقين لها.
أما أهل الثواب فلهم صفتان: ظاهرية وباطنية، فوجوه المؤمنين ذات نعمة وبهجة ونضرة، ولعملها الذي عملته في الدنيا راضية في الآخرة، حيث أعطيت الجنة بعملها.
وأما دار الثواب فلها صفات سبع كما تقدم:
الأولى- في جنة عالية، أي مرتفعة، وعالية القدر لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
الثانية- لا تسمع فيها كلاما ساقطا غير مرضي، ولا تسمع فيها كلمة لغو.
الثالثة- فيها عين شراب جارية على وجه الأرض، من غير أخدود، وتجري لهم كلما أرادوا، بماء مندفق وبأنواع الأشربة اللذيذة من خمر وعسل ولبن.
الرابعة- فيها سرر عالية المكان، مرتفعة السماء.
الخامسة- فيها أكواب، أي كيزان لا عرى لها، أو أباريق وأوان، والإبريق: هو ما له عروة وخرطوم، والكوب: إناء ليس له عروة ولا خرطوم.
السادسة- فيها نمارق، أي وسائد مصفوفة واحدة إلى جنب الأخرى.
السابعة- فيها البسط المبسوطة، والطنافس التي لها خمل رقيق، والكثيرة المتفرقة في المجالس.(30/211)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
إثبات قدرة اللَّه تعالى على البعث وغيره والتذكير بأدلة ذلك
[سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 26]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
الإعراب:
كَيْفَ خُلِقَتْ كَيْفَ حال مقدم من ضمير خُلِقَتْ، والجملة بدل اشتمال من الإبل.
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ قرئ بِمُصَيْطِرٍ على الأصل، وقرئ بالصاد، بإبدال السين صادا، لتوافق الطاء في الاستعلاء والإطباق، مثل وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة 2/ 247] وأصله: (بسطة) فأبدل من السين صادا، لتوافق الطاء في الإطباق، وكذلك قالوا: الصراط في السراط، وصطر في سطر.
وإِلَّا مَنْ تَوَلَّى: في موضع نصب على استثناء من غير الجنس أي استثناء منقطع، وقيل: هو استثناء من الجنس، أي استثناء متصل، وتقديره: إنما أنت مذكر الناس إلا من تولى وكفر.
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ بتخفيف الباء، آب يئوب إيابا، نحو: قام يقوم مقاما، وأصله: إوابا وقواما، وقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرئ إِيابَهُمْ بتشديد الياء، قال أبو الفتح ابن جني: يجوز أن يكون أراد: إوّابا، إلا أنه قلبت الواو ياء استحسانا طلبا للخفة، لا وجوبا، مثل اجلوّذ اجلياذا، وإن كان المشهور: اجلواذا.
البلاغة:
فَذَكِّرْ مُذَكِّرٌ بينهما جناس الاشتقاق، وكذا بين فَيُعَذِّبُهُ والْعَذابَ.
إِلَيْنا إِيابَهُمْ عَلَيْنا حِسابَهُمْ يوجد بينهما طباق في الحرف.(30/212)
المفردات اللغوية:
أَفَلا يَنْظُرُونَ ينظر أهل مكة ونحوهم نظر اعتبار. الْإِبِلِ الجمال، جمع بعير، ولا وأحد لها من لفظه كنساء وقوم. كَيْفَ خُلِقَتْ خلقا يدل على كمال قدرة اللَّه تعالى وحسن تدبيره، بأن جعلت أداة لحمل الأثقال إلى البلاد النائية، مع احتمال العطش عشرا فأكثر وخصت بالذكر لأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع، وبدئ بها لأنهم أكثر مخالطة لها من غيرها.
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ بلا عمد وأمسكها بما فيها من الكواكب. وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ فهي راسخة لا تميل وهي أعلام للسائرين. سُطِحَتْ بسطت حتى صارت مهادا موطأة للإقامة عليها. قرئت الأفعال الأربعة بالبناء للمجهول، وحذف المفعول المنصوب أي خلقتها رفعتها نصبتها، والمعنى: أفلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من المركبات وغيرها، ليعرفوا كمال قدرة الخالق ووحدانيته، فلا ينكروا اقتداره على البعث، ولذلك عقب به أمر المعاد، ورتب عليه الأمر بالتذكير.
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي فذكرهم نعم اللَّه ودلائل توحيده وعظهم والفت نظرهم إلى الكون كله، وما عليك ألا ينظروا أو لم يتذكروا، فإنما عليك البلاغ فقط. بِمُصَيْطِرٍ بمسلّط، لإجبارهم على ما تريد إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ لكن من تولى وكفر بالقرآن فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ عذاب الآخرة، وهو في آية سابقة النَّارَ الْكُبْرى والأصغر عذاب الدنيا بالقتل والأسر. إِيابَهُمْ رجوعهم بعد الموت. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ في المحشر، وتقديم الخبر في الجملتين الأخيرتين للتخصيص، والمبالغة في الوعيد.
سبب النزول: نزول الآية (17) :
أَفَلا يَنْظُرُونَ..: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن قتادة قال: لما نعت اللَّه ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل اللَّه:
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ.
المناسبة:
بعد أن حكم اللَّه تعالى بمجيء يوم القيامة، وقسم الناس فيها إلى فريقين:
أشقياء وسعداء، وو صف أحوال الفريقين، أقام الدليل على وجوده ووحدانيته(30/213)
وقدرته بما يشاهدونه من آثار القدرة من السماء العالية، والأرض التي يسكنون فيها، والإبل التي ينتفعون بها في نقل الأحمال والانتفاع بلحومها وأوبارها وألبانها، والجبال الراسيات التي ترشد السالكين، فيستدلون بذلك على قدرته تعالى على بعث الأجساد والمعاد وصحة عقيدة التوحيد.
ثم أمر نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يذكّرهم بهذه الأدلة والبراهين وأمثالها، لينظروا فيها، وليصبر على معارضتهم، فإنما بعث لذلك دون غيره.
التفسير والبيان:
يأمر اللَّه تعالى عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته ووجوده وتوحيده، فيقول:
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ؟ أي كيف يصح للمشركين إنكار البعث والمعاد واستبعاد وقوع ذلك، وهم يشاهدون الإبل التي هي غالب مواشيهم وأكبر المخلوقات في بيئتهم، كيف خلقها اللَّه على هذا النحو البديع، من عظم الجثة، ومزيد القوة، وبديع الأوصاف، فهي خلق عجيب، وتركيب غريب، ومع ذلك تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للولد الصغير، وتؤكل، وينتفع بوبرها، ويشرب لبنها، وتصبر على الجوع والعطش. وبدأ تعالى التنبيه بها لأن غالب دواب العرب كانت الإبل، وأيضا مرافق الإبل أكثر من مرافق الحيوانات الأخر فهي مأكولة، ولبنها مشروب، وتصلح للحمل والركوب، وقطع المسافات البعيدة عليها، والصبر على العطش، وقلة العلف، وكثرة الحمل، وهي معظم أموال العرب.
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وألا يشاهدون السماء كيف رفعت فوق الأرض بلا عمد؟ كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ؟ [ق 50/ 6] .(30/214)
وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ أي جعلت منصوبة قائمة مرفوعة على الأرض، فإنها ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها، والنظر إليها مبعث هيبة وتعجب، ويستفيد من وجودها وتسلسلها السالكون في البراري والقفار، والأعجب من هذا أن كثيرا من الينابيع المائية تنبع منها، وفيها منافع كثيرة ومعادن وفيرة، ويقتطع منها أحجار ضخمة، ورخام ذو ألوان مختلفة بديعة.
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ كيف بسطت ومدّت ومهّدت، ليستقر عليها ساكنوها، وينتفعوا بما فيها من خيرات ومعادن دفينة، وما تخرجه من نباتات وزروع وأشجار متنوعة، بها قوام الحياة والمعيشة.
وتسطيح الأرض إنما هو بالنسبة للناظر والمقيم عليها، ولا يعني ذلك أنها ليست بكرة لأن الكرة- كما ذكر الرازي- إذا كانت في غاية العظمة يكون كل قطعة منها كالسطح «1» .
وإنما ذكرت هذه المخلوقات دون غيرها لأنها أقرب الأشياء إلى الإنسان الناظر فيها، فهو يشاهد صباح مساء بعيره، ويرى السماء التي تظلله، والجبال التي تجاوره، والأرض التي تقلّه.
ثم أمر اللَّه نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالتذكير بهذه الأدلة، فقال:
فَذَكِّرْ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي فذكر يا محمد الناس بما أرسلت به إليهم، وعظهم وخوفهم، والفت نظرهم إلى ضرورة التأمل بهذه الأدلة والبراهين وأمثالها الدالة على قدرة اللَّه على كل شيء، ومنها البعث والمعاد، وليس عليك إلا التذكير فقط، فإنما بعثت لهذا الغرض، ولا سلطان ولا سيطرة لك عليهم لحملهم على أن يؤمنوا باللَّه وبرسالتك، ولجبرهم على ما تريد، فإن
__________
(1) التفسير الكبير: 31/ 157- 158 [.....](30/215)
آمنوا فقد اهتدوا، وإن أعرضوا فقد ضلوا وكفروا، كما قال سبحانه: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] .
وقوله: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ تأكيد لمهمة التذكير فقط، وتقرير لها، ونظير الآية قوله: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟ [يونس 10/ 99] وقوله: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق 50/ 45] .
روى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على اللَّه عز وجل» ثم قرأ: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ «1» .
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير، وكفر بالحق بقلبه ولسانه، فيعذبه اللَّه في الآخرة عذاب جهنم الدائم، عدا عذاب الدنيا من قتل وأسر واغتنام مال لأنه إذا كان لا سلطان لك عليهم، فإن اللَّه هو المسيطر عليهم، لا يخرجون عن قبضته وقوته وسلطانه.
أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي: مرّ على خالد بن يزيد بن معاوية، فسأله عن ألين كلمة سمعها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «ألا كلكم يدخل الجنة، إلا من شرد على اللَّه شراد البعير عن أهله» .
ثم أكد اللَّه تعالى وقوع البعث والحساب والعذاب، فقال:
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ أي إن إلينا مرجعهم ومصيرهم،
__________
(1) الحديث مخرج في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة بدون ذكر هذه الآية.(30/216)
ونحن نحاسبهم على أعمالهم بعد رجوعهم إلى اللَّه بالبعث، إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ، فلا مفر للمعرضين، ولا خلاص للمكذبين من العقاب.
وفائدة تقديم الظرف أو الجار والمجرور في الموضعين الحصر والتشديد بالوعيد، أي ليس مرجعهم إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام وإيفاء جزاء كل طائفة، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه بمقتضى الحكمة البالغة، وهو الذي يحاسب على الصغير والكبير «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- ذكّر اللَّه تعالى الناس بصنعته وقدرته، وأنه قادر على كل شيء، بعد أن ذكر أمر أهل الدارين، فتعجب الكفار من ذلك، فكذبوا وأنكروا. وقد ذكّرهم بخلق الإبل لأنها كثيرة في العرب، وبخلق السماء ورفعها عن الأرض بلا عمد، وبخلق الجبال الراسيات المنصوبة على الأرض، بحيث لا تزول، وبخلق الأرض كيف بسطت ومدت ومهدت لأهلها كي يستطيعوا العيش عليها بقرار وأمان.
2- أمر اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بتذكير قومه وعظتهم وتخويفهم، وطمأنه بأنه مجرد واعظ، ليس بمسلّط عليهم، فيقتلهم، أو يجبرهم على الإيمان برسالته.
3- حذر اللَّه تعالى من مخالفة دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ورسالته، فأنذر كل من تولى عن الوعظ والتذكير بالعذاب الأكبر في الآخرة، وهو عذاب جهنم الدائم، ووصف العذاب بالأكبر لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والأسر والقتل.
وهذا على أن الاستثناء منقطع، وقيل: هو استثناء متصل، والمعنى: لست
__________
(1) تفسير الكشاف: 3/ 334، تفسير الرازي: 31/ 160(30/217)
بمسلط إلا على من تولى وكفر، فأنت مسلّط عليه بالجهاد، واللَّه يعذبه بعد ذلك العذاب الأكبر، فلا نسخ في الآية على هذا التقدير.
والأظهر في رأي بعض المفسرين أن يكون الاستثناء متصلا، لا باعتبار الحال، فإن السورة مكية، ولكن بالنظر إلى الاستقبال، أي إلا المصرّين على الإعراض والكفر، فإنك تصير مأمورا بقتالهم، مستوليا عليهم بالغلبة والقهر «1» .
والظاهر لدي أن يكون الاستثناء منقطعا، أي لست بمصيطر ولا بمستول عليهم، ولكن من تولى وكفر، فإن للَّه الولاية والقهر عليه، فهو يعذبه العذاب الأكبر في الآخرة، بعد العذاب الأصغر في الدنيا وهو القتل والسبي، كما قال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة 32/ 21] . وهذا ما سار عليه أغلب المفسرين، مشيرين إلى القول الثاني بصيغة (قيل) المفيدة للتضعيف.
4- تضمنت السورة في خاتمتها ما يصلح للوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فإن مصير جميع الناس ورجوعهم بعد الموت إلى اللَّه عز وجل، وحسابهم إليه وحده.
والحساب وإن كان حقا للَّه تعالى، ولا يجب على المالك أن يستوفي حق نفسه، إلا أنه تعالى جعل الحساب واجبا عليه، إما بحكم وعده الذي لا خلف فيه، وإما بمقتضى الحكمة والعدل، فإنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم، لكان ذلك شبيها بكونه تعالى راضيا بذلك الظلم، وتعالى اللَّه عنه، فلهذا السبب كانت المحاسبة واجبة «2» .
__________
(1) غرائب القرآن: 30/ 85
(2) تفسير الرازي: 31/ 160(30/218)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفجر
مكيّة، وهي ثلاثون آية.
تسميتها:
سميت سورة الفجر، لافتتاحها بقوله تعالى: وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وهو قسم عظيم بفجر الصبح المتبلج نوره كل يوم على أن الكفار سيعذبون حتما.
مناسبتها لما قبلها:
تتعلق السورة الكريمة بما قبلها من وجوه ثلاثة:
1- إن القسم الصادر في أولها كالدليل على صحة ما ختمت به السورة التي قبلها من قوله جل جلاله: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ.
2- تضمنت السورة السابقة قسمة الناس إلى فريقين: أشقياء وسعداء، أصحاب الوجوه الخاشعة، وأصحاب الوجوه الناعمة، واشتملت هذه السورة على ذكر طوائف من الطغاة: عاد وثمود وفرعون الذين هم من الفريق الأول، وطوائف من المؤمنين المهتدين الشاكرين نعم اللَّه، الذين هم في عداد الفريق الثاني، فكان الوعد والوعيد حاصلا في السورتين.
3- إن جملة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ.. في هذه السورة مشابهة لجملة: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ... في السورة المتقدمة.(30/219)
ما اشتملت عليه السورة:
اشتملت السورة على أغراض ستة:
1- القسم الإلهي بالفجر والعشر الأوائل من ذي الحجة والشفع والوتر والليل على أن عذاب الكفار واقع حتما لا مفر منه: وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الآيات: 1- 5] .
2- إيراد قصص بعض الأمم الظالمة البائدة المكذبة رسل اللَّه، كعاد وثمود وقوم فرعون، لضرب المثل، وبيان ما حل بهم من العذاب بسبب طغيانهم:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ.. [الآيات: 6- 14] .
3- بيان أن الحياة ابتلاء للناس بالخير والشر، والغنى والفقر، والتعرف على طبيعة الإنسان في حب المال، وتوضيح أن كثرة النعم على عبد ليست دليلا على إكرام اللَّه له، ولا الفقر وضيق العيش دليلا على إهانته: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ.. [الآيات: 15- 20] .
4- وصف يوم القيامة وأهواله وشدائده: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا.. [الآيات: 21- 23] .
5- بيان انقسام الناس إلى فريقين في الآخرة: سعداء وأشقياء، وتمني الأشقياء العودة إلى الدنيا: يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي.. [الآيات: 24- 26] .
6- الإخبار عن ظفر السعداء بالنعيم العظيم في جنان اللَّه: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ.. [الآيات: 27- 30] .
فضلها:
روى النسائي عن جابر قال: صلّى معاد صلاة، فجاء رجل، فصلّى معه،(30/220)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
فطوّل، فصلّى في ناحية المسجد، ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذا، فقال: منافق، فذكر ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسأل الفتى، فقال: يا رسول اللَّه، جئت أصلي معه، فطوّل علي، فانصرفت وصليت في ناحية المسجد، فعلفت ناقتي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أفتّان يا معاذ؟ أين أنت من: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَالْفَجْرِ، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» .
حتمية عذاب الكفار وجزاء بعضهم في الدنيا
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
الإعراب:
وَالْفَجْرِ، وَلَيالٍ عَشْرٍ ... هذا قسم، وجوابه: إما قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أو محذوف مقدر تقديره: لتبعثن. والأولى أن يكون جواب القسم محذوفا وهو ليعذبن، كما ذكر في الكشاف (3/ 335) أي وربّ هذه الأشياء ليعذبن الكفار، وقد دلّ عليه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ.. إلى قوله: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ.
كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ إِرَمَ: مجرور على البدل، أو عطف البيان، ولا يجوز أن يكون وصفا أو نعتا لأنه ليس مشتقا. وإِرَمَ: ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، ودليل التأنيث وصفها بقوله: ذاتِ الْعِمادِ.(30/221)
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ استفهام تقريري، لتفخيم شأن الأمور المقسم بها.
الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ بينهما طباق.
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ استعارة، شبّه العذاب الشديد النازل بهم بالسوط المؤلم، واستعمل الصبّ للإنزال.
وَلَيالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ سجع رصين غير متكلف، وكذا قوله:
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ.
المفردات اللغوية:
وَالْفَجْرِ قسم بالوقت الذي ينبلج فيه نور الصبح كل يوم لتبديد حجب الظلام، وظهور النور وما يتبعه من الاستعداد والذهاب لقضاء الحوائج وتحقيق المنافع وطلب الرزق، وهو مثل القسم في قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير 81/ 18] وقوله: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر 74/ 34] .
وَلَيالٍ عَشْرٍ عشر ذي الحجة، وتنكيرها للتعظيم. وَالشَّفْعِ الزوج. وَالْوَتْرِ الفرد من تلك الليالي، والمراد: والأشياء كلها شفعها ووترها، وكلمة «الوتر» : بفتح الواو وكسرها. يَسْرِ أي يسري بمعنى إذا يمضي، كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر 74/ 33] .
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي هل في ذلك القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لكل ذي عقل؟ كأنه يقول: إن هذا لقسم عظيم عند ذوي العقول، فمن كان عاقلا أدرك أن ما أقسم اللَّه به من هذه الأشياء فيها دلالة على توحيده وقدرته. وجواب القسم محذوف، أي لتعذبن أيها الكفار.
والحجر: العقل، سمي بذلك لأنه يمنع من الوقوع فيما لا ينبغي.
أَلَمْ تَرَ ألم تعلم يا محمد. بِعادٍ هي قبيلة عربية بائدة، من أولاد عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، قوم هود عليه السلام، سموا باسم أبيهم كما سمي بنو هاشم باسمه، وتلقب عاد بإرم أيضا.
إِرَمَ عطف بيان لعاد على تقدير مضاف، أي سبط إرم، وإِرَمَ: هي عاد الأولى. ذاتِ الْعِمادِ ذات البناء الرفيع، سكان الخيام العالية، وهذا كناية عن الغنى والبسطة، وكانت منازلهم بالرمال في الأحقاف بلاد الرمال بين عمان وحضرموت جنوب جزيرة العرب. لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ في بطشهم وقوتهم.(30/222)
وَثَمُودَ قبيلة من العرب البائدة أيضا من ولد كاتر بن إرم بن سام، كانت تسكن بالحجر بين الشام والحجاز، وهم قوم صالح عليه السلام. جابُوا الصَّخْرَ قطعوا الصخر ونحتوه واتخذوه بيوتا. بِالْوادِ وادي القرى. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ حاكم مصر في عهد موسى عليه السلام، صاحب المباني العظيمة الثابتة ثبوت الأوتاد: جمع وتد، وهو ما يدق في الأرض.
طَغَوْا تجبروا في البلاد وتجاوزوا الحد في الظلم، صفة للمذكورين: عاد وثمود وفرعون.
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ بالقتل والتعذيب والمنكرات. فَصَبَّ أفرغ وألقى وأنزل بهم العقوبة متتابعة. سَوْطَ عَذابٍ أي نوع عذاب ينزل بهم، وأصل السوط: الجلد الذي يضفر ليضرب به. لَبِالْمِرْصادِ أي يرصد أعمال العباد فلا يفوته شيء منها، ليجازيهم عليها. وأصل المرصاد:
مكان الرصّد أو الراصد، والرصّد: من يرصد الأمور، أي يترقبها ليعرف ما فيها من خير أو ضرر، ويطلق أيضا على الحارس، ويطلق على الواحد والجمع والمؤنث، والترصد: الترقب.
التفسير والبيان:
وَالْفَجْرِ، وَلَيالٍ عَشْرٍ أي قسما من اللَّه بالفجر، أي الصبح الذي يظهر فيه الضوء، وينبلج النور لأنه وقت انفجار الظلمة عن الليل، كل يوم، وما يترتب عليه من اليقظة والاستعداد لجلب المنافع وتحقيق المصالح بالانتشار في الأرض وطلب الرزق من الإنسان والحيوان، كما في قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير 81/ 18] ، وقوله: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر 74/ 34] .
وقيل: المراد: القسم بصلاة الفجر.
وقسما بالليالي العشر من ذي الحجة ذات الفضيلة
ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا: «ما من أيام العمل الصالح أحبّ إلى اللَّه فيهنّ من هذه الأيام- يعني عشر ذي الحجة- قالوا: ولا الجهاد في سبيل اللَّه؟ قال:
ولا الجهاد في سبيل اللَّه، إلا رجلا خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء» .
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ أي والزوج والفرد من كل الأشياء، ومنها هذه الليالي، أي بما حوته من زوج وفرد.(30/223)
وقيل: الشفع يوم النحر لأنه عاشر الأيام، والوتر يوم عرفة لأنه تاسع الأيام، وقيل: الشفع: يوما التشريق الأول والثاني اللذان يجوز التعجل فيهما بالنفر من منى، والوتر: اليوم الثالث.
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ وقسما بالليل إذا جاء وأقبل ثم ذهب وأدبر، كقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر 74/ 33] ، وقوله: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، [التكوير 81/ 17] أي أقبل ظلامه، أو أدبر، فكما في إقبال الصبح من عظيم النفع، في الظلام نفع أيضا، حيث تهدأ النفوس، وتستريح من عناء العمل، ثم في ذهابه نفع أيضا حيث يستعان بالراحة التي ارتاحها الجسم للعمل في النهار، ومجابهة المتاعب والأعمال.
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي أليس في القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لكل ذي عقل أو لبّ؟ والحجر: العقل، فمن كان ذا عقل ولبّ، علم أن ما أقسم اللَّه به من هذه الأشياء حقيق بأن يقسم به.
ثم ذكر اللَّه تعالى بعض قصص الأمم السالفة للمثل والعبرة، فقال:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ أي ألم تعلم أيها الإنسان المخاطب، كيف أهلك اللَّه قبيلة عاد الأولى، وهم ولد عاد بن حوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وتلقب أيضا بإرم، فإرم: اسم آخر لعاد الأولى، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النجم 53/ 50] ، ويقال لمن بعدهم عاد الأخرى. ومساكنهم الأحقاف بلاد الرمال بين عمان وحضرموت، ونبيهم هود عليه السلام.
وقد كانوا أهل عمد وخيام عالية في الربيع، ثم يرجعون إلى منازلهم إذا هاج النبت، وكانوا طوال القامة، ذوي أجسام قوية شديدة، وأشد الناس في زمانهم خلقة، وأقواهم بطشا، ولم يوجد في البلاد كلها مدينة محكمة البنيان ذات(30/224)
أعمدة طوال منحوتة كمدينتهم، والصواب لم يوجد مثل تلك القبيلة في الطول والشدة والقوة كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف 7/ 69] ، وقال سبحانه: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ، هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصّلت 41/ 15] .
وجواب القسم المبدوء به في أول السورة محذوف تقديره: لتعذبن يا كفار أهل مكة وأمثالكم، وقد دلّ على الجواب هذه الآية: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ؟ وما بعدها.
وضمير لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها على الصواب عائد على القبيلة، أي لم يخلق مثل عاد تلك القبيلة في البلاد، يعني في زمانهم، وليس على العماد لارتفاعها كما قال ابن زيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال: التي لم يعمل مثلها في البلاد، وإنما قال: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ «1» .
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ أي وقبيلة ثمود قوم صالح عليه السلام الذين قطعوا الصخر ونحتوه، وبنوا بالأحجار بيوتا يسكنون فيها، وقصورا وأبنية عظيمة، في الحجر ما بين الشام والحجاز، أو وادي القرى، كما جاء في قوله تعالى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ [الشعراء 26/ 149] ، وقوله سبحانه: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ [الحجر 15/ 82] .
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ أي وحاكم مصر في عهد موسى عليه السلام، الذي هو صاحب المباني العظيمة، ومنها الأهرام التي بناها الفراعنة لتكون قبورا
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 507(30/225)
لهم، وسخّروا في بنائها شعوبهم. وقيل: الأوتاد: الجنود والعساكر والجموع والجيوش التي تشدّ ملكه.
والتعبير بالأوتاد عن الأبنية يشير إلى هياكلهم العظيمة التي لها شكل الأوتاد المقلوبة، فهي عريضة القاعدة، ثم تصير رفيعة دقيقة في رأسها.
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ أي هؤلاء الذين سبق ذكرهم وهم عاد وثمود وفرعون الذين تجاوزوا في بلادهم الحدّ في الظلم والجور، وتمردوا وعتوا، واغتروا بقوتهم، وأكثروا الفساد فيها بالكفر والمعاصي وظلم العباد.
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ أي فأنزل اللَّه تعالى على تلك الطوائف نوعا من العذاب الشديد، مشبها ما أوقعه بهم بالسوط المؤلم الذي يستعمل في تطبيق العقوبات. وقد ذكر نوع عقوباتهم تفصيلا في سورة الحاقة [الآيات: 5- 10] .
ثم ذكر اللَّه تعالى سبب العذاب وهو الجريمة، فقال:
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي إن اللَّه يرصد عمل كل إنسان، فلا يفوته شيء، حتى يجازيه عليه بالخير خيرا، وبالشر شرّا، ولا يهمل منه شيئا قلّ أو كثر، صغر أو كبر. والمرصاد: المكان الذي يرقب فيه الرصد.
والغرض من تكرار هذه القصص في مواضع مختلفة من القرآن الكريم هو التذكير بها، والعظة والعبرة منها، إما بالاستدلال على قدرته تعالى، وإما ببيان قهره العباد، وإما بإنذارهم وتخويفهم، ليدركوا أن ما جرى على شخص أو قوم، يجري على النظير والمثيل.(30/226)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- حتمية عذاب الكفار، فقد أقسم اللَّه تعالى بالفجر أي الصبح أو بصلاة الفجر، وبالليالي العشر من ذي الحجة، وبالشفع والوتر أي الزوج والفرد من الأشياء كلها لأن الموجودات لا تخلو من هذين القسمين، فتكون كقوله:
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة 69/ 38- 39] ، وبالليل إذا يسري أي يمضي كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر 74/ 33] والمراد عموم الليل كله، أقسم اللَّه بهذه الأشياء على أنه ليعذبن الكفار.
وإقسام اللَّه تعالى بهذه الأمور ينبئ عن شرفها، وأن فيها فوائد دينية ودنيوية، مثل كونها دلائل باهرة على التوحيد، أو توجب الحثّ على الشكر «1» . قال القرطبي: قد يقسم اللَّه تعالى بأسمائه وصفاته لعلمه، ويقسم بأفعاله لقدرته كما قال تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل 92/ 3] ويقسم بمفعولاته، لعجائب صنعه كما قال: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشمس 91/ 1] ، وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس 91/ 5] ، وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ [الطارق 86/ 1] «2» .
2- أكّد اللَّه تعالى ما أقسم به وأقسم عليه بقوله: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي بل في ذلك مقنع لذي لبّ وعقل، فالمراد بالاستفهام تقرير أن هذه المذكورات لشرفها وعظم شأنها يحق أن يؤكد بمثلها المقسم عليه، وهو تعذيب الكفار، كمن ذكر حجة باهرة، ثم قال: هل فيما ذكرته حجة؟ يريد أنه
__________
(1) تفسير الرازي: 31/ 161
(2) تفسير القرطبي: 20/ 41(30/227)
لا حجة فوق هذا. ومن هنا قال بعضهم: فيه دليل على أنه تعالى أراد ربّ هذه الأشياء، ليكون غاية في القسم.
3- ذكر اللَّه تعالى للعبرة، ولتسلية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قصة ثلاث فرق على سبيل الإجمال لأنهم أعلام في القوة والشدة والتجبر، وهم عاد الأولى أو إرم ذات الأبنية المرفوعة على العمد، ومعنى إرم: القديمة، والتي لم يخلق مثل تلك القبيلة في زمنها في البلاد، قوة وشدة، وعظم أجساد، وطول قامة.
وثمود قوم صالح عليه السلام الذين قطعوا الصخر ونحتوه، وبنوا به البيوت العظيمة بوادي القرى، قال المفسرون: أول من نحت الجبال والصور والرخام:
ثمود، فبنوا من المدائن ألفا وسبع مائة مدينة كلها من الحجارة، ومن الدور والمنازل ألفي ألف وسبع مائة ألف، كلها من الحجارة.
وفرعون حاكم مصر ذو الأوتاد أي صاحب الأبنية الشاهقة، أو الجنود الكثيرة أو الأوتاد الأربعة لتعذيب الناس.
4- هؤلاء الطوائف الثلاث: عاد وثمود وفرعون طغوا في البلاد، أي تجاوزوا الحدّ في الظلم والعدوان، وتمرّدوا وعتوا، فأكثروا فيها الفساد، أي الجور والأذى، فعاقبهم اللَّه عقابا شديدا، وصبّ عليهم سوط عذاب، أي أفرغ عليهم وألقى نوعا من العذاب الشديد عليهم لأن الجزاء من جنس العمل.
وفيه إشارة إلى أن عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة كالسوط بالنسبة إلى القتل مثلا، ثم أشار إلى عذاب الآخرة أو إليه مع عذاب الدنيا بقوله:
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي يمهل ولكنه لا يهمل، ويرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه به.(30/228)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
توبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بالآخرة وفرط تماديه في الدنيا
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 20]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)
الإعراب:
فَأَمَّا الْإِنْسانُ.. فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ الْإِنْسانُ: مبتدأ، وجملة فَيَقُولُ..
خبر المبتدأ، وأتى بالفاء لأن في «أما» معنى الشرط بالإنعام. والظرف المتوسط: إِذا مَا ابْتَلاهُ ... في تقدير التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل: ربي أكرمني وقت ابتلائه.
وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ إما أن يكون طَعامِ بمعنى إطعام، فيكون اسما أقيم مقام المصدر، مثل: سلمت عليه سلاما، أي تسليما، وكلمته كلاما، أي تكليما، وإقامة الاسم مقام المصدر كثيرة في كلام العرب، وإما أن يكون التقدير فيه: ولا تحضون على إطعام طعام المسكين، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
البلاغة:
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ... وقوله: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ.. بينهما مقابلة، قابل بين أَكْرَمَنِ وأَهانَنِ، وبين توسعة الرزق وتضييقه.
كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ فيه التفات من ضمير الغائب إلى الخطاب زيادة في التوبيخ والعتاب. والأصل أن يقال: كلا بل لا يكرمون.
المفردات اللغوية:
فَأَمَّا الْإِنْسانُ متصل بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قال البيضاوي: كأنه قيل:
إنه لبالمرصاد في الآخرة، فلا يريد إلا السعي لها، فأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها. إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ اختبره بالغنى واليسر. فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ بالجاه والمال. فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ فضّلني بما أعطاني، وصيّرني مكرما، يتمتع بالنعيم.(30/229)
إِذا مَا ابْتَلاهُ بالفقر والتقتير فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ضيّقه. أَهانَنِ أذلني وبادرني بالإهانة، وهذا لقصور نظره وسوء تفكيره، فإن التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين، والتوسعة قد تؤدي إلى الانهماك في حبّ الدنيا.
ولذلك ذمّه على قوليه السابقين وردعه بقوله: كَلَّا كلمة للردع والزجر، أي ليس الإكرام بالغنى، والإهانة بالفقر، وإنما هو بالطاعة والمعصية، والكفار لا يتنبهون لذلك.
لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ لا يحسنون إليهم مع غناهم. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ لا يحثون أنفسهم أو غيرهم على إطعام المسكين، وقراءة حفص: تُكْرِمُونَ، وتَحَاضُّونَ.
لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ لا يحسنون إليهم مع غناهم. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ لا يحثون أنفسهم أو غيرهم على إطعام المسكين، وقراءة حفص: تُكْرِمُونَ، وتَحَاضُّونَ. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ الميراث. أَكْلًا لَمًّا شديدا ذا لم، أي جمع بين الحلال والحرام، فإنهم لا يورثون النساء والصبيان، ويأكلون أنصباءهم. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا حبّا كثيرا.
المناسبة:
بعد أن بيّن اللَّه تعالى أنه بمرصد من أعمال بني آدم، يراقبهم ويجازيهم، عقّبه بتوبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بأمر الآخرة، وفرط تماديه في إصلاح المعاش الدنيوي، كأنه قيل: إن اللَّه يؤثر الآخرة ويرغّب فيها، وأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها وشهواتها، فإذا صار في راحة قال: ربي أكرمني ورفعني، وإن فقد الراحة قال: ربي أهانني وأذلني.
وبعد بيان خطأ الإنسان في تصوره واعتقاده هذا، زجر الناس عن تقصيرهم وارتكابهم المنكرات، ونبّه لما هو شرّ من ذلك، وهو أنه يكرمهم بكثرة المال، ثم لا يؤدون حق اللَّه فيه، فلا يحسنون إلى اليتامى والمساكين، ويتناهبون الميراث دون إعطاء النساء والصبيان حقوقهم، ويحصرون على جمع المال حرصا شديدا.
التفسير والبيان:
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ، فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ أي إن الإنسان مخطئ في تفكيره أنه إذا امتحنه ربّه واختبره بالنعم، فأكرمه(30/230)
بالمال، ووسع عليه الرزق، فيقول: ربي أكرمني وفضلني واصطفاني ورفعني وعافاني من العقوبة، معتقدا أن ذلك هو الكرامة، فرحا بما نال، وسرورا بما أعطي، غير شاكر اللَّه على ذلك، ولا مدرك أن ذلك امتحان له من ربّه.
والمراد بالإنسان الجنس، وليس الكافر فقط، ويوجد هذا في كثير من أهل الإسلام «1» .
والمقصود من الآية أن اللَّه ينكر على الإنسان ويوبخه في اعتقاده أنه إذا وسع اللَّه عليه في الرزق ليختبره فيه، كان ذلك إكراما من اللَّه له، وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون 23/ 55- 56] .
ونظيره أيضا قوله تعالى في صفة الكفار: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم 30/ 7] ، وقوله أيضا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الحج 22/ 10] .
والخلاصة: أن الغنى والثروة أو الجاه والسلطة ليس دليلا على رضا اللَّه عن العبد لأن ذلك لا قيمة له عند اللَّه تعالى.
ثم ذكر الجانب الآخر وهو أن الفقر والتقتير ليس دليلا على سخط اللَّه على العبد، فقال: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ، فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَهانَنِ أي وأما إذا ما اختبره وامتحنه بالفقر والتقتير، وضيّق عليه رزقه ولم يوسعه له، فيقول: ربي أهانني وأذلني. وهذا خطأ أيضا فلا يصح أن يعتقد أن ذلك إهانة له وإذلال لنفسه.
__________
(1) البحر المحيط: 8/ 470(30/231)
فالإنسان مخطئ في الحالين لأن سعة الرزق لا تدل على أحقية العبد لها، بدليل ما نشاهده من غنى الكفار وثروة الفساق والعصاة.
وضيق الرزق ليس دليلا على عدم الاستحقاق، بدليل ما نراه من فقر بعض الأنبياء وأكابر المؤمنين والصلحاء والعلماء.
والكرامة عند اللَّه للطائع الموفق لعمل الآخرة، والإهانة والخذلان عند اللَّه للعاصي غير الموفق للطاعة وعمل أهل الجنة، وليست سعة الدنيا كرامة ورفعة، ولا ضيقها إهانة ومذلة، وإنما الغنى اختبار للغني هل يشكر، والفقر اختبار له هل يصبر «1» .
ونظرا للخطأ في الحالين ردع اللَّه الإنسان بقوله:
كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي ردع وزجر للإنسان القائل في الحالتين السابقتين ما قال، فليس الأمر كما زعم، فإن اللَّه تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة اللَّه في كل من الحالين، فإذا كان غنيا، شكر اللَّه على نعمته، وإذا كان فقيرا صبر.
وبعد أن ذمّهم على قبح الأقوال، ذمّهم على قبح الأفعال الذي هو شرّ من سابقه، وهو أنه يكرمهم بكثرة المال، ثم لا يؤدون حق اللَّه فيه، فأنتم أيها الأغنياء الموسرون لا تكرمون اليتيم ولا تحسنون إليه، ولا تحضون أنفسكم أو غيركم على إطعام المساكين، ولا يحث بعضكم بعضا على صلة الفقراء، ولا تأمرون بعضكم بعضا بالإحسان إلى المحتاجين.
وفي قوله: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ أمر بإكرام الأيتام، كما
جاء في
__________
(1) فتح القدير للشوكاني.(30/232)
الحديث الذي رواه عبد اللَّه بن المبارك عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم، يحسن إليه، وشرّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه، ثم قال بأصبعيه: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» .
وروى أبو داود عن سهل بن سعيد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة»
وقرن بين أصبعيه: الوسطى والتي تلي الإبهام. قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر أمية بن خلف، وكان يدفعه عن حقه، فنزلت.
فترك إكرام اليتيم: ترك برّه، ودفعه عن حقه الثابت له في الميراث، وأخذ ماله منه.
وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي وإنكم تأكلون الميراث أكلا شديدا، وجمعا من أي جهة حصل، من حلال أو حرام.
وتحبون المال حبّا كثيرا فاحشا، والجمّ: الكثير، قال بعضهم:
إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا ... وأيّ عبد لك لا ألّما
والخلاصة: أنكم تؤثرون الدنيا على الآخرة، واللَّه يحب السعي للآخرة، وترك الإفراط والمغالاة والتمادي في حبّ الدنيا وملذاتها.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- يخطئ الإنسان في فهم حال الغنى والفقر، فليس الغنى وبسط الرزق دليلا على الإكرام والتفضيل والاصطفاء، كما أن الفقر ليس دليلا على الإهانة والإذلال.
فالكرامة عند اللَّه والهوان ليس بكثرة الحظ في الدنيا وقلته، وإنما الكرامة(30/233)
عنده أن يكرم اللَّه العبد بطاعته وتوفيقه، المؤدي إلى حظ الآخرة، وإن وسّع عليه في الدنيا حمده وشكره.
واللَّه لا يريد من عبده إلا الطاعة والسعي للعاقبة الآخرة، وأما الإنسان فلا يريد ذلك، ولا يهمه إلا الدنيا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها.
2- أكّد تعالى المعنى السابق بكلمة كَلَّا للرد على سوء فهم الإنسان، وزجرا وردعا له عن اعتقاده وتصوره السابق، فليس الأمر كما يظنّ، بأن الغنى لفضله، والفقر لهوانه، وإنما الغنى والفقر من تقدير اللَّه وقضائه، وعلى العبد أن يحمد اللَّه عزّ وجلّ على الفقر والغنى.
جاء في الحديث: «يقول اللَّه عزّ وجلّ:
كلا، إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلتها، إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت من أهنت بمعصيتي» «1» .
3- أخبر اللَّه تعالى عما كان الناس يصنعونه من ترك برّ اليتيم ومنعه من الميراث، وأكل ماله إسرافا وبدارا أن يكبروا، وأنهم لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم، وأكلهم ميراث اليتامى والنساء والصبيان أكلا شديدا وجمعا شاملا، ومحبتهم المال حبّا جمّا، كثيرا، فقد كان أهل الشرك لا يورّثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم مع ميراثهم، وتراثهم مع تراثهم، وكانوا يجمعون المال دون تفرقة بين الحلال والحرام.
وهذا ما يشيع الآن كثيرا في العالم، بل بين المسلمين أنفسهم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 52(30/234)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
حال الإنسان الحريص على الدنيا والمترفع عنها يوم القيامة
[سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 30]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25)
وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
الإعراب:
إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا جواب إِذا قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ.
ودَكًّا دَكًّا: منصوب على المصدر المؤكد، وكرر للتأكيد.
صَفًّا صَفًّا منصوب على المصدر، في موضع الحال، أي مصطفين أو ذوي صفوف كثيرة.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ بِجَهَنَّمَ: في موضع رفع نائب فاعل.
ويَوْمَئِذٍ الأول: ظرف متعلق ب جِيءَ، ويَوْمَئِذٍ الثاني: إما بدل من يَوْمَئِذٍ الأول، أو يتعلق ب يَتَذَكَّرُ.
لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ قرئ يُعَذِّبُ ويُوثِقُ بكسر الذال وفتحها، وبكسر الثاء وفتحها، فمن قرأ بكسر الذال والثاء، كان تقديره: لا يعذّب أحد أحدا عذابا مثل عذابه، ولا يوثق أحد أحدا وثاقا مثل وثاقه، والهاء تعود على اللَّه تعالى، وإن لم يذكر، لدلالة الحال عليه. وعَذابَهُ ووَثاقَهُ: منصوبان على المصدر، والمصدر مضاف إلى الفاعل، وأَحَدٌ فاعل مرفوع.
ومن قرأ بفتحهما كان تقديره: لا يعذّب أحد مثل عذابه، ولا يوثق أحد مثل وثاقه، والهاء تعود على الإنسان، لتقدم ذكره، والمصدر مضاف إلى المفعول، وأَحَدٌ: نائب فاعل.
راضِيَةً مَرْضِيَّةً حالان.(30/235)
البلاغة:
يَتَذَكَّرُ والذِّكْرى بينهما جناس اشتقاق، وكذا بين لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ وبين وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ.
فَادْخُلِي فِي عِبادِي الإضافة إلى اللَّه للتشريف.
المفردات اللغوية:
كَلَّا ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم: وهو التقصير في أداء الحقوق. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا زلزلت حتى يتهدم كل بناء عليها وينعدم، دكّا بعد دكّ حتى صارت الجبال والتلال هباء منبثا، وأرضا مستوية. والدّكّ: الهدم والتسوية للشيء المرتفع، قال المبرد: الدكّ:
حطّ المرتفع بالبسط، واندك سنام البعير: إذا انفرش في ظهره، ومنه الدكان لاستوائه في الانفراش. وجواب إِذا هو قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ....
وَجاءَ رَبُّكَ أمر ربّك وظهرت آيات قدرته وآثار قهره. وَالْمَلَكُ الملائكة.
صَفًّا صَفًّا مصطفين أو ذوي صفوف كثيرة بحسب منازلهم ومراتبهم. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ كشفت للناظرين بعد الغيبة، مثل قوله تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النازعات 79/ 36] . يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ يتذكر معاصيه، أو يتعظ لأنه يعلم قبحها، فيندم عليها. وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي ومن أين له فائدة التذكر، وقد فات الأوان؟ وهو استفهام بمعنى النفي، أي لا ينفعه تذكره ذلك، واستدل به على عدم قبول التوبة في الآخرة. يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي يقول مع ذكره: يا ليتني قدمت لحياتي هذه الخير والإيمان، أو وقت حياتي في الدنيا، ويا: للتنبيه.
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ أي لا يتولى أحد عذاب اللَّه ووثاقه يوم القيامة سواه، إذ الأمر كله له، ولا يعذّب أحد مثل تعذيبه، ولا يوثق مثل إيثاقه، والوثاق: الشدّ والربط بالسلاسل والأغلال. وضمير عَذابَهُ ووَثاقَهُ للكافر.
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ أي يقال لها عند الموت ما يأتي. الْمُطْمَئِنَّةُ المستقرة الثابتة المتيقنة بالحق، الآمنة وهي المؤمنة التي اطمأنت بذكر اللَّه. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ ارجعي إلى ثوابه وتكريمه، وأمره وإرادته. راضِيَةً بالثواب. مَرْضِيَّةً عند اللَّه بعملك، أي جامعة بين الوصفين. فَادْخُلِي فِي عِبادِي في جملة أو في زمرة عبادي الصالحين المقرّبين المكرّمين.
وَادْخُلِي جَنَّتِي معهم.(30/236)
سبب النزول: نزول الآية (27) :
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ..: أخرج ابن أبي حاتم عن بريدة في قوله:
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ قال: نزلت في حمزة.
وأخرج أيضا عن ابن عباس: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من يشتري بئر رومة، يستعذب بها، غفر اللَّه له، فاشتراها عثمان، فقال: هل لك أن تجعلها سقاية للناس؟ قال: نعم، فأنزل اللَّه في عثمان: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ....
المناسبة:
بعد أن أنكر اللَّه على الناس تصورهم عن الغنى والفقر، وأفعالهم المنكرة، بالحرص على الدنيا، وإيثارها على الآخرة، وترك المواساة منها، وجمعها دون تفرقة بين حلال أو حرام، ردعهم عن ذلك، وأخبر عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة، وأبان أنهم يندمون حين لا ينفع الندم: يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي فإن الآخرة دار جزاء لا دار عمل، ثم ذكر تحسر المقصر في طاعة اللَّه يوم القيامة: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى.
وبعد بيان حال هذا الإنسان الحريص على الدنيا، ذكر اللَّه تعالى حال المؤمن المخلص المترفع عنها، المتسامي بطبعه إلى مراتب الكمال، فيكون جزاؤه دخول الجنان في زمرة الصالحين المقربين من عباد اللَّه تعالى.
التفسير والبيان:
كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي زجرا وردعا لأقوالكم وأفعالكم هذه، ولا ينبغي أن يكون هكذا عملكم في الحرص على الدنيا، وترك المواساة(30/237)
منها، وجمع الأموال فيها من حيث تتهيأ، دون تفرقة بين حلال وحرام، وتوهم ألا حساب ولا جزاء.
وسيأتي يوم القيامة وما يقع فيه من الأهوال الرهيبة، وتظهر فيه أوصاف ثلاثة، فتدكّ الأرض دكّا بعد دكّ، أي تكسر وتدق، وتتزلزل وتتحرك تحركا بعد تحريك، وتهدّ جبالها حتى تستوي مع سطح الأرض، فتسوّى الأرض والجبال، ويقوم الناس من قبورهم. وقوله: دَكًّا دَكًّا يدل على تكرار الدكّ حتى صارت الجبال هباء منبثا.
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا أي وجاء اللَّه سبحانه وتعالى لفصل القضاء بين عباده، وتصدر أوامره وأحكامه بالجزاء والحساب، وتظهر آيات قدرته وآثار قهره، ويقف الملائكة مصطفين صفوفا للحراسة والحفظ والهيبة.
وهذه هي الصفة الثانية من صفات ذلك اليوم.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ أي وكشفت للناظرين بعد غيبتها وتحجبها عنهم، كما قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء 26/ 91] ، وقال أيضا: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النازعات 79/ 36] . وهذه هي الصفة الثالثة من صفات ذلك اليوم.
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى، يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي في ذلك اليوم يندم الإنسان على ما قدّم في الدنيا من الكفر والمعاصي، وعلى ما عمل من أعمال السوء، وكيف تنفعه الذكرى؟ أي لا تنفعه، فقد فات الأوان، وإنما كانت تنفعه الذكرى لو تذكر الحق قبل حضور الموت.
ويقول مبينا تذكره: يا ليتني قدمت الخير والعمل الصالح لحياتي الأخروية الدائمة الباقية، فهي الحياة الأخيرة لأهل النار ولأهل الجنة جميعا. ويصح جعل اللام بمعنى الوقت، أي وقت حياتي في الدنيا.(30/238)
قال الرازي: فيه دليل على أن قبول التوبة على اللَّه لا يجب عقلا. والواقع أن الآية ليست في هذا الجانب، لأنه لا يلزم من عدم قبول التوبة في الآخرة عدم قبولها في دار التكليف في الدنيا، كإيمان اليأس.
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ هذا جواب الشرط السابق في إِذا دُكَّتِ.. أي فيومئذ لا يتولى أحد تعذيب العصاة وحسابهم وجزاءهم ووثاقهم، ولا يعذب أحد مثل عذاب اللَّه، ولا يوثق أحد الكافر بالسلاسل والأغلال كوثاق اللَّه.
وفي هذا ترغيب بالعمل الصالح والإيمان، وترهيب من الكفر والعصيان.
ثم ذكر حال الإنسان المترفع عن أطماعه وملذاته وشهواته في الدنيا وبشارة الأبرار، فقال: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي أي يقول اللَّه للمؤمن، بذاته أو على لسان ملك: يا أيتها النفس الموقنة بالإيمان والحق وتوحيد اللَّه، التي لا يخالجها شك في صدق عقيدتها، وقد رضيت بقضاء اللَّه وقدره، ووقفت عند حدود الشرع، فتجيء يوم القيامة مطمئنة بذكر اللَّه، ثابتة لا تتزعزع، آمنة مؤمنة غير خائفة، ارجعي إلى ثواب ربك الذي أعطاك. وإلى محل كرامته الذي منحك إياه، راضية بهذا الثواب عما عملت في الدنيا، وبما حكم اللَّه، ومرضية عند اللَّه، كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرَضُوا عَنْهُ [البيّنة 98/ 8] وهذه هي صفة أرباب النفوس الكاملة.
فادخلي في زمرة عبادي الصالحين، وكوني في جملتهم، وادخلي معهم جنتي، فتلك هي الكرامة لا كرامة سواها، جعلنا اللَّه من أهلها، والظاهر العموم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت به الآية.(30/239)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- زجر اللَّه الناس وردعهم عن انكبابهم على الدنيا، وجمعهم لها، فإن من يفعل ذلك يندم يوم تدكّ الأرض ولا ينفع الندم.
2- وصف اللَّه يوم القيامة بصفات ثلاث هي:
الأولى- دكّ الأرض، أي زلزلتها وتحريكها بشدة تحريكا بعد تحريك، ومرة بعد مرة.
الثانية- مجيء أمر اللَّه وقضائه وآياته العظيمة واصطفاف الملائكة صفوفا، كقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة 2/ 210] .
الثالثة- بروز جهنم وانكشافها وظهورها للناس بعد احتجابها عنهم.
3- في يوم القيامة يتعظ الكافر ويتوب، كما يتعظ من حرصه على الدنيا دون الآخرة، ولكن من أين له الاتعاظ والتوبة والمنفعة، وقد فرط فيها في الدنيا. ويقول نادما متأسفا: يا ليتني قدمت في الدنيا عملا صالحا لحياتي الأخيرة التي لا موت فيها.
4- لا يعذّب أحد كعذاب اللَّه، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال أحد كوثاق اللَّه، وهذه كناية ترجع إلى اللَّه تعالى، في حق المجرمين من الخلائق، تعني أن السلطان المطلق في الحساب والجزاء للَّه، ولا يخرج أحد عن قبضة اللَّه وسلطانه.
5- أما النفس الزكية المطمئنة بالإيمان والعمل الصالح وبوعد اللَّه دون خوف ولا فزع، فيقال لها: ارجعي إلى رضوان ربّك وجنته، راضية بما أعطاك اللَّه من النعم، مرضية عند اللَّه بما قدمت من عمل. وهذا الخطاب والنداء يكون عند الموت أو الاحتضار، كما ذكر المفسرون، وتتمة المقالة: فادخلي في زمرة عباد اللَّه الصالحين، وادخلي جنتي دار الأبرار المقربين.(30/240)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البلد
مكيّة، وهي عشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة البلد لأن اللَّه تعالى أقسم في فاتحتها بالبلد الحرام (مكة) الذي شرفه اللَّه بالبيت العتيق، وجعله قبلة المسلمين، تعظيما لشأنه.
مناسبتها لما قبلها:
ترتبط السورة بما قبلها من وجهين:
1- ذم اللَّه تعالى في السورة السابقة (الفجر) من أحب المال، وأكل التراث، ولم يحض على طعام المسكين، وذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة (إعتاق العبيد) والإطعام في يوم المسغبة (المجاعة) .
2- ختم اللَّه تعالى السورة المتقدمة ببيان حال النفس المطمئنة في الآخرة، وذكر هنا طريق الاطمئنان، وحذّر من ضده وهو الكفر بآيات اللَّه ومخالفة أوامر الرحمن.
ما اشتملت عليه السورة:
محور هذه السورة المكية الحديث عن سعادة الإنسان وشقاوته، ومنهجه في اختيار أحد الطريقين. بدأت بالقسم بالبلد الحرام- مكة أم القرى، التي يأمن(30/241)
الناس فيها، تنبيها على عظمة قدرها، سواء في حال الإحرام أو الحل، وتنويها بموطن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتعظيم تحريم إيذائه في البلد الأمين، ثم ذكرت المقسم عليه وهو أن حال الإنسان في الدنيا في نصب وتعب: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ..
[الآيات 1- 4] .
وأردفت ذلك بالإخبار عن خلق ذميم في الإنسان وهو اغتراره بقوته، مما حدا بكفار مكة الذين اغتروا بقوتهم أن يعاندوا الحق، ويكذبوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وينفقوا أموالهم في المفاسد والشرور، وهو شأن المفتونين المغرورين بمالهم وغناهم: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ..
[الآيات 5- 7] .
ثم ذكّرت الإنسان بما أنعم اللَّه عليه من العينين واللسان والشفتين وبيان طريق الخير والشر له، واختياره أحد السبيلين بعقله وإرادته: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ.. [الآيات 8- 10] .
ثم أبانت للإنسان ما يعترضه من الأهوال والمصاعب يوم القيامة وطريق اجتيازها بالإيمان والعمل الصالح وإنفاق المال في جهات البر والخير، ليكون من الأبرار السعداء أهل اليمين: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ... [الآيات 11- 18] .
وقابلت ذلك بتوضيح منهج الأشقياء الفجار أهل الشمال، وهو الكفر بآيات اللَّه، فيتميز المؤمنون عن الكفار، ويتبين مآل الفريقين إما إلى الجنة أو إلى النار: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا.. [19- 20] .(30/242)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
ابتلاء الإنسان بالتعب واغتراره بقوته وماله
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
الإعراب:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ.. أن مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي أنه.
البلاغة:
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ أي أقسم بهذا البلد، وزيادة لا لتأكيد الكلام وتأكيد القسم، تقول: لا واللَّه ما قلت كذا، أي واللَّه. وهذا مستفيض في لغة العرب.
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ بينهما جناس اشتقاق، فكل من الوالد والولد مشتق من الولاد.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ استفهام إنكاري للتوبيخ، وكذا قوله: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ.
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
لا أُقْسِمُ أي أقسم. بِهذَا الْبَلَدِ مكة. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي وأنت يا محمد حلال وحالّ مقيم فيه، أقسم سبحانه بالبلد الحرام، وحال كون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مقيم فيه، إظهارا لمزيد فضله، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله. وهذه الجملة وما بعدها اعتراض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله بعدئذ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ.
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ أي وأقسم بكل والد كآدم أو إبراهيم وغيرهما، وبكل مولود من أي شيء آخر، والمراد: أن اللَّه أقسم ببلد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه(30/243)
إسماعيل، وبمن ولد فيه. والتنكير للتعظيم، كقوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران 3/ 36] أي بأي شيء وضعت، يعني موضوعا عظيم الشأن.
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ جنس الإنسان. فِي كَبَدٍ أي خلقناه مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد، والتعب والنصب، والإنسان لا يزال في شدائد مبدؤها ظلمة الرحم ومضيقه ومنتهاها الموت وما بعده، وهو تسلية وتثبيت للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم مما كان يكابده من قريش، وبعث له على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته.
أَيَحْسَبُ أيظن الإنسان. أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أي أنه يغتر بقوته، ويعتقد ألا أحد ينتقم منه ولكن اللَّه قادر عليه، كأبي الأشد بن كلدة، فإنه كان يبسط تحت قدمه أديم عكاظي، ويجذبه عشرة، فينقطع، ولا تزلّ قدماه. يَقُولُ: أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي وأنه يقول: أنفقت مالا كثيرا. من تلبد الشيء: إذا اجتمع، على عداوة محمد، أو سمعة ومفاخرة.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ فيما أنفقه، فيعلم قدره، واللَّه عالم بقدره، وأنه ليس مما يتكثر به، ومجازيه على فعله السيء.
سبب النزول:
نزول الآية (5) :
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ: روي أن هذه الآية: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ نزلت في أبي الأشدّ بن كلدة الجمحي، الذي كان مغترا بقوته البدنية. قال ابن عباس: كان أبو الأشدّين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا، وهو في ذلك كاذب.
نزول الآية (6) :
يَقُولُ أَهْلَكْتُ..:
قال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب، فاستفتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمره أن يكفّر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد.
وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه.(30/244)
التفسير والبيان:
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ أي أقسم بالبلد الحرام وهو مكة، تنبيها على كرامة أم القرى وشرفها عند اللَّه تعالى لأن فيها بيته الحرام قبلة المسلمين، وهي بلد إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وفيها مناسك الحج. وقوله: لا أُقْسِمُ قسم مؤكد وليس نفيا للقسم، كقول العرب: لا واللَّه لا فعلت كذا، ولا واللَّه ما كان كذا، ولا واللَّه لأفعلن كذا.
أقسم بهذا البلد في حال كون الساكن فيها حلالا مقيما بها وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وكل من دخله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] تشريفا لك، وتعظيما لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيما شريفا، ولا شك أن الأمكنة تشرف بأهلها. والحل: الحلال.
ورد في الحديث المتفق على صحته: «إن هذا البلد حرّمه اللَّه يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة اللَّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب» .
والمراد أن مكة عظيمة القدر في كل حال، حتى في حال اعتقاد الكفار أنك حلال لا حرمة لك، فلا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك. وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم.
وأقسم بكل والد ومولود من الإنسان والحيوان، تنبيها على عظم آية التناسل والتوالد، ودلالتها على قدرة اللَّه وحكمته وعلمه.
ثم ذكر المقسم عليه، فقال:
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي لقد خلقنا الإنسان مغمورا بالتعب والنصب، وفي مكابدة المشاقّ والشدائد، فهو لا يزال في تلك المكابدة بدءا من(30/245)
الولادة، إلى المتاعب المعيشية والأمراض الطارئة، ثم إلى الموت وما يتبعه في قبره والبرزخ وآخرته من شدائد ومتاعب وأهوال.
وفيه تثبيت لرسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم، وحمله على احتمال مكائد أهل مكة، وصبره على المشاق والمتاعب، فذلك لا يخلو منه إنسان، وفيه لوم لهم على عداوته.
ثم وبخ الإنسان على الاغترار بقوته، فقال:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ أي أيظن ابن آدم أن لن يقدر عليه، ولا ينتقم منه أحد، فإن اللَّه هو القادر على كل شيء.
ثم لام الإنسان على الإنفاق مراءاة، فقال:
يَقُولُ: أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي أنفقت مالا كثيرا مجتمعا بعضه على بعض. والمراد أن الإنسان يقول في يوم القيامة: أنفقت مالا كثيرا فيما كان يسميه أهل الجاهلية مكارم، ويدعونه معالي ومفاخر.
ثم عابه على جهله، فقال:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟ أي أيظن الإنسان والمدعي النفقة في سبيل الخير أن اللَّه سبحانه لم يطلع عليه، ولا يسأله عن ماله من أين كسبه، وأين أنفقه؟
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- أقسم اللَّه تعالى بالبلد الحرام- مكة أم القرى، وبالوالد والمولود كآدم وذريته، وكل أب وولده، وما يتوالده الحيوان، على أنه خلق الإنسان مغمورا في شدة وعناء من مكابدة الدنيا.(30/246)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وللَّه أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها، والمراد تعظيم البلد الحرام المشتمل على البيت العتيق، وكونه بلد إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ووجود مناسك الحج فيه ومنشأ كل بركة وخير، وتظل الحرمة لهذا البلد، وإن اعتقد كفار مكة أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم حلال لهم، لا حرمة له.
والقسم بالوالد والولد ونسلهم لأنهم أعجب ما خلق اللَّه تعالى على وجه الأرض لما فيهم من التّبيان والنطق والتدبير، وفيهم الأنبياء والدّعاة إلى اللَّه تعالى.
2- وبخ اللَّه تعالى الإنسان على بعض الأفكار والاعتقادات والتصورات، كظنه ألا قدرة لأحد عليه، وإنفاقه المال الكثير مراءاة، أو مضايقة من أداء الواجبات المالية الخيرية، وجهله بأن اللَّه عالم به مطلع على جميع أقواله وأفعاله، وسائله عن ماله من أين كسبه، وفي أي شيء أنفقه؟
إن اللَّه قادر على كل شيء من الإنسان والحيوان والجماد والنبات، عالم بقصد كل إنسان حين ينفق ما ينفق رياء وافتخارا وحبا للانتساب إلى المعالي والمكارم، أو معاداة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويرى كل أحد فيما يعمل ويجني ويكتسب وينفق.
مبدأ الاختيار وطريق النجاة في الآخرة
[سورة البلد (90) : الآيات 8 الى 20]
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)
فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)(30/247)
الإعراب:
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي لم يقتحم، و (لا) في الماضي مثل (لم) في المستقبل، كقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة 75/ 31] أي لم يصدق ولم يصلّ، وكقول الشاعر أبي خراش الهذلي:
إن تغفر اللهم تغفر جمّا ... وأي عبد لك لا ألمّا
أي لم يلمّ.
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً مَا الْعَقَبَةُ:
تقديره: ما اقتحام العقبة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وفَكُّ رَقَبَةٍ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: اقتحامها فك رقبة. أَوْ إِطْعامٌ: عطف عليه، ويَتِيماً: مفعول إِطْعامٌ وهو مصدر (أطعم) أي أن أطعم يتيما.
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا اسم كان: ضمير مستتر تقديره هو، أي ثم كان مقتحمها من الذين آمنوا. وإنما قال ثُمَّ وإن كان الإيمان مقدما في الرتبة عن العمل لأن ثُمَّ إذا عطفت جملة على جملة لا تفيد الترتيب، بخلاف ما إذا عطفت مفردا على مفرد، فهي ليست هنا للتراخي في الزمان إذ شرط الأعمال الحسنة الإيمان، وإنما التراخي في الذكر والبيان.
البلاغة:
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ؟ استفهام تقريري للتذكير بالنعم، أي جعلنا له، وفيه مراعاة الفواصل.
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ الاستفهام للتهويل والتعظيم. والْعَقَبَةُ: استعارة تبعية لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال، تشبيه بعقبة الجبل: وهو ما صعب منه، أي أن العقبة: الطريق الوعر في الجبل، أستعير للأعمال الصالحة ذات المشقة.
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ استعارة، استعار النجدين لطريقي الخير والشر أو السعادة والشقاوة، وأصل النجد: الطريق المرتفع.
مَقْرَبَةٍ ومَتْرَبَةٍ جناس ناقص لتغير بعض الحروف.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ بينهما مقابلة.(30/248)
المفردات اللغوية:
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما، أي جعلنا له. وَلِساناً يترجم به عما يريد ضميره.
وَشَفَتَيْنِ يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب وغيرها. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ بينا له طريقي الخير والشر أو السعادة والشقاوة، وأصل النجد: المكان المرتفع.
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ فهلا اجتازها أو دخلها بسرعة وشدة، والعقبة: الطريق الصعب في الجبل.
والمراد: مجاهدة النفس لفعل الخير وترك الشر.
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ وما أعلمك ما اقتحام العقبة؟ والجملة اعتراضية لتعظيم شأنها أي لم تدر صعوبتها وثوابها. فَكُّ رَقَبَةٍ إعتاقها من الرق، أو المعاونة عليه. ذِي مَسْغَبَةٍ مجاعة. ذا مَقْرَبَةٍ قرابة في النسب. ذا مَتْرَبَةٍ ذا فقر، يقال: ترب فلان: إذا افتقر، أي أصبحت يده ملصقة بالتراب لفقره، والمراد: هم المطروحون على ظهر الطريق قعودا على التراب، لا بيوت لهم. وإنما ذكر الإعتاق والإطعام لما فيهما من مجاهدة النفس.
ثُمَّ عطف على اقْتَحَمَ وثُمَّ للترتيب الذكري لا الزماني، والمعنى: وكان وقت الاقتحام مؤمنا. وَتَواصَوْا أوصى ونصح بعضهم بعضا. بِالصَّبْرِ على الطاعة، وعن المعصية. بِالْمَرْحَمَةِ الرحمة على الناس. أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات. أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ اليمين، وأصحاب طريق النجاة والسعادة. الْمَشْأَمَةِ الشمال، أصحاب طريق الشقاء.
مُؤْصَدَةٌ مطبقة مغلقة عليهم.
المناسبة:
بعد توبيخ الإنسان وذمه على طبائع غريبة وعجيبة، أقام اللَّه تعالى الدليل على كمال قدرته بخلق الأعين واللسان والشفتين والعقل المميز بين الخير والشر، ومنحه الخيار للإنسان ليثبت ذاتيته، ويتحرر من عبودية أهوائه وشهواته، وليعرف البشر أنه تعالى مصدر لأفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل.
ثم بيّن اللَّه تعالى أنه كان على الإنسان بعدئذ أن يشكر هذه النعم، ويختار طريق الخير والسعادة، فيبادر إلى الإيمان والعمل الصالح، ومنه إعتاق أو تحرير الرقاب، وإطعام الأيتام الأقارب والمساكين المحتاجين، والتواصي بالرحمة على الناس، وأدى اختيار الإنسان بالتالي إلى أن يكون من أحد الفريقين:(30/249)
أصحاب اليمين والسعادة ومآلهم إلى الجنة، وأصحاب الشمال والشقاوة ومآلهم إلى النار.
التفسير والبيان:
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ أي ألم أمنحك أيها الإنسان الجاهل المغرور بقوتك، المرائي بعملك بإنفاق المال طلبا للشهرة والسمعة، أمنحك العينين اللتين تبصر بهما، واللسان الذي تنطق به، والشفتين اللتين تستر بهما ثغرك، وتستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، وجمالا لوجهك وفمك، والمراد أنني أنا اللَّه الذي منحتك القدرة على البصر والنطق أو الكلام.
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي ألم نبين لك ونعرفك طريق الخير والشر، فأودعنا في فطرتك السليمة أداة التمييز بينهما، وجعلنا لك من العقل والفكر ما تستطيع به إدراك محاسن الخير، ومفاسد الشر وأبعاد كل منهما. وعبّر عن هذين الطريقين بالنجدين: وهما الطريقان المرتفعان، للدلالة على صعوبتهما وعورتهما، واحتياجهما إلى مجاهدة النفس لعبورهما بشدة وسرعة.
لذا أردفه ببيان وجوب اختيار الأفضل وشكر تلك النعم، فقال تعالى:
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي فهلا نشط واخترق الموانع المانعة من طاعة اللَّه، من تسويل النفس واتباع الهوى والشيطان، وهلا جاهد نفسه لاجتياز الطريق الصعب، وأي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ استفهام للتفخيم والتعظيم.
ثم أرشد إلى طريق اقتحامها فقال:
فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي إن اقتحام العقبة ودخولها يكون بإعتاق الرقبة من العبودية، وتخليصها من إسار الرق، أو المعاونة عليه، أو إطعام في يوم المجاعة الذي يعز(30/250)
فيه الطعام اليتيم القريب: وهو الصغير الذي فقد أباه، وكان قريبا في نسبه من المطعم، أو إطعام المسكين المحتاج الذي لا شيء له، ولا قدرة على كسب المال لضعفه وعجزه، كأنه ألصق يده بالتراب، لفقد المال.
فمن حرر الرقبة أو أطعم اليتيم أو المسكين في يوم المجاعة، كان طائعا للَّه، نافعا عباده، فهو من أصحاب اليمين. وهذا مثل ضربه اللَّه تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان.
قال الصاوي على الجلالين: إنما قيّد الإطعام بيوم المجاعة لأن إخراج المال فيه أشد على النفس. وقد يستدل بقوله: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ للشافعي:
أن المسكين أسوأ حالا من الفقير، وأنه قد يكون بحيث يملك شيئا، وإلا وقع قوله: ذا مَتْرَبَةٍ تكرارا. وقد استدل أبو حنيفة بتقديم العتق على أنه أفضل من الصدقة، وعند بعضهم بالعكس لأن في الصدقة إنقاذ النفس من الهلاك فإن الغذاء قوام البدن، وأما الفك فهو تخليص من القيد في الأغلب.
أخرج أحمد عن عقبة بن عامر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من أعتق رقبة مؤمنة، فهي فكاكه من النار» .
وأخرج أحمد أيضا عن البراء بن عازب قال: «جاء أعرابي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه، علّمني عملا يدخلني الجنة، فقال: لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النّسمة وفكّ الرّقبة، فقال: يا رسول اللَّه، أو ليستا بواحدة؟ قال: لا، إن عتق النسمة:
أن تنفرد بعتقها، وفكّ الرقبة: أن تعين في عتقها» .
وأخرج أحمد والترمذي والنسائي عن سلمان بن عامر قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان:
صدقة وصلة» .
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ، وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي قام(30/251)
بالأفعال الخيرية السابقة بعد أن آمن باللَّه ورسوله وكتبه واليوم الآخر، فإن هذه القربات إنما تنفع بشرط الإيمان، فكان من جملة المؤمنين العاملين صالحا:
المتواصين بالصبر على أذى، وعلى الرحمة بهم، كما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الثابت: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» «1»
وفي الحديث الآخر: «من لا يرحم الناس لا يرحمه اللَّه» «2» .
والصبر يكون أيضا على طاعة اللَّه، وعن المعاصي، وعلى المصائب والبلايا.
والرحمة على عباد اللَّه ترقق القلب، ومن كان رقيق القلب، عطف على اليتيم والمسكين، واستكثر من فعل الخير بالصدقة.
ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء هؤلاء مبشرا بهم، فقال:
أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي أولئك المتصفون بهذه الصفات هم من أصحاب اليمين، وهم أصحاب الجنة، كما قال تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ؟ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة 56/ 27- 34] .
ثم ذكر أضداد هؤلاء للمقارنة والعبرة، فقال:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ، عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ أي والذين جحدوا بآياتنا التنزيلية والآيات الكونية الدالة على قدرتنا، هم أصحاب الشمال، وعليهم نار مطبقة مغلقة، وأصحاب الشمال هم أهل النار المشؤومة كما قال تعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ.. [الواقعة 56/ 41- 44] .
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما.
(2) أخرجه الشيخان والترمذي عن جرير بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه.(30/252)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- جيء بآيات أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ للتذكير بنعم اللَّه تعالى على الإنسان من البصر والنطق والجمال والعقل والفكر المميز بين الحق والباطل وبيان طريقي الخير والشر، وللدلالة على كمال قدرة اللَّه تعالى، ولبيان مبدأ اختيار الإنسان للإيمان والكفر أو السعادة والشقاوة أو الخير والشر، كما قال تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ، إِمَّا شاكِراً، وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر 76/ 3] .
2- إن هذه النعم تقتضي الشكر عليها والاستعداد للنجاة في الآخرة، بالإيمان والعمل الصالح الشامل للتواصي بالصبر على التكاليف الشرعية، بطاعة اللَّه وعن معصيته وعلى البلايا والمحن، والتواصي بالمرحمة على الخلق أي التعاطف والتراحم، وتحرير الرقاب (العبيد) وإطعام اليتامى والأرامل والمساكين.
وإخراج المال في وقت القحط والضرورة والجوع أثقل على النفس، وأوجب للأجر، لذا قال: ذِي مَسْغَبَةٍ كقوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة 2/ 177] وقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً [الدهر 76/ 8] .
والإيمان شرط قبول هذه الأعمال الخيرية، وإنما أخر للترقية من الأدنى إلى الأعلى، والترتيب ذكري، لا زماني.
وهؤلاء أصحاب اليمين أهل الجنة، وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم.
ويلاحظ أنه ذكر في باب الكمال أمرين: فك الرقبة والإطعام، والإيمان، وفي باب التكميل شيئين: التواصي بالصبر على الوظائف الدينية، والتواصي(30/253)
بالتراحم، وكل من النوعين مشتمل على تعظيم أمر اللَّه، والشفقة على خلق اللَّه، إلا أنه في الأول قدم جانب الخلق، وفي الثاني قدم جانب الحق «1» .
3- ذكر اللَّه تعالى للمقابلة والمقارنة والعظة أصحاب الشمال بعد أصحاب اليمين، والفريق الأول هم الذين كفروا بالقرآن، وهم الذين يأخذون كتبهم بشمائلهم، ومصيرهم إلى النار التي تطبق وتغلق أبوابها عليهم.
__________
(1) تفسير الرازي: 31/ 187، غرائب القرآن: 30/ 102(30/254)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشمس
مكيّة، وهي خمس عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الشمس لافتتاحها بالقسم الإلهي بالشمس المنيرة المضيئة لآفاق النهار.
مناسبتها لما قبلها:
ترتبط السورة بما قبلها من وجهين:
1- ختم اللَّه سبحانه سورة البلد بتعريف أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، ثم أوضح المراد من الفريقين في سورة الشمس بعمل كل منهما حيث قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها.
2- أبان اللَّه تعالى في آخر آيات السورة السابقة مصير أو مآل الكفار في الآخرة وهو النار، وذكر تعالى في أواخر هذه السورة عقاب بعض الكفار في الدنيا، وهو الهلاك، فاختتمت السابقة بشيء من أحوال الكفار في الآخرة، واختتمت هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة الكلام عن موضوعين مهمين هما:
1- الإقسام بالمخلوقات الكونية العظيمة في العالم العلوي والسفلي وآلة التفكر(30/255)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
في ذلك وهو النفس على أحوال النفس الإنسانية، ودور الإنسان في تهذيبها، وتعويدها الأخلاق الفاضلة ليفوز وينجو، أو إهمالها وتركها بحسب هواها فيخيب.
2- ضرب المثل بثمود لمن دسّ نفسه وأهملها، فتمادت في الطغيان، فنزل بها العقاب الشديد وأهلكها ودمرها عيانا في الدنيا.
والخلاصة: المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات، والتحذير من المعاصي.
جزاء إصلاح النفس وإهمالها
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
الإعراب:
وَالشَّمْسِ وَضُحاها الواو الأولى واو القسم، وسائر الواوات عطف عليها، وجواب القسم:
إما مقدر، وهو لتبعثن، أو هو قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها أي لقد أفلح من زكاها، وحذفت اللام لطول الكلام. وقال الزمخشري: تقدير الجواب: ليدمدمن اللَّه على أهل مكة لتكذيبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما دمدم على ثمود، أي أطبق عليهم العذاب لأنهم كذبوا صالحا، وأما قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ... فكلام تابع لقوله: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء.
إِذا في المواضع الثلاثة لمجرد الظرفية والعامل فيها فعل القسم.
وَالسَّماءِ وَما بَناها ما إما مصدرية، أي وبنائها، أو بمعنى الذي، أي والذي(30/256)
بناها، وهو الأحسن أو بمعنى من أي ومن بناها، وقد جاءت (ما) بمعنى (من) قال أهل الحجاز للرعد: سبحان ما سبّحت له، أي سبحان من سبّحت له.
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها دَسَّاها أصله: دسّسها، فاجتمعت الأمثال، فوجد الاستثقال، فأبدل من السين الأخيرة ياء، كما قالوا: قصّيت أظفاري، في قصصت، فصار (دسيها) ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
البلاغة:
الشمس والقمر بينهما طباق، وكذا بين اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وبين فُجُورَها وَتَقْواها.
وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها مقابلة بينها وبين وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها وكذا بين قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وبين وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها. والطباق والمقابلة من المحسنات البديعية، كما هو معروف.
في السورة كلها سجع مرصع وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
وَضُحاها قال مجاهد: هو ارتفاع الضوء وكماله، وقال أبو حيان: المعروف في اللغة أن الضحى هو بعيد طلوع الشمس قليلا، فإذا زاد فهو الضّحاء- بالمد وفتح الضاد: إلى الزوال.
تَلاها تبعها، أي أن القمر يتبع الشمس طالعا عند غروبها. جَلَّاها أي جلّى الشمس وكشفها وأتم وضوحها.
يَغْشاها يغشى الشمس فيغطي ضوءها بظلمته، أي يزيله ويحجبه. وَالسَّماءِ كل ما علاك وارتفع فوق رأسك فهو سماء، والمراد به الكون الذي فوقك، وفيه الكواكب. وَما بَناها أي ومن رفعها، وجعل كل كوكب بمنزلة لبنة من بناء سقف، قال الزمخشري والبيضاوي:
وإنما أوثرت على (من) لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها.
طَحاها بسطها، مثل دحاها.
سَوَّاها أحكم خلقتها وتسويتها وتعديل أعضائها بخلق القوى والغرائز فيها، وجعل وظيفة لكل منها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها عرّفها وأفهمها، وبيّن لها طريق الخير والشر.
والفجور: الفسوق والشر وكل ما يؤدي إلى الخسارة والهلاك. والتقوى: التزام جادة الاستقامة، وإتيان ما يحفظ النفس من سوء العاقبة.(30/257)
أَفْلَحَ فاز ونجا وأدرك المطلوب. مَنْ زَكَّاها طهرها من الذنوب، وهذّبها ونمّاها بالعلم والعمل، وهو جواب القسم. خابَ خسر. دَسَّاها أهمل تهذيبها، والتدسية:
النقص والإخفاء، فمن فعل الشر والمعصية، أنقص نفسه عن مرتبة الكمال، وأخفاها بالذنوب والمعاصي، وهي ضد التزكية.
التفسير والبيان:
أقسم اللَّه تعالى في مطلع هذه السورة بسبعة أشياء، فقال:
1- 2- وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي أقسم بالشمس المضيئة نفسها، سواء غابت أم طلعت لأنها شيء عظيم أبدعها اللَّه، وأقسم بضوئها وضحاها وهو وقت ارتفاع الشمس بعد طلوعها إذا تم ضوؤها لأنه مبعث حياة الأحياء.
وأقسم بالقمر المنير إذا تبع الشمس في الطلوع بعد غروبها، وبخاصة في الليالي البيض: وهي الليالي الثالثة عشرة إلى السادسة عشرة وقت امتلائه وصيرورته بدرا بعد غروب الشمس إلى الفجر. وهذا قسم بالضوء وقت الليل كله.
3- 4- وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي وأقسم بالنهار إذا جلّى الشمس وكشفها وأظهر تمامها، ففي اكتمال النهار كمال وضوح الشمس، وأقسم بالليل إذا يغشى الشمس ويغطي ضوءها بظلمته، فيزيل الضوء وتغيب الشمس، وتظلم الدنيا في نصف الكرة الأرضية، ثم تطلع في النصف الآخر.
وفي هذا التبدل والتغير رد على المشركين الذين يؤلهون الكواكب، والثنوية الذين يقولون بأن للعالم إلهين اثنين: النور والظلمة لأن الإله لا يغيب ولا يتبدل حاله.(30/258)
وبعد التنويه بعظم هذه الأشياء الكونية، ذكر اللَّه تعالى صفات حدوثها، فقال:
5- 6- وَالسَّماءِ وَما بَناها، وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي وأقسم بالسماء وبناء اللَّه تعالى لها بالكواكب، كأن كل كوكب لبنة في سقف أو قبّة تحيط بالأرض وأهلها. وأقسم بالأرض كوكب الحياة البشرية والذي بسطها من كل جانب، وجعلها ممهدة موطأة للسكنى مثل قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات 79/ 30] أي بسطها، والطحو كالدحو وهو البسط، ثم مكّن الناس من الانتفاع بها ظاهرا بالنبات، وباطنا بالمعادن والثروات. ونظير الآية: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً، وَالسَّماءَ بِناءً [البقرة 2/ 22] .
وختم الأشياء المحلوف بها بالنفس البشرية التي خلقت هذه الأشياء من أجلها، وكونها أداة الانتفاع بها ووسيلة ترقي الحياة وتقدمها، فقال:
7- وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أي وأقسم بالنفس الإنسانية، والذي خلقها سوية، مستقيمة، على الفطرة القويمة، وتسويتها:
إعطاء قواها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن، وهي الحواس الظاهرة والباطنة، والقوى الطبيعية، أي تعديل أعظائها، وتزويدها بطاقات وقوى ظاهرية وباطنية متعددة، وتحديد وظيفة لكل عضو فيها.
ثم إنه تعالى عرّف هذه النفس وأفهمها ما هو شر وفجور، وما هو خير وتقوى، وما فيهما من قبح وحسن، لتمييز الخير من الشر، كما قال تعالى:
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] أي علمناه وعرفناه سلوك طريقي الخير والشر. ويعضده ما بعده: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها.
وهذا قول المعتزلة، وقال أهل السنة: الضميران في قوله تعالى: فَأَلْهَمَها وقوله: وَهَدَيْناهُ للَّه تعالى، والمعنى: قد سعدت نفس زكاها اللَّه تعالى،(30/259)
وخلقها طاهرة، وخابت نفس دسّاها اللَّه، وخلقها كافرة فاجرة «1» .
والظاهر التفسير الأول، بدليل ما قال ابن كثير: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها: أي فأرشدها إلى فجورها وتقواها، أي بيّن لها ذلك، وهداها إلى ما قدّر لها «2» . وقال ابن عباس: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها بيّن لها الخير والشر «3» . وهذا دليل على مبدأ الاختيار للإنسان.
ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء ما تختاره النفس، فقال:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أي قد فاز بكل مطلوب، وظفر بكل محبوب من زكى نفسه فهذبها ونمّاها وأعلاها بالتقوى والعمل الصالح، وقد خسر من أضل نفسه وأغواها وأهملها وأخملها، ولم يهذبها، ولم يتعهدها بالطاعة والعمل الصالح. وهذا جواب القسم الذي افتتحت به السورة.
روى الطبراني عن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا مرّ بهذه الآية:
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وقف وقال: «اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وخير من زكاها» .
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأ:
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها: قال: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها» .
وروى الإمام أحمد عن عائشة: أنها فقدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من مضجعه، فلمسته بيدها، فوقعت عليه، وهو ساجد، وهو يقول: «رب أعط نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها» .
__________
(1) وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي. [.....]
(2) تفسير ابن كثير: 4/ 516
(3) المرجع السابق، وهذا أيضا قول مجاهد وقتادة والضحاك والثوري.(30/260)
وروى أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها»
قال زيد: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلمناهن ونحن نعلمكموها.
فقه الحياة أو الأحكام:
أقسم اللَّه تعالى بسبعة أشياء: لقد أفلح وفاز من زكى نفسه بالطاعة، وخسرت نفس أهملها صاحبها وتركها تنغمس في المعصية.
والأشياء السبعة: هي الشمس وضوؤها وإشراقها، وهو قسم ثان، والقمر إذا تبع بالطلوع الشمس بعد غروبها، فاستوى واستدار، وكان مثلها في الضياء والنور، والنهار إذا جلّى أو كشف الشمس، أي أبان بضوئه جرمها، والليل إذا يغشى الشمس، أي يذهب بضوئها عند غروبها، والسماء وبنيانها وبانيها وهو اللَّه، والأرض ومن طحاها أي بسطها، والنفس الإنسانية وتسويتها ومن سوّاها وهو اللَّه عز وجل، بأن عدّلها وزوّدها بالأعضاء المتناسبة، وبالقوى العضلية والفكرية والحسية، وعرّفها طريق الفجور والتقوى، وسلوك سبيل الخير والشر، والطاعة والمعصية.
وقد أقسم اللَّه عز وجل بهذه المخلوقات لما فيها من عجائب الصنعة الدالة عليه، وأراد أن ينبه عباده دائما بأن يذكر في القسم أنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة، حتى يتأمل المكلف فيها، ويشكر عليها لأن الذي يقسم اللَّه تعالى به يحصل له وقع في القلب، فتكون الدواعي إلى تأمله أقوى «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 31/ 188(30/261)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
العظة بقصة ثمود
[سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
الإعراب:
فَسَوَّاها، وَلا يَخافُ عُقْباها سوّاها: تعود على الدمدمة، وَلا يَخافُ عُقْباها في موضع نصب على الحال، وتقديره: سوّاها غير خائف عاقبتها.
البلاغة:
ناقَةَ اللَّهِ الإضافة للتكريم والتشريف.
فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ تهويل، فالتعبير بالدمدمة يدل على هول العذاب.
المفردات اللغوية:
بِطَغْواها أي بسبب طغيانها، والطغوى والطغيان: تجاوز الحد المعتاد. إِذِ انْبَعَثَ حين أسرع أو قام، وهو ظرف لكذّبت أو طغوى. أَشْقاها أشقى ثمود، وهو قدار بن سالف، الشخص الذي عقر الناقة. رَسُولُ اللَّهِ صالح عليه السلام. ناقَةَ اللَّهِ أي ذروا ناقة اللَّه، واحذروا التعرض لها وعقرها. وَسُقْياها شربها الخاص بها في يومها، فلا تذودوها عنها.
فَكَذَّبُوهُ فيما حذرهم من حلول العذاب إن فعلوا. فَعَقَرُوها نحروها أو ذبحوها.
فَدَمْدَمَ فأطبق عليهم العذاب. فَسَوَّاها سوى الدمدمة عليهم أي عمهم بها، فلم يفلت منها صغير ولا كبير. عُقْباها عاقبتها وتبعتها. أي عاقبة الدمدمة.
المناسبة:
بعد الحلف بأشياء عظيمة على فوز من زكّى نفسه وهذبها وطهرها من الذنوب، وخيبة وخسار من أهملها وتركها تعيث في الأرض فسادا بفعل المعاصي، وترك فعل الخير، وعظهم اللَّه تعالى بقصة ثمود، لقربها من ديار(30/262)
العرب، ليحذروا معاندة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وتكذيبه، وإلا حلّ بهم ما حلّ بأمثالهم من الأمم السابقة.
التفسير والبيان:
يخبر اللَّه تعالى عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام، بسبب ما كانوا عليه من الطغيان والبغي، فيقول:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها أي كذبت قبيلة ثمود نبيها صالحا عليه السلام بسبب طغيانها وبغيها، فإنه الذي حملها على التكذيب.
والطغيان: مجاوزة الحد في المعاصي.
وذلك حين قام أشقى ثمود، وهو قدار بن سالف، أحيمر ثمود، فعقر الناقة، بتحريض قومه ورضاهم بما يفعل، فكان عقرها دليلا على تكذيبهم جميعا لنبيهم، وبرهانا على صدق رسالته إذ حلّ بهم العذاب الذي أوعدهم به.
ونظير الآية: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ، فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر 54/ 29] . وكان أشقى ثمود عزيزا فيهم، شريفا في قومه، نسيبا رئيسا مطاعا، كما
ذكر أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد اللَّه بن زمعة قال: خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر الناقة، وذكر الذي عقرها، فقال: «إذ انبعث أشقاها، انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه، مثل أبي زمعة» .
ثم يذكر اللَّه تعالى ما توعدهم به رسولهم على فعلهم، فيقول:
«فقال لهم رسول اللَّه: ناقة اللَّه، وسقياها» أي فقال لهم أي للجماعة الأشقياء النبي صالح عليه السلام: ذروا ناقة اللَّه واحذروا التعرض لها أو أن تمسوها بسوء، واتركوها وتناولها شربها من الماء المخصص لها، فإن لها شرب يوم، ولكم شرب يوم معلوم، ولا تتعرضوا لها يوم شربها.(30/263)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها أي فكذبوه في تحذيره إياهم من العذاب، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العقاب، فعقر الأشقى الناقة، وجميع قومه رضوا بما فعل. أو كذبوه فيما جاءهم به، فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة التي أخرجها اللَّه لهم من الصخرة آية لهم وحجة عليهم.
ثم يبين ما عوقبوا به، فيقول:
فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ، فَسَوَّاها، وَلا يَخافُ عُقْباها أي فأطبق عليهم العذاب وأهلكهم، وغضب عليهم فدمر عليهم، فسوّى الدمدمة عليهم، وعمّهم بها، أي فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء، فاستوت على صغيرهم وكبيرهم. قال قتادة: بلغنا أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، فلما اشترك القوم في عقرها، دمدم اللَّه عليهم بذنبهم، فسواها.
وقد فعل اللَّه ذلك بهم، وأهلكهم، غير خائف هذا الأشقى من عاقبة ولا تبعة، أي فإنه تجرأ على عقر الناقة دون أن يخاف الذي عقرها عاقبة إهلاك قومه، وعاقبة ما صنع، والمراد بذلك أنه أقدم على عقرها، وهو كالآمن من نزول الهلاك به وبقومه.
وقال ابن عباس: لا يخاف اللَّه من أحد تبعة. قال ابن كثير: وهذا القول أولى لدلالة السياق عليه. وقال أبو حيان: الظاهر عود الضمير إلى أقرب مذكور، وهو رَبُّهُمْ أي لا درك عليه تعالى في فعله بهم، لا يسأل عما يفعل، قال ابن عباس والحسن، وفيه ذم لهم وتعقبة لآثارهم. والمراد أن اللَّه لا يخاف عاقبة ما فعل بهم لأنه عادل في حكمه. وقال الزمخشري: ولا يخاف اللَّه عاقبتها وتبعتها، كما يخاف كل معاقب من الملوك، فيبقي بعض الإبقاء. ويجوز أن يكون الضمير لثمود، على معنى: فسوّاها بالأرض أو في الهلاك، ولا يخاف عقبى هلاكها.(30/264)
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا خبر قاطع من اللَّه العلي القدير، أخبرنا به عن قبيلة ثمود التي تجاوزت الحد بطغيانها وهو خروجها عن الحد في العصيان. وذلك حين نهض أشقاها لعقر الناقة، واسمه قدار بن سالف.
ولكنّ رسولهم صالحا عليه السلام حذرهم عاقبة فعلهم، وقال لهم: احذروا عقر ناقة اللَّه، وذروها، كما قال: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ، فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الأعراف 7/ 73] وذروها وشربها المخصص لها في يومها. فإنهم لما اقترحوا الناقة، وأخرجها اللَّه لهم من الصخرة، جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشقّ عليهم.
وكذبوا صالحا عليه السلام في قوله لهم: «إنكم تعذّبون إن عقرتموها» فعقرها الأشقى، وأضيف العقر إلى الكل بقوله: فَعَقَرُوها لأنهم رضوا بفعله.
والجرم وهو العقر وتكذيب النبي يستدعيان بلا شك عقابا صارما، فكان العقاب أن أهلكهم اللَّه، وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب.
والعقر، وسوّى عليهم الأرض، أو سوى الدمدمة والإهلاك عليهم لأن الصيحة أهلكتهم فأتت على صغيرهم وكبيرهم.
والعبرة من ذلك أن اللَّه فعل بهم ما فعل غير خائف أن تلحقه تبعة الدمدمة من أحد، كما قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. وهاء عُقْباها ترجع إلى الفعلة. وقال السدّي والضحاك والكلبي: ترجع إلى العاقر، أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع.(30/265)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الليل
مكيّة، وهي إحدى وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة الليل لافتتاحها بإقسام اللَّه تعالى بالليل إذا يغشى، أي يغطي الكون بظلامه، ويستر الشمس والنهار والأرض والوجود بحجابه.
مناسبتها لما قبلها:
لما ذكر في سورة الشمس قبلها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ذكر هنا من الأوصاف ما يحصل به الفلاح، وما تحصل به الخيبة بقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى.. فهي كالتفصيل لما قبلها.
ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل، افتتحت بالليل الذي هو ظلمة.
ما اشتملت عليه السورة:
محور السورة سعي الإنسان وعمله وجزاؤه في الآخرة.
افتتحت السورة بالقسم بالليل والنهار وخالق الذكر والأنثى على أن عمل الناس مختلف، فمنهم التقي ومنهم الشقي، ومنهم المؤمن ومنهم الفاجر:
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى.. [الآيات 1- 4] .(30/266)
ثم أوضحت أن الناس فريقان، وحددت منهج وطريق كل فريق، وجزاء كل منهم في الآخرة: أهل الإيمان والسعادة والجنة: وهم الذين بذلوا المال وصدقوا بوعد اللَّه في الآخرة، وأهل الكفر والشقاوة والنار: وهم الذين بخلوا بالأموال واستغنوا عن ربهم عز وجل، وأنكروا ما وعد اللَّه به من الجنة: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى.. [الآيات 5- 10] .
وأعقبت ذلك ببيان عدم جدوى المال في الآخرة، وأن اللَّه واضع دستور الهداية، وأنه مالك الدنيا والآخرة: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [11- 13] ودلّ هذا التحذير من عذاب اللَّه والإنذار بالنار على أنه العقاب المستحق لكل من كذب بآيات اللَّه تعالى وبرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى.. [14- 16] .
يبذل ماله في طرق الخير مخلصا لوجه اللَّه، دون قصد مكافأة أحد، ولا لمصلحة دنيوية عند إنسان، وذلكم المثال هو أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه:
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى.. [الآيات 17- 21] .
فضلها:
تقدم
حديث جابر في الصحيحين أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لمعاذ: «فهلّا صلّيت ب: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» .(30/267)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
اختلاف مسعى الناس
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11)
الإعراب:
إِذا يَغْشى، إِذا تَجَلَّى إِذا في الموضعين: لمجرد الظرفية، والعامل فيها فعل القسم.
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ما: فيها ثلاثة أوجه كما في السورة السابقة.
وَما بَناها إما أن تكون مصدرية، أو بمعنى الذي وهو الأولى، أو بمعنى (من) .
ويجوز الجر في الذكر والأنثى على البدل من ما.
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى جواب القسم.
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ ما: نافية.
البلاغة:
اللَّيْلِ والنَّهارِ بينهما طباق، وكذا بين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وبين (اليسرى، والعسرى) وبين صَدَّقَ وكَذَّبَ.
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى بينهما مقابلة، والمقابلة والطباق من المحسنات البديعية.
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى بينهما جناس اشتقاق.
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى حذف المفعول لإفادة التعميم وإطالة التأمل.(30/268)
المفردات اللغوية:
يَغْشى يغطي كل شيء بظلامه. تَجَلَّى ظهر وانكشف. وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي والقادر الذي خلق آدم وحواء وكل ذكر وأنثى في الإنسان والحيوان والنبات.
سَعْيَكُمْ عملكم أو مسعاكم. لَشَتَّى مختلف متفرق، جمع شتيت: وهو المتباعد عن غيره.
واختلاف المنهج والمسعى إما بالعمل للجنة بالطاعة، أو للنار بالمعصية.
أَعْطى بذل المال. وَاتَّقى التزم الأوامر وفعل الخير، واجتنب النواهي والشر.
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى بالكلمة أو الخصلة الحسنى- صفة تأنيث الأحسن، وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا اللَّه، والجنة والثواب، وكل فضيلة. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى نهيئه للحالة التي هي أيسر عليه وأهون والتي تؤدي إلى الخير، وذلك في الدنيا والآخرة، كدخول الجنة.
بَخِلَ أمسك المال وشح به ولم يؤد حق اللَّه فيه. وَاسْتَغْنى عن ربه عز وجل وعن الثواب. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى نهيئه للحالة السيئة في الدنيا والآخرة التي لا تنتج إلا شرا.
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ لا يفيده ماله وغناه. إِذا تَرَدَّى هوى وسقط في النار أو في القبر.
سبب النزول:
نزول الآية (5) :
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى..: أخرج ابن جرير والحاكم عن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير قال: كان أبو بكر رضي اللَّه عنه يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه (أبو قحافة) : أي بني! أراك تعتق أناسا ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالا جلداء، يقومون معك.
ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبت، إنما أريد ما عند اللَّه، فنزلت هذه الآيات فيه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى.. إلى آخر السورة.
نزول الآية (8) :
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ: قال ابن عباس: نزلت في أمية بن خلف.(30/269)
التفسير والبيان:
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي أقسم بالليل حين يغطي بظلامه كل ما كان مضيئا، وبالنهار متى ظهر وانكشف ووضح، لزوال ظلمة الليل، والقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من جميع الأجناس، من الناس وغيرهم، كقوله تعالى: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ 78/ 8] .
ولم يذكر مفعول يَغْشى للعلم به، وقيل: يغشى النهار، أو الخلائق أو الأرض أو كل شيء بظلمته.
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا هو المحلوف عليه جواب القسم، أي إن أعمال العباد مختلفة متباعدة، فمن فاعل خيرا، ومن فاعل شرا، وبعض الأعمال ضلال وبعضها هدى، وبعضها يوجب الجنة، وبعضها يوجب النار.
ويقرب من هذه الآية قوله تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] وقوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً، لا يَسْتَوُونَ [السجدة 32/ 18] وقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية 45/ 21] .
ثم فصل أحوال الناس وقسمتهم فريقين، فقال:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي فأما من بذل ماله في وجوه الخير، واتقى محارم اللَّه التي نهى عنها، وصدق بموعود اللَّه الذي وعده عوضا عن الإيمان والنفقة الخيرية، فإنا نسهل عليه كل ما كلّف به من الأفعال والتروك، ونهيئه للخطة السهلة التي تؤدي به إلى الخير، ونيسر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بطاعة اللَّه.(30/270)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى، وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى أي وأما من بخل بماله، فلم يبذله في سبل الخير، واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، وزهد في الأجر والثواب وفضل اللَّه، وكذّب بالجزاء في الدار الآخرة، فسنهيئه للخصلة العسرى والطريقة الصعبة التي لا تنتج إلا شرا، حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح، ويضعف عن فعلها، حتى يصل إلى النار، ولا يغني عنه شيئا ماله الذي بخل به، إذا سقط في جهنم.
ويلاحظ أن التيسير والبشارة في الأصل على الشيء المفرح والسّاتر، لكن إذا جمع في الكلام بين خير وشر، جاء التيسير والبشارة فيهما جميعا.
أخرج البخاري ومسلّم عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بقيع الغرقد في جنازة، فقال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول اللَّه، أفلا نتكل؟
فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى.
وهناك أحاديث كثيرة في هذا المعنى «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أقسم اللَّه عز وجل بالليل حينما يغطّي كل شيء بظلامه، وبالنهار إذا انكشف ووضح وظهر، وبالذي خلق الذكر والأنثى فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل، على أن عمل الناس مختلف في الجزاء، فبعضهم مؤمن وبر، وكافر وفاجر، ومطيع وعاص، وبعضهم في هدى أو في ضلال، وبعضهم ساع في فكاك نفسه من النار، وبعضهم بائع نفسه فموبقها في المعاصي، كما
ذكر الثعلبي من قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الناس غاديان: فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها» .
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير: 4/ 518- 519(30/271)
ثم أوضح سبحانه معنى اختلاف الأعمال المذكور من العاقبة المحمودة والمذمومة، والثواب والعقاب، وذكر فريقين:
الأول- من بذل ماله في سبيل اللَّه، وأعطى حق اللَّه عليه، واتقى المحارم والمنكرات، وصدّق بوعد اللَّه بالعوض على عطائه، فاللَّه يهيئ له الطريق اليسرى السهلة للوصول إلى غايته، ويرشده لأسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» .
والثاني- من ضنّ بما عنده، فلم يبذل خيرا، وكذلك بتعويض اللَّه، فاللَّه يسهل طريقه للشر، ويعسّر عليه أسباب الخير والصلاح، حتى يصعب عليه فعلها.
قال العلماء: ثبت بهذه الآية: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ.. وبقوله تعالى:
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة 2/ 3] وقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة 2/ 274] إلى غير ذلك من الآيات أن الجود من مكارم الأخلاق، والبخل من أرذلها، والجواد: هو الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل: هو الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطي أجرا وحمدا، فهو الجواد، وكل من استحق ذما أو عقابا، فهو البخيل، والمسرف المذموم، وهو من المبذّرين الذين جعلهم اللَّه إخوان الشياطين، وأوجب الحجر عليهم «1» .
ولا يفيد هذا البخيل ماله إذا مات أو صار في القبر أو سقط في جهنم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 84- 85(30/272)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
قد أعذر من أنذر
[سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 21]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
الإعراب:
يَتَزَكَّى بدل من يُؤْتِي أو حال من فاعله.
إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ابْتِغاءَ منصوب لأنه استثناء منقطع، وهو قول أكثر النحويين لأن الابتغاء ليس من جنس النعمة، أي لكن ابتغاء.
البلاغة:
الْأَشْقَى والْأَتْقَى بينهما طباق.
لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى سجع رصين غير متكلف.
المفردات اللغوية:
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى علينا الإرشاد إلى الحق، بموجب قضائنا، أو بمقتضى حكمتنا. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي للَّه الآخرة والدنيا، نعطي ما نشاء لمن نشاء، فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ، ولا يضرنا ترك الاهتداء. فَأَنْذَرْتُكُمْ خوفتكم. تَلَظَّى تتلظى أي تتوقد وتتلهب. لا يَصْلاها لا يدخلها ولا يحترق بها إلى الأبد. إِلَّا الْأَشْقَى الشقي الكافر كأبي جهل وأمية بن خلف، أما الفاسق وإن دخلها فلا يلزمها.
كَذَّبَ كذب النبي فيما جاء به. وَتَوَلَّى أعرض عن الإيمان والطاعة لربه.
وَسَيُجَنَّبُهَا يبعد عنها. الْأَتْقَى التقي الذي اتقى الكفر والمعاصي. يَتَزَكَّى يتطهر بأن يخرجه للَّه تعالى، لا رياء ولا سمعة، فيكون زاكيا عند اللَّه. تُجْزى تكافأ وتجازى.
إِلَّا لكن فعل ذلك. ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي طلب ثواب اللَّه. وَلَسَوْفَ يَرْضى بما يعطاه من الثواب في الجنة. والآية تشمل كل من فعل مثل هذا، فيبعد عن النار ويثاب.(30/273)
سبب النزول:
نزول الآية (17) :
وَسَيُجَنَّبُهَا..: أخرج ابن أبي حاتم عن عروة: أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة، كلهم يعذب في اللَّه، وفيه نزلت: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إلى آخر السورة.
نزول الآية (19) :
وَما لِأَحَدٍ..:
روى عطاء عن ابن عباس قال: إن بلالا لما أسلّم، ذهب إلى الأصنام فسلح عليها، وكان عبدا لعبد اللَّه بن جدعان، فشكا إليه المشركون ما فعل، فوهبه لهم، ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء، وهو يقول: أحد فمرّ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ينجيك أحد أحد. ثم أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا بكر: أن بلالا يعذّب في اللَّه، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب، فابتاعه به.
فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك إلا ليد كانت لبلال عنده، فأنزل اللَّه تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى «1» .
وأخرج البزار عن ابن الزبير قال: نزلت هذه الآية: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى.. إلى آخرها، في أبي بكر الصديق.
المناسبة:
بعد أن عرّف اللَّه تعالى أن سعي الناس شتى في العواقب، وبيّن ما للمحسن من اليسرى وما للمسيء من العسرى، أخبر أنه قد قام بما عليه من البيان والدلالة، والترغيب والترهيب، والإرشاد والهداية، وأعلم أنه مالك الدنيا
__________
(1) أسباب النزول للنيسابوري: ص 255 وما بعدها.(30/274)
والآخرة، ولا يزيد في ملكه اهتداء الناس، ولا يضره ترك اهتداءهم بهداه، ويعطي ما يشاء لمن يشاء، فتطلب سعادة الدارين منه.
ثم أنذر الناس جميعا بعذاب النار، وأبان من يصلاها ويحترق بها، ومن يبعد عنها ويسلّم من عذابها، وقد أعذر من أنذر.
التفسير والبيان:
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال، والحلال من الحرام، والحق من الباطل، والخير من الشر، من طريق الأنبياء وإنزال الكتب التي فيها تشريع الأحكام، وتبيان العقائد والعبادات والأخلاق وأنظمة المعاملات.
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي لنا كل ما في الآخرة، وكل ما في الدنيا، نتصرف به كيف نشاء، فمن أراد شيئا من الدارين، فليطلبه منا، نهب ونعطي ما نشاء لمن نشاء، ولا يضرنا ترك الاهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤهم، بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم أيها الناس. ومن ملك الدنيا والآخرة وكان هو المتصرف فيهما، كان هديه وشرعه هو الذي يجب اتباعه.
ثم حذر من سلوك طريق النار، فقال:
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى، لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي لقد خوفتكم نارا عظيمة شديدة تتوهج وتتلهب، لا يدخلها ويذوق حرها إلا الكافر الذي كذب الحق الذي جاءت به الرسل، وكذب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما جاء به عن ربه، وأعرض عن الإيمان باللَّه واتباع شرائعه وأحكامه، وطاعة أوامره.
وأبان سبيل النجاة من النار، فقال:
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أي وسيباعد عن النار(30/275)
المتقي للكفر والمعاصي اتقاء بالغا، قال الواحدي كما مر: الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين، أي إنها نزلت فيه، وإلا فحكمها عام.
وهذا الأتقى هو الذي ينفق ماله ويعطيه في وجوه الخير، طالبا أن يكون عند اللَّه زكيا متطهرا نقيا من الذنوب، لا يريد بذلك رياء ولا سمعة، ولا مديحا وثناء من الناس.
روى الإمام أحمد والبخاري عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة: رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه» .
وروى مسلم الحديث بلفظ آخر: «إن أهون أهل النار عذابا: من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل، ما يريد أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا» .
وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يدخل النار إلا شقي، قيل: ومن الشقي؟ قال: الذي لا يعمل بطاعة ولا يترك للَّه معصية» .
وروى أحمد أيضا والبخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول اللَّه؟
قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» .
ثم ذكر صفة الإخلاص في العمل، فقال:
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى، وَلَسَوْفَ يَرْضى» أي لا يتصدق بماله مقابل نعمة لأحد من الناس عليه، يكافئه عليها، وإنما يريد بذلك طلب رضوان اللَّه ومثوبته، لا لمكافأة نعمة، وتاللَّه لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم.(30/276)
جاء في الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من أنفق زوجين في سبيل اللَّه، دعته خزنة الجنة: يا عبد اللَّه هذا خير، فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه، ما على من يدعى منها ضرورة، فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- اقتضت حكمة اللَّه تعالى ورحمته بعباده أن يبين لهم كل ما هو رشاد وهداية موصلة إلى جنته ورضاه، وقد تعهد اللَّه عز وجل بذلك لبيان أحكام الحلال والحرام، والطاعة والمعصية.
2- للَّه تعالى ملك الدنيا والآخرة، وهو المتصرف فيهما، ومانح ثوابهما، يعطي ما يشاء لمن يشاء، فمن طلبهما من غير مالكهما ومن غير المتصرف فيهما، فقد أخطأ الطريق. ولا يضره عصيان العاصين، ولا ينفعه طاعة المطيعين، وإنما يعود ضره أو نفعه إليهم.
3- حذر اللَّه تعالى بعد هذه البيانات الوافية من نار جهنم التي تتوهج وتتوقد، ولا يجد صلاها وهو حرها على الدوام إلا الشقي الكافر الذي كذّب نبي اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأعرض عن الإيمان.
4- سيكون بعيدا من النار المتقي المعاصي، الخائف من عذاب اللَّه، وصفة الأتقى أو المتقي: هو الذي يعطي ماله طالبا أن يكون عند اللَّه زاكيا طاهرا متطهرا من الآثام والذنوب، لا يطلب بذلك رياء ولا سمعة، ولا مكافأة لأحد، بل يتصدق به مبتغيا به وجه اللَّه تعالى، قاصدا ثوابه ورضاه، ولسوف يرضى عن اللَّه، ويرضى اللَّه عنه، فيكون راضيا مرضيا. وهو وعد كريم من رب رحيم.(30/277)
والخلاصة: أن كلا من الأتقى والأشقى يشمل قسمين، فالأتقى: يشمل المؤمن البار الذي ابتعد عن الفواحش كلها، والمؤمن الذي يذنب أحيانا فيتوب ويندم، وثواب كل منهما الجنة.
والأشقى: يشمل الكافر الجاحد باللَّه وبرسله وبما أنزل عليه، والمسلم الذي آمن في قلبه باللَّه ورسله، ولكنه يصر على بعض المعاصي والسيئات ولا يتوب منها، وهذا دليل على نقص تصديقه، بدليل
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه ابن ماجه: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» .
والأول مخلّد في النار، والثاني معذب فيها على وفق مشيئة اللَّه، ثم يخرج إلى الجنة. وأما صفة الأتقى والأشقى فهو كلام وارد على سبيل المبالغة.
قال الزمخشري: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين، وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين، فقيل:
الْأَشْقَى وجعل مختصا بالصلي، كأن النار لم تخلق إلا له، وقيل:
الْأَتْقَى وجعل مختصا بالنجاة، كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف، وأبو بكر رضي اللَّه عنه «1» .
أخرج الإمام أحمد وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يدخل النار إلا من شقي، قيل: ومن الشقي؟ قال:
الذي لا يعمل للَّه تعالى طاعة، ولا يترك للَّه تعالى معصية» .
__________
(1) الكشاف: 3/ 344(30/278)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الضحى
مكيّة، وهي إحدى عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الضحى تسمية لها باسم فاتحتها، حيث أقسم اللَّه بالضحى:
وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس، تنويها بهذا الوقت المهم الذي هو نور، ولأنها نزلت في شأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فافتتحت بالضحى. ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل، افتتحت بالليل.
مناسبتها لما قبلها:
هذه السورة متصلة بسورة الليل من وجهين:
1- ختمت سورة الليل بوعد كريم من اللَّه تعالى بإرضاء الأتقى في الآخرة، وقال تعالى في سورة الضحى مؤكدا وعده لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.
2- ذكر تعالى في السورة السابقة: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ثم عدد اللَّه تعالى نعمه على سيد الأتقياء في هذه السورة وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع سورة الضحى المكية الحديث عن شخصية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقد تضمنت أربعة مقاصد:(30/279)
1- ابتدأت بالقسم الإلهي العظيم على أن اللَّه عز وجل ما قلا رسوله ولا أبغضه، ولا هجره ولا تركه، وإنما هو محل العناية الربانية، وهو عظيم القدر عند اللَّه تعالى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ... [الآيات: 1- 4] .
2- بشّره ربه بالعطاء الجمّ في الآخرة ومنه الشفاعة العظمى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [5] .
3- عددت نعم اللَّه على نبيه منذ صغره: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ...
[الآيات: 6- 8] .
4- ختمت بإيصائه بفضائل ثلاث: العطف على اليتيم، وصلة المسكين، وشكر النعمة العظمى وهي النبوة وغيرها من هذه النعم المذكورة: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [9- 11] .
فضلها:
ثبت عن الإمام الشافعي أنه يسن التكبير بأن يقول «اللَّه أكبر» أو «اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر» عقب قراءة سورة والضحى وخاتمة كل سورة بعدها.
وذكر القراء في مناسبة التكبير: أنه لما تأخر الوحي عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفتر مدة، ثم جاء الملك، فأوحى إليه: وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى السورة بتمامها، كبّر فرحا وسرورا.
قال ابن كثير: ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف.(30/280)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
نعم اللَّه تعالى على النبي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
الإعراب:
وَالضُّحى قسم، وجواب القسم: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى والتوديع: مبالغة في الودع لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. وقرئ: وَدَّعَكَ أي تركك. وما قَلى أي ما قلاك أي ما أبغضك، فحذف الكاف وهي مفعول، كما حذف الكاف التي هي المفعول من قوله: فَآوى أي فآواك، وفي قوله: فَأَغْنى أي فأغناك، والحذف للتخفيف كثير.
وهنا حذفت المفاعيل رعاية للفواصل.
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ دخلت اللام على «سوف» دون السين لأن «سوف» أشبهت الاسم لأنها على ثلاثة أحرف. ولما دخلت اللام عليها علم أنها لام قسم، لا لام ابتداء، لأن لام الابتداء لا تدخل على «سوف» . ويُعْطِيكَ فعل متعد إلى مفعولين، وحذف هنا أحدهما، وتقديره: ولسوف يعطيك ربك ما تريده، فترضى. وهو من الأفعال التي يجوز الاقتصار فيها على أحد المفعولين دون الآخرة، فيجوز أن تقول في (أعطيت زيدا درهما) : (أعطيت زيدا) .
فَأَمَّا الْيَتِيمَ وَأَمَّا السَّائِلَ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ الْيَتِيمَ مفعول تَقْهَرْ، والسَّائِلَ مفعول تَنْهَرْ، والباء في بِنِعْمَةِ تتعلق ب فَحَدِّثْ والفاء في فَلا تَقْهَرْ، وفَلا تَنْهَرْ، وفَحَدِّثْ جواب أَمَّا في هذه المواضع لأن فيها معنى الشرط.
البلاغة:
لَلْآخِرَةُ والْأُولى بينهما طباق أي بين الآخرة والدنيا.(30/281)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى مقابلة بينها وبين فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ.
تَقْهَرْ وتَنْهَرْ جناس ناقص لتغير الحرف الثاني من الكلمة.
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى سجع مرصّع: وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
وَالضُّحى وقت ارتفاع الشمس أول النهار. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى سكن وغطى بظلامه الأشياء. وإنما قدم ذكر الليل في السورة السابقة، وأخره في هذه السورة، للتنويه بفضيلة كل واحد من الليل والنهار، فالليل له فضيلة السبق، وللنهار فضيلة النور، فيقدم هذا تارة، وهذا تارة أخرى. وإنما حلف بالضحى والليل فقط للتنويه بقيمة الزمان الذي يدل عليه مرور النهار والليل. وخص وقت الضحى بالذكر لأنه وقت اجتماع الناس، وكمال الأنس بعد وحشة زمان الليل. وذكر الضحى وهو ساعة من النهار، وذكر الليل كله إشارة إلى أن ساعة من النهار في الإنتاج توازي جميع الليل، كما أن محمدا إذا قورن بغيره يوازي جميع الأنبياء «1» .
ما وَدَّعَكَ ما قطعك أو فارقك قطع المودّع أو مفارقته، وقرئ وَدَّعَكَ بالتخفيف، أي تركك. وهو جواب القسم. وَما قَلى ما أبغضك ربك، والقلى: شدة الكره، وقد نزل هذا لما قال الكفار عند تأخر الوحي عنه خمسة عشر يوما: إن ربه ودعه وقلاه.
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى لما فيها من الكرامات، ولأنها باقية خالصة عن الشوائب، والدنيا فانية مشوبة بالمضارّ. وهذا تنويه بقدر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإعداده للنبوة، ومواصلته بالوحي والكرامة في الدنيا، والإخبار بعلو منزلته في الآخرة، فإنه لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال.
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى يعطيك ربك في الآخرة من الخيرات عطاء جزيلا، فترضى به، وهو وعد شامل بالعطاء الجزيل، ومنه الشفاعة العظمى،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه الخطيب في تلخيص المتشابه: «إذن لا أرضى، وواحد من أمتي في النار» .
وهذا تمام جواب القسم بمثبتين بعد منفيين.
أَلَمْ يَجِدْكَ استفهام تقرير، أي وجدك يَتِيماً بفقد أبيك قبل ولادتك أو بعدها.
فَآوى ضمك إلى عمك أبي طالب. وهذا وما بعده تعداد لما أنعم اللَّه به على نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، تنبيها على أنه كما أحسن إليه فيما مضى، يحسن إليه فيما يستقبل. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى لا يمكن حمل الضلال هنا على ما يقابل الهدى لأن الأنبياء معصومون من ذلك، قال العلماء: إنه ما كفر
__________
(1) تفسير الرازي: 31/ 207- 208(30/282)
باللَّه طرفة عين، وإنما المراد بالضلال: الخطأ في معرفة أحكام الشرائع، فهداه إلى مناهجها وكيفياتها. والمراد: الحيدة عن معالم الشريعة الحنيفية، كقوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى 42/ 52] .
عائِلًا فقيرا. فَأَغْنى بالقناعة بربح التجارة وغيرها، جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» . فَلا تَقْهَرْ فلا تستذله وتستضعفه بأخذ ماله أو بتسخيره ونحو ذلك. فَلا تَنْهَرْ تزجره لفقره. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي نعمته عليك بالنبوة وغيرها. فَحَدِّثْ أخبر واشكر مولاك
سبب النزول:
نزول الآية (1) وما بعدها:
أخرج الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل اللَّه: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ، وَما قَلى.
وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عن جندب قال: أبطأ جبريل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال المشركون: قد ودّع محمد، فنزلت.
وأخرج الحاكم عن زيد بن أرقم قال: مكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أياما لا ينزل عليه جبريل، فقالت أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى صاحبك إلا قد ودّعك وقلاك، فأنزل اللَّه: وَالضُّحى.. الآيات.
وأخرج ابن جرير عن عبد اللَّه بن شداد: أن خديجة قالت للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ما أرى ربك إلا قد قلاك، فنزلت. والخبر مرسل، ورواته ثقات. قال الحافظ ابن حجر: فالذي يظهر أن كلا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل قالته شماتة، وخديجة قالته توجعا.
والخلاصة: أبطأ جبريل عليه السلام على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال المشركون:
قلاه اللَّه وودّعه فنزلت الآية.(30/283)
نزول الآية (4) :
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ..:
أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «عرض عليّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي، فسرّني» فأنزل اللَّه: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى
وإسناده حسن.
نزول الآية (5) :
أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: عرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما هو مفتوح على أمته كفرا كفرا- أي قرية قرية- فسرّ به، فأنزل اللَّه: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.
التفسير والبيان:
وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى أي قسما بالضحى: وقت ارتفاع الشمس أول النهار، والمراد به النهار، لمقابلته بالليل، وبالليل إذا سكن وغطى بظلمته النهار مثلما يسجّى الرجل بالثوب، ما قطعك ربك قطع المودّع، وما تركك، ولم يقطع عنك الوحي، وما أبغضك وما كرهك، كما يزعم بعضهم أو تتوهم في نفسك. وهذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند اللَّه إذ لو كان من عنده لما توقف.
ثم بشره بأن مستقبله أفضل من ماضيه، فقال:
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، إذا فرض انقطاع الوحي وحصل الموت، وكذلك فإن أحوالك الآتية خير لك من الماضية، وأن كل يوم تزداد عزا إلى عز، ومنصبا إلى منصب، فلا تظن أني قليتك، بل تكون كل يوم يأتي أسمى وأرفع، فإني أزيدك رفعة وسموا، وإن شرف الدنيا يصغر عنده كل شرف، ويتضاءل بالنسبة إليه كل مكرمة في الدنيا.(30/284)
أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود قال: اضطجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على حصير، فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه، وقلت: يا رسول اللَّه، ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب، ظلّ تحت شجرة، ثم راح وتركها» .
وبشره بعطاء جزيل فقال:
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أي ولسوف يمنحك ربك عطاء جزيلا ونعمة كبيرة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو الفتح في الدين، وأما في الآخرة فهو الثواب والحوض والشفاعة لأمتك، فترضى به. وهذا دليل على تحقيق العلو والسمو في الدارين، فيعلو دينه على كل الأديان، ويرتفع قدره على جميع الأنبياء والناس بالشفاعة العظمى يوم العرض الأكبر يوم القيامة. وإنما أتى بحرف التوكيد والتأخير، ليفيد بأن العطاء كائن لا محالة، وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة.
ثم عدد اللَّه تعالى نعمه على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل إرساله، وكأنه قال: ما تركناك وما قليناك قبل أن اخترناك واصطفيناك، فتظن أنا بعد الرسالة نهجرك ونخذلك، فقال:
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى أي ألم يجدك ربك يتيما لا أب لك، فجعل لك مأوى تأوي إليه، وهو بيت جدك عبد المطلب وعمك أبي طالب، فإنه فقد أباه وهو في بطن أمه، أو بعد ولادته، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب، وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب، إلى أن توفي، وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره بعد أن ابتعثه اللَّه على رأس أربعين سنة.(30/285)
ووجدك غافلا عن أحكام الشرائع حائرا في معرفة أصح العقائد، فهداك لذلك، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا الآية [الشورى 42/ 52] .
ووجدك فقيرا ذا عيال لا مال لك، فأغناك بربح التجارة في مال خديجة، وبما منحك اللَّه من البركة والقناعة،
أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» .
وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه اللَّه بما آتاه» .
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى قال: كانت هذه منازل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يبعثه اللَّه عز وجل.
ثم أمره ربه ببعض الأخلاق الاجتماعية وبشكره على هذه النعم، فقال:
1- فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي كما كنت يتيما فآواك اللَّه، فلا تستذل اليتيم وتهنه وتتسلط عليه بالظلم لضعفه، بل أدّه حقه، وأحسن إليه، وتلطف به، واذكر يتمك. لذا كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي باليتامى خيرا.
2- وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أي وكما كنت ضالا، فهداك اللَّه، فلا تنهر السائل المسترشد في العلم، وطلب المال، ولا تزجره، بل أجبه أورد عليه ردا جميلا.
3- وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أي تحدث بنعمة ربك عليك، واشكر هذه النعمة وهي النبوة والقرآن، وما ذكر في الآيات، والتحدث بنعمة اللَّه(30/286)
شكر، فكما كنت عائلا فقيرا، فأغناك اللَّه، فتحدث بنعمة اللَّه عليك، كما
جاء في الدعاء النبوي المأثور: «واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين عليها، قابليها، وأتمها علينا» .
وأخرج أبو داود والترمذي وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا يشكر اللَّه من لا يشكر الناس» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- أقسم اللَّه بالضحى، أي بالنهار، وبالليل إذا سكن، على أنه ما ترك نبيه وما أبغضه منذ أحبه. قال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما. وقيل: خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل: أربعين يوما.
قال الرازي: هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند اللَّه، إذ لو كان من عنده لما امتنع «1» . كما تقدم.
2- بشر اللَّه نبيه ببشارتين عظيمتين: الأولى- أنه جعل أحواله الآتية خيرا له من الماضية، ووعده بأنه سيزيده كل يوم عزا إلى عز، وجعل ما عنده في الآخرة حين مرجعه إليه، خيرا له مما عجل له من الكرامة في الدنيا.
والثانية- أنه سيعطيه غاية ما يتمناه ويرتضيه في الدنيا بالنصر والتفوق وغلبة دينه على الأديان كلها، وفي الآخرة بالثواب والحوض والشفاعة.
روى الخطيب أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لما نزلت هذه الآية: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال: «إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار»
، كما تقدم.
__________
(1) تفسير الرازي: 31/ 210(30/287)
والخلاصة: آية وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ ... عدة كريمة شاملة لما أعطاه اللَّه عز وجل في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوحات وانتشار الدعوة في المشارق والمغارب، ولما ادخر له عليه السلام في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو عز وجل.
وورد في صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تلا قول اللَّه عز وجل في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم 14/ 36] وقول عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة 5/ 118] فرفع يديه، وقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله، فأخبره صلّى اللَّه عليه وسلّم بما قال، وهو أعلم فقال اللَّه: يا جبريل اذهب إلى محمد، فقال: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك» .
3- عدد اللَّه تعالى نعمه ومننه على نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذكر منها في السورة ثلاثا هي الإيواء بعد اليتم، والهدى بعد الغفلة، والإغناء بعد الفقر.
أما الإيواء فقد تكفله بعد موت أبيه وأمه جده عبد المطلب، ثم عمه أبو طالب فكفله وآزره، ودفع عنه الأذى.
وأما الهدى فهو بيان القرآن والشرائع، فهداه اللَّه إلى أحكام القرآن وشرائع الإسلام، بعد الجهل بها والغفلة عنها. وليس معنى الضلالة الكفر أو كونه على دين قومه لأن الأنبياء معصومون عن ذلك. واتفق جمهور العلماء على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما كفر باللَّه لحظة واحدة. وقالت المعتزلة: هذا غير جائز عقلا، لما فيه من التنفير.(30/288)
وأما الإغناء فهو الإمداد بالفضل والمال والرزق بالتجارة في مال خديجة رضي اللَّه عنها. وفي زمان الرسالة أغناه بمال أبي بكر، ثم بمال الأنصار بعد الهجرة، ثم بالغنيمة.
والحكمة في اختيار اليتم له: أن يعرف قدر اليتامى، ويقوم بحقهم وصلاح أمرهم. ثم إن اليتم والفقر نقص في حق الناس عادة، فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام نبيا ورسولا، وأكرم الخلق، مع هذين الوصفين، كان ذلك قلبا للعادة، فكان من جنس المعجزات.
4- أدّب اللَّه نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يتعامل مع الخلق مثل معاملة اللَّه معه، فأمره بألا يظلم اليتيم، ويدفع إليه حقه، ويذكر أنه كان يتيما مثله. ودلت الآية على طلب اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، حتى قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم.
وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قسوة قلبه، فقال: «إن أردت أن يلين، فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين»
وفي الصحيح الذي رواه البخاري وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى.
ونهى اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن زجر السائل وعن إغلاظ القول له، وأمره بأن يردّه ببذل يسير، أو ردّ جميل، وأن يتذكر فقره.
روي عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا يمنعن أحدكم السائل، وأن يعطيه إذا سأل، ولو رأى في يده قلبين «1» من ذهب» .
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أيضا: «ردّوا السائل ببذل يسير، أو ردّ جميل، فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن، ينظر كيف صنيعكم فيما خوّلكم اللَّه» «2» .
__________
(1) القلب: السوار.
(2) تفسير القرطبي: 20/ 101(30/289)
وأمر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بشكر نعمة اللَّه عليه وهي النبوة والرسالة، وإنزال القرآن الكريم عليه. ويكون الشكر بنشر ما أنعم اللَّه عليه، والتحدث بنعم اللَّه، والاعتراف بها شكر لها.
ويلاحظ أنه تعالى نهاه عن شيئين وأمره بواحد: نهاه عن قهر اليتيم جزاء لما أنعم به عليه في قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. ونهاه عن نهر السائل في مقابلة قوله: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى. وأمره بتحديث نعمة ربه، وهو في مقابلة قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى.
قال العلماء المحققون: التحديث بنعم اللَّه تعالى جائز مطلقا، بل مندوب إليه إذا كان الغرض أن يقتدي به غيره، أو أن يشيع شكر ربه بلسانه، وإذا لم يأمن على نفسه الفتنة والإعجاب، فالستر أفضل.
وإنما أخر التحديث تقديما لمصلحة المخلوقات على حق اللَّه لأن اللَّه غني وهم المحتاجون، ولهذا رضي لنفسه بالقول فقط.
وروي عن الشافعي أنه رأى التكبير سنة في خاتمة وَالضُّحى إلى آخر القرآن لأنه حين انقطع الوحي كما تقدم، وأنزلت السورة،
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اللَّه أكبر» تصديقا لما أتى به القرآن.
وهذا التكبير ليس بقرآن لأنه لم ينقل كالقرآن نقلا متواترا بسورة وآياته وحروفه، دون زيادة ولا نقصان. وقال العلماء: لا نقول: إنه لا بد لمن ختم أن يفعله، ولكنه من فعل فقد أحسن، ومن ترك فلا حرج.
ولفظ التكبير إما بأن يقول: «اللَّه أكبر» أو يقول: «لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر» .(30/290)
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح، أو: الانشراح
مكيّة، وهي ثماني آيات.
تسميتها:
سميت سورة الشرح أو الانشراح أو أَلَمْ نَشْرَحْ لافتتاحها بالخبر عن شرح صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم أي تنويره بالهدى والإيمان والحكمة، وجعله فسيحا رحيبا واسعا، كقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ، يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام 6/ 125] .
مناسبتها لما قبلها:
هي شديدة الاتصال بسورة الضحى، لتناسبهما في الجمل والموضوع لأن فيهما تعداد نعم اللَّه تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلّم، مع تطمينه وحثه على العمل والشكر، حيث قال في السورة السابقة: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى.. وأضاف هنا وعطف: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ...
ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما، والأصح المتواتر كونهما سورتين، وإن اتصلتا معنى.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسابقتها الحديث عن شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم وما أمده اللَّه به من نعم عظيمة، تستحق الحمد والشكر.(30/291)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
وقد اشتملت على أمور أربعة:
1- تعداد نعم ثلاث أنعم اللَّه بها على نبيه المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم وهي شرح صدره بالحكمة والإيمان، وتطهيره من الذنوب والأوزار، ورفع منزلته ومقامه وقدره في الدنيا والآخرة: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [1- 4] وذلك بقصد تسلية الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وإيناسه عما يلقاه من أذى قومه الشديد في مكة والطائف وغيرهما.
2- وعد اللَّه له بتيسير المعسر، وتفريج الكرب عليه، وإزالة المحن والشدائد، وتبشيره بقرب النصر على الأعداء: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [5- 6] .
3- أمره بمواظبة العبادة والتفرغ لها بعد القيام بتبليغ الرسالة شكرا للَّه على ما أنعم عليه: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [7] .
4- أمره بعد كل شيء بالتوكل على اللَّه وحده، والرغبة فيما عنده: وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [8] .
نعم اللَّه على نبيه وما أمره به
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
البلاغة:
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ استفهام تقريري للتذكير بنعم اللَّه، أي قد شرحنا لك صدرك.(30/292)
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ استعارة تمثيلية، شبه الذنوب بحمل ثقيل يرهق كاهل حامله بطريق التمثيل.
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً تنكير اليسر للتعظيم والتفخيم، كأنه قال: يسرا عظيما.
الْعُسْرِ و «اليسر» بينهما جناس ناقص.
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إطناب بتكرير الجملة، لتثبيت معناها في النفوس، وبما أن العسر معروف فهو مفرد، واليسر منكر فهو متعدد، أي مع كل عسر يسران، فالعسر الأول عين الثاني، واليسر تعدد.
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ سجع مرصع مراعاة لرؤوس الآيات. وكذا في قوله: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وهو من المحسنات البديعية.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ألم نفسح ونبسط ونوسع لك يا محمد صدرك، حتى وسع مناجاة الحق، ودعوة الخلق، بما أودعنا فيه من الحكمة والإيمان والنبوة، وأزلنا عنه ضيق الجهل. والعرب تطلق سعة الصدر وعظمه على الحلم والقوة، فهو كناية عن السرور وانبساط النفس وراحة البال وسعة الأفق. وهو استفهام تقرير، أي قد شرحنا وأفسحنا.
وَضَعْنا حططنا وأزلنا وخففنا عنك. وِزْرَكَ حملك الثقيل. أَنْقَضَ أثقل، حتى سمع له نقيض أي صوت. وهذا كقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح 48/ 2] . وليس المراد بالذنوب المعاصي والآثام، فإن الرسل معصومون من ارتكاب الذنوب، وإنما المراد ما فعله اجتهادا مما هو خلاف الأولى، كإذنه للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، وأخذ الفداء من أسرى بدر، وعبوسه في وجه الأعمى ونحو ذلك. وقيل: المراد من قوله: وِزْرَكَ تخفيف أعباء النبوة والرسالة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها، وأداء واجباتها وحفظ حقوقها، فسهل اللَّه تعالى ذلك عليه، وحط عنه ثقلها، بأن صارت يسيرة له.
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ بالنبوة وغيرها، كأن جعلتك تذكر مع ذكري في الأذان والإقامة والتشهد والخطبة وغيرها. فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ الشدة والضعف والفقر ونحوها من المضايقات يُسْراً سهولة وتوفيقا للاهتداء والطاعة، وقد قاسى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من كثير من الكفار، وعانى منهم الشدائد، ثم حصل له اليسر، بنصره عليهم.
فَإِذا فَرَغْتَ من أداء الرسالة وتبليغ الناس بها. فَانْصَبْ أتعب في الدعاء والعبادة. فَارْغَبْ تضرع وتوكل، واجعل رغبتك باللَّه في جميع شؤونك.(30/293)
سبب النزول: نزول الآية (6) :
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً: نزلت لما عيّر المشركون المسلمين بالفقر.
وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري قال: لما نزلت هذه الآية: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أبشروا أتاكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين» .
التفسير والبيان:
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ أي قد شرحنا لك صدرك لقبول النبوة، وتحمل أعبائها، وحفظ الوحي. قال الرازي: وقد استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك. والأولى أن يقال كما بينا: الاستفهام تقريري، يراد به إثبات الشرح.
والمراد بشرح الصدر تنويره وجعله فسيحا وسيعا رحيبا، كقوله تعالى:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام 6/ 125] «1» . وقال أبو حيان: شرح الصدر: تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه، وهو قول الجمهور، والأولى العموم لهذا ولغيره من مقاساة الدعاء إلى اللَّه تعالى وحده، واحتمال المكاره من إذاية الكفار «2» . والأكثرون على أن الشرح أمر معنوي.
وقيل: المراد بذلك شرح صدره ليلة الإسراء، كما رواه الترمذي عن مالك بن صعصعة. قال ابن كثير: ولكن لا منافاة، فإن من جملة شرح صدره:
الذي فعل بصدره ليلة الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضا «3» .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 524
(2) البحر المحيط: 8/ 487
(3) تفسير ابن كثير: المرجع السابق. [.....](30/294)
وروى أيضا حديث شرح الصدر عبد اللَّه ابن الإمام أحمد عن أبي بن كعب: أن أبا هريرة كان جريئا على أن يسأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أشياء، لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول اللَّه، ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟
فاستوى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالسا، وقال: «لقد سألت يا أبا هريرة، إني في الصحراء ابن عشر سنين وأشهر، وإذ بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل أهو هو؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلي يمشيان، حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي، لا أجد لأحدهما مسّا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدري، ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئا كهيئة العلقة، ثم نبذها، فطرحها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة، ثم هزّ إبهام رجلي اليمنى، فقال: أعد وأسلم، فرجعت بها أعدو رقّة على الصغير، ورحمة على الكبير» .
وفي الصحيح عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة- رجل من قومه:
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت بطست من ذهب، فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا» - قال قتادة: قلت: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني- قال: فاستخرج قلبي، فغسل قلبي بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانا وحكمة» .
والخلاصة من حديث شق الصدر: أن جبريل عليه السلام أتى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم في صغره، وشق صدره، وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علما وإيمانا، ووضعه في صدره.(30/295)
وقد طعن بعضهم في هذه الرواية لأن هذه الواقعة حدثت في حال الصغر، وذلك من المعجزات، فلا يجوز أن تتقدم نبوته، ولأن تأثير الغسل في إزالة أوساخ الأجسام، والمعاصي ليست بأجسام، فلا يكون للغسل فيها أثر، ولأنه لا يصح أن يملأ القلب علما، بل اللَّه تعالى يخلق فيه العلوم.
وأجاب الإمام فخر الدين الرازي عن ذلك بأن هذا يسمى الإرهاص، وهو مقدمات النبوة وبشائرها، ومثله في حق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم كثير، ولا يبعد أن يكون غسل الدم الأسود من قلب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم علامة للقلب الذي يميل إلى المعاصي، ويحجم عن الطاعات، فإذا أزالوه كان ذلك كالعلامة على كون صاحبه معصوما، مواظبا على الطاعات، محترزا عن السيئات، وأيضا فلأن اللَّه تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد «1» .
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أي حططنا عنك ما كنت تتصور من وجود ذنوب ومعاص أثقلت كاهلك، وأتعبت نفسك، سواء قبل النبوة أم بعدها مما تفعله خلاف الأولى، وهو لا يتفق مع سمو قدرك، ورفعة منزلتك، وعلو شأنك، كالإذن لبعض المنافقين بالتخلف عن الجهاد في موقعة تبوك، وقبول الفداء من أسرى بدر، والعبوس في وجه الأعمى.
وقيل: المراد حططنا عنك حمل أعباء النبوة والرسالة، فسهلناها عليك، حتى تيسرت لك.
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي جعلنا ذكرك مرفوعا عاليا في الدنيا والآخرة، بالنبوة وختم الرسالات بك، وإنزال القرآن العظيم عليك، وتكليف المؤمنين بالقول بعد «أشهد أن لا إله إلا اللَّه» : «أشهد أن محمدا رسول اللَّه» سواء في
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 2(30/296)
الأذان أم في التشهد أم في الخطبة وغيرها، وأمرهم بالصلاة والسلام عليه، وأمر اللَّه بطاعته، وجعل طاعته طاعة للَّه تعالى.
قال قتادة: رفع اللَّه ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة، إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه.
وروى ابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «أتاني جبريل، فقال: إن ربي وربك يقول: كيف رفعت ذكرك؟ قال: اللَّه أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي» .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «سألت ربي مسألة، وددت أني لم أسأله، قلت: قد كان قبلي أنبياء، منهم من سخّرت له الريح، ومنهم من يحيي الموتى، قال: يا محمد، ألم أجدك يتيما فآويتك؟
قلت: بلى يا ربّ، قال: ألم أجدك ضالّا فهديتك؟ قلت: بلى يا ربّ، قال:
ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أشرح لك صدرك، ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت: بلى يا رب» .
وبعد التذكير بهذه النعم، ذكر اللَّه تعالى أن ذلك جار على وفق سنته، من إيراد اليسر بعد العسر، فقال ردّا على المشركين الذين كانوا يعيرون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالفقر:
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أي إن مع ذلك العسر المذكور سابقا يسرا، وإن مع الضيق فرجا، وقد أكّد تعالى ذلك في الجملة الثانية. وفي هذا بشارة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتسلية له أنه سيبدل حاله من فقر إلى غنى، ومن ضعف إلى عزة وقوة، ومن عداوة قومه إلى محبتهم. والأظهر أن المراد باليسرين: الجنس، ليكون وعدا عاما لجميع المكلفين في كل عصر، ويشمل يسر الدنيا ويسر الآخرة، ويسر العاجل والآجل.(30/297)
قال الفراء والزجاج: العسر مذكور بالألف واللام، وليس هناك معهود سابق، فينصرف إلى الحقيقة، فيكون المراد بالعسر في اللفظين شيئا واحدا. وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير، فكان أحدهما غير الآخر.
يؤيد ذلك
ما رواه الحاكم عن ابن مسعود مرفوعا: «لو كان العسر في حجر، لتبعه اليسر حتى يدخل فيه، فيخرجه، ولن يغلب عسر يسرين، إن اللَّه يقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» .
ثم أمره ربه بمهام تتناسب مع مقامه ومع شكر هذه النعم السابقة واللاحقة من اليسر والظفر، فقال:
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي إذا فرغت من تبليغ الدعوة، أو من الجهاد، أو مشاغل الدنيا وعلاقاتها، فأتعب نفسك في العبادة، واجتهد في الدعاء، واطلب من اللَّه حاجتك، وأخلص لربّك النيّة والرغبة. وهذا دليل على طلب الاستمرار في العمل الصالح والخير والمثابرة على الطاعة لأن استغلال الوقت مطلوب شرعا، وإن اللَّه يكره العبد البطال.
وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ أي أقبل على اللَّه، واجعل رغبتك إلى اللَّه وحده، وتضرع إليه راهبا من النار، راغبا في الجنة، ولا تطلب ثواب عملك إلا من اللَّه، فإنه الجدير بالتوجه والتضرع إليه، وبالتوكل عليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- هذه باقة أخرى من نعم اللَّه على نبيه المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، بالإضافة لما ذكر في سورة الضحى السابقة، وهي:(30/298)
أولا- شرح الصدر، أي جعله فسيحا رحيبا، قويا عظيما لتحمل أعباء النبوة والرسالة.
وثانيا- حطّ الذنوب والمعاصي التي تعد ثقيلة وكبيرة بالنسبة لقدره ومنزلته، وإلا فهي ليست ذنوبا على الحقيقة لأن الأنبياء معصومون منها، ولم يسجد لصنم أو وثن قط، ولم يصدر عنه كفر أصلا قبل النبوة. وهذا يستدعي كمال عقله وروحه، وتبرئته من الوزر الذي ينشأ عن النفس والهوى، وهو معصوم منهما.
وثالثا- رفع ذكره وإعلاء شأنه ومقامه في الدنيا والآخرة وتنزيه مقامه عن كل وصم، قال ابن عباس: يقول له: لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان، والإقامة، والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم عرفة، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطب النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها.
ولو أن رجلا عبد اللَّه جلّ ثناؤه، وصدّق بالجنة والنار وكل شيء، ولم يشهد أن محمدا رسول اللَّه، لم ينتفع بشيء، وكان كافرا «1» .
2- جعل اللَّه تيسيرا ورحمة على العباد يسرين مع كل عسر، قال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرّفا، ثم كرروه، فهو هو، وإذا نكّروه فهو غيره، وهما اثنان، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر.
3- الحثّ على المواظبة على العمل الصالح واستدامته، وعلى عمل الخير والإقبال على فعله، فعلى العاقل ألا يضيع أوقاته في الكسل والدعة، ويحرص بكل قواه على تحصيل ما ينفعه في الدارين.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 106- 107(30/299)
4- التوكل على اللَّه وحده، والرغبة إليه والتضرع لوجهه الكريم، فإنه أهل التوجه والضراعة، ولا يطلب ثواب العمل الصالح إلا منه سبحانه.
قال ابن العربي: روي عن شريح أنه مرّ بقوم يلعبون يوم عيد، فقال:
ما بهذا أمر الشارع. وفيه نظر فإن الحبش كانوا يلعبون بالدّرق والحراب في المسجد يوم العيد، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظر. ودخل أبو بكر بيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على عائشة وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنّيان، فقال أبو بكر: أمزمارة الشيطان في بيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فقال: دعهما يا أبا بكر، فإنه يوم عيد.
وليس يلزم الدّؤوب على العمل، بل هو مكروه للخلق «1» .
__________
(1) أحكام القرآن: 4/ 1938(30/300)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التين
مكيّة، وهي ثماني آيات.
تسميتها:
سميت سورة التين لأن اللَّه تعالى أقسم في مطلعها بالتين والزيتون، لما فيهما من خيرات وبركات، ومنافع: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ...
مناسبتها لما قبلها:
ذكر اللَّه تعالى في السورة المتقدمة حال أكمل الناس خلقا وخلقا، وأنه أفضل العالم، ثم ذكر في هذه السورة حال النوع الإنساني وما ينتهي إليه أمره من التدني ودخول جهنم إن عادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو دخول الجنة إن آمن به وعمل صالحا.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة المكية بيان أمور ثلاثة متعلقة بالإنسان وعقيدته:
1- تكريم النوع الإنساني، حيث خلق اللَّه الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة، سويّ الأعضاء، حسن التركيب: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ.. [1- 4] .
2- بيان انحدار مستوى الإنسان وزجّ نفسه في نيران جهنم بسبب كفره باللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإنكاره البعث والنشور، بالرغم من توافر الأدلة القاطعة(30/301)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
على قدرة اللَّه عزّ وجلّ بخلق الإنسان في أحسن تقويم: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [5] .
واستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [6] .
3- إعلان مبدأ العدل المطلق في ثواب المؤمنين، وتعذيب الكافرين:
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [7- 8] .
فضلها:
أخرج الجماعة في كتبهم ومالك في موطئه عن البراء بن عازب: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بالتين والزيتون، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه.
حال النوع الإنساني خلقا وعملا
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
الإعراب:
وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ الْأَمِينِ: إما من الأمن أي الآمن، كعليم بمعنى عالم، أو بمعنى المؤمّن لقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] كحكيم بمعنى محكم، وسميع بمعنى مسمع.(30/302)
فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أَحْسَنِ: صفة لمحذوف، أي في تقويم أحسن.
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ «ما» : استفهامية في موضع رفع مبتدأ، ويُكَذِّبُكَ:
خبره.
البلاغة:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ إن أريد موضعهما وهما الشام وبيت المقدس، فهو مجاز مرسل علاقته الحالية بإطلاق الحالّ وإرادة المحل، مثل: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار 82/ 13] فالنعيم مجاز، وهو شيء معنوي يحل في الجنة، والجنة محل له، وهو حالّ فيها، فأطلق على سبيل المجاز المرسل الذي علاقته الحالّية.
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وأَسْفَلَ سافِلِينَ بينهما طباق.
فَما يُكَذِّبُكَ؟ التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والعتاب.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ استفهام تقريري.
بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ بينهما جناس اشتقاق.
الْبَلَدِ الْأَمِينِ، أَسْفَلَ سافِلِينَ، بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ سجع مرصّع.
المفردات اللغوية:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ هما الشجرتان المعروفتان، أو الشام وبيت المقدس موضعا إنبات هاتين الشجرتين، أو جبلان بالشام ينبتان المأكولين، قال أبو حيان: والظاهر أن التين والزيتون هما المشهوران بهذا الاسم، وفي الحديث: مدح التين، وأنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس. وقال البيضاوي: خصّهما من بين الثمار بالقسم لأن التين فاكهة طيبة، لا فضل (بقايا) لها، وغذاء لطيف، سريع الهضم، ودواء كثير النفع، فإنه يلين الطبع، ويحلل البلغم، ويطهر الكليتين، ويزيل رمل المثانة، ويفتح سدّة الكبد والطحال. والزيتون فاكهة وإدام ودواء، وله دهن لطيف، كثير المنافع، مع أنه قد ينبت حيث لا دهنية فيه كالجبال.
وَطُورِ سِينِينَ الجبل الذي كلم اللَّه تعالى موسى عنده، وناجى عليه موسى ربّه، وسِينِينَ وسيناء: اسمان للموضع الذي فيه. ومعنى سِينِينَ: المبارك أو الحسن بالأشجار المثمرة. الْبَلَدِ الْأَمِينِ مكة المكرمة التي كرمها اللَّه بالكعبة، والْأَمِينِ: إما الآمن، أو المأمون فيه، يأمن فيه من دخله.
الْإِنْسانَ أراد به الجنس. فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ تعديل لصورته وشكله، بأن خصه(30/303)
بانتصاب القامة وحسن الصورة واستجماع خواص الكائنات، يقال: قوّم الشيء تقويما: جعله على أعدل وجه وأكمل صورة. والتقويم أيضا: معرفة قدر الشيء وقيمته. ثُمَّ رَدَدْناهُ رددنا بعض أفراده وهو الكافر أو بعض الناس. أَسْفَلَ سافِلِينَ أي جعلناه من أهل النار الذين هم أسفل من كل سافل، وقيل: هو كناية عن الهرم والضعف، وأرذل العمر (أي الخرف) فيكون:
إِلَّا الَّذِينَ.. استثناء منقطعا بمعنى لكن. غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع عنهم، جاء في الحديث الذي أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: «إذا كبر العبد وضعف عن العمل، كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته» .
فَما يُكَذِّبُكَ أيها الكافر. بَعْدُ بعد ما ذكر من خلق الإنسان في أحسن صورة، ثم رده إلى أرذل العمر، الدال على القدرة الإلهية على البعث. بِالدِّينِ الجزاء بعد البعث والحساب، أي ما يجعلك مكذبا بالبعث ولا جاعل ولا موجب لهذا التكذيب؟
سبب النزول: نزول الآية (5) :
ثُمَّ رَدَدْناهُ..: أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ قال: هم نفر، ردوا إلى أرذل العمر، على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسئل عنهم حتى سفهت عقولهم، فأنزل اللَّه عذرهم، أن لهم أجرهم الذي عملوا، قبل أن تذهب عقولهم.
التفسير والبيان:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ أي قسما بالتين الذي يأكله الناس، وبالزيتون الذي يعصرون منه الزيت، فالمراد من التين والزيتون هذان الشيئان المشهوران، قال ابن عباس: هو تينكم وزيتونكم هذا.
وهما كناية عن البلاد المقدسة التي اشتهرت بإنبات التين والزيتون. وإنما أقسم بالتين لأنه غذاء وفاكهة ودواء، فهو غذاء لأنه طعام لطيف، سريع الهضم، لا يمكث في المعدة، يلين الطبع، ويقلل البلغم، ويطهر الكليتين،(30/304)
ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمّن البدن، ويفتح مسام الكبد والطحال، وهو خير الفواكه وأحمدها.
وكونه دواء لأنه يتداوى به في إخراج فضول البدن، وفي الحديث الحسن الذي رواه ابن السني وأبو نعيم عن أبي ذر، وضعفه السيوطي: «إنه يقطع البواسير، وينفع من النّقرس» .
وكذلك الزيتون فاكهة وإدام ودواء، يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب لبعض أهل البلاد ودهنهم، ويدخل في كثير من الأدوية، قال تعالى:
يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور 24/ 35] .
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة وهو ضعيف: «كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنه من شجرة مباركة» .
وَطُورِ سِينِينَ هو الجبل الذي كلّم اللَّه عليه موسى بن عمران عليه السلام، وهو طور سيناء.
وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ أي مكة المكرمة التي كرمها اللَّه بالكعبة المشرفة، وبميلاد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإرساله فيه، سمي أمينا لأنه آمن ومأمون فيه، كما قال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] .
أقسم اللَّه سبحانه بهذه المواضع الثلاثة لأنها مهابط وحي اللَّه على أولي العزم من الرسل، ومنها أضاءت الهداية للبشر. وجاء في آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء اللَّه من طور سيناء- يعني الذي كلم اللَّه عليه موسى بن عمران- وأشرق من ساعير- يعني جبل بيت المقدس الذي بعث اللَّه منه عيسى- واستعلن من جبال فاران- يعني جبال مكة التي أرسل اللَّه منها محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما.
ثم ذكر جواب القسم المحلوف عليه، فقال:(30/305)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أي أقسم بالأشياء الثلاثة المذكورة على أننا خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأجمل شكل، منتصب القامة، سويّ الأعضاء، حسن التركيب، يأكل بيده، يتميز بالعلم والفكر والكلام والتدبير والحكمة، فصلح بذلك أن يكون خليفة مستخلفا في الأرض كما أراد اللَّه له.
والخلاصة: خلقناه في أحسن تعديل شكلا وانتصابا، كما قال أكثر المفسرين.
ذكر القرطبي القصة التالية التي توضح حسن تقويم الإنسان، فقال:
كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبّا شديدا، فقال لها يوما:
أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني! وبات بليلة عظيمة، فلما أصبح، غدا إلى دار المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعا عظيما، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم، فقال جميع من حضر: قد طلّقت إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة، فإنه كان ساكتا.
فقال له المنصور: مالك لا تتكلم؟ فقال له الرجل: بسم اللَّه الرحمن الرحيم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه.
فقال المنصور لعيسى بن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل: أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقك.
ثم عقب القرطبي على هذا قائلا: فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق اللَّه باطنا وظاهرا، جمال هيئة، وبديع تركيب: الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتاه،(30/306)
والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه «1» .
لكنه غفل عن هذه المقومات، وأهمل هذه الميزات، وأخذ يعمل بهواه وشهواته، لذا قال تعالى:
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ قيل: إلى النار التي هي أسفل الدرجات إن لم يطع اللَّه ويتبع الرسل، والأولى أن يقال: رددناه إلى أرذل العمر، وهو الهرم والضعف، والخرف ونقص العقل، بعد الشباب والقوة، وجمال النطق، وسلامة الفكر.
والقول الأول، أي إلى النار بسبب كفر بعض الناس هو قول الحسن ومجاهد وأبي العالية وابن زيد وقتادة، وعلى هذا يكون الاستثناء الآتي: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. استثناء متصلا.
والقول الثاني، أي إلى أرذل العمر هو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك والنخعي، وعلى هذا يكون الاستثناء التالي منقطعا. وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا، بل في الجنس من يعتريه ذلك. واختار ذلك ابن جرير.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي إلا الذين آمنوا باللَّه ورسله واليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال من أداء الفرائض والطاعات، فلهم ثواب على طاعاتهم دائم غير منقطع.
والمعنى كما أشرنا على التفسير الأول وكون الاستثناء متصلا: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بأن جمعوا بين الإيمان والعمل في حال الاستطاعة، فلهم ثواب جزيل، ينجون به من النار أسفل السافلين، وهو الجنة دار المتقين.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 114(30/307)
والمعنى على التفسير الثاني وكون الاستثناء منقطعا وهو الراجح لدينا: لكن المؤمنين المتقين، فإن اللَّه يكافئهم بثواب دائم غير منقطع، بسبب صبرهم على ما ابتلوا به من الشيخوخة والهرم والمواظبة على الطاعات بقدر الإمكان، مع ضعف البنية، وفتور الأعضاء، أي أنهم قد يردون إلى أرذل العمر كغيرهم، لكن لهم أجرا كبيرا دائما على أفعالهم.
قال الألوسي: المتبادر من السياق الإشارة إلى حال الكافر يوم القيامة، وأنه يكون على أقبح صورة وأبشعها، بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها لعدم شكره تلك النعمة وعمله بموجبها «1» .
أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إذا مرض العبد أو سافر، كتب اللَّه تعالى له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحا مقيما» .
وفي رواية عنه: ثم قرأ صلّى اللَّه عليه وسلّم: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ.
وأخرج الطبراني عن شدّاد بن أوس قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن اللَّه تبارك وتعالى يقول: «إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا، فحمدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الربّ عزّ وجلّ: إني أنا قيّدت عبدي هذا، وابتليته، فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك»
وهو حديث صحيح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: إذا كبر العبد، وضعف عن العمل، كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته.
ورأى بعضهم أن الاستثناء متصل حتى على القول الثاني، فلا يردّ المؤمن المتقي إلى أرذل العمر، بدليل ما أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان
__________
(1) تفسير الألوسي: 30/ 476(30/308)
عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر، وذلك قوله تعالى:
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا قال: إلا الذين قرءوا القرآن.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير نحوه، فقال: من جمع القرآن لم يرد إلى أرذل العمر.
ثم وبّخ الكفار على التكذيب بالجزاء بعد البعث، فقال:
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ؟ المراد: فأي شيء يلجئك بعد هذه البيانات والأدلة على قدرة اللَّه إلى أن تكون كاذبا، بسبب تكذيب الجزاء لأن كل مكذّب بالحق فهو كاذب؟ فإذا عرفت أيها الإنسان أن اللَّه خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردّك بسبب الكفر أسفل سافلين، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ لقد علمت البدأة، وعرفت أن من قدر على البدأة، فهو قادر على الرجعة بطريق أولى، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد، وقد عرفت هذا؟
ثم أكّد ما سبق بقوله:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي أما هو أحكم الحاكمين قضاء وعدلا، الذي لا يجور ولا يظلم، ومن عدله أن يقيم القيامة، فينتصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه؟! أخرج الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا: «فإذا قرأ أحدكم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فأتى على آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين» .(30/309)
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- أقسم اللَّه تعالى بمواضع ثلاثة مقدسة: هي أماكن نبات التين والزيتون، التي هي مقام الأنبياء ومهبط الوحي، وطور سيناء الذي كلم اللَّه عليه موسى، ومكة البلد الحرام الآمن على أنه خلق جنس الإنسان في أحسن تقويم وهو اعتداله واستواء شبابه. ثم يرد بعض النوع الإنساني أسفل سافلين، أي إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، حتى يصير كالصبي في طوره الأول من أطوار الحياة.
قال ابن العربي: ولامتنان الباري سبحانه، وتعظيم النعمة أو المنة في التين، وأنه مقتات مدخر، فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه «1» .
2- استثنى اللَّه تعالى الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، فإنه تكتب لهم حسناتهم، وتمحى عنهم سيئاتهم، وهم الذين أدركهم الكبر، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم.
3- وبّخ اللَّه الكافر وألزمه الحجة بكفره بالجزاء بعد البعث بقوله فيما معناه: إذا عرفت أيها الإنسان أن اللَّه خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردّك إلى أرذل العمر، وينقلك من حال إلى حال، فما يحملك على أن تكذّب بالبعث والجزاء، وقد أخبرك محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم به؟
4- أليس اللَّه أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق، وأنه أحكم الحاكمين قضاء بالحق وعدلا بين الخلق؟! وفي هذا تقدير لمن اعترف من الكفار بالصانع القديم وهو اللَّه تعالى. وهو وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله.
__________
(1) أحكام القرآن: 4/ 1939(30/310)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العلق
مكيّة، وهي تسع عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة العلق، وسورة اقرأ، أو بِالْقَلَمِ لأن اللَّه سبحانه افتتحها بقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. والعلق: الدم المتجمد على شكل الدودة الصغيرة.
مناسبتها لما قبلها:
ذكر اللَّه تعالى في سورة التين أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهذا بيان للصورة، وذكر هنا أنه: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وهذا بيان للمادة.
وذكر تعالى في هذه السورة من أحوال الآخرة بيانا توضيحيا لما ذكر في السورة السالفة.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المكية أول شيء نزل من القرآن على قلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبيان الأمور الثلاثة التالية:
1- بيان حكمة اللَّه في خلق الإنسان من ضعف إلى قوة، والإشادة بما زوّده وأمره به من فضيلة القراءة اقرأ والكتابة عَلَّمَ بِالْقَلَمِ لتمييزه على غيره من المخلوقات: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.. [الآيات: 1- 5] .(30/311)
2- الإخبار عن مدى طغيان الإنسان وتمرده على أوامر اللَّه، وجحوده نعم اللَّه عليه وغفلته عنها رغم كثرتها في حال توافر الثورة والمال والغنى لديه، فقابل النعمة بالنقمة، وكان الواجب عليه أن يشكر ربّه على فضله، فجحد النعمة وتجبّر واستكبر: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى.. [الآيات: 6- 8] .
3- افتضاح شأن فرعون هذه الأمة أبي جهل الذي كان ينهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الصلاة، انتصارا للأوثان والأصنام، وتوعده بأشد العقاب إن استمر على ضلاله وكفره وطغيانه، وتنبيه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى عدم الالتفات لما كان يوعده به ويتهدده: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ... إلى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [الآيات: 9- 19] .
كيفية نزول هذه السورة- حديث بدء نزول الوحي:
نزل صدر هذه السورة أول ما نزل من القرآن الكريم، أما بقية السورة فهو متأخر النزول، بعد انتشار دعوته صلّى اللَّه عليه وسلّم بين قريش، وتحرشهم به وإيذائهم له.
أخرج الإمام أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء، فيتحنّث فيه- وهو التعبّد- الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى فجأه الوحي، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقْرَأْ.
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فقلت: ما أنا بقارئ» قال: فأخذني فغطّني- ضمّني- حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطّني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطّني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني.(30/312)
فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ، وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.
قال: فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة، فقال: زمّلوني زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع، فقال: يا خديجة، ما لي؟ وأخبرها الخبر، وقال: قد خشيت على نفسي، فقالت له:
كلا، أبشر، فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتصدّق الحديث، وتحمل الكلّ- الضعيف العاجز- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء اللَّه أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة.
ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعا «1» ، ليتني أكون حيّا حين يخرجك قومك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أو مخرجيّ هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا. ثم لم ينشب «2» ورقة أن توفي، وفتر الوحي، حتى حزن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما بلغنا حزنا، غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه، تبدّى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول اللَّه حقا، فيسكن بذلك جأشه، وتقرّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك. فإذا أوفى بذروة الجبل، تبدّى له جبريل، فقال له مثل ذلك.
__________
(1) الجذع: الشاب القوي الجلد.
(2) لم ينشب: لم يلبث.(30/313)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
الحكمة في خلق الإنسان وتعليمه القراءة والكتابة
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8)
الإعراب:
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير اقْرَأْ.
عَلَّمَ بدل اشتمال من عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية والخفية.
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أَنْ رَآهُ: في موضع نصب على أنه مفعول لأجله، أي لأن رآه، وأصله «رأيه» فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. ورأى: يتعدى إلى فعلين لأنه من رؤية القلب، فالمفعول الأول: الهاء، والثاني: اسْتَغْنى.
وقرئ «رأه» بهمزة من غير ألف بعدها، على أساس حذف لام الفعل مثل حاشَ لِلَّهِ أو لأن مضارعه «يرى» وقد حذفت عينه بعد نقل حركتها إلى ما قبلها، أو حذفت لسكونها وسكون السين في اسْتَغْنى.
البلاغة:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ سجع مرصّع.
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ واقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ إطناب بتكرار الفعل، لمزيد الاهتمام بشأن القراءة والعلم.
خَلَقَ وعَلَقٍ بينهما جناس ناقص.
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ بينهما طباق السلب.
إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
التفات من الغيبة إلى الخطاب، تهديدا وتحذيرا من عاقبة الطغيان.(30/314)
المفردات اللغوية:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ابتدئ قراءة القرآن مفتتحا باسم ربّك، أو مستعينا به. الَّذِي خَلَقَ الذي خلق كل شيء. خَلَقَ الْإِنْسانَ جنس الإنسان. مِنْ عَلَقٍ جمع علقة: وهي قطعة دم يسيرة جامدة، فإذا جرى الدم فهو المسفوح. اقْرَأْ تأكيد للأول. وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الذي لا يوازيه كريم، الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم بلا غرض. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ علّم الخط والكتابة بالقلم، وأول من خط به إدريس عليه السّلام. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ علم جنس الإنسان بخلق القوى، وإقامة الدلائل، وإنزال الآيات، وبتعليمه الأشياء من غير معلّم كالكتابة والصناعة وغيرها. والمقصود: أنه يعلمك القراءة وإن لم تكن قارئا. وقال: مِنْ عَلَقٍ بلفظ الجمع لأنه أراد بالإنسان الجمع، وكل الناس خلقوا من علق بعد النطفة. والعلقة:
قطعة من دم رطب، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه، فإذا جفّت لم تكن علقة.
وقد أبان في هذه الآيات مبدأ خلق الإنسان الذي يدلّ على الأوصاف الإلهية وأهمها بيان وجوده وقدرته تعالى، ثم أشار إلى إثبات العلوم السمعية الموقوفة على النقل والكتابة، ثم إثبات النبوة.
كَلَّا أي حقا عند بعض المفسرين لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يتوجه إليه الردع، وقال الزمخشري: إنه ردع لمن كفر بنعمة اللَّه عليه وطغى، وهذا معلوم من سياق الكلام، وإن لم يذكر. إِنَّ الْإِنْسانَ أي: فرد من النوع الإنساني. لَيَطْغى يتكبر ويتجاوز الحدّ في العصيان. أَنْ رَآهُ لأن رأى نفسه. اسْتَغْنى اغتنى بالمال وغيره، أي صار ذا مال وأعوان يغني بهما، والآية نزلت في أبي جهل، كما سأبيّن. إِنَّ إِلى رَبِّكَ
يا إنسان. الرُّجْعى
الرجوع، والرجعى والمرجع والرجوع: مصادر، أي المصير والعودة، والمراد تخويف الإنسان، فإن اللَّه يجازي الطاغي بما يستحقه.
سبب النزول: نزول الآية (6) :
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ..: أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل:
نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل لأطأنّ على رقبته، ولأعفرنّ وجهه في التراب، فأنزل اللَّه: كَلَّا، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى الآيات.(30/315)
ثم إنه رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة، فنكص على عقبيه، فقالوا له:
مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا شديدا.
التفسير والبيان:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أي اقرأ مبتدئا باسم ربّك، أو مستعينا باسم ربّك، الذي أوجد وخلق كل شيء. وقد وصف اللَّه لنا نفسه بأنه الخالق للتذكير بأول النعم وأعظمها. والمراد: الأمر من اللَّه لنبيّه بأن يصير قارئا، بقدرة اللَّه الذي خلقه وإرادته، وإن لم يكن من قبل قارئا ولا كاتبا، فمن خلق الكون قادر على أن يوجد فيه القراءة، وإن لم يتعلمها سابقا.
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أوجد بني آدم من قطعة دم جامد وهي العلقة، التي هي طور من أطوار خلق الجنين، فإنه يبدأ نطفة، ثم يتحول بقدرة اللَّه إلى علقة: وهي كأنها قطعة من الدم الجامد، ثم يكون مضغة: وهي كأنها قطعة لحم، ثم يظهر فيها بقية التخليق من عظام، فلحم، فإنسان كامل الخلقة.
ويلاحظ أنه تعالى أطلق الخلق أولا ليتناول كل المخلوقات، ثم خصّ الإنسان بالذّكر لشرفه، أو لعجيب فطرته، أو لأن الآية سيقت من أجله.
وإنما قال: باسم ربّك، ولم يقل: باسم اللَّه كما في التسمية المعروفة:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لأن الربّ: من صفات الفعل، واللَّه: من أسماء الذات، وبما أنه أمره بالعبادة، وصفات الذات لا تستوجب شيئا، وإنما يستوجب العبادة صفات الفعل، فكان ذلك أبلغ في الحثّ على الطاعة، والخلاصة: إنه لم يأت بلفظ الجلالة، لما في لفظ الرّب من معنى الذي ربّاك، ونظر في مصلحتك، وجاء الخطاب ليدل على التأنيس والاختصاص، أي ليس لك ربّ غيره.
وإنما أضاف ذاته إلى رسوله، فقال: بِاسْمِ رَبِّكَ للدلالة على أنه له،(30/316)
تصل إليه منفعته، أما طاعة العبد فلا تحقق منفعة للَّه، فإذا أتى بما طلبه منه من طاعة أو توبة، أضافه إلى نفسه بوصف العبودية، فقال: أَسْرى بِعَبْدِهِ [/ الإسراء 17/ 1] .
وإنما ذكر قوله الَّذِي خَلَقَ بعد قوله: رَبِّكَ للاستدلال على أنه ربّه، وهو الذي أوجده، فصار موجودا بعد أن كان معدوما، والخلق والإيجاد تربية، وكذلك جاء بصفة الخالق، أي المنشئ للعالم، للإتيان بصفة لا يمكن للأصنام شركة فيها، فيكون ردّا على العرب التي كانت تسمي الأصنام أربابا.
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ أي افعل ما أمرت به من القراءة، وربّك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم من كل كريم، ومن كرمه: تمكينك من القراءة وأنت أمّي. وإنما كرر كلمة اقْرَأْ للتأكيد، ولأن القراءة لا تتحقق إلا بالتكرار والإعادة. وقوله: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ لإزاحة المانع، وإزالة العذر الذي اعتذر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لجبريل حين طلب منه بقوله: اقْرَأْ، فقال: ما أنا بقارئ.
والأوجه: أن يراد بقوله الأول: اقْرَأْ: أوجد القراءة، وبالثاني:
استعن باسم ربّك.
ثم قرن القراءة بالكتابة، فقال:
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم الإنسان الكتابة بالقلم، فهو نعمة عظيمة من اللَّه عزّ وجلّ، وواسطة للتفاهم بين الناس كالتعبير باللسان ولولا الكتابة لزالت العلوم، ولم يبق أثر لدين، ولم يصلح عيش، ولم يستقر نظام، فالكتابة قيد العلوم والمعارف، ووسيلة ضبط أخبار الأولين ومقالاتهم، وأداة انتقال العلوم بين الأمم والشعوب، فتبقى المعلومات، ثم يبنى عليها ويزاد إلى ما شاء اللَّه، فتنمو(30/317)
الحضارات، وتسمو الأفكار، وتحفظ الأديان، وتنشر الهداية.
وجاء في الأثر: «قيدوا العلم بالكتابة» «1» .
لهذا بدأت دعوة الإسلام بالترغيب في القراءة والكتابة، وبيان أنها من آيات اللَّه في خلقه، ومن رحمته بهم، وكانت معجزة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الخالدة، وهو العربي الأميّ، قرآنا يتلى، وكتابا يكتب، وأنه بذلك نقل أمته من حال الأميّة والجهل إلى أفق النور والعلم، كما قال تعالى ممتنا بذلك: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة 62/ 2] .
ثم أبان عموم فضله وكثرة نعمه، فقال:
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ أي علّم اللَّه الإنسان بالقلم كثيرا من الأمور ما لم يعلم بها، فلا عجب أن يعلمك اللَّه أيها النبي القراءة، وكثيرا من العلوم، لنفع أمتك.
ورد في الأثر: «من عمل بما علم، ورّثه اللَّه علم ما لم يكن يعلم» «2» .
ثم ردع الإنسان على طغيانه حال الغنى، فقال:
كَلَّا، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أي ارتدع وانزجر أيها الإنسان، عن كفرك بنعمة اللَّه عليك، وتجاوزك الحدّ في العصيان، لأن رأيت نفسك مستغنيا بالمال والقوة والأعوان.
وقيل: المراد بالآية: حقا إن أمر الإنسان عجيب، يستذل ويضعف حال الفقر، ويطغى ويتجاوز الحدّ في المعاصي ويتكبّر ويتمرد حتى أحسّ بنفسه القدرة والثروة. وأكثر المفسرين على أن المراد بالإنسان هنا أبو جهل وأمثاله.
__________
(1) أخرجه الطبراني والحاكم عن عبد اللَّه بن عمرو، وهو صحيح.
(2) تفسير ابن كثير: 4/ 528(30/318)
ثم أنذر بالعقاب في الآخرة، فقال:
إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
أي إن الرجوع والمصير إلى اللَّه وحده، لا إلى غيره، فهو الذي يحاسب كل إنسان على ماله من أين جمعه، وأين صرفه.
ويلاحظ أن هذا الكلام جاء على طريقة الالتفات إلى خطاب الإنسان، تهديدا له، وتحذيرا من عاقبة الطغيان.
روى ابن أبي حاتم عن عبد اللَّه بن مسعود: منهومان لا يشبعان: صاحب العلم، وصاحب الدنيا، ولا يستويان، فأما صاحب العلم فيزداد رضا الرحمن، وأما صاحب الدنيا، فيتمادى في الطغيان، ثم قرأ عبد اللَّه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى وقال للآخر: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ
وقد روي هذا مرفوعا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- بيان قدرة اللَّه تعالى بالخلق، فهو الخالق، والتنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة: قطعة دم جامد رطب غير جاف. وهذه الآيات الكريمات أول شيء نزل من القرآن، وهن أول رحمة من اللَّه لعباده وأول نعمة أنعم اللَّه بها عليهم.
2- أمر اللَّه سبحانه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يقرأ القرآن باسم ربّه الذي خلق، واسم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم.
3- أمر اللَّه تعالى أيضا بتعلم القراءة والكتابة لأنهما أداة معرفة علوم الدين والوحي، وإثبات العلوم السمعية ونقلها بين الناس، وأساس تقدم العلوم والمعارف والآداب والثقافات، ونمو الحضارة والمدنية.(30/319)
4- من كرم اللَّه تعالى وفضله: أن الإنسان ما لم يكن يعلمه، لينقله من ظلمة الجهل إلى نور العلم، فقد شرّفه وكرّمه بالعلم، وبه امتاز أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم إما بالفكر والذهن، وإما باللسان، وإما بالكتابة بالبنان. قال قتادة: القلم نعمة من اللَّه تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش.
وفضائل الكتابة والخط كثيرة، فحيث منّ اللَّه على الإنسان بالخط والتعليم، مدح ذاته بالأكرمية، فقال: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم الإنسان بواسطة القلم، أو علّمه الكتابة بالقلم.
مع أنه سبحانه حين عدد على الإنسان نعمة الخلق والتسوية وتعديل الأعضاء الظاهرة والباطنة، وصف نفسه بالكرم قائلا: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ، ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ، فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار 82/ 6- 7] .
جاء في الحديث الصحيح: «أول ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فهو عنده في الذّكر فوق عرشه» «1» .
وكانت أمّية الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم تعليمه من اللَّه أثبت لمعجزته بين العرب الأميين، وأقوى في حجته.
5- أخبر اللَّه تعالى عن طبع ذميم في الإنسان وهو أنه ذو فرح وأشر، وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى، وكثر ماله.
لذا هدده اللَّه وتوعده ووعظه ليضبط طغيانه ويوقف تهوره بإخباره بأنه إلى اللَّه المصير والمرجع، وسيحاسب كل إنسان على ماله، من أين جمعه، وفيم صرفه وأنفقه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 121(30/320)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
وأصل نزول الآية في أبي جهل عند أكثر المفسرين، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون، أتاه أبو جهل فقال: يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهبا، لعلنا نأخذ منها، فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. فأتاه جبريل عليه السّلام فقال:
«يا محمد خيّرهم في ذلك، فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوه، فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة» . فعلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن القوم لا يقبلون ذلك فكفّ عنهم إبقاء عليهم «1» .
6- أول السورة يدل على مدح العلم، وآخرها يدل على مذمة المال، وكفى بذلك مرغبا في الدين، ومنفرا عن الدنيا والمال «2» .
صور أخرى من الطغيان وتهديد الطغاة ووعيدهم
[سورة العلق (96) : الآيات 9 الى 19]
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)
كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
الإعراب:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى أَرَأَيْتَ: يقرأ بالهمز على الأصل، وبالتخفيف بجعل الهمزة بين الهمزة والألف لأن حركة الهمزة فتحة، وتخفيف الهمزة: أن تجعل بين الهمزة والحرف الذي
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 123
(2) تفسير الرازي: 32/ 9(30/321)
حركتها منه. وتقرأ بالإبدال: بجعل الهمزة ألفا تشبيها لها بما إذا كانت ساكنة، مفتوحا ما قبلها، وليس لقياس. والَّذِي يَنْهى: مفعول أول لأرأيت الأول وأ رأيت الثاني مكرر للتأكيد ولطول الكلام. وقوله: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى مع ما عطف عليه مفعول ثان له. وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب الشرط الثاني وهو قوله: أَلَمْ يَعْلَمْ. ويجوز أن يكون أَرَأَيْتَ الثالث أيضا مكررا. وجواب الشرط بالحقيقة هو ما تدل عليه هذه الجملة الاستفهامية وهي: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى كأنه قيل: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أو كذب وتولى، فإن اللَّه مجازيه.
لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ نون نسفعن نون التوكيد الخفيفة، وتكتب بالألف عند البصريين كالتنوين، وبالنون عند الكوفيين، وهي مكتوبة في المصحف بالألف، كمذهب البصريين، مثل: وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف 12/ 32] وليس في القرآن لهما نظير. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ: بدل من الناصية، وهذا بدل النكرة من المعرفة.
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي أهل مجلسه، أهل ناديه، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
البلاغة:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً؟ كناية، كنى بالعبد عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يقل: ينهاك تفخيما لشأنه وتعظيما لقدره. وأَ رَأَيْتَ استفهام للإنكار والتعجب، وهي بمعنى أخبرني.
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى؟ استفهام للتعجيب من حال الناهي الذي ينهى.
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ مجاز عقلي، أسند الكذب والخطأ إلى الناصية مجازا، والمراد صاحبها لأنه السبب.
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ مجاز مرسل علاقته المحلية، أي أهل ناديه، بإطلاق المحل وإرادة الحال.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتَ؟ أي أخبرني، وهي في المواضع الثلاثة للتعجب، والمراد من الاستخبار: إنكار الحال المستخبر عنها وتقبيحها، مثل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟ [الماعون 107/ 1] .
الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى الناهي: هو أبو جهل، والعبد: هو النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. والمعنى: أخبرني عمن ينهى بعض عباد اللَّه عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة اللَّه، أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن؟!(30/322)
وقيل: أرأيت إن كان المنهي على الهدى أو أمر بالتقوى؟ وأو: للتقسيم. أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ الناهي النبيّ؟ وَتَوَلَّى عن الإيمان. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى؟ أي ألم يدر بأن اللَّه يرى ويشاهد ما يصدر منه، فيجازيه عليه؟ أي أعجب منه يا مخاطب من حيث نهيه عن الصلاة، ومن حيث إن المنهي عن الهدى آمر بالتقوى، ومن حيث إن الناهي مكذب متول عن الإيمان؟! والخطاب في قوله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على وجه التعجب.
وفيه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول: «اللهم أعزّ الإسلام بعمر، أو بأبي جهل بن هشام»
وكأنه تعالى قال له: يا محمد كنت تظن أنه يعزّ به الإسلام، وهو ينهى عن الصلاة التي هي أول أركان الإسلام. وكان يلقب بأبي الحكم، فقيل له: كيف يليق به هذا اللقب، وهو ينهى العبد عن خدمة ربه، ويأمره بعبادة الجماد؟! وجواب شرط: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى محذوف تقديره: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى، ألم يعلم بأن اللَّه يرى، أي فإن اللَّه مجازيه.
كَلَّا ردع للناهي. لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عما هو فيه أو عليه من الكفر، واللام: لام القسم. لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ لنأخذن بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار. والسفع: الجذب بشدة، والناصية: شعر الجبهة، والمراد بذلك: القهر والإذلال بأنواع العذاب. كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ وصفها بالكذب والخطأ، والمراد صاحبها، بالإسناد المجازي للمبالغة. نادِيَهُ أي أهل ناديه، والنادي:
المجلس أو مكان اجتماع القوم للتحدث فيه، ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله.
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ليجروه إلى النار، والزَّبانِيَةَ الملائكة الغلاظ الشداد جمع زبنية وزبني، قال ابن عباس فيما ذكره أحمد: «لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا» . كَلَّا ردع للناهي أيضا. لا تُطِعْهُ يا محمد في ترك الصلاة، واثبت أنت على طاعتك. وَاسْجُدْ ودم على سجودك، وصل للَّه. وَاقْتَرِبْ تقرب إلى ربك بطاعته.
سبب النزول:
نزول الآية (9) :
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه، فأنزل اللَّه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى إلى قوله: كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ.(30/323)
نزول الآية (17) :
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ:
أخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلّي، فجاءه أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فزجره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل اللَّه: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ
وهو حسن صحيح كما قال الترمذي.
المناسبة:
بعد أن أبان سبحانه في مطلع السورة مظاهر القدرة الإلهية، وعدد نعمه ومننه العظمى على الإنسان بتعليمه القراءة والكتابة وما لم يعلم، ذكر السبب الحقيقي لكفر الإنسان وطغيانه وبغيه وهو حب الدنيا والثورة والاغترار بها، مما شغله عن النظر في آيات اللَّه وشكر نعمه.
ثم ذكر صورا أخرى من طغيان الإنسان وهي النهي عن الصلاة والعبادة، وهل يأمر بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان؟ وتكذيبه بالحق والتولي عن الدين والإيمان.
وناسب بعد هذا تهديده ووعيده بالعقاب الشديد والنكال الأليم يوم العرض والحساب، من غير أن يجد نصيرا ينصره أو معينا يمنعه من العذاب.
وختمت السورة بأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعدم طاعة هذا الطاغية، والإقبال على عبادة ربه، والتقرب إليه بالطاعة.
التفسير والبيان:
أخبر اللَّه تعالى عن حالات قبيحة جدا من أحوال الطغاة وهي:
1- أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى، عَبْداً إِذا صَلَّى؟ أي أخبرني عن حال هذا الطاغية المغرور وهو أبو جهل وأمثاله، كيف يجرأ على أن ينهى عبدا هو محمد(30/324)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأتباعه عن أداء الصلاة والعبادة للَّه رب العالمين، ويريد طاعته في عبادة الأوثان، وترك عبادة الخالق الرزاق؟ وتنكير كلمة عَبْداً يدل على كونه كاملا في العبودية. والمراد بالآية: ما أجهل من ينهى أشد الخلق عبودية عن الصلاة، وذلك مذموم عند العقلاء.
روي أن عليا رضي اللَّه عنه رأى في المصلّى أقواما يصلون قبل صلاة العيد، فقال: ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يفعل ذلك، فقيل له: ألا تنهاهم؟ فقال:
أخشى أن أدخل تحت قوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى فلم يصرح بالنهي عن الصلاة.
وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حين قال أبو يوسف: أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع: اللهم اغفر لي؟ فقال:
يقول: ربنا لك الحمد، ويسجد، ولم يصرح بالنهي عن الدعاء «1» .
2- أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى؟ أي أخبرني أيضا عن حال هذا الطاغية الناهي، إن كان على طريق سديد فيما ينهى عنه من عبادة اللَّه تعالى، أو هل هو آمر بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان، كما يعتقد؟
والأكثرون على أن الخطاب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أيضا، ليكون الكلام على نسق واحد. وقيل: الخطاب للكافر، والمعنى: أرأيت يا كافر إن كانت صلاة هذا العبد المنهي هدى، ودعاؤه إلى الدين أمرا بالتقوى، أتنهاه مع ذلك؟
والتقوى: الإخلاص والتوحيد والعمل الصالح الذي تتقى به النار. ويتصور هذا كأن الظالم والمظلوم حضرا عند الحاكم، أحدهما المدعي، والآخر المدعى عليه، ثم خاطب هذا مرة، أي في الكلام الأول: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى وهذا مرة أي في الكلام الثاني: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى ...
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 21، غرائب القرآن: 30/ 136 [.....](30/325)
3- أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي أخبرني يا محمد عن حال هذا الكافر أبي جهل إن كذب بدلائل التوحيد الظاهرة، ومظاهر القدرة الباهرة، وبما جاء به رسول اللَّه، وأعرض عن الإيمان بدعوتك؟ والجواب فيما دل عليه ما يأتي: ألم يعلم بعقله أن اللَّه يرى منه هذه الأعمال القبيحة، وأنه سيجازيه ويحاسبه على جرائمه؟
وهذا على رأي الأكثرين في أن الخطاب في أَرَأَيْتَ في المواضع الثلاثة للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. فإن كان الخطاب للكافر فالمراد بالآية الثالثة: إن كان محمد كاذبا أو متوليا عن الحق، ألا يعلم أن خالقه يراه حتى ينتهي، فلا يحتاج إلى نهيك؟
قال العلماء: هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل، إلا أن كل من ينهى عن طاعة اللَّه فهو شريك في وعيد أبي جهل.
ثم جاء الزجر والتهديد والوعيد بصيغ مختلفة مبالغ فيها، وبعضها أشد من بعض:
1- أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى أي أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن اللَّه يراه ويسمع كلامه ويطلع على أحواله، وسيجازيه بها أتم الجزاء، فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه؟! 2- كَلَّا، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ أي ليرتدع وينزجر هذا الناهي عن البرّ والعبادة للَّه تعالى، فواللَّه لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر عن الشقاق والعناد، لنأخذن بناصيته، ولنجرّنه إلى النار.
والناصية: شعر مقدم الرأس، وصاحبها كاذب خاطئ مستهتر بفعل الخطايا والذنوب.
وفي هذا توعد شديد، وتهديد أكيد عن طغيان هذا الطاغية.(30/326)
3- فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ أي فليدع هذا الناهي أهل ناديه أي قومه وعشيرته، ليستنصر بهم ويعينوه، والنادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم أو الأهل والعشيرة، فإنه إن دعاهم لنصرته، تعرض لسخط ربه وعقابه الأشد، وسندعو له حينئذ الزبانية، أي الملائكة الغلاظ الشداد، ليأخذوه ويلقوه في نار جهنم. وفي هذا تحدّ بالغ.
روي أن أبا جهل قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا؟! فنزلت، كما تقدم.
وروى البخاري والترمذي والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: «لئن فعل لأخذته الملائكة» .
4- كَلَّا، لا تُطِعْهُ، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ أي إياك يا محمد أن تجامل هذا الطاغية في شيء، أو تطيعه فيما دعاك إليه من ترك الصلاة كما قال: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم 68/ 8] ، وصل للَّه غير مكترث به، ولا مبال بتهديده أو نهيه، وتقرب إلى اللَّه سبحانه بالطاعة والعبادة، فذلك يكسبك قوة وعزة، ومنعة وهيبة في قلوب الأعداء، والعبادة هي الحصن والوقاية، وطريق النجاة والنجاح والنصر.
وقوله: كَلَّا ردع لأبي جهل عن قبائح أحواله وأفعاله. والمراد بنهي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن طاعة أبي جهل: قطع كل الصلات والعلاقات معه، والمراد بالأمر بالسجود: أن يزداد غيظ الكافر.
وهذا تهكم بهذا الطاغية، واستخفاف به، وتعريض بأن اللَّه سبحانه وتعالى عاصم نبيه وحافظه.(30/327)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- وصف اللَّه تعالى أبا جهل وأمثاله من الطغاة المتمردين المتكبرين بأنه ينهى الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأتباعه عن عبادة اللَّه تعالى، وأنه فيما يأمر به من عبادة الأوثان ليس على طريق سديدة، ولا على منهج الهدى، ولا من الآمرين بالتقوى، أي التوحيد والإيمان والعمل الصالح، وأنه في الحقيقة مكذب بكتاب اللَّه عز وجل، ومعرض عن الإيمان.
2- هدد اللَّه تعالى هذا الطاغية بالحشر والنشر، فإن اللَّه تعالى عالم بجميع المعلومات، حكيم لا يهمل، عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فلا بد أن يجازي كل أحد بما عمل. وفي هذا تخويف شديد للعصاة، وترغيب قوي لأهل الطاعة.
وهذه الآية، وإن نزلت في حق أبي جهل، فكل من نهى عن طاعة اللَّه، فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد، كما تقدم.
ولا يعترض عليه بالمنع من الصلاة في الدار المغصوبة، والأوقات المكروهة لأن المنهي عنه غير الصلاة، وهو المعصية.
كذلك لا يعترض عليه بمنع الزوجة عن صوم التطوع وعن الاعتكاف لأن ذلك لاستيفاء مصلحة الزوج بإذن اللَّه، لا بغضا بعبادة ربه.
3- زاد اللَّه تعالى في الزجر والوعيد لذلك الطاغية أبي جهل وأمثاله: بأنه إن لم ينته عن أذى محمد ليأخذن اللَّه بناصيته (مقدم شعر رأسه) وليذلّنه ويجرّنه إلى نار السعير لأن ناصية أبي جهل كاذبة في قوله، خاطئة في فعلها، والخاطئ(30/328)
معاقب مأخوذ، والمخطئ «1» غير مؤاخذ. والمراد أن صاحب تلك الناصية كاذب خاطئ، كما يقال: نهاره صائم، وليله قائم، أي هو صائم في نهاره، قائم في ليله.
4- تحدى اللَّه تعالى هذا الطاغية مع التهكم والتوبيخ بأن يطلب أهل مجلسه وعشيرته، ليستنصر بهم، فإنه إذا فعل أحضر اللَّه الزبانية الملائكة الغلاظ الشداد لإلقائه في نار السعير.
5- بالغ اللَّه تعالى في زجر هذا الكافر عن كبريائه، ونفى قدرته على تحقيق تهديده، وحقّره وأبان صغر شأنه وعجز نفسه، فليس الأمر كما يظنه أبو جهل، ولا تطعه يا محمد فيما دعاك إليه من ترك الصلاة، وصل للَّه، وتقرب إلى جنابه بالطاعة والتعبد.
وإنما عبّر عن الصلاة للَّه بقوله وَاسْجُدْ لما
روى عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وأحبه إليه، جبهته في الأرض، ساجدا للَّه» .
وعند مسلم عن أبي هريرة: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» .
وإنما كان ذلك لأن السجود على الأرض نهاية العبودية والذلة، وللَّه غاية العزة، وله العزة التي لا مقدار لها، فكلما بعدت من صفته، قربت من جنته، ودنوت من جواره في داره.
جاء في الحديث الصحيح: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال:
«أما الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فإنه قمن «2» أن يستجاب لكم» «3» .
__________
(1) الخاطئ: الآثم القاصد للذنب. والمخطئ: من أراد الصواب، فصار إلى غيره.
(2) قمن: خليق وجدير.
(3) تفسير القرطبي: 20/ 128(30/329)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القدر
مكيّة، وهي خمس آيات.
تسميتها:
سميت سورة القدر أي العظمة والشرف تسمية لها بصفة ليلة القدر الذي أنزل اللَّه فيها القرآن، فقال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي في ليلة عظيمة القدر والشرف.
مناسبتها لما قبلها:
أمر اللَّه تعالى في سورة العلق نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقراءة القرآن باسم ربه الذي خلق، واسم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، ثم أبان في هذه السورة زمن البدء في نزول القرآن، وهو ليلة القدر ذات الشرف الرفيع والقدر العالي بسبب نزول القرآن فيها.
ما اشتملت عليه السورة:
تحدثت هذه السورة المكية عن تاريخ بدء نزول القرآن الكريم، وعن فضل ليلة القدر على سائر الأيام والليالي والشهور، لنزول الملائكة وجبريل فيها بالأنوار والأفضال والبركات والخيرات على عباد اللَّه المؤمنين الصالحين، من لدن أرحم الراحمين الذي يفيض بها على من يشاء.(30/330)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
معنى نزول القرآن في ليلة القدر:
معنى نزول القرآن في ليلة القدر، مع العلم بأنه نزل منجّما مقسّطا على مدى ثلاث وعشرين سنة: أنه ابتدأ إنزاله ليلة القدر لأن بعثة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كانت في رمضان.
وذلك لأن اللَّه تعالى قال في هذه السورة: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وقال في سورة الدخان: حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنا، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [1- 6] .
وأما قوله تعالى في سورة البقرة: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [185] فمعناه أنه ابتدأ نزول القرآن في شهر رمضان المبارك.
وأما آية الأنفال:.. وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [41] فلا تعني تحديد موعد نزول القرآن، وإنما تذكّر المؤمنين بما أنزل على محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر في السابع عشر من رمضان من الآيات المتعلقة بأحكام القتال، والملائكة، والنصر. وسمي يوم بدر يوم الفرقان لأنه فرق فيه بين الحق والباطل.
بدء نزول القرآن وفضائل ليلة القدر
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)(30/331)
الإعراب:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ يراد بالهاء القرآن، وأضمره وإن لم يجر له ذكر، للعلم به.
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فيه صفة محذوفة، تقديره: خير من ألف شهر، لا ليلة قدر فيه، فحذف الصفة.
سَلامٌ هِيَ.. هِيَ: مبتدأ، وسَلامٌ: خبره المقدم.
حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي إلى مطلع الفجر. ويقرأ أيضا مَطْلَعِ بكسر اللام، والقياس هو الفتح لأنه من طلع يطلع، بضم عين المضارع، والكسر على خلاف القياس.
البلاغة:
لَيْلَةِ الْقَدْرِ إطناب لذكرها ثلاث مرات، للتفخيم وزيادة العناية بها.
وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ استفهام بقصد التفخيم والتعظيم.
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ ذكر الخاص بعد العام، ذكر جبريل بعد الملائكة، للتنويه بقدره.
الْقَدْرِ، شَهْرٍ، أَمْرٍ، الْفَجْرِ سجع مرصع: وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
أَنْزَلْناهُ القرآن، أضمره من غير سابقة ذكر له، للعلم به، والشهادة بأنه غني عن التصريح والتعريف، وقد عظّمه بإسناد إنزاله إليه، وعظّم الوقت الذي نزل فيه بقوله:
وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي ابتدأ إنزاله فيها، أو أنزله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا على السفرة الكرام البررة، ثم كان جبريل ينزل به على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منجّما مقسطا على التدريج في ثلاث وعشرين سنة. قال ابن العربي: وهذا باطل ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ أي ما أعلمك يا محمد ما هذه الليلة، والاستفهام لتعظيم شأنها، وسميت بذلك لشرفها، أو لتقدير الأمور فيها، كما قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان 44/ 4] .
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ليس فيها ليلة قدر، فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها. تَنَزَّلُ أي تتنزل إلى الأرض أو السماء الدنيا، أو تقربهم إلى المؤمنين.(30/332)
وَالرُّوحُ جبريل عليه السلام. فِيها في الليلة. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بأمره. مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي كل أمر قضاه اللَّه فيها لتلك السنة إلى قابل، وقوله: مِنْ سببية، بمعنى الباء أي من أجل كل أمر قدّر في تلك السنة. والآية: تَنَزَّلُ لبيان سبب تفضيلها على ألف شهر.
سَلامٌ هِيَ أي ما هي إلا سلامة، والمعنى: لا يقدر اللَّه فيها إلا السلامة، وأما في غيرها فيقضي بالسلامة والبلاء، أو لكثرة سلام الملائكة فيها على كل مؤمن ومؤمنة. حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي إلى وقت مطلعه أو طلوعه.
سبب النزول:
نزول الآية (1) :
أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن الحسن بن علي أن ليلة القدر خير من ألف شهر، ونزول السورة هي بسبب ما ساءه من حكم بني أمية الذي دام ألف شهر، ولكنه حديث غريب ومنكر جدا.
وأخرج ابن أبي حاتم والواحدي عن مجاهد: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل اللَّه ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فأنزل اللَّه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
التي لبس ذلك الرجل السلاح فيها في سبيل اللَّه.
نزول الآية (3) :
أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي، فعمل ذلك ألف شهر، فأنزل اللَّه:
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ عملها ذلك الرجل.
التفسير والبيان:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي إننا نحن اللَّه بدأنا إنزال القرآن في ليلة القدر، وهي الليلة المباركة، كما قال اللَّه عز وجل: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ(30/333)
مُبارَكَةٍ
[الدخان 44/ 3] وهي في شهر رمضان لقول اللَّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة 2/ 185] . ثم أتممنا إنزاله بعد ذلك منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الحاجة وما تقتضيه الوقائع والحوادث، تبيانا للحكم الإلهي فيها. قال الزمخشري رحمه اللَّه: عظّم اللَّه القرآن من ثلاثة أوجه:
أحدها- أن أسند إنزاله إليه، وجعله مختصا به دون غيره، والثاني- أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه، والثالث- الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه «1» .
ثم ذكر اللَّه تعالى فضائل تلك الليلة، فقال:
1- وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أي وما أعلمك ما ليلة القدر؟ وهذا لتفخيم شأنها وتعظيم قدرها، وبيان مدى شرفها، وسميت بذلك لأن اللَّه تعالى يقدر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة، أو لعظيم قدرها وشرفها. قال الزمخشري: معنى ليلة القدر: ليلة تقدير الأمور وقضائها، من قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان 44/ 4] .
وقدرها أيضا: أن العمل فيها، وهي ليلة واحدة، خير من العمل في ألف شهر.
أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: لما حضر رمضان قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض اللَّه عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، في ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم» .
__________
(1) الكشاف: 3/ 351(30/334)
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه» .
2- تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي تهبط الملائكة وجبريل من السموات إلى الأرض بكل أمر ومن أجل كل أمر قدّر في تلك الليلة إلى قابل،
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه يقدّر المقدّر في ليلة البراءة، فإذا كان ليلة القدر يسلّمها إلى أربابها» .
ولا يفعلون شيئا إلا بإذن اللَّه لقوله تعالى:
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم 19/ 64] . والروح: هو جبريل عليه السلام خص بالذكر لزيادة شرفه، فيكون من باب عطف الخاص على العام.
ومن فوائد نزول الملائكة: أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات ما لم يروه في سكان السموات، ويسمعون أنين العصاة الذي هو أحب إلى اللَّه من زجل المسبّحين، فيقولون: تعالوا نسمع صوتا هو أحب إلى ربنا من تسبيحنا.
ولعل للطاعة في الأرض خاصية في هذه الليلة، فالملائكة أيضا يطلبونها طمعا في مزيد الثواب، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعاته هناك أكثر ثوابا.
3- سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي هذه الليلة المحفوفة بالخير بنزول القرآن وشهود الملائكة، ما هي إلا سلامة وأمن وخير وبركة كلها، لا شرّ فيها، من غروب الشمس حتى وقت طلوع الفجر، يستمر فيها نزول الخير والبركة، ونزول الملائكة بالرحمة فوجا بعد فوج إلى طلوع الفجر.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
1- بدأ نزول القرآن العظيم في ليلة القدر من ليالي رمضان المبارك.(30/335)
2- ليلة القدر هي ليلة الشرف والتعظيم، وليلة الحكم والتقدير، يقدّر اللَّه فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبرائيل عليهم السلام.
3- العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف أشهر ليس فيها ليلة القدر، وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر.
4- تهبط الملائكة من كل سماء، ومن سدرة المنتهى، وجبريل حيث مسكنه على وسطها إلى الأرض، ويؤمّنون على دعاء الناس، إلى وقت طلوع الفجر. وهم ينزلون في ليلة القدر بأمر ربهم من أجل كل أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل، كما قال ابن عباس: وهذه الآية دالة على عصمة الملائكة، كما قال تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم 19/ 64] وقال سبحانه:
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء 21/ 27] .
5- تلك الليلة ليلة أمن وسلام، وخير وبركة من اللَّه تعالى، فلا يقدّر اللَّه في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة، وهي ليلة ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة. وليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وهي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر. والخلاصة: اشتملت هذه الليلة على الخيرات والبركات وتقدير الأرزاق، والمنافع الدينية والدنيوية.
يؤيد هذا
ما أخرجه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «ليلة القدر في العشر البواقي، من قامهن ابتغاء حسبتهن، فإن اللَّه يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهي ليلة وتر: تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة» .(30/336)
تعيين ليلة القدر:
الذي عليه أكثر العلماء أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان، كل عام لحديث زرّ بن حبيش الذي أخرجه مسلم والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، قال: قلت لأبيّ بن كعب: إن أخاك عبد اللَّه بن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال: يغفر اللَّه لأبي عبد الرحمن! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين ولكنه أراد ألا يتّكل الناس، ثم حلف لا يستثني «1» : أنها ليلة سبع وعشرين. قال: قلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالآية التي أخبرنا بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو بالعلامة: أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها.
والجمهور على أن هذه الليلة باقية في كل عام، ومختصة برمضان.
أماراتها أو علاماتها:
من علاماتها أن الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها.
روى أبو داود الطيالسي عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في ليلة القدر: «ليلة سمحة طلقة، لا حارّة ولا باردة، وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء» .
وروى ابن أبي عاصم النبيل بإسناده عن جابر بن عبد اللَّه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إني رأيت ليلة القدر، فأنسيتها، وهي في العشر الأواخر من لياليها، وهي طلقة بلجة، لا حارّة ولا باردة، كأن فيها قمرا، لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها» .
وروي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج ليخبر عن ليلة القدر، فوجد رجلين يتنازعان، فنسي الخبر.
__________
(1) أي جزم في حلفه بلا استثناء فيه، بأن يقول عقب يمينه: إن شاء اللَّه.(30/337)
الحكمة في إخفائها بين الليالي:
الحكمة في إخفاء ليلة القدر كالحكمة في إخفاء وقت الوفاة، ويوم القيامة، حتى يرغب المكلف في الطاعات، ويزيد في الاجتهاد، ولا يتغافل، ولا يتكاسل، ولا يتكل. ومن الإشفاق أيضا ألا يعرفها المكلف بعينها لئلا يكون بالمعصية فيها خاطئا متعمدا. وإذا اجتهد العبد في طلب ليلة القدر بإحياء الليالي المظنونة، باهى اللَّه تعالى ملائكته، ويقول: كنتم تقولون فيهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فهذا جدّهم في الأمر المظنون، فكيف لو جعلتها معلومة لهم؟ فهنالك يظهر سر قوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.
فضائلها:
أوجز اللَّه تعالى كما تقدم بيان فضائلها بقوله سبحانه: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وقوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها. والآية الأولى فيها بشارة عظيمة وفيها تهديد عظيم، أما البشارة: فهي أنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير، ولم يبين قدر الخيرية. وأما التهديد: فهو أنه تعالى توعد صاحب الكبيرة بالدخول في النار، وأن إحياء مائة ليلة من القدر، لا يخلصه عن ذلك العذاب المستحق، بتطفيف حبة واحدة، فدل ذلك على تعظيم حال الذنب والمعصية «1» .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة كما تقدم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدّم من ذنبه» .
وقال الشعبي: وليلها كيومها، ويومها كليلها. وقال الفرّاء: لا يقدر اللَّه في ليلة القدر إلا السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم. وقال سعيد بن المسيب في الموطأ: من شهد العشاء من ليلة القدر، فقد أخذ بحظه منها. ومثله ومثل ما تقدمه لا يدرك بالرأي.
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 31(30/338)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البيّنة
مدنيّة، وهي ثماني آيات.
تسميتها:
سميت سورة البيّنة لافتتاحها بقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي مفارقين ما هم عليه من الكفر، منتهين زائلين عن الشرك، حتى تأتيهم الحجة الواضحة، وهي ذلك المنزل الذي يتلوه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتسمى أيضا سورة البرية، أو: لَمْ يَكُنِ.
مناسبتها لما قبلها:
هذه السورة كالعلة لما قبلها، فكأنه لما قال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قيل: لم أنزل القرآن؟ فقيل: لأنه لم يكن الذين كفروا منفكّين عن كفرهم، حتى تأتيهم البينة، فهي كالعلة لإنزال القرآن، المشار إليه في سورة القدر المتقدمة.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المدنية تحدثت عن الأمور الثلاثة التالية:
1- بيان علاقة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين برسالة(30/339)
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وموقفهم منها، وإقلاعهم عن كفرهم بسببها: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ... [الآيات 1- 4] .
2- تحديد الهدف الجوهري من الدين والإيمان وهو إخلاص العبادة للَّه عز وجل: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.. [5] .
3- توضيح مصير كل من الكفار المجرمين الأشقياء شر البرية، والمؤمنين الأتقياء السعداء خير البرية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ..
[6- 8] .
فضلها:
أخرج الإمام أحمد عن مالك بن عمرو بن ثابت الأنصاري قال: «لما نزلت: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى آخرها، قال جبريل:
يا رسول اللَّه، إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيّا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبيّ: إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة، قال أبيّ: وقد ذكرت ثمّ يا رسول اللَّه؟
قال: نعم، قال: فبكى أبيّ» .
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس بن مالك قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي بن كعب: «إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قال: وسماني لك؟ قال: نعم، فبكى» .
وأخرج أحمد والترمذي عن أبي بن كعب قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لي: «إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فقرأ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.. فقرأ فيها: ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثانيا، ولو سأل ثانيا فأعطيه لسأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب اللَّه على من تاب، وإن ذات الدين عند اللَّه الحنيفية غير المشركة(30/340)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
ولا اليهودية ولا النصرانية، ومن يفعل خيرا فلن يكفره»
وقال الترمذي:
حسن صحيح.
لا تكليف بلا بيان ولا عقوبة دون إنذار
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
الإعراب:
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكِينَ: معطوف على أَهْلِ الْكِتابِ ومُنْفَكِّينَ: خبر كان.
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا رَسُولٌ: بدل مرفوع من الْبَيِّنَةُ قبله، أو على تقدير مبتدأ محذوف، تقديره هي رسول، وقرئ: رسولا بالنصب على الحال.
دِينُ الْقَيِّمَةِ أي الملة القيمة، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، ولولا هذا التقدير، لكان ذلك يؤدي إلى أن يكون ذلك إضافة الشيء إلى نفسه، وذلك لا يجوز.
مُخْلِصِينَ منصوب على الحال.
البلاغة:
حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ثم قال: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً إجمال ثم تفصيل.
يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً استعارة تصريحية في لفظ مُطَهَّرَةً حيث شبه تنزه الصحف عن الباطل بطهارتها عن الأنجاس.
الْبَيِّنَةُ، الْقَيِّمَةِ، خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، شَرُّ الْبَرِيَّةِ توافق الفواصل، وهو من المحسنات البديعية.(30/341)
المفردات اللغوية:
مِنْ للبيان. أَهْلِ الْكِتابِ اليهود والنصارى. الْمُشْرِكِينَ عبدة الأوثان والأصنام. مُنْفَكِّينَ منتهين عن كفرهم، زائلين عما هم عليه، مفارقين له. الْبَيِّنَةُ الحجة الواضحة التي يتميز بها الحق من الباطل، مأخوذة من البيان: وهو الظهور، والمراد هنا: الرسول أو القرآن، فإنه مبين للحق. صُحُفاً جمع صحيفة: وهي ما يكتب فيه. مُطَهَّرَةً خالية من الباطل، مبرّأة من الضلال والزور.
فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ في الصحف مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحق، أي إن الرسول يتلو مضمون الكتب، وهو القرآن. وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عما كانوا عليه، بأن آمن بعضهم بالقرآن، وكفر به بعضهم. إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ الدليل الواضح الدال على الحق، وهو الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أو القرآن الجائي به معجزة له.
وَما أُمِرُوا في كتبهم كالتوراة والإنجيل. إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ أي إلا أن يعبدوه، فحذفت (أن) وزيدت اللام. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ جاعلين الدين له وحده نقيّا من الشرك، لا يشركون به. والإخلاص: الإتيان بالعمل خالصا للَّه تعالى دون إشراك به. والدين: العبادة.
حُنَفاءَ مائلين عن الباطل والعقائد الزائغة، جمع حنيف: وهو في الأصل المائل المنحرف عن الشيء إلى غيره، والمراد هنا: المستقيمين على دين إبراهيم ودين محمد حين مجيئه. وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ دين الملة المستقيمة.
التفسير والبيان:
أرسل اللَّه تعالى رسوله محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم لجميع العالمين من الإنس والجن، ولجميع الأمم والشعوب في عصره والعصور التالية له، ولكل أهل الملل والأديان، حتى أهل الكتاب والمشركين الذين بعدوا عن الدين الصحيح، لذا قال تعالى:
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي لم يكن الذين جحدوا رسالة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنكروا نبوته، من اليهود والنصارى وعبدة الأصنام والأوثان من مشركي العرب وغيرهم، منتهين عما هم عليه من الكفر، مفارقين لكفرهم الموروث، حتى تأتيهم الحجة الواضحة، وهي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو القرآن الكريم.(30/342)
والمراد إخبار اللَّه تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم باللَّه، حتى يأتيهم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وما جاء به من القرآن، فإنه بيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم، ودعاهم إلى الإيمان.
ثم أوضح المراد بالبيّنة فقال:
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي تلك البينة هي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الذي أرسله رحمة للعالمين، يقرأ عليهم ما تتضمنه صحف القرآن، المطهرة من الخلط والكذب، والشبهات والكفر، والتحريف واللّبس، بل فيها الحق الصريح الذي يبين لأهل الكتاب والمشركين كل ما يشتبه عليهم من أمور الدين، وفيها الآيات والأحكام المكتوبة المستقيمة المستوية المحكمة، دون زيغ عن الحق، وإنما هي صلاح ورشاد، وهدى وحكمة، كما قال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصّلت 41/ 42] وقال سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، قَيِّماً لِيُنْذِرَ.. [الكهف 18/ 1- 2] .
ونظير الآية قوله تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس 80/ 12- 16] .
ثم أبان تفرّق الكتابيين، فقال:
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أي لا تتأسف يا محمد على الكتابيين، فإن تفرقهم واختلافهم لم يكن لاشتباه الأمر عليهم، بل كان بعد وضوح الحق، وظهور الصواب، ومجيء الدليل المرشد إلى الدين الحق والبينة الواضحة وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الذي جاء بالقرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته ووصفه، فلما بعث اللَّه محمدا، تفرقوا في الدين، فآمن به بعضهم، وكفر آخرون، وكان عليهم أن يتفقوا على طريقة واحدة، من اتباع(30/343)
دين اللَّه، ومتابعة الرسول الذي جاءهم من عند اللَّه، مصدّقا لما معهم.
ونظير الآية: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [آل عمران 3/ 105] . وقد أعذر من أنذر، كما قال تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال 8/ 42] .
وجاء في الحديث المروي من طرق: «إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هم يا رسول اللَّه؟
قال: ما أنا عليه وأصحابي» «1» .
ثم وبّخهم على انحرافهم عن الهدف الجوهري من الدين وهو إخلاص العبادة للَّه، فقال:
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أي إنهم تفرقوا واختلفوا، مع أنهم لم يؤمروا في التوراة والإنجيل أو في القرآن الذي جاءهم من عند اللَّه إلا بعبادة اللَّه وحده، وتكون عبادتهم خالصة لا يشركون به شيئا، ويخلصون العبادة للَّه عز وجل، مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، ويفعلون الصلوات على الوجه الذي يريده اللَّه في أوقاتها، ويعطون الزكاة لمستحقيها عن طيب نفس عند حلول وقتها. وهذا الذي أمروا به يقتضي الاتحاد والاتفاق، لا الشقاق والافتراق، ولم يجيء محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا بمثل ما أمر به الرسل من ذلك، ومنهجه اتباع ملة إبراهيم عليه السلام الذي مال عن وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة للَّه كما قال: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل 16/ 123] .
وذلك الدين: وهو إخلاص العبادة، وترك كل ما يعبد من دونه، وأداء
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 537(30/344)
الصلوات للَّه في أوقاتها، وبذل الزكاة للمحتاجين، هو دين الملة المستقيمة.
وقوله: وَما أُمِرُوا أي وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي، أي أن المشروع في حقهم مشروع في حقنا. والأولى أن يكون المراد كما ذكر الرازي: وما أمر أهل الكتاب في القرآن أو على لسان محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا بهذه الأشياء، لأن الآية على هذا التقدير تفيد شرعا جديدا، وحمل كلام اللَّه على ما يكون أكثر فائدة أولى، ولقوله تعالى: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولأن اللَّه تعالى ختم الآية بقوله: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ وهو شرع محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وهذه الآية دالة على أن التفرق والكفر فعلهم بدليل قوله: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. والمقصود من هذه الآية تسلية الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، أي لا يحزنك أو لا يغمّنك تفرقهم، فليس ذلك لقصور في الحجة، بل لعنادهم، وهكذا كان سلفهم تفرقوا في السبت وعبادة العجل بعد قيام البينة عليهم، فهي عادة قديمة لهم.
وقوله: لِيَعْبُدُوا اللام في موضع (أن) أي إلا أن يعبدوا، والعرب تجعل اللام في موضع (أن) في الأمر والإرادة كثيرا، مثل قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء 4/ 26] وقوله: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا [الصف 61/ 8] وقال في الأمر: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ [الأنعام 6/ 71] .
وبما أن الإخلاص: عبارة عن النية الخالصة، والنية معتبرة، فقد دلت الآية على أن كل مأمور به، فلا بد وأن يكون منويا. قالت الشافعية: بما أن الوضوء مأمور به في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة 5/ 6] ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منويا، فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منويا. وعلى هذا لا بد في المأمورات من(30/345)
النية: بأن يقصد الشخص بعمله وجه اللَّه. أما المنهيات فإن تركها بدون نية لم يؤجر في تركها، وإن تركها ابتغاء وجه اللَّه، كان مأجورا على تركها، وأما المباحات كالأكل والنوم، فإن فعلها بغير نية لم يؤجر، وإن فعلها بقصد وجه اللَّه والتقوي بها على الطاعة، كان له فيها أجر.
واللام في قوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا: العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة أو إلى البعد عن عقاب النار، بل لأجل أنك عبد، وهو رب، فلو لم يكن هناك ثواب ولا عقاب البتة، ثم أمرك بالعبادة، وجبت لمحض العبودية. وفيها أيضا إشارة إلى أنه من عبد اللَّه للثواب والعقاب، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب، والحق واسطة.
والعبادة هي التذلل، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام، وما أطاعوهم. والعبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحدا في ذاته وصفاته الذاتية والفعلية.
والإخلاص: هو أن يأتي بالفعل خالصا لداعية واحدة، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل. وقوله: مُخْلِصِينَ تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه، والمخلص: هو الذي يأتي بالحسن لحسنه، والواجب لوجوبه، فيأتي بالفعل مخلصا لربه، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر، بل قالوا: لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة عن النار مطلوبا، وإن كان لا بد من ذلك. وقالوا أيضا: من الإخلاص: ألا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير، مثل الواجب من الأضحية شاة، فإذا ذبحت اثنتين: واحدة للَّه، وواحدة للأمير، لم يجز لأنه شرك.(30/346)
ثم إن هذه الآية: وَما أُمِرُوا.. دليل على أن الإيمان عبارة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل لأن اللَّه تعالى ذكر العبادة المقرونة بالإخلاص وهو التوحيد، ثم عطف عليه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم أشار إلى المجموع بقوله:
وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- للإسلام وشارعه فضل على جميع الأمم والخلائق، فلولاه لما عرف إيمان صحيح، ولا دين حق.
2- من هذه الفضائل والمزايا: أن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين عبدة الأوثان والأصنام لم يصيروا منتهين عن كفرهم، مائلين أو زائلين عنه إلا بمجيء البينة وهي الحجة الواضحة، وهي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم بما جاء به من القرآن العظيم، حجة اللَّه على عباده، ومعجزة رسوله مدى الحياة، وهو الذي يتلو منه على أسماع البشر صحفا مطهرة من الزور والشك والنفاق والضلالة، كما قال ابن عباس، وفي تلك الصحف مكتوبات مستقيمة مستوية محكمة، مستقلة بالدلائل.
والصحف: القراطيس التي يكتب فيها القرآن، المطهر من النقائص، ومسّ المحدث إياه. ومعنى تلاوة الصحف: إملاؤه إياها.
عن جعفر الصادق رضي اللَّه عنه: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقرأ من الكتاب، وإن كان لا يكتب، ولعل هذا من معجزاته.
3- تقتضي الآية الأولى: لَمْ يَكُنِ أن أهل الكتاب منهم كافر، ومنهم
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 43- 48(30/347)
مؤمن ليس بكافر. أما المشركون فلا ينقسمون هذه القسمة، وكلهم كفار لأن كلمة مِنْ هنا ليست للتبعيض، بل للتبيين، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج 22/ 30] فقوله تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ بيان للذين كفروا، والمراد أن الكفار فريقان: بعضهم أهل الكتاب ومن يجري مجراهم كالمجوس، وبعضهم مشركون. وكلمة وَالْمُشْرِكِينَ وصف لأهل الكتاب لأن النصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبّهة، وهذا كله شرك.
4- في الآية الأولى أحكام شرعية هي:
أولا- أنه تعالى فسر قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا بأهل الكتاب وبالمشركين، وهذا يقتضي كون الكل واحدا في الكفر، لذا قال العلماء: الكفر كله ملة واحدة، فالمشرك يرث اليهودي وبالعكس.
ثانيا- أن العطف أوجب المغايرة، فلذلك نقول: الذمي ليس بمشرك.
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم عن المجوس فيما أخرجه الشافعي عن عبد الرحمن بن عوف: «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم»
فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك. لكن قوله: «غير ناكحي» إلخ، زيادة ضعيفة.
ثالثا- نبّه بذكر الكتاب على أنه لا يجوز الاغترار بأهل العلم إذ قد حدث في أهل القرآن مثلما حدث في الأمم الماضية «1» .
5- خص اللَّه تعالى أهل الكتاب بظهور التفرق فيهم دون غيرهم، وإن اشتركوا مع بقية الكفار في الكفر لأنه مظنون بهم علم، فإذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف.
6- حدثت ظاهرة تفرق أهل الكتاب بعد البعثة النبوية، وذلك أنهم كانوا
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 41(30/348)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
مجتمعين متفقين على نبوته، فلما بعث محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، جحدوا نبوته وتفرقوا، فمنهم من كفر بغيا وحسدا، ومنهم من آمن، كقوله تعالى: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الشورى 42/ 14] .
7- ما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل والقرآن إلا أن يوحّدوا اللَّه تعالى، ويخلصوا له العبادة، كما قال تعالى: قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزّمر 39/ 11] وأن يكونوا حنفاء، أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام المرضي وحده عند اللَّه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران 3/ 19] وأن يقيموا الصلاة بحدودها في أوقاتها، ويعطوا الزكاة عند حلول أجلها، وذلك الدين الذي أمروا به دين القيمة، أي الدين المستقيم، أو دين الملة القيمة، أو دين الأمة القيمة القائمة بالحق.
8- قوله تعالى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ دليل على وجوب النية في العبادات فإن الإخلاص من عمل القلب، وهو الذي يراد به وجه اللَّه تعالى، لا غيره.
9- الإخلاص لبّ العبادة،
جاء في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، تركته وشركه» .
وعيد الكفار ووعد الأبرار وجزاء الفريقين
[سورة البينة (98) : الآيات 6 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)(30/349)
الإعراب:
خالِدِينَ فِيها أَبَداً خالِدِينَ منصوب على الحال من ضمير مقدر، تقديره: يجزونها خالدين فيها. وأَبَداً ظرف زمان مستقبل يتعلق ب خالِدِينَ وأما (قط) فللماضي، تقول: واللَّه لا أكلمه أبدا، وما كلمته قط.
البلاغة:
شَرُّ الْبَرِيَّةِ وخَيْرُ الْبَرِيَّةِ بينهما طباق.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.. الآية، وإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. الآية فيهما مقابلة بين عذاب الكفار الفجار، وبين نعيم المؤمنين الأبرار.
المفردات اللغوية:
خالِدِينَ فِيها ماكثين فيها يوم القيامة على الدوام، بتقدير اللَّه تعالى، ويلاحظ أن اشتراك أهل الكتاب والمشركين في جنس العذاب لا يوجب اشتراكهما في نوعه، فربما اختلف لتفاوت كفرهما. شَرُّ الْبَرِيَّةِ الخليقة أو الخلق، وقرئ: البريئة بالهمز على الأصل. جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بطاعته، وهو زيادة على جزائهم. وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه وفضله وهو أقصى أمانيهم. ذلِكَ أي المذكور من الجزاء والرضوان. لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ خاف عقابه، فانتهى عن معصية اللَّه تعالى، فإن الخشية ملاك الأمر، والباعث على كل خير.
قال البيضاوي عن وعد المؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا.. فيه مبالغات: تقديم المدح، وذكر الجزاء المؤذن بأن ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به، والحكم عليه بأنه من عند ربهم، وجمع جنات، وتقييدها إضافة ووصفا بما يزداد لها نعيما، وتأكيد الخلود بالتأبيد «1» .
المناسبة:
بعد بيان موقف الكفار والمشركين من دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ذكر اللَّه تعالى وعيد الكفار، ووعد الأبرار وجزاء الفريقين، وقدم وعيد أهل الكتاب على المشركين لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقدّم حق اللَّه على حق نفسه، ولهذا حين كسروا رباعيته في غزوة أحد
قال: «اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون»
وحيث فاتته
__________
(1) تفسير البيضاوي: ص 806(30/350)
صلاة العصر يوم الخندق
قال: «ملأ اللَّه بطونهم وقبورهم نارا»
فقال اللَّه تعالى:
كما قدّمت حقي على حقك، فأنا أيضا أقدم حقك على حقي، فمن ترك الصلاة طول عمره لم يكفر، ومن طعن فيك بوجه يكفر، ثم إن أهل الكتاب طعنوا فيك، فقدّمتهم في الوعيد على المشركين الذين طعنوا فيّ. ثم إن أهل الكتاب أولى بالإيمان بالرسول محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فهم في الجملة يؤمنون بدين، ويقرون بنبي آخر الزمان، وعلاماته في كتبهم، فطعنهم به في غير محله، فاستحقوا التقديم في الوعيد لذلك «1» .
التفسير والبيان:
يخبر اللَّه تعالى عن مآل الفجار الكفار فيقول:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ، خالِدِينَ فِيها، أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي إن الذين خالفوا كتب اللَّه المنزلة، وأنبياء اللَّه المرسلة، من اليهود والنصارى وعبدة الأصنام، مآلهم يوم القيامة في نار جهنم المستعرة، يصيرون إليها، ماكثين فيها على الدوام، لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، وهم حالا شر الخليقة التي برأها اللَّه وذرأها لأنهم تركوا الحق حسدا وبغيا، فسيكونون شر الخليقة مصيرا. والسبب في أنه لم يقل هنا خالدين فيها أبدا، كما فعل في الأبرار لأن رحمته أزيد من غضبه. وقوله: هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ لإفادة النفي والإثبات، أي هم دون غيرهم.
ثم أخبر اللَّه تعالى عن حال الأبرار، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي إن الذين آمنوا بقلوبهم بربهم وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعملوا الصالحات بأبدانهم، هم أفضل الخلق حالا ومآلا.
__________
(1) غرائب القرآن: 30/ 153، تفسير الرازي: 32/ 49(30/351)
وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين الأبرار على الملائكة لقوله تعالى: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ.
ثم ذكر جزاءهم فقال:
جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرَضُوا عَنْهُ، ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي جزاؤهم يوم القيامة عند خالقهم ومالكهم على الإيمان والعمل الصالح جنات أو بساتين إقامة دائمة تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام، لا يخرجون منها، ولا يرحلون عنها، ولا يموتون، بل هم دائمون في نعيمها، مستمرون في لذاتها إلى الأبد، لا نهاية لنعيمهم. وكلمة الجزاء تفيد معنيين:
أحدهما- أن يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص، والثاني- أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية لأن الجزاء اسم لما يقع به الكفاية، فلا يبقى في نفسه شيء إلا ويحققه له، كما قال: وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
[فصلت 41/ 31] . وقوله:
تَجْرِي إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد.
رضي اللَّه عنهم لأنهم أطاعوا أمره، وقبلوا شرائعه، ورضوا عنه، بما منحهم من الثواب والفضل العميم، وتحقيق المطالب مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وهذا الجزاء والرضوان حاصل لمن خاف اللَّه واتقاه حق تقواه، وعبده كأنه يراه، وانتهى عن معاصيه بسبب ذلك الخوف.
وفي ذلك تحذير من خشية غير اللَّه، وتنفير من إشراك غيره به في جميع الأعمال، وترغيب في تقوى اللَّه ورهبته، حتى يصبح العمل خالصا للَّه وحده.
كما أن فيه إيماء إلى أن شرط أداء العبادة كالصوم والصلاة: خشية اللَّه والخشوع له.(30/352)
أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل اللَّه، كلما كانت هيعة استوى عليه، ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: رجل في ثلّة من غنمه، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة. ألا أخبركم بشر البرية؟ قالوا: بلى، قال: الذي يسأل باللَّه ولا يعطى به» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- استحق أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركون عبدة الأصنام بسبب كفرهم بالإسلام ثلاث عقوبات: دخول نار جهنم، والخلود فيها، ووصفهم بأنهم دون غيرهم هم شر البرية وشر خلق اللَّه.
وقوله في وعيدهم: خالِدِينَ فِيها وفي آية الرعد: خالِدِينَ فِيها أَبَداً إشارة كما تقدم إلى كمال كرمه وسعة رحمته، كما قال في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة: سبقت رحمتي غضبي.
2- قال العلماء: آية الوعيد هذه مخصوصة في صورتين:
إحداهما- أن من تاب منهم وأسلم، خرج من الوعيد.
والثانية- أن من مضى من الكفرة يجوز ألا يدخل فيها لأن فرعون كان شرا منهم.
3- استحق الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح أربعة أنواع من الجزاء: وصفهم بأنهم خير البرية، ودخول جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، والخلود فيها أبدا، ورضوان اللَّه عليهم أي رضا أعمالهم، ورضاهم عن اللَّه، أي رضاهم بثواب اللَّه تعالى.(30/353)
4- وعملوا الصالحات: والخلود في الجنة خير من الجنة، ورضا اللَّه خير من الجنة. إما من مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا أو مقابلة الفرد بالفرد، فلا مكلف يأتي بجميع الصالحات، بل لكل مكلف حظ، فحظ الغني الإعطاء، وحظ الفقير الأخذ، كما لو قال لامرأتيه: إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا، فيحمل على أن يدخل كل واحدة منهما دارا على حدة.
5- احتج بعضهم بقوله: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي الخليقة ويؤيده قراءة الهمز على تفضيل البشر على الملائكة، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا، قال: أتعجبون من منزلة الملائكة من اللَّه، والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند اللَّه يوم القيامة، أعظم من ذلك، وقرأ هذه الآية. والجواب بأن الملائكة أيضا داخلون في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو المراد بالبرية:
بنو آدم لأن اشتقاقها من البري: وهو التراب، لا من برأ اللَّه الخلق، فلا يدخل الملائكة في الآية البتة.
6- قوله: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ مع قوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر 35/ 28] ظاهر في أن العلماء باللَّه هم خير البرية، اللهم اجعلنا منهم.(30/354)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزلزلة
مدنيّة، وهي ثماني آيات.
تسميتها:
سميت سورة الزلزلة أو الزلزال لافتتاحها بالإخبار عن حدوث الزلزال العنيف قبيل يوم القيامة: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وهي سورة مدنية، وقال ابن كثير: هي مكية.
مناسبتها لما قبلها:
لما ذكر اللَّه تعالى في آخر سورة البيّنة وعيد الكافر ووعد المؤمن وأن جزاء الكافرين نار جهنم، وجزاء المؤمنين جنات، بيّن هنا وقت ذلك الجزاء وبعض أماراته وهو الزلزلة وإخراج الأرض أثقالها، فكأنه قيل: متى يكون ذلك؟
فقال: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي يكون يوم زلزلة الأرض. ثم إنه تعالى أراد أن يزيد في وعيد الكافر، فقال: أجازيه حينما تزلزل الأرض، مثل قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران 3/ 106] . ثم ذكر ما للطائفتين، فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ.. [106] ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ [107] . ثم جمع بينهما هنا في آخر السورة بذكر الذرّة من الخير والشر.
ما اشتملت عليه السورة:
أسلوب هذه السورة المدنية وموضوعها يشبه أسلوب وموضوع السور المكية، لإخبارها عن أهوال القيامة وشدائدها.(30/355)
وقد اشتملت على مقصدين:
1- بيان حدوث الزلزال والاضطراب الشديد للأرض يوم القيامة، فينهار كل ما عليها، ويخرج الناس الموتى من بطنها من قبورهم، وتشهد حينئذ على كل إنسان بما عمل على ظهرها: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الآيات: 1- 5] .
2- الحديث عن ذهاب الخلائق لموقف العرض والحساب، ثم مجازاتهم على أعمالهم، وقسمتهم فريقين: سعيد إلى الجنة، وشقي إلى النار: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً.. [6- 8] .
سبب نزولها:
كان الكفار يسألون كثيرا عن الساعة ويوم الحساب، فيقولون: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟ [القيامة 75/ 6] . مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟
[الملك 67/ 25] . مَتى هذَا الْفَتْحُ؟ «1» [السجدة 32/ 28] ونحو ذلك، فأبان لهم في هذه السورة علامات القيامة فحسب، ليعلموا أن علم ذلك عند اللَّه، ولا سبيل إلى تعيين ذلك اليوم للعرض والحساب والجزاء.
فضلها:
أخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن عبد اللَّه بن عمرو قال: «أتى رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: أقرئني يا رسول اللَّه، قال له: اقرأ ثلاثا من ذوات الراء، فقال له الرجل: كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني، قال: فاقرأ من ذوات حم، فقال مثل مقالته الأولى، فقال: اقرأ ثلاثا من المسبّحات، فقال مثل مقالته، فقال الرجل: ولكن أقرئني يا رسول اللَّه سورة جامعة، فأقرأه إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها حتى إذا فرغ منها، قال الرجل: والذي بعثك
__________
(1) أي متى الفتح الذي تعدوننا به، وهو يوم البعث الذي يقضي اللَّه فيه بين عباده؟(30/356)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
بالحق نبيا، لا أزيد عليها أبدا، ثم أدبر الرجل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أفلح الرويجل، أفلح الرويجل، ثم قال: عليّ به، فجاءه، فقال له:
أمرت بيوم الأضحى، جعله اللَّه عيدا لهذه الأمة، فقال له الرجل: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى، فأضحّي بها؟ قال: لا «1» ، ولكنك تأخذ من شعرك، وتقلّم أظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذاك تمام أضحيتك عند اللَّه عز وجل» .
وأخرج الترمذي- وقال: هذا حديث حسن- عن أنس بن مالك: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لرجل من أصحابه: هل تزوجت يا فلان؟ قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، ولا عندي ما أتزوج!! قال: أليس معك: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟ قال: بلى، قال: ثلث القرآن، قال: أليس معك: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، تزوج» .
أمارة القيامة والجزاء على الخير والشر
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
__________
(1) هذا في بداية الأمر، ثم أبيح التضحية بالأنثى، واتفقت المذاهب على جواز ذلك، إلا أن الفحل أفضل من الأنثى.(30/357)
الإعراب:
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها إِذا ظرف، والعامل فيه إما فَمَنْ يَعْمَلْ أو تُحَدِّثُ ويكون يَوْمَئِذٍ تكرارا وبدلا من إِذا، وتقديره: إذا زلزلت الأرض تحدث أخبارها. وزِلْزالَها: منصوب على المصدر، بكسر الزاي الأولى، ولو فتح لكان اسما، وقيل:
هو بالفتح أيضا مصدر.
أَشْتاتاً منصوب على الحال من النَّاسُ جمع (شتّ) وهو المتفرق.
فَمَنْ يَعْمَلْ.. وَمَنْ يَعْمَلْ.. من في الموضعين: شرطية في موضع رفع بالابتداء.
ويَرَهُ: خبره.
البلاغة:
زِلْزالَها الإضافة للتهويل. وزُلْزِلَتِ زِلْزالَها بينهما جناس الاشتقاق.
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ إظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتوكيد.
وَقالَ الْإِنْسانُ: ما لَها؟ استفهام للتعجب والاستغراب أو الاستهجان.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ بينهما مقابلة.
زِلْزالَها، أَثْقالَها، أَوْحى لَها، أَخْبارَها، ما لَها سجع مرصع من المحسنات البديعية.
أَوْحى لَها تضمين، ضمن ذلك معنى الإذن والأمر لها.
المفردات اللغوية:
زُلْزِلَتِ الزلزال: التحريك والاضطراب الشديدان، وذلك يحصل عند النفخة الأولى أو الثانية أو الممكّن لها في الحكمة الإلهية. أَثْقالَها الأثقال في الأصل: أمتعة البيت، كما قال تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ.. [النحل 16/ 7] جمع ثقل: متاع البيت، والمراد هنا: ما في جوف الأرض من الكنوز والدفائن والأموات، وتخرج أثقالها: تلقيها على ظهرها. وَقالَ الْإِنْسانُ: ما لَها يتساءل الإنسان عما يبهره من الأمر الفظيع وإنكارا لتلك الحالة، وقيل: المراد بالإنسان:
الكافر بالبعث، فإن المؤمن يعلم ما لها. تُحَدِّثُ أَخْبارَها تخبر بما عمل عليها من خير وشر.
وهي تحدّث الخلق إما بلسان الحال وهو ما لأجله زلزالها وإخراجها، أو ينطقها اللَّه فتخبر بما عمل عليها. وهو جواب إِذا
جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي عن أبي هريرة: «تشهد على كل عبد أو أمة بكل ما عمل على ظهرها» .(30/358)
بِأَنَّ رَبَّكَ أي تحدّث بسبب أن ربك أَوْحى لَها أمرها بذلك، والوحي: الإلهام بخفاء، يقال: أوحى له وإليه، ووحي له وإليه: كلّمه خفية أو ألهمه. يَصْدُرُ النَّاسُ يخرجون من قبورهم إلى موقف الحساب. أَشْتاتاً متفرقين متمايزين بحسب مراتبهم وأعمالهم.
لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ يروا جزاء أعمالهم من الجنة أو النار، ذَرَّةٍ الذرة: الهباء الذي يرى في ضوء الشمس الداخل من نافذة، أو النملة الصغيرة، ومِثْقالَ ذَرَّةٍ زنة نملة أو هباء، وهو مثل في الصغر. خَيْراً يَرَهُ يرى ثوابه. شَرًّا يَرَهُ يرى جزاءه. وقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ..
تفصيل لِيُرَوْا.
سبب النزول: نزول الآية (7، 8) :
فَمَنْ يَعْمَلْ..: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ الآية، كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل، إذا أعطوه، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير: الكذبة، والنظرة، والغيبة، وأشباه ذلك، ويقولون: إنما وعد اللَّه النار على الكبائر، فأنزل اللَّه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
وقد سمّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذه الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ..
الجامعة الفاذّة
، حين سئل عن زكاة الحمر،
فقال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «ما أنزل اللَّه فيها شيئا إلا هذه الآية الفاذّة الجامعة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «1» » .
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في رجلين، وذلك أنه لما نزل:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ كان أحدهما يأتيه السائل، فيسأل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، ويقول: ما هذا بشيء، وإنما نؤجر على ما نعطي.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم. [.....](30/359)
وكان أحدهما يتهاون بالذنب الصغير، ويقول: لا شيء عليّ من هذا، فرغب اللَّه تعالى في القليل من الخير لأنه يوشك أن يكثر، وحذر من الذنب اليسير، فإنه يوشك أن يعظم، فلهذا
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم: «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيّبة» .
التفسير والبيان:
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي إذا تحركت الأرض من أسفلها حركة شديدة، واضطربت اضطرابا هائلا حتى يتكسر كل شيء عليها، كما قال تعالى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج 22/ 1] وقال سبحانه: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [الواقعة 56/ 4] .
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ألقت ما في جوفها من الأموات والدفائن، كما قال تعالى: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [الانشقاق 84/ 3- 4] .
وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل، فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا» .
وتخرج الأرض الأموات في النفخة الثانية.
وَقالَ الْإِنْسانُ: ما لَها؟ أي قال كل فرد من أفراد الإنسان لما يبهره أمرها ويذهله خطبها: ما لهذه الأرض، ولأي شيء زلزلت، وأخرجت أثقالها؟
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها أي في ذلك الوقت المضطرب، وقت الزلزلة، تخبر الأرض بأخبارها، وتحدّث بما عمل عليها من خير وشر، ينطقها اللَّه(30/360)
سبحانه، لتشهد على العباد. قال ابن عباس في الآية: قال لها ربها: قولي، فقالت.
أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي- واللفظ له- عن أبي هريرة قال: «قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذه الآية: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها» «1» .
وقال الطبري: إن هذا تمثيل، والمراد أنها تنطق بلسان الحال، لا بلسان المقال.
ثم أبان اللَّه تعالى مصدر هذه الواقعة، فقال:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي تحدّث أخبارها بوحي اللَّه وإذنه لها بأن تتحدث وتشهد. فقوله: أَوْحى لَها أي أذن لها وأمرها، أو أوحى إليها أي ألهمها.
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي في هذا اليوم المضطرب وفي يوم الخراب المدمر، يصدر الناس من قبورهم إلى موقف الحساب، مختلفي الأحوال، فبعضهم آمن، وبعضهم خائف، وبعضهم بلون أهل الجنة، وبعضهم بلون أهل النار، ليريهم اللَّه أعمالهم معروضة عليهم. هذا ما يراه بعض المفسرين كالشوكاني. فالصدر على هذا الرأي: هو قيامهم للبعث بعد أن كانوا مدفونين في الأرض، وأَشْتاتاً فرقا مؤمن وكافر وعاص، سائرون إلى العرض، ليروا أعمالهم.
وقال آخرون كابن كثير: يرجعون عن موقف الحساب أشتاتا، أي أنواعا وأصنافا، ما بين شقي وسعيد، مأمور به إلى الجنة، ومأمور به إلى النار،
__________
(1) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.(30/361)
ليجازوا بما عملوه في الدنيا من خير وشر، فيكون المراد بقوله: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ليروا جزاء أعمالهم وهو الجنة والنار، ولهذا قال:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ أي فمن يعمل في الدنيا وزن نملة صغيرة أو هباء لا يرى إلا في ضوء الشمس، والمراد أي عمل مهما كان صغيرا، فإنه يجده يوم القيامة في كتابه، ويلقى جزاءه، فيفرح به، أو يراه بعينه معروضا عليه. وكذلك من يعمل في الدنيا أي شيء من الشر ولو كان حقيرا أو قليلا، يجد جزاءه يوم القيامة، فيسوؤه. والذرّ كما تقدم: ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، أو هو النملة الصغيرة.
ونظير الآية قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] وقوله سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتابُ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً
[الكهف 18/ 49] .
وفي صحيح البخاري عن عدي مرفوعا: «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، ولو بكلمة طيبة»
وفي الصحيح له أيضا: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تلقى أخاك، ووجهك إليه منبسط»
وفي الصحيح أيضا: «يا معشر نساء المؤمنات لا تحقرنّ جارة لجارتها، ولو فرسن شاة»
يعني ظلفها.
وفي الحديث الآخر الذي أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ والنسائي عن حوّاء بنت السكن: «ردّوا السائل، ولو بظلف محرق» .
وأخرج الإمام أحمد عن عائشة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يا عائشة استتري من النار، ولو بشق تمرة، فإنها تسدّ من الجائع مسدّها من الشبعان» .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس قال: «كان أبو بكر يأكل مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ(30/362)
مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
فرفع أبو بكر يده، وقال: يا رسول اللَّه، إني أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر، فقال: يا أبا بكر، ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرّ الشر، ويدخر اللَّه لك مثاقيل ذرّ الخير، حتى توفّاه يوم القيامة» .
وأخرج ابن جرير عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أنه قال: «لما نزلت:
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وأبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه قاعد، فبكى، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال: يبكيني هذه السورة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لولا أنكم تخطئون وتذنبون، فيغفر اللَّه لكم، لخلق اللَّه أمة يخطئون ويذنبون، فيغفر لهم» .
حسنات الكافر: قال ابن عباس: ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا إلا أراه اللَّه تعالى إياه، فأما المؤمن فيغفر له سيئاته، ويثاب بحسناته. وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته.
وعلى هذا يعاقب الكافر بسبب كفره، وأما حسناته فتنفعه في الدنيا، كدفع شر أو ضرر عنه، وأما في الآخرة فلا تفيده، ولا تنجيه من عذاب الكفر الذي يخلد به في النار، قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- من أمارات الساعة: الزلزلة الشديدة للأرض، وإخراج الأرض أثقالها، أي ما في جوفها من الدفائن والأموات. قالوا: إنها عند النفخة الأولى تتزلزل، فتلفظ بالكنوز والدفائن، وعند النفخة الثانية ترجف فتخرج الأموات أحياء، كالأم تلد حيا.
2- لا شك بأن الإنسان في وقت الزلازل والبراكين يرتجف ويخاف(30/363)
ويتساءل: ما للأرض زلزلت، ما لها أخرجت أثقالها؟ وهي كلمة تعجيب.
3- إذا زلزلت الأرض تخبر يومئذ بما عمل عليها من خير أو شر، ومعنى تحديث الأرض عند أبي مسلم الأصفهاني: يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله، فكأنها حدثت بذلك، كقولك: الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة، فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدث أن الدنيا قد انقضت، وأن الآخرة قد أقبلت.
وقال الطبري: تبين أخبارها بالرّجة والزلزلة وإخراج الموتى.
وقال الجمهور: المعنى أن اللَّه تعالى يجعل الأرض حيوانا عاقلا ناطقا ويعرفها جميع ما عمل أهلها، فحينئذ تشهد لمن أطاع، وعلى من عصى،
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم في حديث الترمذي عن أبي هريرة: «إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عمل عليها» ثم تلا هذه الآية «1» .
4- الذي تخبر به الأرض: إما أعمال العباد على ظهرها، كما
جاء في حديث الترمذي عن أبي هريرة المتقدم: «أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا، وكذا، قال: فهذه أخبارها» .
أو أنها تخبر بما أخرجت من أثقالها، كما
جاء في حديث ابن ماجه عن ابن مسعود عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «إذا كان أجل العبد بأرض أو ثبته الحاجة إليها، حتى إذا بلغ أقصى أثره، قبضه اللَّه، فتقول الأرض يوم القيامة: ربّ هذا ما استودعتني» .
أو أنها تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان: ما لها؟ وهذا قول ابن مسعود، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى، فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم، ووعيدا للكافر، وإنذارا للمؤمن «2» .
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 59، تفسير القرطبي: 20/ 149، غرائب القرآن: 30/ 157
(2) تفسير القرطبي: 20/ 148- 149(30/364)
5- في يوم الزلزلة يذهب الناس من مخارج قبورهم إلى الموقف، بعضهم إثر بعض، أو يرجعون وينصرفون من موقف الحساب إلى موضع الثواب والعقاب فرقا فرقا، ليروا صحائف أعمالهم، أو جزاء أعمالهم وهو الجنة أو النار، وما يناسب كلّا منهما.
ويؤيد هذا
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه، فإن كان محسنا فيقول: لم لا ازددت إحسانا؟ وإن كان غير ذلك يقول: لم لا نزعت عن المعاصي «1» ؟ وهذا عند معاينة الثواب والعقاب.
6- كل من يعمل في الدنيا عملا خيرا صغيرا أو كبيرا، يره بعينه أو يره اللَّه إياه يوم القيامة، وكل من يعمل في الدنيا عملا شرا مهما كان قليلا، يره بنفسه أو يره اللَّه إياه يوم القيامة. أو أن المراد: يجد جزاءه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
أما الكافر كما تقدم فحسناته في الآخرة محبطة بكفره وترد في وجهه، ويجد عقاب ما فعل من كفر أو شر، فيعذب بسيئاته، أي أن عموم الآية قائم، ولكن لا تقبل حسنات الكفار.
قال ابن مسعود عن آية: فَمَنْ يَعْمَلْ..: هذه أحكم آية في القرآن.
وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية. قال كعب الأحبار: لقد أنزل اللَّه على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزّبور والصّحف: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- كما تقدم- يسمي هذه الآية الجامعة الفاذّة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 150(30/365)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العاديات
مكيّة، وهي إحدى عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة العاديات لأن اللَّه افتتحها بالقسم بالعاديات: وهي خيل المجاهدين المسرعة في لقاء العدو.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر المناسبة بين السورتين من وجهين:
1- هناك تناسب وعلاقة واضحة بين قوله تعالى في الزلزلة: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [2] وقوله في هذه السورة: إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ.
2- لما ختمت السورة السابقة ببيان الجزاء على الخير والشر، وبّخ اللَّه تعالى الإنسان على جحوده نعم ربه، وإيثاره الحياة الدنيا على الآخرة، وترك استعداده للحساب في الآخرة بفعل الخير والعمل الصالح، وترك الشر والعصيان.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة المكية مقاصد ثلاثة:
1- القسم الإلهي بخيل المجاهدين على أن الإنسان كفور جحود لنعم ربه عليه، وأنه مقدر شاهد على ذلك: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً.. [1- 7] .(30/366)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
2- التحدث عن غريزة الإنسان في حبه الشديد للثروة والمال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [8] .
3- الحض على فعل الخير والعمل الصالح الذي ينفع الإنسان حين رجوع الخلائق إلى اللَّه للحساب والجزاء، والتهديد بالعقاب الشديد يوم القيامة:
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ.. [9- 11] .
جحود النعم والبخل لحب الخير وإهمال الاستعداد للآخرة
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
الإعراب:
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً: ضَبْحاً: منصوب على المصدر في موضع الحال، وهو صوت أنفاس الخيل حين عدوها، وقَدْحاً: مصدر مؤكد لأن الموريات بمعنى القادحات.
فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً: صُبْحاً: منصوب على الظرف، وأثرن: عطف على قوله: فَالْمُغِيراتِ لأن المعنى: اللاتي أغرن صبحا، فأثرن به نقعا، أي جاز عطف الفعل على الاسم لأنه في تأويل الفعل. وهاء بِهِ تعود إلى المكان، وقد دل الحال عليه.
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ جواب القسم، ولام لِرَبِّهِ يتعلق ب (كنود) أي إن الإنسان لكنود لربه. وقد حسّن دخول لام الجر تقديمه على اسم الفاعل، كما مع الفعل الذي يشبه في قوله تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف 7/ 154] وقوله: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف 12/ 43] .(30/367)
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي، وإنه لأجل حب المال لبخيل، واللام تتعلق ب (شديد) أي وإنه لشديد لأجل حب المال، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ العامل في إِذا بُعْثِرَ: ما دل عليه: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ. ولا يجوز أن يعمل فيه (خبير) لأنه لا يجوز أن يعمل ما بعد إِنَّ فيما قبلها، ولا يجوز أن يعمل فيه يَعْلَمُ لأن الإنسان لا يطلب منه العلم في الآخرة، وإنما في الدنيا.
ويَوْمَئِذٍ: ظرف عمل فيه لَخَبِيرٌ وجاز أن يعمل فيما قبله لأن اللام في تقدير التقديم، بخلاف إِنَّ.
البلاغة:
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ التأكيد بإن واللام لزيادة التقرير والبيان.
لَشَهِيدٌ لَشَدِيدٌ بينهما جناس ناقص، وكذلك بين ضَبْحاً وصُبْحاً.
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ استفهام إنكاري للتهديد والوعيد.
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ تضمين، ضمن لفظ لَخَبِيرٌ معنى المجازاة، أي يجازيهم على أعمالهم.
لَشَهِيدٌ، لَشَدِيدٌ، الصُّدُورِ، الْقُبُورِ سجع مرصع.
المفردات اللغوية:
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً أقسم بخيل المجاهدين تعدو، فتضبح ضبحا، قال أبو حيان: والظاهر أن المقسم به هو جنس العاديات، وَالْعادِياتِ الخيل التي تعدو وتسرع في العدو أي الجري جمع عادية. والضّبح: صوت أنفاس الخيل حين العدو أو الجري. فَالْمُورِياتِ الخيل القادحات التي توري النار، أي تخرجها، جمع مورية، والإيراء: إخراج النار بزند ونحوه. قَدْحاً القدح:
إخراج النار، ويلاحظ أن الخيل إذا ركضت أو سارت في أرض ذات حجارة بالليل تقدح شرارة من النار بحوافرها. فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً الخيل التي تغير أو تهجم على العدو بإغارة أصحابها، وقت الصبح، جمع مغيرة.
فَأَثَرْنَ بِهِ هيجن بمكان عدوهن، أو بذلك الوقت وهو الصبح. نَقْعاً غبارا، بشدة حركتهن. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً توسطن بذلك الوقت أو بالعدو أو بالنقع جمعا من جموع الأعداء، أي صرن وسط الجمع.(30/368)
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي لكفور جحود نعمة اللَّه تعالى عليه، والمراد به جنس الإنسان المتحدث عنه، وقيل: المراد به هنا: الكافر. وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ أي وإنه على كنوده لشاهد، يشهد على نفسه بصنعه، لظهور أثره عليه. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ المال لقوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة 2/ 180] . لَشَدِيدٌ لبخيل، أو لشديد الحب له، فيبخل به.
بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ أثير وأخرج ما في القبور من الموتى، أي بعثوا. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ جمع محصلا وأظهر وبيّن ما في القلوب من الكفر والإيمان، والشر والخير والعزائم والنوايا، وتخصيص ذلك لأن القلوب هي الأصل. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ لعالم، فيجازيهم على كفرهم. ويلاحظ أنه أعيد الضمير: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ جمعا، نظرا لمعنى الإنسان. وهذه الجملة:
دلت على مفعول يعلم، أي إنا نجازيه حينئذ. وتعلق (خبير) ب يَوْمَئِذٍ مع أنه تعالى خبير دائما بكل شيء لأنه يوم المجازاة.
سبب النزول: نزول الآية (1) :
أخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيلا، ولبثت شهرا، لا يأتيه منها خبر، فنزلت:
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً.
التفسير والبيان:
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً، فَالْمُغِيراتِ أي قسما بالخيل التي تجري وتعدو بفرسانها المجاهدين في سبيل اللَّه إلى العدو، ويسمع لها حينئذ صوت زفيرها الشديد وأنفاسها المتصاعدة، بسبب شدة الجري. وتخرج شرر النار بحوافرها أثناء الجري بسبب اصطكاك نعالها بالصخر أو الحجر وتغير أو تهجم على العدو وقت الصباح.
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً فهيجن في الصبح أو مكان معترك الخيول غبارا يملأ الجو، ثم توسطن بعدوهن جمعا من الأعداء، اجتمعوا في مكان، ففرّقنه أشتاتا.(30/369)
وإنما أقسم اللَّه تعالى بالخيل لأن لها في الركض (العدو) من الخصال الحميدة ما ليس لسائر الدواب، ولأن الخيل في نواصيها الخير «1» إلى يوم القيامة، ولأنها وسيلة الغزو عند العرب، ولا تكاد تخلو في الأغلب من الخطور ببالهم.
والمراد إعلاء شأنها في نفوس المؤمنين، ليعنوا بتربيتها، وليتدربوا عليها من أجل الجهاد في سبيل اللَّه، وليعتادوا على معالي الأمور، وظواهر الجد والعمل.
وفي هذا القسم ترغيب باقتناء الخيل لهذه الأغراض النبيلة، لا للسمعة والمفاخرة والرياء.
وعلى هذا فاللام في العاديات للعهد، ويحتمل وهو الظاهر كما تقدم عن أبي حيان أن تكون للجنس وليست أل فيه للعهد، ويدخل فيها خيل الجهاد والسرية دخولا أولياء.
وجواب القسم المحلوف عليه هو:
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي إن الإنسان كفور بطبعه للنعمة، كثير الجحد لها، وعدم الإقرار بمقتضاها الموجب لشكر الخالق المنعم، والخضوع لشرعه وأحكامه، إلا من جاهد نفسه، وعقل أمر الدنيا والآخرة، فأقبل على الطاعة والفضيلة، وأحجم عن المعصية والرذيلة.
والظاهر أن المراد بالإنسان هو الجنس، والأكثرون على أن الإنسان هو الكافر لقوله بعد ذلك: أَفَلا يَعْلَمُ. لكنهم قالوا أيضا: ويحتمل أن يراد أن جنس الإنس مفطور على ذلك إلا من عصمه اللَّه بلطفه وتوفيقه، وقوله:
أَفَلا يَعْلَمُ يجوز أن يكون توبيخا على أنه لا يعمل بعلمه.
وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ أي وإن الإنسان على كونه كنودا جحودا لشهيد
__________
(1)
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة.(30/370)
يشهد على نفسه بالجحد والكفران، أي بلسان حاله، وظهور أثر ذلك عليه في أقواله وأفعاله بعصيان ربه، كما قال تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة 9/ 17] .
وقال قتادة وسفيان الثوري: وإن اللَّه على ذلك لشهيد.
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي وإن الإنسان بسبب حبه للمال لبخيل به، أو أن حبه للمال قوي، فتراه مجدّا في طلبه وتحصيله، متهالكا عليه. فصار هناك رأيان في المعنى: أحدهما- وإنه لشديد المحبة للمال، والثاني- وإنه لحريص بخيل بسبب محبة المال، قال ابن كثير: وكلاهما صحيح.
ثم هدد الإنسان وتوعده إذا ظل بهذه الصفات، فقال:
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أي أفلا يدري الجاحد إذا أخرج أو نثر ما في القبور من الأموات، وأبرز وأظهر ما يسرّ الناس في نفوسهم من النوايا والعزائم، والخير والشر، إن رب هؤلاء المبعوثين لخبير بهم، مطلع على جميع أحوالهم، لا تخفى عليه منهم خافية في ذلك اليوم وفي غيره، ومجازيهم في ذلك اليوم على جميع أعمالهم أوفر الجزاء، ولا يظلمون مثقال ذرة. فإذا علموا ذلك ووعوه، فعليهم ألا يشغلهم حب المال عن شكر ربهم وعبادته والعمل للآخرة.
وخص أعمال القلوب بالذكر لأن أعمال الأعضاء الأخرى تابعة لأعمال القلب فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب، لما حصلت أفعال الجوارح.
وأعاد الضمير في قوله: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ بصيغة الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر 103/ 2] ثم قال:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [3] .(30/371)
وإنما قال: يَوْمَئِذٍ مع أنه تعالى عالم بأحوال الناس في كل وقت، للتأكيد على أنه عالم بذلك يوم المجازاة.
وعبّر عن المجازاة بالخبرة والعلم المحيط بهم ولأعمالهم لأن القصد هو التهديد، كما قال تعالى: سَنَكْتُبُ ما قالُوا [آل عمران 3/ 181] مع أن كتابة أقوالهم وأفعالهم حاصلة فعلا، وإنما أراد أننا سنجازيهم بما قالوا الجزاء المناسب.
فيكون قوله تعالى: لَخَبِيرٌ وهو تعالى خبير دائما فيه تضمين (خبير) معنى مجاز لهم في ذلك اليوم «1» .
وهذه الآية تدل على كونه تعالى عالما بالجزئيات الزمانيات لأنه تعالى نص على كونه عالما بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم، فيكون منكر ذلك كافرا.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- أقسم سبحانه بالخيل التي تشغل بها أذهان العرب عادة على رداءة جبلة الإنسان من قلة الشكر والصبر، والحرص على المال، بحيث يكاد يشغله عن تحصيل الكمال الحقيقي، وعن العمل للمعاد الذي إليه مآل العباد.
فقد طبع الإنسان على كفران النعمة، وحب المال وبخله به، وعليه أن يروض نفسه على ما يكون له به النجاة والسعادة.
2- ثم وبخ اللَّه تعالى بالعلم التام الأزلي الأبدي الشامل لأحوال مبدأ الإنسان ومعاده، والتوبيخ أو التهديد مدعاة للعقلاء إلى التأمل في المصير المحتوم، والاستعداد للآخرة بزاد التقوى والفضيلة، والبعد عن العصيان والمخالفة والرذيلة.
__________
(1) البحر المحيط: 8/ 505(30/372)
ولا يختلف العلم وقت المجازاة بالأعمال والأقوال والأحوال عن العلم الأزلي للَّه تعالى بذلك، وإنما قال: يَوْمَئِذٍ للتأكيد على شمول العلم في الماضي والحاضر والمستقبل، ولأن الجزاء منوط بالعمل السابق، فيكون تخصيصه دالا على التذكر وعدم النسيان، وعلى التزام العدل وتوافر العلم وقت الجزاء.(30/373)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القارعة
مكيّة، وهي إحدى عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة القارعة لبدء السورة بها تهويلا وتخويفا، كابتداء سورة الحاقة، والقارعة من أسماء يوم القيامة كالحاقة والطامّة والصاخّة والغاشية ونحو ذلك. وسميت بهذا لأنها تقرع القلوب بهولها.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت السورة السابقة بوصف يوم القيامة: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ وأعقبتها هذه السورة برمّتها بالحديث عن القيامة ووصفها الرهيب وأهوالها المخيفة.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة المكية التخويف بأهوال القيامة، وهي كلها تدور حول الموضوع نفسه.
فقد بدأت بالحديث عن أهوال القيامة وشدائدها، وانتشار الناس فيها من قبورهم كالفراش المتطاير: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ.. [1- 4] .
ثم أشارت إلى بعض أمارات الساعة وهو نسف الجبال وجعلها كالصوف(30/374)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
المندوف، مما يوجد الذعر والهلع والتأثر الشديد في قلوب الناس: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [5] .
وكانت خاتمتها الإخبار عن نصب موازين الحساب التي توزن بها أعمال الناس، فثقيل الميزان بالحسنات إلى الجنة، وخفيف الميزان بالسيئات إلى النار:
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ.. [6- 11] .
أهوال القيامة وأماراتها وميزان الحساب فيها
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
الإعراب:
الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ الْقارِعَةُ: مبتدأ. ومَا: مبتدأ ثان، وما بعده خبره.
وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ما الأولى: مبتدأ، وما بعدها خبره. وما الثانية:
المبتدأ، وخبرها في محل المفعول الثاني ل «أدراك» .
يَوْمَ ظرف عامله تقرع، دل عليه القارعة.
كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ في موضع نصب لأنه خبر يَكُونُ. وكذلك كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ في موضع نصب لأنه خبر يَكُونُ.
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ الفاء: جواب (أما) التي فيها معنى الشرط. وهو: مبتدأ، وفِي عِيشَةٍ: ظرف في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ. وراضِيَةٍ: أي مرضي بها، وهو مما جاء على وزن فاعل، ويراد به مفعول.(30/375)
البلاغة:
وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟ الاستفهام للتفخيم والتهويل، وكذلك: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟.
الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وضع الظاهر موضع الضمير للتخويف والإرهاب، والأصل أن يقال: القارعة ما هي؟
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ تشبيه مرسل مجمل، ذكر فيه أداة التشبيه، وحذف وجه الشبه، وهو: في الكثرة والانتشار، والضعف والهوان. ومثله: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أي في تطايرها وخفة تناثرها.
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ بينهما مقابلة.
فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ مجاز عقلي إذا أريد بالراضية اسم الفاعل، أي راض بها صاحبها.
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ.. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ.. فيهما احتباك: وهو أن يحذف في كلّ نظير ما أثبته في الآخرة، حذف من الأول (فأمه الجنة) وذكر فيها عِيشَةٍ راضِيَةٍ وحذف من الثانية (فهو في عيشة ساخطة) وذكر فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ.
الْقارِعَةُ، راضِيَةٍ، هاوِيَةٌ، ما هِيَهْ، حامِيَةٌ سجع مرصّع.
المفردات اللغوية:
الْقارِعَةُ من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لأنه تقرع القلوب والأسماع بأهوالها وأفزاعها الشديدة، من القرع: الضرب بشدة. وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ما أعلمك، وهو زيادة تهويل لها. كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ أي كالفراش المنتشر المتفرق في الكثرة والانتشار، والذلة والاضطراب، يموج بعضهم في بعض للحيرة، إلى أن يدعوا للحساب. والفراش: طائر معروف أحمق يتهافت على النار.
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ كالصوف المندوف في خفة سيرها وتبددها، حتى تستوي مع الأرض. ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بأن رجحت حسناته على سيئاته. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ذات رضا أو مرضية لصاحبها في الجنة. خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن رجحت سيئاته على حسناته. فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ فمسكنه أو مأواه الذي يأوي إلى نار جهنم. ما هِيَهْ ما هي النار؟ وهاء هيه للسكت تثبت وصلا ووقفا. والهاوية: من أسماء جهنم. نارٌ حامِيَةٌ أي هي نار شديدة الحرارة.(30/376)
التفسير والبيان:
الْقارِعَةُ، مَا الْقارِعَةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟ الْقارِعَةُ من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع، وأي شيء هي، وما أعلمك ما شأن القارعة؟ وقوله: مَا الْقارِعَةُ لتعظيم شأنها وتفخيمه، وقوله:
وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ تأكيد لشدة هولها، وتعظيم أمرها، وتهويل شأنها.
ثم فسر ذلك وأبان زمانها وأماراتها، فقال:
1- يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ أي يوم يخرج الناس من القبور، يسيرون على غير هدى في كل اتجاه، شأنهم في ذلك، كالحشرة الطائرة المعروفة المنتشرة المتفرقة. أو كجميع الحشرات الطائرة، كالبعوض والجراد، فهم في انتشارهم وتفرقهم وذهابهم ومجيئهم بسبب حيرتهم مما هم فيه، كأنهم فراش مبثوث، أي متفرق منتشر، كما قال تعالى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر 54/ 7] . قال الزمخشري: شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب، كما يتطاير الفراش إلى النار.
2- وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أي وتصير الجبال كالصوف ذي الألوان المختلفة، المندوف الذي نقش بالندف لأنها تتفتت وتتطاير، كما في قوله تعالى: وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ [التكوير 81/ 3] وقوله سبحانه: وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [المزمّل 73/ 14] .
وفي ذكر هاتين الأمارتين تخويف للناس وتحذير شديد.
ثم ذكر الجزاء على الأعمال وأحوال الناس وتفرقهم فريقين إجمالا، فقال:
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي أما من ثقلت موازينه بأن رجحت حسناته أو أعماله الصالحة على سيئاته، فهو في عيشة مرضية(30/377)
يرضاها صاحبها في الجنة. والعيشة: كلمة تجمع النعم التي في الجنة.
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ، نارٌ حامِيَةٌ أي وأما من رجحت سيئاته على حسناته، أو لم تكن له حسنات يعتد بها، فمسكنه أو مأواه جهنم. وسماها أمه لأنه يأوي إليها كما يأوي الطفل إلى أمه، وسميت جهنم هاوية وهي الهالكة لأنه يهوي فيها مع عمق قعرها، ولأنها نار عتيقة.
ونحن نؤمن بالميزان كما ورد في القرآن، دون أن ندري كيفية وزنه وتقديره.
وما أعلمك ما هذه النار؟ والاستفهام للتهويل والتخويف، ببيان أنها خارجة عن المعهود، بحيث لا يدرى كنهها. قال الزمخشري: هيه ضمير الداهية التي دل عليها قوله: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أو ضمير هاوية، والهاء للسكت، وإذا وصل القارئ حذفها.
هي نار شديدة الحرارة، انتهى حرها وبلغ في الشدة إلى الغاية، فهي حارة شديدة الحرارة، قوية اللهب والسعير. وهذا دليل على قوتها التي تفوق جميع النيران.
أخرج مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، قالوا: يا رسول اللَّه، إن كانت لكافية؟ فقال: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» .
وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم» .
وأخرج أحمد أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «إن أهون أهل النار عذابا: من له نعلان، يغلي منهما دماغه» .(30/378)
وثبت في الصحيحين: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- القيامة ذات أهوال وشدائد ومخاوف تهز القلوب وتقرع الأسماع، لا يعلم أحد بكنهها لأنها في الشدة بحيث لا يتصورها عقل أحد، وكيفما قدرت فهو أعظم من تقديرك، كأنه تعالى قال: قوارع الدنيا في جنب تلك القارعة كأنها ليست بقوارع، ونار الدنيا في جنب نار الآخرة كأنها ليست بنار.
وفي هذا تحذير شديد وإرهاب لا مثيل له. قال مقاتل: إنها تقرع أعداء اللَّه بالعذاب، وأما أولياؤه فهم من الفزع آمنون.
2- وصف اللَّه يوم القيامة بأمرين:
الأول- كون الناس فيه كالفراش المتفرق المنتشر، وهو الحيوان الذي يتهافت في النار.
الثاني- صيرورة الجبال فيه كالصوف ذي الألوان، المندوف، الذي ينفش بعضه عن بعضه.
ويلاحظ أنه تعالى وصف تغير الأحوال على الجبال من وجوه أربعة:
أولها- أن تصير قطعا، كما قال: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة 69/ 14] .
وثانيها- أن تصير كثيبا مهيلا، كما قال: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل 27/ 88] .(30/379)
وثالثها- ثم تصير كالعهن المنفوش، وهي أجزاء كالذر الداخل من النافذة.
ورابعها- تصير سرابا، كما قال: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ، فَكانَتْ سَراباً [النبأ 78/ 20] «1» .
3- يقسم الناس يوم القيامة إلى قسمين بحسب ثقل موازين أعمالهم وخفتها، فأما من رجحت حسناته على سيئاته فهو في الجنة في عيشة مرضية، وأما من رجحت سيئاته على حسناته فهو في نار حامية شديدة الحرارة. وقوله: نارٌ حامِيَةٌ إشارة إلى أن سائر النيران بالنسبة إلى نار الآخرة غير حامية. وهذا القدر كاف في التنبيه على قوة سخونتها.
والموازين جمع ميزان، فيؤتى بحسنات المطيع في أحسن صورة، فإذا رجح، فله الجنة، ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة، فيخف وزنه، فيدخل النار.
وقال المتكلمون: إن نفس الحسنات والسيئات لا يصح وزنهما، بل المراد أن الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات توزن، أو يجعل النور علامة الحسنات، والظلمة علامة السيئات.
قال أبو بكر رضي اللَّه عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفا.
وقال مقاتل: إنما كان كذلك لأن الحق ثقيل، والباطل خفيف «2» .
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 72
(2) تفسير الرازي: 32/ 73(30/380)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكاثر
مكيّة، وهي ثماني آيات.
تسميتها:
سميت سورة التكاثر لقوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أي شغلكم التفاخر بالأموال والأولاد والأعوان.
مناسبتها لما قبلها:
أخبرت سورة القارعة عن بعض أهوال القيامة، وجزاء السعداء والأشقياء، ثم ذكر في هذه السورة علة استحقاق النار وهو الانشغال بالدنيا عن الدين، واقتراف الآثام، وهددت بالمسؤولية في الآخرة عن أعمال الدنيا.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة المكية ذم العمل للدنيا فقط، والتحذير من ترك الاستعداد للآخرة. لذا تناولت مقاصد ثلاثة:
1- بيان انشغال الناس بملذات الحياة ومغرياتها، والغفلة حتى يأتي الموت:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ [1- 2] .
2- الإنذار بالسؤال عن جميع الأعمال في القيامة: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [3- 4] .(30/381)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
3- التهديد برؤية الجحيم يقينا، ومجابهة أهوال النار، والسؤال عن نعيم الدنيا: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ.. [5- 8] .
سبب نزول السورة:
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن بريدة في قوله: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، قال:
نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار، في بني حارثة وبني الحارث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان بن فلان وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك، تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبور، ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل اللَّه: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ لقد كان لكم فيما رأيتم عبرة وشغل.
التفاخر في الدنيا والسؤال عن الأعمال
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
الإعراب:
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا: حرف معناه الزجر والردع، وليس اسما للفعل، لتضمنه معنى ارتدع، كما أن (صه) اسم فعل لدلالته على السكوت.
لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَوْ: حرف يمتنع به الشيء لامتناع غيره، وجوابه محذوف، وتقديره: لو علمتم لما ألهاكم، وعِلْمَ الْيَقِينِ: منصوب على المصدر.(30/382)
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ بفتح التاء، فهو فعل ثلاثي، عدّي إلى مفعول واحد وهو الْجَحِيمَ.
وقرئ بضم التاء، فتكون الواو نائب فاعل، والْجَحِيمَ: مفعول به ثان، وهو فعل رباعي، عدّي بالهمزة إلى مفعولين، وهو في الأصل يتعدى إلى مفعول واحد لأنه من رؤية العين.
وعَيْنَ الْيَقِينِ مصدر لأن رأى وعاين بمعنى واحد.
لَتُسْئَلُنَّ حذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو ضمير الجمع لالتقاء الساكنين.
البلاغة:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ خبر أريد به التذكير والتوبيخ واللوم.
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ التكرار للتهديد والإنذار، وعطف ب ثُمَّ للتنبيه على أن الثاني أبلغ من الأول.
لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ حذف جواب لَوْ للتهويل والتفخيم، أي لرأيتم ما يدهش ويفزع.
لَتَرَوُنَّ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها إطناب بتكرار الفعل، لبيان شدة الهول.
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ كناية، كنّى بزيارة القبور عن الموت، أي حتى متّم.
النَّعِيمِ الْجَحِيمَ طباق.
تَعْلَمُونَ، الْيَقِينِ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وكذا بين الْجَحِيمَ والنَّعِيمِ.
المفردات اللغوية:
أَلْهاكُمُ شغلكم، واللهو: الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى. التَّكاثُرُ التفاخر بالأموال والأولاد والرجال. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي حتى متّم ودفنتم في القبور. كَلَّا ردع وزجر. سَوْفَ تَعْلَمُونَ سوء عاقبة تفاخركم عند النزع وفي القبر وفي الآخرة. لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ علم الأمر المتيقن، أي لو علمتم يقينا عاقبة التفاخر ما اشتغلتم به. والعلم اليقيني: ما نشأ عن اعتقاد مطابق للواقع عن عيان أو دليل قطعي ثابت، دل عليه العقل الصحيح أو النقل الثابت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ النار، جواب قسم محذوف آكد به الوعيد، للتفخيم. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها تأكيد. عَيْنَ الْيَقِينِ أي عيانا هي اليقين نفسه. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ في موقف الحساب، وثُمَّ هنا للترتيب الإخباري. عَنِ النَّعِيمِ ما يلتذ به في الدنيا من الصحة والفراغ والأم والطعام والشراب وغير ذلك.(30/383)
سبب النزول:
تقدم سبب نزول السورة عن ابن أبي حاتم.
وأخرج ابن جرير عن علي قال: كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ إلى ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ في عذاب القبر.
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد اللَّه بن الشّخّير قال: انتهيت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو يقول: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ يقول ابن آدم:
مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» .
وقال مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأمضى، وما سوى ذلك فذاهب، وتاركه للناس» .
التفسير والبيان:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي شغلكم التفاخر والتباهي بالأموال والأولاد والأعوان، والاعتناء بكثرتها وتحصيلها، شغلكم عن طاعة اللَّه والعمل للآخرة، حتى أدرككم الموت، وأنتم على تلك الحال.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله» .
وأخرج أحمد وصاحبا الصحيحين عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يهرم ابن آدم، ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل» .(30/384)
أما زيارة القبور، فمباحة بالآداب الشرعية، بأن يبدأ الزائر السلام على صاحب القبر عند رأسه، ثم يتجه إلى القبلة ويدعو اللَّه عز وجل بالرحمة والمغفرة للميت ولنفسه وللمسلمين،
أخرج ابن ماجه عن ابن مسعود: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور، فإنها تزهّد في الدنيا، وتذكّر الآخرة»
وهو صحيح،
وأخرج الحاكم في صحيحة عن أنس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها ترقّ القلب، وتدمع العين، وتذكّر الآخرة، ولا تقولوا هجرا» .
وهذا دليل على أنها تمنع إذا كانت مصحوبة بمنكرات، كالاختلاط والفتن والنواح.
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ أي ردعا وزجرا لكم عن هذا التكاثر المقيت الذي يؤدي إلى التقاطع والتدابر والأحقاد والضغائن، وإهمال العمل للآخرة، وخير الأمة، وتصحيح السلوك والأخلاق. وستعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة. قال الزمخشري: كَلَّا ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه، ولا يهتم بدينه.
والجملة الثانية كررت للتأكيد والتغليظ والوعيد والزجر.
كَلَّا، لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي ارتدعوا عن هذا اللهو بالدنيا، فإنكم لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علما يقينا، لانشغلتم عن التكاثر والتفاخر، ولبادرتم إلى صالح الأعمال، ولما ألهاكم التباهي عن أمر الآخرة العظيم والإعداد لها. وجواب لَوْ محذوف، أي لو علمتم لما ألهاكم.
وهذا زيادة في الزجر واللوم عن الانهماك في الدنيا، والاغترار بمظاهر الحياة الفارغة الزائلة. وليس الكلام مجرد وعظ، وإنما الخطر الداهم يقتضي عمق التأمل والتفكر في مستقبل الآخرة، وذلك لا يتوافر عادة بغير إيمان قوي، وقلب واع سليم. وتكرار لفظ كَلَّا المفيدة للزجر، للدلالة على استحقاق ضرر آخر(30/385)
غير العذاب. وقال الحسن: كَلَّا بمعنى حقا كأنه قيل: حقا لو تعلمون علم اليقين.
ثم فسر الوعيد فقال:
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ أي لتشاهدن النار في الآخرة، والمراد ذوق عذابها وهذا جواب قسم محذوف. وهو توعد بحال رؤية النار التي إذا زفرت زفرة واحدة، خرّ كل ملك مقرّب، ونبي مرسل، على ركبتيه من المهابة، والعظمة، ومعاينة الأهوال الجسام.
ثم أكد ذلك بقوله:
ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ أي ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين، وهي المشاهدة والرؤية بأعينكم، فإياكم الوقوع فيما يؤدي إلى النار من اقتراف المعاصي والسيئات، وارتكاب الموبقات والمنكرات.
ثم أكد السؤال عن الأعمال للتحذير فقال:
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ أي إنكم سوف تسألون عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة، وتسألون عن أنواع نعيم الدنيا من أمن وصحة وفراغ ومأكول ومشروب ومسكن وغير ذلك من النعم، قال الزمخشري: عَنِ النَّعِيمِ عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه. وقال الرازي: والأظهر أن الذي يسأل عن النعيم هم الكفار، وفي قول آخر: أنه عام في حق المؤمن والكافر، واحتجوا بأحاديث منها:
روي عن عمر أنه قال: «أي نعيم نسأل عنه يا رسول اللَّه، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقيكم من الحر والبرد، والماء البارد في اليوم الحار» .(30/386)
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن محمود بن لبيد قال: «لما نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ فقرأها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى بلغ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قالوا: يا رسول اللَّه، أي نعيم نسأل عنه؟ وإنما هما الأسوان: الماء والتمر، وسيوفنا على رقابنا، والعدو حاضر، فعن أي نعيم نسأل؟ قال: أما إن ذلك سيكون» .
وثبت في صحيح البخاري وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس:
الصحة والفراغ» .
أي أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه، فهو مغبون.
وعن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه الترمذي عن أبي برزة: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به» .
وأخرج البخاري في الأدب والترمذي وابن ماجه عن عبيد اللَّه بن محصن:
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» .
وأخرج ابن جرير ومسلم وأهل السنن عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: «بينما أبو بكر وعمر جالسان إذ جاءهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: ما أجلسكما هاهنا؟
قالا: والذي بعثك بالحق، ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع، قال: والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره، فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار «1» ، فاستقبلتهم المرأة، فقال لها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أين فلان؟ فقالت: ذهب يستعذب لنا ماء، فجاء صاحبهم يحمل قربته، فقال: مرحبا ما زار العباد شيء أفضل من نبي، زارني اليوم، فعلق قربته بكرب نخلة، وانطلق فجاءهم بعذق، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألا كنت اجتنيت؟ فقال: أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم، ثم أخذ الشفرة، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إياك والحلوب، فذبح لهم يومئذ فأكلوا، فقال لهما
__________
(1) هو مالك بن التّيّهان الأنصاري، أبو الهيثم.(30/387)
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لتسألن عن هذا يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، فلم ترجعوا حتى أصبتم، هذا، فهذا من النعيم» .
والظاهر أن السؤال عن النعيم للعموم لأجل لام الجنس إلا أن سؤال الكافر للتوبيخ لأنه عصى وكفر، وسؤال المؤمن للتشريف، فإنه أطاع وشكر.
والظاهر أن هذا السؤال في موقف الحساب، وهو متقدم على مشاهدة جهنم، ومعنى ثُمَّ الترتيب في الأخبار، ثم أخبركم أنكم تسألون.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- يحذر اللَّه تعالى من ترك العمل الصالح والاستعداد للآخرة، ويوبخ الذين تشغلهم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة اللَّه، حتى يموتوا ويدفنوا في المقابر.
والتوبيخ عام يشمل التفاخر بكل شيء من الأموال والأولاد، والقبائل والعشائر، والسلطة والجاه، والرجال والأعوان، فهو يتضمن التفاخر بالنفس وهي العلوم والأخلاق الفاضلة، والتفاخر بالبدن وهو الصحة والجمال، والتفاخر بالأمور الخارجية وهي المال والجاه والأعوان والأقرباء والأصدقاء.
2- لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة، وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي لأنها تذكّر الموت والآخرة. وذلك يحمل على قصر الأمل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها، كما تقدم في الأحاديث الثابتة.
وجاء في الترمذي عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعن زوّارات القبور.
ورأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في زيارة القبور، فلما رخّص دخل في رخصته الرجال والنساء. وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء، لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن.(30/388)
والخلاصة: زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء، مختلف فيه للنساء، أما الشوابّ فحرام عليهن الخروج، وأما القواعد الكبيرات فمباح لهن ذلك. وجائز لجميعهن إذا انفردن بالخروج عن الرجال. وإذا حدثت فتنة من اجتماع الرجال والنساء، فلا يحل ولا يجوز.
3- قال العلماء: ينبغي لعلاج القلب ثلاثة أمور: طاعة اللَّه، والإكثار من ذكر الموت (هاذم اللذات) وزيارة قبور أموات المسلمين.
4- كرر اللَّه تعالى في هذه السورة الوعيد بعد الوعيد، للتأكيد والتغليظ على ثبوت عذاب القبر وعذاب الآخرة، وأن ما وعدنا به من البعث وتوابعه حق وصدق. ثم أعاد تعالى الزجر والتنبيه على أنه إن لم يفعل الناس العمل الصالح، وترك التفاخر بالأموال والأولاد والرجال، يندمون، ويستوجبون العقاب.
5- أتى اللَّه تعالى بوعيد آخر بقسم محذوف: واللَّه لترون الجحيم في الآخرة، وهذا خطاب للكفار الذين وجبت لهم النار، وقيل: الخطاب عام، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم 19/ 71] فهي للكفار دار، وللمؤمنين ممر. ثم أخبر تعالى عن رؤية الجحيم رؤية مشاهدة بالأعين، وبعيون القلوب والأفئدة.
6- يسأل الناس يوم القيامة عن ألوان النعيم في الدنيا، من ظلال المساكن والأشجار، وطيب الحياة والرفاهية، والصحة والفراغ، والأمن والستر ونحو ذلك. والكل يسألون، ولكن سؤال الكفار توبيخ لأنه قد ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر، وهذا النعيم في كل نعمة. ويكون السؤال في موقف الحساب، وقيل: بعد الدخول في النار توبيخا لهم، والأول هو الظاهر.(30/389)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العصر
مكيّة، وهي ثلاث آيات.
تسميتها:
سميت سورة العصر لقسم اللَّه به في مطلعها بقوله: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ وَالْعَصْرِ: الدهر، لاشتماله على الأعاجيب، من سرّاء وضرّاء، وصحة وسقم، وغنى وفقر، وعز وذل، وانقسامه إلى أجزاء: سنة وشهر ويوم وساعة ودقيقة وثانية.
مناسبتها لما قبلها:
لما بيّن في السورة المتقدمة أن الاشتغال بأمور الدنيا والتهالك عليها مذموم، أراد أن يبين في هذه السورة ما يجب الاشتغال به من الإيمان والأعمال الصالحات، وهو ما يعود إلى النفس، ومن التواصي بالخيرات وكفّ النفس عن المناهي أو المعاصي، وهو ما يعود إلى المجتمع. والخلاصة: بعد أن قال: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ وهدد بتكرار: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ بيّن حال المؤمن والكافر.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المكية الموجزة توضح أصول الإسلام الكبرى، ودستور الحياة الإنسانية.
فقد أقسم اللَّه تعالى بالعصر الذي هو الدهر أو الزمان المشتمل على العجائب(30/390)
والدال على قدرة اللَّه وحكمته البالغة على خسارة الإنسان إلا من اتصف بالأوصاف الأربعة، وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي مع الآخرين بالحق، والتواصي بالصبر والمصابرة.
فضلها:
ذكر الرواة أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب، وذلك بعد ما بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟! فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال:
وما هي؟ فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ففكر مسيلمة هنيهة، ثم قال:
وقد أنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هو؟ فقال:
يا وبر يا وبر «1» ، وإنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفر نقر.
ثم قال كيف ترى يا عمرو: فقال له عمرو: واللَّه لتعلم أني أعلم أنك تكذب.
وذكر الطبراني عن عبيد اللَّه بن حفص قال: كان الرجلان من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا التقيا لم يفترقا، إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر. وأخرجه البيهقي عن أبي حذيفة.
وقال الشافعي رحمه اللَّه: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.
__________
(1) الوبر: دويبة تشبه الهر، أعظم شيء فيه أذناه وصدره، وباقيه دميم، فأراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن، فلم يرج ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزمان (تفسير ابن كثير 4/ 547) .(30/391)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
رسالة الحياة أو حال المؤمن والكافر
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
الإعراب:
وَالْعَصْرِ قسم، وجوابه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ والمراد بالإنسان: الجنس، ولهذا استثنى منه: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
وَتَواصَوْا أصله «تواصيوا» إلا أنه تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فانقلبت ألفا، فاجتمع ساكنان: الألف والواو بعدها، فحذفوا الألف لالتقاء الساكنين.
البلاغة:
إِنَّ الْإِنْسانَ أي الناس بدليل الاستثناء، فهو إطلاق البعض وإرادة الكل.
لَفِي خُسْرٍ التنكير للتعظيم، أي في خسر عظيم.
وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ إطناب بتكرار الفعل، لزيادة العناية به.
وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ بعد قوله: بِالْحَقِّ خاص بعد عام، فإن الصبر داخل في عموم الحق، إلا أنه خصصه بالذكر للاهتمام به بعينه.
الْعَصْرِ، بِالصَّبْرِ، خُسْرٍ سجع عفوي غير متكلف، وهو من المحسنات البديعية.
المفردات اللغوية:
وَالْعَصْرِ والدهر، أقسم اللَّه به لاشتماله على الأعاجيب، وقيل: صلاة العصر، أو وقت العصر من بعد الزوال إلى الغروب. إِنَّ الْإِنْسانَ جنس الإنسان فالتعريف للجنس.
خُسْرٍ خسارة أو خسران في تجارته، والتنكير للتعظيم. والخسارة: النقصان وضياع رأس المال. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا، ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة الدائمة، فليسوا في خسران.(30/392)
بِالْحَقِّ وهو الشيء الثابت الذي لا يصح إنكاره من اعتقاد أو عمل، أو هو ما أرشد إليه دليل قاطع، أو عيان ومشاهدة، أو شرع صحيح جاء به نبي معصوم.
والتواصي بالحق: أن يوصي الناس بعضهم بعضا بما لا مجال لإنكاره من إيمان وخير وفضيلة.
بِالصَّبْرِ قوة في النفس تدعو إلى احتمال المشقة في العمل. والتواصي بالصبر: أن يوصي الناس بعضهم بعضا به، ويحث الواحد غيره عليه.
وقد اكتفى سبحانه ببيان سبب الربح دون الخسران لأنه المقصود، وما عداه يؤدي إلى الخسران والنقص.
التفسير والبيان:
وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أي قسما بالعصر وهو الدهر أو الزمان الذي يمر به الناس لما فيه من العبر وتقلبات الليل والنهار، وتعاقب الظلام والضياء، وتبدل الأحداث والدول، والأحوال والمصالح، مما يدل على وجود الصانع عزّ وجلّ وعلى توحيده وكمال قدرته، أقسم بذلك على أن الإنسان في خسارة وهلاك ونقص وضلال عن الحق، في المتاجر والمساعي، وصرف الأعمال في أعمال الدنيا، إلا من استثناهم اللَّه فيما يأتي. وإقسام اللَّه بالدهر دليل على شرفه وأهميته، لذا
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة: «لا تسبّوا الدهر، فإن اللَّه هو الدهر» .
والآية كما ذكر الرازي كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة.
وقيل: المراد بالعصر: صلاة العصر، أو وقتها تعظيما لها، ولشرفها وفضلها، ولهذا فسّر بها الصلاة الوسطى عند كثير من العلماء. وفيه إشارة إلى أن عمر الدنيا الباقي هو ما بين العصر إلى المغرب، فعلى الإنسان أن يشتغل بتجارة لا خسران فيها، فإن الوقت قد ضاق، وقد لا يمكن تدارك ما فات.
والمراد بالإنسان: الجنس، واللام لام الجنس وهو الراجح. وقيل: اللام في الإنسان لمعهود معين، كما روي عن ابن عباس أنه أراد جماعة من المشركين(30/393)
كالوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطّلب. قال أبو حيان:
والعصر، والإنسان: اسم جنس يعم، ولذلك صح الاستثناء منه.
ثم استثنى من جنس الإنسان عن الخسران ما يأتي:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي إن الإنسان لفي خسارة وضياع ونقصان وهلاك إلا الذين جمعوا بين الإيمان باللَّه والعمل الصالح، فإنهم في ربح، لا في خسر لأنهم عملوا للآخرة، ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها، فآمنوا بقلوبهم، وعملوا بجوارحهم (أعضائهم) .
وإلا الذين وصّى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره: وهو الإيمان باللَّه والتوحيد، والقيام بما شرعه اللَّه، واجتناب ما نهى عنه. والحق خلاف الباطل، ويشمل جميع الخيرات وما يلزم فعله، أو هو أداء الطاعات، وترك المحرّمات. قال الزمخشري: وهو الخير كله، من توحيد اللَّه وطاعته واتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة.
وإلا الذين أوصى بعضهم بعضا بالصبر على فرائض اللَّه، وعن معاصي اللَّه، وعلى أقداره وبلاياه. والصبر يشمل احتمال الطاعات، واجتناب المنكرات، وتحمل المصائب والأقدار، وأذي الذي يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت السورة على ما يأتي:
1- الإنسان وإن ربح الثورة الكبيرة والمال الوفير، فهو في خسارة محققة، إن لم يعمل للآخرة عملا طيبا صحيحا.
2- أقسم اللَّه تعالى على هذا الحكم بأي عصر أو زمان، لما فيه من التنبيه(30/394)
بتصرف الأحوال وتبدّلها، وما فيها من الدلالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته ومزيد حكمته التي تظهر أحيانا بعد مرور الزمان.
والعصر في الحلف بالأيمان مختلف في تقديره عند الفقهاء، فقال مالك: من حلف ألا يكلم رجلا عصرا، يحمل على السنة لأنه أكثر ما قيل فيه، وذلك على أصله في تغليظ المعنى في الأيمان.
وقال الشافعي: يبرّ بساعة، إلا أن تكون له نية، أو يفسره بما يحتمله، وذلك حملا على الأقل المتيقن المراد بالعصر.
3- حكم اللَّه تعالى بالوعيد الشديد لأنه حكم بالخسارة على جميع الناس إلا من كان آتيا بأشياء أربعة أو متصفا بصفات أربع، وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
فدلّ ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور، وعناصر الإيمان ستة:
أن تؤمن باللَّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. والعمل الصالح: أداء الفرائض واجتناب المعاصي، وفعل الخير.
والتواصي بالحق: أن يوصي بعضهم بعضا بالأمر الثابت، ويحث بعضهم بعضا على توحيد اللَّه، والعمل بالقرآن، والدعوة إلى الدين والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه. قال عمر رضي اللَّه عنه:
رحم اللَّه من أهدى إلي عيوبي.
والتواصي بالصبر: أن يوصي الناس بعضهم بعضا على طاعة اللَّه عزّ وجلّ، والصبر عن معاصيه، والرضا بالقضاء والقدر في المصائب والمحن.
4- قال الإمام الرازي رحمه اللَّه: دلت الآية على أن الحق ثقيل، وأن المحن تلازمه، فلذلك قرن به التواصي «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 90(30/395)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الهمزة
مكيّة، وهي تسع آيات.
تسميتها:
سميت سورة الهمزة لبدئها بقول اللَّه تبارك وتعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ والهمزة: الذي يغتاب الناس ويطعن بهم بقول أو فعل أو إشارة، واللمزة: الذي يعيب الناس بإشارة الحاجب والعين. قال ابن عباس:
الهمزة: المغتاب، واللمزة: العياب.
مناسبتها لما قبلها:
بعد أن ذكر اللَّه تعالى في السورة المتقدمة أن جنس الإنسان في خسران ونقص وهلكة، أبان في هذه السورة حال الخاسر وأراد به تبيان الخسران بمثال واحد.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المكية في علاج مشكلة خلقية مستعصية بين الناس وهي الطعن في الآخرين بالغيبة أثناء غيابهم، أو بالعيب حال حضورهم.
وقد بدأت بالإخبار عن العذاب الشديد لكل عيّاب طعّان للناس، ينتقص الآخرين ويزدريهم ويسخر بهم: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [1] .
ثم ذمّت السورة الذين يحصرون على جمع الأموال في الدنيا، كأنهم مخلدون فيها: الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ ... [2- 3] .(30/396)
وختمت بردع الفريقين السابقين، وأنبأتهم بمصيرهم الأسود وهو النبذ في الحطمة: نار جهنم.
سبب نزولها:
قال عطاء والكلبي والسّدي: نزلت في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم، وبخاصة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من ورائه، ويطعن عليه في وجهه. وروي أيضا أن أمية بن خلف كان يفعل ذلك.
وقال محمد بن إسحاق والسهيلي: ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت في أمية بن خلف «1» . وقد روى ذلك ابن جرير عن عثمان وابن عمر.
قال أبو حيان: ونزلت في الأخنس بن شريق، أو العاص بن وائل، أو جميل بن معمر، أو الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف: أقوال، ويمكن أن تكون نزلت في الجميع، وهي مع ذلك عامة فيمن اتصف بهذه الأوصاف» .
وعلى هذا فاللفظ عام، وإن كان في الأصل يشير إلى شخص معين، وكذلك قوله تعالى في سورة ن: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ..
[10- 15] ، فإنه سبحانه تابع في سرد الصفات حتى علم أنه يريد في الأصل إنسانا بعينه.
والقاعدة العامة عند المحققين والأصوليين: أن خصوص السبب لا ينافي عموم اللفظ.
وهذه السورة تشتمل على سدس من مقاصد القرآن، وهو حكاية أقوال الجاحدين.
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 91
(2) البحر المحيط: 8/ 510(30/397)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
الطعّان العيّاب للناس وجزاؤه
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
الإعراب:
الَّذِي جَمَعَ مالًا.. الَّذِي: إما في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: وهو الذي، أو في موضع نصب بفعل مقدر، أي أعني، أو في موضع على البدل من «كل» .
لَيُنْبَذَنَّ بفتح الذال، أراد به: الذي جمع، والأصل في الذال أن تكون ساكنة لبناء الفعل المضارع، لدخول نون التوكيد، إلا أنه حركت الذال لالتقاء الساكنين، وكان الفتح أولى لأنه أخف الحركات. ومن قرأ بضم الذال، أراد به: المال والهمزة واللمزة. وقرئ: «لينبذان» بألف التثنية، وأراد به المال وصاحبه. وهو جواب قسم محذوف، أي ليطرحن.
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ عَمَدٍ: بفتح العين والدال، أراد به اسم الجمع، وقرئ «عمد» بضمتين، وأراد به جمع عمود، كرسول ورسل.
البلاغة:
هُمَزَةٍ، لُمَزَةٍ من صيغ المبالغة، على وزن: فعلة، كنومة، وعيبة وسحرة وضحكة.
جَمَعَ مالًا تنكير مالًا للتفخيم، أي جمع مالا كثيرا.
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ الاستفهام للتفخيم والتهويل لنار جهنم، والْحُطَمَةِ: من صيغ المبالغة.
هُمَزَةٍ، لُمَزَةٍ جناس ناقص أو غير تام.
عَدَّدَهُ، أَخْلَدَهُ، الْمُوقَدَةُ، مُمَدَّدَةٍ سجع مرصع، لتوافق الفواصل.(30/398)
المفردات اللغوية:
وَيْلٌ خزي وعذاب شديد، ويراد به الندم والتقبيح. هُمَزَةٍ مغتاب طعّان في أعراض الناس وكراماتهم. لُمَزَةٍ عيّاب يعيب عادة بالحاجب أو العين أو اليد أو الرأس تحقيرا للناس وترفعا عليهم. عَدَّدَهُ عدّه مرة بعد أخرى تلذذا به، أو جعله عدّة للنوازل وحوادث الدهر.
يَحْسَبُ يظن لجهله. أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ جعله خالدا في الدنيا، لا يموت. كَلَّا ردع وزجر. لَيُنْبَذَنَّ ليطرحنّ وليرمين بإهانة وتحقير، وهو جواب قسم محذوف. فِي الْحُطَمَةِ نار جهنم، سميت لذلك لأنها تحطم كل ما ألقي فيها، من الحطم: وهو الكسر.
الْمُوقَدَةُ المسعّرة. تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ تعلو أوساط القلوب، وتحيط بها، وخصت الأفئدة بالذكر لأنها محل العقائد الزائغة ومنشأ الأعمال الفاسدة القبيحة. مُؤْصَدَةٌ مطبقة مغلقة عليهم، من أوصدت الباب: إذا أغلقته. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ في أعمدة طويلة، فتكون النار داخل العمد، جمع عمود.
التفسير والبيان:
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ أي خزي وعذاب شديد لكل من يغتاب الناس ويطعن بهم أو يعيبهم في حضورهم، قال مقاتل: إن الهمزة: الذي يغتاب بالغيبة، واللمزة: الذي يغتاب في الوجه. وقال ابن عباس: هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ طعان معياب.
ثم ذكر أوصافا أخرى له:
الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ أي أن ذلك الهمزة اللمزة الذي يزدري الناس ويحتقرهم ويترفع عليهم بسبب إعجابه بما جمع من المال وأحصاه، وظن أن له به الفضل على غيره، كقوله تعالى: جَمَعَ فَأَوْعى [المعارج 70/ 18] .
يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظن أن ماله يضمن له الخلود ويتركه حيّا مخلدا لا يموت لشدة إعجابه بما يجمعه من المال، فلا يعود يفكر بما بعد الموت.(30/399)
ثم ردّ اللَّه عليه أوهامه وزجره على مزاعمه، فقال:
كَلَّا، لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ أي زجرا له وردعا، فليس الأمر كما زعم ولا كما حسب، بل ليلقين ويطرحن هذا الذي جمع ماله هو وماله في النار التي تحطم أو تهشم كل ما يلقى فيها.
ثم هوّل عليه شأن النار وعرفها له، فقال:
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ، نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ أي وما أعلمك ما هذه النار، وأي شيء هي؟ فكأنها لا تدركها العقول، هي نار اللَّه الموقدة المستقرة بأمر اللَّه سبحانه، التي لا تخمد أبدا.
وفائدة وصف جهنم بالحطمة مناسبتها لحال المتكبر المتجبر بماله، المترفع على غيره، فهي تكسر كسرا كل ما يلقى فيها، لا تبقي ولا تذر.
وإضافة نارُ اللَّهِ للتفخيم، أي هي نار، لا كسائر النيران.
ثم وصف النار بأوصاف ثلاثة هي:
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ أي التي تعلو القلوب وتغشاها بحرها الشديد، وتحرقهم وهم أحياء. والقلوب أشد أجزاء البدن تألما، وخصت بالذكر لأنها محل العقائد الزائغة، والنيات الخبيثة، وسوء الأخلاق من الكبر واحتقار الناس، والأعمال القبيحة.
وهي عليهم مطبقة، مغلقة عليهم أبوابها جميعا، فلا منافذ، ولا يستطيعون الخروج منها، كما قال تعالى: عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ [البلد 90/ 20] ، وقال سبحانه: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ، أُعِيدُوا فِيها.. [الحج 22/ 22] .(30/400)
وهي أيضا كائنة في أعمدة ممددة طويلة موثّقة. قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم شدّت بأوتاد من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح.
والآية تفيد المبالغة في العذاب بقوله: لَيُنْبَذَنَّ أي أنه موضع له قعر عميق جدا كالبئر، وأن أبوابها لا تفتح ليزيد في حسرتهم، وتغلق إغلاقا محكما للتيئيس من الخروج منها، وممددة في أعمدة دائمة اللهب، فلا أمل في إطفائها أو تخفيف شدة حرارتها.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- الخزي والعذاب والهلكة لكلّ مغتاب عيّاب طعّان للناس.
قال النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «شرار عباد اللَّه تعالى المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون البراء العيب» «1» .
2- كأن سبب الهمز واللمز والترفع على الناس وازدرائهم هو المال وطول الأمل، لأن الغنى يورث الإعجاب والكبر، وعدّ المال من غير ضرورة دليل على المتعة النفسية والزخرفة الدنية، والانشغال عن السعادة الباقية، ولأن المال يطول الأمل، ويمنّي بالأماني البعيدة، حتى أصبح لفرط غفلة صاحب المال يحسب أن ماله يتركه خالدا في الدنيا.
3- ردع اللَّه تعالى عن كل هذه المزاعم والتحسبات، فالمال لا يرفع القدر، ولا يقتضي الطعن بالآخرين، وليس المال كما يظن مخلّدا في الدنيا، بل المخلّد هو العلم والعمل، كما قال علي رضي اللَّه عنه: مات خزّان المال، وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر.
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 181 [.....](30/401)
4- حدد اللَّه تعالى عقاب الهمزة اللمزة جامع المال حبّا فيه لذاته، وهو الطرح أو الإلقاء في نار جهنم التي تحطم كل ما يلقى فيها، وهي نار اللَّه الموقدة غير الخامدة، التي أعدها اللَّه للعصاة، والتي تأكل جميع ما في الأجساد، حتى تبلغ الفؤاد، ثم يخلقون خلقا جديدا، فترجع تأكلهم.
وهي مغلقة الأبواب، مطبقة عليهم، حال كونهم موثقين بأعمدة، وهي في أعمدة طوال تلتف بهم من كل جانب.
روى خالد بن أبي عمران عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: [أن النار تأكل أهلها، حتى إذا اطلعت على أفئدتهم- أي تعلوها وتغلبها- انتهت، ثم إذا صدروا تعود، فذلك قوله تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ] .(30/402)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفيل
مكيّة، وهي خمس آيات.
تسميتها:
سميت سورة الفيل لافتتاحها بالتذكير بقصة أصحاب الفيل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ؟ أي ألم تعلم علم اليقين ماذا صنع ربّك العظيم القدير بأبرهة الحبشي قائد اليمن وأتباعه الذين أرادوا هدم البيت الحرام؟!
مناسبتها لما قبلها:
ذكر اللَّه تعالى في السورة السابقة الهمزة حال الهمزة اللمزة الذي جمع مالا، وتعزز بماله، وأفاد تعالى أن المال لا يغني من اللَّه شيئا، ثم ذكر في هذه السورة الدليل على ذلك، بإيراد قصة أصحاب الفيل الذين كانوا أشدّ منهم قوة، وأكثر مالا، وأعظم عتوا، وقد أهلكهم اللَّه بأصغر الطير وأضعفه، ولم يغن عنهم مالهم ولا عددهم ولا قوتهم شيئا.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المكية مقصورة على بيان قصة أصحاب الفيل الذين اعتمدوا على قوتهم وما لهم وقدرتهم على البطش بجيش جرار لا يقهر، ثم أبادهم اللَّه عن بكرة أبيهم، حينما أرادوا هدم الكعبة، بقصف من الحجارة الربانية المعلقة بأرجل طير(30/403)
صغار، وجعلهم كعصف مأكول، أي كبقايا الزرع بعد الحصاد الذي تأكله الماشية، وتعصف به الريح في كل مكان.
أضواء من التاريخ على قصة أصحاب الفيل:
كان على اليمن قائد من قبل أصحمة النجاشي (ملك الحبشة) واسمه أبرهة بن الصباح الأشرم جدّ النجاشي الذي عاصر النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قد بنى كنيسة عظيمة سمّاها «القلّيس» ليصرف إليها حج العرب، فقام رجل من كنانة وتغوط فيها ليلا، فأغضبه ذلك، وأقسم ليهدمن الكعبة، مستغلا هذا الحادث، ومريدا في الواقع فتح مكة لربط اليمن ببلاد الشام، وتوسيع بلاد النصرانية.
فجهز جيشا عظيما، مصحوبا بفيلة كثيرة قيل: اثنا عشر، وقيل: ألف، زيادة في الإرهاب والتخويف، وسار حتى وصل إلى «المغمّس» موضع قرب مكة، فأرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم، وإنما جاء لهدم الكعبة، فاستعظموا الأمر، وفزعوا له، وأرادوا محاربته، فرأوا ألا طاقة لهم بأبرهة وجنوده، واعتصموا بالجبال ينظرون ماذا يحدث، واثقين بأن للبيت ربّا يحميه.
ولما اقترب الجيش من مكة أمر أبرهة بنهب أموال العرب، وكان فيها إبل لعبد المطلب بن هاشم جدّ النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاستاقها الجند، وكان عددها مائتي بعير، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وأمره أن يأتيه بأشرف قريش وأن يخبره أن الملك لم يجئ لقتالكم إلا أن تصدّوه عن البيت، فجاء حناطة، فدلوه على عبد المطلب بن هاشم، وبلّغه عن أبرهة ما قال، فقال له عبد المطلب: واللَّه ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت اللَّه الحرام، وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلي بينه وبينه، فو اللَّه ما عندنا دفع عنه، فقال له حناطة: فاذهب معي إليه، فذهب معه، فلما رآه أبرهة أجلّه، وكان عبد المطلب رجلا جسيما حسن المنظر، فنزل أبرهة عن سريره،(30/404)
وأجلسه معه على البساط، وسأله عن حاجته، فقال: حاجتي أن يردّ عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي.
فتعجب أبرهة، وقال: أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟! فقال له عبد المطلب: إني أنا ربّ الإبل، وإن للبيت ربّا سيمنعه عنك، قال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك «1» . وكان قد عرض عبد المطلب ومن معه من أشراف العرب على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت، فأبى عليهم، وردّ أبرهة على عبد المطلب إبله، ثم رجع وأتى باب البيت ومعه نفر من قريش، وأخذوا بحلقة باب الكعبة يدعون اللَّه، ويستنصرونه على أبرهة وجنده.
ثم زحف الجيش نحو البيت ودخلوا مكة، وكان معه فيل عظيم اسمه «محمود» كلما وجهوه إلى جهة الحرم، برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى جهة اليمن أو إلى سائر الجهات هرول.
وفي اليوم التالي وبينما عبد المطلب يدعو، التفت، فإذا هو بطير من نحو اليمن جهة البحر، فقال: واللَّه إنها لطير غريبة، ما هي بنجدية ولا تهامية.
وكان مع كل طائر أحجار تحملها بمناقيرها وأرجلها، فألقتها عليهم، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك. وفرّ الجيش هاربين نحو اليمن، يتساقطون في الطريق، وأصيب أبرهة في جسده، وبدأت أنامله تسقط أنملة أنملة، ولحمه يتساقط، حتى قدموا به «صنعاء» فمات شرّ ميتة «2» .
__________
(1) سيرة ابن هشام: 1/ 49 وما بعدها.
(2) المرجع السابق: 1/ 43- 57(30/405)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
وكان لهذه الهزيمة أثر كبير في التاريخ وبين العرب، فأعظموا قريشا، وقالوا: هم أهل اللَّه، قاتل اللَّه عنهم، وكفاهم العدو، وازدادوا تعظيما للبيت، وإيمانا بمكانه عنه اللَّه «1» .
وأراد اللَّه بهذا الحادث تعظيم بيته، وإعلاء شأنه، وتهيئة أمة العرب لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله.
وكان ذلك الحدث التاريخي المهم في عام ميلاد النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، سنة 570 م، أي كان بين عام الفيل ومبعث النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أربعون سنة. وكان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة، وقد بلغت حدّ التواتر حينئذ، فما ذاك إلا إرهاص للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قصة أصحاب الفيل
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
الإعراب:
أَلَمْ تَرَ معناه الإيجاب أي قد علمت لأن همزة الاستفهام لما دخلت على لَمْ وهي حرف نفي، والاستفهام كالنفي، اجتمع نفيان، فلما دخل النفي على النفي، انقلبت إيجابا.
وكَيْفَ: في موضع نصب بفعل بعده، ولا يجوز أن يعمل فيه تَرَ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده. وجملة كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ سدت مسدّ مفعولي تَرَ لأنها من رؤية القلب بمعنى العلم، نحو: رأيت اللَّه غالبا. ورَبُّكَ: فاعل فَعَلَ.
__________
(1) المرجع السابق: ص 57(30/406)
طَيْراً أَبابِيلَ إما جمع لا واحد له من لفظه كأساطير، أو واحده «إبّيل» أو إبّول، كعجاجيل وحدها عجّول.
كَعَصْفٍ في موضع نصب، على أنه مفعول ثان ل فَجَعَلَهُمْ أي صيّرهم.
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ.. الاستفهام للتقرير والتعجيب، أي أعجب.
فَعَلَ رَبُّكَ إشادة بقدرة اللَّه تعالى، والخطاب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله رَبُّكَ تشريف له.
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ تشبيه مرسل مجمل، ذكرت الأداة، وحذف وجه الشبه.
الْفِيلِ، تَضْلِيلٍ، أَبابِيلَ، سِجِّيلٍ، مَأْكُولٍ توافق الفواصل في الحرف الأخير.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ أي تعلم، والخطاب للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو إن لم يشهد تلك الواقعة، لكنه شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنه رآها، فإنها من الإرهاصات لأنها وقعت في السنة التي ولد فيها الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم. بِأَصْحابِ الْفِيلِ أصحاب الفيل العظيم الذي كان اسمه «محمود» . وهم أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي، وجيشه الذين أرادوا هدم الكعبة لصرف الحجاج العرب عن مكة إلى كنيسة بناها أبرهة بصنعاء، وسماها «القلّيس» . فحين توجهوا لهدم الكعبة، أرسل اللَّه عليهم ما قصه في هذه السورة.
أَلَمْ يَجْعَلْ أي جعل. كَيْدَهُمْ مكرهم وتدبيرهم بتخريب الكعبة وتعطيلها. فِي تَضْلِيلٍ تضييع وإبطال وهلاك وخسارة. طَيْراً ما طار في الهواء، صغيرا أو كبيرا.
أَبابِيلَ جماعات متفرقة. سِجِّيلٍ طين متحجر. كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كورق زرع يبقى بعد الحصاد، أكلته الدواب وداسته وأفنته، أو كتبن أكلته الدواب وراثته.
التفسير والبيان:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ألم تعلم علم اليقين، وكأنك شاهدت الواقعة، بما صنع ربّك العظيم القدير بأصحاب الفيل، حيث دمرهم اللَّه، وحمى بيته الحرام، أفلا يجدر بقومك أن يؤمنوا باللَّه؟! وقد شاهد أناس(30/407)
منهم الواقعة، حيث أقبل قوم من النصارى الأحباش الذين ملكوا اليمن، إلى الحجاز، يريدون تخريب الكعبة، فلما قربوا من مكة، وأرادوا دخولها، أرسل اللَّه عليهم جماعات من الطيور محمّلة بحجارة، ألقوها عليهم، فأهلكتهم.
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ أي أفسد خطتهم ومؤامرتهم، والمعنى: ألم تر أن ربك جعل مكرهم وتدبيرهم وسعيهم في تخريب الكعبة، واستباحة أهلها، في تضليل عما قصدوا إليه، وفي ضياع وإبطال، حتى لم يصلوا إلى البيت، ولا إلى ما أرادوا بكيدهم، بل أهلكهم اللَّه تعالى. والكيد: هو إرادة مضرة بالغير على الخفية.
وإذا علم قومك هذا الأمر، فليخافوا أن يعاقبهم اللَّه بعقوبة مماثلة، ما داموا يصرون على الكفر باللَّه تعالى وبرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وكتابه الكريم، ويصدون الناس عن سبيل الإيمان الحق باللَّه عزّ وجلّ.
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ أي وبعث اللَّه عليهم جماعات متفرقة من الطيور السود، جاءت من قبل البحر فوجا فوجا، مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره، لا يصيب شيئا إلا دمره وهشمه.
وهي حجارة صغيرة من طين متحجر، كالحمصة وفوق العدسة، فإذا أصاب أحدهم حجر منها، خرج به الجدري أو الحصبة، حتى هلكوا.
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ أي فجعلهم فضلات وبقايا مثل ورق الزرع أو الشجر إذا أكلته الدواب، ثم راثته، فأهلكهم جميعا.
أخرج البخاري أنه: «لما أطل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش، بركت ناقته، فزجروها، فألحت، فقالوا: خلأت(30/408)
القصواء، أي حرنت، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» . ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألوني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات اللَّه إلا أجبتهم إليها، ثم زجرها، فقامت» .
وفي الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال يوم فتح مكة: «إن اللَّه حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فيبلّغ الشاهد الغائب» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- هذا الخطاب، وإن كان للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولكنه عام، أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؟ أي قد رأيتم ذلك، وعرفتم موضع منتي عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟! 2- دلت الواقعة على قدرة اللَّه الصانع وعلمه وحكمته، وعلى شرف محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لأنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة، تأسيسا لنبوتهم، وإرهاصا لها، ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله «1» . قال أبو حيان: كان صرف ذلك العدوّ العظيم عام مولده السعيد صلّى اللَّه عليه وسلّم إرهاصا بنبوته إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول من خوارق العادات، والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد ظلل (أحبط) كيدهم، وأهلكهم بأضعف جنوده، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل «2» .
3- دلت القصة أيضا على تكريم اللَّه للكعبة، وإنعامه على قريش بدفع
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 97
(2) البحر المحيط: 8/ 512(30/409)
العدو عنهم، فكان يجب عليهم المبادرة إلى الإيمان برسالة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعبادة اللَّه، وشكره على نعمائه.
4- كان إرسال الطير عليهم إرهاصا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأما بعد تقرير نبوته فلم يكن هناك حاجة إلى الإرهاص، لذا لم يعذب الحجّاج بتخريب البيت، ولأنه لم يكن قاصدا التخريب، وإنما أراد شيئا آخر، وهو قتل ابن الزبير.
5- شبه تدميرهم وإهلاكهم وصيرورتهم بعد قصف الطير بالحجارة بصورة قبيحة حقيرة، تدل على حقارة كفرهم، وصغار نفوسهم، وهوانهم على اللَّه، وتلك الصورة ورق يابس أو تبن تعصف به الريح، أكلته الدواب وراثته، أي كفضلات البهائم، وذلك يدل أيضا على فنائهم التام لأنه أراد تشبيه تقطيع أوصالهم بتفريق أجزاء الروث.
إلا أن هذا التشبيه جاء على منهج القرآن في أدبه الرفيع، مثل قوله تعالى في تشبيه عيسى وأمه: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة 5/ 75] .
وإنما سلط اللَّه العذاب على أصحاب الفيل، ولم يسلطه على كفار قريش الذين ملؤوا الكعبة أوثانا لأن أصحاب الفيل قصدوا التخريب، وهذا تعد على حق العباد، ووضع الأوثان فيها قصدوا به التقرب إلى اللَّه، وهو مع ذلك تعدّ على حق اللَّه تعالى، وحق العباد مقدّم على حق اللَّه تعالى.
6- قال ابن مسعود: لما رمت الطير بالحجارة، بعث اللَّه ريحا، فضربت الحجارة فزادتها شدّة، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك، ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة، فقال:
فإنك لو رأيت ولم تريه ... لدى جنب المغمّس ما لقينا
خشيت اللَّه إذ قد بث طيرا ... وظلّ سحابة مرّت علينا
وباتت كلّها تدعو بحق ... كأن لها على الحبشان دينا(30/410)
ويروى أنها لم تصبهم كلهم، لكنها أصابت من شاء اللَّه منهم. وقد تقدم في القصة التاريخية أن أميرهم أبرهة رجع وشرذمة قليلة معه، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. وذلك للعبرة والعظة.
7- قال ابن إسحاق: لما ردّ اللَّه الحبشة عن مكة، عظّمت العرب قريشا وقالوا: أهل اللَّه، قاتل عنهم، وكفاهم مؤونة عدوهم فكان ذلك نعمة من اللَّه عليهم.(30/411)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة قريش
مكيّة، وهي أربع آيات.
تسميتها:
سميت سورة قريش تذكيرا لهم بنعم اللَّه عليهم في مطلع السورة: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ...
مناسبتها لما قبلها:
ترتبط السورة بما قبلها من وجهين:
1- كلتا السورتين تذكير بنعم اللَّه على أهل مكة، فسورة الفيل تشتمل على إهلاك عدوهم الذي جاء لهدم البيت الحرام أساس مجدهم وعزهم، وهذه السورة تذكر نعمة أخرى اجتماعية واقتصادية، حيث حقق اللَّه بينهم الألفة واجتماع الكلمة، وأكرمهم بنعمة الأمن والاستقرار، ونعمة الغنى واليسار والإمساك بزمام الاقتصاد التجاري في الحجاز، بالقيام برحلتين صيفا إلى الشام وشتاء إلى اليمن.
2- هذه السورة شديدة الاتصال بما قبلها، لتعلق الجار والمجرور في أولها بآخر السورة المتقدمة: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ.. أي لإلف قريش أي أهلك اللَّه أصحاب الفيل، لتبقى قريش، ولذا كانتا في مصحف أبيّ سورة واحدة. ولكن في المصحف الإمام فصلت هذه السورة عن التي قبلها، وكتب بينهما: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.(30/412)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة المكية تعداد نعم اللَّه العظمى على قريش أهل مكة، حيث جمع اللَّه كلمتهم، وحقق الألفة والتئام الشمل بينهم: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ومكّنهم من التنقل وحرية التجارة إلى اليمن شتاء، وإلى الشام صيفا، لتوفير الثروة والغنى: إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ.
وهيّأ لهم في البلد الآمن الحرام نعمة الأمن والاطمئنان والاستقرار دون نزاع من أحد: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
فضلها:
روى البيهقي في كتاب الخلافيات عن أم هانئ بنت أبي طالب: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «فضّل اللَّه قريشا بسبع خلال: أني منهم، وأن النبوة فيهم، والحجابة والسقاية فيهم، وأن اللَّه نصرهم على الفيل، وأنهم عبدوا اللَّه عز وجل عشر سنين لا يعبده غيرهم، وأن اللَّه أنزل فيهم سورة من القرآن، ثم تلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» .
قال ابن كثير: وهو حديث غريب.
التذكير بنعم اللَّه على قريش
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)(30/413)
الإعراب:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ اللام في «إيلاف» إما متعلقة بفعل مقدر، تقديره: اعجبوا لإيلاف قريش، أو متعلقة بقوله: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
أي لأجل هذا، أو متعلقة بقوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ آخر سورة الفيل.
وإِيلافِهِمْ: مجرور على البدل من «إيلاف» الأولى، و «إيلاف» مصدر رباعي، وهو ألف يؤلف إيلافا. وقرئ «إلا فهم» على أنه مصدر فعل ثلاثي، وهو (ألف يألف إلافا) .
وقُرَيْشٍ إن أردت به الحي صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه.
ورِحْلَةَ منصوب لأنه معمول المصدر المضاف وهو إيلافهم، مثل وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ [البقرة 2/ 251] [الحج 22/ 40] .
البلاغة:
الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ بينهما طباق، وكذلك بين جُوعٍ وخَوْفٍ.
َّ هذَا الْبَيْتِ
الإضافة للتكريم والتشريف.
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ وقوله: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
تقديم ما حقه التأخير، والأصل: ليعبدوا ربّ هذا البيت، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فقدم الإيلاف تذكيرا بالنعمة.
جُوعٍ خَوْفٍ التنكير لبيان شدتهما، أي جوع وخوف شديدين.
المفردات اللغوية:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ يقال: آلف الشيء إيلافا، وألف إلافا وإلفا، أي لزمه وعكف عليه، مع الأنس به وعدم النفور منه، قال الزمخشري: متعلق بقوله: لْيَعْبُدُوا
أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين، ودخلت الفاء على لْيَعْبُدُوا
لما في الكلام من معنى الشرط إذ المعنى: أن نعم اللَّه عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لأجله. وقُرَيْشٍ مجموعة القبائل من ولد النضر بن كنانة. منقول من تصغير قرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن، شبهوا بها لأنها تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، وصغر الاسم للتعظيم. وقال أبو حيان: سموا بذلك لتجمعهم بعد التفرق، جمعهم قصي بن كلاب في الحرم، والتقريش: التجمع والالتئام.
إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ أي بسبب إلفهم الارتحال إلى اليمن في الشتاء، وإلى الشام في الصيف كل عام، يستعينون بالرحلتين للتجارة على المقام بمكة، لخدمة البيت الذي هو فخرهم(30/414)
ومجدهم. والرحلة: ارتحال القوم، بشد الرحال للمسير. ْبَيْتِ
الكعبة. أَطْعَمَهُمْ وسّع لهم في الرزق. مِنْ جُوعٍ مِنْ خَوْفٍ أي من أجل جوع وخوف. وَآمَنَهُمْ جعلهم في أمن وسلامة في الأموال والأنفس. مِنْ خَوْفٍ خوف أصحاب الفيل، أو التخطف في بلدهم ومسايرهم. وكان يصيبهم الجوع لعدم الزرع بمكة، وخافوا جيش الفيل.
سبب النزول: نزول الآية (1) :
أخرج الحاكم وغيره عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فضّل اللَّه قريشا بسبع خصال»
الحديث المتقدم، وفيه:
نزلت فيهم سورة لم يذكر فيها أحد غيرهم: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ.
التفسير والبيان:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ أي فلتعبد قريش ربها، شكرا له، لأجل إيلافهم (أي جعلهم يألفون، ويسّر لهم ذلك) رحلتين: رحلة إلى اليمن شتاء لجلب العطور والبهارات الآتية من الهند والخليج، وكونها في الشتاء لأنها بلاد حارّة، ورحلة إلى الشام في الصيف، لجلب الحبوب الزراعية، وكونها في الصيف لأنها بلاد باردة، وكانت قريش في مكة تعيش بالتجارة، ولولا هاتان الرحلتان لم يتمكنوا من المقام بها، ولولا الأمن بجوار البيت، لم يقدروا على التصرف، وكانوا لا يغار عليهم لأن العرب يقولون: قريش أهل بيت اللَّه عز وجل. وكل هذا الاحترام والإجلال لقريش أهل مكة من اللَّه عز وجل الذي هيأه لهم بواسطة البيت الحرام، فكان عليهم الإقرار بهذه النعمة، وإفراد اللَّه بالعبادة والتعظيم.
وصريح محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن هذه السورة متعلقة(30/415)
بما قبلها لأن المعنى عندهما: حبسنا عن مكة الفيل، وأهلكنا أهله لإيلاف قريش، أي لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين.
وعلى كل حال فهاتان نعمتان: نعمة صد أصحاب الفيل، ونعمة جوار البيت الحرام والائتلاف فيه، فإن لم يعبدوا اللَّه لسائر نعمه، فليعبدوه لهاتين النعمتين. وقد عرّفهم سبحانه بأنه ربّ هذا البيت، بالرغم من أوثانهم التي يعبدونها حول الكعبة، فميّز نفسه عنها، وبالبيت تشرفوا على سائر العرب، وهم يدركون هذا ويقرّون به. وكانت الإشارة إلى البيت في السورة لإفادة التعظيم.
قال الرازي رحمه اللَّه عند قوله تعالى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
: اعلم أن الإنعام على قسمين: أحدهما- دفع الضرر، والثاني- جلب النفع، والأول أهم وأقدم، ولذلك قالوا: دفع الضرر عن النفس واجب، أما جلب النفع، فإنه غير واجب، فلهذا السبب بيّن اللَّه تعالى نعمة دفع الضرر في سورة الفيل، ونعمة جلب النفع في هذه السورة، ونظرا لهاتين النعمتين العظيمتين أمرهم ربهم بعبادته والعبودية له وأداء الشكر على ذلك: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
«1» .
والعبادة: هي التذلل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون، وهي تحقق معنى العبودية.
ثم ذكر اللَّه تعالى نعما أخرى على قريش، وصف بهما رب هذا البيت، فقال:
- الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي هو ربّ البيت، وهو الذي أطعمهم من جوع ووسّع لهم في الرزق ويسّر لهم سبيله، بسبب هاتين الرحلتين، فخلّصهم من جوع شديد كانوا فيه قبلهما.
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 107(30/416)
- وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أي وتفضل عليهم بالأمن والاستقرار، فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ولا يعبدوا من دونه صنما ولا ندا ولا وثنا، قال ابن كثير: ولهذا من استجاب لهذا الأمر، جمع اللَّه له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة.
ومن عصاه سلبهما منه، كما قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً، يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ، فَكَذَّبُوهُ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ [النحل 16/ 112- 113] «1» .
وكانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها بعضا، فأمنت قريش كما تقدم من ذلك لمكان الحرم، كما آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل قال اللَّه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟
[العنكبوت 29/ 67] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أمر اللَّه تعالى في هذه السورة قريشا وهم أولاد النضر بن كنانة بعبادة وتوحيد ربهم الذي أنعم عليهم بهذه النعم الكثيرة ومنها:
1- إهلاك أصحاب الفيل وصدهم عن مكة، كما أهلكوا أيضا لأجل كفرهم، وفي هذا دفع لضرر عظيم مؤكد الحصول لولا عناية اللَّه وحمايته، وتوفير أيضا للأمن والسلامة والاطمئنان بجوار البيت الحرام.
2- نعمة الرزق وتوفير الحاجة والكفاية بسبب ارتحالهم إلى اليمن شتاء وإلى الشام صيفا لجلب مختلف أنواع التجارات من الأطعمة والثياب، مع أمنهم من إغارة العرب عليهم لأنهم أهل بيت اللَّه وجبرانه.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 553(30/417)
3- نعمة الأمن من المخاوف، سواء في داخل مكة حيث جعل اللَّه لهم مكة بلدا آمنا، ويتخطف الناس من حولهم، أو في خارجها عند ما يتنقلون للتجارة والكسب.
والكسب.
4- نعمة وجود البيت الحرام أو الكعبة المشرفة محل التعظيم والتقديس من العرب، وأساس مجدهم وعزهم، فإنهم شرّفوا بالبيت على سائر العرب، فذكّرهم اللَّه بهذه النعمة.
والخلاصة: إن نعم اللَّه عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الظاهرة وهي إيلافهم رحلتين.
روى ابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد بن السكن أم سلمة الأنصارية، قالت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «ويل لكم قريش: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» .
وروى عنها أيضا: قالت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ ويحكم يا معشر قريش، اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع، وآمنكم من خوف» .
واستدل الإمام مالك بالسورة على أن الزمان قسمان: شتاء وصيف، ولم يجعل لهما ثالثا، فالشتاء نصف السنة، والصيف نصفها.
واستدل العلماء بهذا أيضا على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلّين، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر، كالجلوس في المجلس البحري في الصيف، وفي القبلي في الشتاء، وفي اتخاذ أدوات التبريد صيفا، ووسائل الدفء شتاء.
شتاء.(30/418)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الماعون
مكيّة، وهي سبع آيات.
مكيتها أو مدنيتها:
هذه السورة مكية في قول الجمهور، مدنية في قول ابن عباس وقتادة، وقال هبة اللَّه المفسر الضرير: نزل نصفها بمكة في العاصي بن وائل، ونصفها بالمدينة في عبد اللَّه بن أبي المنافق.
تسميتها:
سميت سورة الماعون، لأن اللَّه تعالى ذم في نهايتها المدنية الذين يمنعون الماعون: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ [7] كالساهين عن الصلاة، والمنافقين.
والماعون: ما يستعيره الجار من جاره من أدوات الطبخ، كالقدر والملح والماء، وآلات الحراثة والزرع، كالفأس والدلو، ووسائل الخياطة كالإبرة والخيط ونحو ذلك من كل ما يستعان وينتفع به من المنافع السريعة. وتسمى أيضا سورة الدّين للنعي في مطلعها المكي على الذي يكذب بالدّين، أي الجزاء الأخروي.
مناسبتها لما قبلها:
ترتبط السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة:
1- ذم اللَّه في السورة السابقة سورة قريش الجاحدين لنعمة اللَّه(30/419)
الذين أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وذم في هذه السورة من لم يحضّ على طعام المسكين.
2- أمر اللَّه في السورة المتقدمة بعبادته وحده وتوحيده: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
وذم في هذه السورة الذين هم عن صلاتهم ساهون، وينهون عن الصلاة.
3- عدّد اللَّه تعالى في السورة الأولى نعمه على قريش، وهم مع ذلك ينكرون البعث، ويجحدون الجزاء في الآخرة، وأتبعه هنا بتهديدهم وتخويفهم من عذابه لإنكار الدّين، أي الجزاء الأخروي.
ما اشتملت عليه السورة:
تحدثت هذه السورة المكية في مطلعها عن الكافر، وفي نهايتها المدنية عن المنافق.
أما مطلعها فهو في ذمّ الكافر المكذب بيوم الحساب والجزاء: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ووصفته بصفتين: الأولى- انتهاره وزجره وطرده اليتيم، والثانية- عدم الحض أو الحث على إطعام المسكين، فلم يحسن في عبادة ربه، ولم يفعل الخير لغيره.
وأما خاتمتها فهي في ذم المنافق الذي أظهر الإسلام وأخفى الكفر، ووصفته بصفات ثلاث: الأولى- الغفلة عن الصلاة، والثانية- مراءاته الناس بعمله، والثالثة- منعه الماعون الذي يستعان وينتفع به بين الجيران، فهو لا يعمل للَّه، بل يرائي في عمله وصلاته.
وتوعدت الفريقين بالخزي والعذاب والهلاك، ولفتت الأنظار إليهم بأسلوب الاستهجان والاستغراب والتعجيب من صنيعهم.(30/420)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
الكافر المنكر الجزاء الأخروي والمنافق المرائي بعمله وعقاب كل منهما
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
الإعراب:
أَرَأَيْتَ بالهمزة على الأصل، وهو في الأظهر عند ابن الأنباري من رؤية العين، لا من رؤية القلب، فيتعدى إلى مفعول واحد، وليس في الآية إلا مفعول واحد. وقرئ أرأيت بتخفيف الهمزة، بجعلها بين الهمزة والألف لأن حركتها الفتح. وقرئ رأيت بحذف الهمزة الأولى للتخفيف، كما حذف في المضارع، نحو «يرى» . وقال أبو حيان: الظاهر أن أَرَأَيْتَ هنا هي التي بمعنى أخبرني، فتتعدى لاثنين، أحدهما الَّذِي والآخر محذوف تقديره: أليس مستحقا عذاب اللَّه؟ أو: من هو؟
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ فَوَيْلٌ مبتدأ: ولِلْمُصَلِّينَ خبره. والَّذِينَ صفة الخبر، وهُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ صلته. ولم تحصل الفائدة بالخبر، بل بما وقع صلة الصفة، وهو قوله ساهُونَ وهذا يسمى الخبر الموطئ: وهو أن معتمد الفائدة إنما كان بصفة الخبر، لا بالخبر. مثل قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ، تَجْهَلُونَ [النمل 27/ 55] فإن قوله: أَنْتُمْ مبتدأ، وقَوْمٌ خبره، ومعتمد الفائدة على صفة الخبر، لا عليه، لأن قوله:
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ لم تحصل به الفائدة، للعلم بأنهم قوم، وإنما حصلت الفائدة بقوله: تَجْهَلُونَ.
البلاغة:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ استفهام يراد به تشويق السامع إلى الخبر والتعجيب منه.
فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ إيجاز بالحذف، حذف منه الشرط، أي إن أردت أن تعرفه فذلك الذي يدعّ اليتيم.(30/421)
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ذم وتوبيخ، ووضع الظاهر موضع الضمير، والأصل فَوَيْلٌ لَهُمْ زيادة في التقبيح لأنهم مع التكذيب ساهون عن الصلاة.
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ جناس ناقص.
ساهُونَ يُراؤُنَ الْماعُونَ: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وكذلك بِالدِّينِ الْمِسْكِينِ لِلْمُصَلِّينَ.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتَ أي هل عرفت وعلمت؟ وهو استفهام معناه التعجب وتشويق السامع إلى معرفة ما يذكر بعده. بِالدِّينِ بالجزاء والحساب. والمعنى العام للدين: هو النظام الإلهي للحياة المشتمل على الخضوع لما وراء المحسوس بآثار الكون الدالة على وجود اللَّه ووحدانيته، وبعثة الرسل، والتصديق بعالم الآخرة. يَدُعُّ الْيَتِيمَ أي يدفعه بعنف عن حقه، ويزجره زجرا عنيفا، كما في قوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور 52/ 13] .
وَلا يَحُضُّ لا يحث نفسه وأهله وغيرهم من الناس. عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ إطعام.
فَوَيْلٌ خزي وعذاب وهلاك. ساهُونَ غافلون عن الصلاة، يؤخرونها عن وقتها.
يُراؤُنَ في الصلاة وغيرها، يرون الناس أعمالهم ليروهم الثناء عليها، والرياء: المصانعة وفعل الشيء لغير وجه اللَّه، إرضاء للناس. وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ كل ما يستعان وينتفع به كالإبرة والفأس والقدر والقصعة.
سبب النزول:
نزول الآية (1) :
أَرَأَيْتَ قال ابن عباس: نزلت في العاص بن وائل السّهمي وقال السّدّي: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل: في أبي جهل، كان وصيا ليتيم، فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه، فدفعه. وقال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا، فطلب منه يتيم شيئا، فقرعه بعصاه فأنزل اللَّه هذه السورة.(30/422)
نزول الآية (4) :
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ: أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ قال: نزلت في المنافقين كانوا يراءون المؤمنين بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العاريّة، أي الشيء المستعار.
التفسير والبيان:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أي أأبصرت يا محمد الذي يكذب بالحساب والجزاء؟ أو بالمعاد والجزاء والثواب. وقوله: أَرَأَيْتَ وإن كان في صورة استفهام، لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب. وهذا مثال آخر لكون الإنسان في خسر.
فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي هو الذي يدفع اليتيم عن حقه دفعا شديدا، ويزجره زجرا عنيفا، ويظلمه حقه ولا يحسن إليه، وقد كان عرب الجاهلية لا يورّثون النساء والصبيان.
ولا يحث نفسه ولا أهله ولا غيرهم على إطعام المسكين المحتاج، بخلا بالمال، كما قال تعالى: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الفجر 89/ 17- 18] أي الفقير الذي لا يملك شيئا، أو لا يجد كفايته.
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أي فخزي وعذاب للمنافقين الذي يؤدون الصلاة أحيانا تظاهرا، والذين هم غافلون عنها، غير مبالين بها، لا يرجون بصلاتهم ثوابا إن صلوا، ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا.
ولم يقل: في صلاتهم ساهون لأن السهو في أثناء الصلاة مغتفر معفو عنه لأنه غير اختياري، وإنما قال: عن صلاتهم ساهون بتأخيرها عن وقتها رأسا، أو فعلها مع قلة مبالاة بها، كقوله: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى،(30/423)
يُراؤُنَ النَّاسَ
[النساء 4/ 142] . ويجوز أن يطلق لفظ «المصلين» على تاركي الصلاة، بناء على أنهم من جملة المكلفين بالصلاة.
الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ أي إن أولئك الساهين عن صلاتهم هم الذين يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا، أو يراءون الناس بكل ما عملوا من أعمال البر، ليثنوا عليهم. قال الزمخشري: المراءاة: هي مفاعلة من الإراءة لأن المرائي يري الناس عمله، وهم يرونه الثناء عليه، والإعجاب به.
روى الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن عمرو يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من سمّع الناس بعمله، سمّع اللَّه به سامع خلقه، وحقّره، وصغّره» .
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ أي يمنعون العارية وفعل الخير، والْماعُونَ اسم لكل ما يتعاوره الناس بينهم، من الدّلو والفأس والقدّوم والقدر ومتاع البيت، وما لا يمنع عادة، كالماء والملح، مما ينسب مانعة إلى الخسة ولؤم الطبع وسوء الخلق.
فهؤلاء المنافقون لا أحسنوا عبادة ربهم، ولا أحسنوا إلى خلقه، حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ويستعان به، مع بقاء عينه، ورجوعه إليهم، وهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى.
روى النسائي وغيره عن عبد اللَّه بن مسعود قال: كل معروف صدقة، وكنا نعد الماعون على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عارية الدّلو والقدر.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- ذم المكذب بالجزاء والحساب في الآخرة، واللفظ عام لا يقتصر على من كان سبب نزول الآية.(30/424)
2- من صفات المكذب بالجزاء الأخروي وقبائحه: زجر اليتيم وطرده ودفعه عن حقه وظلمه وقهره، وترك الخير وعدم الحث أو عدم الأمر على إطعام الفقير والمسكين، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء. وليس الذم عاما، حتى يتناول من تركه عجزا، ولكنهم كانوا يبخلون مع الغنى، ويعتذرون لأنفسهم.
3- الويل، أي العذاب والتهديد العظيم لمن فعل ثلاثة أمور: أحدها- السهو عن الصلاة، وثانيها- فعل المراءاة، وثالثها- منع الماعون.
وقد جمع المنافقون الأوصاف الثلاثة: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالمال.
والسهو عن الصلاة: تركها رأسا، أو فعلها مع قلة المبالاة بها كما تقدم.
أما السهو في الصلاة فهو أمر غير اختياري، فلا يدخل تحت التكليف.
وقد ثبت أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم سها في الصلاة، وشرع سجود السهو لمن سها.
وكذلك سها الصحابة.
وحقيقة الرياء: طلب ما في الدنيا بالعبادة، وطلب المنزلة في قلوب الناس، وللرياء أنواع، وأولها: تحسين السّمت (الهيئة) مع إرادة الجاه وثناء الناس. وثانيها: لبس الثياب القصار أو الخشنة، ليأخذ بذلك هيبة الزهد في الدنيا. وثالثها: الرياء بالقول بإظهار السخط على أهل الدنيا، وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوته من فعل الخير والطاعة.
ورابعها: إظهار الصلاة والصدقة، أو تحسين الصلاة لأجل رؤية الناس له «1» .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1972، تفسير القرطبي: 20/ 212- 213(30/425)
والفرق بين المنافق والمرائي: أن المنافق هو المظهر للإيمان المبطن للكفر، والمرائي: المظهر ما ليس في قلبه من زيادة خشوع ليعتقد فيه من يراه أنه متدين «1» .
وقال العلماء: لا بأس بالإراءة إذا كان الغرض الاقتداء، أو نفي التهمة.
واجتناب الرياء صعب إلا على من راض نفسه، وحملها على الإخلاص. ومن هنا
قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء، في الليلة المظلمة، على المسح الأسود» «2»
أي البلاس المصنوع من الشعر.
والماعون عند أكثر المفسرين: اسم جامع لما لا يمنع في العادة، ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال، ولا ينسب سائله إلى لؤم، بل ينسب مانعة إلى اللؤم والبخل، كالفأس والقدر والدّلو والمقدحة والغربال والقدوم، ويدخل فيه الماء والملح والنار، لما روى ابن ماجه عن أبي هريرة: «ثلاثة لا يمنعن: الماء والنار والملح» . ومن ذلك أن يلتمس جارك الخبز من تنورك، أو أن يضع متاعه عندك يوما أو نصف يوم «3» . وقيل: منع الماعون: منع زكاة أموالهم.
وبالرغم من أن هذه الأوصاف واضحة في المنافقين، فإن بعضها قد يوجد في المسلم الصادق الإسلام، وحينئذ يلحقه جزء من التوبيخ، كالصلاة إذا تركها، ومنع الماعون إذا تعين، ويكون منعا قبيحا مخلّا بالمروءة في غير حال الضرورة.
4- في الآيتين حول السهو عن الصلاة ومنع الماعون إشارة إلى أن الصلاة للَّه عز وجل، والماعون للخلق أو للناس، فمن ترك الصلاة لم يراع جانب تعظيم أمر اللَّه، ومن منع الماعون لم يراع جانب الشفقة على خلق اللَّه، وهذا كمال الشقاوة، نعوذ باللَّه منها.
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 115
(2) تفسير الكشاف: 3/ 362
(3) غرائب القرآن: 30/ 191(30/426)
والخلاصة: وصف اللَّه الكفار والمنافقين في هذه السورة بأربع صفات:
البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة والخير.(30/427)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكوثر
مكيّة، وهي ثلاث آيات.
مكيتها أو مدنيتها:
هذه السورة مكية في المشهور وقول الجمهور، وقال الحسن وعكرمة وقتادة: مدنية، وهو رأي ابن كثير.
تسميتها:
سميت سورة الكوثر لافتتاحها بقول اللَّه تعالى مخاطبا نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير الدائم في الدنيا والآخرة، ومنه: نهر الكوثر في الجنة.
مناسبتها لما قبلها:
وصف اللَّه الكفار والمنافقين الذين يكذبون بالدين أي بالجزاء الأخروي بأربع صفات: البخل في قوله: يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وترك الصلاة في قوله: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. والرياء أو المراءاة في الصلاة في قوله: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ومنع الخير والزكاة في قوله:
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ.
وذكر اللَّه تعالى في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر أنه أعطاه الكوثر في مقابلة البخل في قوله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير الدائم، فأعط أنت الكثير ولا تبخل، وأمره بالمواظبة على الصلاة: فَصَلِّ أي دم على الصلاة في مقابلة ترك الصلاة، وأمره(30/428)
بالإخلاص في الصلاة في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ أي لرضا ربك، لا لمراءاة الناس، في مقابلة المراءاة في الصلاة، وأمره بالتصدق بلحم الأضاحي على الفقراء، في مقابلة منع الماعون «1» .
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة المكية الحديث عن مقاصد ثلاثة هي:
1- بيان فضل اللَّه الكريم وامتنانه على نبيه الرحيم بإعطائه الخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومنه نهر الكوثر في الجنة.
2- أمر النبي وكذا أمته بالمواظبة على الصلاة، والإخلاص فيها، ونحر الأضاحي شكرا للَّه تعالى.
3- بشارة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بنصره على أعدائه، وبخزيهم وإذلالهم وحقارتهم، بسبب انقطاعهم عن كل خير في الدنيا والآخرة.
فضلها:
أخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: «أغفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إغفاءة، فرفع رأسه مبتسما، إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حتى ختمها، فقال: أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول:
يا رب، إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» .
وأخرج مسلم- واللفظ له- وأبو داود والنسائي عن أنس قال: «بينا
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 117(30/429)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أظهرنا في المسجد، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه مبتسما، قلنا: ما أضحكك يا رسول اللَّه؟ قال: لقد أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم في السماء، فيختلج «1» العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك» .
سبب نزول السورة:
أخرج البزار وغيره بسند صحيح عن ابن عباس قال: قدم كعب بن الأشرف مكة، فقالت له قريش: أنت سيدهم، ألا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السقاية، وأهل السدانة! قال:
أنتم خير منه، فنزلت: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن عكرمة قال: لما أوحي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت قريش: بتر محمد منا، فنزلت: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: كانت قريش تقول إذا مات ذكور الرجل: بتر فلان، فلما مات ولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال العاصي بن وائل: بتر محمد، فنزلت. وأخرج البيهقي في الدلائل مثله عن محمد بن علي، وسمى الولد:
القاسم، وأخرج عن مجاهد قال: نزلت في العاصي بن وائل، وذلك أنه قال: أنا شانئ محمد.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قالت: نزلت يوم الحديبية، أتاه جبريل، فقال: انحر واركع، فقام، وخطب
__________
(1) أي ينتزع ويقتطع.(30/430)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
خطبة الفطر والنحر، ثم ركع ركعتين، ثم انصرف إلى البدن، فنحرها.
لكن فيه غرابة شديدة كما قال السيوطي.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: بلغني أن إبراهيم ولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما مات، قالت قريش: أصبح محمدا بترا، فغاظه ذلك، فنزلت: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ تعزية له.
والخلاصة: كان سبب نزول هذه السورة هو استضعاف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، واستصغار أتباعه، والشماتة بموت أولاده الذكور، ابنه القاسم بمكة، وإبراهيم بالمدينة، والفرح بوقوع شدة أو محنة بالمؤمنين، فنزلت هذه السورة إعلاما بأن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم قوي منتصر، وأتباعه هم الغالبون، وأن موت أبناء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يضعف من شأنه، وأن مبغضيه هم المنقطعون الذين لن يبقى لهم ذكر وسمعة، البعيدون عن كل خير.
المنح المعطاة للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
الإعراب:
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ إِنَّا أصله: إننا، فحذفت إحدى النونات استثقالا لاجتماع الأمثال، وذهب الأكثرون إلى أن المحذوفة هي الوسطى.
والكوثر: فوعل من الكثرة، والواو فيه زائدة، وهو نهر في الجنة، وسمي كوثرا لكثرة مائه، ورجل كوثر: كثير العطايا والخير.
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ هُوَ إما ضمير فصل لا موضع له من الإعراب، والْأَبْتَرُ خبر إِنَّ، أو مبتدأ، والْأَبْتَرُ خبره، والمبتدأ والخبر: خبر إِنَّ.(30/431)
البلاغة:
إِنَّا أَعْطَيْناكَ إِنَّا بصيغة الجمع الدالة على التعظيم. وفيه تصدير الجملة بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم لأن أصلها: إن ونحن. وعبر بصيغة الماضي المفيدة للوقوع. أَعْطَيْناكَ ولم يقل: سنعطيك، للدلالة على تحقق وقوع الوعد مبالغة، كأنه حدث ووقع.
الْكَوْثَرَ: مبالغة.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ الإضافة للتكريم والتشريف.
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ إفادة الحصر.
الْكَوْثَرَ هُوَ الْأَبْتَرُ مطابقة أو طباق لأن الْكَوْثَرَ الخير الكثير، والْأَبْتَرُ المنقطع عن كل خير.
المفردات اللغوية:
إِنَّا أَعْطَيْناكَ يا محمد وقرئ (أنطيناك) الْكَوْثَرَ المفرط في كثرة الخير من العلم والعمل وشرف الدارين بالنبوة والقرآن والدين الحق والشفاعة ونحوها، ومنه نهر في الجنة كما
روي عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه الإمام أحمد ومسلم ومن معهما في الحديث المتقدم عن أنس: أنه «نهر في الجنة، وعدنيه ربي، فيه خير كثير، أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزّبد، حافتاه الزبرجد، وأوانيه من فضة، لا يظمأ من شرب منه»
وقيل: حوض في الجنة.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ أي داوم على الصلاة، خالصا لوجه اللَّه، شكرا لإنعامه، وقيل: المراد صلاة عيد النحر. وَانْحَرْ النّسك أو الهدي أو الأضحية، وتصدق على المحاويج (المحتاجين) .
شانِئَكَ مبغضك. هُوَ الْأَبْتَرُ المنقطع عن كل خير، أو المنقطع العقب، أي الذي لا عقب له، إذ لا يبقى له نسل، ولا حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذرّيتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، ولك في الآخرة مالا يوصف.
التفسير والبيان:
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي منحناك الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى النهاية أو الغاية، ومنه نهر في الجنة، جعله اللَّه كرامة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولأمته.
وهذا رد على الأعداء الذين استخفوا به واستقلوه، ووصف مناقض لما عليه أهل الكفر والنفاق من البخل.(30/432)
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أي كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومن ذلك نهر الكوثر، فداوم على صلاتك المفروضة والنافلة، وأدّها خالصة لوجه ربك، وانحر ذبيحتك وأضحيتك وما هو نسك لك وهو الهدي (شاة أو بعير مقدّم للحرم) وغير ذلك من الذبائح للَّه تعالى وعلى اسم اللَّه وحده لا شريك له، فإنه هو الذي تعهدك بالتربية وأسبغ عليك نعمه دون سواه، كما جاء في آية أخرى آمرا له: قُلْ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام 6/ 162- 163] .
وهذا على نقيض فعل المشركين الذين كانوا يصلون لغير اللَّه، وينحرون لغير اللَّه، فأمر نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن تكون صلاته ونحره له، وهو أيضا نقيض فعل المنافقين المراءين.
وقال قتادة وعطاء وعكرمة: المراد صلاة العيد، ونحر الأضحية.
قال ابن كثير: الصحيح أن المراد بالنحر ذبح المناسك، ولهذا
جاء ففي حديث البراء بن عازب عند البخاري ومسلم: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي العيد، ثم ينحر نسكه، ويقول: من صلّى صلاتنا، ونسك ونسكنا، فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له» فقام أبو بردة بن نيار، فقال:
يا رسول اللَّه، إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم يشتهي فيه اللحم قال: شاتك شاة لحم، قال: فإن عندي عناقا هي أحب إلي من شاتين، أفتجزئ عني؟ قال: تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك» .
وقال ابن جرير في تفسير الآية: والصواب قول من قال: إن معنى ذلك:
فاجعل صلاتك كلها لربك، خالصا دون ما سواه، من الأنداد والآلهة، وكذلك نحرك، اجعله له دون الأوثان، شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفاء له، وخصك به.(30/433)
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أي إن مبغضك يا محمد، ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع عن خيري الدنيا والآخرة، والذي لا يبقى ذكره بعد موته. وهذا رد على ما قال بعض المشركين وهو العاص بن وائل عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما مات ابنه عبد اللَّه من خديجة: إنه أبتر، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي وعامة أهل التفسير.
والأبتر من الرجال: الذي لا ولد له. وعن ابن عباس: نزلت في أبي جهل.
وهذا يعم جميع من اتصف بعداوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ممن ذكر في سبب النزول وغيرهم.
قال الحسن البصري رحمه اللَّه: عنى المشركون بكونه أبتر: أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه، واللَّه بيّن أن خصمه هو الذي يكون كذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت السورة على ما يأتي:
1- أعطى اللَّه عز وجل نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم مناقب كثيرة، وخيرا كثيرا عظيما بالغا حد النهاية، ومنه نهر في الجنة، كما روى البخاري ومسلم وأحمد والترمذي عن أنس.
وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك. وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج»
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقيل: إنه حوض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الموقف، كما جاء في حديث مسلم المتقدم عن أنس.
وهذان القولان هما أصح الأقوال، فيكون الكوثر شاملا نهرا في الجنة، وحوضا ترد عليه أمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم القيامة.(30/434)
2- أمر اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمته بأداء الصلوات المفروضة والنوافل خالصة لوجه اللَّه تعالى، دون مشاركة أحد سواه، وأمرهم أيضا بذبح المناسك مما يهدى إلى الحرم والأضاحي وجميع الذبائح للَّه تعالى، وعلى اسم اللَّه وحده لا شريك له.
3- إن مبغضي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما جاء به من شرع ربه هم المنقطعون عن خيري الدنيا والآخرة، والذين لا يبقى لهم ذكر مسموع بعد موتهم لأنهم لم يؤمنوا برسالة الحق، ولم يعملوا من أجل الحق والخير المحض للَّه سبحانه وتعالى.
هذا.. وقد ذكر الرازي رحمه اللَّه أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها من السور، وأورد ما شرف اللَّه به نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمته من الفضائل والمزايا والمناقب في سورة الأضحى والانشراح والتين والعلق والقدر والبينة والزلزال والعاديات والقارعة والتكاثر والعصر والهمزة والفيل وقريش، ثم الكوثر، فليرجع إليه، فإنه كلام رائع «1» .
وروي عن علي رضي اللَّه عنه فيما خرّجه الدارقطني في قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
وقد اختلف المالكية في هذه الهيئة، والصحيح كما قال القرطبي أن المصلي يفعل ذلك في الفريضة والنافلة لأنه
ثبت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وضع يده اليمنى على اليسرى، من حديث وائل بن حجر وغيره.
وبه قال مالك وأحمد وإسحاق والشافعي وأصحاب الرأي. واستحب جماعة إرسال اليد «2» .
والموضع الذي توضع عليه اليد مختلف فيه،
فروي عن علي بن أبي طالب أنه وضعهما على الصدر.
وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل: فوق السّرّة، وقال: لا بأس إن كانت تحت السرة.
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 118- 119 [.....]
(2) تفسير القرطبي: 20/ 220 وما بعدها.(30/435)
وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والسجود فمختلف فيه أيضا. والصواب ما
في الصحيحين من حديث ابن عمر، قال: «رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه، حتى تكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، وكان يفعل ذلك حين يكبّر للركوع، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع، ويقول: سمع اللَّه لمن حمده، ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود» .
قال ابن المنذر: وهذا قول الليث بن سعد، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول، وبه أقول لأنه الثابت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقالت طائفة: يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة، ولا يرفع فيما سوى ذلك. هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي «1» .
__________
(1) المرجع والمكان السابق.(30/436)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكافرون
مكيّة، وهي ست آيات.
تسميتها:
سميت سورة الكافرون لأن اللَّه تعالى أمر نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد ما يعبدون من الأصنام والأوثان: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وتسمى أيضا سورة المنابذة، وسورة الإخلاص، والمقشقشة.
مناسبتها لما قبلها:
أمر اللَّه نبيه في السورة السابقة بإخلاص العبادة للَّه وحده لا شريك له، وفي هذه السورة سورة التوحيد والبراءة من الشرك تصريح باستقلال عبادته عن عبادة الكفار، فهو لا يعبد إلا ربه، ولا يعبد ما يعبدون من الأوثان والأصنام، وبالغ في ذلك فكرّره وأكّده، وانتهى إلى أن له دينه، ولهم دينهم.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المكية- سورة البراءة من عمل المشركين والإخلاص في العمل للَّه تعالى، وضعت الحد الفاصل النهائي بين الإيمان والكفر، وبين أهل الإيمان وعبدة الأوثان، فحينما طلب المشركون المهادنة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إلهه سنة، نزلت السورة تقطع أطماع الكفار الرخيصة، وتفصل النزاع بين فريقي المؤمنين والكافرين إلى الأبد.(30/437)
فضلها:
ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرأ بهذه السورة وب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في ركعتي الطواف.
وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرأ بهما في ركعتي الفجر.
وروي هذا أيضا عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقدم تقدم في سورة الزلزال في حديث ابن عباس عند الترمذي أنها تعدل ربع القرآن، وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن.
وروى أبو القاسم الطبراني عن جبلة بن حارثة- وهو أخو زيد بن حارثة-: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، حتى تمر بآخرها، فإنها براءة من الشرك» . وروى الإمام أحمد مثل ذلك عن الحارث بن جبلة.
والخلاصة:
ثبت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرأ بهذه السورة، وب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في ركعتي الطواف، وفي ركعتي الفجر، والركعتين بعد المغرب، ويوتر بسبح، وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
سبب نزولها:
أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس: «أن قريشا دعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أن يعطوه مالا، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد، وتكفّ عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فأنزل اللَّه:
قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلى آخر السورة، وأنزل: قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر 39/ 64] » .(30/438)
وأخرج عبد الرزاق عن وهب قال: قالت كفار قريش للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن سرّك أن تتبعنا عاما، ونرجع إلى دينك عاما، فأنزل اللَّه: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلى آخر السورة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن ميناء قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: يا محمد، هلمّ فلتعبد ما نعبد، ونعبد ما تعبد، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فأنزل اللَّه: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ.
ويؤيد هذا
ما ذكره النيسابوري: أنها نزلت في رهط من قريش، قالوا:
يا محمد، هلمّ، اتبع ديننا ونتّبع دينك، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرا مما في أيدينا قد شرّكناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يدك، قد شركت في أمرنا، وأخذت بحظك، فقال: معاذ اللَّه أن أشرك به غيره، فأنزل اللَّه تعالى: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلى آخر السورة، فغدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك «1» .
وذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس: أن سبب نزولها «أن الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف لقوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: يا محمد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه، فأنزل اللَّه عز وجل: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «2» » .
__________
(1) أسباب النزول للنيسابوري الواحدي: ص 261
(2) تفسير القرطبي: 20/ 225(30/439)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
سورة البراءة من الشرك والكفر وأعمال المشركين
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
الإعراب:
لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ما بمعنى الذي في موضع نصب ب أَعْبُدُ وتَعْبُدُونَ صلة (الذي) والعائد محذوف، تقديره: ما تعبدونه. ويجوز أن تكون ما مصدرية، فلا تفتقر إلى عائد.
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ قال: ما أَعْبُدُ ولم يقل (من) لمطابقة ما قبله وما بعده.
وقيل: ما بمعنى (من) .
وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ما في الوضعين في موضع نصب لأنها مفعول ما قبلها، وهما إما موصولة أو مصدرية مثل ما الأولى.
البلاغة:
يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ خطاب بالوصف للتوبيخ والتشنيع.
لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ طباق السلب، فالأول نفي والثاني إثبات.
لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ولا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ مقابلة بين الجملتين في الاستقبال.
وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ مقابلة بين الجملتين في الحال أو الماضي.
وفي هذه المقابلة نفي لعبادة الأصنام في الحال والاستقبال.
يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ توافق الفواصل في الحرف الأخير.
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ يعني كفرة مخصوصين قد علم اللَّه منهم أنهم لا يؤمنون، وهم زعماء الشرك في مكة. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أي في المستقبل، فإن لا لا تدخل إلا على مضارع(30/440)
بمعنى الاستقبال، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال، أي لا أعبد في المستقبل ما تعبدون من الأصنام في الحال.
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي ولا تعبدون في المستقبل ما أعبد في الحال، وهو اللَّه تعالى وحده. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ أي ولست أنا عابد في الحال أو في الماضي ما عبدتم فيما سلف.
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي وما عبدتم في وقت ما أنا عابده، ويجوز أن تكون الجملتان تأكيدين على طريقة أبلغ. والأدق أن يقال: إن الآيتين (2، 3) تدلان على الاختلاف في المعبود الذي يعبد، فالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعبد اللَّه، وهم يعبدون الأصنام والأوثان. والآيتان (4، 5) تدلان على الاختلاف في العبادة نفسها، فعبادة النبي عليه الصلاة والسلام عبادة خالصة للَّه لا يشوبها شرك ولا غفلة عن المعبود، وعبادتهم كلها شرك وإشراك، فلا يلتقيان.
لَكُمْ دِينُكُمْ وهو الشرك الذي أنتم عليه. وَلِيَ دِينِ وهو التوحيد أو الإسلام الذي أنا عليه، لا أرفضه، قال البيضاوي: فليس فيه إذن في الكفر، ولا منع عن الجهاد، ليكون منسوخا بآية القتال. وقال الزمخشري: والمعنى أني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا مني، ولم تتبعوني فدعوني كفافا، ولا تدعوني إلى الشرك.
التفسير والبيان:
هذه سورة البراءة من عمل المشركين، وهي آمرة بالإخلاص في العبادة، فقال تعالى:
قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أي قل أيها النبي لكفار قريش: يا أيها الكافرون، لا أعبد على الإطلاق ما تعبدون من الأصنام والأوثان، فلست أعبد آلهتكم بأية حال. والآية تشمل كل كافر على وجه الأرض. وفائدة كلمة قُلْ: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مأمورا بالرفق واللين في جميع الأمور، ومخاطبة الناس بالوجه الأحسن، فلما كان الخطاب هنا غليظا أراد اللَّه رفع الحرج عنه وبيان أنه مأمور بهذا الكلام، لا أنه ذكره من عند نفسه.
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي ولستم أنتم ما دمتم على شرككم وكفركم عابدين اللَّه الذي أعبد، فهو اللَّه وحده لا شريك له.(30/441)
وهاتان الآيتان (2، 3) تدلان على الاختلاف في المعبود، فالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعبد اللَّه وحده، وهم يعبدون الأصنام والأوثان أو الأنداد والشفعاء، أو أن المعنى دفعا للتكرار كما ذكر الزمخشري: لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في الحال، وعلامته لا التي هي للاستقبال، بدليل أن (لن) للاستقبال على سبيل التوكيد أو التأبيد، وأصله في رأي الخليل: لا أن. وما: للحال «1» ، وخلاصة المعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي ولا أعبد عبادتكم، أي لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد اللَّه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأنتم لا تقتدون بأوامر اللَّه وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم، فعبادة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأتباعه خالصة للَّه لا شرك فيها ولا غفلة عن المعبود، وهم يعبدون اللَّه بما شرعه، ولهذا كانت كلمة الإسلام: «لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه» أي لا معبود إلا اللَّه، ولا طريق إليه في العبادة إلا بما جاء به الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.
والمشركون يعبدون غير اللَّه عبادة لم يأذن اللَّه بها، فكلها شرك وإشراك، ووسائلها من صنع الهوى والشيطان.
فالآيتان (4، 5) تدلان على الاختلاف في العبادة نفسها. ويرى بعضهم كالزمخشري: وما كنت قط في الحال أو في الماضي عابدا ما عبدتم، يعني لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى مني في الإسلام؟! وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.
وقيل: في الآيات تكرار، والغرض التأكيد، لقطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم.
__________
(1) قد فهم بعضهم خطا ما أراده الزمخشري هنا وفي الآيتين بعدهما. فقلب الوضع، وجعل الاستقبال محل الحال وبالعكس.(30/442)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ أي لكم شرككم أو كفركم، ولي ديني وهو التوحيد والإخلاص أو الإسلام، فدينكم الذي هو الإشراك، لكم لا يتجاوزكم إليّ، وديني الذي هو التوحيد مقصور علي لا يتجاوزني، فيحصل لكم. وقيل: الدين:
الجزاء، والمضاف محذوف، أي لكم جزاء دينكم، ولي جزاء ديني. وقيل:
الدين: العبادة.
وليست السورة منسوخة بآية القتال، والمحققون على أنه لا نسخ، بل المراد التهديد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] .
ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس 10/ 41] وقوله:
لَنا أَعْمالُنا، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ [القصص 28/ 55] . والمراد بذلك كله التهديد، لا الرضا بدين الآخرين.
وقد استدل الإمام أبو عبد اللَّه الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ على أن الكفر كله ملة واحدة، فورّث اليهود من النصارى وبالعكس إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان.
وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس،
لحديث أحمد وأبي داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» .
قال الرازي: جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ عند المتاركة، وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به، بل ليتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 148(30/443)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت السورة على اختلاف المعبود واختلاف العبادة بين المسلمين وغيرهم، وعلى أن الكفر ملة واحدة في مواجهة الإسلام، وهذه العوامل الثلاثة تدل على أنه لالقاء بين الكفر والإيمان، ولا بين أصحاب العداوة الدينية الحاقدة المتأصلة في النفس مع الإسلام وأهله.
أما اختلاف المعبود بين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأتباعه المؤمنين وبين الكفار: فهو أن الفريق الأول يعبد اللَّه وحده لا شريك له، والفريق الثاني يعبد غير اللَّه من الأصنام والأوثان والأنداد والشفعاء من البشر أو الملائكة أو الكوكب أو غير ذلك من أباطيل الملل والنحل.
وأما اختلاف العبادة فالمؤمنون يعبدون اللَّه بإخلاص لا شرك فيه ولا غفلة عن المعبود، وبما شرع اللَّه لعباده من كيفية العبادة المرضية له، وأما الكفار والمشركون فيعبدون معبوداتهم بكيفيات فيها الشرك والإشراك وبنحو اخترعوه لأنفسهم، لا يرضى عنه ربهم.
وأما الكفر فكله ملة واحدة في مواجهة الإسلام لأن الدين الحق المقبول عند اللَّه هو الإسلام وهو الإخلاص للَّه والتوحيد. وأما أنواع الكفر المعارضة لمبدأ التوحيد فتشترك في صلب الاعتقاد المنحرف عن أصل التوحيد.(30/444)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النصر
مدنيّة، وهي ثلاث آيات.
تسميتها:
سميت سورة النصر لافتتاحها بقول اللَّه تبارك وتعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ أي الفتح الأكبر والنصر المؤزر الذي سمي فتح الفتوح وهو فتح مكة المكرمة. وتسمى أيضا سورة التوديع.
مناسبتها لما قبلها:
لما أخبر اللَّه تعالى في آخر السورة المتقدمة باختلاف دين الإسلام الذي يدعو إليه الرسول عن دين الكفار، أنبأه هنا بأن دينهم سيضمحل ويزول، ودينه سيعلو وينتصر وقت مجيء الفتح والنصر، حيث يصبح دين الأكثرين. وفي ذلك بيان فضل اللَّه تعالى على نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالنصر والفتح، وانتشار الإسلام، وإقبال الناس أفواجا إلى دينه: دين اللَّه، كما أن فيه إشارة إلى دنو أجله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المدنية بالإجماع تشير إلى فتح مكة، وانتصار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على المشركين، وانتشار الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، وانحسار ظلمة الشرك والوثنية، والإخبار بدنو أجل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأمره بتسبيح ربه وحمده واستغفاره.(30/445)
فضلها:
تقدم في تفسير سورة الزلزال أنها في حديث الترمذي عن أنس بن مالك تعدل ربع القرآن، وإِذا زُلْزِلَتِ تعدل ربع القرآن.
وأخرج النسائي عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: يا ابن عتبة، أتعلم آخر سورة من القرآن نزلت؟ قلت: نعم: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال: صدقت.
وروى الحافظان أبو بكر البزار والبيهقي عن ابن عمر قال: أنزلت هذه السورة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت، ثم قام، فخطب الناس، فذكر خطبته المشهورة، أي خطبة حجة الوداع.
سبب نزولها:
أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: «كان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فدعاهم ذات يوم، فأدخله معهم. قال ابن عباس: فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول اللَّه عز وجل: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد اللَّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم، فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. فقال:
ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أعلمه اللَّه له، قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فذلك علامة أجلك، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَاسْتَغْفِرْهُ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول» .(30/446)
وقت نزول هذه السورة:
هناك قولان في ذلك:
أحدهما- أن فتح مكة كان سنة ثمان في رمضان، ونزلت هذه السورة سنة عشر، وروي أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوما، وتوفي في ربيع الأول سنة عشر، ولذلك سميت سورة التوديع.
والقول الثاني- أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وهو وعد لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ينصره على أهل مكة، وأن يفتحها عليه، ونظيره قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص 28/ 85] . وقوله:
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ يقتضي الاستقبال، إذ لا يقال فيما وقع: إذا جاء وإذا وقع.
وعلى هذا القول يكون الإخبار بفتح مكة قبل وقوعه إخبارا بالغيب معجزا، فهو من أعلام النبوة «1» .
والظاهر القول الأول، بدليل ما قال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجّة الوداع، ثم نزلت الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 5/ 3] فعاش بعدهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثمانين يوما. ثم نزلت آية الكلالة (آخر سورة النساء) ، فعاش بعدها خمسين يوما. ثم نزل لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة 9/ 128] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما. ثم نزل: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة 2/ 281] فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما.
وقال مقاتل: سبعة أيام «2» .
لكن قال الرازي: الأصح هو أن السورة نزلت قبل فتح مكة «3» .
__________
(1) تفسير الرازي: 32/ 155
(2) تفسير القرطبي: 20/ 233
(3) تفسير الرازي: 32/ 164(30/447)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
فتح مكة
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
الإعراب:
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ تقديره: إذا جاءك نصر اللَّه، فحذف الكاف التي هي المفعول.
وجواب إِذا إما قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ.. والفاء غير مانعة من هذا على ما عليه الجمهور، أو محذوف تقديره: إذا جاءك نصر اللَّه والفتح، جاء أجلك، وهو العامل في إِذا.
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً يدخلون: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من النَّاسَ وأفواجا: منصوب على الحال من واو يَدْخُلُونَ.
البلاغة:
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ خاص بعد عام، فإن نصر اللَّه يشمل جميع الفتوحات، قال الرازي: وهو الغلبة على قريش أو على جميع العرب، فعطف عليه فتح مكة تعظيما لشأنه.
وَرَأَيْتَ النَّاسَ عام أريد به الخاص، فلفظ الناس عام، والمراد به العرب.
دِينِ اللَّهِ هو الإسلام، وأضافه تعالى إليه تشريفا وتعظيما، مثل: بيت اللَّه، وناقة اللَّه. إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً تواب: صيغة مبالغة على وزن (فعّال) .
المفردات اللغوية:
نَصْرُ اللَّهِ النصر: العون أو الإعانة على تحصيل المطلوب. وَالْفَتْحُ تحصيل المطلوب الذي كان متعلقا أو موقوفا، أو الفصل بين الفريقين المتحاربين بانتصار أحدهما على الآخر، والمراد به هنا فتح مكة، فالفرق بين النصر والفتح: أن النصر كالسبب للفتح، فلهذا بدأ بذكر النصر، وعطف الفتح عليه.(30/448)
دِينِ اللَّهِ أي الإسلام. أَفْواجاً جماعات كثيفة، كأهل مكة والطائف واليمن والهوازن وسائر قبائل العرب، جمع فوج: وهو الجماعة والطائفة. وقد دخلت الجماعات في الإسلام بعد ما كان الدخول فيه فرديا واحدا بعد الآخر، وذلك بعد فتح مكة، جاءه العرب من مختلف الأنحاء طائعين. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزّه اللَّه وصل له حامدا على نعمه، روي: أنه عليه السلام لما دخل مكة بدأ بالمسجد، فدخل الكعبة، وصلّى ثماني ركعات. وَاسْتَغْفِرْهُ اسأله المغفرة لك ولمن اتبعك، وطلب الاستغفار من النبي كان لترك الأفضل، وليقتدي به غيره، ولم يكن بسبب ارتكاب معصية أو ذنب.
وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد نزول هذه السورة يكثر من قول: «سبحان اللَّه وبحمده، وأستغفر اللَّه وأتوب إليه» .
وعلم بذلك أنه قد اقترب أجله، فتوفي بعد فتح مكة بعامين سنة عشر.
التفسير والبيان:
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ أي إذا تحقق لك يا محمد نصر اللَّه وعونه وتأييده على من عاداك وهم قريش، وفتح عليك مكة، وتحققت لك الغلبة، وإعزاز أمرك، فسبّح اللَّه تعالى أي نزهه حامدا له جل وعلا زيادة في عبادته والثناء عليه لزيادة إنعامه عليك. وفائدة قوله: نَصْرُ اللَّهِ مع أن النصر لا يكون إلا من اللَّه: هو أنه نصر لا يليق إلا باللَّه، ولا يليق أن يفعله إلا اللَّه، أو لا يليق إلا بحكمته. والمراد تعظيم هذا النصر. وقوله: جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مجاز، أي وقع نصر اللَّه.
روى الإمام أحمد والبيهقي والنسائي عن ابن عباس قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «نعيت إلي نفسي»
فإنه مقبوض في تلك السنة.
خير، وأنا وأصحابي خير» ،
وقال فيما رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن ابن عباس: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» .
وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» .(30/449)
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً أي أبصرت الناس من العرب وغيرهم يدخلون في دين اللَّه الذي بعثك به، جماعات فوجا بعد فوج، بعد أن كانوا في بادئ الأمر يدخلون واحدا واحدا، واثنين اثنين، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً أي إذا فتحت مكة وانتشر الإسلام، فاشكر اللَّه على نعمه، بالصلاة له، وبتنزيهه عن كل ما لا يليق به، وعن أن يخلف وعده الذي وعدك به بالنصر، واقرن الحمد بالتسبيح، أي اجمع بينهما، فإن ذلك النصر والفتح يقتضي الحمد للَّه على عظيم منّته وفضله، وما منحك من الخير.
واطلب أيضا من اللَّه المغفرة لك تواضعا للَّه، واستقصارا لعملك، وتعليما لأمتك، وكذا اسأله المغفرة لمن تبعك من المؤمنين ما كان منهم من القلق والخوف لتأخر النصر، فإن اللَّه سبحانه من شأنه التوبة على المستغفرين له، يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم، وهو كثير القبول لتوبة عباده، حتى لا ييأسوا ويرجعوا بعد الخطأ.
روى الأئمة- واللفظ للبخاري- عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: «ما صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلا يقول: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» . وعنها قالت: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللَّه ربّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت السورة على ما يأتي:
1- كل نعمة من اللَّه تعالى تستوجب الشكر والحمد والثناء على اللَّه بما هو(30/450)
أهل له، ومن أجلّ النّعم على نبي اللَّه وأمته تحقيق النصر والغلبة على الأعداء، وفتح مكة عاصمة العرب والإسلام، ومقر البيت الحرام أو الكعبة المشرفة قبلة المسلمين.
وتوج اللَّه سبحانه هذه النعمة العظمى بنعمة كبري أخرى هي دخول العرب وغيرهم في دين الإسلام جماعات، فوجا بعد فوج. وذلك لما فتحت مكة، قالت العرب: أمّا إذا ظفر محمد بأهل الحرم، وقد كان اللَّه أجارهم من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان، أي طاقة. فكانوا يسلمون أفواجا: أمّة أمّة.
2- لهذا ختم اللَّه هذه السورة بأمر اللَّه نبيه بالإكثار من الصلاة، والتسبيح للَّه، أي تنزيه اللَّه عن كل ما لا يليق به ولا يجوز عليه، والحمد للَّه على ما آتاه من الظفر والفتح، وسؤال اللَّه الغفران مع مداومة الذكر، واللَّه كثير القبول للتوبة على المسبّحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم.
والأمة أولى بذلك، فإذا كان صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو معصوم، يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره؟
روى مسلم عن عائشة قالت: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكثر من قول: سبحان اللَّه وبحمده، أستغفر اللَّه وأتوب إليه، قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، أراك تكثر من قول: سبحان اللَّه وبحمده، أستغفر اللَّه، وأتوب إليه؟ فقال: خبّرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان اللَّه وبحمده، أستغفر اللَّه وأتوب إليه، فقد رأيتها: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ- فتح مكة- وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَاسْتَغْفِرْهُ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.
3- دين اللَّه هو الإسلام لقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران 3/ 19] وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران 3/ 85] .(30/451)
4- قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمين: إن إيمان المقلّد صحيح لأنه تعالى حكم بصحة وإيمان أولئك الأفواج، وجعله من أعظم المنن على محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولو لم يكن إيمانهم صحيحا، لما ذكره في هذا المجال.
5- أمر اللَّه تعالى بالتسبيح أولا ثم بالحمد ثم بالاستغفار لأنه قدم الاشتغال بما يلزم للخالق وهو التسبيح والتحميد على الاشتغال بالنفس. وقدم الأمر بالتسبيح حتى لا يتبادر إلى الذهن أن تأخير النصر سنين لإهمال مثلا، فاللَّه ينزّه ويقدّس عن إهمال الحق. وأتى بالاستغفار حتى لا يفكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالاشتغال بالانتقام ممن آذاه.
6- الآية تدل على فضل التسبيح والتحميد، حيث جعل كافيا في أداء ما وجب على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمته من شكر نعمة النصر والفتح.
7- اتفق الصحابة على أن هذه السورة دلت على أنه نعي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
روي أنه لما نزلت هذه السورة خطب صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: «إن عبدا خيره اللَّه بين الدنيا، وبين لقائه والآخرة، فاختار لقاء اللَّه» «1» .
وقد عرفوا ذلك لأن الأمر بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقا دليل على أن أمر تبليغ الدعوة قد تم وكمل، وذلك يوجب الموت لأنه لو بقي بعد ذلك، لكان كالمعزول عن الرسالة، وهو غير جائز. ثم إن الأمر بالاستغفار تنبيه على قرب الأجل.
__________
(1) تفسير الكشاف: 3/ 365(30/452)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المسد، أو: اللهب
مكيّة، وهي خمس آيات.
تسميتها:
سميت سورة المسد لقوله تعالى في آخرها: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي في عنق أم جميل زوجة أبي لهب حبل مفتول من ليف. وسميت أيضا سورة تَبَّتْ لقوله تعالى في مطلعها: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أي هلكت وخسرت يدا أبي لهب، كما سميت سورة أبي لهب، أو سورة اللهب.
مناسبتها لما قبلها:
هناك تقابل بين هذه السورة والسورة التي قبلها، ففي السورة السابقة النصر ذكر اللَّه تعالى أن جزاء المطيع حصول النصر والفتح في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة، وفي هذه السورة ذكر أن عاقبة العاصي الخسار في الدنيا والعقاب في الآخرة أو العقبى.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة المكية بالإجماع الكلام عن مصير أبي لهب عبد العزّى بن عبد المطلب، عمّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومصير زوجته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان، وهو هلاك أبي لهب عدو اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الدنيا، ودخوله نار جهنم لشدة إيذائه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعاداته له، وصدّه الناس عن الإيمان به.(30/453)
وكذلك زوجته شريكة معه في هذا العقاب لأنها كانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده، فتكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم.
سبب نزول السورة:
ثبت في الصحيحين وغيرهما- واللفظ لمسلم- عن ابن عباس قال: «لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء 26/ 214] ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى صعد الصّفا، فهتف: يا صباحاه! فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه، فقال: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب! فاجتمعوا إليه، فقال:
«أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدّقي؟
قالوا: ما جرّبنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّا لك! أما جمعتنا إلا لهذا «1» ! ثم قام، فنزلت هذه السورة: «تبّت يدا أبي لهب، وقد تبّ» كذا قرأ الأعمش وعبد اللَّه وأبي إلى آخر السورة.
وقراءة حفص: وتب أي الأول دعاء عليه، والثاني خبر عنه.
وعن طارق المحاربي قال: «بينا أنا بسوق ذي المجاز، إذ أنا بشاب حديث السن يقول: أيها الناس، قولوا: لا إله إلا اللَّه تفلحوا، وإذا رجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه- مؤخر القدم- ويقول: يا أيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه، فقلت: من هذا؟ فقالوا: محمد، زعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب «2» » .
__________
(1) وفي رواية البخاري: ألهذا جمعتنا؟
(2) تفسير القرطبي: 20/ 236(30/454)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
جزاء أبي لهب وامرأته
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
الإعراب:
ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ ما: إما استفهامية في موضع نصب ب أَغْنى أو نافية، ومفعول أَغْنى محذوف، وتقديره: ما أغنى عنه ماله شيئا.
وَما كَسَبَ ما: إما مصدرية، أي وكسبه، أو اسم موصول، أي الذي كسبه، فحذف العائد تخفيفا.
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ امْرَأَتُهُ: إما معطوف على ضمير سَيَصْلى أي سيصلى هو وامرأته، وجاز العطف على الضمير المرفوع لوجود الفصل لأنه يقوم مقام التأكيد في جواز العطف. وإما أنه مبتدأ مرفوع، وحَمَّالَةَ الْحَطَبِ خبره، على قراءة الرفع. ومن قرأ بالنصب حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فهو منصوب على الذم، وتقديره: أذمّ حمالة الحطب.
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فِي جِيدِها: حال من حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أو خبر مبتدأ مقدر.
البلاغة:
يَدا أَبِي لَهَبٍ مجاز مرسل، أطلق الجزء وأراد الكل، أي هلك.
أَبِي لَهَبٍ ناراً ذاتَ لَهَبٍ بينهما جناس، فالأول كنية له، والثاني وصف للنار.
والجناس: أن يتشابه اللفظان في النطق، ويختلفا في المعنى، وهو نوعان: تام، وغير تام.
أَبِي لَهَبٍ كنية للتصغير والتحقير، كأبي جهل.
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ استعارة، أستعير هذا التعبير للنميمة بين الناس.
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ منصوب على الذم، أي أخص بالذم حمالة الحطب.
وَتَبَّ، كَسَبَ، لَهَبٍ، الْحَطَبِ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.(30/455)
المفردات اللغوية:
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أي هلك وخسر، قال تعالى: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غافر 40/ 37] وهذه الجملة دعاء عليه، وأبو لهب: أحد أعمام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واسمه: عبد العزّى بن عبد المطلب، وكنيته: أبو عتيبة، وإنما كني أبا لهب لحمرة وجهه. وَتَبَّ أي قد خسر، وهذا خبر بعد الدعاء عليه، كقولهم: أهلكه اللَّه وقد هلك، والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه.
وَما كَسَبَ أي وكسبه أو مكسوبه بماله من النتائج والأرباح، وقوله: ما أَغْنى أي يغني.
سَيَصْلى ناراً سيجد حرها ويذوق وبالها. ذاتَ لَهَبٍ لهب النار: ما يسطع منها عند اشتعالها، وذات لهب: أي تلهب وتوقد، وهي مناسبة لكنيته بأبي لهب: أي تلهب وجهه إشراقا وحمرة. وَامْرَأَتُهُ هي من سادات قريش، وكنيتها: أم جميل، واسمها: أروى بنت حرب بن أمية، وهي أخت أبي سفيان. حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أي تحمله حقيقة، فتحمل حزمة الشوك والحسك، وتنثرها بالليل في طريق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. أو تحمل حطب جهنم لأنها تحمل الأوزار بمعاداة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتحمل زوجها على إيذائه. أو أن التعبير كناية عن النميمة التي توقد الخصومة بين الناس.
فِي جِيدِها في عنقها. حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ حبل مفتول من ليف، أي مما مسّد أي فتل وربط الحبل على هذه الصورة: تصوير لها بصورة الحطّابة التي تحمل الحزمة، وتربطها في عنقها، تحقيرا لشأنها، أو بيانا لحالها في نار جهنم حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنم كالزقوم والضريع، وفي جيدها سلسلة من النار.
التفسير والبيان:
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، وَتَبَّ «1» أي هلكت يداه وخسرت وخابت، وهو مجاز عن جملته، أي هلك وخسر، وهذا دعاء عليه بالهلاك والخسران. ثم قال:
وَتَبَّ أي وقد وقع فعلا هلاكه، وهذا خبر من اللَّه عنه، فقد خسر الدنيا والآخرة. وأبو لهب: عم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، واسمه عبد العزّى بن عبد المطلب، وقد كان كثير الأذى والبغض والازدراء لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولدينه.
__________
(1) لم يقل في أول هذه السورة قل كما في سورة الكافرين، حتى لا يشافه عمه بما يزيد في غضبه، رعاية للحرمة، وتحقيقا لمبدأ الرحمة.(30/456)
ثم أخبر اللَّه تعالى عن حال أبي لهب في الماضي، فقال:
ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ أي لم يدفع عنه يوم القيامة ما جمع من المال، ولا ما كسب من الأرباح والجاه والولد، ولم يفده ذلك في دفع ما يحل به من الهلاك، وما ينزل به من عذاب اللَّه، بسبب شدة معاداته لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصدّه الناس عن الإيمان به، فإنه كان يسير وراء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا قال شيئا كذّبه.
روى الإمام أحمد عن ربيعة بن عبّاد من بني الدّيل، وكان جاهليا فأسلم، قال: «رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا اللَّه تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا: هذا عمه أبو لهب» .
والفرق بين المال والكسب:
أن الأول رأس المال، والثاني هو الربح.
ثم ذكر اللَّه تعالى عقابه في المستقبل، فقال:
سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي سيذوق حرّ نار جهنم ذات اللهب المشتعل المتوقد، أو سوف يعذب في النار الملتهبة التي تحرق جلده، وهي نار جهنم. قال أبو حيان: والسين للاستقبال، وإن تراخى الزمان، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة، وإن تراخى وقته «1» .
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أي وتصلى امرأته أيضا نارا ذات لهب، وهي أم جميل، أروى بنت حرب، أخت أبي سفيان، كانت تحمل الشوك والغضى، وتطرحه بالليل على طريق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقيل: المراد أنها كانت تمشي بالنميمة،
__________
(1) البحر المحيط: 8/ 526 [.....](30/457)
فيقال للمشاء بالنمائم، المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي يوقد بينهم النائرة، ويورّث الشر، وهذا رأي الكثيرين.
قال أبو حيان: والظاهر أنها كانت تحمل الحطب، أي ما فيه شوك، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، لتعقرهم، فذمت بذلك، وسميت حمالة الحطب.
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي في عنقها حبل مفتول من الليف، من مسد النار، أي مما مسّد من حبالها أي فتل من سلاسل النار. وقد صورها اللَّه في حالة العذاب بنار جهنم بصورة حالتها في الدنيا عند النميمة، وحينما كانت تحمل حزمة الشوك وتربطها في جيدها، ثم تلقيها في طريق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأن كل مجرم يعذب بما يجانس حاله في جرمه. وقيل: صورها اللَّه في الدنيا بصورة حطّابة ممتهنة احتقارا لها، وإيذاء لها ولزوجها.
ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر، وهو مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في المسجد، وبيدها فهر (حجر) فقالت: بلغني أن صاحبك هجاني، ولأفعلنّ وأفعلنّ، وأعمى اللَّه تعالى بصرها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فروي أن أبا بكر رضي اللَّه تعالى عنه قال لها: هل تري معي أحدا؟ فقالت: أتهزأ بي؟ لا أرى غيرك «1» .
والظاهر هو المعنى الأول قال سعيد بن المسيّب: كانت لأم جميل قلادة فاخرة، فقالت: واللات والعزّى لأنفقنّها في عداوة محمد، فأعقبها اللَّه حبلا في جيدها من مسد النار.
__________
(1) البحر المحيط: 8/ 526 وما بعدها، تفسير ابن كثير: 4/ 564 وما بعدها.(30/458)
فقه الحياة أو الأحكام:
1- أوضحت السورة نوع عذاب أبي لهب وزوجته أم جميل، ومآلهما في الدارين لشدة عداوتهما لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
أما الآيات الأولى في أبي لهب فقد تضمنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه:
أحدها- الإخبار عنه بالتباب والخسار، وبوقوع ذلك فعلا.
وثانيها- الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده، وبوقوع ذلك فعلا.
وثالثها- الإخبار عنه بأنه من أهل النار، وقد كان كذلك لأنه مات على الكفر.
وتكليف أبي لهب بالإيمان في حد ذاته لا مانع منه، وإن كان اللَّه قد علم أنه لا يؤمن، وأخبر أيضا أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار، قال الآمدي: أجمع الكل على جواز التكليف بما علم اللَّه أنه لا يكون عقلا، وعلى وقوعه شرعا، كالتكليف بالإيمان لمن علم اللَّه أنه لا يؤمن كأبي جهل «1» . وأيد ذلك الرازي في تفسيره» .
والخلاصة: أنه كلف بتصديق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فقط، لا تصديقه وعدم تصديقه، حتى يجتمع النقيضان «3» .
وأما الآيتان الأخيرتان: فتصفان عذاب أم جميل بأنها مع زوجها تصلى نار جهنم وتذوق حرها وتتلظى بلهبها، وأنها هالكة في الدنيا، ومعذبة في الآخرة بحبل من نار، وسلاسل من نار جهنم تطوقها، لإيذائها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنها كانت في غاية العداوة له، ولإفسادها بين الناس بالنميمة وتأجيج نار العداوة بينهم.
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/ 73
(2) تفسير الرازي: 32/ 171
(3) غرائب القرآن: 30/ 214.(30/459)
قال الضحاك وغيره: كانت تعيّر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالفقر، وهي تحتطب في حبل، تجعله في جيدها من ليف، فخنقها اللَّه جل وعزّ به في الدنيا، فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار.
2- قال العلماء: في هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة، فإنه منذ نزل قوله تعالى: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، لم يقيض لهما أن يؤمنا، ولا واحد منهما، لا ظاهرا ولا باطنا، ولا سرا ولا علنا، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة «1» .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 565(30/460)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإخلاص
مكيّة، وهي أربع آيات.
تسميتها:
سميت بأسماء كثيرة أشهرها سورة الإخلاص لأنها تتحدث عن التوحيد الخالص للَّه عز وجل، المنزه عن كل نقص، المبرأ من كل شرك، ولأنها تخلّص العبد من الشرك، أو من النار. وسميت أيضا سورة التفريد أو التجريد أو التوحيد أو النجاة أو الولاية لأن من قرأها صار من أولياء اللَّه، أو المعرفة، وتسمى كذلك سورة الأساس لاشتمالها على أصول الدين.
مناسبتها لما قبلها:
المناسبة بينها وبين ما قبلها واضحة، فسورة الكافرين للتبرؤ من جميع أنواع الكفر والشرك، وهذه السورة لإثبات التوحيد للَّه تعالى، المتميز بصفات الكمال، المقصود على الدوام، المنزه عن الشريك والشبيه، ولذا قرن بينهما في القراءة في صلوات كثيرة، كركعتي الفجر والطواف، والضحى، وسنة المغرب، وصلاة المسافر.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة أهم أركان العقيدة والشريعة الإسلامية، وهي توحيد اللَّه وتنزيهه، واتصافه بصفات الكمال، ونفي الشركاء، وفي هذا الرد على النصارى القائلين بالتثليث، وعلى المشركين الذين عبدوا مع اللَّه آلهة أخرى.(30/461)
فضلها:
وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه السورة، وأنها تعدل في ثواب قراءتها ثلث القرآن لأن كل ما جاء في القرآن بيان لما أجمل فيها ولأن الأصول العامة للشريعة ثلاثة: التوحيد، وتقرير الحدود والأحكام، وبيان الأعمال، وقد تكفلت ببيان التوحيد والتقديس.
أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري: «أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها، فلما أصبح، جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالّها، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن» .
وفي رواية أخرى للبخاري عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فشقّ ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول اللَّه؟ فقال: اللَّه الواحد الصمد ثلث القرآن» .
وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشد من حشد، ثم خرج نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقرأ: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، إني لأرى هذا خبرا جاء من السماء، ثم خرج نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن» .
وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ في ليلة، فقد قرأ ليلتئذ ثلث القرآن» .(30/462)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
سبب نزول السورة:
أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا محمد، انسب لنا ربك، فأنزل اللَّه تعالى: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
زاد ابن جرير والترمذي قال: «الصَّمَدُ الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن اللَّه عز وجل لا يموت ولا يورث. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ولم يكن له شبيه ولا عدل «1» ، وليس كمثله شيء» .
وقال قتادة والضحاك ومقاتل: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: صف لنا ربك، فإن اللَّه أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو؟ ومن أي جنس هو؟ أذهب هو أم نحاس أم فضة؟ وهل يأكل ويشرب؟
وممن ورث الدنيا ومن يورثها؟ فأنزل اللَّه تبارك وتعالى هذه السورة
، وهي نسبة اللَّه خاصة «2» .
سورة التوحيد والتنزيه للَّه عز وجل
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
__________
(1) قال الأخفش: العدل بالكسر المثل، وقال الفراء: العدل بالفتح: ما عدل الشيء من غير جنسه، والعدل بالكسر المثل.
(2) أسباب النزول للواحدي: ص 262(30/463)
الإعراب:
قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ هُوَ: ضمير الشأن والحديث، مبتدأ، واللَّهُ: مبتدأ ثان، وأَحَدٌ: خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول، ولا حاجة لعائد يعود على المبتدأ الأول لأن ضمير الشأن إذا وقع مبتدأ، لم يعد من الجملة التي وقعت خبرا عنه ضمير لأن الجملة بعده وقعت مفسرة له، بدليل أنه لا يجوز تقديمها عليه.
اللَّهُ الصَّمَدُ مبتدأ وخبر.
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ لَمْ يَلِدْ: أصله (يولد) فحذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، كيعد، ويزن، والأصل: يوعد ويوزن، ولهذا لم تحذف في يُولَدْ لوقوعها بين ياء وفتحة. وأَحَدٌ: اسم يَكُنْ، وكُفُواً: خبرها. ولَهُ:
متعلق ب كُفُواً وقدم عليه للاهتمام به إذ فيه ضمير الباري تعالى، والتقدير: ولم يكن أحد كفوا له، أي مكافئه، فهو في معنى المفعول، متعلق ب كُفُواً. وأخّر أَحَدٌ رعاية للفاصلة.
البلاغة:
قُلْ: هُوَ ذكر الاسم الجليل بضمير الشأن للتعظيم والإجلال.
اللَّهُ الصَّمَدُ تعريف كل منهما لإفادة التخصيص.
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ جناس ناقص، لتغير الشّكل وبعض الحروف.
قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يقتضي نفي الكفء والولد، وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ هو تخصيص بعد تعميم، زيادة في الإيضاح والبيان، وتقرير ما يسمى التجريد أو التفريد.
أَحَدٌ، الصَّمَدُ، لَمْ يُولَدْ، أَحَدٌ سجع مرصع.
المفردات اللغوية:
أَحَدٌ أي واحد في ذاته، لم يتركب من جواهر مادية ولا من أصول غير مادية، وهو أيضا وصف بالوحدانية ونفي الشركاء. الصَّمَدُ المقصود في جميع الحوائج على الدوام. لَمْ يَلِدْ لأنه لم يفتقر إلى ما يعينه، ولأنه لا مجانسة بينه وبين غيره فهذا نفي للشبه والمجانسة. وَلَمْ يُولَدْ لأنه قديم أولي غير محدث، انتفى الحدوث عنه، فهو وصف بالقدم والأولية. كُفُواً أي مكافئا ومماثلا. والكف والمكافئ: النظير والمثيل، والمراد أنه لم يكن أحد يكافئه، في يماثله من صاحبه وغيرها.(30/464)
التفسير والبيان:
قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أي قل أيها الرسول لمن سألك عن صفة ربك ونسبته: هو اللَّه أحد، أي واحد في ذاته وصفاته، لا شريك له، ولا نظير ولا عديل. وهذا وصف بالوحدانية ونفي الشركاء. والمعنى: هو اللَّه الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم، وهو واحد متوحد بالألوهية، لا يشارك فيها. وهذا نفي لتعدد الذات.
اللَّهُ الصَّمَدُ أي الذي يصمد إليه في الحاجات، أي يقصد، فهو المقصود في جميع الحاجات لأنه القادر على تحقيقها، والمعنى: هو اللَّه الذي يقصد إليه كل مخلوق، لا يستغني عنه أحد، وهو الغني عنهم. وهذا إبطال لاعتقاد مشركي العرب وأمثالهم بوجود الوسائط والشفعاء.
قال ابن عباس في تفسير الصمد: يعني الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، وهو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو اللَّه سبحانه، هذه صفته، لا تنبغي إلا له، ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان اللَّه الواحد القهار.
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ أي لم يصدر عنه ولد، ولم يصدر هو عن شيء لأنه لا يجانسه شيء، ولأنه قديم غير محدث، لا أول لوجوده، وليس بجسم وهذا نفي للشبه والمجانسة، ووصف بالقدم والأولية، ونفي الحدوث.
وفي الجملة الأولى نفي لوجود الولد للَّه، ورد على المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات اللَّه، وعلى اليهود القائلين: عزير ابن اللَّه، وعلى النصارى الذين قالوا: المسيح ابن اللَّه، وفي الجملة الثانية نفي لوجود الوالد، وسبق العدم.(30/465)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أي ليس للَّه أحد يساويه، ولا يماثله، ولا يشاركه في شيء. وهذا نفي لوجود الصاحبة، وإبطال لما يعتقد به المشركون العرب من أن للَّه ندّا في أفعاله، حيث جعلوا الملائكة شركاء للَّه، والأصنام والأوثان أندادا للَّه تعالى.
وللسورة نظائر في آيات أخرى، مثل قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 101] أي هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف له من خلقه نظير؟، وقوله: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم 19/ 92- 95] وقوله: وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء 21/ 26- 27] .
جاء في صحيح البخاري: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللَّه، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم» .
وروى البخاري أيضا وعبد الرزاق عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «قال اللَّه عز وجل: كذّبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ اللَّه ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد» .
فقه الحياة أو الأحكام:
1- تضمنت هذه السورة الموجزة إثباتا ونفيا في آن واحد.
فقد أبانت أن اللَّه تعالى واحد في ذاته وحقيقته، منزه عن جميع أنحاء التركيب، ونفت عنه كل أنواع الكثرة بقوله: اللَّهُ أَحَدٌ.(30/466)
وأوضحت أن اللَّه غني بذاته كريم رحيم، تحتاج إليه جميع الخلائق في قضاء الحوائج، متصف بجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال، ونفت عنه كل أنواع الاحتياج إلى الآخرين بقوله: اللَّهُ الصَّمَدُ.
وقررت أن اللَّه أحد فرد، ليس له شيء من جنسه، ولم يلد أحدا، وليس له لاحق يماثله، ونفت عن نفسه المجانسة والمشابهة بقوله: لَمْ يَلِدْ.
وكذلك هو قديم أولي أزلي غير مسبوق بالعدم، فلا والد له، ولا سابق له، ونفت عنه الحدوث والأولية بقوله: وَلَمْ يُولَدْ.
وهو سبحانه أيضا لا مقارن له في الوجود، ولا شبيه له ولا نظير ولا صاحبة ولا نديد، ونفى عن ذاته العلية الأنداد والأشباه بقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
وكل إثبات تقرير لعقيدة الإسلام القائمة على التوحيد والتنزيه والتقديس، وكل نفي رد على أصحاب العقائد الباطلة كالثنوية القائلين بوجود إلهين اثنين للعالم وهما النور والظلمة، والنصارى القائلين بالتثليث، والصابئة القائلين بعبادة الأفلاك والنجوم، واليهود الذين يقولون: عزير ابن اللَّه، والمشركين القائلين بأن الملائكة بنات اللَّه.
فقوله: أَحَدٌ يبطل مذهب الثنوية، وقوله: اللَّهُ الصَّمَدُ تبطل مذهب من أثبت خالقا سوى اللَّه لأنه لو وجد خالق آخر، لما كان الحق مصمودا إليه في طلب جميع الحاجات، وقوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ يبطل مذهب اليهود في عزير، والنصارى في المسيح، والمشركين في أن الملائكة بنات اللَّه.
وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ يبطل مذهب المشركين حيث جعلوا الأصنام أكفاء للَّه وشركاء.(30/467)
2- قال العلماء: هذه السورة في حق اللَّه تعالى، مثل سورة الكوثر في حق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، لكن الطعن في حق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم كان بسبب أنهم قالوا: إنه أبتر لا ولد له، وهنا الطعن بسبب أنهم أثبتوا للَّه ولدا لأن عدم الولد في حق الإنسان عيب، ووجود الولد عيب في حق اللَّه تعالى، ولهذا السبب قال هنا:
قُلْ ليدفع عن اللَّه، وفي سورة إنا أعطيناك لم يقل (قل) وإنما قال اللَّه ذلك مباشرة، حتى يدفع بنفسه عن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم «1» .
__________
(1) تفسير الرازي 32/ 185(30/468)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفلق
مكيّة، وهي خمس آيات.
مكيتها أو مدنيتها:
هذه السورة وسورة الناس مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر وهو رأي الأكثرين، ومدنية في رواية عن ابن عباس وقتادة وجماعة، قيل: وهو الصحيح.
تسميتها:
سميت هذه السورة سورة الفلق، لافتتاحها بقوله تعالى: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ والْفَلَقِ الشق وفصل الشيء عن بعضه، وهو يشمل كل ما انفلق من حب ونوى ونبات عن الأرض، وعيون ماء عن الجبال، ومطر عن السحاب، وولد عن الأرحام، ومنه: فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام 6/ 96] ، وفالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الأنعام 6/ 95] .
مناسبتها لما قبلها:
لما أبان اللَّه تعالى أمر الألوهية في سورة الإخلاص لتنزيه اللَّه عما لا يليق به في ذاته وصفاته، أبان في هذه السورة وما بعدها وهما المعوذتان ما يستعاذ منه باللَّه من الشر الذي في العالم، ومراتب مخلوقاته الذين يصدون عن توحيد اللَّه، كالمشركين وسائر شياطين الإنس والجن، وقد ابتدأ في هذه السورة بالاستعاذة من(30/469)
شر المخلوقات، وظلمة الليل، والسحرة، والحسّاد، ثم ذكر في سورة الناس الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن لذا سميت السور الثلاثة (الإخلاص وما بعدها) في الحديث بالمعوّذات. وقدمت الفلق على الناس لمناسبة الوزان في اللفظ لفواصل الإخلاص مع مقطع تَبَّتْ.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت السورة الاستعاذة من شر المخلوقات، وبخاصة ظلمة الليل، والسواحر والنمامين، والحسدة، وهي درس بليغ وتعليم نافع عظيم لحماية الناس بعضهم من بعض بسبب أمراض النفوس، وحمايتهم من شر ذوات السموم، وشر الليل إذا أظلم، لما فيه من مخاوف ومفاجات، وبخاصة في البراري والكهوف.
فضل المعوذتين:
روى مسلم في صحيحة وأحمد والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» .
وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أقرأ بالمعوّذات في دبر كل صلاة» .
وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عقبة بن عامر قال: «بينا أنا أقود برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في نقب من تلك النقاب إذ قال لي: يا عقبة ألا تركب! قال:
فأشفقت أن تكون معصية، قال: فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وركبت هنية ثم ركب، ثم قال: يا عقب «1» ، ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟ قلت:
بلى، يا رسول اللَّه، فأقرأني قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ
__________
(1) عقب: منادى مرخم من عقبة، مثل أفاطم من فاطمة.(30/470)
ثم أقيمت الصلاة، فتقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقرأ بهما ثم مرّ بي، فقال:
كيف رأيت يا عقب، اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت» .
وروى النسائي عن أبي عبد اللَّه بن عابس الجهني: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له:
«يا ابن عابس ألا أدلك- أو ألا أخبرك- بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؟ قال:
بلى يا رسول اللَّه، قال: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، هاتان السورتان» .
وأورد ابن كثير أحاديث كثيرة في معناها ثم قال: فهذه طرق عن عقبة كالمتواترة عنه، تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث.
وفي حديث صديّ بن عجلان: «ألا أعلمك ثلاث سور، لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلهن: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» .
وروى البخاري وأهل السنن في الاستشفاء بهذه السور الثلاث (المعوذات) عن عائشة: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه، ثم نفث فيهما وقرأ فيهما: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
سبب نزول المعوذتين:
السبب: قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما
جاء في الصحيحين عن عائشة، فإنه سحره في جفّ (قشر الطلع) فيه مشاطة رأسه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأسنان مشطه، ووتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغروز بالإبر، فأنزلت عليه المعوذتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد صلّى اللَّه عليه وسلّم في نفسه(30/471)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
خفّة، حتى انحلت العقدة الأخيرة، فقام، فكأنما نشط من عقال «1» . وجعل جبريل يرقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيقول: «باسم اللَّه أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر حاسد وعين، واللَّه يشفيك» .
الاستعاذة من شرّ المخلوقات
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
الإعراب:
قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أَعُوذُ: فعل معتل، ويسمى «أجوف» وأصله: أعوذ على وزن أفعل، إلا أنه استثقلت الضمة على الواو لأنه حرف علة، فنقلت من العين التي هي الواو إلى ما قبلها.
مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ شَرِّ بعير تنوين على الإضافة في القراءة المشهورة، وما:
مصدرية، وتقديره: من شرّ خلقه. وقرئ «من شرّ ما خلق» بتنوين شَرِّ وهي قراءة مروية عن أبي حنيفة، وما: فيها أيضا مصدرية، في موضع جر على البدل من شَرِّ أي من خلقه.
البلاغة:
الْفَلَقِ وخَلَقَ بينهما جناس ناقص.
شَرِّ ما خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ تكرار كلمة شَرِّ مرات إطناب، للتنبيه على قبح وشناعة هذه الأوصاف.
شَرِّ غاسِقٍ شَرِّ النَّفَّاثاتِ شَرِّ حاسِدٍ خاص بعد عام وهو مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ.
حاسِدٍ وحَسَدَ جناس اشتقاق.
__________
(1) البحر المحيط: 8/ 530(30/472)
الْفَلَقِ خَلَقَ، الْعُقَدِ حَسَدَ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
أَعُوذُ ألجأ. الْفَلَقِ شق الشيء وفصل بعضه عن بعض، ومنه فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام 6/ 96] ، وفالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الأنعام 6/ 95] ، والْفَلَقِ يشمل كل ما يفلقه اللَّه عن غيره، كفلق ظلمة الليل بالصبح، وفلق العيون والأمطار والنبات والأولاد، ويخص الفلق عرفا بالصبح، ولذلك فسّر به، وتخصيصه لما فيه من تغير الحال، وتبدل وحشة الليل بسرور النور، والإشعار بأن من قدر أن يزيل ظلمة الليل عن هذا العالم قدر أن يزيل عن العائذ إليه ما يخافه. ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه لأن الإعاذة من المضارّ تربية وعناية.
مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ من شرّ المخلوقات كلها، وخصّ عالم الخلق بالاستعاذة منه لانحصار الشرّ فيه، وهو يشمل الحيوان والإنسان والجماد كالسم وغيره. غاسِقٍ ليل اشتد ظلامه. وَقَبَ دخل ظلامه وتخصيصه لأن المضار تكثر فيه ويعسر الدفع. النَّفَّاثاتِ السواحر من النفوس أو النساء تنفث. فِي الْعُقَدِ التي تعقدها في الخيط، والنفث: النفخ مع ريق يخرج من الفم، والْعُقَدِ جمع عقدة: وهي ما يعقد من حبل أو خيط ونحوهما. حاسِدٍ هو الذي يتمنى زوال نعمة المحسود. وخصّ الحاسد بالذكر لأنه العمدة في الظاهر والسبب في إضرار الإنسان والحيوان وغيرهما. وذكر هذه الأصناف الثلاثة بعد التعميم الشامل لها ما خَلَقَ لشدة شرّها.
التفسير والبيان:
قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ أي قل أيها النبي: ألجأ إلى اللَّه، وأستعيذ بربّ الصبح لأن الليل ينفلق عنه، أو بربّ كل ما انفلق عن جميع ما خلق اللَّه، من الحيوان، والصبح، والحبّ، والنوى، وكل شيء من نبات وغيره، أعوذ باللَّه خالق الكائنات من شرّ كل ما خلقه اللَّه سبحانه من جميع مخلوقاته. وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة الظلمة عن وجه الأرض قادر على دفع ظلمة الشرور والآفات عن العبد.
أخرج الترمذي وحسنه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري، قال: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتعوّذ من عين الجان، ومن عين الإنس، فلما نزلت سورتا المعوذتين، أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك» .(30/473)
وأخرج مالك في الموطأ عن عائشة: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا اشتكى، يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، فلما اشتد وجعه، كنت أقرأ عليه، وأمسح بيده عليه، رجاء بركتهما» .
وبعد أن عمم الاستعاذة من جميع المخلوقات، خصص بالذكر ثلاثة أصناف تنبيها على أنها أعظم الشرور، وأهم شيء يستعاذ منه، وهي:
1- وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ أي وأعوذ باللَّه من شرّ الليل إذا أقبل لأن في الليل مخاوف ومخاطر من سباع البهائم، وهوام الأرض، وأهل الشرّ والفسق والفساد.
2- وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ أي وأعوذ باللَّه من شرّ النفوس أو النساء الساحرات لأنهن كنّ ينفثن (أي ينفخن مع ريق الفم) في عقد الخيوط، حين يسحرن بها. والنّفث: النفخ بريق، وقيل: النفخ فقط. قال أبو عبيدة: إنهن بنات لبيد بن الأعصم اليهودي اللاتي سحرن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
3- وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ أي وأعوذ باللَّه من شرّ كل حاسد إذا حسد: وهو الذي يتمنى زوال النعمة التي أنعم اللَّه بها على المحسود.
فقه الحياة أو الأحكام:
1- دلت السورة الكريمة على تعليم الناس كيفية الاستعاذة من كل شرّ في الدنيا والآخرة، من شر الإنس والجن والشياطين وشرّ السباع والهوام وشرّ النار وشرّ الذنوب، والهوى، وشرّ العمل، وغير ذلك من سائر المخلوقات، حتى المستعيذ نفسه.
2- لا مانع يمنع من نزول السورة ليستعيذ بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والحديث صحيح، ولا يتنافى مع النص القرآني، واقتصر فعل السحر بالنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على مجرد(30/474)
كونه قد صار في بعض أمور الدنيا في حالة صداع خفيف، وهو معنى التخيل في الحديث، وقد يحدث تخيل في اليقظة كالمنام، ولم يؤثر في ملكاته العقلية على الإطلاق، كما لم يؤثر فيما يتعلق بالوحي والرسالة لأن اللَّه عصمه من أي سوء، أو اختلاط فكري، أو اضطراب عصبي، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] «1» .
3- خصص اللَّه تعالى في إرشادنا وتعليمنا الاستعاذة من أصناف ثلاثة: هي أولا الليل إذا عظم ظلامه لأن في الليل كما ذكر الرازي تخرج السباع من آجامها، والهوام من مكانها، ويهجم السارق والمكابر، ويقع الحريق، ويقل فيه الغوث، وينبعث أهل الشرّ على الفساد.
وثانيا- الساحرات اللائي ينفثن (ينفخن) في عقد الخيط حين يرقين عليها، شبه النفخ كما يعمل من يرقي.
وثالثا- الحاسد الذي يحسد غيره، أي يتمنى زوال نعمة المحسود، وإن لم يصرّ للحاسد مثلها. وهذا مذموم، أما الغبطة أو المنافسة فهي مباحة لأنها تمني مثل النعمة وإن لم تزل عن صاحبها
روي أن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمن يغبط، والمنافق يحسد» «2» .
وفي الصحيحين: «لا حسد إلا في اثنتين»
أي لا غبطة.
قال العلماء: الحاسد لا يضرّ إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشرّ بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته. والحسد أول ذنب عصي اللَّه به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل. والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون.
وقال العلماء أيضا: لا يضرّ السحر والعين والحسد ونحو ذلك بذاته، وإنما
__________
(1) انظر تفسير الألوسي: 30/ 283
(2) تفسير القرطبي: 20/ 259(30/475)
بفعل اللَّه وتأثيره، وينسب الأثر إلى هذه الأشياء في الظاهر فقط، قال اللَّه تعالى عن السحر: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة 2/ 102] ، وبالرغم من انعدام تأثير هذه الأشياء في الحقيقة ومنها الأمراض المعدية كالطاعون والسل، فإنه يطلب شرعا الحذر والاحتياط وتجنب هذه الأسباب الظاهرية بقدر الإمكان، عملا بفعل عمر والصحابة في طاعون عمواس، والأمر باتقاء العين، والفرار من المجذوم.
4- أجاز أكثر العلماء الاستعانة بالرّقى أو الرّقية لأن
النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اشتكى، فرقاه جبريل عليه السلام، وقال: «بسم اللَّه أرقيك، من كل شيء يؤذيك، واللَّه يشفيك»
كما تقدم.
وقال ابن عباس: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلمنا من الأوجاع كلها والحمى هذا الدعاء: «بسم اللَّه الكريم، أعوذ باللَّه العظيم من شرّ كل عرق نعار، ومن شرّ حرّ النار» .
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من دخل على مريض لم يحضر أجله، فقال: أسأل اللَّه العظيم ربّ العرش العظيم أن يشفيك- سبع مرات، شفي» .
وعن علي رضي اللَّه عنه قال: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل على مريض قال: «أذهب البأس ربّ الناس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت» .
وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوّذ الحسن والحسين يقول: «أعيذكما بكلمات اللَّه التامة من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامّة» .
وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي قال: قدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبي وجع قد كاد يبطلني، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اجعل يدك اليمنى عليه، وقل:
بسم اللَّه، أعوذ بعزة اللَّه وقدرته من شرّ ما أجد» سبع مرات، ففعلت ذلك، فشفاني اللَّه.(30/476)
وروي أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا سافر، فنزل منزلا يقول: «يا أرض، ربّي وربّك اللَّه، أعوذ باللَّه من شرّك وشرّ ما فيك، وشرّ ما يخرج منك، وشرّ ما يدبّ عليك، وأعوذ باللَّه من أسد وأسود، وحية وعقرب، ومن شرّ ساكني البلد ووالد وما ولد» .
وقالت عائشة في الحديث المتقدم: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذا اشتكى شيئا من جسده قرأ قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين، في كفه اليمنى، ومسح بها المكان الذي يشتكي «1» .
والأصح جواز النّفث عند الرّقى، بدليل
ما روى الأئمة عن عائشة: أن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ينفث في الرّقية.
وأجاز الإمام الباقر تعليق التعويذ على الصبيان.
وأما النهي عن الرّقى فهو وارد على الرّقى المجهولة التي لا يفهم معناها.
__________
(1) انظر هذه الأحاديث والأدلة الثمانية في تفسير الرازي: 32/ 189- 190(30/477)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الناس
مدنيّة، وهي ست آيات.
تسميتها:
سميت سورة الناس لافتتاحها بقول اللَّه تبارك وتعالى: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ.. وتكررت كلمة النَّاسِ فيها خمس مرات. وقد نزلت مع ما قبلها، وهي مكية عند الأكثر، وقيل: مدنية كما تقدم. وعرفنا وجه مناسبتها لما سبقها.
وهي آخر سورة في القرآن، وقد بدئ بالفاتحة التي هي استعانة باللَّه وحمد له، وختم بالمعوذتين للاستعانة باللَّه أيضا.
ما اشتملت عليه السورة:
اشتملت هذه السورة، وهي ثاني المعوذتين على الاستعاذة باللَّه تعالى والالتجاء إلى ربّ الناس الملك الإله الحق من شرّ إبليس وجنوده الذين يغوون الناس بوسوستهم.
وقد عرفنا أن هذه السورة وسورة الفلق والإخلاص تعوذ بهن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سحر اليهود. وقيل: إن المعوذتين كان يقال لهما المقشقشتان، أي تبرئان من النفاق.
روى الترمذي كما تقدم عن عقبة بن عامر عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لقد أنزل اللَّه(30/478)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
علي آيات لم ير مثلهن: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إلى آخر السورة، وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ إلى آخر السورة.
وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه مسلم أيضا.
الاستعاذة من شرّ الشياطين
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
الإعراب:
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ إما بدل من شَرِّ الْوَسْواسِ وتقديره: أعوذ بربّ الناس من شرّ الجنّة والناس، وإما متعلق بمحذوف تقديره: الكائن من الجنة والناس، الذي يوسوس في صدور الناس. وفي يُوَسْوِسُ ضمير الجنّة، وذكّره لأنه بمعنى الجنّ، وكنى عنه مع التأخير لأنه في تقدير التقديم، كقوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى [طه 20/ 67] فتقدم الضمير لأن موسى في تقدير التقديم، والضمير في تقدير التأخير.
البلاغة:
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وما بعدها: الإضافة للتشريف والتكريم والاستعانة، فقد أضيف الرّب إلى الناس لأن الاستعاذة من شرّ الموسوس في صدورهم، استعاذوا بربّهم مالكهم وإلههم، كما يستعيذ العبد بمولاه إذا دهمه أمر. قال أبو حيان: والظاهر أن مَلِكِ النَّاسِ، إِلهِ النَّاسِ صفتان. وقال الزمخشري: عطف بيان للرّب، فإن الرّب قد لا يكون ملكا، والملك قد لا يكون إليها.
بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلهِ النَّاسِ إطناب بتكرار الاسم، زيادة في التكريم والعون، ومزيد البيان، والإشعار بشرف الإنسان.(30/479)
الْجِنَّةِ.. وَالنَّاسِ بينهما طباق.
يُوَسْوِسُ والْوَسْواسِ بينهما جناس اشتقاق.
ويلاحظ أن الفواصل منتهية بالسين الذي فيه جرس خافت ومهيب وله وقع في النفوس.
المفردات اللغوية:
أَعُوذُ ألتجئ وأحتمي. بِرَبِّ النَّاسِ مربّيهم ومعتني بشؤونهم، قال البيضاوي: لما كانت الاستعاذة في السورة المتقدمة من المضارّ البدنية، وهي تعمّ الإنسان وغيره، والاستعاذة في هذه السورة من المضارّ التي تعرض للنفوس البشرية، وتخصها، عمم الإضافة ثمة، وخصصها بالناس هاهنا، فكأنه قيل: أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بربّهم الذي يملك أمورهم، ويستحق عبادتهم.
مَلِكِ النَّاسِ، إِلهِ النَّاسِ صفتان تدلان على أنه تعالى حقيق بالإعاذة، قادر عليها، غير ممنوع عنها. الْوَسْواسِ الموسوس الذي يلقي في النفوس خواطر الشرّ والسوء. ويصح أن يراد به المصدر أي الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة. الْخَنَّاسِ صيغة مبالغة، أي من عادته أن يخنس، أي يتأخر بذكر اللَّه، والخنوس: الرجوع والتأخر. مِنَ الْجِنَّةِ بيان للوسواس، جمع جني كإنسي وإنس، والجن: خلق مستتر لا يعلم به أحد إلا اللَّه تعالى.
التفسير والبيان:
قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلهِ النَّاسِ أي قل أيها الرسول: ألجأ وأستعين باللَّه مربي الناس ومتعهدهم بعنايته ورعايته، وخالقهم ومدبر أمرهم ومصلح أحوالهم، وله الملك التام والسلطان القاهر، وهو الإله المعبود الذي يعبده الناس، واسم الإله خاص باللَّه لا يشاركه فيه أحد، أما الملك فقد يكون إلها وقد لا يكون.
وهذه صفات ثلاث للَّه عزّ وجلّ: الربوبية، والملك، والألوهية، فهو ربّ كل شيء، ومليكه، وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة، عبيد له. وإنما قدم الربوبية لمناسبتها للاستعاذة، فهي تتضمن نعمة الصون والحماية والرعاية، ثم ذكر الملكية لأن المستعيذ لا يجد عونا له ولا غوثا إلا مالكه، ثم ذكر الألوهية لبيان أنه المستحق للشكر والعبادة دون سواه.(30/480)
والسبب في تكرار لفظ النَّاسِ هو مزيد البيان والإظهار، والتنويه بشرف الناس مخلوقات اللَّه تعالى، وقال: «ربّ الناس» مع أنه ربّ جميع المخلوقات، فخصّ الناس بالذّكر للتشريف، ولأن الاستعاذة لأجلهم.
مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ أي ألجأ إلى اللَّه وأحتمي من شرّ الشيطان ذي الوسوسة، الكثير الخنوس أي الاختفاء والتأخر، بذكر اللَّه، فإذا ذكر الإنسان اللَّه تعالى خنس الشيطان وانقبض، وإذا لم يذكر اللَّه انبسط على القلب. قال ابن عباس في هذه الآية: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر اللَّه خنس.
وقد سلط اللَّه الشيطان على الناس إلا من عصمه اللَّه، للمجاهدة والفتنة والاختبار،
ثبت في الصحيح أنه «ما منكم من أحد إلا وكّل به قرينه، قالوا:
وأنت يا رسول اللَّه؟ قال: نعم إلا أن اللَّه أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير» .
وثبت في الصحيحين عن أنس في قصة زيارة صفية للنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو معتكف، وخروجه معها ليلا، ليردها إلى منزلها، فلقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسرعا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «على رسلكما، إنها صفية بنت حييّ، فقالا: سبحان اللَّه، يا رسول اللَّه، فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا- أو قال: شرّا» .
وروى الحافظ أبو يعلي الموصلي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر اللَّه خنس، وإن نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخنّاس» .
وروي الإمام أحمد عن أبي تميمة يحدث عن رديف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «عثر بالنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حماره، فقلت: تعس الشيطان، فقال النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تقل: تعس الشيطان، فإنك إذا(30/481)
قلت: تعس الشيطان، تعاظم، وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت: باسم اللَّه، تصاغر حتى يصير مثل الذباب» .
وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر اللَّه تصاغر الشيطان وغلب، وإن لم يذكر اللَّه تعاظم وغلب.
ثم أبان موضع وسوسته، فقال:
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أي الذي يلقي خواطر السوء والشرّ في القلوب، وإنما ذكر الصدور لأنها تحتوي على القلوب، والخواطر محلها القلب، كما هو المعهود في كلام العرب.
ثم بيّن اللَّه تعالى أن الذي يوسوس نوعان: جني وإنسي، فقال:
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أي أن ذلك الموسوس إما شيطان الجن، فيوسوس في صدور الناس، كما تقدم، وإما شيطان الإنس، ووسوسته في صدور الناس:
أنه يري نفسه كالناصح المشفق، فيوقع في الصدر كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة، فيجعله فريسة وسوسة الشيطان الجني. وهذا يدل على أن الوسواس قد يكون من الجن وقد يكون من الناس، كما جاء في قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام 6/ 112] أي ليست العداوة قهرية جبرية، وإنما بما أودع اللَّه فيهم من قدرة الاختيار، فمنهم من يختار الإصغاء لوسوسة الشياطين، ومنهم من يحذر عداوتهم ووسوستهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
علّمنا اللَّه تعالى في هذه السورة رحمة بنا كيفية الاستعاذة من شياطين الإنس والجن، وعرفنا أنه بصفاته الثلاث: الربوبية، والملك، والألوهية، يحمي(30/482)
المستعيذ من شرور الشيطان وأضراره في الدين والدنيا والآخرة. ومعنى الربوبية يدل على مزيد العناية وحرص المربي.
وإنما ذكر أنه بِرَبِّ النَّاسِ وإن كان ربّا لجميع الخلق، لأمرين:
أحدهما- لأن الناس معظّمون، فأعلم بذكرهم أنه ربّ لهم، وإن عظموا.
الثاني- لأنه أمر بالاستعاذة من شرّ الناس فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم «1» . ثم ذكر صفتي الملك والألوهية ليبين للناس أنه ملكهم الحقيقي، وإن كان لهم ملوك، وأنه إلههم ومعبودهم، لا معبود لهم سواه، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به، ويلجأ إليه، دون الملوك والعظماء.
أوضحت السورة أن الموسوس إما شيطان الجن، وإما شيطان الإنس. قال الحسن: هما شيطانان أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجنّ شياطين، وإن من الإنس شياطين، فتعوّذ باللَّه من شياطين الإنس والجن.
ويلاحظ أن المستعاذ به في سورة (الفلق) مذكور بصفة واحدة وهي أنه «ربّ الفلق» ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات، وهي «الغاسق» والنَّفَّاثاتِ و «الحاسد» . وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث: وهي الرّب والملك والإله، والمستعاذ منه آفة واحدة، وهي الوسوسة، وسبب التفرقة: أن المطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن، والمطلوب في هذه السورة سلامة الدين، ومضرة الدين، وإن قلّب، أعظم من مضارّ الدنيا وإن عظمت «2» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 20/ 260 [.....]
(2) تفسير الرازي: 32/ 199(30/483)
وبعد، فقد سجدت شكرا للَّه تبارك وتعالى على ما أولاني وأسبغ علي من كمال وفيض النعمة وتمام المنة، بانتهاء هذا التفسير الشامل للمأثور والمعقول، والجامع لأنواع البيان وأحكام القرآن، وهو تفسير العصر، وذلك في تمام الساعة الثامنة من صبيحة يوم الاثنين المبارك الواقع 13 من ذي القعدة 1408 هـ، الموافق 27/ 6/ 1988 م، وكان العمر حينذاك 56 عاما. وقد تفرغت لهذه المهمة خلال سنوات طوال، هاجرت فيها إلى دولة الإمارات- العين، تاركا الأهل والولد، مستغرقا في عظمة كلام ربّي عزّ وجلّ، فازددت إيمانا على إيمان.
وكان أول مؤلف لي في بلدتي «دير عطية» من نواحي دمشق الفيحاء، التي ولدت فيها سنة 1932 م، وهو آثار الحرب في عام 1962 م، ثم تابعت التأليف والبحث وكتبت أغلب مؤلفاتي وبحوثي التي أربت على الثلاثين في رياض دمشق والعين، فاللهم لك الحمد والشكر، اجعل كل حرف من كتابك وتفسيره وجميع ما صنفت خالصا لوجهك الكريم، وحقق به النفع والخير، وأعتق به من نارك في الآخرة كل جزء من جسمي وروحي، وشعري وبشري، وعظمي ولحمي، وسمعي وبصري، ومخي ودمي، وأدخلني الجنة بستر وسلام.
سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا لطيفا فوق كل لطيف الطف بي في أموري كلها كما أحب، ورضني في دنياي وآخرتي، واغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات.(30/484)
الخاتمة
من أحكام الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، أي بالبداهة أن إنزال القرآن المجيد على نبي هذه الأمة الإسلامية قصد به العمل بكل ما جاء فيه من الأحكام والشرائع والعقائد والآداب والأخلاق والمواعظ، وأنه لا يكفي المسلّم أو المسلمة مجرد قراءته أو تلاوته للتعبد والبركة، وإنما للاستفادة بما جاء فيه، فهو دستور الأمة، ونظام حياة الفرد والجماعة، والرعية والدولة.
والسائد في الوسط العلمي أنه لا يستغنى بتفسير قديم عن تفسير آخر، لاختلاف مناهج المفسرين، وامتياز كل تفسير بميزة لا تتوافر في الآخر، فهذا في العقيدة، وهذا في الأحكام، وذاك في الآثار والروايات الكثيرة، وآخر في التأويل بالمعقول أو في العلوم الكونية، والكل يكمل بعضه بعضا، أما في العصر الحديث فيصعب على كل مسلّم أو بيت اقتناء جميع التفاسير المطولة والمتوسطة والمختصرة، فضلا عن عسر فهمها أحيانا، وإطالتها، واستطرادها في كثير من الأحوال لأمور بعيدة أو قريبة عن التفسير، وينقصها جميعها التفسير الشامل الموضوعي للآيات، لفهمها جملة واحدة، بسبب عنايتها بالجزئيات والفرعيات، دون وجود تصور متكامل أو عام فيها للآية أو لطائفة من الآيات، وصعوبة إدراك مشتملات السورة وارتباط أجزائها ببعضها، أو التعرف على موضوعها المقصود.
وكذلك يكثر السؤال في وقتنا عادة عن أحسن تفسير يعتمد عليه لمتوسط الثقافة، فلا يكاد المرء يجد جوابا شافيا لأن القديم وعر المسالك، والجديد فيه(30/485)
هنات وسقطات، أو جنوح لتأييد بعض الآراء المذهبية، أو تطرف وبعد في التأويل وإغراب في بعض الأحيان لإرضاء أذواق العصر.
لذا وجب وضع تفسير شامل معتدل غير متطرف، يجمع بين مزايا التفاسير المختلفة وييسر على القارئ والتالي فهم الآيات الكريمة بدقة ووعي، ويحيط بكل ما هو ضروري يحقق مقاصد القرآن العظيم في العقيدة والعبادة والتشريع والآداب والأخلاق والسلوك القديم في الحياة، ويفسر القرآن بالقرآن وبالسّنة الصحيحة والسيرة الثابتة، وهذا ما أوردته في هذا الكتاب، كما أردت بيان ما يستنبط من الآيات من أحكام شرعية مختلفة.
وذلك بعد أن ألحّ علي بعض إخواني لتحقيق هذه الغاية، فتوقفت أولا، ثم شرح اللَّه صدري للعمل الذي يحتاج لجهود مكثفة ووقت طويل الأمد، فوضعت هذا التفسير الشامل لطريقتي أهل المأثور والمعقول، والجامع لأحكام القرآن الذي أنار الطريق أمام كل تال للقرآن، بعبارة سهلة واضحة، وأسلوب سلس بيّن، ومنهج منظم متدرج من المفردات إلى الكليات، وكان بحمد اللَّه تعالى جامعا بين طريقة الوجيز والوسيط والمبسوط، فبيان المفردات اللغوية والإعراب والبلاغة يحقق الإيجاز لمن يكتفي به والتعرف على أسباب النزول والمناسبة بين الآيات والسور وقصص القرآن والبيان لكل طائفة من الآيات، يلبي مطلب التوسط في المعرفة والعلم والانتقال إلى بيان فقه الحياة بمعنى «الفقه الأكبر» الشامل للعقيدة والأخلاق والأعمال والأحكام العملية المستنبطة من الآيات، يتجاوب مع رغبة من أراد التوسط والإطالة والاستيعاب.
ومن أجل السير في هذه المراتب الثلاثة المتدرجة، قد يوجد تكرار بينها بقصد تلبية الحاجة، وتيسير المطلب دون حاجة للرجوع إلى ما سبق.
أما المصادر: فقد نبهّت عليها في المقدمة، وأكرر القول بأنني اعتمدت على(30/486)
أغلب ما كتب في التفسير قديما وحديثا، مبتدئا بتفسير إمام المفسرين ابن جرير الطبري في الآثار والمعقول معا وأسباب النزول وبعض التصويبات والترجيحات، ثم اعتمدت على تفسير الكشاف للزمخشري، والبحر المحيط لأبي حيّان التوحيدي، وغرائب القرآن للنظام الأعرج وغيرها كالبيضاوي والنسفي وأبي السعود والجلالين في اللغويات والمعاني الدقيقة، والمناسبات، وعلى تفسير الفخر الرازي «التفسير الكبير» في العقائد والإلهيات والكونيات والأخلاق وبعض الأحكام ومناسبات الآيات والسور، وأسباب النزول، مع الرجوع في بيان الأسباب أيضا إلى «أسباب النزول» للواحدي النيسابوري، و «أسباب النزول» للسيوطي.
كما اعتمدت على تفسير الإمام القرطبي، وأحكام القرآن لابن العربي، وأحكام القرآن للجصاص الرازي في معرفة الأحكام الفقهية، ورجعت في ذلك وغيره أيضا إلى تفسير الحافظ ابن كثير وفتح القدير للشوكاني والتسهيل لعلوم التنزيل لابن جزيّ، لبيان معاني الآيات وتأييدها بالأحاديث والأخبار الصحاح، كما استقيت بعض المعلومات من تفسيري الخازن والبغوي.
واستأنست أحيانا بعبارات بعض المفسرين الجدد الجميلة والمفيدة، كتفسير المنار للشيخ رشيد رضا، ومحاسن التأويل للقاسمي، وتفسير المراغي، وفي ظلال القرآن، رحم اللَّه الجميع وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء.
وقد تجنّبت الأخذ في أسباب النزول وغيرها بالأحاديث والروايات الضعيفة والإسرائيليات الدخيلة التي لا تتفق مع عصمة الأنبياء، وضمان سلامة الوحي.
وأما الإعراب فمرجعي الأصلي كتاب (البيان في إعراب القرآن) لأبي البركات بن الأنباري، وأما البلاغة فمرجعي في الغالب كتاب (صفوة التفاسير) للشيخ محمد علي الصابوني، وأما قصص الأنبياء فكنت أرجع مع الحذر(30/487)
لكتاب (قصص الأنبياء) للأستاذ عبد الوهاب النجار، وأما أحداث ووقائع الغزوات والسيرة فعمدتي فيها كتب السيرة الشهيرة كسيرة ابن هشام، وابن إسحاق، والبداية والنهاية لابن كثير وغيرها مما كتب قديما وحديثا.
وأستطيع أن أقول عن خبرة وتجربة وبعد أن عانيت التأليف في رحاب الجامعات مدة ربع قرن فأكثر في الفقه الإسلامي وأصوله وفي الحديث النبوي، وتفسير كتاب اللَّه وغير ذلك: إنه لا تصح العقيدة، ولا تشرق في النفس معانيها إلا بالقرآن، ولا يستقيم سلوك مسلّم إلا بفهم كتاب اللَّه، ولا تلين النفس بعد القرآن إلا بالحديث النبوي وروحانيته الفياضة، ولا يصح عمل المسلّم إلا بالأحكام الشرعية المقررة في الفقه، ولا يعصم العقل والفهم عن الخطأ، ولا تنضبط أحكام الشريعة إلا بأصول الفقه.
ولا أجد الآن خيرا من إهداء شيء للمسلمين في كل مكان، حكاما ومحكومين، غير هذا
الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه الترمذي والدّارمي عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رضي اللَّه عنه مرفوعا: «كتاب اللَّه تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه اللَّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه اللَّه، هو حبل اللَّه المتين، ونوره المبين، والذّكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعّب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يملّه الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرّد، ولا تنقضي عجائبه، ولا تفنى غرائبه، هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته أن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه، هدي إلى صراط مستقيم» .
وكلمتي الأخيرة: إنني في نفسي بالذات كلما فسّرت آية أو سورة من كتاب اللَّه، ازددت إيمانا بصحة تنزيل هذا الكتاب المجيد على محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،(30/488)
وبأنه الكتاب الوحيد المنقذ للبشرية من تخبطها في دياجير الظلمة والضلال، كما ازددت انبهارا وثقة ويقينا بإعجاز القرآن وعظمته، فمهما حاولت إحصاء المعاني والأحكام، يظل كلام اللَّه عز وجل البحر الزاخر والفيض العارم الذي لا يمكن الإحاطة بمراده ومشتملاته، ولكن عملي جهد المقلّ والعبد الضعيف الخاضع للَّه وحده، والعاجز عن إدراك جميع معاني القرآن، والذي يكفيني إعلانه هو القول بأن القرآن العظيم هو الكتاب الفذّ الأول الذي أثّر في فكري وسلوكي وتكوين شخصيتي، فاللهم وفقنا جميعا للعمل به، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات.
الأستاذ الدكتور/ وهبة مصطفى الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق(30/489)